روايات

رواية منك وإليك اهتديت الفصل الخامس 5 بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الفصل الخامس 5 بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الجزء الخامس

رواية منك وإليك اهتديت البارت الخامس

رواية منك وإليك اهتديت
رواية منك وإليك اهتديت

رواية منك وإليك اهتديت الحلقة الخامسة

لقد سُحب البساط من أسفلها وبقيت في الهواء بلا أمان، هوت كطير شل جناحيه فجأة، وفقد القدرة على التحليق، اصطدمت بواقع مرير لم تكن تتوقعه حتى في أحلامها، لم تتخيل قط أن هناك نفوس بهذا الشر والبغض، سرت رجفة قوية في جسدها فحاولت أن تتمسك بالحائط على أمل بأن تستمد القوة في مواجهة هذا الخناس الذي تجرد من كل معاني الرحمة.
دارت عيناها هنا وهناك بضياع أهلك عقلها في التفكير لقد كان كل شيء حقيقي ابتسامتها، نظراتها، ملامحها الصافية حتى خصلات شعرها بلونها الأسود، عدا ذلك الجسد العاري لم يكن لجسدها ولكن من سيصدق؟!
غلى شعور بالانتقام داخلها في تلك اللحظة وحثتها أفكارها المضطربة على قتله والتخلص منه قبل أن تظهر تلك الفضائح علنًا وتصبح علكة في أفواه الأخرين.
حولت “مليكة ” بصرها نحوه والشر يتطاير من مقلتيها رغم الضعف المتوغل لروحها، إلا أنها استطاعت إظهار قوتها حتى لو كانت مصطنعة ستحاول أن تتشبث بها في سبيل الخلاص منه.
فتحت الباب على مصراعيه وانطلقت في لحظة نحوه تمسك بمقدمة قميصه بعنف، ورغم أنها كانت ليست سوى شراسة أنثوية ضعيفة إلا أنها أصابته بالتوتر وذلك بعد أن همست بصوت خافت:
-أنا هقتلك وأشرب من دمك يا ماجد، فاهم هقتلك.
ورغم زعزعة الثقة لديه أمام القسوة المتأصلة بحروفها، إلا أنه رد بكل ثبات ممزوج بالسخرية:
-وهتقتليني بالسكينة ولا بالمسدس، عشان أجهز نفسي بس للموت.
اشتدت قبضتيها فوق قميصه حتى أنها كادت تقطعه من ضراوة مشاعرها، فبدأت في هزه بعنف وهي تردف بصوت مبحوح اثر صدمتها:

 

 

-أنت إيه مبتحسش، حسبي الله ونعم الوكيل فيك.
حاول إبعاد يدها عن ثيابه ولكنها أبت وتمسكت به في ظل انهيارها العصبي، فقرر رفض هجومها فارضًا طغيانه عليها وابتعد خطوة يهندم ثيابه والسخط ينزلق من كلماته:
-اهدي بس يا دكتورة، أصل الحكاية لو اتنشرت محدش هيخسر غيرك صدقيني، أنا مظبطها على مقاسك.
أغمضت جفونها وقد ظهر الضعف على ملامحها بعد تهديده المبطن، فاستغل ذلك وواصل ما يقوله بنبرة فاح منها الخبث والكره:
-أنتي فاكرة أن بحبك، لا خالص..
فتحت عيناها وظهر بها التيه من واقع كلماته الغريب، فما الفائدة من فعلته الوقحة طالما لم يكن الحب؟!
-أنتي مجرد جسم عاجبني، وشكل جديد عليا مجربتوش، واللي عاجبني فيكي شراستك، زهقت من الصنف العادي، نجرب الجديد.
شملها بنظرات عابثة وركز ببصره فوق مناطق معينة، فشعرت وكأنه جردها من ثيابها، مدت يدها تلقائيًا تشد فوق ثيابها، والامتعاض يقسو فوق ملامحها وهي تقابل نظراته باشمئزاز من وقاحة خصاله، فاندفعت كلماتها بصوت متقطع:
-أنت إيه معندكش أم أو أخت، ازاي قادر تعيش بالوقاحة دي.
-قادر ومستمتع كمان.
قالها ببسمة تعلو فوق شفتيه الغليظة قاصدًا إرباكها، فاستكمل بثقة وهو يسألها بنبرة عادية وكأنه يسألها على طقس اليوم:
-إيه هتيجي امتى الشقة، ولو مكسوفة ممكن نقضيها فوق الاوضة.
أمسكت قطعة حديدية صغيرة ودفعتها نحوه بكل قسوة، فلم تصيب سوى يده بعدما تصدى لها، وارتفعت نبرتها بصوت أشبه للصراخ:
-أنت واحد قليل الأدب وعايز تتربي.
وضع القطعة مكانها واستعد للخروج خوفًا أن يأتي أحدهم ويراها على تلك الهيئة المزرية، فاللعبة لا زالت في بدايتها ونهايتها لم تأتي بعد:
-أنا همشي قبل ما حد يجي والفضيحة لو حصلت هتزعلي أوي، قدامك خيارين يا تسمعي كلامي وتكوني ذكية وصدقيني هتتبسطي، يا أما هتطلعي من هنا بفضيحة وفي الأخر هتبقى غبية.
تسربت كلماته البشعة لها فبدا وكأنه شيطان متجسد في صورة إنسان، ألم تصيب الرحمة قلبه من قبل، ألا يخشى الله من أفعاله المتجردة من الدين والأصول، لم تتوقع أن تتلطخ بسواد مستنقعه حتى لو من بعيد، لن تسمح له باستغلالها لمجرد تهديدات دنيئة يتلاعب بها تحت مسمى الحفاظ على سمعتها.
غادر دون أن يرمش له جفن من صوتها الباكي، واغلق الباب خلفه معطيًا لها المساحة الكاملة في التفكير الذي أصبح شبه متأكدًا أنه سيصب في صالحه الآن، تركها وحدها تصارع قسوة الحاضر بكل ما يحمله من مفاجآت مدوية، فما حدث أشبه بانفجار قنبلة موقوتة، وأثارها طالت روحها الصافية.
خارت قواها فألقيت بجسدها فوق المقعد تبكي على قلة حيلتها في إيجاد حل لإبعاد تلك المصيبة عنها دون أن تتنازل لذلك الوقح، لن تسمح بلمساته ولن تصمت على تماديه، ولكن كيف وأين السبيل للخروج من ذلك المأزق؟ لا تعلم كل ما تعلمه هو أنها لو بقيت في المشفى دقيقة واحدة ستقطعه إربًا وتظهر في الساحة برأسه في يدها، حتمًا حينها ستكون سعيدة بجريمتها.
***

 

 

قاد “زيدان” سيارته متجهًا صوب عمله، استقبل الهواء بصدر رحب والابتسامة تزين وجهه، بينما تصدح الأغاني الهادئة من المذياع، كانت أفضل لحظات حياته لذا قرر عدم الرد على نهى مطلقًا اليوم، لن يعكر صفو مزاجه بخطأ ارتكبه في لحظة ضعف.
دندن مع الكلمات حتى أنه على صوته والابتسامة تزداد اتساعًا أكثر وأكثر وكأن مليكة تجلس بجانبه، تدفقت الذكريات الجميلة وانتفض قلبه صارخًا بحب لن ينتهى إلا بمماته.
على صوت رنين الهاتف مجددًا، فمد يده بتلقائية كي ينهي الاتصال ولكنه لمح أسم والدته، فرد على الفور واستمع لصياح والدته، أوقف السيارة سريعًا وهتف بنبرة قلقة:
-في إيه يا أمي.
-شوفت الكلبة ميرفت بتقولي إيه.
اختفى خفق قلبه، وحبست أنفاسه رهن كلمات والدته التي توقفت فجأة، حتى أنه لم يتجرأ ويسألها، اكتفى بالصمت الذي لم تتحمله والدته كثيرًا، وأخرجت ما في جعبتها بعصبية:
-بتدعي على سليم ابني.
زفر مرتاحًا وسألها بنبرة مثقلة:
-هي متصلة ليه تاني؟
-عشان تتضايقني وتحرق دمي.
أجابته بغضب عارم، فرد بهدوء محاولاً امتصاص غضبها:
-متقدرش تحرق دمك.
-لا حرقته لما دعت على سليم وهو في غربة.
أجهشت في البكاء واندفعت الأدعية من فمها لحفظ ابنها، فقال ساخرًا من قلق والدته:
-هي شيخة اوي عشان ربنا يتقبل منها.
-بس دعت على أخوك المجرمة، والله لو فكرت تتصل تاني لأروحلها بيتها وابهدلها.
زم “زيدان” شفتيه بضيق وقد تمادى الوضع من يديه وأصبح غير مسيطر بالمرة لا على والدته ولا على عمته التي أصبحت تضغط عليه في الآونة الأخيرة بتهديدات أحيانًا مبطنة وأخرى صريحة.
أغلق الاتصال مع والدته بعد أن استطاع تهدئتها واقناعها أنه لن يصيب “سليم” شيء.
عاد تشغيل سيارته مغيرًا وجهته صوب منزل عمته، مقررًا مواجهتها وتأديبها والحد من تصرفاتها التي أصبحت تفوق قدرته، فكان دائمًا صبور معها لأجل نهى فقط.
***

 

 

وصل “زيدان” أمام شقة عمته، وبدأ في طرق الباب بقوة وعنف، بينما توهجت عيناه بنيران الغضب، وظهر ذلك حين فتحت الخادمة الباب وابتسامتها المهتزة تعبر عن فرط توترها من وجوده بهذا الشكل الغاضب:
-أهلاً يا زيدان بيه نورت.
تخطاها وهو يبحث عن عمته في أروقة الشقة، وصوته الجهور يصدح في أرجاء المكان بغلظة:
-ميرڤت أنتي فين؟
خرجت “ميرفت” بعد دقيقة تضع يدها في خصرها والحدة تغزو عيناها:
-ميرڤت كده من غير عمتك يا زيدان يا متربي.
صاح مستنكرًا في وجهها:
-متنسيش أنتي بتتكلمي مين؟
ابتسمت بسخرية وعقدت ذراعيها أمامه تسأله:
-هتهددني امال يا سيادة الظابط.
-ظابط غصب عنك وتحترميني، وكلمة زيادة مش هعمل حساب لأي حاجة فاهمة ولا لأ.
اندفعت كلماته في قساوة شديدة وعروق وجهه تنتفض غضبًا منها، فتراجعت عن سخريتها وأخفضت بصرها أرضًا تستجمع تركيزها بعد أن فقدت خيوط اللعبة منها، لانت ملامحها وهي ترمقه بنظرات ضعيفة أدهشت بها “زيدان” وخاصةً من تحولها السريع، فالأمر أشبه بمسرح أشعل فيه الضوء الأخضر وانطلقت هي تؤدي دورها بكل حرافية:
-طبعًا يا حبيبي غصب عني وعن أي حد، أنا بس صعبان عليا انك بتهددني.
-لا تعودي على كدا.
قالها في تحدٍ فجر الغيظ على ملامحها فسألته بنبرة غامضة:
-يعني إيه؟
-يعني من هنا ورايح لو اتصلتي على أمي أو حاولتي تجيبي سيرة سليم بحرف واحد، أو تفكري انك تتصلي تجبيلي سيرة ابنك وجوزك هتلاقي مني تصرف مش هيعجبك.
-هتلغي خطوبتك بنهى؟
سألته بعد ثوان من التفكير، فرد بما فاق توقعها:
-دي حاجة بسيطة من اللي هعملها، محلات الدهب وهقفلها و…
قاطعته وهي تشير بيدها محاولة إثارة الشفقة لديه:
-محدش حاسس بيا أبدًا، حتى أنت اللي مفروض جوز بنتي بتهددني..
صاح متذمرًا والاعتراض يلوح من عينيه:
-حاسبي جواز إيه، اللي بيني وبين بنتك لعبة وأنتي السبب فيها، فاهدي كده وبطلي تمثيل.
-أنا بمثل؟

 

 

أشارت نحو نفسها والصدمة ترسم إمارات زائفة فوق ملامحها، فهز رأسه بإيجاب مبتسمًا بتهكم على تحولها السريع.
-المرة الجاية صدقيني لو جيت مش هيعجبك اللي هيحصل.
انطلق مغادرًا وقد تحلى بالصبر معها لأجل “نهى” فقط، هبط درجات السلم ومن سوء حظه قابلها، وحين رأته انطلقت تتأسف بندم:
-أسفة يا حبيبي متزعلش عشان خرجت من غير اذنك.
لم يكن في حالة تسمح له باستكمال الحديث معها، فوجد نفسه يقول بضيق:
-طيب يا نهى.
أمسكت بيده قبل أن يغادر والحزن يطفو فوق ملامحها:
– لا أنت زعلان مني، حقك عليا..
بتر حديثها بعصبية مفرطة وأبعد يدها بعنف:
-ابعدي عني بقا.
نزل الدرج تاركًا إياها في صدمة من تصرفه العدائي رغم أنها لم تخطأ في شيء وأبدت ندمها على تصرفها الذي كان من وجهة نظرها خطأ.
صعدت الدرج سريعًا وقابلت والدتها تتحرك في الصالة ذهابًا وإيابًا والسخط يسيطر على كلماتها، فاتجهت صوبها تسألها بقلق:
-ماما أنتي زعلتي زيدان ولا إيه؟
التفتت والدتها فجأة وهبطت بكفها فوق وجنتها في قسوة، فارتدت نهى للخلف خطوة بسبب صفعة غليظة كان أثرها النفسي أكبر من أثرها الجسدي.
رفعت عيناها الباكية لوالدتها بضعف تشكو من سوء معاملتها وقسوتها غير المبررة لمجرد سؤالاً عابرًا خرج منها.
لم تكتفي والدتها عند هذا الحد بل ثارت بهجوم شرس:
-اللي همك هو زيدان الزفت وبس، غير كده لا، فوقي واصحي من الوهم ده.
بكت “نهى” بانهيار وقالت من بين شهقاتها:
-وهم إيه؟ كفاية كلامك ليا، أنتي مبتزهقيش.
اندفعت “ميرفت ” نحوها فركضت لغرفتها قبل أن تهبط صفعة أخرى أو يمتد الأمر لضربٍ في مفترق جسدها، أغلقت الباب خلفها وهي تستمع لصوت صراخ والدتها من الخارج:
-الكلام ده ليا يا بت يا ضايعة، أنتي يا اختي مزهقتيش منه، ده يا بت بيـمـ…

 

 

وضعت الخادمة يدها فوق فمها وقد تجرأت لأول مرة في حياتها على أخذ خطوة كهذه وتحديدًا أن كانت مع شخصية عدائية مثل ميرفت، وبدأت في التوسل قبل أن تفقد الأخرى أعصابها:
-ابوس ايدك يا هانم بلاش، كفاية اللي حصلها المرة اللي فاتت.
رفعت ميرفت حاجبيها من جرأتها فأخفضت الخادمة يدها ووضعتها فوق صدرها في توسل أكبر:
-المرة دي مش هتعدي على خير عليها.
بصقت نحو غرفة ابنتها وارتفع صوتها في غيظ:
-خليها تشرب بس متجيش تعيط من معاملته، طول ما هي غبية كده.
هزت الخادمة رأسها كناية عن موافقتها، وفي الواقع هي كانت تمتص شرارة الغضب لأجل نهى الهائمة في حبٍ يعلم الله وحده أنه الملاذ الأخير للخروج من هذا البيت على خير.
***
استمعت “نهى” لحديث والدتها الذي فجر ينابيع البكاء من مقلتيها، أخفت صوت شهقاتها بيدها كي لا تبدو البلهاء الحمقاء وتستمر والدتها في ايذائها أكثر، فضغطت باليد الأخرى فوق صدرها تحاول تجحيم الانكسار الذي طال روحها المصابة بالإحباط والخذلان.
جلست أرضًا تضم ركبتيها لصدرها، وغاصت في محاكاة مشاعرها تحاول إيجاد سبب لنعتها بالهائمة، ما نفع العين بلا بصر؟، هل جرَّبتَ الحياة بلا تنفس؟، أجل لقد جربت كل هذا بدون زيدان عاشت في تلك العتمة الكاحلة التي حاوطتها في بيتها من قِبل عائلتها الغير سوية والغير إنسانية على الإطلاق لقد فقدت رئتيها عقب تأكدها من خسارتها لزيدان فحاولت إنهاء تلك الحياة البائسة في لحظة فقدت فيها العقل كذلك، فقدت قدرتها على التركيز وأغلقت عيناها الباكية لثوان تحاول فيها معالجة جروح عادت تنزف من جديد وكأن ذلك اليوم يفرض هيمنته عليها يذكرها كم ذاقت ويلات من الخذلان على يد والدتها حينما ركضت باكية ترتمي داخل أحضانها تستنجد بها ولكنها وجدت….
**
صعدت “نهى” السلم بإنهاك طال جسدها وكأنها فقدت قوتها إثر ضربة قوية، حتى أنفاسها باتت ضعيفة والرؤية أمامها مشوشة لم تعرف من أثر الصدمة التي تلقتها على يد زيدان حينما اعترفت بحبها له وقابلها هو بكلماته القاسية ولم يراعي مشاعرها المنكسرة، فالأمر أشبه بحيوان أليف يركض باحثًا عن الأمان وفجأة جاءت سيارة مسرعة ودهسته بلا رحمة، انسابت دموعها بغزارة فوق صفحات وجهها وأصبحت الحياة بلا مذاق وكأنه أُلقى فوقها غلالة سوداء.
لم تعد قادرة على معالجة جراحها، وشعرت بحاجتها الشديدة لوالدتها، ولكن هل يحق لها طلب الحنان والاحتواء؟ أم أنها ستقابل عراك كالعادة سيزيد من جراحها؟!
دفعها شعور قوي بإلقاء نفسها تحت أقدام والدتها، تُلقي ما في داخلها دفعة واحدة دون انقطاع، تسعى لشعور دافئ يحتويها بعدما فقدت روحها وضاعت في فلك حب هائم على حد قوله.
فأكثر ما أوجعها هو عدم تقديره للحب الكامن داخلها، وكأن فؤادها لعبة واعتادت على الكسر!
دخلت من باب شقتها والدموع تعيق حركاتها، رأت والدتها تجلس فوق مقعدها المفضل والهاتف في يدها، اتجهت نحوها دون تفكير، فقط انساقت خلف ذلك الشعور، وتركت كل مخاوفها جانبًا..

 

 

ارتمت بجسدها أسفل قدم والدتها واضعة رأسها فوق ساقيها وأطلقت العنان لنفسها في البكاء، كان أحيانًا بكاء صامت وأحيانًا أخرى يصاحبه ما قاله زيدان، لم تجد يد والدتها تربت عليها كما اعتقدت، حتى أن صوتها اختفى فجأة، وقد أصيبت حينها بالهذيان من فرط اضطرابها، لِمَ كل شيء يخالف آمالها البسيطة.
رفعت رأسها ببطء وقابلت نفس نظرة السخرية من والدتها، رباه كانت تخشى تلك النظرة تحديدًا، تخبطت بين جنبات عقلها وسألت نفسها بتيه هل بالفعل هي ابنة والدتها أم أنها ابنة بالتبني؟، لقد داهمها الشك بسبب جسور الجفاء المقيمة بينهما.
أغمضت جفونها تحتفظ بنظرة التهكم المطلة من والدتها، واعتقدت أن الأمر سيصبح الآن سوء، ولم يدم توقعها كثيرًا حيث اندفعت والدتها بكل قساوة تردف:
-له حق يا حبيبتي يعمل فيكي أكتر من كدا.
ابتعدت بجسدها ولكنها ما زالت فوق الأرضية تنظر لوالدتها بنظرات زائغة فبدت كجارية تتلقى التوبيخ من ملكة فظة قررت معاقبتها بأسوأ الألفاظ، حتى أنها تمادت في إهانتها:
-حب إيه يا موكوسة اللي بتتكلمي عنه، هو الحب ده بيأكل عيش في الزمن دا.
اكتفت بالصمت وتابعت حديثها بضعف في ظل اندفاع ميرفت بحدة:
-طول عمرك خايبة وفاشلة ومتبصيش الا لزيدان وبس، أهو قالك مش بيحبك والصراحة عنده حق، في واحد يحب واحدة معندهاش كرامة.
ربما كانت “ميرفت” تقصد إفاقتها ولكنها اختارت طريق القسوة والجفاء ولم تراعي مشاعر ابنتها التي كانت تبحث عن الرفق ليس إلا وقد ظهر ذلك في صراخ “نهى” تزامنًا مع إشارتها بيدها:
-بس كفاية حرام عليكي، كفاية.
نهضت عقب حديثها وركضت صوب غرفتها وقبل أن تدخل تلقت ضربة حذاء من قبل والدتها التي عقبت فيما بعد بسخط عارم:
-ادخلي يا بت اوضتك وعيطي من هنا لبكرة وفي الأخر محدش هيعبرك.
دخلت غرفتها تجر أذيال الخيبة خلفها، أغلقت الباب خلفها بإحكام ومن بعدها توقفت في منتصف الغرفة تنظر يمنيًا تارة ويسارًا تارة أخرى، زحف الاكتئاب فوق ملامحها وأصبحت كعجوز فقدت معاني الحياة وزهق جسدها بسبب المرض، فقررت إنهاء حياتها كي تتخلص من كل العناء المتربص بها، هي أيضًا لقد تعب جسدها من الضرب والصفعات القاسية، وأرهقت نفسيتها من الإهانة المتلاصقة بها دومًا، حتى قلبها بات كالنبتة الضعيفة التي أصابها الجفاف، لقد زهدت الحياة بعينيها بعد فظاظة والدتها ونفور زيدان منها.
تحركت بخطوات ثقيلة للغاية، نحو مكتبة صغيرة وسحبت منها أقراص طبية كثيرة بدأت في تناولها واحد تلو الأخر دون انقطاع والدموع تتسابق فوق وجنتيها وكأنها هي الأخرى تودع الحياة.
فقد أدركت أن الانتحار أسهل من الانغماس في دروب الهوى!
**
فتحت عينيها بعد أن رفعت رايتها البيضاء لذكرى مهما حاولت الفرار منها تجذبها لأسفل القاع، للحظة الضعف التي باتت تركها حينما قررت إنهاء حياتها في سبيل التخلص من كل ما يؤرقها، ولكنها كانت خاطئة ساذجة، حينها فقط ستكون الخاسرة الوحيدة بعد أن علمت بحب زيدان لها وأن ما قاله ليس سوى كلمات خرجت دون إرادة منه كي يمنعها من الارتباط به خوفًا على مستقبلها فيما بعد بسبب مهنته الشاقة، وتعرضه للموت في كل لحظة، ولكنه لم يدرك أن الموت هو سبيلها الوحيد بعد تركه لها.
***

 

 

في شقة “سليم”
جلس فوق الأرضية الصلبة بعد يوم طويل ومرهق مع شمس وأنس، ارتدى نظارته الطبية وتابع قراءة الأوراق ومتابعة أخر مجريات المحلات من خلال حاسوبه، غاص في التركيز لدقائق كثيرة وعادت جديته المفرطة تحتل خصاله بعد أن تخلص من دلاله لشمس ومرافقة أنس في كل ألعابه.
وبعد أن وضع قائمة ينظم بها أولوياته وأعماله واعتقد حينها أنه قادرً على إنجازها وفقًا لقواعده، فشل بجدارة بسبب تقلب مزاج شمس وطلبات أنس الكثيرة، أحيانًا يظهر التذمر داخل مقلتيه لكليهما ولكنه يخفيه سريعًا خوفًا أن يحزنا ويبدأ كلاً منهما في إقامة مناحة يصفانه بها بالأب القاسي.
حينها ترك الورقة والقلم وأشار على نفسه ساخرًا:
-دا أنا أب تافه على كدا.
قالها بحنق من تصرفاتهما المتقلبة فأصبح كالمجنون بينهما، رفع يداه لأعلى وأردف بصوت عال:
-يا رب أنا زهقت.
غرقت عيناه في الملل وعاد مجددًا لقراءة الأوراق ولكن قاطعه اتصال هاتفي من قبل يزن فأجاب على الفور:
-خير.
-أهلاً يا أخويا يا حبيبي.
زفر متذمرًا:
-اخلص.
-إيه يا عم الكلام ده، هو أنا كنت نايم في حضنك.
صاح “سليم” موبخًا:
-اتلم يا يزن واعرف انت بتكلم مين؟
-يا سليم ليه بتعاملني كأني حرامي وسارق حاجة منك، فين الحنان فين الأخوة.
صمت سليم برهة يخفي بسمته التي نبتت فوق شفتيه اشتياقًا له ولمزاحه وكعادته رد باستهجان:
-يزن بيطلب الحنان، أنا كده بدأت اقلق عليك.
-لا يا عم أنت فهمت إيه، الحنان إياه أنا غرقان فيه واحتمال أعمل سد أخزن لسنين جاية، أما الحنان الأخوي فـ حقيقي أنت واحشني وغيابك فارق معانا.
ضحك سليم بخفة ورد بعفوية:
-يلا عشان تعرفوا قيمتي لما أموت.
استمع لصوت بكاء انبعث من جانب يزن ويبدو أنها كانت والدته فسارع يزن بالحديث لها موضحًا:
-بيهزر يا ماما بيهزر اهدي، خد يا عم كلمها.
جذب “سليم” أنفاسه واستجمع هدوئه بعدما أحس بخوفها عليه لمجرد كلمات عادية قالها في لحظة مزاح، لن ينكر بالطبع سعادته لبكائها وقد ظهر مدى اشتياقه لأبسط الأمور من قبل والدته، فلا زالت ندوبه تحتاج لمعالجة خاصة تركها هو للزمن رغم مرارة وجودها بعد كل هذه التغيرات:
-خلاص اهدي يا أمي، أنا كنت بهزر.

 

 

-بعد الشر عنك يا حبيبي، يجعل يومي قبل يومك.
نال التعجب من ملامحه بسبب قدرة والدته على التعبير تجاهه تحديدًا، وكأن القيود المفروضة عليها ذابت بعد أخر مواجهة بينهما وأصبحت أكثر سلسة رغم عدم تقبله للوضع، لذا استغفر بخفوت وصاح بعدها بحدة:
-أنا مش عايز كلام زي ده وأنا مش موجود معاكوا، انتوا متصلين تعكننوا عليا.
-حقك عليا يا حبيبي، خد زيدان معاك اهو.
رفع سليم رأسه وزفر بقوة من كم الضغط الواقع فوق رأسه، متمنيًا ألا يحزنه زيدان، فبالرغم من اختلافهما إلا أنهما يمتلكان نفس الحدة وبشاعة الكلمات والردود.
-الحمد لله يا زيدان، أنت أخبارك إيه؟
-زي الفل محتاجينك وسطنا.
هل تغيرت عائلته عندما غاب عن أعينهم، ولأول مرة شعر بفائدة ابتعاده، لقد اشتعلت شرارة الاشتياق بينهما ولن تنطفئ إلا بلقائهم الذي أصبح باغضًا له بعد أن تلقى منهم كل هذا الحب والاحتواء!
-سليـــم.
انتبه على صوت شمس المنادي له فزفر بضيق وأبعد الاوراق عنه بتذمر متمتمًا:
-هو باين من الاول مفيش شغل.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

الرواية كاملة اضغط على : (رواية منك وإليك اهتديت)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى