روايات

رواية وبالعشق أهتدي (ميراث الحرب والغفران 2) الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم ندى محمود توفيق

رواية وبالعشق أهتدي (ميراث الحرب والغفران 2) الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم ندى محمود توفيق

رواية وبالعشق أهتدي (ميراث الحرب والغفران 2) البارت الثاني والثلاثون

رواية وبالعشق أهتدي (ميراث الحرب والغفران 2) الجزء الثاني والثلاثون

وبالعشق أهتدي (ميراث الحرب والغفران 2)
وبالعشق أهتدي (ميراث الحرب والغفران 2)

رواية وبالعشق أهتدي (ميراث الحرب والغفران 2) الحلقة الثانية والثلاثون

وفي غصون لحظات انتفضت فريال في مقعدها مزعورة على أثر صوت صرخات الاستغاثة النابعة من ابنها، وعندما نظرت في المياه رأته يضرب بذراعيه في المياه محاولًا النجاة بروحه من الغرق، فغرت عيناها وشفتيها بذهول وانطلقت منها صرخة عالية جعلت كل من يجلس على الشاطيء ينتفض فزعًا، وقفت مكتوفة الأيدي تشاهد ابنها وهو يغرق، فتسارعت أنفاسها وضاق صدرها وشعرت بكل شيء يدور من حولها لكنها تحاملت وراحت تصرخ باكية بهلع:
_عــمــار، ولدي بيغرق حد يلحقه
بتلك اللحظة التي صرخت بها بالضبط وصل جلال ومعاذ وهم يحملون أكياسًا ممتلئة بالأطعمة والحلوى المختلفة ويضحكون مع بعضهم، لكن التفت جلال مزعورًا على أثر صوت صرخة عالية وصوت أنثوي كان يحفظه عن ظهر قلب، وعندما نظر تجاه الصوت وجد فريال تصرخ تستغيث بأحد لينقذ ابنها من الغرق، وبظرف ثانية كان يلتفت تجاه البحر في هلع فيرى ابنه يصارع الموت ويحارب الغرق بمفرده، وبدافع الخوف والفزع الطبيعي كان يلقي ما بيده على الأرض ويركض مهرولًا تجاه البحر ليقفز فيه ويكون هو أول من يقفز لإنقاذ ابنه ويسبح إليه بكل سرعة ممكنة، وعندما وصل إليه كان عمار قد توقف عن الضرب في المياه والتلويح وغطس في المياه، لكن التقطه وحمله بذراعه ضامًا إياه إلى صدره وأخذ يسبح بذراعه الثاني وعاد به إلى الشاطيء، عندما رأت فريال ابنها بهذا الحال فقدت عقلها وانهارت باكية حتى خرت على الأرض فاقدة الوعي، أما جلال فقد خرج بابنه من المياه وسطحه على رمال الشاطيء وراح يقوم بالإسعافات الأولية والإنعاش الرئوي ويديه ترتجف بقوة من فرط الخوف وينظر لابنه بعينان دامعة هاتفًا له:
_يلا ياعمار فوق ابوس يدك ياولدي، قوم اوعاك تعملها
ثم انحنى عليه والصق فمه بفمه يقوم بالتنفس الصناعي له والجميع من حوله التف يشاهدون يترقب وهو يدعون أن يعود ذلك الطفل للحياة، بالمنتصف بين كل هذا كان يقف معاذ عين عالقة على شقيقه الذي يصارع الموت وعين على أمه التي فقدت وعيها والنساء ملتفون من حولها يحاولن إفاقتها، انهار باكيًا بقوة وجلس على الأرض مكانه يبكي بصوت مرتفع.
أما جلال فقد سالت دموعه الحارقة وهو مازال يحاول محاولاته لإعادة ابنه للحياة دون كلل، وبينما الجميع كان اليأس تمكن منهم وفقدوا أملهم، فجأة انتفض جسده الصغير وهو يسعل بقوة ويستفرغ المياه التي ابتلعها من البحر، لمعت عين جلال بفرحة لا يمكن يوصفها وراح يضم ابنه لصدره بقوة ويمطره بوابل من قبلاته فوق شعره وعلى وجهه مرددًا بصوت مسموع:
_الحمدلله.. اللهم لك الحمد والشكر يارب
بدأ عمار يستعيد وعيه وانفاسه المتسارعة تنتظم قليلًا وهو ينظر لوالده بفزع وارتيعاد، لكن جلال بتلك اللحظة بدأ عقله يدرك وجود زوجته وابنه الأكبر وراح يبحث بنظره عنهم من حوله فوجد معاذ يجلس على الأرض ويبكي، ثم مال برأسه للجهة الأخرى أكثر فرأى فريال مسطحة على المقعد الطويل والنساء من حولها يحاولون افاقتها، لم يتمكن من التقاط أنفاسه وتذوق الفرحة بعودة ابنه للحياة حتى انقبض قلبه خوفًا على زوجته الغائبة عن الوعي، فهب واقفًا ثم حمل ابنه على ذراعيه واسرع في خطواته تجاه زوجته وأثناء طريقه صاح على معاذ هاتفًا:
_معاذ قوم
انتبه على صوت أبيه وعندما نظر له رأى أخيه على ذراعيه بخير، فلم يعد يعرف هل يفرح إن يحزن على أمه الغائبة عن الوعي، لكنه هب واقفًا فورًا ولحق بأبيه مهرولًا، الذي ابعد النساء عن زوجته وانزل ابنه من على ذراعيه ليحمل فريال بدلًا منها ويتجه بها مسرعًا إلى الفندق حيث غرفتهم، وبعد دقائق معدودة وصلوا إلى الغرفة فدخل هو أولًا ولحق به الأولاد الذين كانوا يراقبون أمهم بهلع، والتقوا حولها بمجرد ما أن وضعها جلال على الفراش وبدأ هو يستخدم العطر عله يجدي بنفع معها، والمحاولة الأخير سكب في يده بعض المياه ونثرها على وجهها ففاقت مزعورة وفور ما أن فتحت عيناها ورأت جلال أمامها صاحت بهستيريا:
_عمار فين.. ولدي فين؟!!
احتضن جلال وجهها بين كفيه وقال لها بحنو وصوت رخيم ليهدأ من روعها:
_اهدي ياحبيبتي عمار وراكي أهو زي الفل
التفتت خلفها متلهفة ورأت صغيرها ينظر لها بعينان دامعة من الخوف عليها فلمعت عيناها وتلألأت بالعبرات ثم فردت ذراعيها وجذبته لحضنها تضمه بقوة ثم بدأ صوت بكائها يرتفع ، فمسح جلال على ذراعها بحب هامسًا:
_بزيادة يافريال، الحمدلله هو بخير أهو قصادك
تحدثت لعمار هامسة بصوت مبحوح ومتقطع دون أن تكترث لكلمات زوجها:
_كنت عاوز تحرمني منك أنت كمان ده أنا كنت اروح فيها ياعمار، أنا مليش غيرك أنت وأخوك، حرام عليك ياولدي تعمل فيا إكده ليه
هتف الصغير بين أحضان أمه معتذرًا بحزن على الحال الذي وصلت إليه أمه بسببه:
_حقك عليا ياما أنا آسف مش هعمل إكده تاني!
أبعدته عنها فجأة وتحولت نظراتها المرتعدة إلى أخرى غاضبة وهي توبخه بحدة:
_أنت إيه اللي دخلك البحر في الغويط (عميق) إكده؟
أجفل نظره أرضًا بندم وهتف:
_كنت عاوز اچرب اعوم وحدي، كنت فاكر نفسي هعرف أعوم كيف معاذ بعد ما عملني أبويا امبارح
كادت فريال أن تصيح به غاضبة تكمل وصلة توبيخها التابعة من خوفها عليه لكن أوقفها جلال بنظرة رزينة مبتسمًا بدفء أبوي جميل:
_خلاص يافريال ملوش لزمة الحديت ده دلوك، اللي حُصل حُصل والحمدلله أن ربنا ستر وهو عرف غلطه ومش هيكرره تاني، مش إكده ياعمار؟
هز رأسه بالإيجاب لأبيه مبتسمًا أما معاذ ففجأة ودون أي مقدمات مال على أخيه وعانقه بحب هاتفًا له:
_متنزلش المايه تاني ياعمار لغاية ما تتعلم العوم
اتسعت بسمة عمار بفرحة ومشاعر مفعمة بالحب والامتنان لعناق أخيه الكبير ولف ذراعيه حول ظهره يعانقه هو أيضًا، وسط نظرات جلال وفريال الدافئة وبسمتهم الأبوية على ثغرهم وهم يشاهدون مشهد تَحِفُه مشاعر الأخوة الصادقة ويتمنى كل أب وأم أن يراه بين أولادهم، استقام جلال واقفًا واقترب منهم ثم مال على رأس كل منهم وطبع قبلة أبوية حانية ثم همس لعمار مازحًا:
_الله يسامحك شيبت شعر راسي ياولدي وقطعتلي الخلف وأنا لساتني عاوز اجبلكم أخوات تاني
هتف معاذ ضاحكًا يجاري أبيه في مزحه:
_لا يابوي لسا شعرك أسود، كمان كام سنة إكده وعمار هيخلهولك أبيض على الآخر
انطلقت ضحكة فريال العالية وهتف جلال ضاحكًا مؤيدًا وجهة نظر ابنه الكبير:
_آه على رأيك صُح والله يامعاذ
كان هو يتابع مزاحهم عليه وهو يبتسم حتى سمع صوت أمه تقول له:
_يلا ياعمار ياحبيبي ادخل خد حمام واستحمى عشان أخوك يدخل بعدك
رد عمار بوجه مرهق:
_لا ياما خلي معاذ يدخل الأول وأنا هدخل بعده، وهدخل الأوضة چوا استناه
ردت فريال بلطف:
_مينفعش أنت اللي تدخل الأول هدومك مبلولة ولو قعدت إكده هتاخد برد، معاذ نزل المايه قبلك وهدومه نشفت، يلا روح
أطلق تنهيدة حارة مغلوبًا وانصاع لأوامر أمه ثم اتجه للحمام كما أمرته ليأخذ حمامًا دافيء بينما معاذ فتركهم واتجه إلى غرفته بالداخل لكي يخرج ملابسه ويجهزها.
***
داخل منزل خليل صفوان تحديدًا أمام غرفة ” علي “، وقع آثر كلماته الآخيرة التي سمعتها غزل كالصاعقة التي احرقتها بأرضها، تحاول استيعاب ما سمعته للتو منه وهو يرفضها بشكل مباشر لكن لا تستطيع فراحت تسأله بذهول وبلاهة نابعة من صدمتها:
_مش فاهمة!!
أجابها بقسوة ادمت قلبها:
_هو إيه اللي مش فهماه!!.. بقولك معدتش عاوزك ياغزل
ضيقت عيناها بدهشة وعلامات الاستفهام تحتل معالمها الرقيقة، ثم التزمت الصمت للحظات طويلة نسبيًا تحاول إيجاد سبب واضح لذلك الرد السخيف والمريض منه فلم تجد إلا سبب واحد والذي جعلها تضحك بصمت ساخرة، ثم تنظر له بغيظ وتقول:
_أنتي بتردهالي يعني زي ما رفضتك دلوقتي بتقولي مش عايزني
نظرت في عينيه مترقبة ردة فعله أو نظرة حب وندم، لكنها لم ترى سوى الغضب وعدم المبالاة فاستشاطت غيظًا وغلا دمائها في عروقها وانفجرت به صائحة بعصبية ونقم متصنع:
_أنت فاكر أن اللي بتعمله ده رجولة يعني وبترد كرامتك كدا، ده مسمهوش غير حاجة واحدة بس وهو قلة أصل وحقارة منك
جز على أسنانه بغضب وحاول كظم غيظه عنها لكنها أكمل منفعلة تفرغ شحنة غيظها المكتظة منه:
_أنت بني آدم مريض، وأحب اقولك أن دلوقتي أنا اللي مستحيل اتجوزك أصلًا حتى لو أنت اللي حبيت
طفح كيله وفقد صبره على تحمل لسانها السليط وهي تهينه وتشتمه بكل وقاحة وقبل أن تنصرف كان يجذبها من ذراعها إليه فأطلق شهقة مزعورة تضامنت مع وقوعها بين ذراعيه واصطدامها بصدره، ولم تلبث لتستوعب ما حدث وتوبخه حتى وجدته يدفعها للداخل ويغلق الباب ثم يحاصرها بينه وبين الحائط ويستند بكفه بجانب رأسها على الحائط ويهتف بنظرات مرعبة:
_إيه ياغندورة استصعبتي رفضي ليكي وشوفتيها إهانه، چربتي شعوري وقتها لما رفضتك دلوك بنفس الطريقة ولا لسا
اضطربت من اقترابه الشديد منها لكنها وقفت بشموخ ونظرت في عينيه بثقة وقالت:
_بعد عني وإلا هصرخ وافضحك يابربري!
صرخ بها بعصبية:
_لمي لسانك ده ومتغلطيش بدل ما اقصهولك
صاحت مستاءة بشراسة دون خوف منه:
_تقص إيه أنت فاكر نفسك مين، صدقني يا ” علي ” لو اطبقت السما على الأرض أنا مش هتجوزك
ارتخت عضلات وجهه وهدأ غضبه ليس تأثرًا بما قالته بل متحسرًا على نفسه حيث همس لها بنظرة خزي وأسف وهو يعترف لها لأول مرة:
_أنا حبيتك.. رغم كل مشاكلنا مع بعض بس حبيتك وتغاضيت عن كل عيوبك اللي مش عچباني، وقولت مش مشكلة نحلوها مع بعضينا بعد الچواز، مهتمتيش لحاچة وكنت مستعد ارضيكي بأي طريقة واخليكي تشوفي ” علي ” مختلف عن اللي تعرفيه واصل، تشوفيه لما يحبك هيبقى كيف، بس أنتي رفصتي النعمة برچليكي
سكت للحظة ثم أكمل مبتسمًا بمرارة:
_أنا مش قاهرني إنك رفضتيني ولا ده اللي مضايقني ومخليني شايل منك ومش عاوزك، أنتي جرحتيني في كرامتي بكلامك ياغزل وحتى لو كنت بعشقك بعد اللي قولتيه ده معدش ينفع اقولك أني لساتني عاوزك وإلا ابقى بضحك علي نفسي وعليكي
اخذ نفسًا عميقًا وهو يلاحظ الذهول على ملامحها مما تسمعه منه ثم قال بجفاء وانزعاج:
_اعتبريني معرضتش عليكي الچواز واصل ولا حتى قولت الكلام ده دلوك، ولو هتفضلي عايشة إهنه معانا يبقى ياريت تتچاهليني على قد ما تقدري وبلاش تتعاملي معايا واصل ياغزل تمام!
أنهى عباراته ثم ابتعد عنها وفتح باب الغرفة ثم رحل وتركها بمفردها داخل غرفته تقف تحدق في الفراغ بصدمة، اختلطت عليها مشاعرها ولم تعد تعرف هل يجب أن تفرح لاعترافه بحبه لها أم تغضب وتنزعج من الرفض التي حصلت عليه منه.
التفتت برأسها لغرفته وراحت تتفحصها بنظراتها في دقة ثم تقدمت للداخل أكثر وهي تتمعن تفاصيلها باهتمام، فراشه الواسع وخزانته الضخمة وملابسه الملقية على الفراش بعشوائية، تقدمت إلى الفراش وجلست ثم التقطت ملابسه التي كانت جلبابه الصعيدي وأخذت تتأمله بشرود وهي تتذكر اعترافه الأسطوري لها ” أنا حبيتك رغم كل مشاكلنا مع بعض بس حبيتك ” وعندما فاقت من شرودها كان ثغرها يبتسم بخجل وفرحة لكن فورًا لحقت بسمتها والقت ملابسه هاتفة بحدة محاولة الثبات على موقفها:
_لا مش هتضعفي ياغزل أنا قولتله مستحيل اتجوزك
ثم هبت واقفة وقالت مغتاظة في صرامة لتضبط مشاعرها الهائمة:
_وأنا كلمتي متنزلش الأرض أبدًا، I don’t like him ، غزل أنتي مش بتحبيه ومش هتضعفي بسبب كلامه ليكي
***
في تمام الساعة التاسعة مساءًا داخل منزل عمران الصاوي…..
كانت آسيا تجلس على الأريكة في الصالة بجوار عمران الذي يشاهد التلفاز وتحمل ابنها في حضنها وتهزه بلطف ليخلد للنوم، وتختلس النظرات إلى عمران الذي اطال الخصام والزعل هذا المرة بينهم ولا يعاملها كما اعتادت منه، كانت تحاول الهاء نفسها مع طفلها وعدم التفكير في وضعهم حتى لا تكتئب أكثر وفجأة ارتفع صوت رنين الباب فوجدتها فرصة لتبتعد عنه قليلًا واستقامت واقفة قبله بعدما أشارت له بعيناها أنها ستفتح هي، راقبها بنظراته وهي تبتعد عنه تجاه الباب حتى اختفت من أمام عينيه.
فتحت هي الباب وتجمدت في أرضها بدهشة عندما رأت إخلاص أمامها، التي ابتسمت لها بصفاء وقالت:
_كيفك يا آسيا؟
ردت آسيا بصوت انخفض من أثر دهشتها:
_زينة الحمدلله
انزلت إخلاص نظرها واستقر على حفيدها الصغير بين يدين أمه فدخلت للمنزل بخطواتها وفردت ذراعيها وجذبت الصغير من أحضان آسيا وهي تضحك له وتلاعبه بشوق، أما عمران فصاح عليها من الداخل يسألها باهتمام عندما وجدها تأخرت على الباب:
_مين يا آسيا؟!
نظرت لإخلاص ورسمت ابتسامة خافتة على ثغرها وهي تشجعها على الدخول:
_ادخلي ليه چوا ياحماتي
تنهدت إخلاص الصعداء بقلق من ردة فعل ابنها الذي ربما سينزعج من قدومها أو رؤيتها، أما آسيا فقد أغلقت الباب بهدوء وردت على عمران بصوت عالي مبتسمة:
_ضــيـف چاي يشوفك
ثم سارت خلف إخلاص التي تسير بأقدام مرتبكة، ثم وقفت عند بداية الصالة عندما رأت ابنها يهب واقفًا ينوي الخروج إلى الباب ليرى ذلك الضيف الذي جاء من أجله، فتسمر بأرضه عندما رآها تقف بوجهه، كانت آسيا تقف بالخلف تشاهد الموقف بترقب منتظرة ردة فعل زوجها ولكنها لم ترى على وجهه سوى العبوس والضيق من أمه، وعندما نظرت لإخلاص رأت في عيناها عبارات الندم والأسف وكأنها تتوسله أن يسمح لها بالحديث معه حتى، فأطلقت آسيا زفيرًا حارًا مغلوبة ثم قالت لإخلاص وهي تهم بحمل ابنها منها:
_هاتي الواد ياحماتي عشان تعرفي تتكلمي مع ولدك وأنا هدخل انومه چوا
نظرت لها إخلاص واعطتها إياه وهي ترجو منها مبتسمة:
_ماشي بس متخلهوش ينام أنا اتوحشته وعاوزة اقعد معاه شوية
هزت آسيا رأسها بالموافقة لها ثم أخذت ابنها ودخلت به لغرفتها بعدما القت نظرة ذات معنى على زوجها، أما إخلاص فقد اقتربت من عمران الذي عاد وجلس على الأريكة مجددًا دون أن يتفوه بكلمة واحدة حتى جلست إخلاص بجواره ورفعت كفها تمسح على شعره بحنو أمومي هاتفة له:
_طمني عليك ياولدي اخبارك إيه؟
رد عليها بامعتاض وصوت مكتوم دون أن ينظر لوجهها:
_زين الحمدلله
استصعبت عدم رغبته في النظر لوجهها فقالت له بعينان دامعة:
_ليه ياولدي تحرمني منك إكده هو أنا ليا مين سند غيرك، حرام عليك ياعمران بزيادة ياولدي خصام وزعل لغاية إكده
مسح على وجهه متنهدًا بوجه مهموم دون أن يجيب بينما هي فتابعت بعدما تساقطت دموعها:
_أنا ندمت ياولدي على اللي عملته وعشان خاطرك وعشان ارضيك ومزعلكش مني بقيت بعامل مرتك كيف ما أنت عاوز وقصادك أهو شوفت بعينك، اعمل إيه تاني عشان تصفالي وترچعلي
حصلت على رده الصامت للمرة الثانية فانزعجت وقالت منفعلة:
_هتفضل ساكت إكده ما ترد عليا ياعمران
أجابها أخيرًا بغضب:
_أرد عليكي اقولك إيه ياما، أنا لو على اللي عملتيه في آسيا بس كنت ممكن اسامحك عليه، لكن اللي قاهرني أنك انتي اللي تحاولي تموتي ولدي وهو في بطن أمه بسبب حقدك وغيرتك منها ومفكرتيش في ولدك وأن العيل ده حفيدك قبل ما يبقى ولدها وولدي
اطرقت رأسها أرضًا بندم وخزي من نفسها وقالت معترفة بفعلتها وهي تبكي:
_أنا غلطت عارفة بس الشيطان لعب في دماغي وغلبني ياولدي والله، ودلوك ندمانة على غلطي
حدق في أمه مطولًا يتمعن دموعها وملامحه الذابلة وحتى صوتها المقهور، فخر قلبه مستسلمًا لها يعلن عن بداية جديدة، فهي مهما فعلت ستظل أمه الغالية.
فرد ذراعه ولفه حول كتفيها ثم ضمها إلى صدره وقبَّل رأسها بحنو هامسًا:
_خلاص ياما متبكيش بزيادة
تهللت اسارير إخلاص من الفرص بعدما ضمها وابتعدت عنه بسرعة تقول بأعين لامعة بالأمل:
_يعني خلاص سامحتني مش إكده
هز رأسه بالإيجاب مبتسمًا وسرعان ما اختفت بسمته وهو يلقي عليها تنبهاته الحازمة:
_آه بس توعديني تعاملي مرتي زين وكفاية مشاكل وشغل الحموات وكيد النسا ده مفيش منه تاني
ضحكت بخفة وهتفت بانصياع وطاعة تامة له:
_بس إكده أنت تؤمر بس ياسيد الرجال، ده أنا هشيلها فوق راسي مرتك اطمن
ضحك باتساع حتى برزت أسنانه ومال عليها يمسك برأسها ويقبل جبهتها متمتمًا برزانة:
_لا مش عاوزك تشيليها فوق راسك عاوزك تعامليها بما يرضي الله ومتنسيش أن كرامتها من كرامتي
إخلاص بدفء:
_حاصر من عيوني ياولدي
عاد يقبلها ثانية وهو مندهش ومعجب من التحول الذي طرأ فجأة على شخصية أمه ثم قال لها بلطف:
_تسلملي عيونك ياست الكل، ربنا يهديكي دايمًا إكده ياما
ثم ابتعد عنها ورفع أنامله يمسح دموعها من فوق وجنتيها فهتفت وهي تهب بالوقوف:
_انا هروح اشوف سليم واقعد معاه شوية عاد قبل ما امشي
انجلينا ثانية بحزم بسيط هاتفًا:
_اقعدي خليها تنومه شوية وانتي خليكي معانا الليلة دي وبكرا ابقى ارچعك البيت
ردت إخلاص معترضة:
_لا اخليني إيه ياعمران أنا هرچع بيتي ياولدي
نظر لها بحدة وقال في صوت رجولي مهيب:
_وبعدين ياما متعارضنيش في كل حاچة إكده، الليلة دي هتباتي معانا خلاص
تنهدت إخلاص الصعداء بنفاذ صبر من عناد أبنها ومحاولاته بطريقته المعتادة ليفرض عليها ما يريده، فعقدت كفيها فوق بعضهم أمام صدرها كدليل على قلة حيلتها واستسلامها.
***
داخل منزل مروان…..
جالسًا على الأريكة في الصالة وهو يسند ساعديه على قدميه التي تهتز بعنف من فرط التفكير والغضب، يعيد شريط طويل من مواقفها الكثيرة معها ليتذكر ردودها ويتأكد بنفسه من صحة كلام سمير واتهماته الخطيرة التي وجهها لها.
بداية من كذبها المستمر بأن زواجها منه كان إجباريًا واخفائها عليه حقيقة علاقتها الفاسدة مع عائلتها وماسبب الخلافات التي بينهم أو حتى إخباره بأن سمير كان يمارس عليها أساليب التعذيب دون سبب، ربما هي صدقت في أمر واحد فقط وهو خيانته وأنه كان يعشق فتاة غيرها ولكن ماذا أن كان كلامه حقيقي وما فعله لم يكن سوى ردة فعل لخيانتها له في البداية، وانهى شريط تذكره بمقابلته مع شقيقها وكلماته المريبة التي انهي بها حديثهم عندما حذره من التوغل والفحص في حقيقة هذا الأمر وأن هناك أشياء لا يعرفها وستصدمه بشدة، يبدو أنه كان يقصد ما قاله سمير!.
استقام ثائرًا وراح يمسح على شعره نزولًا لوجهه وهو يطلق زفيرًا ناريًا وجسده كله يرتجف من فرط الغضب، ثم راح يجوب يمينًا ويسارًا مرددًا بصوت مقهور امتزج بسخطه:
_بعد كل اللي عملته معاكي وعشانك تعملي معايا كدا وتخدعيني، طب كنتي احكيلي الحقيقة وسبيني انا أقرر، يمكن على الأقل مكنتش حبيتك
تأفف بألم ثم جلس على الأريكة مجددًا ودفن رأسه بين راحتي يديه، يفكر كيف سيتصرف وماذا سيفعل الآن، أيواجهها أم ينهي كل شيء قبل أن يبدأ دون أي لقاء آخر بينهم.
بعد مرور تقريبًا ساعات من التفكير العميق والعقلاني، حسم قراره النهائي ثم مد يده على الطاولة التي أمامه وأجرى اتصال بأحدهم.
اجابه الطرف الآخر بعد ثواني بمرح:
_عاش من سمع صوتك ياعم فينك كدا، من وقت ما نزلت مصر وأنت ناسينا
هتف مروان بصوت هاديء ومهموم:
_معلش ياصاحبي غصب عني مشاغل الدنيا وأنت عارف، بس قولي أنت لسا شغال في المطار؟
ضيق صديقه حاجبيه باستغراب وأجاب:
_آه لسا، هو في حاجة ولا إيه؟!
تجاهل مروان سؤاله وطرح سؤال مختلف تمامًا في جدية:
_طيب إيه اقرب طيارة طالعة إيطاليا الليلة دي؟
اتسعت عيني صديقه بدهشة ثم هتف يسأله بتعجب:
_هو أنت لحقت تقعد في مصر عشان ترجع تاني يابني!
مروان بخنق:
_في شغل معايا هناك ولازم اروح اكمله والقعدة هناك أفضل ليا صدقني
زم صديقه شفتيه بقلة حيلة ثم نظر في جهاز الحاسوب الذي أمامه يتفقد مواعيد طائرات الليلة المتجهة لإيطاليا وبعد لحظات اجابه:
_تمام ياصاحبي براحتك، عمومًا هو في طيارة طالعة كمان ساعتين ومن حظك أن في مكان كرسي فاضي فيها، يعني يدوب تلحق
اجابه مروان بالموافقة وشكره ثم انهي معه الاتصال واستقام واقفًا ثم اتجه إلى غرفته ليبدأ في جمع ملابسه وأشيائه في الحقائب بسرعة لكي يستطيع اللحاق بالطائرة، وأثناء ذلك سمع صوت رنين هاتفه فنظر لشاشته ورأى اسمها يضيء الشاشة، اطال النظر إلى الهاتف بشرود ووجع ثم تجاهل اتصالها وأكمل ما يفعله غير مكترثًا بذلك الهاتف الذي يلح عليه ليجيب.
***
بمدينة مرسى مطروح تحديدًا بالغرفة الخاصة بجلال وفريال في الفندق……
كانت فريال ممدة جسدها على الفراش ومستندة على ظهر الفراش وتحدث في زوجها الذي يتحدث في الهاتف في الشرفة ويبدو أنه يتحدث عن أمور جدية تخص العمل، في الواقع كانت عيناها فقط العالقة عليه لكن ذهنها كان بمكان آخر، تفكر في كل شيء حدث معهم والذي انتهى بحادث صباح اليوم الذي كاد يتسبب في أزمة قلبية لها، ودون تردد قررت النهوض والذهاب لغرفة أولادها لتطمئن عليهم وعلى عمار بالأخص.
فتحت باب الغرفة ببطء شديد ظنًا منها أنهم نائمين لكنها وجدت عمار مستيقظ وجالسًا على الفراش ساكنًا يحدق في الفراغ بنظرات غريبة وفور انتباهه لدخولها انتصب في جلسته وحدق بأمه مبتسمًا ليظهر لها ثباته وكأن كل شيء على ما يرام، لكن فريال بادلته الابتسامة بنظرة ماكرة ثم اقترب منه حتى جلست بجواره على الفراش وفردت ذراعيها ثم لفته حول كتفيه وضمته لصدرها وراحت توزع قبلاتها الحانية على شعره ورأسه ثم همست له:
_احكيلي وقولي إيه اللي مصحيك لغاية دلوك؟
سكن بين ذراعين أمه للحظات طويلة ثم ابتعد عنها وزم شفتيه للأمام بضيق وراح يسألها:
_هو أنا إكده مش هتعلم السباحة تاني ياما صُح؟!
غضنت حاجبيها بتعجب من سؤاله وسألته:
_ليه هو أنت بعد اللي حصل ده لساتك عاوز تتعلم وتنزل تاني البحر؟!!
سكت لثواني يتذكر ما حدث بالصباح معه، وبنفس اللحظة يفكر في سؤال أمه ثم أجابها بعد تفكير عميق بشجاعة لكنها امتزجت ببعض الخوف الطفولي الطبيعي:
_لا أنا خوفت قوي من البحر ومش عاوز انزله تاني، بس بردك أنا نفسي اتعلم السباحة كيف معاذ
اطالت فريال النظر في تعابير وجهه وللحظة أحست وكأنها تنظر لجلال، ورث عن والده الأصرار والشجاعة والقوة، أما أخيه الأكبر فأخذ من أبيه العطف والحنان ولباقة اللسان والرزانة، فاقت من شرودها وهي تبتسم لعمار الذي قررت سؤاله بترقب:
_كيف عاوز تتعلم وكيف مش عاوز تنزل البحر تاني؟
عبس وجهه بحيرة وقال في حنق:
_مش عارف.. انا عاوز اتعلم ومش عاوز انزل البحر
ضحكت ثم تنهدت الصعداء مطولًا وانحنت عليه تطبع قبلة فوق رأسه وتهمس له بحنو:
_يعدي فترة إكده على اللي حُصل ده نكون حتى نسينا وأنت نسيت وتتشجع تاني ووقتها هخليك تتعلم رغم أني مش عاوزة انزلك لا أنت ولا أخوك المايه تاني بعد اللي عشته الصبح بس مقدرش امنعكم واربي فيكم الخوف والجبن
التزم الصمت يفكر في كلامات أمه وأنه سمحت له بالنزول مجددًا والتعلم، لكنه لم يكن سعيد بل كان يفكر هل هو يريد تجربة البحر ثانية أم لا.
استقامت فريال واقفًا وقالت له بدفء مبتسمة:
_يلا عاد نام ياعموري الوقت أتأخر ياحبيبي
هز رأسه بالموافقة لأمه وبصمت تسطح على الفراش وتدثر بعطائه ثم اغلق عيناه يهيأ عقله وعيناه للنوم، أما هي فقد خرجت من الغرفة ووجدت جلال قد انهي حديثه في الهاتف ويجلس على الفراش، اقتربت وجلست على الفراش بجواره وقالت له مغلوبة وهي تبتسم:
_خايف ومرعوب من اللي حُصل وبردك عاوز يكمل السباحة، يشبهك في العناد، مش فارق معاه المهم اعمل اللي عاوزه حتى لو كنت مرعوب
قهقه جلال عاليًا ثم قال مفتخرًا بابنه:
_امال أنتي عاوزاه يطلع چبان، والحمدلله أن هو زين وبخير، أنا ياما شربت مايه في البحر إكده وكنت هغرق وأنا في سنه
التزمت الصمت لثواني تفكر في الأمر من الجاني السيء فامتلأت عيناها بالدموع وقالت له بصوت مبحوح:
_بس أنت لو مكنتش لحقته على آخر لحظة كنا هنخسره ياچلال، يعني الحمدلله أن ربنا نجاه، صدقني أنا لو كان حصل حاچة لعمار كمان وخسرته كنت هموت وراه ومش هتحمل
ضمها جلال لصدره فورًا دون تردد ونهرها بلطف في جدية:
_إبه الكلام اللي بتقوليه ده، انتي بنفسك بتقولي الحمدلله ربنا نجاه بتفكري في العفش ليه دلوك، بلاش الكلام اللي يضايق ده عاد يافريال موت ومعرفش إيه، إياكِ اسمعك بتقولي إكده تاني
ابتعدت عنه بعد ثلاث ثواني بالضبط ونظرت في عيناه برجاء وقلق:
_أنا مكنتش عاوز نسافر السفيرة دي مكنتش مستريحالها واحساسي كان في محله، خلينا نرچع بيتنا ياحبيبي عشان خاطري ريحني ياچلال
أطلق تنهيدة حارة في قلة حيلة ثم دنى منها ولثم وجنتها بحنو متمتمًا:
_حاضر يافريالي اللي يريحك، بعد بكرا هنرچع أن شاء الله عشان أنا كنت واعد العيال هوديهم مكان إكده.. اوديهم بكرا الأول وبعدين نرچع
ابتسمت براحة وهزت رأسها بالموافقة له في نظرات كلها رضا وسكينة ثم مالت عليه مجددًا ووضعت رأسها فوق صدره اتسمت في أحضانه.
***
عودة لمنزل عمران……..
كانت آسيا تستمع لحديثه مع أمه والذي انتهي بعودة المياه لمجاريها بينهم مجددًا وانتهاء الخصام وهي تجز على أسنانها وتعض شفتيها بغيظ منه وتتوعد له في نظرات مشتعلة، حتى سمعت صوت أقدامه تقترب من الغرفة بعد انتهاء حديثهم وهو يجبرها على البقاء معهم هذه الليلة.
فور دخوله قابل أمامه جمرة من النيران الملتهبة تقف وتحدقه شرزًا، فغضن حاجبيه باستغراب وهتف بصوت قوي:
_في إيه بتبصي إكده ليه؟!
ردت مغتاظة:
_سامحتها يعني بعد اللي عملته!!
رفع حاجبه مندهشًا من ردها ولم يستطع أن يلومها فلديها الحق في الغضب بعد ما فعلته أمه معها، لكنه تحرك بكل هدوء تجاه الفراش وأجابها بصوت رخيم:
_أنا عارف أمي زين قوي، وشوفت في عينيها الندم على اللي عملته وإلا مكنتش هسامحها أبدًا، وهي وعدتني أنها هتتغير من إهنه ورايح وهتعاملك زين
تلألأت العبرات في عيناها بقهر وألم ثم صاحت به باستياء وقلب منفطر:
_أنا مش ده اللي مضايقني سامحها براحتك دي أمك، لكن اللي مزعلني أنك سامحتها رغم كل اللي عملته وأنا مش عاوز تسامحني وبتعاملني بقسوة وجفا عشان كذبت عليك وياريت كذبت عشان مصلحتي، ده أنا كذبت بسبب خوفي عليك وأن نيتي كانت كويسة ومكنتش عاوزاك تدخل في مشاكل وتتأذي تاني، لدرجة أني قولت مش مهم اتأذي أنا وأنت لا
صدمته بردة فعلها وكلماتها النابعة من صميم قلبها الذي اتضح أنه ينزف دمًا بسبب قسوته عليها، وبقى يحدقها بعينان متسعة وعدم استيعاب لما يسمعه ويراه من انهيار وانفعال تام منها، حتى وجدها تندفع تجاه ابنهم النائم في الفراش وحملته ثم غادرت الغرفة واتجهت للغرفة المجاورة وأغلقت الباب عليها هي وابنه، فاق من صدمته بعد لحظات واستقام واقفًا فورًا ثم لحق بها ووقفت أمام الباب وراح يطرق عليه ويهتف في صوت منخفض حتى لا يصل لمسامع أمه الجالية بالصالة:
_آسيا افتحي الباب؟
صاحت من الداخل باكية:
_هملني ياعمران لحالي أنا هناك الليلة دي إهنه أنا وولدي
التفت برأسه تجاه الصالة حيث توجد أمه ثم رجع برأسه إلى الباب وقال له بلطف ورزانة:
_طيب افتحي بس خلينا نتكلم
هتفت بإصرار تام وغضب:
_قولتلك لا مش هفتح روح كمل سهرتك مع امك يلا، وهملني ملكش صالح بيا
مسح على وجهه متأففًا بقوة في انزعاج شديد وهو يستغفر ربه، ثم قرر أن يتركها على راحتها حتى تهدأ ثم يتحدث معها ويطيب خاطرها، وابتعد عن الباب متجه إلى الصالة حيث تنتظره أمه ليجلس معها.
***
بمكان آخر داخل غرفة مريم، كان جالسة على فراشها تتصفح هاتفها ومواقع التواصل تارة تضحك عندما يصادفها منشور مضحك وتارة تمرر الشاشة دون اهتمام بملل، تحاول الهاء عقلها بأي شيء حتى لا ينشغل بالتفكير في بشار.
في وسط محاولاتها لانتشاله من أعماق عقلها اقتحم أسوارها واخترق أنظمتها برسالة منه محتواها عبارة عن صورة له وهو جالس بأحد المقاهي وأمامه عصير فراولة والمقاعد التي أمامه فارغة مما يعني أنه بمفرده، لكن انتبهت لرسغ يده اليسار الذي يرتدي فيه الساعة التي اهدته إياها وبيده اليمين في بنصره يرتدي خاتم خطبتهم ( دبلته السوداء ) حتى أنه كان يرتدي القميص الذي تفضله وأخبرته أكثر من مرة أنها تحب ذلك القميص عليه يجعله أكثر وسامًا، كل هذه التفاصيل كانت كما لو أنه أراد لها أن تراها ولذلك أظهرها بوضوح في الصورة.
وسط تحديقها في الصورة وتأملها لها فجأة انتفضت جالسة بفزع على أثر صوت رنين الهاتف وإنارة الشاشة باسمه، فتسارعت نبضات قلبها وبقت تحدق في الهاتف بارتباك وتردد لكن أجابت قبل انتهاء الرنين وقالت بغضب:
_خير؟!!
ابتسم وأجابها بدفء:
_خير أن شاء الله، شوفتي الصورة؟
أطلقت زفيرًا حارًا بنفاذ صبر وقالت:
_أنت عايز إيه بظبط؟!!
هتف مداعبًا إياها في صوت رجولي يذهب العقل:
_إيه رأيك في الصورة؟
استاءت بشدة وهتفت بعصبية ونبرة محذرة:
_بــشــار !!!
قهقه بصوت مسموع ثم قال في غرام وصوت رزين:
_أنتي عارفة أنا مش بحب اقعد لوحدي في أي مكان برا، بس المكان ده مختلف انتي اللي حببتيني فيه زي ما حببتيني في عصير الفراولة اللي كنت بشربه معاكي كل مرة وأنا مچبور وبحاول احبه كيف ما بتحبيه، لكن دلوك أنا چايبه بكامل إرادتي وبشربه بكل متعة، حتى لابس القميص اللي بتحبيه عليا، يعني اللي أقصده أن كل حاچة إهنه حلوة قوي لكن ناقصها حاچة واحدة بس وتبقى مثالية، عارفة إيه هي؟
التزمت الصمت مترقبة إكماله لعبارته الأخيرة في فضول لمعرفة ماهو الشيء الناقص حتى سمعته يردف بشوق وهيام:
_أنتي
تزعزعت من رده ونبرة صوته الرجولية حتى أن قلبها أصبح يضرب في صدرها بعنف من فرط الحماس والخجل والارتباك، لكنها تحكمت بمشاعرها وهتفت بعصبية وقسوة:
_يبقى هيفضل ناقص دايمًا
رغم أن ردها القاسي أصاب قلبه إلا أنه رد عليها بثبات وإصرار:
_أنتي عارفة زين يامريم أني مش هسيبك ومش هتخلي عنك وهخليكي تسامحيني وهثبتلك حبي
قالت بجفاء وشراسة:
_بشار بلاش تتصرف وكأن اللي حصل بينا حاچة بسيطة أنا نهيت كل حاچة بينا، يعني مفيش فرصة لينا تاني مع بعض
تجاهل كلماتها التي ازعجته بشدة وقرر الرد عليها ردًا ليس له علاقة بحديثهم إطلاقًا بعدما رفع كوب العصير لانه يرتشف منه القليل:
_أول مرة عصير الفراولة طعمه يبقى حلو إكده، هقفل دلوك واسيبك ترتاحي وتنامي الوقت أتأخر وأنا عارف أن ده معاد نومك، بحبك!
تفوه بكلمته الأخيرة ثم انهى الاتصال فانزلت الهاتف من فوق أذنها تحدق في شاشته بذهول من رده عليها ثم قالت ضاحكة بعدم استيعاب:
_مجنون والله مش طبيعي
***
داخل غرفة خلود بمنزل خليل صفوان كانت جالسة المقعد المجاور لفراشها وتقوم بإجراء اتصال بمروان للمرة التي لا تعرف عددها منذ صباح اليوم، كان هاتفه يعطي رنين في الصباح لكنه بعد وقت تم خروج الخط عن الخدمة تمامًا، ومازالت تعاود الاتصال به على أمل أن يفتح هاتفه ثانية، فقد بدأت الوساوس تنهش في عقلها خوفًا وقلقًا عليه فهو ليس من عادته أن يتجاهل اتصالاتها بهذا الشكل.
لكن فجأة صدح رنين هاتفها فنظرت للشاشة متلهفة وأجابت دون أن تنظر لاسم المتصل حتى ظنًا منها أنه مروان، لكن تجمدت في مكانها عندما سمعت صوت زوجها السابق وهو يتحدث إليها بصوته الذي لا تطيق سماعه حتى:
_عاملة إيه ياخوخة
انفجرت به صارخة بانفعال ونقم شديد:
_أنت عاوز مني إيه تاني، ياخي ارحمني حتى بعد ما أطلقت منك وارتحت، صدقني لو فكرت تتصل بيا تاني ولا تحوم حواليا هقول لعلي وهو يتصرف معاك بطريقته اللي انت چربتها
قهقه سمير عاليًا ببرود مستفز ثم قال بخبث:
_حقك تهددني بأخوكي ما أنتي دلوك رچعتي لحضنهم بعد ما كانوا رامينك ومش بيسألوا فيكي ومكنتيش تتچرأي تهدديني إكده، بس مش مهم أنا مش زعلان منك ومش ده السبب اللي اتصلت بيكي عشانه
خلود بنفاذ صبر وعصبية:
_وأنا معاوزاش اسمع منك حاچة
قبل أن تنهي اتصالهم سمعته وهو يقول بخفوت شيطاني:
_أنت سبق وقولتلك مش هسيبك لحد ياخدك غيري، وأن مكملتيش معايا يبقى مش هتكملي مع حد تاني وبالأخص البشمهندس
رفرف قلبها رعبًا على مروان وصاحت به بزعر ولهفة:
_مروان فين أوعاك تكون عملتله حاچة صدقني اروح فيك في داهية ياسمير
انفجر ضاحكًا ورد عليها ساخرًا بلؤم وهو يلقي بقنبلته على مسامعها:
_اعمله حاچة إيه هو أنا هأذي واد عمي عشانك، أنا كل اللي عملته أني فتحت عيونه على الحقيقة مكنش يرضيني يفضل مضحوك عليه إكده
***
بالأسفل تحديدًا بالصالة حيث يجلس كل من حمزة وغزل يتحدثون حول رأيها في الزواج من ” علي “، كانت آخر عبارات حمزة وهو يسأل غزل التي تطرق رأسها أرضًا تادبًا واحترامًا لجدها:
_يعني ده قرارك الأخير يابتي خلاص؟!
هزت رأسها بالإيجاب دون النظر لوجهه وبتلك اللحظة كان على ينزل الدرج في طريقه لمغادرة المنزل لكنه توقف واختبأ بجانب الدرج ليسمع حديثهم وسمع جده وهو يضرب كف على كف ويقول:
_لا حول ولا قوة إلا بالله
رفعت رأسها وتطلعت في جدها بأسف ثم ردت في هدوء:
_معلش بقى ياجدو بعدين ده نصيب مش كدا ولا إيه وأكيد ملناش نصيب مع بعض
رد حمزة بعبوس وجه وقلة حيلة:
_أيوة يابتي ما أنا عارف أنه نصيب، بس أنتي خُطابك كُترو من دلوك ما شاء الله وأنا الصراحة مكنتش عاوز حد ياخدك غير ” علي ” لأني متأكد أنه هيراعي ربنا فيكي ويحافظ عليكي
ضيقت عيناها باستغراب وعدم فهم ثم سألته باستفسار:
_يعني إيه خُطابك دي ياجدو مش فاهمة؟!
ابتسم حمزة وقال ببراءة مزيفة تضمر خلفها الخبث:
_يعني عرسان ياغزل.. أصل يدوبك الصبح مرت خالك چليلة قالتلي أن في عريس چايلك

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وبالعشق أهتدي (ميراث الحرب والغفران 2))

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى