روايات

رواية زحليقة إلى زحل الفصل الأول 1 بقلم آية محمد رفعت

رواية زحليقة إلى زحل الفصل الأول 1 بقلم آية محمد رفعت

رواية زحليقة إلى زحل الجزء الأول

رواية زحليقة إلى زحل البارت الأول

رواية زحليقة إلى زحل الحلقة الأولى

الفصل الأول.
(دكتور عما تفرج!)
انطلقت اذاعة القرآن الكريم بالراديو الخاص بالمكتبة الضخمة التي تنحاز على طرفي شوارع الحارة الشعبية، ومن جوارها كان زيت (الفلافل) يبقبق بصوتٍ يبدو للبطون الجائعة شهي للغاية، ومن بين المارة تجد من يحمل الخبز واللبن، وغيرهم ممن يجلسون على القهوة التي يقتصر مشروبها على الشاي الساخن رغم اسمها (المودرن)، وهناك بالطابق الأراضي سيدة مسنة تستند على سور شرفتها القصير، لتفرد الملابس بعد أن أزالت اتساخها، تظنها ضعيفة لا تقوى على خدمة ذاتها وخير ما تمتلكه خدمة نفسها دون الحاجة لمساعدة أحدًا، الشارع يملأه ضجيج لعب الأطفال وضحكاتهم الطفولية، البيوت متراصة باتحاد بنايتها، وكل منزل يحمل قصة لا تخص سواه، ومن بينهم منزل الحاج فتح الله المنحدر على طرف الطريق الرئيسي، وكان منزله مشهور بامتلاك بوابة ضخمة مثيرة للاهتمام، عاد صاحبه إليه فدفع بابه رجل مسن في أواخر الستين من عمره، ووضع عكازه جانبًا، ثم وضع (الفلافل) والخبز الساخن على الطاولة واتجه للغرفة الجانبية، فاغتاظ من الظلام الحالك الذي يضربها، تغاضى عن سماعه لصوت ذاك الذي يغفو فيصدر صوتًا مزعجًا، واتجه للنافذة، حررها على أخرها ليغمر الغرفة ضوءٍ كان مكروه لمن ابتعد عن سكنته، وكأنه ينحدر لكائنات أكلة لحوم البشر التي تخشى الضوء القاتل لها، فردد بتكاسلٍ وهو يحرك جسده الرفيع المتناسق مع طوله:
_أيه يا جدو.. مش هتفكك من الخصلة دي، اعتبرني ساكن جديد يا عم وسبني نايم.
لوى العجوز فمه بازدراء، وردد ساخطًا:
_مهو أنا لو مربي معزة كانت نفعتني عنك يا عديم المنفعة والرباية.. أنا غلطان اني مودتكش أي ملجأ ولا دار أيتام كانوا ربوك أحسن من كده.
جذب “مؤمن” الوسادة وضمها اليه بحرمان، وأخذ يلوح له بضجرٍ:
_حفظنا الاسطوانة الحامضة دي.. فكك مني بقا يا جدي .
وببسمة واسعة قال:
_حاج فتح الله.. هو أنا مش عملتلك جرس تحت هنا عشان كل ما تلاقي نفسك زهقان ترن على عمي وولاده.
هز الجد رأسه ردًا على سؤاله الغريب، فقال بفرحةٍ بعدما أصاب هدفه:
_حلو.. روح صحي عم أحمد عنده شغل كتير.. وبالمرة شوف يونس كل يوم يروح البنك متأخر المدير هيطرده لكن أنا شخص عاطل موريش شيء غير النوم يرضيك نبقى احنا الاتنين مطرودين!
استشاط الجد غضبًا، وخاصة حينما دفعه هذا الأحمق لتذكر ما فعله، فقال:
_أنت مالك فخور أوي كده إنك اتطردت.. خيبتي عليك وعلى فلوس معاشي اللي ادتهلك تفتح بيه مشروعك اللي خرب بيتنا ده.
برق بعينيه البنية وهو يردد بدهشةٍ:
_مشروع الفراخ فاشل! ده من أنجح المشاريع انتوا بس اللي مسمعتوش كلامي وقللتوا جرعة الدوا اللي حطتوها للكتاكيت في المية.
ردد الجد بصدمةٍ:
_ياريتنا كنا حطنالك الجرعة دي في الأكل وخلصنا منك يا شيخ، على الأقل لما تتنفخ زيهم كنت ترحمهم وتعرف تشخص الحالة صح، لو كنت ادتهم الجرعة كاملة زي ما قولت كان زمانهم انفجروا مش اتنفخوا!
