رواية أغصان الزيتون الفصل التاسع 9 بقلم ياسمين عادل
رواية أغصان الزيتون الجزء التاسع
رواية أغصان الزيتون البارت التاسع
رواية أغصان الزيتون الحلقة التاسعة
“في الحرب تتساوى الرؤوس، لكن في نتيجتها تدعس أحدهم الأخرى.”
_____________________________________
كانت گالنار على اللهب، يأكل داخلها بعضه بعضًا من فرط القلق على ولدها، حتى رأت “صلاح” يخرج وحيدًا، وكأن الشياطين تتقافز أمام وجهه، فـ أسرعت بخطواتها منه، وهي ترمي بنظراتها المتفحصة خلفه بحثًا عن “حمزة”؛ لكنه غير موجود!. استوقفته “أسما” بأنفاسٍ مضطربة، وسألته بإستهجانٍ :
– إبني فين ياصلاح؟؟.. مخرجش معاك ليه؟.
كأنه غير قادر على النطق بها ومصارحتها، فالأمر جمّ صعب التقبل، حتى هو لا يصدق، ثانيتين من الصمت كانتا كفيلتين بإثارة جنونها، لتصرخ في وجهه :
– ما تــرد عـليـا ياصـلاح!.
تدخل “راغب” محاولًا بذلك السيطرة على انفعال “أسما” الذي تجاوز مراحل الغضب :
– أهدي ياطنط خلينا نفهم اللي حصل.
فرك “صلاح” ناصيته بيده، وكز على أسنانهِ قبل أن يقول بإيجاز :
– هيتعرض على النيابة الصبح.
حدقت “أسما” بغير تصديق، وكأن الصدمة قد نزلت على مداركها گالصاعقة، حينما بُهت كلا من “راغب، نضال”، وبادر “نضال” بسؤالهِ مستفهمًا :
– أنا مش فاهم هو عمل إيه لكل ده!.
امتعضت تعابير “صلاح”، وأخفض صوته وهو يسبّها سبابًا نابيًا :
– بنت الـ ×××ـة دي بلغت عنه إنه مهددها بالقتل، ومقدمة في بلاغها تسجيل بصوته كمان!.. إحنا بيتلعب علينا لعبة قذرة أوي.
رآها “راغب” تمضي بإتجاه باب الخروج، فأشار نحوها وقد امتلأ وجهه بتعابير الحنق التي بلغت حلقومهِ :
– أهي خارجه أهي.
التفتت “أسما” تنظر بعينان تسعرت على أشُدّها، وغلت الدماء في عروقها حتى فارت، فـ اهتاجت وقدمت على الهجوم عليها بكل ما أُوتيت من قوة، لتفتك بها وتُمرغ وجهها بالأرض إن طالت ذلك. أحست “سُلاف” ببادرة الغدر في عيناها اللاتي تقدحان بالشر؛ لكنها لم يرمش لها جفنًا أو يهتز لها ثباتًا، بقيت صلبة في وقفتها بشكل مثير للأعصاب، حتى بقيت بينهما خطوة واحدة، وقبيل أن تطالها يد “أسما” كان ذلك الفحل العريض يقف حائلًا للحماية دونهما، فوجدت “أسما” شيئًا أشبه بالجدار يحجب عنها الرؤية، واستمعت لصوتهِ الخشن وهو يحذرها :
– بلاش يامدام، بلاش الغلط.
كان “صلاح” و “راغب” قد لحقا بها بسرعة البرق، قبيل أن تتسبب بكارثة أمام المخفر، قد تُضعف الموقف القانوني أكثر وأكثر فتجعلهُ أشد انحطاطًا؛ لكن مع وجود ذلك الفحل تحول الأمر لإستنكارٍ غاضب من “صلاح”، الذي انفعل بغتة وهو يوجه حديثه لذلك الرجل :
– أنت بتعمل إيه ياض أنت!!.. واقف قدام مراتي كده ليه!.
كان ثابتًا گالصخر وهو يشير إليه كي ينصرف جميعهم :
– صلاح باشا، مش عايزين مشاكل، خلي المدام تبعد عن الهانم خالص، وإلا الوضع مش هيعجب حد.
تأجج غضب “راغب” أكثر مع رؤية المهزلة القائمة بوضوح، وبعدما رأي بنفسه ما وصفه له “حمزة” من قبل، بإنها تستند على حوائط بشرية :
– لما انتي بتستخبي ورا رجالتك، بتظهري قدامنا ليه من الأول؟.
ابتعدت “سُلاف” قليلًا من خلف رجُلها، شملت جميعهم بنظراتها قبل أن تهتف بـ :
– أنا بستخدم حقي في الدفاع عن النفس يامتر، وقبل ما صاحبك وأهله ياكلوني أنا وإبني لازم يفكروا بدل المرة ألف، عشان عداوتي مش بالسهل كده.
– آه ياتربية الشوارع يا ××××× ، بترمي بلاكي على إبني وكمان بجحة وعينك قوية!.. أنا مش هرحمك.
تأففت “سُلاف” بإنزعاج شديد، ونظرت حيال “صلاح” الذي كان يرمقها بغيظٍ شديد و :
– هو انت مقولتش لطنط ولا إيه؟؟.
ثم تنهدت وهي تُخرج وثيقة إثبات نسب الطفل “زين” من جيب بنطالها القصير :
– عمومًا أنا دايمًا جاهزة.
مدت يدها بالوثيقة متابعة :
– ده تحليل الأبوة، مـبروك.. زين يبقى حفيدك ياطنط.
خطفت منها الورقة وما زال داخلها يُكابر، رافضة تصديق حقيقة كتلك، حتى عيناها التي ترى الحقيقة الآن ترغب بألا تصدقها. بُهت وجهها، تحجرت عيناها على ذلك الرقم (٩٩.٩٪)، والذي كاد يُسبب لها جلطة دماغية فورية. أصرف “راغب” عيناه عما يرى، بكل الأحوال هو أدرى من الجميع بالحقيقة التي جاهد “حمزة” كي يطمسها، لكنه لم يكن لديه متسع من الوقت. سحب “نضال” تلك النتيجة التي لم يراها من قبل، وبحزمٍ متشدد كان يردف بـ :
– دي صورة، فين الأصل؟.
تلوت شفتي “سُلاف”، قبل أن تتبسم بمكرٍ وهي تجيب :
– أكيد أنا مش غبية عشان أديك المستند الرسمي والموثق اللي يثبت حقيقة نسب إبني، كفاية عليكم الصورة، وفي نسخة من الأصل مع…. حمزة.
تغضن جبين “راغب” بإستفهام وهو يسألها :
– إنتي جيبتي نسخة أصلية منين؟؟.
مازالت مبتسمة بذلك الهدوء المستفز، وهي تجيب بثقة بالغة :
– أنا كمان ليا طرقي الخاصة، مش أنتوا بس اللي بتعرفوا تتصرفوا.
خطت خطوتين، حتى أصبحت قبالة “راغب” مباشرة، ثم هتفت بـ :
– أنت الوحيد اللي هيقدر يساعد حمزة إنه يفتكر الليلة دي، ساعد صاحبك، يمكن لما يفتكر يرتاح.
كادت تمضي لتغادر، لولا يد “راغب” التي قبضت على معصمها بشئ من العنف :
– قصدك إيه؟.
تدخل ذلك الموّكل بحمايتها، وحرر معصمها من يده وهو يقف أمامه گالمرصاد، في حين أعطته “سُلاف” طرف خيط، يستطيع به أن يعثر على حقيقة تلك الليلة الغامضة :
– افتكر كده، الديسكو، ونوسه.
زاغت عينا “راغب” وهو يبحث في خبايا عقله عما يذكره، حتى تابعت هي :
– بلاش نوسه، خلي سلامة ربيع يفكرك.
ارتفع حاجبيه مذهولًا وهو يسأل :
– أنتي تعرفي سلامة ربيع!!.
هزت كتفها وهي تجيبه :
– معرفش، أنت اللي هتعرف لما تدور.
فتح حارسها ذراعهِ كي تمر بأمان وبدون أن يمسسها أيًا منهم، فـ مرت، وقبل أن تنصرف كُليًا التفتت نصف التفاته، ونظرت لـ “راغب” وهي تقول :
– الخميس ١٤ يوليو.
و غمزت له، وكأنها قدمت له معروف لن ينساه، قبل أن تتحرك في المقدمة والحارس من خلفها، اضطرب “راغب” وهو يعتصر رأسه كي يتذكرها، ولم يستطع “نضال” أن يهدأ في ظل أن “راغب” بيده تذكر كل شئ لإنهاء الأمر :
– ما تفتكر ياراغب، البت متأكدة إنك الوحيد اللي عارف.
نظرت “أسما” بإتجاه “صلاح”، وقد برقت عيناها بلمعانٍ خذلان :
– يعني ده إبن إبني فعلًا؟؟.. حمزة عنده ولد من واحدة زي دي ياصلاح ؟.
أشاح “صلاح” برأسه بعيدًا عنها، ماذا يقول لها، عن أي فضيحة يتحدث!. زواج إبنه الذي ما زال ينكر، أم إنه أب لطفل غير شرعي؟. أم إنه خسر خسارة عُظمى بكل المقاييس، بعد ما أصاب إبنة “شاكر” من حالة صدمة لن يتهاون فيها أبيها مُطلقًا!.. من أين يبدًا؟.
************************************
لقد مرت الساعات گالسنين، كأنه دُفن حيًا، بين أربعة جدران تتآكل من شدة ارتفاع الرطوبة، حتى إنه لم يشعر بالصباح حين أصبح، وهو محتبسًا في هذا الظلام القاسي.
تركت “سُلاف” توقيعها أمام هيئة النيابة الموقرة، ثم تركت القلم وهي تلتفت بأنظارها نحوه، كانت عيناه تنهش منها، لولا هذا المكان الذي يتواجدان فيه الآن، لـ انقض عليها. قابلت نظراته بنظراتٍ متحدية لا تخشى شيئًا، ثم لفتت إنتباهه ببسمةٍ متنكرة :
– وكيل النيابة بينادي عليك ياحمزة.
انتبه “حمزة” والتفتت رأسه نحو وكيل النيابة، فـ استمع إلى تحذيره شديد اللهجة وهو يقول :
– وقّع على محضر عدم التعرض ياحمزة، طبعًا أنت رجل قانون وفاهم كويس، أي تعرض أو أذى هتتعرض ليه السيدة “سُلاف” هيكون مسؤوليتك مسؤولية كاملة.. يكفي إنها تنازلت عن المحضر.
لم يتفوه “حمزة” بكلمة واحدة، فقط ترك توقيعهِ كي يتخلص من هنا بأقصى سرعة، بعدما قضى ليلة من أسوأ الليالي التي قد يعايشها بحياتهِ.
لم تطول إجراءات الإفراج عن “حمزة” بعد قرار النيابة بذلك، فقط بعض الروتينيات الطبيعية وبعدها رافق أحد المحامين المخضرمين، والذي استعان به “صلاح” كي يكون هو بعيدًا عن مسرح الأحداث، في ظل وجود الكثير من الشوائب والشبهات التي طالت إبنه مؤخرًا. خرج “حمزة”، فـ اجتمع من حوله عدد غفير من الصحفيين والإعلامين، والذين حاول المجندين إصرافهم بشتّى السبل. حاول “حمزة” أن يتخطاهم ويتجاوز أسئلتهم التي كانت تتردد في آذانه، إلى أن لمح بطرفه “سُلاف” وهي تُدلي بأقوالها لأحد الصحفيين، فـ تشنجت عضلات وجهه صائحًا :
– هي بتهبب إيــه دي ؟؟.
نفخ وهو يكظم غضبهِ وغيظه، وإلا ستقوم قيامتها إن ترك ثيرانهِ الهائجة عليها الآن. تجاوز “حمزة” كل أولئك المحيطين به، وقفز بداخل سيارة والدهِ بالمقعد الخلفي، بينما أشار “صلاح” للسائق الخاص به كي يتحرك بهم :
– أطلع خلينا نخلص من القرف ده.
كادت السيارة تتحرك لولا أن الباب المجاور لـ “حمزة” انفتح، لحظات وكانت “سُلاف” تجلس بجوارهِ لتُشعل فتيل غضبهِ. توهجت عيناه وكأنها تبعث حرارة ملتهبة، وتخضبت بشرتهِ الحِنطية بحُمرةٍ متسعرة، حينئذٍ كان “صلاح” يصيح فيها بنفاذ صبرٍ :
– أسمعي يابت انتي، شوفي عايزة إيه وخديه وحلّي عن سمانا، أنا والله ماسك روحي عنك بالعافية.
قطبت جبينها بإستياءٍ مصطنع، وهي تعاتبه على فظاظتهِ المتعمدة :
– مش معقول كده ياحمايا!!.. ده انت حتى مطلبتش تشوف حفيدك؟!.
لحظة واحدة فاصلة، وكان الشيطان قد تمكن من مداركهِ بالفعل، وسلبهُ ما بقى من عقله، فـ انقض على عنقها متعمدًا خنقها، يكاد يقبض روحها ويجعلها تلفظ أنفاسها بين يديه. انتفض “صلاح” بفزعٍ وهو يرى حماقة “حمزة” وتهوره الذي يدفع به من حافة الهاوية، فـ ترجل عن المقعد الأمامي وراح ينقذ ولده من فعلٍ شنيع يكاد ينهي مستقبله – وحياتهِ – كليًا، كافح بأضنى جهدهِ لكي ينتزع “حمزة” عنها وهو يصيح فيه :
– حــمـزة!!.. هتودي نفسك في داهيه يابني!.
لكن الأخير كان صلبًا قويًا، وقد صبّ جام غضبهِ فيما يفعل، فـ أصبح تخليصها منه غاية في الصعوبة، حتى أن السائق أيضًا حاول التدخل من الجهة الأخرى لمنع وقع تلك الكارثة. حينئذٍ كان “سُلاف” تحارب من أجل أن تعيش، من أجل أن تحافظ على روحها الغالية التي لم تثأر منه بعد، لم تقوَ على صدّ يداه عن عنقها، حتى وهي تسعل لم يحلّها، فـ لم تجد سوى الحل الأقرب، خاصة وأن وجهه كان قريبًا منها للغاية، فـ بطحت أنفهِ بناصيتها أولًا – بطحة ليست قوية – لكنها مفاجئة، تحرر ضغط يداه عن عنقها قليلًا، فـ أمسكت برأسهِ تجتذبها بعنف وعضّت أنفه عضّة شرسة، وكأنها تقضم قضمة لحم. فصرخ متألمًا وهو يحررها نهائيًا – رغمًا عنه -، ووضع كلتا يديهِ على وجهه بعدما أحس بألمٍ عظيم في أنفهِ، حينها كانت هي قد تخلصت من وجود السائق الذي حاول إنقاذها، وترجلت عن السيارة وهي تسعل بصعوبة، بعدما مرت بلحظاتٍ كادت تفقد حياتها فيها، وحينئذٍ كانت تترك له وعيدها الأخير :
– هرفع عليك قضية إثبات نسب وهفضحك ياحمزة، بس أصبر عليا.
تجمع البعض حول سيارة “صلاح” بعد أن نشبت تلك المشاجرة – القصيرة -، فـ صرخ “صلاح” في الجميع وهو يصرفهم عنه :
– كـفاية كـدا!.. أنا ممكن أبلغ فيكم كلكم دلوقتي.
أغلق “صلاح” الباب الخلفي واستقر بالأمام وهو يهتف بصياح :
– أطلع على المستشفى.
*************************************
دعس “سلامة” سيجارته في المنفضة، وقطب جبينه يفكر مليًا، بعد المطلب الغريب الذي طلبه منه “راغب”. حمحم قبل أن يمد يده نحو كأس المياه، ثم سأله :
– إيه العلاقة، ما تفهمني عشان أفيدك.
حك “راغب” صدغهِ وهو يرمقهُ بنظراتٍ ذات مغزى، ثم صارحه :
– أنا هجيلك دوغري (بصراحة) ياسلامة.. أنت أكيد سامع عن اللي بيحصل لحمزة اليومين دول.
لم ينكر “سلامة” علمه بما شاع عن الأخير من أخبار على ما يبدو إنها صادقة :
– آه سمعت.
– البت دي قالت إن انت اللي هتجيب من الآخر، عشان كده عايز تسجيلات الكاميرا بتاعت الديسكو لليوم ده.
مط “سلامة” شفتيه گالعاجز، وصارحه بصعوبة القيام بشئ گهذا :
– أنت بتكلم في سنة فاتت ياراغب!.. أكيد مش هلاقي تسجيل زي ده.
أخرج “راغب” ظرف أبيض مغلق، وضعه أمامه على الطاولة وهو يغريه قائلًا :
– لو انت عايز تلاقيه هتلاقيه ياسلامة، وبعدين كل حاجه وليها تمن.
خطف “سلامة” نظرة من داخل الظرف، فـ برقت عيناه بلمعانٍ طامع :
– طب سيبني أشوفلك صرفة كده.
ربت “راغب” على كتفه، ثم غمز له موحيًا بكثير من الرزق الذي ينتظره :
– حمزة لما بيتبسط من حد بيبسطه ياسلامة، أنت عارف ده كويس.. الظرف ده عشان بس نفسك تتفتح.
فـ أشار “سلامة” على عيناه و :
– من عيوني، الباشا يؤمر بس.
**************************************
صرخ “حمزة” في وجهها، ودفع يدها عن وجهه بشكلٍ مُهين وهو يصيح فيها :
– أنتي غـــبيـة!!.. قولتلك وجعاني جدًا.
ابتعدت الطبيبة عنه نهائيًا، ونزعت قفازات يداها الطبية وهي تقول :
– حضرتك متعصب من ساعة ما جيت وأنا مش عارفه أتعامل معاك، الدكتور هييجي لحضرتك دلوقتي.
فأشاح بذراعهِ كي تنصرف من أمامه :
– ياريت!.
ضغط “صلاح” على كتفه حتى عاد يسترخي على سرير المشفى بقسم الطوارئ، ثم أردف بـ :
– أهدى ياحمزة مش كده!.. البنت بتطهر الجرح لسه.
لحظات وكان الطبيب بينهما وهو يسأل :
– خير ياحضرات.
كان وجه “حمزة” إجابة صريحة على سؤاله، تغضن جبين الطبيب مذهولًا، واقترب منه أكثر، ثم انحنى عليه وسأل :
– مين عضك كده؟.
فـ أثار بذلك انفعال “حمزة” الناشب بالفعل، ليهدر فيه هو أيضًا :
– هو تحقيق ولا إيه!!.. ما تشوف شغلك وانت ساكت.
اكفهر وجه الطبيب، وبدت تعابير الغضب جليّة على وجهه وهو يرد بأسلوبٍ حازم :
– سؤالي كان في صميم شغلي ياأستاذ، لازم توضحلي عشان لو اللي عضك حيوان لازم تاخد المصل المناسب!.
فـ تدخل “صلاح” كي تهدأ الأجواء المتوترة من حولهم :
– لأ مش حيوان، هي حيوانة، أقصد واحدة يعني.. ياريت تشوف مناخيره بسرعة عشان نمشي يادكتور.
انحنى الطبيب عليه، حينما أطبق “حمزة” جفنيهِ بقوةٍ وكأنه يعتصرهم، شاعرًا بمزيج من المشاعر السلبية والسيئة. ضغط الطبيب ضغطة خفيفة على أنفهِ، فـ كتم “حمزة” صرخة كادت تخرج من جوفهِ، بينما عقب الطبيب بإندهاشٍ شديد :
– واحدة إزاي!!.. دي أسنانها اخترقت الجلد ودخلت في اللحم!.
فحص الأنف فحصًا سريعًا ثم تابع :
– بس مفيش كسر الحمد لله، ولا تمزق في الأوعية.!.. مجرد جرح هيتطهر ونستخدم دهان للجروح ودهان مضاد للإلتهاب.
سكب الطبيب المحلول الملحي أولًا على قطعة من القطن النظيف، ثم هتف بـ :
– أولًا لازم تهدى، المكان ده من الوش حساس، عشان كده حاسس بالوجع.
وبدأ يقوم بمهامهِ من تنظيف وتطهير للجرح بشكلٍ دقيق، قبل أن يغلف الأنف بالدهان المناسب، ثم وضع طبقة رقيقة من الشاش الأبيض قبل اللاصق الطبي :
– هنضطر نفضل مستخدمين الشاش واللصق يومين لحد ما الجلد يلتئم عشان نمنع وصول الميكروبات والأتربة لمكان الإصابة، بعدها تقدر تستخدم الدهان بدون ما تغطي مناخيرك.
نهض، نزع قفازاته، ثم أردف بـ :
– هكتبلك الكريم اللي هتستخدمه، هما نوعين ، أما تنضيف الجرح ده مسؤوليتك.. ألف سلامة.
استقام “حمزة” من نومته، فـ أصابه دوّار مفاجئ حاول ألا يُبديهِ، أطبق جفونه محاولًا استعادة كامل وعيهِ، بينما كان أبيه يسأل :
– هتعمل إيه ياحمزة ؟؟.. أنا مش عايزك تتصرف من دماغك، خليني أساعدك.
وقف “حمزة” مستقيمًا، التفت لوالده :
– سيبلي الحوار ده، أنا هخطط للبت دي خطة هتجيبها هي واللي وراها الأرض.
ضحك “صلاح” مستهزئًا به، وهو يذكره بما حدث خلال يومين :
– آه ما هو واضح!.. هي اللي هتجيبك الأرض طول ماانت معاند وعايز تمشي لوحدك.
تحرك “صلاح” نحوه متابعًا :
– أعترف ليا أنا أبوك، خلاص مبقاش ينفع تنكر.. الواد طلع إبنك فعلًا، اللي مستغربه إزاي تتخدع بالشكل ده!.
تأفف “حمزة” غير قادر على تحمل المزيد، بجانب ضغط الألم على أعصابه :
– بابا أنا مش متحمل، روح خلص الحساب عشان أمشي من المخروبة دي.. بعدين نتكلم.
رمقه “صلاح” بنظرةٍ مستنكرة ، قبل أن يسير في طريقه للخروج، من أجل إنهاء الحساب. تعقبته نظرات “حمزة” حتى خرج نهائيًا، ثم جلس على طرف الفراش وهو يغمغم بـ هسيسٍ خافت :
– مش هي بتقول إنها مراتي واللي معاها ده إبني!!.. يبقى تستحمل بقى اللي هتشوفه مني.
انفعالهِ حرك عضلات أنفهِ بالخطأ، فـ تآوه متألمًا وهو يتحسسها برفقٍ شديد، ثم همس مغتاظًا :
– حتى دي هتدفعي تمنها غالي أوي.
***************************************
انصرف النادل بعدما وضع الطلب الخاص بهم على الطاولة، فـ سدد “عناني” نظراتهِ المستهجنة إليها وهو يهتف بعتابٍ :
– مش مصدق!!.. كل ده وانتي مخبية عني ياسُلاف!.. تطلعي واحدة من ضحايا الحيوان ده ومتقوليليش؟؟.. ليه يابنتي.. ماانا كنت جيبتلك حقك بالقانون وانتي عارفة مين هو عناني الحكيم.
تناولت “سُلاف” كأس الماء بالليمون خاصتها، ارتشفت قدرًا قليلًا منه، ثم تركته بأيادي مرتعشة، وقد برعت في تجسيد دور المضطهدة المظلومة والمغلوبة على أمرها أمامه. طأطأت رأسها تخبئ نظراتها منه، ثم هتفت بخفوت لائم حالتها الكاذبة التي زيفتها :
– اتحرجت من حضرتك جدًا، كنت هقولك إيه!!.. إبن القرشي ضحك عليا وعشمني بالجواز وبعدها رماني!.
نفخ “عناني” بإنزعاج شديد مما عرفه منها، وحاول قدر ما يمكنه أن يكون يبدو رزينًا هادئًا، رغم الكراهيه التي ملأت أحشائهِ وجوفه :
– منحط، مش مصدق إن في واحد ينتمي لمهنتنا بالإنحطاط ده!.
ثم نظر إليها وقد فهم ما اللغز الذي اختبأ ورائها :
– عشان كده كنتي غامضة، فيكي حاجه مش طبيعية دايمًا! هروبك من مواجهة صلاح وإبنه في أي قضية كان حاجه مشكوك فيها بالنسبالي!.
فركت “سُلاف” كفيها بتوترٍ، ثم رفعت بصرها نحوه تستجديه :
– كل اللي عايزاه من حضرتك حاجه واحدة بس، ساعدني، استلم القضية بنفسك وأنا مستعدة أكمل شغل في المكتب حتى لو من غير مقابل.
انفعل “عناني”، وكأنها تعمدت الضغط على عرقهِ الإنساني وضميره اليقظ :
– إيه الكلام ده ياسُلاف!!.. ده انتي واحدة من فريقي وأنا لا يمكن أسمح لحد إنه يظلمك وياخد حقك، قضية إثبات النسب دي بتاعتي وأنا موكل بيها، وحقك هييجي أنتي وإبنك تالت ومتلت ، متقلقيش أبدًا.
كأن إشراقة ظهرت في وجهها، وهي تمتن له على صنيعهِ الطيب معها :
– شكرًا بجد ياأستاذ عناني، مش هنسى معروفك أبدًا.
أمسكت بحقيبتها وهي تتابع :
– هروح أغسل وشي وأرجع حالًا ، عشان نتكلم في تفاصيل القضية.
أومأ رأسه متفهمًا، بينما أولتهُ هي ظهرها، فـ برزت ابتسامة النصر على محياها، وشعّ من عيناها بريقًا متحفزًا، إحتفالًا بتجاوز أول خطوة نحو الدخول لـ عُقرهم. إثبات نسب طفلها أولًا، ثم تأتي البقية.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)