رواية في لهيبك احترق الفصل السادس عشر 16 بقلم شيماء يوسف
رواية في لهيبك احترق الجزء السادس عشر
رواية في لهيبك احترق البارت السادس عشر
رواية في لهيبك احترق الحلقة السادسة عشر
يا سيِّدتي:
لا أتذكَّرُ إلا صوتُكِ
حين تدقُّ نواقيس الآحادْ.
لا أتذكرُ إلا عطرُكِ
حين أنام على ورق الأعشابْ
لا أتذكر إلا وجهُكِ
حين يهرهر فوق ثيابي الثلجُ
وأسمعُ طَقْطَقَةَ الأحطابْ.
-نزار قباني .
بأحداق هائمة وأثقال أشد وطأة على الصدر ، أنسحب من أمامها يمشى الهوينة إلى أن وصل غرفة مكتبه ، وأغلق الباب خلفه ثم أرتمى فوق أحدى المقاعد يأن بصمت ، متألما من تلك اليد الخفية المعتصرة مهجته ، ويتأوه بحسرة ، غاضباً من سذاجته فى تقدير الأمور ، وهو من ظن أن روحه أخيراً قد وجدت من تسكن إليه ، متجاهلاً كل الظروف ، العوائق ، والسدود الفاصلة بينهم ، وكم كان أحمقاً ، حين ظن أن الحياة ، قد تهبه ، فرصة أخرى للعيش ، معطياً لنفسه المساحة الكاملة فى لومها ، أينما شاء وكيفما شاء ، ثم بعدها ، مع حلول منتصف الليل تقريباً ، رفع رأسه المتعب وأنتصب فى وقفته ، متوجهاً إلى طاولة مكتبه ، يشاهد تفريغ كاميرة المراقبة ، الخاصة بالجزء الخارجى من المنزل ، متابعاً بتركيز تام وأنفاس متحشرجة ، خروجها من المنزل ، يليه ملاقاتها لذلك النذل ، ثم أقترابه منها بطريقة مثيرة للأعصاب ، فأنتفض بعنف ، يحاول السيطرة على ردات فعله ، وتمالك أعصابه ، حتى لا يعود إليها ، ويصب جام غضبه فوق رأسها ، لافتاً أنتباهه بعد دقيقة واحدة تقريباً ، كفها الذى رُفع فجأة ، ثم هوى فوق وجه غريمه ، يتبعه هرولتها نحو البوابة مرةً أخرى مختبئة داخل منزله ، مملكته ، أغمض عينيه وتنفس الصعداء ، قبل أعادته المشهد مرة بعد مرة ، يسحب نفس الحياة إلى رئتيه مع كل صفعة تهوى فوق وجه ذلك الرائف ، وكأن صفعتها تلك مطرة ، تسقط على عطش روحه وصحراء قلبه ، فيزهر شيئاً فشئ ، وبعد ساعة كاملة من المشاهدة، لم ينتبه لمرورها الا عندما أرتفع رنين هاتفه فى أتصال مترقب من تحريه الخاص ” ماكسيم” ، يخبره بنبرته العملية :
-(( مرحباً سيد طاهر ، لقد تم تنفيذ طلبك ، وبعد عدة ثوانٍ ، سيصل إليك عبر تطبيق what’s app ، سجل مكالمات السيدة رحمة ، مرفق به تسجيلات الأسبوع المنصرم إلى يومنا هذا )) ..
غمغم طاهر يشكره على عُجالة ، ويُنهى بنفاذ صبر المكالمة حتى يتسنى له سماع تسجيلاتها :
-(( تمام تمام .. شكراً ماكسيم )) ..
أستمع إلى أجابة الطرف الأخر ثم أغلق الهاتف على الفور ، يراجع أولاً قائمة السجلات بدءاً من اليوم ، جامعاً كامل شكوكه ، عند رقم وحيد غير مسجل على قائمتها ، هاتفها فى نفس التوقيت الذى تواصل معه مدير حرس المنزل ، وأخبره بما رأه ، لذا سارع متلهفاً فى تشغيل التسجيل الصوتى المدون أسفله تاريخ اليوم ، مستمعاً إلى صوتها وهى تهدده بزوجها ، ثم أبتزازه لها بشقيقها وإجبارها على مقابلته ، وقتها ألقى الهاتف من قبضته ، وأنتصب فى وقفته ، ماسحاً بقوة ، قسمات وجهه المتجهمة ، ومتمتاً بندم :
-(( عملت أيه يا طاهر .. عملـت أيـــه )) ..
فى الأعلى . حيث غرفته السابقة وخاصتها الحالية ، تابعت أختفائه من مجالها برأس مرفوع وردات فعل ثابتة ، حتى تيقنت من ذهابه ، وقتها تركت لدموعها العنان مرتمية فوق فراشها ، تخفى وجهها داخل الوسادة حتى لا يصل إليه شئً من نحيبها ، والذى بالنسبة إليها دليل ضعف ، وأبداً لن تعطيه شرف الأنتصار عليها ، ثم بعدها سحبت دفترها ، تدون بعبرات عينيها قبل عبارات قلمها ،
(( مذكرتى العزيزة :
ها أنا ذا ، أَجِد نفسى للمرة التى لا أُحصى عددُها ، موضع أتهام ، بما لم تُجنيه يداى ، وكأن أتهامى دون دليل ، هو أسهل الأمور وأبسطها ، فقط يكفى لأى فرداً كان ، أن ينصب نفسه حاكماً فوق رأسى ، ويعلن دون تمحيص فى شكل سافر جُرمى الغير مشهود ، ثم يصرخ مشيراً إلى قبحى حتى يتبعه البقية ، تماماً كالمرة السابقة ، حينما أعلننى القاضى ، سيد العدل ، والموكل به ، قاتلة ، وبالتالى ، تعامل معى الجميع بصفتى المنافية ، بدءاً من موظفى الدولة فى قطاع السجون ، نهاية إلى ساكنى العنبر ، مثيلاتى ، حيث قاموا بتنظيم حفل أستقبال فخم ، يليق بى كب .. كباغية ، أنتهى بتمزيق جميع ثيابى عن بكرة أبيها ، يبغون رؤية جسدى ، كما عرضته على الرجال من قبل ، فى الحقيقة تلك واحدة من أسوء ذكرياتى ، والتى أحاول بكل طاقتى نسيانها أو الأدق تجاهلها ، فأمثال تلك المواقف ، تخمد روحى ، وأنا أحارب جاهدة الحفاظ على الجذوة الضعيفة الباقية داخلى ، حتى لا أُظلم كلياً ، أو أصبح شبح ، يعيش بين الأحياء بلا روح )) ..
***************************************
فى الأسفل مجدداً ، وبعد أنتهاءه من لوم نفسه ، وتأنيب ضميره ، ركض كالمجذوب ، يقود سيارته بنفسه ، متوجهاً إلى عنوان غريمه ، غير عابئاً بالتوقيت ، فكل ما يشغل تفكيره فى اللحظة الحالية ، هو مدى رغبته فى رؤيته والتنفيس عن غضبه ، وبالفعل بعد خمس وأربعون دقيقه كاملة ، أستغرقها فى القيادة المتهورة ، نظراً لخلو الطريق أمامه ، كان يقف أمام شقة عدوه الحاقد ، يضرب بكفه ويركل بساقه اليمنى باب المنزل ، صارخاً بأهتياج :
-(( يا جبــان .. يــا رائـــف يا نـدل .. أفتح وواجهنى زى الرجالة )) ..
أما بداخل المنزل ، قفز رائف من فوق صاحبته الساكنة منزله وفراشه ، يرتدى ملابسه بأقصى سرعة ممكنة ، متأهباً للقاء ، قبل هرولته نحو الباب ، يستقبل طاهر بأبتسامة سمجة مستفزة وكأنه يحثه على قتله ، بينما أندفع الأخر يسحب جسده ويقبض على تلابيه ، مصوباً لكمة نحو أسنانه الظاهرة ، ثم عدة لكمات متفرقة ومتتالية فوق وجهه وعلى جميع أجزاء جسده ، صائحاً بأنفاس منقطعة :
-(( ألأ مراتى .. فاهم .. ألا مراتــى .. هقتلك وأشرب من دمك وأخلص من شرك .. لو فكرت تقرب من رحمة مش هرحمك .. هخلص عليك بدم بارد يا *** )) ..
أتسعت أبتسامة رائف يهمس كاذباً من بين شفتيه النازفة بأستفزاز صريح :
-(( مراتك هى اللى تعرفنى .. هى اللى كلمتنى .. مش ذنبى أنها مش بتحبك ومش عايزاك )) ..
قفز طاهر فوق غريمه بعدما دفعه وكومه أرضاً ثم عاد ينهل بالضرب فوق جسده دون وعى صارخاً بغضب :
-(( كدااااااب .. سمعتك وأنت بتهددها يا****** .. يا ***** .. يا****** .. والله هقتلك .. سامع هقتلك )) ..
أومأ الصريع برأسه مستسلماً بهوادة ، بعدما أعيته شدة الضربات التى تلقاها ، ثم أغمض عينيه خائر القوى نازف الجسد ، بينما زفر طاهر بقوة يعيد تنظيم أنفاسه المتسارعة بعدما أنتصب فى وقفته ، ونفض مزدرياً الدماء السائلة من فوق قبضته ، ثم ترك المكان بأكمله وأنصرف ، فى حين انتظرت رنا حتى ذهابه ثم ركضت بلهفة تُكشف عن وجودها ، كى تُنجد الملقى أرضاً وتساعده على النهوض ، وتضميد جراحه المؤلمة ، قائلة هى الأخرى بنبرة شديدة اللهجة :
-(( يعنى اللى شاغل عقلك بيها فى الأخير طلعت مرات طاهر أبن عم طليقى )) ..
توقفت عن الحديث لثانية تمسح الدماء من فوق وجهه بالمطهر، ثم أستطردت محذرة :
-(( انا قلتلك يا رائف ومش هكررها .. لو شميت خبر أنك حاولت تقرب منها .. ساعتها هريح نفسى ونفسك منها )) ..
رفعت ذراعها الخالى تزيح ياقة سترتها بأنامل مرتعشة ، وتشير إلى أثار قربه والكدمة الزرقاء المغطية عنقها بأكمله ثم أردفت تضيف بحسرة :
-(( مش مستحمله منك كل ده عشان تشاركنى واحدة فيك .. مش هسمحلك !! )) ..
*************************************
وبعد عودته دلف بخطوات مرهقة غرفته المشتركة معها والمؤدية إليها مبتسماً ومفكراً بسخرية ، أن كل طرقه أصبحت تؤدى إليها وليس فقط غرفته ، ثم أستحم وبدل ثيابه بأخرى بيتية مريحة بعدما زال جزءاً كبير من غضبه بعد تلك المواجهة ، أو تحديداً منذ رأها تقف شامخة تدافع عن نفسها كعادتها ، نعم تلك هى شيمتها المهلكة أمام الجميع حتى معه ، أمرأة بطابع خطير ، تجمع بين اللين والشدة ، والغضب والهدوء ، القسوة والطيبة ، وعندما تقف أمامه تكن صلبة ، شامخة ، معتزة بنفسها ، ثم يراها تضحك وتبتسم مع غيره من النساء ، فتصيبه عقله قبل قلبه بالأرتباك ، الحيرة والعجز ، وما بين ذلك وذاك ، أضحى وأمسى لا يملك سوى الأعتراف بغزوها له بالرقة تارة وبالنعومة تارة ، وبالتحدى تارةً أخيرة حتى باتت بالأفعال قبل الأقوال سلطانة القلب ومالكته ، أتسعت أبتسامته المعجبة وهو يقف أمام فراشه معلقاً نظراته بباها المغلق فى وجهه وقد تحولت إلى أبتسامة أشتياق ، يليها أخرى عابثة ، قبل سيره فى أتجاهها وأقتحامه لها ، مقرراً العودة والأستقرار فى غرفته السابقة ، كاتماً قهقهته التى تهدد بفضح وجوده وهو يتخيل رد فعلها عندما تكتشف ما أنتواه ، أما عنها هى رحمة ، فقد كانت غارقة فى ثُباتها ، حتى أنها للوهلة الأولى ، ظنت أن تلك اليد المحاصرة خصرها ليس سوى حلم صيفى ناعم ، أ وأمل ضائع فى الأمان ، ورغم ذلك كعادة أكتسبتها منذ أيام الحبس ، فتحت عينيها وأستدارت تتأكد من عبير عطره الذى أخترق حاسة شمها ، متفاجئة به يستلقى حقاً بجوارها ، ويده الخشنة تحاوط خصرها بأريحية شديدة ، بينما حدقتيه مسلطة فوقها بنظرة لم تفهمها ، فسارعت تقفز مبتعدة عن الفراش ، فى حين أعتدل هو فى نومته من بعدها ، مضيقاً عينيه فوقها وهى تغمغم متسائلة فى مزيج من الغضب والأرتباك :
-(( أنت بتعمل أيه هنا ؟! )) .
أجابها ببساطة مستمتعاً برد فعلها الطفولى :
-(( هنام )) ..
هتفت معترض بحنق وحروف متعلثمة كعادتها عند التوتر :
-(( ن.. نعـــم .. أز .. أزاى يعنى !! أستحا..لة تنـام هننا )) ..
رد بلا مبالاة :
-(( ليه استحالة .. أوضتى وحبيت أرجعلها .. مفيش حاجة مستحيلة هنا )) ..
أندفعت تقاطعه بضيق واضح :
-(( تمام مادام أوضتك هروح أنا أنام فى أوضة تانية .. وخليك فاكر .. قدامك يومين وتكون ورقتى عندى )) ..
قفز من جلسته متجاهلاً عن عمد جملتها الأخيرة ، قاطعاً الطريق أمامها بجسده وهاتفاً بحزم :
-(( مفيش خروج من الأوضة )) ..
شكبت ذراعيها أمامه قائلة بتحدى واضح :
-(( هخرج ومش هتقدر تمنعنى .. وأنسى أنى أنام معاك فى أوضة واحدة .. لأنك بالنسبالى مش أكتر من واحد غريب )) ..
أرتفعت زواية حاجبه بالتزامن مع مثيلتها عند ثغره مردداً بتهكم ومقلداً نبرتها :
-(( أنسى أنى أنام معاك فى أوضة واحدة )) ..
فتحت فمها منتوية أجابته بتعليق لاذع ثم عادت وأغلقته متراجعة ، عندما رأته ينحنى بجزعه نحوها ، قبل حمله لها من خصرها فى حركة مباغتة لم تتوقعها ، ثم ألقائها فوق الفراش محكماً حصار ذراعيه لجسدها ، ومتجاهلاً صرخاتها المحتجة بغضب شديد تطالبه بالأبتعاد عنها وإفلاتها ، إلى أن سكنت بعدما شعرت بأختناق رئتيها دلالة على أقتراب نوبة صدرية جديدة ، تنتوى العودة ومقاومته بعد مرورها بسلام ، مستغلاً هو ضعف مقاومتها فى أحتضان جسدها بين ذراعيه ، ومستسلماً فى نوم هادئ بعدما غفت هى الاخرى بين يديه .
*****************************************
فى صباح اليوم التالى ، صف جواد سيارته بجوار أحد الأرصفة القريبة من موقع الإنشاءات ، ثم سحب هاتفه من المقعد المجاور له ، ينظر فى ساعته ويتأكد من عدم ورود أية رسائل نصية جديدة تخصها أو تخص العمل ، قبل ترجله من السيارة ، ينظر حوله فى الأركان بحثاً عنها ، حيث أخبرته البارحة بعد أن أقلها إلى منزلها عن نيتها فى العودة صباح الغد لمتابعة سير العمل ، غير عابئة بطلبه فى المكوث داخل المنزل حتى تتحسن حالتها الصحية ، مؤكداً المعلومة حارس الموقع عندما هاتفه منذ قليل ثم أخبره عن حضورها تنفيذا لوصيته ، يمشط المكان من حوله ، إلى أن رأها تجلس فوق احد المقاعد الخشبية البسيطة ، تتابع بهدوء صخب العمال وحركتهم المستمرة أمامها ، وقتها سار متوجهاً إليها ، هاتفاً بحنق بعد وصوله :
-(( أيه اللى جابك ؟؟! .. مش أنتى اللى كانت روحك بتطلع إمبارح ولا تهيأت )) ..
أجفل جسدها أولاً فزعة من صوته وزيارته الغير متوقعة ، ثم قفزت من بعدها تقف قبالته وتجيبه بسخرية :
-(( مانا قلتلك بتحول بسرعة بس أنت اللى مصدقتنيش المرة اللى فاتت ))
ضيق حدقتيه فوقها يتفحصها لعدة ثوانِ ، ثم بعدها قال مقراً على مضض :
-(( عندك حق دلوقتى صدقتك .. لأن أستحالة الأنسانة اللى كانت روحها بتروح إمبارح ووشها مخطوف .. تقف قدامى النهاردة ولا كأن حاجة حصلت )) ..
أنتفخت أوداجها ، وأرتفع أنفها مع جبهتها بشموخ ثم قالت معقبة بمزاح :
-(( عشان تعرف بس أن عندى قدرات خاصة )) ..
مط جواد شفتيه بأستغراب ثم هتف يسألها بفضول :
-(( وقدراتك الخاصة دى .. قالتلك تعملى أيه ولا لسة على موقفك )) ..
تهدلت أكتافها وخبت مرح حدقتيها ثم أجابته هامسة بنبرة مترددة رغم حسم كلماتها :
-(( أبنى محدش هيربيه غيرى .. ولوحدى .. ده قرارى الأخير )) ..
صاح معنفاً بضيق :
-(( أنتى مجنونة !! .. أستحالة تخبى طفل كامل عن والده طول حياته !! .. أنتى بتفكرى أزاى )) ..
هتفت هى الأخرى معترضة بأمتعاض :
-(( جواد لو سمحت متدخلش فى خصوصياتى !! .. دى مشكلتى وأنا هتصرف فيها .. كل اللى محتاجاه ننهى الطلاق عند مأذون وبعدها هختفى أنا وأبنى عن الكل .. أنا مرتبة كل حاجة ومش طالبة منك أكتر من أنك تحفظ سرى )) ..
قال ناهياً الحديث بهدوء :
-(( كنت فاكر أن بعد اللى حصل ليا الحق أنبهك وأقولك الصح أيه .. بس واضح أنك مقررة فكلامى ووجودى ملهوش لازمة من الأساس .. عن أذنك أشوف العمال )) ..
أنهى جملته المؤنبة ثم أنسحب من أمامها ، بينما نظرت هى فى أثره شاعرة ببعض الذنب ، ففى الأيام القليلة الماضية كان هو الداعم الوحيد وشريكها فى أسوء المواقف ، بعد أنشغال كلاً من يحيى ورحمة فى حياتهم الخاصة .
***************************************
أتسعت إبتسامة ثغره العابثة قاطعاً الممر المفضى إلى غرفتهم ، عند تذكره لصباح اليوم وهروبها منه داخل حمام الغرفة ورفضها الخروج ألا بعد رحيله ، فبعد ما حدث البارحة ، أستيقظ فى الصباح الباكر مع تسلل الخيوط الأولى لشمس فبراير الهادئة ، على كفها الذى يدفع ذراعه ، تحاول بأستماتة فك حصاره من حولها ، وعندما نجحت فى ذلك ببعض التساهل من طرفه ، ركضت تختبئ داخل الحمام ، بعدما باءت محاولتها فى ترك الغرفة أكملها بالفشل ، نتيجة لأستباقه الأمر فى المساء ، وغلق الباب داخلياً بالمفتاح ثم اخفاه داخل جيب بنطاله ، يجول بعينيه الغرفة الفارغة أولاً ، يليها غرف الطابق بأكمله ، قبل هبوطه إلى الطابق الأرضى وأعادة الكرة ، وبعدما فشل فى العثور عليها ، هتف بأسم مدبرة منزله يسألها بعدما هرولت تقف أمامه ، وتمسح كفها المبلل داخل ملابسها :
(( رحمة فين يأم حسن )) ..
أمتنعت عن الحديث ، بينما تولت ملامح وجهها الأجابة بدلاً عن فمها ، فعاد يهتف من جديد بنفاذ صبر :
-(( أيييه مالك !! .. السؤال صعب للدرجة ؟! .. أنا عارف أنها مخرجتش برة البيت .. راحت فين ؟! )) .
أجابته على مضض :
-(( بصراحة .. الست رحمة من الصبح نقلت حاجتها لأوضة الجنينة اللى برة .. اللى كانت فيها قبل كدة )) ..
أنسحب بخطوات واسعة عنيفة ، يقطع الخطوة بثلاث حتى وصل إليها ، وأقتحم الغرفة دون أستئذان ، هاتفاً فى تلك التى أنتفضت تقف متأهبة بمجرد رؤيتها له :
-(( بتعملى أيه هنا عايز أعرف )) ..
أجابته بهدوء تام :
-(( قلتلك بليل مش هنام معاك فى مكان واحد .. الموضوع بسيط )) ..
رد بتأهب :
-(( وأنا قلت أيه ؟! ))..
أجابته متحدية ومحافظة على نفس النبرة الهادئة ، والتى تمرنت عليها مراراً وتكراراً أستعداداً لذلك الموقف :
-(( قلت حاجات كتير متهمنيش .. اللى يهمنى طلبى .. من فضلك أرمى عليا اليمين وورقتى توصلنى )) ..
صمتت تطالع قسمات وجهه المتجهمة ثم أردفت تقول بسخرية ونبرة ذات مغزى :
-(( مينفعش تقى زيك .. يأوى داخل بيته .. رخيصة زيى )) ..
ضربت كلماته فى وجهه بثبات شديد ثم أستدارت تنشغل بترتيب ملابسها داخل حقيبتها متجاهلة وجوده من الأساس ، بينما أغمض هو عينيه متجاوزاً كلماتها وتصرفاتها المعاكسة لطلبه ، يعطيها كامل الحق فى غضبها منه ، ثم بعد عدة دقائق من مراقبته لها ، همس بتحذير ، ضاغطاً على حروف كلماته ، وماداً ساقه نحو الأمام كأشارة على تأهبه :
-(( الأوضة دى مش هتقعدى فيها .. لا هى ولا فى أى مكان غير أوضتك اللى هى أوضتى .. وقدامك ٣ دقايق تحسمى قرارك .. تطلعى بهدوء ولا غصب )) ..
ألتفتت تنظر إليه ثم قامت بدفعه بكلتا كفيها قائلة بعنف :
-(( مش هتحرك من مكانى .. وأخرج من هنا )) ..
أومأ رأسه موافقاً بأصرار ثم قال وهو ينحنى بجذعه نحوها :
-(( مكنتش عايز أشيلك خصوصاً قدام اللى فى البيت بس أنتى اللى جبتيه لنفسك )) ..
صرخت تستوقفه مستسلمة بعدما حملها ووصل بها إلى الباب الخارجى :
-(( خلاص سبنى وهنزل )) ..
لم يعيرها أنتباه وبدلاً عن ذلك ضرب الباب بساقه مستمراً فى حملها أمام أعين أم الحسن التى وقفت تقهقه بسعادة ، فى حين عادت رحمة تتوسّله من جديد ، بيأس خجلة من الموقف بأكمله :
-(( نزلنى والله هكمل لوحدى )) ..
توقف عن التحرك بها دون أجابه فأستطردت تضيف بصدق :
-(( أنا حلفت ب والله مش هكدب .. نزلنى وهكمل لوحدى عيب كدة )) ..
أختار الثقة بها للمرة الأولى منذ لقائهم وبادر بوضعها أرضاً ، بينما هرولت هى نحو الأعلى حيث الغرفة تختبئ بداخلها هرباً وحرجاً من الجميع ، أما عن طاهر فعندما أوشك على التحرك واللحاق بها ، أوقفه صوت سائقه يقول بأحترام :
-(( طاهر بيه .. طلب حضرتك وصل أهو )) ..
أستدار بجسده يستلم الصندوق المغلف من بين يديه ثم أستئنف طريقه نحو الأعلى ، نحوها .
أما فى الأعلى فبعدما دلف الغرفة ووجدها داخلها ، مد كفه يقدم إليها الصندوق هامساً بأعتذار مبطن :
-(( أتفضلى .. بدل تليفونك اللى أتكسر إمبارح )) ..
رفعت أحدى حاجبيها تطالعه بعدم فهم ثم قالت بحنق بعدما ألقت نظرة خاطفة على شعار الماركة الشهيرة وعلمت نوع الهاتف :
-(( أنا مبقلبش عوض .. وعلى العموم أنا تليفونى مكنش زى ده .. عشان تجيبلى الماركة دى )) ..
قطع المسافة الفاصلة بينهم ثم قال بعدما ألقى الهاتف فوق الفراش ، وحاوط خصرها بذراعيه :
-(( تليفونك كان حديث برضة .. وحتى لو مش نفس النوع فأنا متأكد أنه نفس السعر .. ولو على ضيقك منى فأحب أطمنك أنى مسافر لمدة يومين .. عشان ترتاحى منى )) ..
أنهى جملته بطبع قبلة دافئة ناعمة فوق جبهتها كتوديع ، ثم فك حصارها وأنصرف يسحب ملابسه وشنطة سفره أستعداداً للرحيل ، تاركها تقف حيث هى كالصنم ، تحاول تفسير تصرفاته المتناقضة .
****************************************
بعد مرور يومان
وقفت أمام شجرة الليمون الصغيرة ، شاردة الذهن، حانقة على عقلها الخائن ، والذى قضى اليومين السابقين ، منشغلاً فى التفكير به ، والتساؤل عن أحواله ، وسبب سفره المفاجئ ، دون التوصل إلى أية تفاصيل تُرضى فضولها ، مع تذكيرها بشكل مستمر ، بقبلتهم الوحيدة المباغتة ، منتبهة بعد فترة من الوقت إلى حالتها الغريبة والتى تزداد سوءاً مع مرور الوقت ، وكأنها فقدت فجأة ثباتها وتوازنها ، وتحولت إلى فراشة ساذجة ، تنجذب بكل سهولة ، إلى الضوء الحارق ، ومقررة صرف أنتباهها ، على الوريقات الصغيرة ، تتلمسها بنعومة ، بعدما تنهدت مطولاً ، ثم غمغمت تتسائل بحيرة :
-(( ويا ترى أنتى هتكبرى أمتى بقى )) ..
جائها صوته الهامس من خلفها مجيباً بحشرجة ناعمة :
-(( قدامها من سنتين لتلاتة .. أهم حاجة فى الزرع .. الصبر .. وقتها هتاخدى أحلى محصول )) ..
أجفل جسدها على صوته الأجش مستديرة برأسها تطالعه من فوق كتفها ، بمزيج من التوتر ، الخوف ، والأشتياق ، شاعرة بأنفاسه الدافئة تلفح شطر وجهها ، بعدما كانت تداعب أسفل عنقها ، فى حين مد هو كلتا ذراعيه ، يتلمس كفها وصولاً إلى خصرها ، ثم قام بدفعها نحو الشجرة ، يحاصرها بين الجذع وجسده ، تاركاً حدقتيه تتعلق بشفتيها المرتعشة ، متسائلاً بهمس ناعم ، وممسداً بأنامله ، عضلات جسدها المتشنجة :
-(( عاملة أيه ؟! )) ..
رمشت بأهدابها عدة مرات تستوعب الموقف !! ، هل حقاً يسألها عن أحوالها ، بينما كفه تسرح بحرية فوق أنحاء جسدها ! ، اخذت نفساً عميقاً تستجمع به أرادتها المفقودة ، ثم همست تستجديه بخفوت شديد :
-(( طاهر !! )) ..
أجابها هامساً بينما رأسه تنحدر إلى نحو شفتيها :
-(( نعم ؟! )) ..
أسدلت أهدابها ثم همهمت تضيف بنبرة مرتعشة :
-(( لو سمحت .. )) ..
عقب وأنامله تمسد بنعومة وبطء شفتها المرتجفة :
-(( لو سمحت أيه بالظبط )) ..
اللعنة ! لقد بدءت ساقيها فى الأرتخاء حرفياً وليس مجازاً ، وأختفى صوتها داخلها فلم تعد قادرة على النطق ، أما عن حرارة جسدها ، فحدث ولا حرج ، حتى أنها لا تقوى على رفع ذراعها ودفع جسده ، لذا أنتظرت يائسة حتى أشفق هو على حالتها ، وأبتعد عنها ، تاركاً لها المجال فى الركض ، وبالفعل بمجرد فك حصاره لها ، ركضت بقدر ما سمحت لها ساقيها الهلاميتين إلى الداخل ، وتركته ينظر فى أثرها بأرتياح ، ثم أخرج مظروف أبيض من جيب سترته ثم غمغم يقول بغموض :
-(( جه وقت الحقيقة )) ..
ثم سار بعدها متجهاً إلى حيث منزل عمه ، ومنه مباشرةً إلى غرفة المكتب حيث كان بأنتظاره كلاً من جواد ، ووالده السيد أنور بناءاً على طلبه ، والذى ما لبث أن رأه حتى هتف يستفسر بقلق :
-(( خير يا طاهر ؟! .. موضوع أيه ده المهم اللى مينفعش يتأجل أكتر من كدة ؟! )) ..
أجابه طاهر بهدوء ، بعدما تأكد من غلق الباب خلفه جيداً :
-(( خير يا عمى .. بس قبلها عايز وعد أن الكلام اللى هيتقال ده .. ميطلعش بينا أحنا التلاتة .. مهما حصل .. أو لحد ما ربنا يريد أنه يتكشف )) ..
أومآ برأسيهما موافقين بقوة ، فعاد طاهر يقول بعدما أخرج المغلف الابيض ورفعه أمام وجهيهما :
-(( اللى فى أيدى ده .. تحليل إثبات نسب )) .
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية في لهيبك احترق)