روايات

رواية في لهيبك احترق الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم شيماء يوسف

رواية في لهيبك احترق الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم شيماء يوسف

رواية في لهيبك احترق الجزء التاسع والعشرون

رواية في لهيبك احترق البارت التاسع والعشرون

في لهيبك احترق
في لهيبك احترق

رواية في لهيبك احترق الحلقة التاسعة والعشرون

“وأما قبل “.. فقد رأيت عندك الفجر وأخذت منه نهاراً أحمله في روحي لا يظلم أبداً .”
-صادق الرافعي.
بعْضَ القراراتِ يَتخذُها القلبُ مُباركًا حماستهُ العقل، والبعضُ منها يستقرّ عليها العقل، مُعَرقلًا تنفيذها تردد القلب المذبذب بين ذلك وذاك. ” لا إلى اليقين ولا إلى الشك”، وهناك قلة مما يتخذُها العقل مُهَنِّئًا رجاحتهُ القلبِ حتى وإن صَاحبها القليلِ من الرّبكَ، أما أسوءهم فتلك التي يصِر عليها العقل مُتجاهلًا في قسوة ما أَصابَ نِيَاطُ القلبِ من هَتكِ، تمامًا كما يحدث معها الآن وقد تهدج صوتها بعد البوح برغبتها، وانهمرت دموعها بعد الإفصاح عن نيتها، وزاغ بصرها عند حصولها على غيتها، أما عن حال تلك المضغة خلف ضلوعها، فقد كانت تأنّ وجعًا حتى اضطربت وظائفها الحيوية ومادت الأرض أسفل منها، ولم يكن شقيقها بِغَافِل عما تمر به، فقد كان الألم الذي تعايشه أوضح من أن يتم تجاهله، وبعد أن أومأ برأسه موافقًا على طلبها، عاد يقول متراجعًا في رجاحة فكر، يهديها فرصة أخيرة لـلملمة شتات قرارها المُبعثر :
-(( علياء.. القرار ده دلوقتي على بابا مش سهل.. ممكن يعمله انتكاسة ))..
همست تقول في وهن :
-(( تعبانه يا جواد ))..
اتخذت رحمة، العضو الأجدد في العائلة من رغبتها في رؤية والدها حجة واهية كي تنسحب من بينهم في هدوء، فعقلها لم يعتاد بعد على فكرة الانخراط في التفاصيل الشخصية لأشقائها، بينما طفق الشقيق الأكبر يمسح فوق رأس أخته الصغرى بعد أن ضمها إلى صدره وقد أصابت كلماتها صميم قلبه، وفجأة شعر بعبراتها تجري في مجرى قنوات دمعه، وصدى ألمها يتردد في صدره، عندما أردفت تقول عاجزة في بكاء :
-(( مش عايزة أعيش عالة يا جواد.. مش عايزة اتجوز عشان دي أمنية بابا.. عايزاه يحبني.. عايزة اتحب زي البنات.. لشخصي ))..
زفر في قلة حيلة يحاول إيجاد الحلقة المفقودة في الأحداث، فالبارحة توسل إليه زوجها حتى يُسمح له بالتحدث إليها ومصارحتها بحقيقة مشاعره تجاهها، إذًا ماذا حدث؟!، وما الذي يدفعها لقول مثل تلك الأمور السخيفة؟!، رفع أهدابه ينظر في عجز وقلة فهم قبل أن يلمح من يملك جواب سؤاله قادمًا يسير في اتجاههم من بعيد فهمس يقول في راحة :
-(( طب أهو يحيى وصل أهو.. اهدي عشان اعرف أتكلم معاه وافهم حصل إيه ))..
سارعت بالقبض على ردائه، تشدد من قبضتها فوق سترته وتتمسك به وكأنه ملاذها الوحيد، مغمغمة في توسل :
-(( لا خبيني ))..
ضيق عينيه في عدم فهم وقد أثار طلبها بل الموقف بأكمله ريبته رافعًا منحني الشك بداخله إلى المستوي الأقصى؛ لذا هتف يقول في تأهب وقد استحال لون عينيه إلى السواد الحالك :
-(( عملك إيه؟! .. أقسم بالله لو عملك حاجة ما هسيبه ))
أنهى جملته بدفع جذعها بعيدًا عنه استعدادًا للمعركة الوشيكة، بينما سارعت “علياء” بوضع جسدها مرةً أخرى أمامه كحائط صد يمنع تحركه وقد ضغط تهديده على زر غريزة القلق التلقائية بداخلها نحو مؤرق لياليها، وبرغم رغبتها في تصحيح الأمر وأخباره أنها تود الاختباء من نفسها وقلبها قبل الاختباء عنه وقد خانها التعبير كما خانتها كل أمنياتها وتوقعاتها في الحياة، همست تقول كاذبة في لهفة :
-(( معملش.. معملش.. أنا بقول كده من نفسي ))..
لانت ملامح شقيقها قليلَا على تأكيدها، ثم أخفض بصره يتأمل ملامح وجهها الشاحبة قبل أن يسأل في نبرة متباينة ما بين الفضول والشك :
-(( انتوا متكلمتوش امبارح ؟! ))..
حركت رأسها نافية في صمت، فاستطرد يقول في هدوء بعد معاودته محاوطتها بذراعه :
-(( طب عدي اليوم النهارده وبكرة لو موصلتوش لقرار كلميني.. ودلوقتي هروح أجبلك حاجة تاكليها بدل ما وشك ابيض زي الميتين كدة مش ناقص بابا يقلق عليكي انتِ كمان ))..
عند تلك الجملة كان محور حديثهم وتفكيرها، والمتسبب الأساسي في آلامها قد وصل إليها وتوقف عند أقدامها، معلنًا عن وجوده بسؤاله القلق، وموزعًا نظراته المتوجسة بينهم فور سماعه القسم الأخير من الحديث :
-(( مالها عالية يا جواد.. مالك يا عالية؟! ))..
