رواية أزهار بلا مأوى الفصل الثاني عشر 12 بقلم نورا سعد
رواية أزهار بلا مأوى الجزء الثاني عشر
رواية أزهار بلا مأوى البارت الثاني عشر
رواية أزهار بلا مأوى الحلقة الثانية عشر
“العُقد تنحل”
– هو مش باين علينا أننا بننام في الشارع؟
– طب ليه مش بتشتغلوا وبالفلوس تأجروا أوضة تناموا فيها؟
هكذا سألت “ليلى” بعفوية، وبتهجم أجابها أصغر طفل بينهم:
– ما أحنا شغالين! ومع ذلك مفيش في جيبنا قرش واحد! تقوليلي أوضة!
– شغالين مع مين؟؟
– مع….
لم يكد الطفل أن ينطق بحرفٍ واحد إلا وقاطعه صوت غليظ يظهر عليه العصبية والغضب! وهو يصيح عليهم بغضب:
-إبه اللي بيحصل هنا؟؟؟
كان هذا صوت غليظ أفزعهم جميعهم، حتى الأطفال نهضوا سريعًا وكانوا على وشك الفرار من أمام هذا الرجل المُخيف، ولكنهم ثبتوا في مكانهم عندما سمعوا صوت “ليلى” تهتف بثباتٍ أُعجبه بهِ الصبيه:
– احنا لجنة من حقوق الأنسان؛ وجايين نسمع الأطفال ونسمعك.
كان هذا قول “ليلى” الواثق، لا تدرى من أين جاءت بهذه القوة والثبات، ولكنها أهتزّت عندما هتف ذلك الرجل بصوتٍ أجش غليظ:
– حقوق إيه وزفت إيه؟؟ أحنا مش عايزين نتكلم معاكم ولا مع غيركم.
ولكن “سلمى” حافظت على ثباتها، تقدمت منه ثم ردت عليه قائلة بصرامة:
– هو احنا مش بناخد منك إذن احنا بنعرفك؛ ولو حضرتك عندك مانع كده هنضطر نوصل أعتراضك ده للمسؤولين؛ وها بقى هيتصرفوا.
هُنا وتراجع الرجل في غِلظته معهم، بدل نظراته بين جميع الوشوش وهو يفكر في حديثها، جلس على أقرب مقعد وهو يرمق “سلمى” بنظراتٍ متفحصه ثم هتف قائلًا:
– وعايزين تتكلموا في إيه بالظبط؟
ابتسمت “سلمى” ابتسامة بسيطة لصديقتها وهي تجلس أمامه وتُشير للأخرى بالجلوس، والأطفال أيضًا تراجعوا في خوفهم وجلسوا بجوار الرجل دون أن ينطقوا بشيء، نظرت “سلمى” له ثم قالت:
– عايزة أعرف الولاد هنا بيشتغلوا إيه بالظبط؟
صمت الرجل لثوانٍ ثم قال وهو يُبدل نظراته بين الفتيات والصبية:
– بجيب ليهم بضاعة وبيبيعوها في الأشارات.
ولأنه لم يكن هذا الموضوع هو المُراد الإستفاضة بهِ انتقلت “ليلى” للسؤال التالي سريعًا قائلة:
– طب أنا عايزة أعرف حكاية الولاد هنا.
صمتت وهي ترى علامات التعجب عليهم، بللت حلقها ثم هتفت مجددًا:
– عايزة أفهم إيه اللي وصّل الولاد دول للشارع، محتاجه أسمع حكاية كل واحد فيهم.
ابتسامة جانبيه ارتسمت أعلى ثغره، رمقها بنظراتٍ ماكرة ثم قال:
– طب ما أحكيلك أنا أسهل.
– عايزة أسمع منهم هما.
هكذا هتفت “سلمى” بنبرةٍ حازمة؛ أشاح بوجهه بعيدًا وهو يتأفف حانقًا، أشار على الصبي الأكبر وقال:
– أحكيلهم يا “باسم” حكايتك.
ابتسامة خبيثة ارتسمت على وجهه وهو يواصل بُسخرية:
– أصل حكايتك هي أكتر حكاية هتأثر فيهم وهتخليكم تصعبوا على الهوانم.
عَلت ضحكاته دون الاهتمام بتلك النظرات المُنكسرة التي كانت ترمقه، وبنبرةٍ لينة وابتسامة هادئة قالت له “سلمى”:
– أحكيلي حكايتك يا “باسم” أنا عايزة أسمعك.
نظر لهم بتردد شديد، ولكن الحماس الذي ألتقطه في مقلتيهم جعله يتشجع ويقول بعدما استنشق نفسّا طويلًا:
– الحكاية كلها بدأت لما أبويا وأمي قعدوا يتخانقوا سوا كل يوم، كانوا بيضربوا بعض وبيشتموا بعض وبيعملوا كل حاجة ممكن تتخيلوها.
كان صوت الصبي غليظ وكأنه تأثر بعوامل كثيرة لا حصر لها، وباهتمام شديد حثته “ليلى” على المواصلة، نظر لأصدقائه ثم واصل قائلًا:
– لحد ما في يوم قولت أنا لو مشيت من بيتهم هكون أحسن، مش هخاف، ولا هتعب من كُتر اللي بسمعه.
ابتسم ساخرًا على حاله وهو يواصل:
– مكتتش أعرف أن خناقهم وكل حاجة بيعملوها هي نعمة في حياتي أنا مش مقدرها.
صمت وهو ينظر في نقطة خاوية ثم استطرد بخواءٍ:
– مكنتش أعرف أن الشارع في حاجات كتير هتزعلني وتتعبني، وتخنقني بالمعنى الحرفي غير خناقات أبويا وأمي.
كان يتحدث بعشوائية، حديثه مُبعثر غير مُرتب؛ لاحظت “سلمى” أنه يعاني من مشكلة نفسية وهو الأن يتذكر كل ما دمره! حاولت أن تحتوى الحديث عندما سألته سؤالًا صريح:
– قولي عملت إيه لما سبتهم يا “باسم”
تنهد بثقلٍ وهو يقول:
– لما سبتهم كنت مقرر أني همشي وهعتمد على نفسي، كنت فاكر أني هشنتغل وهجيب شقة ووو…
ابتسم ساخرًا على تفكيره الساذج هذا ثم واصل:
– مكننش أعرف أني كنت عيل مطلعتش من البيضة حتى!
– كان عندك كام سنة؟
كان هذا سؤال “ليلي” وبدون اهتمام أجابها:
– ٧ باين أو ٨ مش فاكر.
أومأت له ثم واصل هو:
– سبتهم وخدت القطر ومشيت من الفيوم، ونزلت على هنا، القاهرة، ومن يومها وأنا مرمي في حضن الشوارع.
– وبعدين؟
رفع كتفيه للأعلى وهو يُجيبها ببساطة :
– ولا قبلين بقيت أبن شوارع.
ختم كلماته وهو يقهقه عاليًا وكأن ما كان يقصه نكته سخيفة وليست حياته التي دُمرت!
هُنا وأشار الرجل على الولد التالي لكي يتحدث وبالفعل بدأ في الحديث وقال:
– أنا حكايتي سهلة أوي؛ أنا توهت من أهلي وبقيت هنا.
هكذا قال كلماته ببساطة شديدة ممتزجة بلامبالاة! وقبل أن يتفوه أيّ منهم بشيء كان الرجل ينهض وهو يقول بغلاظة شديدة:
– متهيألي عرفتوا كل حاجة كده، وعشان برضه مكنش حرمتكم من حاجة هندهلكم البت أمل تسمعوا قصتها هي كمان، أصل قصتها تشحتف القلب مش زي البغال دي.
انتهى من كلماته وهو يُصيح على الفتاة تحت نظرات الفتيات المُتعجبة من تصرفاته الفجّة، تقدمت منهم فتاة صغيرة لا تتعدى السابعة عشر عام، كانوا ينظرون لها ولهيئتها الرثة بشفقة شديدة، كان حالها لا يختلف عن حال الصبيّة كثيرًا، خرجوا من حالة الذهول التي أصابتهم على صوت الرجل وهو يقول للفتاة الصغيرة:
– قوليلهم يا “أمل” حكايتك أنتِ كمان خليهك يغوروا من هنا بقى ونخلص من اليوم الأسود ده.
ختم كلماته وهو يتأفف بغضب ويجلس من جديد، غير مُكترث لنظرات الفتيات الغاضبة من أفعاله، ولكنهم انتبهوا على صوت الفتاة الصغيرة وهي تقول بنبرةٍ ملتوية ماكرة:
– ده أنا حكايتي متتحكيش في روايات يا هانم.
تعجبت “ليلى” من نبرة صوتها العجيبة هذه، عقدت حاجبيها وهي تسألها:
– اللي هي إيه بقى؟ أحكيلي عايزة أسمع.
وبغنج وعيون وقحة كانت تقول لهم ما لم يتوقعوا سماعه قط:
– أصل أنا غلطت من واحد أعرفه، وحمِلت مِنه، ولو كانوا أهلي عرفوا كنت هبقى في عداد الأموات.
ختمت كلماتها وضحكاتها ترنّ في الأجواء، كانا الفتاتان فاغرين فيهم من ما يحدث أمامهم، هل تلك الفتاة تُعد طفلة؟ أم أنها أمراة دارت في الدنيا حتى شابت خصلاتها! خرجوا من تلك الدوامة على صوت الفتاة وهي تسطرد حديثها قائلة:
– الواد اللي حملت منه قالي أهربي فضل يخوّف فيا لحد ما هربت فعلًا.
– طب والحمل؟
هكذا سألتها “سلمى” بلهفةٍ، ولكنها صدمتها الأخرى عندما قالت بنبرة أكثر هدوءًا من ذي قبل:
– ولِدت.
– وراح فين؟
هُنا وصمتت الفتاة، نظرت على اللاشيء أمامها وكأنها تتذكر تلك الليلة بالتحديد، شردت في ماضيها وما فعلته في جزءٍ لا يتجزأ مِنها، وبتروٍ هتفت:
– سبته…سبته قدام بيت.
لم يعلق أحدٌ منهم عليها، وكأنهم يستوعبون مدى قساوة ذلك الفعل البشع! ولكنها هي فاجأتهم بحديثها عندما قالت بثُقل وصوتٍ مُختنق:
– هما هيربوه…أو هيودوه ملجأ، المهم مسيره مش هيكون زي مسيري أبدًا.
هُنا وشعروا بالشفقة عليها، هي ليست أمرأة هي فتاة صغيرة ولكن الحياة حنت لها ظهرها بكل قسوة، وقبل أن يستفهم أيّ منهم على شيء تحدث ذلك الرجل وقال بحنقٍ واضح چليًا عليه:
– ما تخلصونا بقى! عايزين إيه تاني؟
– “سلمى”
كان ذلك صوت أخر شخص يتخيلون أن بقابلون في مكان مثل ذلك، وبتعجب ألتفت “سلمى” نحو مصدر الصوت لكي تتحقق من شكوكها عندما رأت “حسين” أمامها ووجهه على وشك الأنصهار من شدة الغضب!
وقبل أن تتفوه بأي شيء كان *حسين* يمسكها من معصمها بعنف وهو يصيح عليها غاضبًا:
– أنتِ بتلغي معادنا يا هانم عشان تروحي تلفي في الشوارع وتقعدي مع الشوارعيين دول! أنتِ إيه بالظبط؟ محدش مالي عينك !
– لا لا عيب اللي أنت بتعمله ده يا “حسين”ميصحش كده، أحنا آسفين يا أنسة هو بس متعصب شوية.
كانت تلك كلمات صديقه الذي كان يقف بجواره، ولكن “سلمى” لم تسمع منها شيء؛ فالصدمة تلبستها بسبب كلماته، تعابير وجهها توحي بما تشعر بهِ، لا تعلم من هذا وبأي حق يُصيح عليها كالطفل الصغير هكذا! وقبل أن تقوم هي بتعنيفه رأت ذلك الرجل المُخيف وهو يُزيحها من طريقه ويقف بجسده المُمتلي أمامه وبجواره الأطفال الذين لحقوه، تقدم من ذلك “الحسين” ومسكه من تلابيب ملابسه وهو يُصيح عليه بصوته الأجش الذي أفزع ذلك المسكين :
– هو أنت تقصد مين بالشوارعيين دول يا بتاع أنت؟؟
توتر، شعر بالخطر يداهمه بسبب ذلك الرجل المُخيف، وبتلعثم وخوفٍ كان يقول له:
– أنا …أنا مش قصدي عليكم يعني.
ظن أن بهذه الكلمات سيمتص غضبه، ولكنه كان غير موفق على الإطلاق؛ فكل ما صدر مِن ذلك الرجل هو ضحكة…ضحكة عالية يتخللها الأستفزاز وهو يقترب منه خطوة ويدفعه بقبضه يده في صدره وهو يقول بلامبالاه:
– بس أنت صح مكدبتش، أحنا فعلًا ولاد شوراع.
صمت والأخر ظل يحدق فيهِ لا يعلم ماذا بعد، لا يطمئن لنظراتهم له، وظنه كان في محله هذه المرة، فذلك للرجل نظر لهؤلاء الأطفال وهو يبتسم له ابتسامة مُريبة ثم واصل قائلًا:
– وهنوريك دلوقت بنتعامل مع ولاد الناس اللي زيك ازاي يا هندسة.
ومع انتهائه من كلماته كانوا الأطفال بقيادة ذلك الرجل يهجمون عليه دون رحمة لكي يلقون عليه درسًا في أدب الحوار، كان الرجل يخرّج فيه شحنة غضبه، وذلك المسكين يصرخ ويستغيث؛ ولكن لا حياة لمن تنادي، وصديقه لم يتدخل في العراك مباشرةٍ، كل ما فعله أولًا أنه أخذ الفتاتان واخرجهم من ذلك المكان وهو يقول لهم على عجل:
– أمشوا من هنا حالًا، محدش فيكم يفضل هنا.
ختم كلماته ثم ركض نحو صديقه لكي يخلصه من يد هؤلاء المتوحشين كما أطلق عليهم، بينما “ليلى” وسلمى” فكانا يستلقون بجانب سائق سيارة الأجرة وهم يضحكون بشِدة على كل ما حدث لهم وما حدث لذلك “الحسين” فهم يعتقدون أن ذلك أنسب عقاب له بسبب سماجته ووقاحته الامتناهية !
********
بعد يومٍ طويل وشاق عادت “ليلى” لمنزلها، بحثت على زوجها المصون ولكن بلا جدوى؛ فكما توقعت هو لم يعد للمنزل منذ ليلة أمس، ورغم أظهارها بأنها لم تهتم بما يفعله؛ لكنها كانت تتآكل من الداخل عليه، تظن أنه مُحق، ولكنها تعلم جيدًا أنه تسرع في الحُكم على الأمر، ولم تستطع أن تسيطر على رغبتها في الإطمئنان عليه؛ فهو منذ أمس وهو لا يرد على مكالمتها؛ لذلك قررت الإتصال بصديقه فهي معها رقمه لأن كان بينهم أعمال مشتركة في الفترة الماضية، همّت بالأتصال بهِ وهي تعُض في أصابعها بتوتر شديد، وعندما جاءها صوته المُرحب بها سألته هي على الفور:
– هو “عامر” فين يا “صلاح”؟ بحاول أكلمه مش بيرد، هو أنتوا معاكم شغل ولا إيه؟
حاولت تزيين السؤال لكي لا يشُك في أمرها أو في سبب سؤالها على زوجها! ولكن رده صدمها حيث قال لها بنبرةٍ يتغللها التعجب:
– ده سافر يا بنتي النهاردة الصبح سفرية مهمة أوي تبع الشغل، هو مقالكيش ولا إيه؟
سافر! سافر للمرة التي لا تعلم عددها دون علمها، إذن كان يُصلح علاقتهم ببعضهم أمس لكي يقول لها أنه سيرحل عنها مرة أخرى ! في هذه اللحظة بالتحديد شعرت بصغر نفس مميتة، شعرت أنها لا تعني له شيء، هو لا يراها من الأساس! لم تُفيق إلا على صوت صديقها في الهاتف وهو يسألها إذا كانت معه أم لا، ولكنها استجمعت قوتها من جديد وسألته بصوتٍ جاهدت أن لا يخونها :
– هو هيقعد قد إيه؟
– متهيألي ٣ شهور كده.
كانت غير قادرة على التحدث، شكرته ثم أغلقت المكالمة وهي تلقي الهاتف بأهمال، كوبت رأسها بين يدها وهي تفكر في كل ما يحدث لها، لا تعلم إلى متى ستتحمل كل هذه الخيبات؟؟ هل ستظل بمفردها طوال حياتها حتى مماتها؟ هل كُتب عليها التعاسه والوحدة للأبد؟ حتى القشة الوحيدة التي كانت ستتعلق بها جاء هو وقسمها لنصفين في وجهها لكي يقطع عليها كل سُبل النجاة من الوحدة، هُنا ورفعت وجهها، كان وجهها غارق بدموع عينيها، رفعت كفيّ يدها ومسحتهم بعنف، لن تسمح له أن يُضيع لها أخر أمل تتشبث بهِ، إذا كان هو يرفض أن تتكفّل بطل؛ فيرحل هو ويبقى أملها في الحياة وليس العكس، وحتى يظهر لكي يقول لها قرارها؛ سوف تسعى هي في الطريق الذي اختارته، أول طريق تم اختياره بواسطتها هي، وبكامل حُريتها!
********
وفي منزل أخر، كانت “سلمى” تترجل لداخل منزلها والسعادة تتغللها، لا تصدق أنها تخلصت من كابوسها الأول والأخير، ولكن سعادتها لم تدم طويلًا عليها؛ فهدمت تلك الحالة الحالمة والدتها وهي تركض نحوها وهي تصرخ فيها بكل غضب:
– أنتِ يا بت أنتِ أتجننتِ؟؟ أتصلتِ بعريسك تقوليله أنت مهزء وملقتش اللي يربيك ومفيش خطوبة؟؟؟ مش لما تلاقي أنتِ اللي يربيكِ يا بنت الكلاب.
ختمت كلماتها وهي تخلع نعلها وتصوبه نحو تلك التي تركض مثل النحلة التي تاهت عن أصدقائها، مالت بجسدها سريعًا وهي تتفاداه سريعًا وتصرخ عليها هي الأخرى في المقابل قائلة:
– هو لحق يتصل بيكِ ويقولك القموصة ده، ده أنا لسه قافلة في وشه المكالمة تحت البيت!
كانت هذه الكلمات التي ذادت من الطين بلّة، خلعت الأم نعلها الثاني وهي تصوبهُ في موضع ظهرها من الخلف وهي تصرخ فيها بجنون:
– وكمان بجحة!
تأوهت “سلمى” بسبب الضربة، وضعت يدها عليها وهي تبتعد عن عيون والدتها وهي تقول لها برجاء:
– يا ستي أسمعيني بس، هو مقالكيش طبعًا أنا عملت كده ليه صح.
هنا وسكنّتْ السيدة قليلًا، نظرت لها بعيون تطلق شرار وهي تتنفس بعنف، كتفت ذراعيها أمام صدرها وهي ترمقها بشرٍ ثم سألتها:
– حصل إيه بقى؟؟ أنطقي ومش عايزة كدب في واحد، أنتِ سامعة؟؟
ازدردت ريقها برعب، فرصتها أتت، لديها فرصة أن تقنع والدتها يما حدث أو تتحمل نتيحة ما فعلته، نظرت لها بعيونٍ مرتعبة وهي تتقدم منها بجسدٍ يرتجف وهي تقول لها:
– هو…هو كان عايز يمد أيده عليا يا ماما.
تحوّلت كُليًا، بعدما كانت قطة شرسة تُريد أن تنقض عليها أصبحت قطة وديعة خائفة على ابنائها! أقتربت منها في فزع وهي تسألها بغضب ظهر جليًا في نبرة صوتها الغاضبة:
– يمِد إيه؟؟؟ ليه إن شاء الله؟ هو جرى في مخه حاجة ولا إيه بالظبط؟؟ حصل إيه أنطقي.
نبرة والدتها حمستها كثيرًا، ولكنها حافظت على خوفها الذي أصبح وهمي وبنبرة أكثر أستعطاف قالت لها:
– كل ده عشان جيه ولقاني قاعدة مع ناس تبع الشغل يا ماما، لقيته ..لقيته جاي بيزعقلي، وبيهزقني قدام صحابي في الشغل، وكمان شتم التيم اللي كان معايا، ولما طلبت منه يقف عند حده عشان ميصحش كده .
رسمت ملامح حزينة برعت في تمثليها بإتقان شديد، حتى الدموع استطاعت أن تستعين بها لكي يكتمل المشهد وهي تواصل بعيون تترقرق بالدموع الكاذبة:
– راح مسكني من أيدي جامد وكان هيضربني يا ماما، لولا…
صمتت وهي تتابع ملامح والدتها التي تتحول وتنقلب مع كل حرفٍ تتفوه بهِ، ولكي يكتمل المشهد وضعت يدها علي وجهها بأكمله ومثلت نبرة باكية وهي تقول لها:
– لولا اللي معايا في الشغل حموني مِنه و…وضربوه عشان غلِط فيهم.
وبفرحة عارمة كانت والدتها تنهض من مكانها هي وتتجِه نحو هاتفها الذي كان يصدح صوته في المكان وتقول :
– يستاهل الحيوان ده، ماشي، أنا هربيه، وأنتِ يا حب…
صمتت وهي ترى اسمه يُنير هاتفها، ضيقت عينيها وهي تتوعد له وتقول:
– وكمان لي عين يتصل بيا تاني البجح، ماشي.
نهت كلماتها وهي تفتح المكالمة وتُصيح فيه بغضب وعصبية شديدة تلبسوها فور سماعها صوته:
– بقى يا حيوان يا سافل عايز تمد أيدك على بنتي! بنتي أنا تتهزء قدام زمايلها! دي ضفرها برقبتك يا حقير، تعرف …كفاية عليك العلقة اللي نولتها من صحابها في الشغل، أنا حقي وحق بنتي جالي في نفس الثانية الحمد لله، بس عارف لو شوفتك ولا لمحتك بتقرب لبنتي تاني، وديني ما هسمي عليك، غور.
غلقت الهاتف! كانت “سلمى” تستمع لكلمات ولدتها وهي فارغة الفم! لا تعلم من التي تتحدث وتدافع عنها! ولكنها فاقت من صدمتها على يد والدتها التي سحبتها لأحضانها وهي تقول لها بحنوٍ:
– كله إلا كرامتك يا عين أمك، يغور قرد يجي غزال؛ متزعليش نفسك.
كانت تشعر أن عقلها توقف عن العمل، لا تدرى ماذا يحدث بالتحديد، ولكنها قررت أن تجاريها في الحديث حتى تجلس مع حالها وتُعيد ترتيب كل ما حدث لكي تعلم ماذا فعلت هي بالتحديد لكي تتحوّل والدتها بهذا الشكل! دفنت وجهها في أحضانها وهي تقول لها بنبرةٍ رقيقة ضعيفة:
– صدقيني أنا كنت بديله فُرص كتير، قولت خلاص يمكن ده الل هيسعدني، بس خلاص بقى؛ شكل مليش نصيب.
وبنبرة فزعة كانت ترد عليها السيدة وهي تقول لها:
– متقوليش كده يا حببتي، بإذن الله يجيلك سيد سيده، أوعي تضايقي نفسك.
رفعت وجهها لها ثم قبلتها في جبينها ونهضت لكي تترجل لغرفتها وهي تقول لوالدتها بنبرة حزينة :
– شكرًا يا ماما.
تركتها وترجلت لغرفتها، وفور رؤيتها للفراش ألقت بجسدها عليه دون تفكير ، لا تعلم ما حدث بالضبط؛ ولكن كل ما تعلمه أن اليوم شعرت ولاؤل مرة بحُب والدتها لها، وأيضًا تخلصت من ذلك الشخص اللزق الذي كان يحتل حياتها!
********
وفي صباح يوم جديد، كانت “ليلى” و “سلمى” يترجلان نحو غرفة الأطفال في دار “أزهار المستقبل” طرقا على الباب ثم دخلا والابتسامة تُزين وجههم البشوش، وقفت أولًا “ليلى” وهي تقول لهم بمرحٍ هم اعتادوا عليه منها:
– الحلوين بيعملوا إيه؟؟
وفي هذه اللحظة أنطلقا “مالك” و”ياسين” نحوهما لكي يستقبلوهما بالأحضان، وبعدما أطمئنا عليهم وبادلوهم السلامات، نظر لهم “مالك” وهو يقول لهم بتسأل:
– هو “سمير” ليه مش بينام معانا ؟ هو زعل مِني تاني؟
ابتسمت له “سلمى” بحنوٍ وهي تداعب خصلاته وتقول له:
– ولا زعلان ولا حاجة، الحكاية كلها أنه عنده شغل معايا، ولازم يشتغل معاها لوحده عشان ميتشتتش.
أومأ لها ولم يعقب، ولكن “ليلى” وقفت في المنتصف بينهم ثم سقفت بيديها وهي تقول لهم بحماسٍ:
– يلا بينا نعمل دايرة أحنا التلاتة عشان هنلعب شوية يولاد.
وعلى الفور أفترشوا الصبيّة في الأرض وهُم يحثوهم على الجلوس معهم؛ فهذه أصبحت عادتهم في الأونةٌ الأخيرة، جلسوا في وسطهم القرفصاء ببساطة شديدة، نظرت لهم “ليلى” ثم قالت لهم في مرح:
– يلا عشان نلعب؟
وفي صوتٍ واحد حماسي كانا يهتفان :
– يلا بينا.
ضحكت “سلمى” عليهم ثم ثبتت عينيها نحو “مالك” ثم سألته دون سابق أنذار:
– قولي بسرعة نفسك في إيه؟؟؟
– ابتسم لها وهو يعبث بكف يده في قدمه بتوتر، كان ينكس رأسه للأسفل وكأنه يستحي أن يتكلم! ولكنه رفع وجهه لها، وتشجع عندما رأى مقلتيها المُهتميّن بكلماته الأتية فقال بخجلٍ:
– بصراحة أنا نفسي أشكرك أوي.
لم تتوقع كلماته، ضيقت عينيها وهي تسأله:
– على إيه يا “مالك”؟
ودون إرادة منه كان يبتسم باتساع وهو يقول لها كل ما يقبع في قلبه لها:
– شكرًا عشان خرجتيني من اللي أنا فيه، وعشان خرجتي كل حاجة كنت حابسها جوايا وكنت حاسس أنها تعباني.
صمت وهو يتنهد، ثبت مقلتيه المهزوزتان عليها ثم واصل :
– أنا مكنتش عارف أخرج الحاجات دي لحد أبدًا، ولا كنت عارف أتخلص منها أصلًا، بس أنتِ عرفتي تخرجيني من كل ده.
دمعة غبية زينت وجنتاه وهو يرفع كتفيه للأعلى بقلة حيلة ويستطرد قائلًا:
– عرفتيني أني مش وحش !
هُنا وأنفجر الطفل في البكاء، ولكن الفتاتان لم يفعلوا أي شيء يجعله يشعر بالشفقة، بل ابتسما له بفخرٍ ثم صفقت “ليلى” له بحرارةٍ شديدة و”ياسين” أيضًا قلدها في التصرف، كان “مالك” يتابع نظراتهم الفخورة بتعجب، ولم يتفوه أحدًا بشيءٍ غير “سلمى” التي فتحت له ذراعيها وهي تقول له بسعادة كبيرة:
– وأنت أشطر كتكوت قوي، وقدر يتحمل كل الحاجات الصعبة دي.
كان ذلك الطفل مُمتن لها لأقصى درجة، ولم يعثر على طريقة للتعبير عن أمتنانه لها غير ذلك العناق الحار الذي فعله، كانت “ليلى” تتابع الموقف بتأثر شديد ولكي تُغير الأجواء قبل أن تنهمر دموعها مع الطفل قالت موجهة سؤالها هذه المرة “لياسين”:
– وأنت يا “ياسين” نفسك في إيه؟؟
صمت لحظات وهو يفكر في السؤال ولكنه رفع رأسه للأعلى وكأنه يُريد رؤية السماء رغم السقف العازل لها، ابتسم بنقاءٍ وهو يقول ببساطة شديدة:
– نفسي في عيلة!
جملة من ثلاث كلمات ولكنها قاسية لأبعد حد! يتمنى عائلة! أبسط الأشياء اللتي يتمتع بها البشر هو يتمناها! هل جاء في ذهن أحد مِنّا أن عائلتنا نعمة من عند الله! كان كل ذلك أفكار دارت في لحظات في عقل “سلمى”، نظرت له وهي مُعطيه له كامل تركيزها ثم سألته:
– عيلة أزاي يا “ياسين”؟
رقع كتفه للأعلى ثم أجابها وعيونه تُلمع ببريق عجيب:
– يعني عيلة، أب…أم…أخوات، بيت! مدرسة، حاجات كتير بشوفها في التلفزيون والشارع، عمري ما جربتها! فأنا نفسي فيها يا مَس!
كانت “سلمى” ترمقه بنظراتٍ مُشفقة حزينة على حاله، لكن”ليلى” فكانت رأسها تدور في دًنيا أخرى، ترى كيف هي تتمنى ظفر طفلٍ كما يقولون، وكيف هو يتمنى عائلة! إذن هُم يكملون بعضهم! هي تستطيع أن تقدم له عائلة، وهو يستطيع أن يكون لها أبنًا!
ولكن لم ينفُض كل تلك الأفكار من رأس “ليلى” التي أنغمست في عالم أخر غير صوت السيدة “سهام” وهي تقتحم عليهم الغرفة وتقول “لسلمى” في عجلٍ:
– “سمير” محتاجك ضروري يا مَس.
فهمت “سلمى” ما تقصده، نهضت سريعًا وهي تستأذن ادمن الأطفال ثم ركضت نحوه، ولكن “ليلى” فأقتربت بجسدها نحو “ياسين” لكي تمسك وجهه بكفي يديها وتقول له بابتسامة وبريق أمل غير طبيعي يلمع في عينيها:
– أوعدك أن أمنيتك هتتحقك، قُريب يا “ياسين” قُريب هتحقق حلم حد كان فكره بعيد ومستحيل، وهيتحققلك حلمك البسيط القريب.
كانت كلماتها مُبهمة بالنسبة له، لا يفهم منها شيء، وهي أستشفت هذا من تعابير وجهه، ابتسمت له وهي تطبع قبلة في وجنتيه وتداعب له خصلاته وتقول موجهة حديثها للصييان:
– على فكرة أنا محضرالكم مفاجأة حلوة أوي، هتجهز كمان يومين.
تهليلات حارة صدرت من الأطفال، وبحماسٍ كانا يسألون في نفسًا واحد:
– هي ايه، هي إيه؟؟
ابتسمت لهم بمشاكسة وهي تقول:
– مش هحرقلكم المفاجأة ولكن ليها علاقة بالحاجات الجديدة.
هدأت نبرة صوتها ثم واصلت بخفوض:
– يمكن هتتعلموا حاجات جديدة مثلًا!
أرتفعت التهليلات مرة أخرى، كانت سعادة الأطفال لا توصف، وأيضًا “ليلى” أصبحت غرفة الأطفال لا تسعها هي وأجنحتها! فهي أخذت قرارها نحو سعادتها؛ وقررت ضرب كل شيء أخر بعرض الحائط!
********
كانت “سلمى” تركض نحو غرفة “سمير” في لهفةٍ شديدة، تعلم أنه في مرحلة صعبة للغاية، يحتاج لمُرشد وداعم قوي في حالته، طرقت على الباب عدة طرقات ثم ترجلت للداخل، كان مُنحني أعلى الحوض الذي يقبع في المرحاض ويتقئ بِشدة، وبخطواتٍ سريعة كانت تقف بجواره تسنده وتمسح له حبيبات العرق، كانت هيئته مُرهقه للغاية، شعره مُبثر وقطرات العرق متكونه على جبهته، خصلاته مبعثرة ووجهه شاحب، السواد أصبح يزين أسفل عينيه؛ فهو صغير على كل تلك الأعراض القاسية! ولكن هو من ألقى حاله في التهلُكة بلا رحمة، سندته لكي يجلس على الفراش، مسحت له وجهه بيدها وهي تقول له بنبرةٍ جاهدت أن تكون عادية وليست مُشفقة ولا حزينة:
– أنت أحسن كتير أوي النهاردة من أمبارح.
ابتسامة ساخرة ارتسمت على وجهه، نظر لها بطرف عيناه وهو يقول لها:
– أحسن ! أنا…أنا تعبت! أنا خلاص تعبت من كُتر اللي أنا فيه، مش قادر أنام، ولا أصحى، ولا أعيش زي البشر، أنتِ ليه بتعملي فيا كده؟؟
ختم كلماته وهو يحاول أن ينهض لكي يترجل بعيد عنها، ولكن قدمه لم تسعفه، فأهتزّت وجعلته يترنح مثل العادة، وقفت هي سريعًا ومسكت معصمه لكي تجلسه من جديد وهي تقول له بهدوء:
– أنت اللي دخلت نفسك في الدوامة دي من الأول يا “سمير”
جلس من جديد وهو ينكس رأسه للأسفل، وبأناملها رفعت وجهه الحزين البائس لها وهي تواصل بابتسامة عاذبة:
– وأنت برضه بطل عشان قدرت تعدي كل ده، أحنا خلاص فضلنا أخر مرحلة، المرحلة الصعبة عديناها خلاص، فاضل شوية أيام صغيرين جدًا وتكون زي الفُل.
عيونه تلألأت بالأمل، وكأنها كانت تعلم أنه يسألها هل هي على يقين من هذا أم أنه حبلًا تجعله يمسك فيهِ وهو على وشك السقوط، ولكن نظراتها الواثقة جعلته يتأكد من صحة كلماتها، ولكي يتأكد أكثر سألها بنبرة مرتجفة:
– يعني خلاص هرجع ألعب وأشوف صحابي، ومش هيجيلي الهلاوس ولا هرجّع تاني وهقدر أمشي وأعمل أي حاجة منغير ما أدوخ؟
– وهتبقى صحتك أحسن من كل الأطفال اللي هنا كمان.
قالتها بمشاكسة جعلته يضحك، هُنا وظلت تلعب معه لكي تخفف عنه حموله، لا تتخيل أن طفل في مثل هذا العمر يتذوق مرارة أنسحاب المُخدر من الجسم، تعلم جيدًا أنه هو من وضع حاله في مثل ذلك المأزق ولكنها لا تنسى حكايته المؤلمة، لا تنسى كل ما دفعه لكي يدخل ذلك السُم لجسده، ولكنه هو كان قوي، استتطاع أن بتغلب على السُم الذي في جسده، واستطاع أيضًا أن يطرده بكُل رغبة وأصرار مِنه، وهذا هو الإنجاز.
********
كانت “ليلى” تترجل في حديقة الدار وهي شاردة الذهن، تفكر جيدًا في قرارها، ولكن قطع تفكيرها ظهور “ياسين” أمامها وهو يقول لها بمشاكسة:
– أنتِ قاعدة لوحدك ليه؟
– عشان الجميل يجي ويقعد معايا.
قالتها له وهي تغمز له بعينيها، ابتسم لها وبتلقائية شديدة كان يقول لها:
– أنا بحبك أوي على فكرة يا مَس.
كانت كلماته صادقة، وهذا ما جعل قلبها يتحرك من مضجعه، ودون تفكير في أي شيء كانت تكسي على ركبتيها وتقول له:
– “ياسين” تيجي تعيش معايا؟؟
لم يفهم بماذا تعني بالتحديد، ضيق عيناه وهو يسألها:
– أعيش معاكِ فين؟
كانت خائفة من رده، مسكته من معظمه وهي تردف:
– في البيت، عايزة أتكفّل بيك يا “ياسين” وتكون معايا على طول.
ملامحه تحولت، بعد يدها عن معظمه وتراجع للخلف وهو يقول سريعًا وبملامح فزعة من تلك الفكرة :
– لا…مش عايز، مش عايز أروح لحد، مش عايز..
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أزهار بلا مأوى)