استنكر نظريته، وعاتبه بشهادته العليا:
_لا الدوا ده مفيد للدواجن أنا دكتور بيطري وفاهم أكتر منك! ، ولو حضرتك بتلقح عليا اكمني يعني صاحب المزرعة طردني فده لاني حذرته وقولتله الجاموسة دي مينفعش تبيعها لتاجر يبعها لحم، مسمعش كلامي فقولت للتأجر على الدور اللي عندها ادله علقة سخنة لما معرفش يرجعله الفلوس اللي اخدها أنا ذنبي أيه يرضيك يا فتحالله الناس تأكل لحمة فاسدة! هروح فين من ربنا، ولا لما القيها لابسالي جلابية بيضة وبتجري ورايا في الحلم هو أنا ناقص! كفايا أنت عليا.
جلس الجد على المقعد وأشار له بنفاذ صبر:
_مقولناش حاجة يا سيدي، بس نحل الموضوع بالعقل.. مش نخلي الراجل يستعوض الله في ماله وعمره اللي هيقضيه بالسجن!!
هرع “مؤمن” خلفه، وجذب المقعد ليقربه منه، وقال ببسمة مصطنعة:
_بص يا جدو أنت عندك حق، أنا فعلا اخترت المشروع الفاشل، بس اوعدك ان المرة الجاية هختار صح.
كاد بأن يصيب بذبحة صدرية، فأشار له بصدمةٍ:
_هو لسه في مرة تانية!
هز رأسه بتأكيدٍ وهو يخبره بما يخطط لفعله:
_أنا عايز الفلوس اللي سبهالي بابا وماما الله يرحمهم، هشغلها والمرادي أنا متفائل المشروع هينجح.
وضع الجد يده على موضع قلبه، وبصعوبة بالغة قال:
_عايز تكسر الوديعة وتضيع شقا أبوك.. ولما أروحله هقوله أيه ابنك محفظش على مالي جازفت واديته شقا عمرك!
رفع احد حاجبيه بضيقٍ اتبع نبرته المشككة لحديثه:
_هو مش سايبلي الفلوس دي وأنت قولت هتدهاني!
هز رأسه بتأكيدٍ:
_حصل بس لما تلاقي بنت الحلال هديلك ورثك كله تجهز بيه شقتك وتعمل اللي أنت عايزه.
رفع اصبعه على ذقنه وهو يفكر في حل منطقي لحل تلك المعضلة، فهمس لنفسه قائلًا:
_هحلها ازاي دي.. أنا ضامن القى واحدة مناسبة ليا في الزمن ده…افرض بطختي طلعت قرعة!
*****
بالطابق العلوي.
كان يغفو بغرفته بعمقٍ بعد قضاء ليله بالدراسة لشقيقته قبل موعد اختبارها، فقلق منامته صوت طرق باب الغرفة الصاخب، فتح عينيه الزيتونية بتكاسلٍ، وهو يردد بصوته الرجولي الهادئ:
_أيوه!
اتاه صوتها يخبره:
_أنا مسك يا يونس.. عايزة أسالك عن حاجه قبل ما انزل الجامعة.. أدخل؟
أبعد عنه الغطاء، ثم انحنى يجذب التيشرت الخاص به، ارتداه وهو يخبرها بصوتٍ ناعس:
_ادخلي يا حبيبتي.
فتحت باب الغرفة، واتجهت اليه بابتسامتها الرقيقة، فقالت بصوتها الرقيق الناعم:
_صباح الخير يا يونس.
رفع يده يداعب خدها وهو يجيبها بحنان:
_صباح الورد يا مسك.. لسه منزلتيش الجامعة!
هزت رأسها وهي تجيبه:
_لبست وبستنى البنات يعدوا عليا، بس قولت ادخل لاخويا الكبير العسل يديني مصروف زيادة بما إنه اتوظف في بنك كبير محترم، هيقدر ان المصروف اللي بابا بيدهوني مبقاش ينفع بالزمن ده ولا أيه؟
تعالت ضحكاته الرجولية، وهو يستمع اليها بمكرٍ، فاستقام بوقفته ودنى من خزانته الخاصة، سحب “يونس” مبلغ من المال ثم قدمه لها وهو يخبرها بمشاكسةٍ:
_هيكفي لو بطلتي تخلصي مصروفك على الميكب أب والحاجات الغريبة اللي بتشتريها.. قولتلك الف مرة شكلك أحلى من غير المكياج والقرف ده بس هنقول أيه تفاهة بنات.
تجهمت تعابير وجهها، فاغدفت عن نقاء بشرتها الحنطية، فازداد ضحك، التقطت “مسك” المال منه ثم قالت بحتقٍ:
_خف شوية لسه هنزل تحت لمحاضرات جدي، ورزالة ابن عمك الغتت
لذكرها المشاكسات التي مازالت تجمعها بمؤمن الشبيهة بمغامرات القط والفأر جعلته يبتسم، فأشار لها وهو يلتقط المنشفة ومعجون أسنانه الخاص:
_انزلي بدون مشاكل مع مؤمن يا مسك، مش ناقص حوار من بابا على الصبح بسبب خناقكم ده.
عدلت من طرف حجابها الطويل أمام المرآة وهي تجيبه بضجرٍ:
_أنا في حالي دايمًا هو اللي لسانه طويل وبيتخانق مع دبان وشه.
ارتفعت صيحات الفتيات من أسفل نافذة المنزل، فاسرعت للخروج وهي تلوح له:
_همشي انا عشان متأخرش.
حملت “مسك” حقيبتها، وجذبت كتبها الموضوعة على الطاولة وحملت حذائها على يدها ثم ركضت للاسفل، وهي تحاول ارتدائه، وصلت للطابق السفلي، فاستندت على باب شقة جدها لترفع الحذاء لقدميها في نفس لحظة فتح “مؤمن” الباب، لتندفع الأخيرة من حوله حتى كادت بالسقوط أرضًا، انكمشت تعابير وجهها غضبًا، فاستقامت بوقفتها لتشير له بعصبيةٍ:
_أنت مبتفهمش!
ضيق عينيه بسخريةٍ، فقال وهو يشملها بنظرةٍ خاطفة:
_كنت بنجم عشان أعرف ان سيادتك ساندة على باب بيتي!
وانخفض ببصره تجاه حذائها الغير مرتب، ثم قال:
_ثم إنك مبتلبسيش جزمتك من فوق ليه، الكام دقيقة اللي هتربطي فيهم رباط الجزمة هيعطلوا وزارة التربية والتعليم في حاجة!
جزت على أسنانها بغيظٍ، واستعدت لمعركتها اليومية مع هذا القط السليط، فصاحت بانفعالٍ:
_اما انت انسان متدني ومعندكش ذوق، ده بدل ما تعتذر بتديني محاضرة وأنا متاخرة على الامتحان وعايزة اعدي السنة الاخيرة دي على خير!
ضحك بصوت استفزها، وخاصة حينما ردد بتسلية وهو يلتهم الفلافل الساخنة:
_دي أمنيتك أنا عارف، تخلصي الدراسة وتتجوزي فتى الاحلام اللي يسافرك أمريكا زي ما بتحلمي!
عند ذكره لحلمها الثمين، خرجت عن طور هدوئها، فصاحت به وهي تحذره باشارة اصبعها:
_إياك يا مؤمن، لحد هنا ولو اتكلمت مش هيحصلك كويس.. وبعدين انت مالك أنا حرة إن شالله احلم أروح شيكاغو انت هتتحكم في دي كمان!
هز رأسه مؤكدًا:
_طبعًا، لما تروحي أمريكا مع سعيد الحظ هقعد أنا وأخوكي هنا نهبب أيه، يدينا التأشيرة واحنا نروح نشتغل هناك ان شالله حتى نقف على عربية كبدة مدام الطب معتش بيأكل عيش.
وضعت يدها بمنتصف خصرها وهي تجيبه باندفاع:
_وما تسافرش انت ليه، ما أنت على قلبك فلوس ورث أد كده.. تخليك تسافر اسبانيا لو حابب.
تجعد وجهه وهو يدعي الحزن الذي لحق نبرته الساخطة:
_هما فين دول… أطولهم بس وأنا هعمل العجب.
قاطع حديثهما يونس الذي هبط من خلفها يعقد جرفاته، فقال بتريثٍ:
_ابتدينا.. احنا لسه على الصبح!!
أسرعت بتقديم شكواها قبل أن يسبقها:
_هو اللي بدأ.. أنا اتاخرت بسببه.
اتجهت نظراته الصارمة تجاه مؤمن الذي قابلها بالحنق، وراح يخبره:
_اختك دي عندها قدرة عالية إنها تقفل يوم أي حد.
واتجه للأريكة، فجلس وهو يردد بملل:
_أهو… مش خارج يارب تكوني انبسطتي!
خرج الجد من مطبخ المنزل يجفف يده المبتلة بالمنشفة، ليصيح به:
_انت لسه هنا!!
انتصب بوقفته سريعًا، وهرع للأسفل وهو يشير ليونس بعدم فضح أمره، فتعالت ضحكاته وقال هو يشير لمسك:
_تعالي انا هوصلكم بعربيتي.
لحقت به وهي تردد بتوتر:
_بسرعة قبل ما اللجنة تبدأ.
*******
سئم البحث عن عمل كعادة كل يومٍ يقضيه بالبحث، كونه طبيب يأهل له سرعة الحصول على عمل هكذا المنطق الذي لا ينطبق بالأونة الأخيرة، عاد مؤمن للمنزل، ليجد زوجة عمه بالأسفل تملأ المائدة بأطيب أنواع الطعام، وما أن لمحته حتى أشارت له ببسمة هادئة:
_اقعد يلا يا حبيبي.
واتجهت للدرج الجانبي، ثم ضغطت على الجرس فهبط يونس وأبيه للأسفل، بينما خرجت مسك من المطبخ حاملة عصير البرتقال الطازج، سكبته بالأكواب وجلست بمقعدها، اجتمع الجميع على المائدة بعد انضمام الجد إليهم، والصمت يغمرهم كالستار المبجل، إلى أن حطمه الجد حينما سأل ابنه:
_والعريس اللي جاي يشوف مسك بنتك هيجي أمته يا أحمد؟
فور سماعها لتلك الجملة اللازعة كالليمون بالنسبة لها سعلت بقوةٍ كادت باسقاط الشوربة عن فمها، فناولها يونس منديل ورقي وهو يكتم ضحكة كادت بالانفلات منه، وخاصة حينما أجاب أبيه:
_العريس جاي لوحده بكره بليل يا حاج.. وبعد كده هيجي هو وأهله لو حصل نصيب.
وأضاف وهو يتطلع تجاه زوجته وابنته:
_شاب محترم وابن حلال، وملوش في عك الشباب بتوع اليومين دول.
التهم مؤمن قطعة الدجاج، فلاحظ ان لونها داكن بعض الشيء، فرفع جزء منها للأعلى وهو يتساءل بشكٍ:
_اوعى يكون اللي في دماغي صح!
اتكمشت ملامح عمه بيأس من مقاطعته المعتاده لأي موضوع هام مطروح بين أفراد عائلته، فرد عليه يونس باستهزاءٍ:
_دبحنالك جوز فراخ من اللي أنت كنت أويهم على السطوح، متخافش دي فراخ تصدير محلي وكله مثبت بالأوراق!
مسح لسانه بالمنديل الورقي ليزيح المتبقى من الطعام، وقال بغضب:
_غير صالحة للاستعمال الادمي يا بني آدم، عايز تموتني عشان تورث اللي مش عارف أورثه!
حرك الجد اصابعه على السبحة وهو يردد بصوتٍ مسموع:
_لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم… توب علينا يا رب!
القى مؤمن المنشفة ونهض وهو يصيح باندفاع:
_بتحفل عليا يا فتحالله، بقي دي اخرتها سايب ابن ابنك الكبير يتريق عليا، ومرات ابنك قفشالي فرختين طالعين من السونا!
فشلت فاطمه بالسيطرة على ضحكاتها، ورددت قائلة:
_والله أبدًا دي حتى فراخ بلدي تربيتي مش بيضة زي اللي أنت كنت جايبها!
جلس محله مجددًا واستكمل طعامه بنهمٍ، فقال بحرجٍ حينما لاحظ نظراتهم المندهشة إليه:
_مدام حمرة نأكل بنفس.
منحته مسك نظرة محتقنة كالشرارة، وتساءلت بسخطٍ:
_أنت ازاي دكتور بيطري ومش قادر تفرق بين الفراخ البيضة والبلدي!
رسم ابتسامة كادت بالوصول لأذنيه وهو يجيبها:
_أنا من الدفعة بتاعت التابلت مطبقناش اللي واخدينه عملي.. وبعدين جدك اللي مصمم يخليني دكتور بالعافية، مفيش قسم رضى بيا الا الحيوانات!
همس الجد بحنقٍ:
_الحيوان غلبان مبيعرفش يستنجد من الطور اللي بيعالجه!
وأشار الجد ليونس قائلًا:
_قوم يا ابني عشان نلحق الصلاة، وأبقى هات ابن عمك في ايدك ليدخل ينام للفجر زي كل يوم!
وتركهم وغادر، فلحق يونس ومؤمن به لقضاء الصلاة الجماعية بالمسجد، وحين عودتهما اتجه كلا منهما لغرفته، والتفكير مازال يقتص من عقل مؤمن حول تنفيذ مشروعه الخاص لعدم حصوله على العمل المناسب، لا يعلم بأنه يأجج فتيل الخيط الذي سيعد بمثابة طاقة خفية ربما تكون قدرًا من ذهبٍ أو باب من أبواب جهنم!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية زحليقة إلى زحل)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!