أشاحت بنظرها إلى الطرف الأخر متجاهلة عن عمد إجابة سؤاله، بينما أجابه جواد شارحًا :
-(( مفيش بس من الصبح مش راضية تاكل حاجة وشها أصفر هروح أجبله……. أكــل ))..
وجهه كلمته الأخيرة إلى الهواء إذ اختفى مُحدثه من أمامه بمجرد سماعه نصف الحديث الأول، ولم يظهر سوى بعد عدة دقائق ويده مُحملة بكل أنواع الحلويات التي قد تمدها بالطاقة، ورغمًا عنها، ورغم تظاهرها بالجفاء وتمسكها بالرفض، شعرت برفرفة سعادة خفية تحلق بداخلها، زادتها نظرة الحنق التي رمق بها شقيقها قبل هتافه في ضيق وقد فاض به الكيل من رؤيتها تتكئ على كتف غيره :
-(( وأنت هتفضل حاضنها كده كتير ))..
أجابه جواد في سخرية متعمدًا حرق أعصابه :
-(( وأنت مالك.. مش أختي!! ))..
هتف يحيى في غيظ :
-(( وأنت مش ملاحظ أن أختك مش عايزة حتى ترد عليا وكأني خيال قدامها!!.. ولا مش ملاحظ أنها ماسكة فيك من ساعة ما وصلت كأني هخطفها لو سابتك!! ))..
ضاق جفناها، وعبس جبينها، وشرعت تتفحصه بطرف عينيها في تفكير بعدما تهادى إلى أُذنها سبة خارجة من فمه كتعبير صريح عن رفضه اقتراب شقيقها منها، بالطبع، فالشرقي يبقي شرقي في طباعه ولا يقبل المساس بممتلكاته حتى وإن لم تكن ذات قيمة حقيقة بالنسبة إليه، كان هذا تحليل عقلها لموقفه الحاد، وبذلك الأستنتاج وُلدت من بين دموعها الجافة فكرة ربما تُهدئ من حرقة صدرها، وعليها فقد التوي ثغرها في مكر وقد ابهجتها كثيرًا فكرة الانتقام منه عن البكاء ورثاء الذات، لذا هتفت تقول في تعالي موجهة الحديث إلى شقيقها ومتعمدة بذلك زيادة حنقه واستفزازه :
-(( جواد.. لو سمحت قوله ملهوش دعوة بيا وميستفزنيش!! )).
صاح مُمْتَعِضًا فور سماعه طلبها :
-(( نعم!!.. مستفزكيش!!.. وإيه ملهوش دعوة بيا دي كمان ))..
نفضت رأسها في كبرياء بعدما أعرضت بجانب وجهها عنه، فاستطرد يهتف من جديد في سخط :
-(( علياء أنا بكلمك من فضلك ردي عليا ))..
راقها غضبه كثيرًا وقد أعادها مع غيرته واهتمامه إلى قيد الحياة، لذا قررت استئناف إثارته والضغط على اعصابه بعودتها توجيه الحديث إلى شقيقها المتعلقة بذراعه :
-(( جواد قوله إن قصدي واضح مش محتاج ترجمة ))..
رغم استمتاع شقيقها هو الأخر بالأمر، وإعجابه الواضح بعقاب صغيرة عائلته الماكرة، بل وفخره بطريقة تسيير أمورها، ألا إنه قرر التدخل في النهاية مشفقًا على ذلك الواقف أمامه وملامحه على وشك الانفجار من شدة الغيظ، فهتف يقول في براعة مدعيًا الضجر بعدما دفع جسدها ناحيته وغمز لشريكه بأحدى عينيه كي يتولى الدفة :
-(( لا أنا مش المترجم بتاعكم ولا خدام عندكم.. أنا هدخل اشوف بنتي وانتوا اتصرفوا سوا ))..
التقطها يحيى بين ذراعيه بامتنان، متجاهلًا شهقاتها المصدومة ومحاولتها البائسة في الإفلات من بين ذراعيه بعدما أحكم حصارهم حول جذعها، مستمعًا إلى اعتراضات صوتها الناعم المضطرب يغمغم بالقرب منه أذنه في تحذير :
-(( يحيى أبعد لو سمحت خليني ادخل لبابا ))..
تجاهل طلبها إذ انغمس في فتح ورقة الحلوى الخارجية بيده الفارغة وفمه تمهيدًا لإطعامها، بينما واصلت هي دفعه هاتفة في حدة :
-(( ابعد عني خليني أتحرك.. ومتفتكرتش أني هاكل حاجة أنت جايبها.. ماشي!! ))..
غمغم في نفاذ صبر ضاغطًا على حروف كلماته :
-(( وشك أصفر وأيدك بتترعش حتى لو داريتي ده.. معنى كده أن السكر في دمك واطي.. وده لان حضرتك من إمبارح رافضة تاكلي.. يعني بقالك ٢٤ ساعة مفيش حاجه دخلت جسمك.. وأنا مش هسمحلك تأذي نفسك.. بطلي عِنْد الأطفال ده ))..
سارعت بتحريك فمها إلى الجهة الأخرى عندما حاول دفع الطعام داخله عنوة، ثم صاحت تقول في تصميم :
-(( مش هاكل منك لو هموت.. أنا حرة وسبني بقي ))..
قال في إصرار بملامح جدية :
-(( معنديش نية أني أسيبك.. ارتاحي ))..
سكنت حركتها واختفى الضجيج من حولها وقد حملها بحديثه المبطن إلى الفضاء بسمائه الواسعة، يحلق بها إلى حيث لا تدري ولا تريد أن تدري، وقد ضاعت وسط أمواج خضراوتيه العاتية، تحاول جاهدة الوصول إلى شط الحكمة والوقوف على أرض الإرادة قبل فوات الأوان، وبعد لحظات من الصمت عادت خلالها إلى واقعها المُحبط، ثم همست تقول في ثبات :
-(( ولو قلتلك أني عايزة أسيبك ))..
أجابها وعينيه تلمع بعزيمة أربكت دفاعتها :
-(( سبيني.. وأنا همسك فيكي بالنيابة عننا احنا الأتنين ))
شهقة ذهول خافتة فلتت رغمًا عنها، نجحت في رسم الابتسامة فوق شفتيه، قبل استطراده القول في رصانة :
-(( النهاردة كان عندي جلسة لطفل أهله مش منفصلين بس عايشين في الخليج وهو كان عايش مع جدته هنا لحد ما الجدة اتوفت ووالدته قررت تسيب كل حاجة وتنزل عشان ابنها.. بس الولد فضل يقابل أي موقف تقارب اسري أو مشاعر اهتمام من والدته بالصد والعناد وبعد سنة من محاولتها معاه يأست ولجأت للمساعدة النفسية.. عارفة أنا رأى إيه؟! )) ..
حركت رأسها سلبًا كعلامة على جهلها فاستطرد يقول وقد تحولت نبرته إلى الحنان :
-(( أن الطفل المذبذب القافل على نفسه بدء ياخد ثقة من اهتمام والدته ووجودها حواليه.. وعليه قرر يكسر شرنقة خوفه ويتمرد على وجودها عشان يتأكد من جواه أنها متمسكة بيه.. بس أنا عارف أنها مسألة وقت قبل ما يستسلم ويتقبل أن في حد يحبه بجد.. ومستعد يتحمل كل دلعه من غير ما يتخلى عنه أو يسيبه لوحده تاني ))..
هتفت في ارتباك مدعية عدم الفهم :
-(( وأنا مالي؟!.. وبتقولي أنا الكلام ده ليه! ))..
أجابها في بساطة وابتسامته تزداد اتساعًا مع رؤية تخبطها والتقاطها مغزى حديثه :
-(( مفيش كنت بسليكي لحد ما تخلصي الكيكة بتاعتك ))..
همست في بلاهة :
-(( كيكة!! ))..
اسدلت أهدابها تنظر إلى يده الممدودة نحو فمها ومنها إلى قطعة الحلوى التي التهمت معظمها، قبل أن ترفع كفها إلى فمها تمسح من فوق شفتيها في استنكار آثار الشيكولاتة السائلة هاتفه في اندهاش :
-(( إيه ده!!.. أنت عملت ايه؟!.. أنا ازاي اكلت البتاعة دي ))..
أجابها في استمتاع وهو يقاوم محاولتها الضعيفة في الإفلات من بين يديه :
-(( نومتك مغناطيسيًا ))..
قالت في استسلام وقد أعياها كثرة التحرك ومجادلته خاصةً مع فقدانها للطاقة من قلة تناولها للطعام :
-(( طب ممكن تسبني.. عايزه ادخل اطمن على بابا ))..
رفع إبهامه يمسح ما فوق شفاها على مهل، ثم قال بعدما طبع قبلة مطولة فوق جبهتها :
-(( طب اشربي العصير وهسيبك ))..
همست اسمه في توسل :
-(( يحيي.. عشان خاطري سبني امشي.. مكاني مش هنا ))..
التوي ثغره بابتسامة حب ناعمة وصلت إلى عينه، قائلًا في نبرة متحشرجة بعدما رفع كفها وبسطه فوق موضع صدره ناحية الشمال :
-(( عارف.. انتِ مكانك هنا ))..
انتفض جسدها وقد إصابته رعشة باردة وكأنها سقطت فجأة في جبال من الصقيع قبل دفعها جسده وركضها نحو الداخل تختبئ منه، وتنشغل عنه بعائلتها، وليصب قلبها المتهاون قارعة إن انساقت خلف رغبته وأهانت كرامتها بعد أن حطم آمال خيالاتها الوردية فوق صخرة اعترافه بحب أخرى
أضاءت شاشة هاتفه لما يقارب الدقيقة قبل انطفائها لِثَوَانٍ متجاهلًا عن عمد الإجابة عن ذلك الاتصال، قبل معاودتها الإضاءة من جديد في اتصال ملح يعرف جيدًا سير أحداثه بِنَاءَا على خبرة اكتسبها من المرات الكثيرة السابقة، زافرًا أنفاسه الساخنة في الهواء من حوله، يُنفس بها عن غضبه، إحباطه، وعجزه، والأسوأ تخبطه، بعدما استحالت حياته إلى الجحيم منذ تلك الليلة، وانقلب كل شيء رأسًا على عقب وكأن هناك لعنة ما قد أُلقيت عليه، حيث أُجبر يومها بعد اكتشافه خديعة وكذب زوجته الثانية، على تطليق زوجته الأولى بعد فقدانها الجنين أثر حادثة هي وحدها المسؤولة عنها، ومنذ ذلك اليوم العصيب وهو يتجاهل زوجته الثانية ألا في ليلة واحدة انهارت فيها دفاعاته واستجاب لإغوائها فأسفرت عن نطفة منه تنمو داخل أحشائها مزيدة من تعقيد العلاقة بينهم، وما زاد الطين بله هو انتهاء علاقة السلام الوطيدة بينها ووالدته، وبقي هو في المنتصف، بين شقي الرحى، يحاول إرضاء الجميع على حساب أعصابه غير المستقرة وقد سأم تضارب مشاعره، ورغبته المستميتة في إنهاء الخصام بينه وبين زوجته من جهة، وبين غضبه من فعلتها التي كلفته الكثير بالفعل من جهةً أخرى، ومع المحاولة العاشرة قرر الاستسلام ورفع الهاتف على أذنه مستمعًا إلى صوت والدته الغاضب تسأل من الطرف الآخر في حنق :
-(( مبتردش عليا ليه من أول مرة؟!.. ولا هي السنيورة بتاعتك قالتلك متردش عليها وملت ودانك من ناحيتي زي ما ضحكت عليك وملتك من ناحية غفران بالباطل!! ))..
حرك بؤبؤ عينيه متأففًا دون تعقيب فاستطردت والدته تهتف في حزن :
-(( شوف مبيردش عليا كمان أزاي ولا كأني بتكلم! ))..
مسح بيده الحرة فوق وجهه في عنف، وعندما لم يجد مَفَرًّا من الإجابة قال في تقريع رغم نبرته الخفيضة :
-(( وهي أفنان كانت تجرؤ تعمل اللي عملته غير لو أنتِ شجعتيها! ))..
صاحت والدته مقاطعة تَرْثِي حظها العسر :
-(( اااه يا سامية.. يا خسارة تعبك وشقائي على وحيدك يا سامية.. ما طبعًا أقنعتك أني الوحشة اللي حرضتها وهي الغلبانة المنكسرة.. وأنت آمنت ع كلامها زي العبيط ))..
صمتت لوهلة تبتلع خلالها لعابها ثم أردفت تهتف في حسرة :
-(( قومتك عليا بت بهيجة حتى الزيارة قطعتها مني وبقيت أشوفك كل أسبوع مرة.. حسبي الله.. منك لله يا أفنان يابت بهيجة.. أشوف فيكي يوم مطلعتهوش شمس قادر يا كريم ))..
صاح بدر متسائلًا في نفاذ صبر وقد سأم الحديث بأكمله :
-(( طب أنتِ عايزة إيه دلوقتي يا أمي ))..
قالت آمرة في جمود :
-(( عايزة أشوفك.. بكرة تكون عندي.. بقالك ٨ أيام مخطتش بيتي.. ولسه بكرة كمان لما تخلف هتقطعك مني خالص أنا عارفة ))
حرر نيران صدره المكبوتة إلى الخارج في صوت مسموع، قبل تمتمته مُتَجَاهِلًا التعقيب عن القسم الأخير :
-(( حاضر يا أمي.. بكرة هخلص شغل وأمر عليكي متقلقيش ))..
أنهت والدته الاتصال مودعة في ارتياح بعدما حصلت على مبتغاها، بينما همست من كانت تقف خلفه متعمدة استرق السمع تسأله في امتعاض :
-(( رايح لحماتي بكرة ؟! ))..
رمقها بجانب عينه ولم يُعقب، فاستطردت حديثها تستعطفه بعدما تحركت بجسدها تجلس أمامه، متعمدة إظهار مفاتنها الممتلئة من أثر الحمل بثوب صيفي مكشوف :
-(( ٧ شهور وأنا احايل فيك ومفيش فايدة لما هموت بقهرتي.. وكل ليلة أنام ودموعي ع المخدة أقول بكرة يحس بيا.. بكرة يرضى عني.. دلوقتي يرجع ياخدني في حضنه زي زمان.. ده أنا لو قتلت قتيل يا بدر كان زمان أهله عفوا عني ))..
حدجها بنظرة جامدة قبل تركه المجلس منتصبًا في وقفته، فسارعت بمد ذراعها في اتجاهه تقبض على معصمه وتجذبه نحوها ثانيةً مهمهمة في توسل خفيض :
-(( عشان خاطري متمشيش.. طب لو مش صعبانه عليك.. ابني اللي قرب يخرج للدنيا ده مش صعب هو كمان عليك.. ده أنت مفيش مرة جيت معايا كشف الدكتورة تطمن علينا.. حماتي مقسية قلبك علينا يا بدر ))..
هتف أسمها محذرًا في حدة :
-(( افنااااان ))..
قالت متراجعة في لهفة بعدما انتصبت هي الأخرى في وقفتها، ومالت برأسها تريحها فوق كتفه :
-(( طب خلاص متزعلش أنا محقوقالك.. أرضى عني بقي عشان خاطر أبننا يوصل بالسلامة ))..
غمغم معاتبًا وقد أعياه كثرة مقاومة مشاعره تجاهها وصدها :
-(( مكنتش أتخيل منك كده أبدًا يا أفنان ))..
قالت وكفها يسبح فوق صدره :
-(( بحبك وخفت تكرهني وتبعد لما ابني ينزل وهي لأ.. عاير تلومني على حبي ده لومني أنا قابلة .. بس خليك عارف أنه مش بأيدي ))..
أسبل أهدابه ينظر بأنفاس مضطربة إلى حيث تحرك أصابعها، مقاومًا رغبة ملحة في مشاركتها رحلتها الميدانية فوق صدره، ومغمغمًا بعدما ابتلع بصعوبة بالغة لعابه :
-(( هروح أنام عندي شغل الصبح ))..
همست تقول في توسل حار :
-(( طب خليني أنام في حضنك ومش هطلب حاجة تاني.. عشان خاطري متكسفنيش ))..
أومأ برأسه موافقًا بعدما تنهد في قلة حيلة، في حين سارت هي جواره إلى الفراش بابتسامة نصف منتصرة فها قد أوشك جبل الجليد بينهم على الذوبان ومن بعدها، ليأتي دور والدته في التخلص منها.
******************************
في طريق العودة من المشفى إلى المنزل، اتخذت من المقعد المجاور للسائق، على مقربة منه داخل سيارته الفارهة، مجلسًا لها بعدما انكمشت علي نفسها في سكون، كالتمثال الرخامي لا تتكلم ولا تتحرك، بل راحت تتظاهر بالانشغال في مراقبة الطريق والسيارات الأخرى من حولها في هدوء، وكأن رأسها لا يعج بضجيج مئات من الأفكار والتي تنصب جميعها عند قدمه، وقد أصبح الصمت المطبق الخانق السمة الغالبة على جميع لقاءاتهم تقريبًا، صمت ناضحًا بالغضب من جهتها، وبالصبر من جهته، إذ قابل تغيرات مزاجها بداية من الجفاء، الغضب، العناد، اللين، وأخيرا التجاهل كما تفعل الآن بصدر رحب، فهو يعلم تمام العلم أن مدها وجزرها يعودان إلى أسباب تخصه وحده ولا يلومها عليها، بل يلوم ذلك الأحمق الذي وثق به في تولى مهمة علاجها، وقبله يلوم عقله ونفسه إذ انساق خلف نصيحته ظَنًّا أنه يُعلي بفعلته تلك مصلحتها وشفاءها على علاقتهم، وعليه فلن يترك تلك التغيرات تُعَكَّر صفو مزاجه، أو تُثبط من همته في إرضائها رغم شعوره المتزايد باقتراب انفجاره، وقد أصبح كل ما حوله يُثير أعصابه ويضغط على خلايا اتزان ضبط النفس بداخله.
وبعد دقائق طويلة من الوجوم الموتر، كان هو أول من كسره حينما قال في إرهاق بعدما صف سيارته جوار الرصيف أمام منزلها :
-(( رحمة صحيح.. بكرة ميعاد الاجتماع مع الوفد الصيني اللي اتلغي بسبب تعب عمي.. للأسف قبله عندي اجتماع تاني مع مدراء المالية فمش هعرف أجي أخدك.. بس هبعتلك السواق ع الساعة ١٠ يجيبك الشركة.. تمام؟! ))..
أومأت بأهدابها موافقة دون تعقيب أو جدال كعادتها، قبل استدارتها بجسدها نحو مقبض الباب اِسْتِعْدَادًا لفتحه والخروج، فأسرع هو يقبض على معصمها كي يوقفها مردفًا في تردد :
-(( مش عايزة تقولي حاجة؟! ))..
دوت ضربات قلبها في عنف ترقبًا للآت فربما سؤاله ليس عَفْوِيًّا كما يحاول جاهدًا إخراجه، بل هو مقدمة لطلب، اعتذار، تبرير، أيًا مما تهفو نفسها إلى سماعه، وعليه همست تسأل في حيرة ظاهرية وترقب داخلي :
-(( حاجة زي إيه؟! ))..
أجابها شارحًا بعدما تفرس ملامحها لفترة لا بأس بها عله يستتبط منها الإجابة :
-(( أي حاجة.. تعليق على كل اللي بيحصل.. سكوتك غريب ومش منطقي.. أنتِ حد فجأة عرف أن عيلته مش هي عيلته.. وظهر له أب جديد بأخوات جداد.. أزاي معندكيش رد فعل على كل ده؟!.. ولا فضول أنك تعرفي حاجة عن عيلتك.. أملاكك!!.. موقفتيش تطالبي بأي حقوق ليكي ليه؟.. رحمة.. أنتِ حتى مش مدركة إن أنا وأنتِ بقينا ولاد عم!! ))..
عاد مُصَحِّحًٌا كلمته في ارتباك تجاوزته لعدم فهمها سببه :
-(( قصدي.. اكتشفنا أننا ولاد عم ))..
صمتت تطالعه في حيرة لم تُخفي عليه، فرغم ادعائها اللامبالاة ألا إن لمعة حدقتيها، مع رجفة خفيفة لشفتيها أعطته فكرة واضحة عما تمر به، قبل أن يؤكد تهدج صوتها صدق تخمينه، حينما همست تقول في اختناق :
-(( إذا كان اكتشافك أنت إني بنت عمك مغيرش شيء في علاقتنا.. ليه مستني يبقالي رد فعل مختلف عنك! ))..
تجاوز عن عمد تأنيبها المبطن، فيكفيه جلد ذاته كل ليلة من أجل خطئه غير المقصود، بينما استطردت حديثها تقول في استنكار حاد :
(( وبعدين عايزني أعلق على حاجة أنا لحد دلوقتي مش فهماها!! فبحاول أتجاهلها لحد ما استوعب كل اللي حصل أو حتى أتقبله.. طب وعايزني أطالب بأي حقوق؟!.. إذا كان حرموني من الحق الوحيد اللي نفسي فيه ))..
زفرة طويلة حارة خرجت من فمها شعر بلهيبها يحترق داخل صدره، قبل أن تستطرد قائلة في غصة بعد تجاوزها نوبة بكاء وشيكة :
-(( تخيل أن الشخصين الوحيدين اللي عندهم تبرير أزاي أنا طلعت بنت راجل تاني متوفيين.. وواضح أن ماما مكنش عندها النية بمصارحتي بالحقيقة.. لا أنا ولا غيري.. لدرجة أنها حتى خبت الحقيقة دي عن الأب البيولوجي.. يبقي متوقع مني أن بعد العمر ده أروح اطلب منه حقي في أسمه.. ده حتى نسي أنه كان متجوز أمي في يوم من الأيام.. وأنا معرفتش عن نسبي اللي مربوط بيه غير منك أنت.. يعني لولا موضوع القضية زي ما فهمت.. كنت فضلت فاكرة إني بنت عز.. وهو كمان مش محتاجني في حياته.. فخليني زي مانا بنت عز عشان مصطفى وعشان علياء وجواد وعشان طنط كريمة.. وعشان متتحملش أنت كمان عبيء )).
ألقت جملتها العتابية الأخيرة في وجهه ثم همت في الاستدارة بجسدها نحو باب السيارة، وهذه المرة لم تمتد يده لتوقفها، بل عاودت هي من تلقاء نفسها الدوران برأسها في اتجاهه تسأله في فرصة أخيرة :
-(( أنت مش عايز تقولي حاجة؟! ))..
حبست أنفاسها تنتظر رده في ترقب وداخلها يحترق شوقًا لأي حجة ينطق بها حتى وإن كانت واهية، بالله، سترضي بأي تبرير يسكبه فوق نار غضبها فيطفئه وينتهي الأمر، بل سيكفيها اعتذاره، طلبه أن تعود إلى منزله وجواره، كلمة واحدة هي كل ما تنتظر حتى يتوافق طلب قلبها مع إرادة عقلها في الصفح عنه، انتظرت وانتظرت، تراقب في يأس فمه وهو ينفتح ثم يعود وينغلق عدة مرات قبل أن يهمس في النهاية متحاشيًا النظر إليها وقاضيًا على أخر أمالها :
-(( لا…… ))..
ضغطت فوق شفتيها بقوة تؤخر قدر المستطاع سيل دموعها الذي بدأ في التدفق من خلف جفنيها المغلقان، وقد تركها بعد كلمته المقتضبة تواجهه بقلبها الهش، أعتى عاصفة من الحزن وخيبة الأمل قد زارتها يومًا.
****************************
وفي الأعلى أخذت وقتها الكامل في ذرف شلال دموعها المنهمر وكفكفته قبل دلوفها المنزل، والذي بمجرد تخطيها عتبة، قفزت رفيقتها أمامها من العدم تسألها في تأهب :
-(( كلمتي جواد؟! ))..
إجابتها في فتور :
-(( مجتش مناسبة.. مصطفى فين ؟! ))..
هتف غفران في تشكيك متبعة ظلها وقد أسأت فهم عبوسها :
-(( مش مصدقاكي.. صوتك يقول أنك بتكدبي عليا.. ملامحك كلها ))..
ألقت رحمة حجابها أرضًا بلا مبالاة بعدما حلت رباطه من حول عنقها وإزاحته من فوق رأسها متمتمة في إجهاد :
-((لو مش مصدقه عندك الفون أساليه ))..
ضاقت المسافة ما بين حاجبي غفران تتفرسها مَلِيًّا قبل قولها في خيفة :
-(( شكلك مش طبيعي!!.. في حاجة حصلت ولا إيه.. عمو أنور كويس؟! ))..
إجابتها رحمة كاذبة في جمود بينما جسدها يتحرك في عصبية مفرطة :
-(( كويس متقلقيش مرهقة بس من ضغط أول يوم شغل.. مصطفى فين عايزة أبلغه بحوار الشقة.. ملحقناش الصبح نتكلم ))..
إجابتها بشيء من الارتياح :
-(( مصطفى لسه مجاش من برة.. النهارده محاضراته للساعة ٨ ويادوب ساعة تكفيه مواصلات.. يعني نص ساعة كمان الأقل ))..
حركت رحمة رأسها موافقة على الحديث وقائلة على مضض :
-(( لا هيتأخر وأنا محتاجة أنام.. عَمَّتَا هبلغه بكرة الصبح إن شاء الله.. وأنتِ اعملي حسابك أن بكرة أو بعده بالكتير هننقل على الشقة الجديدة )).
في ظروف أخرى لملئ صياحها معترضة المنزل بطوابقه، أما بعد تلقيها ذلك التهديد الفج عن أذية أحبائها فلا تملك إلا الشعور بالراحة لابتعاد رفيقتها وشقيقها عن مرمى الخطر، خطر تهورها الغير محسوب، لذا هتفت موافقة في سهولة لم تتوقعها الأخرى :
-(( طب محتاجة أحضر معاكي الشنط؟ ))..
ضيقت رحمة أهدابها فوقها تسألها في ريبة :
-(( بس كده!!.. هو ده رد فعلك!!.. مش هتعملي مناحة وتتقمصي كام أسبوع! ))..
إجابتها مبررة بابتسامة خفيفة :
-(( مانتِ عارفة أنا أصلا بتحايل عليكي ترجعي بيتك مع طاهر فمفرقتش.. آه هيعز عليا بعادك أنتِ ومصطفى عني بس متقلقيش هزوركم كل شوية ))..
شعرت بغصة داخل قلبها وكأن هناك يدًا قوية تعتصر فؤادها دون رحمة فور سماعها اسمه يُنطق من حولها فسارعت تقول هاربة، تبغي الاختلاء بنفسها :
-(( متفقين بكرة بإذن الله هبلغه.. تصبحي على خير ))..
هتف غفران تستوقفها في استنكار بعدما نظرت في ساعة يدها :
-(( طب العشا!!.. هتنامي بدري كده الساعة ليه ٨ ونص! ))..
إجابتها كاذبة بعد نجاحها في رسم ابتسامة واهية فوق ثغرها :
-(( أكلت في الشغل متقلقيش.. هنام عشان عندي صداع وأخدت مسكن.. تصبحي على خير ))..
تلك المرة لم تنتظر سماع تعقيب صديقتها، حيث فرت هاربة تجر أذيال الخيبة خلفها موصدة باب الغرفة على خيالاتها السعيدة، وكل ما تتمناه لو استطاعت صرف تفكيرها عنه، حتى بعدما خذلها للمرة الثانية.
****************************
مذكرتي العزيزة، ومقتطفات مكنوناتي الوجيزة….
اعذري وقاحتي التي باتت تلازمني إذ قلت إنني لم أجد ما يصرف انتباهي عنه سواكِ، لذا وبمجرد وصولي غرفتي، وفور تبديل ثيابي، وبعد الارتماء فوق فراشي، رحت أبحث عنك لأشكو إليك هوان حالي، فأنا مشتتة، محبطة، وتحاصرني خيبة أمالي، حتى العبارات تتزاحم جميعها داخلي ولا أنجح في صياغتها فأختنق بداخلها حتى الموت، وكما يعجز لساني عن الوصف تعجز يدي عن التسجيل فألجأ إلى الحل الوحيد المتاح أمامي ألا وهو الصمت، نعم أصمت بينما رأسي ممتلئ بطنين الآلاف، بل ملايين الأفكار المؤرقة، وصدري بالأحاسيس المرهقة، ورغم ما حدث ويحدث لا أستطيع البقاء منه غاضبة، فأنا واقعه في حبه حتى النخاع، وغارقةً فيه تمامًا، ربما من البداية وقطعًا إلى النهاية، ولم أكتفِ بالغرق، فرحت أغوص راضية في أعماق محيطه عكس التيار، يجذبني غموضه كما يجذب غناء الحور البحار، ولم أعِ لغرقى ألا وأنا عالقة بين صدفتي رجلي الرمادي غريب الأطوار، وبدلًا من محاولتي النجاة استسلمت لعشقه الجاري في أوردتي كالأنهار، وما بين كرامة تُكبل حركتي بالحديد، ولسانه الذي يرفض النطق بأي جديد، أرى ربيع عمري يلوح إلى مُوَدِّعٍ من بعيد، فأثور وأثور غاضبة بينما قلبي يهمس يسألني أي حَبِيبٍ غيره قد يرضى أو أريد؟…).
جرفها تيار العتب إلى أودية التدوين، فأخذت تكتب وتُفرغ مشاعرها في مئات من سطور اللوم والحنين، حتى سقطت غافية ويدها تقبض على دفترها الغالي الثمين، وليس الغلو لأن به كلماتها، بل لأن جدّها وهزلها، حزنها وألمها كل حرف وثقته كان هو محوره.
وفي منتصف الليل حيث سكوت الكلام، وانتشار الظلام، استيقظت على لمسة أنامل ناعمة تطوف ذراعها العاري ليد تعرفت على هويتها من تلك القشعريرة الباردة التي تصيب جلدها أينما حلت كفراشة تتمايل فوق الأغصان، يليها وهج أنفاسه الساخنة تلفح شطر وجهها في تضارب مع طقس ليالِ الخريف الباردة، يتبعها همسهِ متوسلَا في حرارة :
-(( افتحي عينيك سيدة قلبي .. اسمحي لأنوار قمرك بإنارة ظلام طريقي، وَدَّعِ نعيم جنتك، يُبدد شقاء جحيمي ))..
همهمت رافضة في نعاس :
-(( أبتعد عن أحلامي، أعلم أنك لستُ بحقيقة، أنت فقط أحد خيالاتي المعتادة ))..
همس يسألها في خفة، بينما ذراعه القوي يحاوط خصرها النحيف :
-(( وإذا كُنت أحد خيالاتكِ، فلم لا تُريحي قبضتكِ من فوق كفي؟! ))..
قفزت مسرعة من مرقدها، بعدما فتحت عينيها وألقت نظرة جانبية خاطفة على يده معرقلًا حركتها العنيفة جسده المستلقي جوارها في كسل، قبل تمتمتها مدافعة عن نفسها في تعلثم :
-(( كنت أحتضن دفتري، مالي ويدك؟!، ابتعد عني إذا تفضلت فوجودك ليس مرحبًا به ))..
أقترب منها على مهل، وكأنه يملك وقت العالم في الوصول إليها، قاطعًا بحركاته المثيرة لأعصابها المسافة الضئيلة الفاصلة بينهم، قَائِلاً في تبسم أرهق دفاعاتها بعدما نجح في حصارها بين جانب الفراش من الطرف والخزانة من الطرف الأخر :
-(( أتنفي ساكنًا عن وطنه، أم كوكبًا عن قمره؟!، رحمتي! ))..
راقبت بأهداب مرتعشة ابتسامة التسلية التي اعتلت زوايا فمه، يليها ذراعه التي شقت طريقها في إصرار حيث وجهتها المُحددة، مجيبة في اندفاع وهاربة من الرجفة الخفيفة التي غمرت جسدها في استجابة خائنة لعبث أنامله فوق ذراعها العاري :
-(( توقف، فأنا لست برحمتك، أو بوطنك، أو أي شيء يعود إليك ))..
تتبعت خط القمر الفضي المفضي بظلاله على جانب وجهه الشبهة ملاصق لها، تتأمل قسمات وجهه المنحوتة مع شعيرات ذقنه الشبهة نابتة، حيث أتاح لها الفرصة باقترابه الشديد منها، رؤية الخطوط الرفيعة حول فمه، ومثيلتها الأكثر عرضًا فوق جبهته العابسة مستطردة عتابها في اندفاع تحاول به التحرر من حصار رائحة عطره المفروضة كسياج من حولها :
-(( ثم أني لا أراك تحتاج وطن أو تشتاق قمر، كما أنك تبدو بخير من دوني ))..
همس يقاطعها في ضياع بعدما أراح جبينه فوق جبهتها وسحب جذعها العلوي في هوادة نحو صدره :
-(( خاطئة، فأنا من دُونِكِ وحيد، وحيد للغاية، حتَّى وإِن عجَّ العالم بِضَجِيجِهِ من حولي، أظل وحيدًا، حتى تَحْتَضِن يديكِ كَفِّي، وتُؤانس اِبْتِسَامَتك وحشة رُوحي ))
سّبت دَاخِلِيًّا تبحث عن ذلك الغضب اللعين، أو أي شيء يمدها بالأدرينالين كي يساعدها على الوقوف في مقابلته عوضًا عن ساقيها الهلاميتين، قبل نطقها تستجديه الابتعاد وقد نجح في ربك صدها عنه بحصار جسدها وحريرية نبرته:
-(( طـاااهـر ))..
أجابها في حرارة وشفتاه تتلمس شطر وجهها صعودًا وهبوطًا كيفما شاء مُسْتَغِلًّا ضعف مقاومتها :
-(( طاهر ليس بطاهر طالما لا يرى انعكاس صورته في عينك، أو ظل جسده فوق جسدك ))..
تنهدت في قلة حيلة تبحث عن إرادتها المسلوبة كي تقاومه وبدلًا من استخدام كفها المرفوع لدفعه تفاجأت بأصابعها تضم معصمه، بينما أستأنف هو حديثه يقول في تدليل بعدما تنهد في حرارة تعكس حمم البركان الثائر في صدره :
-(( أحتاجك وطني ))..
غمغمت مرددة وهي تضغط على أجفانها المغلقة هاربة من صورته العالقة بداخلهما :

(( أنا أهذي، لست حقيقة، أنت مجرد خيال، أنا أحلم بكل هذا ))..
قال في حزن متعمدًا تدليك عنقها بلمساته الخبيرة :
-(( أنا خيال بالنسبة إليك، بينما أنتِ الحقيقة الوحيدة في حياتي ))..
فتحت عينيها تسأله هامسة في قلة حيلة وقد نجح في إسقاط دفاعاتها واحدًا يلوي الأخر :
-(( ماذا تريد مني ؟! ))..
أجابها في إصرار ولازالت النعومة تغلف نبرته فتداعب أوتار فؤادها المتيم :
-(( حبك، ولا شيء آخر ))..
همست مستسلمة بعدما أراحت رأسها فوق صدره وقد أنهكها طول البعاد :
-(( أحبك طاهر ))..
قفزت من ثباتها العميق على صدى اعترافها يتردد داخل أذنها، بينما ذراعها يقبض على دفترها بدلًا منه، تتحسس بأطراف كفها المرتعش جبهتها المتعرقة، هبوطًا إلى مضختها الثائرة تاركة عينيها تطوف الغرفة في لهفة كي تتأكد من خلوها منه، فكم بدا حلمها حَقِيقِيًّا حتى أن رائحة عطره لازالت عالقة في ذرات الهواء من حولها، ووخز لمساته يضرب جلدها.
********************************
هناك نوعان من الانتظار، أحدهما نصبُ إليه بكل جوارحنا، كانتظار السعادة، الفرح، وغيره، وأخر يجعل الولدان شيبا، كحالها وهي مستلقية فوق الفراش الحديدي الصلد، منكمشة على نفسها كعادة كل ليلة داخل زنزانتها الفردية العفنة، تُرهف السمع بأنفاس مكتومة داخل صدرها كلما تهادى إلى أُذنها وقع الخطوات الجماعية السائرة داخل الممر المطل عليه باب محبسها، تترقب الْآتِ بجسد يرتجف كورقة شجر تعبث بها ريح يومًا عاصف، فها قد أوشك الفجر على البزوغ، وكما هو للغالبية رمز البداية، بالنسبة إلى البعض من مثيلاتها المذنبين يعني النهاية، وأما يهبها القدر فرصة جديدة للعيش فتنجو لليلة أخرى، وتنتقل من صفوف الهالكين إلى صفوف المستمعين في هلع إلى صرخات المساقات قبلها إلى الموت، وأمــا….
قضى على رفاهية الأمل داخلها في رؤية شمس يوم جديد توقف الحركة الصاخبة أمام باب الزنزانة الصدئ، يليها همهمات لأحاديث واضحة رغم خفوتها، أعطتها فكرة مختصره جلية عما سيحدث لها لاحقًا، نعم كانت هي الهدف تلك الليلة وليس غيرها، قُضي الأمر ولا مفر من موت مستحق محقق، وبعد عدة دقائق قلت أو كثرت من انحشار جسدها في أحد الزوايا الرطبة حيث آبت الخروج من حصنها الواهن، مع كثير الصراخ والمقاومة الغير مجدية، وجدت نفسها تُجر عن اليمين والشمال بعدما خارت قواها وسقطت أرضا إلى داخل غرفة الإعدام الباردة المفتقرة لمظاهر الحياة، وقد سيقت شبهه واعية إلى مثواها الأخير، وما بين الهرج والمرج السقوط والقنوط، الفزع، والهلع، حال بينها وبين الرؤية قناع أسود مَقِيت ارتداه قبلها الآلاف الخاطئين، وبينها وبين الحياة ذلك الحبل الغليظ الذي ألتف حول عنقها، أما من قبل، فقد حال بينها وبين ما تشتهيه الطمع البغيض.
وفي الصباح، فاق مجبرًا على أزيز هاتفه المحمول، تجاهله للمرة الأولى والثانية ومع المحاولة الثالثة أجاب مرغمًا في نبرة ناعسة :
-(( غفران!!.. متصلة بدري ليه كده ؟! )) …
أبعد الهاتف عن أذنه ينظر في ساعته، قبل أن يردف مستطردًا سؤاله المستنكر :
-(( الساعة لسه ٦ ونص!.. حصل حاجة ولا إيه؟! ))..
جاءته حمحمتها من الطرف الآخر قائلة في تردد :
-(( كنت طلبت مني أبلغك بأي جديد يخص حالة رنا ))..
اعتدل في نومته ورغمًا عنه ودون إيجاد تفسير واضح، شعر بخفقاته تضرب في عنف مترقبًا القادم، بينما أردفت هي تقول جملةً واحدة قبل تنفسها الصعداء كأنها تُلقي بحملها الثقيل :
-(( حكم الإعدام أتنفذ الفجر.. البقاء لله )).

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية في لهيبك احترق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى