روايات

رواية بأمر الحب الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم تميمة نبيل

رواية بأمر الحب الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم تميمة نبيل

رواية بأمر الحب البارت الثاني والثلاثون

رواية بأمر الحب الجزء الثاني والثلاثون

بأمر الحب
بأمر الحب

رواية بأمر الحب الحلقة الثانية والثلاثون

عادت ارتجافتها منه مجددا، بعد أن كانت قد تشجعت و ظنت بأنها لا تهابه، الا أنها رغما عنها خافت في تلك اللحظة من نظراته الشريرة، مرت فترة منذ أن رأت مثلها، حتى في حفل زفافهما، لم تكن مثل تلك التي تداهمها الآن، تقريبا للناظر اليها فهي بلا تعبير.
لكن بالنسبة اليها فهي ترى بعينيه القسوة و البرودة، و شيءٍ غامض، مهدد بالخطر، فارتجفت.
توقف الزمن بينهما للحظات و اختفى المتواجدين من حولهما، ينظر اليها و تنظر اليه اسيرة عينيه…
يتهمها بصمت، لكن بماذا؟..
لم يتسنى لهما متابعة حوار اعينهما طويلا، حيث اقبلت رنيم بهدوء اليهم و على شفتيها شبه ابتسامة تحاول رسمها، يتبعها ذلك الوسيم الذي أسر قلبها ذات يوم…
ارتبكت حور قليلا و هي تنظر لرنيم بأمل، بأملٍ من صديقةٍ أضرت بصديقتها دون قصد، و قست عليها في آخر حوارٍ بينهما أيضا دون قصد…
أما رنيم فغير نظرة عتابٍ صغيرةٍ الى حور لم تفعل، لتتجنب النظر اليها و كأنما تتجنب فعلتها الغبية التي أودت بحب أغلى الناس اليها…
اقتربت حور رغما عنها اليها كي تقبلها، لكن حزن عيني رنيم أخبرها بوضوح عن مدى سوء وضعها مع زوجها، هذا دون ذكر عودتهما سريعا من رحلة شهر العسل…
لكنها ارتبكت حين رد عمر تحيتها ببرود و جفاء، بكلمةٍ مبهمةٍ لا تكاد تسمع…
احمر وجه حور بشدةٍ، هل من المعقول أن تخبره رنيم بأن ما فعلته كان من وراء نصيحتها هي!..
تمنت لو أنها تهرب بعيدا، ان كانت لا تتخيل مدى رعبها من خزي معرفة عمر بأن النصيحة منها، فكيف نصحت رنيم بها دون أي تفكير أو اعتبار…
الي أية درجة تكون أحيانا محملة بأنانيةٍ صرفة، حتى تبثها إلى من يحتاج الى مشورتها…
انتبهت الى أنها وقفت أمامهما شاردةٍ بوجهٍ محمرٍ خجلا، حين التفت ذراع نادر حول خصرها يجذبها للخلف اليه وهو بالتأكيد قد رأى طريقة عمر في رد تحيته عليها…
ليبادله نفس التحية بنفس الجفاء و البرودة، بينما يشدد ذراعه مدعما لحور التي مالت الى صدره حزينة تشعر بالخجل من نفسها…
من على كتف نادر، طرفت حور تنظر الى رنيم بعد أن ابتعدا، تعتذر بصمت، كم آذتها!، و كم كانت صداقة سوداوية كما ذكر نادر تماما!، و كم ترغب في اصلاح ما فعلته!، بل في اصلاح صداقتهما من البداية، حيث لا تكون المُستقبِل الوحيد في تلك العلاقة…
وبسبب عدم خبرتها في فن العطاء، كانت أن منحتها أسوأ ما قد يمنحه شخص اليها، نصيحة دمرت زواجها قبل أن يبدأ…
همس لها نادر في اذنها (هل أنتِ بخير؟)
مالت بوجهها تستند اكثر الى كتفه هامسة بحزن (اريد أن ارحل من هنا)
شد عليها اكثر و همس لها بقوة (لا يمكننا الرحيل الآن، لا تتهربي، تحملي مواجهة صديقتك، ربما هي تحتاجك الآن اكثر من أي وقتٍ مضى).
همست له حور بخفوت دون ان يسمعهما احد (على الأغلب لن يسمح لي بالإقتراب منها مجددا، يبدو عليه بأنه لا يطيقني)
رد نادر بخفوت وهو يدير فمه إلى وجهها فيلامس اعلى وجنتها برقة (هكذا كنت لا أطيقها أنا الآخر، لكني تأقلمت مع الوضع، هذا هو حال المتزوجين من حمقاوات بصديقاتهن، من سوء حظهم أن عليهم القبول بالصفقة كاملة الحماقة).
ضحكت حور بهمس حزين، ووضعت يدها على صدره تنعم بإحساسٍ لم تعرفه من قبل، دائما ما كان يمنحها الأمان، لكن هذه المرة كان الوضع مختلفا، كان يخبرها بقلبه انه معها، لا كواجب…
اغمضت عينيها و هي تشعر بنفسها انسانة افضل، كم تتحول من الافضل الى الأسوأ بمجرد مؤشرٍ منه، بحضوره او بغيابه…
اقبل جاسر الى عمر ليسلم عليه بهدوء و بملامح غامضة، بعد ان جذب حنين اليه بالقوة، فنظرت اليه شزرا، الا انه لم يبالي بنظراتها الحانقة، بل بادلها النظر ببرودة ارسلت رجفة في روحها قبل اطرافها، على الأرجح لم يلاحظها عمر و هو يبدو شارد الذهن، في عالمٍ غير العالم…
تمكنت حنين من الهمس بضعف، بينما ذراع جاسر حولها، تهددها و تكاد تقسمها شطرين (مرحبا، يا عمر، مبارك لك).
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ وهي تحاول فرض سيطرتها على هذا الوضع التمثيلي المخزي الذي أثار نار غضبها على جاسر أضعافا…
الا أن عمر كان قد نظر إلى عينيها نظرته القديمة التي تعرفها تماما، و رد مبتسما برفق يذكرها بوجود الجميل في حلمٍ ابتدعته من خيالها (كيف حالك يا حنين؟، مبارك لكِ أنتِ أيضا).
أومأت برأسها مبتسمة بحزن خفي، ثم استدارت تنوي الهرب الا أن ذراع جاسر كانت تحاوطها بوحشية. فرفعت عينيها اليه بتحدي رغم رغبتها في نهش لحمه بأسنانها. كي يتذوق ولو قليلا من بعض الخزي الذي يذيقها اياه…
لهثت دون صوت حين التقت عيناها الزيتونيتان بعينيه. فابتلعت ريقها و هي تلمح رجلا يكاد يفقد السيطرة على نفسه، و كانه يحارب شيئا ما يسود عينيه أكثر…
جذبها أكثر اليه حين بدأ الجميع في الجلوس، فاختارمقعدا وثيرا ليجلس عليه بخيلاء ذكوري. وهو لا يزال ممسكا بمعصمها حتى اضطرت الى الإنحناء قليلا حين جلس…
حاولت جذب معصمها منه الا أنه لم يحرره، فنظرت اليه بعينين ذات لهيبٍ أخضر داكن يشتعل، فما كان منه الا أن ابتسم ليجذبها أكثر و يجلسها على ذراع مقعده وهو يقول بصوتٍ مسموع. كقط خامل (لا تجلسي بعيدا، ابقي قريبا مني).
احمرت وجنتي حنين بشدة امام هذا الاحراج العلني. بينما اظهر عاصم بوضوح امتعاضه من تلك المواقف الحميمة العلنية، فازداد احمرار وجهها، و لم تجد بدا من تكفل ابتسامة صغيرة و هي تميل إلى كتفه و كأنها ستهمس اليه بكلمة خجولة، و همست بالفعل في اذنه (اترك معصمي و كف عن تلك التصرفات البذيئة)
ابتسم جاسر و كأنه تلقى كلمة غزل سرية منها أمام أعين الجميع الشبه مذهولة في مراقبتهما…
ثم رفع وجهه اليها كي يهمس في اذنها مبتسما (لم تري البذاءة بعد يا حنين، فقط استمري في نظراتك البلهاء تلك و ستكونين على الطريق)
ابتسمت له اكثر وهي ترفع وجهها عنه قليلا، حاولت جذب معصمها اكثر، الا انه لم يستجب مجددا…
ومن بين هياج غضبها حانت منها التفاتة أخيرة الى عمر و رنيم.
كانا كثنائي تحيط بهما هالة من النعومة و الحزن!، جاذبيتهما لفتت الأنظار اليهما، بينهما كيمياء عاطفية جبارة، تظهر في اصغر التفاتةٍ منه اليها، بينما اختلاساتها اليه تفضح عشقها المستتر…
مالت شفتي حنين في لحظاتٍ خائنةٍ منها بابتسامة، كم رغبت أن تعيش هذا الحلم!، و كم رسمت صورا في خيالها تماثل تماما صورة رنيم أمامها الآن، و هي تحظى بمن أحبت، تختلس النظر اليه و هي تظنه غافلا عنها، بدلا عنه حظيت بمتربص، يلاحق ظلها، يتسلل من بين انفاسها، تماما كما تسلل الى حياتها دون اذنٍ منها…
لكنه لا يقبل التوقف عند هذا الحد!، يرغب التسلل الى كيانها كله، يتخلله، تصبح مغيبة به، و له…
شاهدت رنيم تنظر اليهما شاردة بحزن، تماما كما كانت هي تنظر اليها و إلى عمر شاردة بحزن منذ لحظات…
لا تعلم لماذا استوقفتها نظرات رنيم قليلا، حيث لم تنتبه و تداري حزنها، …
هل ما يجذبها في نظرات رنيم هو ذلك الحزن الناعم الظاهر؟، ام ان شيئا آخر يجذبها، و هي تراها تتأملها و تتأمل جاسر بابتسامة حزينة متمنية…
ما الذي تملكه و تتمناه رنيم؟، فكرت بشرود بعد أن هدأت قليلا من المقاومة الخفية مع جاسر…
انتبهت إلى كف جاسر التي أسرت كفها بقوة، ليتخلل أصابعها بأصابعه، وهو في ذات الوقت يداعبهم بحركاتٍ تملكية علنية…
ظلت حنين تنظر إلى كفيهما معها، كم بدت كفها بيضاء صغيرة في كفه السمراء الخشنة القوية…
كم كانت أصابعة حنونة لكن حازمة و كأنها توشك على تحطيم أصابعها الرقيقة في أية لحظة…
امتدت عيناها الى قميصه الأبيض الذي أخذ يرتفع و يهبط قليلا. دليلا على أنفاسه المتسارعة و التي يحاول السيطرة عليها…
تجرأت قليلا و أطالت النظر الى عنقه الأسمر و مقدمة صدره الظاهر من قميصه المفتوح العنق…
شعرت و كأنها جالسة على حافة بركان، رغما عنها داهمها ضغف غير مرغوب به و هي تراه يتحمل فوق ما يستطيع جاسر رشيد الذي تعرفه أن يتحمله…
انه يتعلم الصبر على يديها…
حين وصلت عيناها الى عينيه مجددا، فوجئت به ينظر اليها بتعبير غريب، أعمق من سابقه، و لكن بشراسةٍ متراجعةٍ قليلا، قليلا فقط…
ارتجفت، و ارتجفت شفتيها، أرادت الهرب، لولا أصابعه التي تقيدها…
علي المائدة الكبيرة…
كانت تجلس أثير بجوار مالك، قلبها يخفق من هولِ تلك الساعات، هل بالفعل اعترفت له بحبها!، و هل طلبت منه الإبتعاد عنها، فكان أن أخذها إلى بيته، الى اسرته في اجتماعٍ عائلي!..
زفرت نفسا مرتجفا و هي حتى لا تجرؤ على رفع عينيها اليه كي تحصل منه على الطمأنينة التي تنشدها…
رفعت معلقة الحساء الى فمها بأصابعٍ مرتجفة، الا أن يدها توقفت في منتصف الطريق الى فمها فجأة حين شعر جهاز التتبع الخاص بها بأنها تحت المراقبة…
فرفعت عينيها عن المعلقة ببطء لتجد ثلاث أزواج من العيون المتربصة بها…
ظل الحال عدة لحظات، و هي تنظر الى صبا التي كانت ترمقها بصمت. و حوور تلك الفاتنة شقيقة مالك ذات الشفاة الحمراء المكتنزة و الحاجب الرفيع المرفوع بريبة…
و حنين، انها ابنة عمه، التي خطبها يوما، ثم تزوجت من غيره، ذلك الذي يجلس هناك و الذي اقتتل مع مالك و مزقا بعضيهما على طرقات الحي، و ها هما الآن يجلسان الى مائدة واحدة!، ماهذا الجنون!
ظلت أثير ترتجف و المعلقة معلقة في الهواء أمام وجهها، تنتظر منهن أن يتكلمن أو أن يشحن بأعينهن عنها، لكن دون جدوى، فانتصر خجلها أخيرا لتخفض عينيها و يزداد ارتباكها حتى أن الحساء قد انسكب بضع قطراتٍ منه على مفرش المائدة من معلقتها…
ارتبكت و أخفضت معلقتها و هي تحاول التصرف بجزع، الا أن مالك كان قد نظر اليها مبتسما، ليتناول المحرمة من أمامه و يجفف بها تلك القطرات، هامسا بمزاحٍ رقيق (لا بأس، أنتِ تأكلين كالأطفال، كما هي عادتك)
من طرف عينيها. رأت حاجب حور يرتفع أكثر، و حاجبي حنين يزدادا انعقادا، اما حاجبي صبا فارتفعا اندهاشا…
فتابع مالك برزانة (بالإضافة الى هذا الجيش من المراقبات أمامك).
ازداد احمرار وجهها، بينما تذمرت حنين و قالت حور غضب (مالك!)
حينها تدخلت روعة الجالسة على يمينها باتزان يشبه اتزان مالك تماما، (توقفوا عن احراج الفتاة، و أنتن، كل واحدة عينيها في طبقها)
يالهي، انها تريد الفرار من هنا، كيف سمحت له بإقناعها بالمجيء، لكنه في الواقع لم يحتج الى جهد كبير في الإقناع…
حتى امه و بعد ان امرتهن، لا تزال ترمقها بنظراتٍ جانبية توددية، ماذا لو علموا بطبيعة عملها!..
يالهي، الفرار، الفرار و لن تعيدها مجددا…
قالت روعة فجأة بعطف (يا حبيبة أمك، ما تلك الكدمة الزرقاء على جانب وجنتك؟)
سعلت أثير فجأة و انتفضت، ثم امسكت بالمحرمة تمسح فمها قبل أن تتكلم، الا ان مالك كان قد سبقها ليقول بصوت هادىء لم يخدعها. يضم بعض الصرامة (لقد تعثرت ووقعت على وجهها يا امي اثناء صعودنا على السلم).
نظرت اليه أثير بجانب عينيها نظرة طويلة. فتحداها بنظرةٍ مثلها أن تكذبه و تخبرهم بالسبب المخزي لتلك الكدمة…
تأوهت روعة قاطعة نظرتيهما وهي تقول بعطف (يا حبيبتي، لما لم تنتبهي)
ثم ابتسمت بخبث و هي ترمق مالك بنظرات ذات مغزى، قائلة (أم أن الآخذ عقلك فليتهنى به)
احمر وجه أثير كحبات الطماطم، و كذلك وجه مالك الذي ارتبك من حركات أمه المكشوفة…
انحنت حنين الى اذن صبا التي تبدو كطبيب أشعة في ذلك الوقت. (انظري كيف تتصرف حماتك!، زيارة أخرى و سيكون هناك طفل على ذراعها)
همست صبا بقوة (هششش، صوتك عالي)
انحنت حور إلى كليهما وهي بنفس الحاجب الرفيع المرفوع (ربما الناقص هوا ان نجهز لهما غرفة ايضا)
شهقت صبا بجزع وهي تهمس باشد قوة (اصمتي يا حوور، عيب)
همست حنين في المنتصف دون ان تنظر إلى حور (طوال عمرها و هي بذيئة اللسان).
نظرت اليها حور بشر و همست من بين أسنانها كالفحيح (يبدو أن الزواج من جاسر رشيد قد جرئك كثيرا)
التفت وجه حنين اليها بسرعة لتهمس مندفعة (لا دخل لكِ بزواجي، تماما كما لم يكن لكِ دخل بحياتي كلها)
رفعت حور حاجبيها و هي تهمس بيأس (ها قد بدأنا اسطوانة التذمر و الأسى)
ضغطت حنين على أسنانها لتقول (أنا من الأصل كنت أكلم صبا، فما دخلك أنتِ؟).
فقالت حور بتشديد (و أنا أيضا كنت أكلمها هي، لكن أنتِ من تجلسين في المنتصف كاللقمة في الحلق بدلا من أن تجلسي بجوار زوجك)
لم تنتبه حور الى أن صوتها قد علا قليلا، حتى اننتبهت للصمت السائد و تأوهت لقدم نادر الذي يجلس بجوارها و التي ضربت ساقها بقوة…
التفتت اليه لتجده غاضبا و الكل ينظرون تجاهها…
لكن روعة هي من تكلمت لتقول بقوة (والله لو لم تلتزمن الأدب لتأخذن أطباقكن و تخرجن لتناول طعامكن على سلم البيت خارجا، كما كنت أفعل و أنتن صغيرات)
نظرت كلا منهن الى طبقها، بينما ربتت روعة على يد أثير الموضوعة على المائدة لتقول لها بمحبة (قمر، شكلك كالأجانب، من أين حصلتِ على الشعر الأشقر و الأعين الزرقاء)
ابتسمت أثير بخجل وهي تهمس بخجل (من جدتي، كانت تركية الأصل، و قد ورثت أنا لون عينيها و لون شعرها).
امسكت روعة بذقنها تجذب وجهها اليها لتقبل وجنتها وهي تقول (تشبهين القمر، بسم الله ماشاء الله)
ضحكت أثير بخجل أكثر، بينما بدأ يشعر مالك بأنه ربما، ربما، يكون قد أخطأ في جلب أثير الى حيث جيش التتار…
بعد انتهاء العشاء الكارثي من كل النواحي، اتجه الجميع بصمت الى غرفة الجلوس المذهبة الواسعة…
جلست أثير بصمت وخجل، حيث لم يصل مالك بعد، و كانت روعة لا تزال بالمطبخ…
لكن ما لم تحسب حسابه، هو وصول ذلك الكائن الهمجي الضخم الذي اقتتل مع مالك، زوج ابنة عمه، ليجلس على مقعد مقارب منها قليلا…
فركت أثير اصابعها قليلا. و هي تنظر اليه بطرفِ عينيها، بتوجس لتجده يتطلع اليها بشرود…
ثم فوجئت به يتكلم بخفوت (ألستِ أنتِ من تسكنين مع أحلام؟)
اتسعت عيناها قليلا. وهي تفكر هل من الممكن أن يتذكر من مجرد فتحها للباب؟، لقد كانت مجرد لحظات، ثم نشب القتال بينه و بين مالك…
لكنها ردت بخفوت بعد لحظة. (نعم أنا)
ما عرفته هو أنه ابن زوج أحلام، اي أنه أخ غير شقيق لإبنتها…
اومأ قليلا وهو يتأملها، ثم قال بخفوت (لم يصح لنا التعارف، هل أنتِ من معارف أحلام؟، أم أنك من اصدقاء ابن رشوان)
كانت حنين في تلك اللحظة آتية من مدخل البهو، الا أنها ما أن سمعت أسئلته لأثير حتى تراجعت قليلا للممر، تستمع اليهما و هي عاقدة حاجبيها…
قطبت اثير حاجبيها. و هي تفكر، أصدقاء ابن رشوان؟ لماذا يقولها و كأنها اهانة
قررت تحديه لتقول بشجاعة (وما الفارق بالنسبةِ لك؟)
ابتسم قليلا مما زاد عجبها، فقد توقعت أن يغضب ربما، لكنه أجاب بهدوء (الفارق ضخم، لو كنتِ من معارف أحلام، فواجب عليا أنا أن أعيدك اليها، و أن أنبهك بأنه ليس من المناسب أن تخرجين مع ابن رشوان بهذا الشكل مجددا).
اتسعت عيناها و هي لا تصدق ما سمعته للتو، ما هو مقدار وقاحة هذا الرجل!، و من يظن نفسه!..
ظلت لعدة لحظات متسعة العينين و فاغرة الفم قليلا. تحاول أن تجد الرد المناسب لتوقفه عند حده، الا أنه قال بهدوء (بما أن الذاكرة لم تسعفك الى الآن بإيجاد الكلمات المناسبة لردعي، فلما لا تجيبين ببساطة)
زمت أثير شفتيها بغضب. ثم قالت اخيرا من بين أسنانها تتحداه و عيناها بعينيه (أنا من اصدقاء مالك. و أقمت لفترة كضيفة لدى أحلام الى أن، أجد سكن).
رفع جاسر حاجبيه متفهما، و إن كانت تشك أن يكون قد فهم أي شيء، ثم قال لها بصوت هادىء (هل تعملين؟)
أخفضت عينيها. قليلا، ثم قالت بخفوت بعد تردد (أنا، أبحث عن عمل حاليا)
اومأ برأسه مفكرا قليلا، ثم قال أخيرا بهدوء (جيد، ربما وجدت لكِ الحل بعد حين)
اتسعت عيناها قليلا و هي ترفعهما اليه، فوجدت على فمه شبه ابتسامة، لتظهر شبح واحدة على شفتيها ببطء
ربما هو مجرد طيب احمق اخر، تماما كمالك…
كانت حنين في هذا الوقت تستمع اليهما، مستندة الى جدار الممر، تلهث غضبا، تشتتا، غرابة…
كم هو سريع في التنقل باهتمامه…
غامت عيناها الزيتونيتان و أصبحتا كغابتين نديتين بعد أمطارٍ عاصفة، و افترت شفتيها عن ابتسامة حقد دفين، كم هو سريع!، و ماذا كانت تظن…
بعد أن غسلت يديها، و خرجت تنوي العودة اليه سريعا، فاجأتها حور بأن وقفت في طريقها…
رفعت رنيم عينين حزينتين صامتتين اليها، مزقتا قلب حور بيأسهما، فهمست بترجي (اذن، كيف الحال؟)
ابتسامة ملتوية شقت طريقها لشفتي رنيم المشقوقتين، ثم همست بحزن (كيف تظنين الحال)
مدت حور كلتا يديها لتمسك يدي رنيم ثم قالت بلهفة (لكنه ليس منيعا تجاهك، لقد رأيت ذلك بعيني)
ابتسمت رنيم ابتسامة حزن أكبر. و همست بحب متألم (لقد أخبرني ذلك بنفسه، لقد قالها بنفسه)
هتفت حور بأمل (اذن).
قالت رنيم و هي تغالب دموعها بقوة (لكنه مجروح من تصرفي، و الأفظع هو أنني أشعر بأنه فقد ثقته بي نهائيا)
لم تستطع حور أن تنطق بكلمة، لم تجد ما تقوله، ما تنصحها به، فهمست بضعف (أنا آسفة، أنا حقا آسفة).
لم ترد رنيم و شدت كفيها على كفي حور قليلا، ثم همست (لقد كنتِ محقة في شيء واحد، هو أنني أردتك أن تنصحيني بما أردت سماعه، و الا لما كنت طلبت النصيحة من الاساس، انه خطأي أنا يا حور، و أنا من يجب أن تتحمل نتائجه)
دمعت عينا حور و ضمتها اليها بقوة، فمرغت رنيم وجنتها بكتف حور، و قالت بهدوء، (انها فرصتي الأخيرة معه يا حور، أما أن أستعيده، أو أن أفقد جزءا من نفسي).
ردت حور تشد من ذراعيها حولها (ستسعيدنيه، خذيها كلمة أخيرة مني، ستستعيدينه)
اتجهت تبحث عنه، حتى وجدته من طرف باب البيت المفتوح قليلا. واقفا في الظلام أعلى سلالم المدخل، فتسللت لتخرج خلفه.
كان يدخن سيجارة بصمت ناظرا الى ظلام الليل كما اعتادت منه مؤخرا، اقتربت منه أكثر، لتأخذ نفسا ثم تهمس (منذ متى تدخن؟)
لاحظت توتر جسده، لكن صوته أتى خفيضا صلبا (ليس منذ فترة طويلة)
سألته بخفوت (و أنا السبب؟).
لم يرد عليها لعدة لحظات ثم قال أخيرا بخشونة (الم يحن موعد رحيلنا بعد؟، تعلمين أنني أتيت رغما عني، بعد ان وافقتِ دون أن تسأليني رايي)
اقتربت منه أكثر و همست (لم أستطع الرفض يا عمر، والدة حور هي بمثابة والدتي منذ أكثر من عشر سنوات و حين علمت بمجيئنا أصرت على أن تدعونا خاصة أن زفافي كان مع حنين).
زفر عمر بنفاذ صبر ثم القى سيجارته أرضا و دهسها بقدمه، قبل أن يركلها بعيدا. ثم استدار اليها عابسا يقول بخفوت (و ها قد أتينا، بإمكاننا المغادرة الآن)
رفعت رنيم كفها الى صدرها برقة و همست (أرجوك يا عمر، انتظر قليلا، قليلا فقط).
تأفف عمر و أبعد وجهه عنها، فتشجعت و اقتربت منه لتمسك بكفه، حاول سحبها الا أنها تشبثت بها بقوة، باصابعها و اظافرها التي نشبتها بباطن كفه، و همست (أرجوك لا تبعدني عنك، الا تدرك مدى صعوبة الأمر حين أنظر الى حور و حتى حنين و أرى نظرة زوجيهما لهما).
استدار اليها كطوفان و هو يقول بغضب من بين أسنانه (الا تدركين أنتِ موقفي و أنا في وضعٍ لا أحسد عليه، لسنا وحدنا من نعرفه، بل أيضا صديقتك الأنانية التي تجبريني الآن على التواجد معها)
همست رنيم بجزع (هشششش، ارجوك اخفض صوتك)
ابتسم عمر بسخرية، (هل هذا هو كل المهم؟، الا يسمعنا أحد؟، نسيت أن مظهر الزواج بكل طقوسه هو من اهم أولوياتك في الحياة).
ارتفع حاجبي رنيم بصدمة من قسوته المتعمدة، فقالت بجمود (لا تعاملني بتلك الطريقة يا عمر، لا تتعمد جرحي، ليس من أجلي، لكن، لأنه لست أنت، لست أنت، لا تكن ذلك الشخص النقيض منك لمجرد أن تؤذيني)
تنهد عمر بقوة و استدار بعيدا عنها جاذبا كفه بقوةٍ من بين يديها، ثم قال بجفاء (لا رغبة لي في ايذائك، انني أحاول، و أنتِ كالعادة لا تمنحيني حتى بعض الوقت لأتأقلم مع ذلك الشرخ الذي احدثته في علاقتنا).
سكت قليلا. ثم قال ضاغطا من بين أسنانه (منذ أن عدنا و أنتِ لا تكفين عن قبول كل دعوة، والدتك كي لا تشعر بخطبٍ ما، خالتك كي لا تشك في الأمر، ابنة خالتك و زوجها جاءا للتهنئة، فيجب على أن أبتسم و أبالغ في دلالك أمامهما كي لا يشكا في الأمر، والدة صديقتك التي تسيرين خلفها مغمضة العينين و التي تجبريني الآن أن ابتسم لها كأن لم يكن شيء).
عاد ليصمت و هو يفتح علبة سجائره ليلتقط سيجارة أخرى و يشعلها بغضب، ثم ينفث دخانها بنفاذ صبر و هو يتابع (بينما كل ما تريدينه حقا، هو أن تصل معلومة سعادتنا الوهمية للحقير، خطيبك السابق، كي تُعلميه بأن خطته القذرة لم تنجح في افشال زواجنا، و الأهل، و الاصدقاء، و المعارف، كل من توهمتِ رؤية نظرة تشفي بعينيه يوما…
هل ظننتِ بأنني لم ألحظ نظرات التصنع في تلك الدعوات، و كم تبذلين الجهد كي تظهري سعيدة أمامهم…
لو كانت حياتنا معا و اصلاحها في مقدمة أولوياتك. لما تكلفتِ كل هذا العناء في مظاهر تافهة. )
أخذ ينفث نفسا خلف آخر، ثم تابع ضاحكا بفظاظة (كل ما اهتممت به يوما هو ذلك اللقب الثمين، اللذي يهون من اجله الغالي و النفيس. لقب زوجة).
(امممممم، لا، لا أعتقد أنني تخيلت نفسي في هذا اللقب ابدا، لكن عامة امنحني فترة لأفكر بعرضك)
استدار عمر مصدوما حين سمع الصوت الذكوري يرد عليه بدلا من صوت رنيم الناعم، ففوجىء بجاسر يقف خلفه رافعا احدى حاجبيه و يديه في جيبي بنطاله، و العود الخشبي المعتاد بين أسنانه…
مد عمر نظره من حول جاسر بحثا عن رنيم، الا أن جاسر سبقه ليقول ببساطة (شاهدتها منذ لحظات تدخل و هي تخرج بصمت و بأنفٍ حمراء، ثم اسعدني الحظ بأن أسمع جزء من قصيدة الغزل التي كنت تمطرها بها)
عقد عمر حاجبيه و أخذ يتنفس بصعوبة، ثم قال مصدوما (الى أي حد سمعت من الكلام؟)
اقترب جاسر منه ببطء حتى أصبح في محاذاته. ناظرا إلى الليل الأسود أمامهما، ثم قال بخفوت (الى الحد الذي اقنعني بأنك جلف عديم الإحساس).
ثم نظر اليه ليقول بتعجب (هل هذا كلام تخاطب عروس في شهر عسلها!، هل هذا كلام تخاطب به أي انثى من أي نوع!)
قال عمر بغضب (انظر من يتكلم، ثم لا شأن لك بحياتي يا جاسر، ابتعد عني الليلة تحديدا)
قال جاسر بصوتٍ أجوف (للأسف، مضطر لتحمل فكرة تجسدك حاليا أمامي الليلة، و أمام، حنين، و كان هذا آخر مخططاتي).
نفذ صبر عمر و كان أن يهتف وهو يستدير اليه قائلا بحنق (بالله عليك لا تبدأ في هذا، أنا حاليا مستعد لأن أقتل أي كائن يستفزني)
أخذ نفسا عميقا ثم قال بغضب (جاسر، ان كنت تريد أن تقطع صداقتك بي في سبيل أن تكون مطمئن البال، فافعلها، لكن اياك وأن تحملها المزيد الألم، لمجرد أنها عاشت وهما لفترة مثلها كمثل أي فتاة).
لم ينظر جاسر اليه وهو يقذف العود من بين أسنانه ثم يخرج سيجارة هو الآخر ليشعلها، كان يحترق بداخله، و لا يمكن لأحد أن يشعر به…
اعز أصدقائه، وهو الشخص الذي سمع اعتراف زوجته بحبها له، باذنه، بنفسه، و الأفظع أنه هو الملام الوحيد من البداية…
نفث جاسر دخان سيجارته بعنف عله يهدىء تلك النار بداخله، ثم حاول تجلية حنجرته ليقول بخشونة مغيرا الموضوع، (اذن، ما قصتك انت و زوجتك، و أنتما لا زلتما بشهر العسل).
ثم نظر بنظرة جانبية الى عمر ليقول بصوت ذو معنى (هل قصرت رقبتنا!)
نفذ عمر بنفاذ صبر و اندفع ليمسك بمقدمة قميص جاسر يجذبه ليقول من بين أسنانه (جاسر، اتقِ شري في هذه اللحظة)
لم يهتز جاسر و هو يبعد يده عن قميصه ليقول مهدئا (حسنا، حسنا، مادمنا قد اطمئننا عليك من هذه الناحية، فعلى الأرجح أن السبب يعود الى ذلك الحلزون الذي لكمته في حفل الزفاف).
جذب عمر يده بقوة و هو يستدير بعيدا، فتابع جاسر يقول (كانت على وجهه تلك النظرة التي تقول بانه ينوي أن يفسد حياة البعض. حين دخل الى القاعة، و على مايبدو فانه قد نجح)
ظل عمر صامتا دون أن يلتفت لجاسر، الذي تابع مصمما (أريد فقط أن أخبرك بشيءٍ واحد، أنت نفسك لم تكن مثال النزاهة حين قررت أن تجتذب فتاة تحمل خاتم غيرك في اصبعها).
استدار اليه عمر بعنف. الا أن جاسر أكمل كلامه بهدوء. (لكنك وضعت بعض. الأولويات، نصب عينيك، لذا قررت حينها أن تتنازل عن بعض مبادئك…
فعليك الآن تحمل بعض عواقب قرارك من البداية، و لا تحملها هي كل الذنب).
تجمد صمت قليل بينهما و عمر ينظر اليه متجهما، فضحك جاسر بقسوة وهو يقول (كل انسان يكون في غاية الحكمة حين ينصح غيره، لكن بما أنك تنتوى أن تستسلم من اول اسبوعين، فأنا اذن استحق وسام الشرف على كفاح الأبطال الذي أحياه حاليا)
فتح عمر فمه متجهما ليرد. الا أن جاسر ربت على كتفه ليقول بخفوت يبدو به الكثير من الكبت (فقط فكر فيما سمعته).
ثم تركه ليخرج باحثا عن صغيرته، فهو لا يطمئن كثيرا حين تغيب عن عينيه لفترة طويلة، فلربما ركبت صاروخا للقمر هربا منه…
دخل غرفته بصمت، صافقا الباب خلفه، يريد أن يبتعد مؤقتا عن كل هذا الجمع…
اتجه الى حمام الغرفة، لكن بابه فتح فجأة، لتخرج منه وهي تجفف يديها بمنشفة صغيرة…
وقف مكانه، و تسمرت هي كذلك مكانها و كأنهما حبيبان من الماضي تقابلا صدفة…
ارتبكت و اخفضت وجهها و هي تفرك يديها بالمنشفة ممتنة لأنها تخفي ارتجاف أصابع يديها…
الا انها لم تستطع منع أصابعها من الصعود لحجز خصلة شعر ذهبية عسلية خلف أذنها بعد أن كانت قد تحررت قليلا من حجابها و هي تشعر بالإختناق من عدم قدرتها على تحمل تجاهله لها من بين الجميع…
طال الصمت بينهما حتى اصبح كثيفا. خانقا، محرجا، و لم يبد على وجهه الجامد أنه ينوى الكلام قريبا، لذا حين لم تحتمل الصمت أكثر اضطرت للهمس بتصلب (أنا، آسفة، لقد، كنت أريد أن أغسل وجهي و اتحرر من حجابي قليلا، لم أكن أعرف أنك تريد الغرفة)
ظل الصمت قليلا، حتى اضطرت الى رفع عينيها اليه فصدمتها قساوة عينيه. فرفت بعينيها قليلا.
فقال عاصم بخشونة وهو يتجاوزها (جيد، و بما انكِ عرفتِ فبعد اذنك اريد استخدام الحمام)
الا انها لم تتنحى عن طريقه على الرغم من صعوبة تحملها لقسوته المتعمدة، فرفع حاجبه منتظرا باستهانة
فشعرت بحرجٍ بالغ لتردد مجددا بتردد (لم اقصد ان اتطفل)
فصدمها مرة أخرى بصوته الأقسى من نظراته (انها غرفتك ايضا، إن كنتِ قد نسيتِ ذلك).
ارتجف قلبها قليلا، قبل أن تزفر بتعب وهي ترفع يدها الى جبهتها، ثم قررت أن تكلمه أخيرا بهدوء. على الرغم من الألم الذي تصر على تجاهله، (عاصم، ربما كانت الليلة، هي الفرصة الاخيرة لنتحدث بها بتعقل)
رفعت عينيها العسليتين إلى الى عينيه الصلبتين، و تابعت بصوتٍ أكثر خفوتا. (عاصم، أنا لا أرى جدوى من استمرارنا بهذا الشكل، نحن لا نفعل شيئا سوى ايلام نفسينا).
حين لم يرد عليها و لم يرف له جفن. تابعت وهي تخفض رأسها فعادت خصلة شعرها العسلية لتغطي جانب وجهها وهي تقول باتزان (لقد جرحتني يا عاصم. جرحا لا استطيع حتى نسيانه، افقدتني بيت والدي و افقدتني امانة كبيرة تجاه ضميري، لم يكن من حقك ان تتصرف بها)
تنهدت ببؤس ثم همست بضعف (عاصم، بغض النظر عن الكلام في مواضيع ستؤلمنا و تفتح جراحا من جديد).
رفعت عينيها اليه مجددا لتنظر في عينيه بصدق، و ألم، و حب لم تستطع اخفاؤه و همست بحزن (نحن مختلفان تماما، نحن من عالمين مختلفين، وكلانا لا يفهم الآخر مهما حاول)
ضيق عاصم عينيه منتظرا، و حين توقفت عن المتابعة، قال بجفاء (هل انتهيتِ؟).
ابتلعت كرامتها قليلا قبل أن تأخذ نفسا عميقا و تقول متنهدة (لا، لم أنتهى بعد، هناك شيء أخير أنت تعرفه تماما وهو انني احبك، لقد احببتك دوما، لكني ببساطة لا استطيع ان اسامحك، لقد حاولت الفترة الماضية وفشلت، ارجوك دعنا ننفصل بهدوء لأن هذا الوضع يؤلمني أكثر مما يؤلمك و يشتتني عن عملي و حياتي كلها)
ظل عاصم صامتا قليلا قبل أن يعيد بصلابة (هل انتهيتِ الآن؟).
همست بغصة تسد حلقها و دموع حبيسة تهدد بالإنفجار في أية لحظة، (نعم، انتهيت)
قال عاصم بصرامة (جيد، لأن لدي ما اقوله لكِ)
ثم اقترب منها خطوة لتتراجع هي قليلا محدقة في عينيه المخيفتين، لكنه توقف على بعد خطوةٍ واحدة منها ليقول بوضوح (من تظنين نفسك!، بصراحة من تظنين نفسك!)
عقدت صبا حاجبيها وهي تقول بخفوت (ماذا!).
تابع عاصم بشراسة (من تظنين نفسك لكي تطلقي الأحكام على الناس و تصنفينهم!، أنتِ من عالم و أنا من عالم!، وما هو عالمي من وجهة نظرك العظيم؟، ربما عالم المجرمين و اللصوص)
هزت صبا رأسها بعنف وهي تهتف (لا أنا لم)
الا أن عاصم قاطعها بأشد شراسة (لقد تحملك منك صلفك و غرورك طويلا، لكن و بما أنك صريحة الى هذا الحد، فسأجيبك بالمثل).
تراجعت صبا حتى ارتطم ظهرها بالجدار الا أن عاصم كان قد وصل اليها و أمسك بذراعيها بقوةٍ يهزها، (أنتِ عنيدة و غبية، و مغرورة، تظنين انك وحدك من تحملين راية العدل، لا تعرفين شيئا عن المشاعر الآدمية لأن قلبك متجمد، اخترتِ وحدتك بداخلك و بنيت لنفسك حاجز جليدي تحت مسمى الحق، لا تعرفين معنى أن يموت انسان خوفا على اغلى الناس اليه، و يضطر حينها الى أن يحني رأسه للحثالة في سبيل الدفاع عن من يحب).
هتفت صبا بقوة من بين دموعها (لم أطلب منك ذلك، كنت أريدك قويا، كنت أريدك أن تكون بجانبي في مواجهتهم، لا أن تخذلني)
هزها عاصم مرة أخرى وهو يهدر بغضب (أنتِ من خذلتني بكل انانيتك و تهورك و غبائك، و صقيع قلبك)
صرخت صبا بجنون (لقد سلبتني بيتي).
رد عاصم صارخا (كومة حجارة، لم يمثل لي سوى كومة حجارة حين اوشكت أن أفقدك، لكنك لن تتمكنين يوما من فهم ذلك، لأن الأمر يتطلب انسان له روح و قلب مثل باقي البشر كي يشعر مثلهم، أما أنتِ فلا تملكين سوى قلبك الحجري و عقلك العنيد الغبي، تظنين أنك ستصلحين العالم، بينما أنتِ لا تمثلين سوى بعوضة يمكن سحقها بكل بساطة).
صرخت صبا و قد وصلت لمرحلة الخطر حين تضرب من أمامها بقسوة (على الأقل أنا أحاول لأرضي ضميري، اما أنت فقد تصرفت بجبن، حين دافعت عني المرة الأولى، كنت عدوي الأول و مع ذلك ضعفت أمام شجاعتك لذلك قبلت بالزواج منك، لأنك مختلف عنهم، لأنك لست منهم…
أما بعد تصرفك الاخير، فقد اهتزت مكانتك في نظري).
صمت كثيف ساد الجو بينهما، لم يقطعه سوى صوت أنفاسهما، و بينما كانت صبا تعض على شفتها و هي تغمض عينيها بأسى، كان عاصم ينظر اليها بلا تعبير، حتى الشراسة اختفت ليحل محلها اللاتعبير الأكثر خطرا، و بعد عدة لحظات قال عاصم بصوت خفيض خطير (أما أنتِ فقد اهتزت مكانتك في نظري منذ وقت طويل، طويل جدا، و كنت اخدع نفسي و احارب في قضية خاسرة من البداية).
ومد يديه فجأة ليحل شعرها بقسوة من عقدته خلف رأسها و أخذ يتخلله بأصابعه بقساوةٍ جعلتها تئن و تحاول الإفلات من بين يديه، الا أنه لم يسمح لها، بل امتدت اصابعه الى أزرار قميصها تحاول أن تحلها هي الأخرى…
هتفت صبا بجنون و هي تتلوى من بين يديه، (توقف عن هذا يا عاصم، توقف)
الا أنه كان كمن تحول لكائن فظ وهو يجذبها إلى صدره بفظاظة، يتلمسها بإهانة أكثر منها رغبة و مشاعر…
اخذت تضربه بقبضتيها دون جدوى و كأنها في مواجهة جدار صلب، و ارتجفت حين همس بقرب عنقها بفظاظة (الكائن الدنيء الذي اهتزت مكانته في نظرك لا يهمه سوى أن ينال ابنة المستشار ليضعها في مكانها الحقيقي كمجرد زوجة، تخدمه و تلبي رغباته، هذه هي بيئتي التي نشأت بها فلما الذعر يعلو ملامحك الآن؟)
كادت صبا أن تصرخ بعلو صوتها ليس خوفا، بل غضبا من تلك الصورة الملموسة التي يحاول أن يرسمها لها…
و استمر عاصم حتى ظنت بأنه سيكمل الطريق للنهاية، منهيا كل لحظة حلوة في ذاكرتها كانت بينهما ذات يوم…
الا أنه تركها في اللحظة الأخيرة ليدفعها بغضب حتى ارتطم ظهرها بالحائط مجددا، فأمسكت قميصها تضمه اليها و هي تبكي، دون أن تنظر اليه وهو يلهث في قمة مشاعر الغضب المجنون…
و حين تكلم أخيرا قال بصوت خافت شرير (طلاق لن يحدث يا صبا و سأتركك معلقة كالبيت الوقف، هل هذا يكمل صورتي في عينيكِ؟).
ثم تركها ليتجه الى الباب خارجا، لكن قبل أن يخرج التفت اليها و قال بصوتٍ قاسٍ مرددا كلماتها باستهانة (على فكرة، أنا ايضا أحبك و قد أحببتك دوما)
ثم استدار ليخرج صافقا الباب خلفه بكل قوته، تاركا اياها مستندة الى الجدار تبكي و تشهق بعنف…
أوقف مالك سيارته في الطريق الضيق بين بيته و بيت أحلام، ثم نظر إلى أثير في عتمة السيارة مبتسما…
كم كانت جميلة في ليلةٍ مقمرة…
لم يرها يوما بمثل هذا الجمال، تنهد بكبت وهو ينظر امامه متشبثا بعجلة القيادة…
ثم قال بخفوت (كانت ليلة، رائعة)
همست أثير بعد فترة (نعم، لقد كانت، شكرا لك)
قال بهدوء خشن (باستثناء بدايتها)
همست أثير مطرقة برأسها (نعم)
فقال مالك بغضب مخفي (وجنتك لا تزال زرقاء قليلا)
فهمست بارتباك (لا بأس، ستزول قريبا، لا تقلق).
لا تصدق أنهما يجريان تلك المحادثة المهذبة بعد أن اعترفت له بحبها، أين كان عقلها!، و كيف ستواجهه فيما بعد، بعد أن تزول روعة الليلة…
قال مالك مقاطعا أفكارها (أثير، لا أريد أن أطوف بحثا عنكِ مجددا، اتفقنا؟)
أومأت برأسها بأسى صامت، ثم قال متوترا (يجب أن تصعدي إلى البيت الآن، تواجدنا بهذا الشكل ليس مناسبا).
رفعت عينيها الزرقاوين اليه، فقرأ بهما حبا صامتا بمنتهى وضوح شفافيتهما، اندفع الدم دافئا داخل أوردته، لأول مرةٍ في حياته يرغب في أن ينهل مما يعرض عليه…
الرغبة، هل هي الرغبة بفتاة جميلة كلها براءة، اعترفت له بحبها للتو، و ليس هذا فحسب بل تحتاجه ليسدد كل خطوةٍ من خطاها…
اي رجل يستطيع مقاومة ذلك!، و كان يظن بأنه لا يملك ضعف الرجال…
ما هو الشعور المسيطر عليه حاليا؟، هل هو تأنيب الضمير؟، أم ابتهاج أناني ممتزج بشهوة افتقدها طويلا…
عاد ليتنفس بعنف، قبل أن يهمس بخشونة لطيفة (هيا اخرجي، و اعتني بنفسك)
مدت يدها لتفتح الباب قبل أن يتبع كلامه بكلمةٍ خبيثة (من أجلي).
استدار رأسها اليه بسرعة، تنظر اليه بعينين متسعتين قليلا، أما هو فكان عاقدا حاجبيه، انه يقوم بأقدم حيل الشباب، ما الذي دهاه؟، ما الذي دهاه؟، هل ينوى الوقوع في الخطأ، و مع فتاة بريئة مثلها…
هل هو بنفس الخسة التي صورتها له حور بالفعل!
قال مالك فجأة بقوة (اراكِ لاحقا يا أثير)
خرجت أثير بسرعة، تتعثر من السيارة و جرت تصعد السلم، بينما جلس هو في الظلام صامتا عاقدا حاجبيه بجزعٍ و غضبٍ من نفسه…
أفاق من شروده على صبي المقهى يطرق على زجاج نافذته بإلحاح…
ففتح مالك النافذة ينظر اليه بحيرة و هو يرى على وجهه خبر غير سار!
حين وصلت أثير إلى بيت أحلام وهي تلهث من صعود السلم بسرعة و من مشاعرها الحمقاء المنهارة من كلمته الأخيرة…
وجدت باب البيت مفتوحا على غير العادة في هذا الوقت، لم تحتاج الى الطرق حين خطت من الباب المفتوح على مصرعيه و توقفت حين وجدت جمع محدود من الرجال، جالسين متجهمي الوجه…
و احلام تجلس في كرسيٍ بعيد صامتة كئيبة، قلقة و متوترة…
رفعت أحلام عينيها الى أثير و برقتا قليلا بعد أن زال بعض قلقها عليها، الا أنه من المؤكد ليس غيابها لليلة هو سبب كل هذا التوتر المنتشر في الأجواء…
همست أثير بخوف بعد أن علت النظرات الغاضبة اليها واحدة تلو الأخرى بعد أن فطنوا لوصولها. (مرحبا، لقد، عدت)
وقفت أحلام بسرعة لتقول بقلق (أين كنتِ يا أثير؟).
أخذت أثير تقترب ببطء منها و هي تهمس معتذرة (أنا آسفة جدا لأنني أقلقتك يا أحلام، لكنني عدت الآن)
قالت أحلام بقوةٍ أكبر مكررة نفس السؤال أمام هذا الجمع (أين قضيتِ ليلتك يا أثير؟)
همست أثير تدير عينيها بين الوجوه المخيفة (لماذا؟).
حينها نهض احد الرجال هائجا يهتف (أجيبي على السؤال يا فتاة، أين قضيتِ ليلتك؟، هل تظنين أن هذا الحي لا يحوى سوى النساء كي تدورين كما يحلو لكِ، تتصرفين تصرفاتٍ شائنة في البيت الذي فتح بابه لكِ)
صرخت أثير بخوف و ذهول (ماذا؟، انا!)
بينما قالت أحلام للرجل بغضب (هذا يكفي، أنا لا أقبل أن تتكلم بهذا الشكل عن ضيوفي و عن بيتي، اهانتك موجهة لي أنا شخصيا).
التفت اليها الرجل الضخم هائجا (بل أنتِ من غفلتك لا تدرين ما يدور ببيتك من خلف ظهرك بين المعززة ضيفتك و ابن الحاج رشوان)
صرخت أثير و هي تضع يدها على فمها برعب. بينما قالت أحلام بصرامة (؛ قلت كفى، أنا لا اسمح لك).
تابع الرجل هائجا (لقد رأتها النساء تنزل من سطح البيت فجرا، ثم تبعها هو، كما أنه يخرج معها دون أن يعلم أحد الى أين يذهبان، و قد استقبلته في البيت في غيابك، و ها قد انتهى الأمر بقضائها ليلة كاملة خارج البيت بالرغم من استضافتك لها، و اخبارنا بأن لا مكان لديها سوى بيتك لتبيت به…
اسمعي يا أحلام، ان كنتِ أنتِ تقبلين بالخطأ فنحن والله لن نقبل، لأننا لسنا نساءا).
صرخت أحلام بغضب، الا أن صرختها ضاعت في صرخة رجولية أعلى نبرة (أخرس)
التفتت الوجوه إلى الباب حيث دخل مالك هائجا كالبركان وهو يتابع بغضبٍ رهيب (كيف تتجرأ و تشوه سمعة فتاة ائتمنتكم عليها، و سمعة ابن الحاج رشوان الذي تعرفونه جيدا)
قال الرجل بغضب (اذن كان يجب عليك أنت أن تصون الأمانة أولا، لا أن تدعها مجالا للقيل و القال، تلك الفتاة يجب أن تغادر الحي الى غير رجعة، أما أنت، فسمعة والدك رحمه الله تشفع لك).
صرخ مالك ليقول بغضب و جنون (اخرس، تلك الفتاة هي خطيبتي، ليلة أمس كانت عند والدها في المشفى و الليلة كانت عند والدتي و مع اخوتي)
ساد صمت مريع في المكان، ثم بدأت الهمهمات لكن الرجل قال بخشونة (انك تفتعل تلك الخطبة لتتستر على الأمر ليس الا)
قال مالك بصرامة ترجف لها الأعصاب (كلمة أخرى عن خطيبتي و ستقوم حربا في هذا الحي أنت لست أهلا لها).
توتر الرجل و توتر الجميع، الى أن قال بصلابة (اذن بما أن والدتك و أخاك الأكبر يعلمان بالأمر، فمتى هو عقد القران؟، الحي الراقي لن يمحي الأصول يا ابن رشوان)
ما أن دخلا شقتهما حتى علا رنين هاتف رنيم، فأخرجته بصمت ميت، منذ أن تركته في بيت صديقتها و هي صامتة لا تتكلم، عيناها حمراوان بوضوح، لقد بكت بمفردها طويلا، و قد ظهر هذا للجميع…
شعر في تلك اللحظة و كأنه تلقى لكمة في بطنه، الم يخبرها بأنها لا تهتم سوى لرأي الناس!..
لكن ها هو حين علم الجميع ببكائها دون تعليق شعر و كأنها تلقى لكمة…
لم يتخيل أن يضعها في مثل هذا الموقف أبدا، تنهد بتعب وهو يمسك جبهته…
ثم نظر اليها و هي تهمس قبل أن تدخل الى غرفتهما كي لا يسمعها، الا أنه تبعها دون صوت ووقف عند باب الغرفة المفتوح قليلا…
همست أثير في الهاتف (لا يا أمي، ليس غدا، و لا بعد غد، لا، لا يا مي و ليس في عطلة نهاية الأسبوع).
صمتت قليلا، ثم ردت بصوتٍ أعلى قليلا (لا يا أمي، لن أستقبل أحدا بعد الآن، و لن أقبل بأي دعوة، لا أريد و لا يهمني الأصول، لم يعد يهمني شيء يا أمي، لقد كبرت على أن أهتم باراء الآخرين)
عادت لتصمت قليلا ثم هتفت و قد بدأت في البكاء فجأة، (ارجوكِ يا أمي، امنحوني الفرصة لأبدأ حياتي، و أنا لا أريد أحدا بها حاليا، كل من تتكلمين عنهم كانو يسخرون مني سابقا، و يلاحقونني بنظراتِ حسرةٍ زائفة…
الآن يريدون أن يهنئوني!، سعداء من أجلي!، من تقنعين يا أمي، لقد ذقنا منهم المرارة في تشفيهم الخفي و في الخاطبين الذين كانو يتوسطون لهم لا لشيء سوى لمعرفتهم بأنني سأتلقى خيبة جديدة تلو أخرى)
جلست منهارة على حافة السرير تبكي و تغطي عينيها بكفها وهي تهتف (أريد أن أبقى وحيدة يا أمي، لقد خذلني الكثيرون، فخذلت أنا أقرب الناس لي)
تغضنت عينا عمر ألما، ثم ابتعد بعد أن فقد القدرة على الإستماع للمزيد…
حين أوقف السيارة امام باب البيت، تنهدت براحة بعد رحلة الصمت الطويلة المظلمة في الطريق السريع البارد، لقد أوشكت على ان تفقد أعصابها من هذا الصمت البارد و الذي تآمرت معه رياح الليل الباردة من نافذة مقعده المفتوحة، فساعدت في بث التوتر في عروقها بجانب الغضب من تلك الليلة بأكملها…
خرجت من السيارة دون أن توجه اليه كلمة، او حتى نظرة…
ثم صعدت الدرجات القليلة امام الباب و انتظرته في صمت كي يفتحه، سمعت صوت خطوات قدميه على رخام السلالم…
حتى في صوت تلك الخطوات تكاد تسمع الغضب المشحون الذي يكبته، ترى ماذا سيكون مصيرها الليلة؟..
كانت لتخشاه ولو قليلا قبل ان ترى بعينيها اهتمامه الفج بتلك الشقراء التي جلبها مالك معه…
كان قد وصل اليها فأزاحها بكتفه قليلا كي يتمكن من فتح الباب، تعثرت قليلا، فرمقته بغضب الا أن ملامحه في الظلام لم تكن مشجعة على استفزازه حاليا…
ما أن دخل قبلها و فتح الأنوار بقلة تهذيب، حتى كانت تندفع لتتجاوزه وهي تقول ببرود دون أن تنظر اليه (سأصعد لأنام، لقد تعبت اليوم).
الا أنها لم تكد تمر به حتى أمسك بذراعها فجأة يديرها اليه كالدمية بقسوة حتى أنت ألما، و حين نظرت الى وجهه أدركت أن سيطرته على نفسه قد انتهت. و دور الهدوء الذي كان يمثله قد وصل لآخره…
قال بصوت مخيف دون مقدمات (هل كنتِ تعلمين بحضوره الليلة؟)
اتسعت عينيها قليلا و تنفست بصعوبة لتسأل بخفوت على الرغم من معرفتها بالإجابة (من تقصد؟).
شدد قبضته على ذراعها حتى عقدت حاجبيها و تأوهت ألما بينما يقول هو بغضب (كنت تعلمين بحضوره الليلة، اليس كذلك؟، هل لهذا تأنقتِ بهذه الصورة و ارتديتِ احد الفساتين التي لم تردتدينها من أجلي يوما، فقط كي يراكِ به)
اتسعت عيناها أكثر و صرخت (أنت مجنون)
ضحك بشراسة ثم قال (نعم مجنون، مجنون كي لا ألحظ نظرات المثيرة للشفقة اليه).
صرخت وهي تحاول ابعاد ذراعه بيدها الأخرى (أنت مجنون و مريض و أنا لن أقف هنا كي أسمع المزيد من اهاناتك)
الا أنه امسك بذراعها الأخرى يجذبها اليه بقسوة حتى كاد أن يرفعها من على الأرض و همس بصعوبة (هل لازلتِ تحبينه؟)
فغرت شفتيها قليلا و هي لا تصدق مدى فقدانه السيطرة على نفسه بتلك الطريقة، لكنها صرخت بجنون (أنت غير طبيعي أبدا، تطلب حبي، ثم تسألني ان كنت أحب آخر، و هذا الآخر من اقحمه في حياتي، الست أنت!).
لم يرد وهو ينظر لعينيها بعذاب و غضب و جنون، ثم قال أخيرا دون أن يحررها (و هذا ما على أن أتحمله يوما بعد يوم)
خفف قبضتيه قليلا على ذراعيها دون أن يتركها و همس بخشونة بعثت رجفة في أطرافها (أخبريني يا حنين و لا تكوني بمثل هذا الشر، هل كنتِ تعلمين بحضوره الليلة؟).
لم ترد و اتسعت عينيها بغضب و رغبة رهيبة في ايذائه، فتحت فمها تنوي أن تخبره نعم كنت أعلم، كي تتمتع بتعذيبه قليلا، الا أن الكلمات كانت متوقفة في حلقها بصعوبة…
و قبل أن تناضل مع الكلمة كي تخرج، قرب وجهه منها أكثر و همس بخشونة (أرجوكِ)
فغرت شفتيها بصدمة، تنظر اليه بعدم تصديق و هي تراه بمثل هذا الضعف و العذاب…
ظلت تنظر اليه و ينظر اليها، ودون وعي همست بخفوت (لم أكن أعلم، ولو علمت لما ذهبت).
اخذ يتحقق من عينيها طويلا، و ظهر بعينيه نوعا من مشاعر غريبة. لكنها كانت كمن تقرأها بوضوح…
كان بهما الإمتنان، و بعض الألم، لكن كان هناك شيئا آخر، يحاول أن يبرز و كأنه نوع من الأمل…
ثم همس بخفوت (كان بإمكانك أن تعذبيني بذلك طويلا)
همست و هي تشعر بنفسها تكاد تختنق (لا أريد ذلك الآن، لم أتمكن من ذلك)
ظهر شبح ابتسامة على فمه، مجرد شبح متألم، ثم قال بخفوت أكثر (هل لازلتِ تحبينه؟).
تغضنت عيناها و ظهرت بهما دموع حبيسة و همست باختناق (ليس من العدل أن تسألني ذلك، ليس من العدل أبدا)
سكتت قليلا ثم قالت بإختناق (كل ما يجب أن تعرفه هو أنني لم أكن على علاقةٍ بغيرك أبدا، لقد تمنيت الكثير و عشت أحلاما واسعة و ليس من العدل أن تعذبني بسببها، خاصة و أنك أنت الذي)
صرخ بغضب و حزن (نعم، نعم. أنا السبب، أعرف و أكاد أحترق لهذا السبب كل يوم).
ثم ضمها فجأة الى صدره بقوةٍ كادت أن تحطم ضلوعها وهو يهمس بخشونةٍ بين خصلات شعرها، (أنتِ تفقديني السيطرة على نفسي تماما، تفقديني كل ذرة عقل أمتلكها)
همست بخشونة و بعضا من دموعها تبلل كتفه حيث وجهها مدفون به (على أساس أنك كنت تمتلك ايا منها سابقا)
ضحك قليلا بأكثر خشونة، ثم أبعدها عنه قليلا لينظر لعينيها الحمراوين ثم قال بجدية خافتة (سننسى هذا الأمر تماما، اليس كذلك؟).
ظلت تنظر اليه و هي تتعجب من مدى قسوته، حتى حين يرغب أو يظن أنه منصفا معها، لكنها ردت بلا حياة (ليست الخيانة من طبعي، حتى ولو بمجرد أحلامي)
ابتسم جاسرمرتجفا قليلا ثم همس بخشونة (و أنا أثق بكِ، أنا أثق بك)
ابتسمت بسخرية مريرة (ليس هذا ما أنبأتني به بداية حديثنا)
هزها جاسر قليلا، وهو يقول متأوها بخشونة (انسي هذا الحديث، انسيه، و كأنه لم يكن).
ظلت تنظر اليه قليلا من خلف عينيها الزجاجيتين الصامتتين، ثم قالت أخيرا بصوتٍ لا روح له (أخبرني أولا، لماذا غضبت الآن بجنون من مجرد علمي بحضوره، بالرغم من أنك انت من أصريت على أن يكون حفل زفافنا و زفافه برنيم مشتركا)
صمت للحظة قبل أن يقول بهدوء أجوف (أردتك أن ترينه في حفل زفافه).
لم تتحرك حنين، كانت الإجابة المنطقية، لكنها رغبت في سماعها بأذنيها، فأومأت برأسها قليلا بلا أي تعبير، ثم همست (هل يمكنني الذهاب الآن؟)
الا أنه جذبها اليه ليهمس بمشاعر رجولية وصلتها واضحة في انفاسه التي تلامس بشرتها (كوني معي الليلة يا حنين، لي وحدي، ابقي معي الليلة).
عاد ليشبع بعضا من شوقه اليها كمن يقتات من الفتات حين يستبد به الجوع، و هي كانت صامتة مستسلمة. شاردة بعيدا، جزءا منها يرغب في الإستسلام، رغبة في راحة، اي نوع من أنواع الراحة ليحرر نفسيتها المكبوتة بغضب و نقمة لا تستطيع السيطرة عليهما، و قطعا لا تريدهما…
أغمضت عينيها، به جاذبية لم تكن تعرفها سوى في سنوات مراهقتها الأولى، لكنها لا تقارن بما خبرته منه فيما بعد، ارتجفت قليلا ترضي كبريائها الهش ببعضٍ من اهتمامه و شوقه، تطفىء نار الغضب المتناقضة التي لا تهدأ و لا تكل…
رفع جاسر رأسه بعد حين ليهمس بقرب اذنها، (ستبقين معي الليلة).
لم يكن سؤالا، لكنه كان في صيغة أمر واقع، و بقت هي صامتة، هو زوجها في النهاية، فلما لا ترضى و تقبل ببعضٍ مما قد يشغل تفكيرها المشحون…
لاحظت سكونه بعد فترة من شرودها، فنظرت اليه لتجده ينظر اليها مدققا بعينيها الشاردتين ثم قال بخفوت (؛ ستبقين معي لأنكِ ترغبين بذلك، اليس كذلك؟ هل تسعدين بقربي منكِ.؟)
رفعت عينيها اليه بصمت ثم همست بلا تعبير (أنا بين يديك الآن يا جاسر، لماذا تصر على السؤال؟).
سمعت صوت انفاسه خشنة جافة، متسارعة و متصارعة برغبتين متضادتين، فنظرت اليه لتهمس (مشكلتك انك تريدني راغبة و سعيدة و مرتاحة، و تريد حبي، و استسلامي، تريد أن يكون عقلي و قلبي مروضين قبل جسدي، قد يكون هذا رائعا لأي فتاة أخرى، لكنه كثير جدا علي، كثير و صعب و فوق احتمالي)
لم يرد و هي كذلك اخفضت رأسها، تود لو ارتاحت على صدره قليلا، ولو قليلا فقط…
لكنه قال بصوت خشن فاقد السيطرة تقريبا (اصعدي الى غرفتك).
رفعت عينيها اليه بدهشة فأعاد بخشونة أكبر (اصعدي الى غرفتك الآن يا حنين)
و دون كلمة أخرى، تركها ليبتعد مندفعا و كأنه على وشكِ تحطيم المكان، بينما وقفت هي مكانها تضم ذراعيها حول صدرها بقوة، ترتجف بغير وعي، هل حقا اعطته الاذن؟، هل فعلت ذلم بمحض ارادتها!
و هل تركها و ابتعد!..
ماذا الآن؟، هل تبكي بخزي؟، أم من المفترض بها أن تشعر بشيءٍ آخر…
كل ما شعرت به حاليا هو أنها متعبة، متعبة جدا، و كل ما تريده هو النوم بعد هذا الكم من التوتر و الترقب و الغضب وخيبات الأمل و الهزيمة أخيرا…
جرت قدمين متثاقلتين الى درجات السلم، تصعد ببطء، و برأسٍ مطرقة و كتفين محنيتين…
شعرت بأن أربع خيول يجرونها من شعرها جرا، ودت لو تصرخ بهذه الخيول و تصرخ…
شيئا ما ينتزعها بقوة من وادٍ عميق جدا ترغب في البقاء به طويلا…
أخذت تتذمر و تتأوه و تمد ذراعيها غضبا ملوحة علها تبعد الخيول الوهمية عنها، حتى ارتطمت يديها بصدرٍ عاري قوي كثيف الشعر، و صوت رجولي خشن يقول بفظاظة، (استيقظي هيا، هيا).
فتحت عينيها بصعوبة و هي لا تكاد تدرك الواقع من الحلم، كل ما كانت تدركه هو أنها نصف مستلقية، ظهرها في الهواء وهو ممسكا بذراعيها يرفعهما لأعلى، يلوح بهما ليوقظها بطريقة الهنود الحمر ربما!..
همست بهذيان و عينين مشوشتين، (ماذا؟، من؟)
قال بصرامة وهو يهز ذراعيها لتتأرجح بجسدها، (؛ هيا، هيا، أفيقي، نحن لازلنا رسميا بشهر عسلنا)
بدأت تعي قليلا، حتى رأت ملامحه الصلبة، كان وجهه شريرا مجهدا كمن لم ينعم بلحظة نوم واحدة…
لكنه كان مصرا و هو يقول بخشونة (هيا، سنقضي اليوم معا من بدايته، لا رغبة لي في الكسل اليوم).
همست تتأوه بعذاب (وهل كان هناك يوما لم نقضيه معا!، اتركني أريد أن أنام قليلا، ابتعد عني)
لكنه عاد ليهزها مجددا بذراعيها المرفوعتين، حتى شعرت بأن مخها سيسقط من رأسها، و نادى بصوت جهوري (هيا أفيقي، سنقضي اليوم على الشاطىء)
قالت بعدم فهم (أي شاطىء!، الجو لا يزال باردا)
قال بخشونة يهزها (انه بداية الربيع، وهو مناسب تماما، هيا)
صرخت بأسى (حسنا، حسنا، انزل أنت و سأتبعك).
ترك ذراعيها فجأة لتسقط للخلف فارتطم رأسها بظهر السرير الخشبي، تأوهت مغمضة عينيها أما هو فنهض من السرير قائلا بصرامة (أمامك عشر دقائق و تكونين أمامي بالأسفل)
بعد أن خرج من الغرفة نظرت بغباء حولها و همست (مالذي حدث للتو!)
ثم رفعت حاجبا لتهمس (مجنون، مجنون)
ثم ارتمت على وسادتها بقوة لتنزلق تحتها فتختفي عن العالم كله تحت الوسادة و الغطاء الثقيل…
عشر دقائق بالفعل، كانت كافية لأن تغيب فيها في سباتٍ عميق مجددا هربا من واقعها، و كانت أكثر من كافية للعاصفة التي اقتحمت الغرفة…
لتستيقظ فجأة بعد أن طارت الوسادة من فوق رأسها، يتبعها الغطاء، فلفها برد الصباح…
ارتجفت و لفت نفسها بوضعية جنين، الا أنها كانت مجرد لحظات لتجد نفسها محلقة في الهواء بقوة فجائية، لتسقط على كتفٍ صلبة…
ففتحت عينيها تصرخ بغضب وهي ترى العالم مقلوبا أمامها، (أنزلني ايها المجنون، أنزلني)
لكنه كان يهبط درجات السلم دون أن يعيرها اي انتباه، و منه إلى الحديقة الخلفية، حيث فتح بابها الصغير و نزل الى رمال الشاطىء…
بينما هي تصرخ محاولة التلوي من فوق كتفه دون جدوى…
حاولت رفع رأسها لترى أنه لم يوقف تقدمه فوق الرمال البيضاء، بل تابع الإتجاه الى البحر…
فصرخت بذهول، (كلا، كلا، إياك، إياك يا جاسر رشيد، إياك).
لكنه كان قد نزل بساقيه الى البحر، حتى وصلت المياه الى خصره، تقريبا، ولامست قدميها الحافيتين فارتجفت بشدة…
حينها شعرت بيديه القويتين على خصرها تنزلانها، فلم تتمكن سوى من اطلاق صرخة واحدة قبل أن تجد نفسها واقفة في البحر و الماء قد غمرها حتى صدرها، لتأتي موجة كبيرة تضربها كلها حتى أعلى رأسها…
بعد انحصار الموجة الباردة كالجليد، كانت واقفة في الماء تتجمد وهي تتشبث بصدره بقوة. تتنفس بشفتين زرقاوين مفتوحتين، و شعرها ملتصق بوجهها. تماما كبجامتها الفضفاضة…
أخذت تهذي من بين شهقاتها المذعورة بردا (منك لله يا جاسر يا رشيد، منك لله)
الا أنه كان يضحك بخشونة ممسكا بخصرها ليثبتها من ضربات الموجات المتتالية، ثم أدار ظهره باتجاه الموج ليحميها منه…
قال بهدوء وهو يتمسك بها (انه شهر عسلنا، كيف يكون شهر عسل دون أن ننزل البحر ولو لمرة!)
أخذت تشهق و هي تزداد اقترابا منه حتى التصقت بصدره الذي بدو أدفأ منطقة مجاورة حاليا، (منك لله، يا جاسر يا رشيد)
ضمها بقوة اليه، وهو يقول (توقفي عن الدعاء على زوجك، كنت أحتاج لنزول البحر اليوم و أردتك معي).
اخذت أسنانها تصطك بشدة، فضمها أكثر اليه وهو يقول (لا تقفين متجمدة بهذا الشكل، تحركي و اسبحي. أم أنكِ قد نسيتِ السباحة؟)
همست على كتفه الرطبة (منك لله)
ضحك مجددا ثم أبعدها عنه بالقوة و أخذ يجذبها من يديها ليتركها بين الأمواج. فانقلبت على رأسها عدة مرات الا أنه كان يعود ليوقفها على قدميها من جديد، حتى اعتادت برودة المياه قليلا فأخذت تسبح و تقفز بداخل كل موجة…
لكنه كان يجذبها من شعرها هاتفا، (لا تبتعدي كثيرا)
نظرت اليه شزرا. ثم تابعت لعبها في الماء وهو معها، شيئا فشيئا اخذت تتأقلم معه و مع لعبه و حواره، رغما عنها!، حتى أنها قذفته بالماء في عدة مرات مدعية الغضب، و كان رده كخرطوم ماء ضرب وجنتها فأحست و كأنها قد تلقت صفعة قوية…
هذا تماما ما يطلق عليه مزاح الأحصنة في الاسطبلات!
تأففت و ابتعدت عنه تسبح بحريتها قليلا، حتى تجمعت بعض الغيوم و ازداد الجو برودة. حينها ناداها جاسر قائلا (هيا، البحر يزداد علو و أصبح أكثر خطرا)
اضطرت للخروج إلى البرد، لكنهما لم يكادا يصلا الى الرمال حتى بدأت الأمطار في التساقط ببطءٍ أولا ثم خلال لحظات كانت تنهمر بغزارة…
نظرت اليه بذهول وهي تقف على الرمال ببجامتها الملتصقة بها و الأمطار تغرقهما فهتف بها بقوة (هيا اسرعي إلى البيت، جريا).
انطلقا يجريان الى البيت و ما أن وصلا الى الحديقة حتى هتف بقوة (ادخلي انتِ و جففي نفسك، هناك بعض الاشياء سأدخلها المرآب كي لا تتبلل)
ثم انطلق الى حيث مكان عمله بالأخشاب، لكنه فوجىء بها تتبعه فصرخ بها (ادخلي حالا، ستبردين)
لكنها تبعته ترتجف و صرخت بحنق، (بعد أن رميتني ببحر الشتاء، تخشى الآن من بعض الأمطار!، حسبي الله).
ثم أخذت تحمل الألواح التي كان يعمل بها الى حيث يدخلها في المرآب، ثم تخرج جريا الى اخرى مطلية حديثا بلون بني مذهب جذاب…
و اخذت تحملها معه تحت المطر، واحدا بعد الآخر…
وصلت أخيرا للفافة كبيرة. نظرت من فتحة صغيرة بها فوجدت أن بداخلها شيء يشبه الزجاج. وهو ملون ربما.
حمل اللفافة من أمامها بقوة، فنظرت اليه ووجهها مغرق بالماء و هتفت (ماذا تفعل بهذه الأشياء؟)
قال بخشونة و هو يبتعد (لا شأن لك ِ).
وقفت تحت الأمطار دون أن تشعر بالبرد كثيرا، حتى عاد اليها غاضبا يصرخ (ستبردين يا مجنونة!)
صرخت به (تركت العقل لك يا صاحب الحكمة)
تأفف بجنون ثم حملها بقوة ليدخل البيت بسرعة و صعد السلم ليدخل غرفتها ثم أنزلها أمامه ليقول آمرا بقوة (اذهبي وخذي حماما ساخنا و ارتدي ملابس ثقيلة حالا).
أومأت برأسها بشرود ثم تحركت في اتجاه الحمام. الا أنه جذبها اليه و أحاط وجهها البارد بكفيه يرفعه اليه، و نظر لعينيها عدة لحظات قبل أن يهمس بخشونة (يا الهي، كم أنتِ جميلة!)
تنهدت بقوة…
انحنى حاجبيها. و هزت كتفيها وهي تهمس بيأسٍ منه و من نفسها و من حاليهما معا (لم أكن يوما بمثل هذا الجمال الذي تصفه، فتوقف رجاءا).
همس من داخله بقوةٍ نبعت في كل حرف من كلماته (بل أنتِ كذلك بالنسبة لي، لماذا اذن تعتقدين أنني أتحمل كل ذلك)
همست بضعف و عينيها تغرقانِ بدموع خائنة. (لأنني جميلة!)
قال بثقة و هو يتلمس وجهها بأصابعه الخشنة (بل لأنكِ الأجمل بالنسبة لي).
لم يستطع التحمل أكثر فجذبها اليه يقبلها، حينها ارتجفت و سكنت قليلا قبل أن ترفع ذراعيها لتحيط بهما عنقه، و ظلت تستمد منه الدفء طويلا، الا أن ارتجاف بكائها زاد و زاد، حتى باتت تنشج بقوةٍ لم تستطع السيطرة عليها…
حينها أبعدها عنه، و تنظر اليها بحيرةٍ عاجزة و هو يهتف (ماذا بكِ الآن؟)
اخذت تشهق باكية بعنف حتى اضطر الى أن يضمها الى صدره، و همس من بين أنفاسه المتلاحقة (أخبريني فقط ما بكِ).
تشبثت به بضعف وهي تهمس من بين بكائها العنيف (أنا أكرهك)
عبس بشدة، لم تكن المرة الأولى التي يسمعها منها، لكنه هذه المرة شعر بالحاجة لأن يتركها تتابع. فتابعت بالفعل ببكاء قوي (أنا أكرهك و ارغب في ايذائك، اريد أن اذيقك من كل المرارة التي تحملتها قديما. حتى من قبل أن أعرفك، لا أستطيع السيطرة على الكبت الذي أشعر به، بداخلي نقمة لا أستطيع السيطرة عليها تجاهك.
اريد أن انتقم، لكل دمعة ذرفتها بسببك، لكل الخوف و الخزي القديم، لكل تجبرك على حياتي)
ظل صامتا، صلبا، يتنفس بصعوبة، وهي تبكي بعنف على صدره، فقال أخيرا بخفوت (و لماذا تبكين الآن؟، ما الجديد في ذلك؟)
بكت أكثر. و شهقت بعنفٍ أكبر، و نشجت هاتفة من بين دموعها (الجديد أنك، أنك تضعفني، و تسيطر على مجددا، تتسلل الى بتدريج خبيث، تجعلني، تجعلني).
أخذت تشهق دون أن تستطيع المتابعة، فقال جاسر بخفوت (أجعلك ماذا؟، تابعي)
شهقت باكية و هي تقول (تجعلني، أرغب في كل ما تقدمه لي و لم يسبق لي أن نلته في حياتي أبدا، تجعلني أرغب في النسيان و المتابعة، لكن، لكني لا أريد، بداخلي طاقة غضب لا أستطيع السيطرة عليها، تزداد و لا يمكنني السيطرة عليها).
أغمضت عينيها بقوة و أخذت تبكي، وهو لم يفعل سوى أن ضمها أكثر و أكثر، ثم قال بعد فترة طويلة، (اذهبي و خذي حمامك و انا سأكون هنا في انتظارك)
ابتعدت عنه قليلا، تشهق بصعوبة لكن بتراجع قليل في دموعها، ثم اتجهت الى الحمام بصمت، تتعثر في خطواتها…
حين خرجت أخيرا، كان ينظر من نافذة غرفتها الى السماء الرمادية التي أخذت أشعة الشمس تتسلل مجددا من بين غيومها بخجل، حتى انطلق قوس قزح رائع الألوان مبددا كآبتها…
التفت اليها بصمت، و لم تستطع تبين ملامحه جيدا، لكن كانت هناك طيف ابتسامة على شفتيه…
كانت صغيرة في قلب روب الحمام الأبيض الكثيف و شعرها الأسود متساقط حولها كخيوط المطر فوق النافذة…
مد جاسر كفه اليها، فسارت اليه ببطء و كأنها منومة حتى أمسكت بكفه بضعف…
حملها بين ذراعيه إلى سريرها الواسع الذي كان من المفترض أن يكون سريرهما معا، و استلقى بجوارها يضمها الى صدره بقوة، يتخلل شعرها المبلل بأصابعه، ثم همس أخيرا (اذن تريدين ايذائي، بأقوى ما عندك، لا بأس حبيبتي سأساعدك في ذلك، يمكنني التحمل، لا تخافي، سأبقى معك و لن أتخلى عنك الى أن تتخلى عنكِ طاقة الغضب التي لا تستطيعين السيطرة عليها…
أتعلمين لماذا؟، لأنكِ الأجمل بنظري، و لأنكِ تستحقين ذلك، و لأنني أستحق عقابك)
همست بعذاب ضعيف (لا تفعل ذلك)
قبل جبهتها بقوة وهو يهمس (لا بد أن أفعل ذلك، لأنكِ الأغلى)
رفعت يدها تتحسس المضخة الجبارة في صدره، فأمسك بكفها و رفعها الى فمه يقبلها برفق قبل ان يهمس (عودي الى نومك الآن، على ما يبدو انني قد أيقظتك قبل موعدك، ربما كان هذا سبب جنونك).
تسللت ابتسامة ضعيفة الى شفتيها الزرقاوين قبل ان تستسلم لنومٍ عميق، هربا..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بأمر الحب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى