رواية شهادة قيد الفصل الخامس 5 بقلم دودو محمد
رواية شهادة قيد الجزء الخامس
رواية شهادة قيد البارت الخامس
رواية شهادة قيد الحلقة الخامسة
في تلك اللحظة، شعر مهران كأن الزمن قد توقف. كانت مشاعره تتدفق بحرارة أكثر من أي وقت مضى، مثل نهر ينساب بين صخور الجبال في قلب الصحراء. استشعر تأثير كل كلمة تنطق بها ذات، وكأنهما يشاركان في رقصة مبهجة من المشاعر المتضاربة، حيث كانت نظراتها تلمع كنجوم مضيئة في ليل عاصف. تعالت أنفاسه، اقترب منها أكثر ومال برأسه نحوها، عاقدًا العزم على تقبيلها، وكان ملمس شفتيه دافئًا يعبر عن شغفه ورفضه في آن واحد، كما لو كانت مواجهة لعاصفة غير متوقعة من العواطف.
لكنه فجأة توقف، نظر إليها بضيق وسأل:
“انتي شاربه؟”.
كانت تلك الكلمات تخرج من فمه وكأنها تنفض غبار لحظة التوتر الرومانسي التي خيمت عليهما.
أومأت برأسها مؤيدة، وأجابت بابتسامة بريئة كبراءة الطفولة:
“اممم… شوية صغيرين، خااالص، ازازه واحدة بس”.
حاولت أن تجعل موقفها يبدو عاديًا، لكن تعبير وجه مهران تغير، وتملكته مشاعر مختلطة من الغضب والدفاع عن نفسه، كما لو كان يواجه مشكلة أكبر من مجرد زجاجة شراب.
دفعها بعيدًا عنه بقوة، يغمره الغضب، وتحدث بنبرة حادة تحمل في طياتها قلقًا عميقًا:
“ازازة خمره بقت شوية صغيرين، انتي أيه يا شيخه، جبتي منين القرف ده؟”.
تأرجحت بجسدها في حالة من السكر، وضحكاتها تعالت وهي تقول:
“معايا اتنين تاني في الشنطة، تحب تجربه؟ مش هتندم، هتخلينا احنا الاتنين طايرين فوق السحااااب”.
كان في نبرة صوتها مزيج من التحدي والمرح، ولكن تلك الكلمات كانت بمثابة رصاصة في صدره، أقنعته بأنه لا يمكن أن يسمح لهذا السلوك أن يستمر.
وصل غضبه إلى ذروته، أمسكها من ذراعها بقوة، وتحرك باتجاه الباب، مخرجًا إياها من غرفته كما لو كان يحمل عبء العالم على كتفيه. بحث عما تبقى من حقيبة يدها حتى عثر عليها متعلقة على الأريكة، بجوارها زجاجة الخمر الفارغة، لكن ذات شعرت بالسخرية من الموقف وتذكرت كيف أن هذا المكان أصبح سجنًا لعالمها المتمرد.
اتجه مهران نحو الأريكة، أمسك بالحقيبه، وأخرج الزجاجتين الأخريين وذهب إلى المطبخ ليصب محتوياته في الحوض، وكأن تلك الأفعال تمثل تحرره من قيد لم يكن يدركه.
تحركت خلفه بسرعة محاولةً منعه، لكنها شعرت بضعف ارادتها أمام قوته، دفعها بقوة فسقطت على الأرض وأكمل ما كان يفعله دون أي تردد. انفجرت غاضبة:
“انت بتعمل ايه يا حيوان؟ مفكر علشان قاعدة عندك هتتحكم فيا؟ فوق، مش ذات الزويدي هيتحكم فيها واحد زيك، أنا ماشيه!”.
نهضت سريعًا من على الأرض وخرجت من المطبخ، أخذت حقيبة يدها واندفعت نحو الباب، لكن يد مهران كانت أسرع، حيث أمسك بها بقوة بين ذراعيه وأدخلها إلى إحدى الغرف. أغلق الباب بسرعة خلفه وتحدث بغضب مخلوط بالقلق:
“وريني بقي هتخرجي ازاى. القرف ده هتبطلي تشربيه برضاكي أو غصب عنك. ومدام هتعيشي معايا في شقة واحدة، يبقي تمشي على أوامري أنا، وزي ما أقولك يتنفذ، فاهمه؟”.
استمرت في الطرق على الباب من الداخل، مفعمة بالغضب:
“افتح الباب ده يا حيوان، أنا هوريك وهقول إنك خطفتني، افتح الباب ده بقولك!”.
أحست أن هناك شيء أكبر من مجرد حديث ويريد التحرر من القيود التي يفرضها عليها.
نظر إلى الباب نظرة مطولة، تنهد بارتياح لأنه لم يفعل شيئًا كان سيخسر به الكثير من كرامته. تحرك إلى غرفته، أغلق الباب خلفه، ارتدي ملابسه وتمدد على سريره، وأخذ ينظر إلى خزانة ملابسه متذكرًا تلك اللحظات حين كانت ذات في أحضانه، ومحاولته لتقبيلها، لكنه شعر بالقلق يتراءى أمامه. تذكر تلك المشاعر التي كانت تتصاعد في ذلك الوقت، تنفس بعمق وضغط الوسادة على وجهه، محدثًا نفسه:
“بلاش جنان يا مهران، مينفعش اللى بتفكر فيه ده. البنت جايه ليك علشان تحميها من تحرش ابن عمها وأفعاله القذرة، تقوم أنت تعمل كده وتستغل الوضع؟ فوق يا مهران، وشيل التفكير الساذج ده من دماغك”.
ثم وضع الوسادة بجواره وأغلق عينيه، محاولًا النوم، لكن كلما حاول، تذكّر ما حدث بينه وبين ذات. زفر بضيق، نهض من سريره وخرج إلى الشرفة، يستنشق بعض الهواء ليخفف من ضغط صدره، لكنه تفاجأ برؤية ذات تحاول الهروب من الشرفة في غرفتها، وكأنها تحاول الهروب من سجن داخلي. اتسعت عيناه بصدمة، وركض بسرعة نحو الغرفة، أمسك بها في اللحظة الأخيرة قبل أن تتسلق الجدار.
بغضب قائلًا:
“انتي مجنونة، أيه اللى بتعمليه ده؟ افرضي كانت رجلك فلتت ووقعتي من هنا، كانت هتتكسر رقبتك. احنا في الدور السابع يا متخلفة!”.
استمرت في دفعه بعيدًا، وهو ما زال ممسكًا بها، وتحدثت بغضب شديد:
“ابعد عني، أنا بكرهك، زيك زيهم كلكم زي بعض!”.
لم يستطع تركها وحدها في الغرفة، تحرك بها إلى غرفته وأغلق الباب بإحكام، ثم أنزلها على الأرض وجلس على الأريكة، نظر إليها بتحذير قائلاً:
“الشويتين اللى بتعمليهم دول مش هيمشوا معايا. انتي اللى طلبتي تيجي تعيشي معايا، يعني وجودك هنا برضاكي. وعلشان تعيشي هنا معايا، يبقى تعيشي بطريقتى أنا. يعني السهر بره والشرب وطريقة اللبس دي مش هتمشي معايا، ومش هقبل بي. وعلشان أنا اللى مسؤول عن حمايتك دلوقتي، يبقى هتنفذي اللى أقولك عليه بالحرف الواحد، فاهمه؟”.
أمسكت برأسها بألم، وقالت بترجي:
“طيب، انزل اشتري لي ازازتين بدل اللى انت رميتها، بترجاك، دماغي هتفرتك والله”.
حرك رأسه بالرفض قائلاً:
“قولت لا، مافيش شرب تاني. اتفضلي، نامي يلا، الوقت اتأخر”.
اقترضت الأمل من عينيه وهي تقترب منه حتى التصقت به، وقالت:
“طيب، أنا عارفة إنك هتموت عليا ومش عارف تنام من كتر التفكير. هات لي ازازة واحدة بس، وأنا هعملك كل اللى بتتخيله ونفسك فيه”.
أغلق عينيه حتى يهدأ قليلاً، وضغط على أسنانه بغضب مختلط بالخوف:
“روحي نامي يا ذات، متحاوليش، لأني مش هجبلك القرف ده تشربيه”.
نظرت له بضيق وتمددت على السرير، غاضبة:
“أنا من بكرة هشوف شقة ليّا لوحدي، ولا الحوجه لواحد زيك”.
ارتسمت ابتسامة على ثغره، وتحدث بنبرة جادة تحملها كتحذير:
“تصبحي على خير”.
ثم تمددت على الأريكة، وظل نظره معلقًا إلى الأعلى، لكنه شعر بضيق من كثرة حركة ذات في فراشها. تكلم بغضب:
“ما تنامي بقي وكفاية حركه كتير”.
دقائق معدودة، وكان كل واحد منهما مستسلمًا لنوم عميق، حيث كانت الأحلام تتداخل بين كوابيس الخوف من الآخر وذكريات اللحظات التي كانت تؤجج قلوبهم بشغف.
««««««««««««««»»»»»»»»»»»»
في صباح يوم جديد، تململت ذات على فراشها بتكاسل، حيث شعرت بخدرٍ تغلغل في جسدها. وضعت يدها على رأسها، لتشعر بألم شديد كان ينعكس كأنما يقرع جدران ذهنها، وبصعوبة فتحت عينيها لتجد نفسها محاطة بأثاث الغرفة البسيط الذي يعكس حياة منضبطة ولكن رتيبة. سرعان ما تذكرت الأحداث المرتبكة التي وقعت بالأمس، والتي كانت محملة بالتوتر والقلق، فجلست منتفضة وجعلت قلبها يخفق بشدة، وبسرعة نظرت إلى الأريكة القريبة، لتراها فارغة، مما زاد من شعورها بالوحدة. بنظرات متسائلة ومتوترة، نهضت واستدارت نحو الباب بحذر، تبحث في المكان عن مهران، لكنها لم تجد له أثر، وكأنما تبخر في عوالم بعيدة.
قرر قلبها أن يرافق عينيها في البحث وأن تتوجه نحو المرحاض، حيث نزعت ملابسها القديمة، تلك التي كانت تحمل رائحة البارحة، وأخذت حماماً دافئاً لعله يمنحها بعض الاسترخاء، ويغسل معها الذكريات القاسية. تدفقت المياه حولها كما لو كانت تتخلص من ثقل الأيام الماضية، وبعد عدة دقائق، أغلقت المياه، وارتدت برنس الاستحمام الناعم، ثم خرجت لتجد مهران قد عاد من الخارج.
كان في يده الحقائب الثقيلة التي كانت محملة بالأغراض الضرورية، اقتربت منه وأخذت الحقائب التي كان يحملها، تفحصت محتوياتها بشغف وكأنما تريد أن تجد فيها بقايا من الأمل، قائلة:
“كويس إنك جبت أكل، أحسن أنا هموت من الجوع”.
في تلك اللحظة، انتبهت لتغير تعبير وجهه، والذي كان يعكس قلقاً عميقاً، كأنه يحمل همومًا لا تستطيع أن تحيط بها.
تجمد مهران في مكانه عندما رآها بهذا المظهر المرهق، وكانت أنفاسه تتعالي بصعوبة، بينما أفصح بصوتٍ منخفض، كأنه يخشى أن يوقظ شيئاً من الماضي:
“إيه اللي انتي عملاه في نفسك ده؟ ادخلي والبسي هدومك بسرعة”.
كانت كلماته كالسهم، تخترق سكون الغرفة، لكنها لم تستطع إلا أن تشعر بشيء من القلق والرهبة، مما يجعلها تتسائل عن طبيعة الموقف الذي تمر به وما هو الطريق الذي ينبغي أن تتبعه بعد الآن.
جلست على الأريكة، وحركت رأسها في رفض، قائلة:
“لا، لما أكل الأول. بقولك هموت من الجوع”.
كان صوتها يحمل نبرة مرحة.
تحدث بنفاد صبر، وهو ينظر إلى جسدها العاري:
“يا بنتي، هو فيه حد مسلطك عليا؟ ولا مش شيفاني راجل قدامك؟ قومي، انفدي بجلدك! أنا بحارب نفسي دلوقتي، والنفس إمارة بالسوء”.
كانت كلماته تتدفق كالسيل، فقد كان يشعر بالقلق الجاد، وكأن قوة ما تحبسها هنا، وتدفعه إلى التفكير في أبعاد جديدة لم يكن مستعدًا لها بعد. تلك الهمسات السريعة تصدر من أعماق قلبه، وكان عليه أن يفرض السيطرة على مشاعره المتفجرة.
نهضت من على الأريكة، وأخذت تلعب معه قليلاً، إذ حركت يدها على صدره هامسة:
“فشر، ده انت راجل وسيد الرجالة كمان، هو أنا إيه مجنني غير رجولتك دي؟”.
كانت تحاول تخفيف التوتر بنوع من المرح والدعابة، لكن ثقتها كانت مركبة على زر الحذر. الابتسامة التي ارتسمت على شفتيها كانت مرآة لمشاعر مختلطة؛ الخوف، الهزيمة، والرغبة بالتحدي.
أغلق عينيه وتكلم، وهو يلهث بشدة نتيجة لعواصف مشاعره:
“اختفي من قصادي حالاً، يا ذات، سمعتي؟ قلت إيه؟ ادخلي أوضتك بسرعة”.
لم يكن بوسعه أن ينكر تأثيرها عليه، لكنه كان يشعر بأن الوضع تجاوز الحدود، وأن استسلامه لمشاعره قد يكون بداية لفوضى أكبر. كان من السهل الاستسلام للإغراء، لكن الشجاعة تتطلب أكثر من مجرد عواطف مأخوذة.
شعرت بخطورة الموقف، فانتقلت مسرعة إلى غرفتها، وأغلقت الباب بإحكام. كان ذاك القرار ذا معنى كبير، وكأن القفل الذي وضعته بينهما كان يتجاوز مجرد حماية جسدها، بل كان يقصد حماية قلبها من الانجرار وراء عواطف غير متوقعة. جلس مهران على الأريكة بانفاس لاهثة، محاولاً تهدئة نفسه، متحدثاً إلى ذاته:
“البت دي قعدتها هنا خطر علينا احنا الاتنين، لازم أفكر وأشوف طريقة تانيه لحمايتها وهي بعيد”.
وبعد فترة من الزمن، عندما هدأ قليلاً، اتجه إلى باب غرفتها وطرقه، قائلاً بصوت جاد:
“لو لبستي هدومك، تعالي يلا عشان تاكلي”.
كان صوته يمزج بين الحزم والحنان، وكأن كل كلمة تمثل جسرًا بينه وبين التردد الذي يعصف به.
ردت عليه من خلف الباب:
“بس أنا معنديش هدوم نضيفة ألبسها”.
تمتمت بكلماتها ببطء، إذ كانت تعرف أن غياب الملابس النظيفة كان يعكس أكثر من مجرد مشكلة بسيطة؛ كان يرمز إلى وقت طويل من التجاهل للفطرة البشرية، وقت احتاجت فيه للاهتمام والعناية.
أغلق عينيه بنفاد صبر، وصرخ بغضب: “أياكي تخرجي من الأوضة، فاهمة؟ هروح اشتري ليكي هدوم بسرعة وجاي”.
كان القرار أن يخرج في لحظة من التوتر المشتعل في داخله، لكنه في نفس الوقت كان يشعر بالألم والقلق على حالتها، وانزلق نحو الباب ليذهب لشراء الملابس التي تحتاجها، عازمًا أنه لن يسمح لتلك اللحظة بالتحكم فيهما أكثر.
جلست ذات على حافة السرير، تنظر أمامها لتتذكر لحظاتها القريبة من مهران، الشاب الذي أسرت مشاعره قلبها. حركت يدها برفق على شفتيها، ثم رسمت ابتسامة خفيفة، كأنها تتذكر أول مرة التقت به وكم كانت مشاعرها متضاربة حينها. كانت تعلم جيداً أنه يمثل لها الحماية والنجاة، فبوجوده تشعر بالأمان، لا سيما أنه يعتبر رمزاً للرجل القوي الذي يمكن الاعتماد عليه. كانت تراه في عينيه تعبيرات لم تشعر بها من قبل، ومع ذلك، لم يتجرأ يوماً على الاقتراب منها رغم قربها المستمر له، وكأن هناك جداراً غير مرئي يمنعه من أخذ خطوة نحو علاقة أعمق.
ثم نهضت ووقفت أمام المرآة، تتأمل انعكاسها، وتتذكر أفعالها الشنعاء وطريقة حياتها التي لم تعد ترضيها.
“كيف كنت أعيش بتلك الطريقة؟” تساءلت في نفسها. كان تمردها على عمها وعائلته بمثابة تحدٍ استمر لسنوات، لكنها أدركت أخيراً أنها كانت تستخدم ذلك التمرد كستار لإخفاء خيبة أملها في نفسها. لم يكن الأمر يتعلق بسعيها للحصول على الحرية فقط، بل كان بحثًا عن هويتها الشخصية التي ضاعت في خضم صراعاتها اليومية.
في لحظة من الهدوء، توقفت لتفكر في ذلك، مستفسرة عن سبب هذا التغير المفاجئ في مشاعرها، ولماذا تشعر الآن بالحاجة الملحة للقيام بشيء كهذا. أغلقت عينيها لفترة، محاولة أن تبعد نظرها عن أفكارها المشتتة، لكن لا أحد يستطيع إيقاف العقل في حديثه، الذي كان يهمس لها: “سأتغير من أجله، من أجله هو فقط”.
فتحت عينيها بسرعة، ناظرة إلى انعكاسها في صدمة، قائلة بدهشة:
“إيه اللي أنا بفكر فيه ده؟ هو أنا مجنونة؟ مستحيل طبعاً! امتى حصل ده؟ أنا لسه متعرفه عليه من أقل من شهر، مين ده اللي بفكر فيه وحابة اتغير علشانه؟ مش معقول، أنا لحد دلوقتي مش عارفة اسم عيلته إيه حتى. أكيد وراه غموض كبير، وده اللي بيجذبني ليه، ولا أنا بس بدور عن شيء مفقود في حياتي عنده؟”.
ثم تكلمت بضيق، وهي تمسح خلف رأسها بيدها:
“يووووه، شكل الخمرة لحست دماغي، أكيد كل ده تأثيرها”.
ضحكت بصوت منخفض، محاولة أن تلهي نفسها عن الأفكار المزعجة التي بدأت تتكون في ذهنها.
وفي تلك اللحظة، سُمعت طرقات على الباب، فتوجهت نحوه ببطء، وهي تتساءل عما يمكن أن يحدث الآن. وقفت خلف الباب، قائلة: “أفتتح؟”.
أجاب بنبرة جادة، تحمل نوعًا من الحزم: “افتحي”.
فتحت الباب بحذر، ووجدته ينظر في الاتجاه الآخر، ويسلمها الحقائب الثقيلة التي كان يحملها. قائلاً بثقة:
“خدي، جبتلك كذا طقم بكل مستلزماته لحد ما تبقي تنزلي تشتري اللي عايزاه”.
كانت لهجته تعبر عن الجدية والاهتمام.
أخذتهم منه، وشعرت بالامتنان يغمرها، فقالت باندفاع:
“ش ش شكراً، ثواني وهكون جاهزة”.
كانت هذه اللحظة نقطة تحول بالنسبة لها، حيث شعرت برغبة جديدة في الحياة، يمكن أن تكون بداية مغامرة مختلفة تمامًا.
أنهت كلامها وأغلقت الباب بسرعة، وهي تشعر بشيء من الحماسة يتجول في داخلها. ابتسمت بسعادة وتوجهت نحو السرير، حيث وضعت الحقائب بحذر كما لو كانت تحمل كنزًا ثمينًا. بدأت تعبث بمحتوياتها، وهي تنظر إليهم بإعجاب وكأنها تكتشف شيئًا جديدًا كل لحظة. على الرغم من أن الملابس كانت مغلقة ومحترمه، إلا أنها شعرت بشعور قوي من الانجذاب إليهم، مما جعلها تتوق للتغيير والتجديد. أخذت طقمًا، وبدأت في تجربة فستان أسود رائع مزينًا بالورود، كان ضيقًا عند الصدر لكنه يتسع برشاقة عند الأسفل، بل أضفى طوله وأكمامه المنفوخة لمسة عصرية من الأناقة، مما منحها مظهرًا جذابًا وأميريًا في الوقت ذاته.
زادت من جمالها بلمسة فنية بعد أن مشطت شعرها بكثافة، ورفعته إلى الأعلى بطريقة أنيقة تجعلها تبدو كأنها خرجت من قصص الجنيات. شعرت بالرضا عن مظهرها الجديد، وكأن انعكاسها في المرآة هو تجسيد لمشاعرها الداخلية. قبل أن تخرج، أشعرت برغبة في إضافة لمسة أخيرة، فنثرت عطرًا برائحة مميزة، كان مفضلًا لديها ومن مشترياتها الخاصة، والتي اشتراها لها مهران كهدية تعكس اهتمامه بها.
خرجت من الغرفة بتردد خفيف، لتجده يجلس على الأريكة في وضع مريح، يعكس البرود الذي يتخلص منه أمام الجمال الذي يقابله. عندما رآها بهذه الطلة الجديدة، انتبه بشكل رهيب لعذوبة ملامحها، وكأنها تجسد الجمال بأسلوب خاص. انبهر بنضجها، ونظر إليها بإعجاب عميق، مما جعله يبتلع ريقه بصعوبة ويشعر بتوتر غير معتاد. تحدث بتلعثم:
“إنتي أزاي حلوة أوي كده؟”
كانت عبارته أقرب إلى اعتراف سري عن مدى تأثير وجودها عليه.
ابتسمت له برقة، وكأنها تتلاعب بكلماته، قائلة باستغراب:
“غريبة، مهران باشا بنفسه بيبدى إعجابه بيّا مرة واحدة؟! ده أنا هتغرى كده”.
كانت نظرتها مليئة بالفكاهة، لكنها أيضًا تعكس رغبة في معرفة شعوره الحقيقي، وكأنها تدعوه للاعتراف به بطريقة أكثر جرأة.
تحرك نحوها كما لو كان آلة تتحرك دون إرادة منه، وكأن الخيوط الخفيه تتحكم في كل خطوة يتخذها. وقف أمامها، وحرك يده برقة على وجنتها، مستشعرًا نعومة بشرتها وكأنها حرير، وتكلم بصوت همس يملؤه الإعجاب:
“إنتي فعلاً جميلة أوي، بس لما بتبقي مطيعة وكيوت، أما لما بتقلبي لشرسة وجريئة، ببقى عايز أقتلك على اللي بتعمليه فيا في الوقت ده”.
كلماته كانت مزيجًا من الانبهار والقلق، كما لو أنه يخشى أن تنفلت منه هذه اللحظة المثالية.
ارتسمت ابتسامة رقيقة على وجهها، وكأنها كانت قادرة على قراءة مشاعره، نظرت له باستغراب، قائلة:
“أنت غريب أوي النهاردة يا مهورتي، مين لعب في الإعدادات دلوقتي؟”.
مع كل كلمة خرجت من فمها، كانت هناك لمسة من المرح والدهشة، كما لو أنها تستمتع بهذه اللعبة الجديدة التي يلعبونها معًا.
ابتسم على كلماتها، وقال بمزاح، وهو يشعر بالارتياح رغم توتره:
“أن جيتي للحق، الإعدادات بتاعتك هي اللي عايزة إعادة ضبط مصنع، يا بنتي، ده أنا راجل وبتكسف عنك والله”.
كانت هذه الكلمات تحمل في طياتها مزيجًا من البراءة والمشاعر المتضاربة، وأظهر فيها مدى رغبته في التفاهم والاقتراب منها رغم كل شيء.
تعالت ضحكاتها على كلماته، وكأنها كانت بحاجة إلى هذه اللمحة من الإنصاف والمرح في خضم الجدال الذي بدأ بينهم. فقد ابتعدت عنه قائلة:
“الكلام معلهوش جمرك يا مهورتي”.
كانت ضحكتها كالعطر، تنشر روحًا من الحياة والبهجة حوله.
ثم جلست على الأريكة، وأخذت نفسًا عميقًا، وأضافت:
“أنا جعااانة أوي على فكرة”.
كان هناك شيء في نبرة صوتها يدل على طلب براءة وشفافية، كما لو أنها تشير إلى علاقة يمكن أن تنمو بينهم.
حرك رأسه بنفاد صبر وجلس بجوارها، وأخذ الطعام من الحقائب المتواجدة بجوارهما. بينما بدأوا يتناولون الطعام في صمت تام، كانت الأفكار تدور في رأسه. وكل قضمة من الطعام كانت تذكّره بكيف يمكن لتلك اللحظات البسيطة أن تكون عظيمة، وأن تيسير الأمور اللطيفة يمكن أن يشكل نوعًا من الحب المتبادل بينهما، حتى لو كان في إطار مزاح.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»
في فيلا عائلة سليم الزويدي، كانت الأجواء مشتعلة، وكأن الصراع يمتزج بالهواء. وقف يزيد، وجهه مشحون بالغضب، وعيناه تشعان بالتحدي، متحدثًا بصوت متوعد:
“هو مفكرنا ايه؟ بقرون، ياخد مننا البت بسهولة! وقال ايه متجوزين، إزاي دخلت عليك يا بابا؟ واضح أوي إنهم كذابين، والله أعلم إيه اللي بيحصل بينهم دلوقتي! البت دي ف**را، وأنا مستحيل أقبل بالمهزلة اللي بتحصل دي”.
نظر له آخر بتهكم، وضيق عينيه كمن يراكم في دواخله، وتحدث بعدم رضا:
“والنبي يا أخويا، اتنيل على خيبتك، مش لما تبقى راجل تبقى تتكلم. ملاقتش غير بت عمك تعمل معاها كده؟ ما عندك البنات الشمال برة، على قفا من يشيل. اهي طفشتها منك، والشركة والفلوس كلها راحت مننا لواحد زي ده. خلى نجستك تنفعك بقي”.
اعترضت هالة بوجه متجهم، يمتد الغضب عبر ملامحها، وقالت بحازمية:
“الله، هو انت جاي على الولد كده ليه؟ ما تروح شوف بنت أخوك الأول، ما هي لو كانت محترمة مكانش ابنك فكر يعمل كده. ولو أن أشك ابني يقرب من واحدة زي دي”.
رد يزيد بغضب أكبر، مثل ثور هائج:
“البت دي لازم تبقى مراتى على آخر الأسبوع ده! وديني ما أنا رحمها، هخليها تتنازل عن كل حاجة، وبعد كده هعرف أربيها من أول وجديد”.
أطلق الآخر تنهيدة متضايقة، وتكلم بتهكم:
“اهي عندك يا سيد الرجالة، شوف هتعرف تجيبها إزاي منه. بس لعلمك، مهران الشرنوبي ده من أكفأ الحراس الشخصية، مغلطش ولا مرة في حماية العميل. وشركته من أكبر شركات الحراسة في مصر، ده غير إنه كان من أكفأ الظباط في الشرطة. والقضية اللي كان بيمسكها كانت مبتخدش في إيده غلوة. يعني خصمك مش سهل، يا حيلة أمك، اقعد كده واستهدي بالله وفكر بعقل، بدل ما تضيع نفسك وتضيعنا معاك”.
أنهى كلامه وعيناه متجهتان إلى توديعهم، وغادر البيت متوجهًا إلى الشركة. زفر يزيد بإنفعال وهو ينظر إلى والدته، يُظهر قلقه: “ها وبعدين يا ماما، إيه العمل، فين خططك؟”.
نظرت والدته أمامها بابتسامة شر. عابسة، وقالت:
“هقولك يا قلب أمك، تعمل إيه، اقعد كده واسمعني على رواقه”.
نظر إلى والدته باهتمام ملحوظ، وبدأ يستمع إلى كلماتها، وكأن الكلمات تتجسد أمامه كلوحة مليئة بالتفاصيل والألوان.
««««««««««««««»»»»»»»»»»»
وصل مهران إلى الشركة بالسيارة، وعندما توقف، نظر إلى ذات بجواره بحذر. لقد كانت اللحظات تتسارع بشكل لا يمكن تصوره، وكان يعبر عن قلقه قائلاً:
“ذات، مش عايز أي تهور منك، وبلاش تستفزي عمك خالص دلوقتي لأنه قنبلة موقوتة، وممكن تنفجر في أي لحظة. سبيني الأول أجهز نفسي علشان أقدر أوجه وأحميكي.”
كانت نبرته جادة، مما جعلها تشعر بالضغط. أومأت برأسها بتفهم، وأجابته:
“حاضر، أنا أصلاً مش هكلمه خالص. هقعد في مكتبي لحد ما أخلص اللي ورايا، وبعد كده نروح.”
كانت عازمة على العمل والإنتاج، لكنها كانت تعرف تماماً أن الأجواء من حولهم مشحونة، وأن الأولوية هي البقاء بعيدة عن الأنظار. تنحنح بشيء من الإحراج، ثم تحدث موضحاً:
“إحنا مش هنروح عندي.”
كان لقراره وقع غير متوقع، مما جعلها تتجمد في مكانها للحظة. نظرت إليه باستغراب، فسألته:
“مش هنروح عندك! أمال هنروح فين؟!”
كانت تساؤلاتها تعكس رغبتها في الفهم والتأكد من وضعهما. أجابها بتجاوب واضح:
“هشوفلك شقة جنبّي تقعدي فيها، عشان أقدر أحميكي، وفى نفس الوقت أحمي نفسي من حاجات ممكن نعملها ونندم عليها بعدين.”
كان صوته يحمل حكمة ناتجة عن تجارب سابقة، حيث علم جيداً كم يمكن أن تكون العواطف معقدة. بدت غير راضية وقالت بصوت مخنوق:
“بس كده ممكن عمي يعرف الحقيقة، لأن أنا متأكدة أن ابنه بيراقبنا دلوقتي، ولو اتأكد إننا مش متجوزين بجد، هيجوزني ابنه، ولو ده حصل، ابنه هياخد كل حاجة مني، ومهما كانت قوتي مش هبقى قد شرهم.”
كان إحساسها بالقلق والمخاطر الحقيقة يطغى على تفكيرها، فنظرتها إلى المستقبل كانت مُعتادة على الشكوك والصراعات، حيث لم يكن هناك مجال للخطأ. هز رأسه بالرفض وتحدث بنبرة هادئة:
“متخافيش يا ذات، عيني هتبقى عليكي أربعة وعشرين ساعة، مش هسمح لحد منهم يقربوا ليكي. بس صدقيني، وجودنا إحنا الاتنين في شقة لوحدينا هيخلينا نعمل حاجات نندم عليها. أنا مش حابب أغضب ربنا ولا مشاعري تنجرف لكده.”
كانت كلماته تحمل الطمأنينة، لكن قلبه كان يتأرجح بين القلق والرغبة، حيث يدرك تماماً أن ما بينهما قد يكون ضارياً. نظرت إليه بضيغ وعبست وجهها، ثم قالت بغضب:
“براحتك! مش هبوس إيدك علشان ترضى تخليني أنول الرضا وتقعدني في بيتك. حتى مساعدتك مش عايزاها.”
كانت تحديات العلاقات تضعها في موقف صعب، فهي لا تفهم تماماً مشاعرها تجاهه، وتريد أن تبقى بعيدة عن أي شيء قد يؤدي إلى تداعيات في المستقبل. أنهت كلامها وقصدت النزول من السيارة، لكن يده أمسكت بها بسرعة وتحدث بغضب:
“استني هنا يا مجنونة! أنا مش بقولك كده علشان تقوليلي الكلمتين العبط دول. أنا بقولك كده علشان عايز أحميكي وأحمي نفسي من مشاعرنا، واللي هي مجرد شهوة مش أكتر.”
كان يتحدث وكأنه يحاول اقناع نفسه أكثر من أنها؛ غير مدرك أن كلماته قد تكون بمثابة شرارة لإشعال نار جديدة بينهما. أرسمت ابتسامة ساخرة على وجهها، وتحدثت بصوت مختنق:
“شهوة!! أممم، أنت صح، أصل أنا بحب أترمي في حضن كل راجل شوية. واحدة سكرية بقى. أنت فله، هنزل أنا، وأنت شوف موضوع الشقة ده بسرعة، علشان مش فاضية بعد الشركة. كفاية أمبارح راح عليا اليوم.”
كانت تحاول جاهدة استخدام الفكاهة كدرع يقيها جراح القلب، لكن عواطفها كانت مفعمة بالتعقيد. أنهت كلامها وترجلت من السيارة بقلب مكسور، تحاول إخفاء مشاعرها بابتسامة مصطنعة. نظر إلى أثرها بضيغ، ثم ترجل من السيارة وتحرك سريعاً خلفها. وجدها تقف أمام المصعد، فوقف بجوارها في صمت تام. وعندما انفتح الباب، دلفوا معاً إلى الداخل. نظر إليها وسأل بقلق:
“مالك؟”
ابتسمت له بمرح وقالت:
“مالي بس يا مهورتي؟ أنا بس خرمانة علشان مش شربت أمبارح زي ما متعودة، وكمان السجاير خلصت. هبعت حد يشترلي علبة.”
أغلق عينيه بضيق، وتحدث بصوت مخنوق:
“شرب تاني! أنتِ إيه يا شيخة، وبعدين ما أنتي شربتي ازازة أمبارح.”
اقتربت منه وأشارت بدعابة: “الازازة دي مجرد تسخين علشان الشغل، أما بقى الباقي لتظبيط الشغل.”
أنهت كلامها بغمزة مثيرة، وحركت يدها على جسده بجرأه اكثر بشكل لا إرادي، ثم انزلت بها إلى الأسفل. انتفض بجسده في صدمة، وأمسك يدها بغضب قائلاً:
“بتعملي إيه؟ أنتي اتجننتي؟”
تعالت ضحكاتها على ردة فعله، وفي تلك اللحظة انفتح الباب، وخرجت منه ذات. وعندما أعطته ظهرها، تبدلت ملامح وجهها من ابتسامة إلى عابس، واتجهت إلى غرفة مكتبها، دلفت إلى الداخل وأغلقت الباب خلفها. وقف مكانه في صدمة من جرأة كلماتها، وحركت يدها الغير متوقعة. بلع ريقه بصعوبة، وأخذ نفساً عميقاً ثم أخرجه بهدوء ليهدأ قليلاً، لكن انتبه لحاله وتحرك سريعاً إلى الخارج.
«««««««««««««»»»»»»»»»»
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية شهادة قيد)