رواية أزهار بلا مأوى الفصل الخامس 5 بقلم نورا سعد
رواية أزهار بلا مأوى الحزء الخامس
رواية أزهار بلا مأوى البارت الخامس
رواية أزهار بلا مأوى الحلقة الخامسة
ـ كُلّة! بيشِم كُلّة!
هتفت بها وهي تشعر أن أطرافها بأكملها شُلّت عن الحركة!
ولكنها نجحت أن تُفيق حالها من تلك الحالة التي امتلكتها، وبعلو صوتها كانت تصيح عليه باسمه، اتنفض الطفل فور سماعه لصوتها، ترك ما كان يفعله ونظر حوله سريعًا عن مصدر الصوت، وقبل أن يخفي أي شيء كانت “سلمى” تظهر أمامه من العدم وهي تحملق في فيه بعدم استيعاب وتصيح عليه قائلة:
ـ أنت بتعمل إيه يا “سمير”؟؟ وإيه اللي في إيدك ده؟؟
تلجلج الولد، لا يعلم ماذا يقول لها، تلعثم أمامها وقال بتوتر:
ـ ده.. ده حاجة لقتها وقولت أشوف أي ده.
كان الكذب واضح مثل ظهور الشمس في يومٍ مُشرق! وبغضب انتشلت ما وضعه على الفراش بجانبه عندما دخلت لكي يرتطم بالأرض، وهي تصيح عليه بعصبية:
ـ أنت كداب، أنت عارف ده إيه كويس.
اقتربت منه وبعنف مسكت ذراعه وهي تهتف حانقة:
ـ بتشِم كُلّة يا “سمير” بتدخل جسمك السم ده؟! أنت..أنت بجد أتجننت! بتعمل كده ليه؟؟ أنطق ليه؟
كلماتها وفعلتها تلك أثارت غضبه، دفع يدها عنه بعنف وصاح هو هذه المرة قائلًا:
ـ وأنتِ تعرفي إيه أنتِ عننا عشان تقولي ليه ومش ليه؟؟ تعرفي أحنا عايشين أزاي ولا هنا ليه؟ ولا بيحصلنا إيه؟ أنتِ مين أنتِ عشان تسألي وتتحمقي أوي عليا؟ أنا بشِم البتاعة دي بقالي شهور ومحدش عارف حاجة ولا حد حس، وحتى لو حد عرف مكنش حد هيهتم.
صمت وهو يلهث بعنف وكأنه كان في سباق ضد نفسه! وقبل أن تتحدث قاطعها وهو يواصل حديثه الحانق من العالم وليس منها قائلًا:
ـ وأنتِ كمان مش هتهتمي، ولما تخرجي من المكان ده هتنسي أنك قابلتيني أصلًا؛ فبلاش الجو ده، عشان محدش هنا يهمه أنا ولا يهمه أنا بعمل إيه أصلًا.
شعرت بالآلم في حديثه؛ لذلك لَنت نبرة صوتها حين تقدمت مِنه وقالت بهدوء حاولت أن تتحلى بهِ:
ـ مين قال كده؟ أحنا يهمنا أنك تكون كويس يا “سمير” يهمنا أنك تكون في أحسن حال.
صمتت ثم استرسلت وهي تجلس بجواره وتمسك كف يده المرتجف:
ـ وأي رأيك بقى أن من النهاردة كل شغلنتي أن أعرف أنت إيه اللي مضايقك ومزعلك، ومش همشي غير لما تقولي مين بيجبلك الزفت ده.
قالتها بأصرار وهي تنظر له بتحدٍ، بينما هو فالدموع غرقت وجهه دون أن يشعر، طأطأ رأسه للأسفل ولم ينطق، بينما هي فجلست جواره على الفراش وضمته لحضنها بحنان، أدمعت عينيها على حال ذلك المسكين، ربتت على ظهره ثم قالت له:
ـ بقى بقالك شهور يا “سمير” بتدخل الزفت ده جسمك؟ ليه بتعمل في نفسك كده؟ أنت متعرفش أن ده سم وبيدخل جسمك؟
ـ بس بيخليني أنسى وأعيش في جو حلو ورايق.
قالها وهو يتنحب في البكاء، رفعت له رأسه بيدها ثم سألته:
ـ بتنسى إيه؟ ومين بيجبلك الحاجات دي؟
لم يرد عليها، فقط أنخرط في البكاء في أحضانها، وهي قررت أن تنهي النقاش معه اليوم، ولكن بالتأكيد سيكون بينهم حديث آخر، وحديث طويل أيضًا!
༺༻
انتهى اليوم بتعبه، وبكل شيء غريب حدث فيهِ، كانت “سلمى” على موعد مع “حسن” ذلك الشخص الذي من المفترض أنها فترة التعارف عليه، كانت تأخرت عن موعدهم لنصف ساعة تقريبًا، كان كل خمسة دقائق يهاتفها لكي يستعجلها، أخيرًا وصلت لذلك المقهى الذي ينتظرها بداخله، ترجلت للداخل وبدأت تبحث عنه بعينيها، وقعت بنظرها عليبتسمت له وتقدمت مِنه، مدت يدها لتصافحه وهي تقول له بآسف:
ـ آسفة بجد، حصل موضوع كبير ومهم في الشغل أخرني.
ابتسم لها على مضض ولم يهتم لثرثرتها، بينما هي جلست أمامه وبادلته الابتسامة بتوتر، جاء النادل وأخذ طلباتهم، وبعد وقت من الصمت قررت أن تبدأ هي الحديث عندما قالت له:
ـ مالك؟
وكأنه كان يريد أن تسأله لكي ينفجر فيها دون سابق أنذار! وبستياء وهجوم غير مبرر كان يقول لها:
ـ بصي يا “سلمى” أنتِ لسه متعرفنيش، بس أنا أكتر حاجة بدور عليها في شريكة حياتي هي التقدير، يعني مينفعش أكون مستنيكِ وبنا معاد وتقوليلي اتأخرت عشان الشغل وكلام فاضي! هو شغلك ده أهم مِني يعني؟ منا سبت شغلي عشانك!
جملته الأخيرة قلبت لها كل موازينها، بعدما كانت حانقه من هجومه عليها؛ فلآن هي تشعرت أنه محق! لذلك ابتسمت له بتوتر ملحوظ ثم بررت فعلتها بقولها:
ـ حقيقي حصل مشكلة كبيرة لولد معانا في الدار، ومشكلة صعبة أوي كمان، مكنش ينفع أبدًا أني أسيبه وأمشي منغير ما أتكلم معاه!
ختمت كلماتها بابتسامة هادئة، كانت تنتظره أن يتخلى عن استياءه هذا ويسألها باهتمام؛ ماذا حدث معها؟ ولكنه هدم أمالها عندما أقترب من الطاولة بجسده وسألها بجدية شديدة مُغيرًا مجرى الموضوع:
ـ خلاص حصل خير، خلينا نتكلم في المهم، كنت عايز اسألك هو أنتِ لبسك كله كده يا “سلمى”؟
قطبت جبينها بتعجب من سؤاله، نظرت سريعًا على ملابسها ثم أجابت عليه:
ـ كده اللي هو أزاي يعني؟
ـ ضيق شوية مثلًا؟
نظرت لملابسها للمرة الثانية وهي تلاحظ هذه المرة إذا كانت ترتدي شيء ضيق بالفعل أم هو يتوهّم؟ ولكن ما هو الضيق في ملابسها التي تتكون من قميص مخطط طويل من اللون” اللموني” وأسفله تيشرت قطني من اللون”الأبيض” وترتدي بنطال من” الچينز” واسع الأرجل! هل هو يرى شيء غير ما هي تراه؟ عندما لاحظ تعابير وجهها وصمتها الذي دام لوقتٍ تنحنح هو وأردف:
ـ قصدي يعني ليه تلبسي بناطيل؟ وليه التيشرت ضيق كده؟ وليه متلبسيش خمار أصلًا!
كانت تنظر له بتروٍ، غير قادرة على الرد عليه، ولكنها استجمعت قوتها ونظرت له وعلى وجهها ابتسامة هادئة وهي تقول له:
ـ أنت ليه يا “حسن” مجبتش سيرة أني سلمت عليك بالأيد مع أن ده مينفعش برضه ومن ضمن الحاجات اللي بتعلق عليها؟
تفاجأ من سؤالها، توتر في الرد ولكنه أجابها في النهاية قائلًا:
ـ عادي يعني، بس مش كله مرة وحدة، أنا عايزك تكوني أحسن على فكرة مش قصدي حاجة!
ابتسمت له ثم قالت:
ـ أنا فعلاً هحسبها أنك عايزني أحسن ومش حاجة تاني، بس عايزة أقولك أن مفيش حد كامل، أنا مش ملتزمة بنسبة مية في المية، لا أنا في حاجات كتير بعملها غلط وبحاول أصلحها لكن مش هيجي كله مرة وحدة يعني! لازم تكون فاهم ده، ولا إيه؟
شعر أنه على وشك أن يُفسد الزيجة بسبب تسرعه في الحديث، ابتسم لها وحاول إصلاح الموقف عندما قال لها:
ـ أكيد طبعًا فاهم، أنا بس عايز علاقتنا تكون كويسة وتكون راضيه ربنا.
ابتسمت له وأومأت له بهدوء، ثم بدأ هو في قص ما فعله الأيام السابقة، وما ينوي فعله في المستقبل بينما هي فكان عقلها شارد منها تفكر فِما قال لها منذ قليل.
༺༻
كانت “ليلى” عادت لمنزلها للتو؛ فهي بعدما انتهت من عملها اتجهت لكي تتبضع وتجلب أشياء لمنزلها، فتحت باب منزلها وهي تحمل في يدها أكياس بلاستيكية كثيرة، شهقت بفزع فور النظر على أريكة منزلها؛ فكان زوجها متسطح على الأريكة! عندما شعر بها أعتدل في جلسته ثم ابتسم لها وهو يقول:
ـ حمد على السلامة.
وضعت الحقائب على الأرض وهي تتنفس الصعدأ، نظرت له وبتجهم كانت تقول له:
ـ أنت رجعت؟ متصلتش يعني!
نهض من مكانه وترجل نحوها، اقترب منها وطبع قبلة على جبهتها وهو يقول لها:
ـ حبيت أعملهالك مفاجأة.
نظرت له بتعجب من أفعاله ولم تعقب، فقط ابتسمت له بتوتر وقالت:
ـ حمد الله على سلامتك يا “عامر” هروح أعملك أكل أكيد جعان.
ابتسم لها وقال:
ـ أوي، وكمان وحشني أكلك أكتر.
ابتسمت له ثم أخذت حقائبها وترجلت للمطبخ، كانت تريد أن تتشاجر معه بسبب تركه لها كل هذه المدة دون أن يسأل عن أحوالها، ولكنها أجلت الشجار في هذا الوقت، من الواضح أن مزاجه جيد الآن؛ فلا داعي لتعكيره!
وأثناء تحضيرها للطعام سمعت صوت رنين هاتفها، وعلى غير العادة كان “عامر” يحمل الهاتف في يده وآتي لكي يعطي لها، ابتسمت له وشكرته وأجابت على المُتصل الذي لم يكن غير صديقتها “سلمى” بعد السلامات سمعتها تقول لها:
ـ بقولك إيه ما تيجي نتقابل، في حاجات كتير لازم أقولهالك.
وبهدوء كانت تقول لها:
ـ مش هينفع يا”سلمى” “عامر” رجع من السفر النهاردة، خلينا بكرا ونتكلم في الدار.
ـ حمد الله على سلامته، خلاص أشوفك بكرا.
ثم ودعتها وغلقت معها الهاتف، وواصلت تحضير الطعام.
༺༻
أشرقت شمس يوم جديد يحمل في طياته أمال الصغار والكبار معًا، كان كل شخصٍ مستيقظًا والحماس يغمره بشكلٍ ملحوظ لسببٍ مُختلف، كان وراء جدران “أزهار المستقبل” البراعم الصغيرة وهي تلهو في الحديقة وسط الأشجار والعُشب الذي يحتضن المكان من كل اتجاه، كان هناك “مالك” و”ياسين” يلهيا سويًا برفقة أصدقاءهم الذين يرافقوهم تلك الرحلة، ولكن كان “سمير” يجلس بمفرده بعيدًا عن زملاءه، كان يجلس يضُم ركبتيه لصدره وكأنه هكذا يحمي نفسه من العالم! كان يحملق في نقطة هاوية في الفراغ ويفكر في أمره، ولكن “سلمى” اقتحمت المنطقة التي كان مُنعزل فيها عن العالم من وجهة نظره وجلست بجواره، استدار لها ونظر لها بتعجب، ارتسمت على وجهه تلقائيًا علامات الأمتعاض وعدم الرضا، ولكن هي لم تهتم له، جلست بجواره القرفصاء وعلى وجهها ابتسامة هادئة ثم حيّته، جاءها رده جاف، بعدما نظر لها عاد يحملق في الهواء من جديد، أما هي فنظرت لذات النقطة التي كان ينظر لها ثم قالت له وهي مازالت تنظر بعيدًا عنه:
ـ قولتلك أني من النهاردة مش هسيبك وهتكون صاحبي وهساعدك، ليه مستغرب أني جيت ليك النهاردة؟
دحرج مقلتيه عليها، ضيق عيناه ثم قال ساخرًا:
ـ عشان محدش بيكون قد كلامه! وبعدين مين حِمل أنه يشيل مسؤلية ووجع دماغ حد زيّ؟ ما كل واحد فيه اللي مكفية.
كانت تنصت له وهي تعطي له كامل تركيزها بكل حواسها، بعدما انتهى من حديثه المُنفعل ابتسمت هي بهدوء وهي ترفع أحدي ساقيها وتسند عليها بذرعها لكي تتكئ على خديها وقالت:
ـ بس ده شغلي ببساطة يا “سمير” شغلي أني أفضل جمبك لحد ما السم ده يخرج من جسمك، شغلي أني أفضل جمبك لحد ما تكون زي الفُل.
اعتدلت في جلستها ثم اقتربت منه أكثر وهي تسرسل ونبرتها تحمل في طياتها الأسى والحُزن عليه:
ـ اللي فيك ده يا “سمير” حُزن من العالم، أنت زعلان من العالم وفاكر نفسك كده بتـ ـنتقم منه، ومتعرفش أنك بتنتـ ـقم من نفسك!
تمردت دموعه عليه وعلى تماسكه الزائف، وفي طرفة عين كان ينهار كليًا أمامها! وضع كفتا يده على وجهه لكي يخفي ضعفه عنها وأجهش في البكاء، أدمعت عينيها عليه، أقتربت مِنه ووضعته داخل أحضانه وكأنها هكذا تحميه عن العالم، ظلت تربت على ظهره بحنوٍ وهي تهوّن على قلبه المسكين بكلمات ليّنة لعلها تطيب خاطره وتداوى ندوب قلبه، بعد فترة سكن في أحضانها، كفكفت هي دموعها أولًا ثم خرجته من أحضانها ومسحت له دموعه بأناملها، ابتسمت له بصفوٍ وقالت له بحماس لا تعلم ما مصدره:
ـ العياط مش هيعملنا حاجة، أنا دلوقت عايزة أعرف كل حاجة عن صاحبي، صاحبي مستعد يحكيلي؟ ولا هيتكسف ويرجع يبحلق في الشجر تاني؟
قالت كلماتها بطريقة مازحة وهي تعود لجلستها الأولى من جديد، ابتسم لها رغمًا عنه، ورغم أن ملامح وجهه يرتسم عليها الأرهاق ومعالِم الحُزن تظهر عليه چليًا كوضوح القمر في يومٍ داكن، ولكن ابتسامته العاذبة أعطته بريقًا خاص، وكأن الروح عادت لجسده من جديد!
༺༻
وفي مكانٍ أخر، كانت “ليلى” تجلس برفقة “ياسين” في الغرفة الخاصة بها هي وصديقتها؛ فبعدما اجتازت “سلمى” نحو “سمير” ترجلت هي نحو”ياسين”وطلبت منه أن يلحقها في مكتبها لأنها تريده، وعلى الرحب عكس المرة السابقة لاحقها سريعًا، كان الطفل سعيد ولأول مرة بحديثه مع أحد هكذا، وكأنه ألتمس في حديثها بأنها مهتمه بحق! عكس كل من كانوا يتحدثون معه هُنا وكأنه مُتهم وعليه أن يُجيب على كل اسئلتهم رغمًا عنه دون الأهتمام لمشاعره التي تتآكل مع كل حرفٍ يتفوه بهِ، كان يشعر كأنه مسكين يفترش الشوارع في الشتاء القارس وما يحمي جسده من البرودة القاسية هو فراش قديم مُتهالك، وكلما تحدث ونبشَّ في الماضي كلما يُزيح الفراش من على جسده والبروده تُنهش في جسده الضعيف! وهم غير مكترثين بما يحدث له، كل ما يهمهم أنه يُرضي فضولهم فقط! ولكن هي كانت مختلفة، لِمَ وفي ماذا بالتحديد هو لا يعلم! لكن قلبه مطمئن عكس كل المرات السابقة!
كان يجلس أمامها على الكُرسي الخشبي وفي يده مشروب حليب بالشكولاتة السوداء، أحضرته هي له لكي يتحدث معها بمزاجٍ هادئ، انتظارته حتى انتهى من مشروبه ثم ابتسمت له وقالت:
ـ جاهز نتكلم سوا شوية؟
هز هو رأسه بحماس وعلى ثغره ابتسامة لطيفة، ابتسمت له في المقابل وبدأت في طرح السؤال الأول عليه:
ـ قولي الأول أنت عندك كام سنة؟
ـ 13 سنة.
قالها بهدوء، وهي استرسلت اسألتها وقالت:
ـ كنا وقفنا المرة اللي فاتت أنهم بيستغلوكم عشان التبرعات، وإيه تاني يا “ياسين؟ ”
نظر هذه المرة في نقطة فارغة أمامه، وكأنه يتذكر ما كان يحدث لهم، أو دعنا نقول كان يستحضر تلك الذكرى السوداء بالتحديد من صندوق ذكرياته الذي سبق وغلقه بمئات من الأقفال الحديدية؛ لكي يواصل حياته في سلام، وليته هكذا نجح في الأمر، في كل مرة كان يحدث أي شيء ويذكره بما بمضى يكتشف أن الأيام لم تُمضي، وأن الندوب لم تُشفى، والذكريات لم تُتنسى!
خرج من تلك الدوامة على صوت”ليلى”وهي تكرر سؤالها، بينها هو فغلق عيناه بصعوبة ثم فتحها مرة أخرى وهو يضغط على كف يده وبدأ في قص الجزء المُظلم الخاص بحياته قائلًا:
ـ الموضوع منتهاش معاهم هنا وبس، الموضوع كان كل فترة يكبر منهم وقدام عنينا، كان وقتها أي حد من صحابنا لما حد بيتبناه بيكون بالنسبالنا يوم فرح، أصل حد من اخواتنا هيترحم من اللي هيحصل؛ فأزاي منفرحش؟
كانت تعطي له كامل تركيزها، أومأت له وبلهفة سألته:
ـ وبعدين؟
تنهد هو بعدما أتخلى عن الضغط على كفة يده وبدل تلك الحركة بالفرك في كلتا يداه وهو يواصل:
ـ لحد ما في يوصل جالنا صاحبنا اللي حد أتنباه وهو حرفيًا متدمر!
عقدت جبينها بتعجب وسألت:
ـ يعني إيه؟
نظر لنقطة فارغة وكأنه يتذكر ذلك اليوم وأردف:
ـ صاحبنا رجعلنا وهو شخص تاني شخص مش قادر يستحمل الصوت العالي ولا حتى أن حد يلمسه! صاحبنا بقى بيصرخ لو أي حاجة من دي حصلت جمبه أو ليّه هو بالذات!
“عودة لأعوام ماضت”
༺༻
دعنا نعود مرة أخرى حيثُ صديقتنا “سلمى” و”سمير”، بعدما هدأت الأجواء بينهم بدأت “سلمى” في استدراك الطفل في الحديث، كانت تريد أن تعرف كل شيء لكي تبدأ في رحلة علاجه في أسرع وقت، وبدأت “سلمى” تطرح عليه اسألتها قائلة:
ـ عندك كام سنة الأول؟
ـ 10 سنين.
نظرت له نظرات حزينة ولم تعقب، فقط احتفظت بتلك الأسئلة التي دارت بداخلها لنفسها وانتقلت هي على السؤال التالي وقالت:
ـ بقالك قد إيه يا “سمير” بتاخد الحاجات دي؟
ارتسمت على وجهه علامات الأسى والندم، كسى رأسه للأسفل وأجابها:
ـ 4 شهور تقريبًا، مش كتير.
أومأت له ولم تعقب فقط انتقلت على السؤال التالي:
ـ مين اللي بيجبلك الحاجات دي؟
صمت ولم يجيبها، بينما هي فنظرت له وهي تضم رجليها لصدرها ثم هتفت بتهجم:
ـ الولد اللي عرفت أنه بيجيلك يسلم عليك صح؟
رفع رأسه لها سريعًا ونظر لها نظرة غير مصدقة! وكأنه يسألها كيف علمتي وأنتِ لم تَريّ ذلك الولد غير مرة واحدة! أومأ له بهدوء وهي ابتسمت ساخرة وعقّبت قائلة:
ـ كنت حاسه أن الولد ده وجوده هنا مش طبيعي!
وبحُزنٍ سخر وهو يضم ركبتيه لصدره وقال:
ـ أنتِ شوفتيه مرة وحدة وحسيتي أن وجوده مش طبيعي، وهما شايفينه بقالهم 5 شهور ومحدش حس، شايفه الضحك في الموضوع؟
ابتسمت له بحزن ولم ترد لأنها لا تمتلك رد؛ فثمة اسئلة تطرح علينا يكون العقل عاجز عن الأجابه عليها، لأننا إذا أجبنا عليها سنتسبب ف نُدبة عميقة وحسب! فالأفضل في مثل تلك المواقف هو الصمت! ولكنه هو الذي خرجها من صمتها عندما واصل حديثه وقال:
ـ أنا دايمًا محدش مهتم بوجودي من يوم ما وعيت على الدنيا؛ فمش هاجي دلوقت واستغرب، دايمًا متهمِش، أو الكل بيبعد عني وكأني مرض ملعون! أنا دايمًا دايمًا مش باين، وكأني نقطة صغير في أخر الصفحة البيضا الكبيرة! فمهما كتبوا ووصلوا لنهاية الصفحة هما برضه مش هيشوفوني! وأنا مسكين مفيش حاجة في أيدي أعملها عشان أقولهم أني هنا موجود!
مفيش طريقة أبدًا!
زحفت دموعه على خديه بعدما انتهى من الاسترسال، بينما هي فمسكت كف يده وحضنته وهي تُجبر شفتيها على الابتسام بدلًا من البكاء! أخذت نفسًا ثقيًلًا وهتفت وعلامات الحزن ظاهرة على معالِم وجهها وقالت:
ـ مش مهم اللي حصل وإيه اللي حصل فيه يا “سمير”، المهم اللي هيحصل، لو هما مش شايفينك وأنا عارفه أنك أكيد فاهم غلط فأنت برضه اللي بأيدك أنك تخليهم يشوفوك، بتصرفاتك وأفعالك وأنجازاتك.
تنهد ولم يعقب على حديثها؛ فهو غير قادر أن يوضح لها أنه لم يكن يتحدث على أفراد الدار هُنا! بل يتحدث عن عائلته! وكأن حديثه سيصل لهم في يومٍ من الأيام! كان يريد أني يقول لهم أنه هُنا، أنه يحتاج لهم، أنه ورغم كل ما حدث مازال يريدهم ويريد عناقهم الدافئ، يريد أن يشعر أنهم يريدوه وأنه غير منبوذ وحسب!
عندما رأت “سلمى” أن عيناه تذرف الدموع دون أن يشعر قررت أن تنهي تلك الجلسة، اقتربت مِنه وقامت هي بفرك كف يداه لعله يهدأ ثم قالت له:
ـ أنا عارفه أنك مش صغير وأنك هتقدر تعدي الفترة الجاية، اللي في جسمك لسه في مرحلته الأولى وده هيكون في مصلحتنا عشان نتخلص منه بسرعة، وعلى فكرة اللي كنت بتتعاطاه ده زيه زي الهيرويـ ـن والمخدرات، هو سم زيهم بالظبط، اللي هيجي مش هيكون سهل ولكن لازم تعرف أن زي ما كنت قدها ودخلت السكة دي بإرادتك؛ فأنت مجبر أنك تخرج منها بإرادتك برضه! أنا هفضل دايمًا معاك ومش هسييك أبدًا، الولد اللي بيجيلك ده ميجيش هنا تاني أبدًا، ومن بكرا هنبدأ أول يوم في علاجنا، أتفقنا؟
أومأ لها وهي يحاول أن يكفكف دموعه، بينما هي فهبطت دموعها رغمًا عنها ثم شدته لأحضانها ظلت تعتذر له نيابةً عن العالم بأكمله!
༺༻
عودة مرة أخرى حيث “ياسين” و”ليلى” كان الطفل بدأ بالفعل في قص ما حدث معه منذ سنوات مضت.
“عودة لأعوام ماضت”
كان اليوم مشحون بالحُزن كباقي أيامهم هُنا، ولكن اليوم بالتحديد كان الحُزن مضاعف في قلب الأطفال الصغار؛ فاليوم صديقهم عاد لهم بعدما رحل عنهم منذ خمسة أشهر، عاد لهم وهو حاله متبدل كليًا! كان الطفل يتسطح على فراشه وجسده يرتجف، كان يرتدي سترة بأكمام رغم أنهم في شهر يونيو! عيناه كانت ذُبلت من كثرة بكاءه، وتلك الكدمات الزرقاء التي تُزين وجهه جعلت الأطفال يتسألون ماذا بهِ ذلك المسكين؟
كان “ياسين” هو أقرب صديق لذلك الطفل، رغم سعادته بأنه عاد له لكنه كان حزين على حالته الغير مفسرة بالنسبة له، كان جالس أمامه على الكُرسي ينتظره يستيقظ من نومه، وعندما رأه يفتح عيناه ابتسم هو فارحًا وهجمَّ عليه لكي يعانقه بقوة، ولكن ما حدث صُدم ذلك المسكين!
فور أقتراب “ياسين” من “تاج” صديقه دفعه الطفل بعنف وبدأ في الصراخ الغير مُبرر، أبتعد”ياسين”عنه وهو يحملق فيه غير مستوعب لماذا فعل هذا! وعلى صوت صراخه أجتمع جميع من يعمل في الدار، وبعد التساؤلات والتي لم تأتي بفائدة معه تخلت مديرة الدار عن هدوئها، وبكل جحود قلب كانت تمسك الطفل من معصمه وهي تصرخ عليه بغضب:
ـ هو في إيه هنقعد نتحايل عليك تتكلم! ما تنطق وتقول في إيه؟
كل ما فعله الطفل وقتها أنه ظل يصرخ لكي تبتعد عنه وكان يدفع يدها عنه، أفعاله أثارت حنقها أكثر، وقبل أن تعنفه سمعت ذلك السيدة المُربية المسؤلة عن الأطفال وهي تقول لها دون الأكتراث لمن يصرخ ويستغيث:
ـ هو عمال يبعد أيدك لي عن دراعه؟ شكله كده مخبي حاجة تحت هدومه دي.
نظرت السيدة على ذراعه سريعًا، بينما الطفل حاوط ذراعه بكف يداه وكأنه هكذا يحمي نفسه منهم، ولكن هي نظرت له بشرٍ ثم خلعت له ثيابه بعنف رغمًا عنه وتحت صرخاته المدوية، ولكنها صُدمت من ما رأت! كان ذراعه بدايةً من رسغه حتى كتفيه في الأعلى متشوّه بطريقة أو بأخرى! كان هناك أثار حرق كبير وأثار حروق صغيرة مما يدل أن عمليات الحرق تمت بطُرق مختلفة!
وهناك كدمات زرقاء تدل أنه تعرض لنوع أخر من التعذيب غير الحروق! نظرت له السيدة بغير تصديق ثم سألته وهي تحملق فيهِ وبؤبؤ عينيها على وشك الخروج من محجره:
ـ حصلك إيه؟؟ عملوا فيك إيه؟
هُنا وكان الطفل وصل لذروة خوفه، تراجع للخلف وظل يصرخ بعنف وهو يضع يده على أذنه، وكأنه يمنع عقله على التذكر ما حدث له، كان كل ذلك الأشياء تحدث تحت أنظار “ياسين” وبجواره أصدقاءه وهم غير مدركين ما يحدث حولهم، وتلك السيدة عندما رأت حالته هذا انسحبت من الغرفة وجعلته يهدأ مع حاله! في ذلك التوقيت حاول “ياسين” الأقتراب من صديقه لكنه قابله بالرفض التام والصراخ والتشنج أكثر من ذي قبل؛ لذلك تكوّر ذلك المسكين على حاله في ركنٍ بعيدًا عنه وظل يراقب صديقه وهو ينهار كليًا وهو غير قادر على مساعدته بأي شكل من الأشكال!
“عودة للحاضر”
ـ وقتها بس فهمت أن “تاج” جاله حالة غريبة من الصرع مثلًا! أو الخوف، أنا مش فاهم، بس هو كان بيصرخ وبس!
كانت عيناه تذرف الدموع وهو يقص عليها ما حدث، عاد بنظره لها ثم واصل حديثه وقال:
ـ لما “تاج” بقى يشوف أي كاميرا ونلاقيه بيصرخ، لما بقى يشوف أي نار وجسمه كله يتنفض وميقدرش يبص عليها أصلًا، حتة اليوم اللي رجع فيه جاله أنهيار عصبي ومهديش غير لما قولناله أن الناس مشيت ومش هتيجي تاني! أنا مفهتمش أن الناس اللي بتيجي وتتبنى حد مننا بتكون مؤذية أكتر من “تبارك ” بمراحل غير لما شوفت بعيني اللي حصل مع “تاج” عرفت منه أن كل واحد من صحابي بيروح لعيلة بيكون مسيره الهلاك بس بشكل مختلف!
كانت “ليلى” تسمع حديثه بأنصات شديد، كانت تمسك في يدها ورقة وقلم وتدوّن كل شيء مهم يتفوه بهِ “ياسين” بعدما انتهى من حديثه أقتربت منه لكي تهدأه ولو قليلًا ثم سألته بلهفة:
ـ ممكن تقولي يا “ياسين” صاحبك حصله إيه عند الناس دي؟
وليه كان بيخاف من الكاميرا؟ إيه علاقة الكاميرا والحروق اللي كانت في أيده بالعيلة دي؟ ممكن توضحلي؟
هكذا طرحت له سؤالها بطريقة مناسبة، بينما هو فنظر في نقطة خاوية ثم همس ودموعه مازلت تنذرف من مقليه دون توقف:
ـ كان بيخاف من الكاميرا عشان بتفكره… كانت بتفكره أنه كان بيتعذب قدامها، كانت بتفكره أنهم كانوا بيستمتعوا بوجعه وصراخاته، كانت بتفكره أنه كان كل ما يصرخ ويستنجد أكتر كل ما هما يكونوا عايزين يصوره فديوهات أكتر!
حملقت فيه غير مستوعبه، وبدهشة سألته:
ـ ليه؟ بيصوروه بالشكل ده ليه؟
رفع كفيّ يداه يكتم شهقاته بعنف ثم قال بصوت مبحوح:
ـ عشان يرفعوا الفديو على الـ ـدارك ويب!
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أزهار بلا مأوى)