رواية يناديها عائش الفصل الثالث والستون 63 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش الجزء الثالث والستون
رواية يناديها عائش البارت الثالث والستون
رواية يناديها عائش الحلقة الثالثة والستون
”أسوأ درجات الخذلان، أن يهزمك من خضت المعارك لأجله .”
****
كان يضع السكين على عنقه و يضغط عليه بخفة، فيظهر أنه يُغرس بعمق للداخل، مما آثار ذلك المشهد الفظ الهلع في قلب عائشة و أم رحيم التي راحت تطالعه بعيون متسعة من الخوف و الدهشة و عدم الفهم لما يحدث..
بدا مظهره مخيف يثير الرهبة في أنفسهن وهو يصوب عينيه بقسوة تجاه عائشة، أما هي كانت تقف لا حول لها و لا قوة، ترتعد خوفًا من منظر السكين وهي تغرس برقبته حتى جرحته و لاحظت خروج بعض الدماء، فصرخت بفزع في محاولة منها لابعادها عنه
هتفت بترجي
” ابعد السكينة يا بدر عشان خاطري.. عشان خاطري يا بدر.. لو بتحبني بجد نزل السكينة من على رقبتك.. عشان خاطري..
“بشرط نتجوز حالًا”
قالها وهو يضغط على الأحرف الخارجة منه بتهديد و غضب..
هزت رأسها بموافقة و هي تبكي و تتوسله قائلة
“حاضر.. هعملك اللي أنت عاوزه.. بس.. بس ابعدها عشان خاطري..
في تلك اللحظة دخل زياد ليجد هذا المشهد المريب.. اتسعت عيناه بصدمة و هرول تجاه بدر يصيح بغضب و دهشة
” أنت بتعمل ايــــــه ؟!!.. أنت اتجننت يا بدر.. ارمي أم السكينـة دي.. بلاش تخلف.. هات السكينة يا بدر
تراجع بدر بضع خطوات للوراء وهو يبتسم بسخرية لاذعة و يهز رأسه برفض قائلًا
” لأ.. هات المأذون الأول..
أغمض زياد عينيه ليستغفر الله في سره وهو يستنشق الهواء بعمق ليقول بهدوء قليلًا باسطًا كفه إليه
” طيب هات السكينة و أنا هجيب المأذون
“أنت كداب.. و هي كمان كدابة.. عائشة ما صدقت خلصت مني.. اطلقت عشان تعيش حياتها بكيفها.. استحالة ترجعلي بعد ما شمت نفسها..
قال ذلك وهو يبتسم بجنون، ثم نظر لعائشة و أكمل بسخرية
” صح يا عائش ! لاقيتِ راحتك في البُعد عني صح ؟! ”
” بدر.. أنت اللي بعدت مش أنا.. أنت اللي سبتني”
قالتها بضعف غير قادرة على رفع عينيها من على السكين من شدة خوفها عليه.. انتهز زياد فرصة تحاورهما، و تسحب من خلفه بحذر ثم ثني ذراعه بقوة و أخذ السكين منه ألقاه بعيدًا، و هتف بغضب و نفاذ صبر من ابن عمه المجنون وهو يجره خلفه من شعره تجاه المرحاض
” عاوز تنتحر و تخسر أخرتك يا متخلف.. أنا لو هضطر أحبسك في أوضة و اربطك بسلاسل عشان متأذيش نفسك.. هعملها.. ناقصين جنـان
وضع رأسه تحت الصنبور رغمًا عنه، و غسل له رأسه و عنقه و وجه بماء فاتر عله يفيق من جنانه و يستعيد وعيه قليلًا.. تابع زياد القول وهو يغسل له وجهه بغضب
“إحنا هنطلع من هنا على الدكتور سامي.. مش هنستنى لحظة واحدة.. المرة دي عدت على خير.. يا عالم بعد كده هتهبب ايه في نفسك..
ثار بدر بثورته الغاضبة، و تحرر من يد زياد القابضة عليه ليدفع به بعيدًا عنه صارخًا بقسوة
” أنا كنت هتعالج عشـــانها.. فاهم يعني ايــــه.. يعني أنا مش فــــارق معايا نفسي.. كُل اللي هعمله عشانــها.. هي و بس.. و في الآخر تقولي مش هرجعـلك !!.. لأ.. لا يا زيـــــاد.. يبقى الموت أهون عليا من إنها تبقى لحد غيري..
تحول من ثورته الهائجة، للضعف و الانهيار ليقول بصوت متهدج على وشك البكاء
“دي عائـش.. عائـــش يا زيــاد.. مش بس حبيبتي
.. دي اتولدت على ايدي.. عاوزني اسيبها تروح مني بسهولة كده !..
صمت للحظات ثم تحولت ملامحه للسخرية ليقول باستهزاء
” أنا اسيبها في حالة واحدة بس.. لو روحها طلعت.. غير كده طول ما فيها النفس.. عائش لبدر.. بدر و بس ”
وصل كلامه المتناقض لمسامع عائشة، التي وقفت تنصت بذهول دون التعليق بكلمة.. !
ولكن بعد التفكير للحظات في شخصيته المخيفة و تهديده بإنهاء حياته من أجلها، جعلها تعيد التفكير مرارًا بشأن رجوعها له و الزواج منه ثانيةً، أبىٰ عقلها أن يجعلها تنخدع بتوسلاته الكثيرة لخوض علاقة محكوم عليها بالفشل، لم ينكر قلبها أنه اشتاق كثيرًا له، و لكن الحُب وحده لا يكفي.
تنهدت عائشة بألم و بحزن لتأخذ القرار الحاسم و الصحيح من وجهة نظرها حول علاقتها ببدر، وهو أن يخوض المعركة مع ذلك المرض الفظ و ينتصر عليه ليستعيد ذاته الضائعة أولًا قبل الزواج بها، ليس لأجلها، و إنما ليكون على دراية تامة و بكامل وعيه إذا أراد استكمال حياته معها، فهي الآن أصبحت في تردد كبير حول صدق مشاعره تجاهها، و يتردد ذلك السؤال على ذهنها بسرعة مهولة، هل يُحبها حقًا و يريد أن يشاركها عمره و حياته ؟ أم يريدها معه فقط لأنه تعود عليها و لأنه يرى نفسه أحق بها من أي رجل آخر ؟ و لكي تجد الجواب المناسب على سؤال صعب و محير مثل هذا، عليها أن تتركه حتى يصبح شخصًا طبيعيًا على ما يرام و يرد إليه عقله ليقرر هو بنفسه الأصح لهما، أما هي ستكون بجانبه في رحلة علاجه كشخص داعم و مشجع له، و ليست كحبيبته.
ظلت عائشة واقفة تنظر للحائط أمامها بصمت و دموع الألم و قلة الحيلة تنساب على خديها دون توقف، اقتربت منها أم رحيم بعد ما تفهمت الأمر و عرفت طبيعة العلاقة بين بدر و عائشة و صلة القرابة التي تجمع الرجلان مع الفتاة.. أخذت تمسح لها دموعها وهي تردد بكلمات المواساة
“متزعليش نفسك يا ضنايا.. إن شاء الله يخف و ترجعوا لبعض.. العياط مش هيفيدك بحاجة.. أنتِ دلوقتي لازم تبقي قوية و تتعلمي تتسندي على نفسك.. عشان ستك إما تقوم بالسلامة تلاقيكِ كويسة.. ستك محتجالك يا عائشة.. استعيني بالله يا بنتي و بطلي عياط..”
خرج بدر من المرحاض وهو لا زال يصيح بكلمات تعبر عن غضبه و استيائه من نفور عائشة منه.. وجدها تنظر له بعيون دامعة يبدو الشوق و العشق بها جليًا، تنظر إليه في صمت يغلفه الحُزن..كلاهما يعلمان جيدًا أن تلك الدموع هي نقطة ضعفه، حاول التحكم في انفعالاته و اضطراباته المتقلبة، فقال بنبرة صوت هادئة يبدو عليها الحنين
” متعيطيش..
تلك الكلمة جعلتها تبكي أكثر مما انتفض قلبه لأجلها، و حاول مد أنامله ليمسح دموعها، فرجعت خطوة للوراء وهي تنظر في اتجاه آخر دون أن تقول شيء، تعجب من فعلتها و أحس أنها لم تعد تحبه، فتساءل بقلق
” عائش..أنتِ مبقتيش تحبيني ؟ ”
وجدت عائشة أن هذا السؤال سيمنحها الفرصة لتجعله يكرهها، و يتجه لحياته حتى تصبح رحلة العلاج سهلة عليه دون أن يشعر بالذنب تجاهها، برغم أنها تشعر بكل آلام العالم في قلبها من قرار ابتعادها عنه، لكنها ستضحي و تفعل أي شيء يجعله ينساها و يعيش حياته؛ لأنها ترى أنه يستحق أفضل منها.
ردت بصوت حزين وهي تُولي وجهها عنه
” أنا محبتكش أصلًا يا بدر عشان أبطل أحبك.. زي ما قلت قبل كده أنا اتعودت على وجودك في حياتي بس.. لكن مقدرتش أحبك.. أنا آسفة ”
طالعها بصدمة لثوان غير مصدق ما تفوهت به، في حين أن زياد أدرك بأنها تحاول التلاعب بمشاعره لتجعله يبغضها حتى يكف عن اللحاق بها و تدمير حياته بسبب جنون الحُب، و لكنه اكتفى بالصمت و مشاهدة الثنائي الذي أتعب قصتهما عائلة بالكامل، يفترقان للأبد.
هتف بدر بدهشة
” مقدرتيش تحبيني ؟! ”
أومأت وهي تنظر للأسفل، فمد أنامله ليدير وجهها له قائلًا بتعصب
” مش من قلبك يا عائش..
دفعته ليبتعد عنها بغضب مصطنع قائلة
” أنت مش قادر تفهم ليه..أنا مش بحبك و عمري ما حبيتك..حاولت أحبك لكن معرفتش..الحُب مش بالعافية..أنا وأنت مش شبه بعض و عمرنا ما هنبقى زي بعض.. أنا قبلت اتجوزك بس عشان كنت أنت طوق النجاة الوحيد بالنسبة ليا في الفترة الصعبة اللي كنت بمر بيها.. لكن دلوقت بقى ليا عيلة تانية.. هحتاجلك ليه ! خلاص مبقتش عاوزاك يا بدر.. ومن الآخر كده أنا ما صدقت طلقتني و مش عاوزه أعيش معاك تاني.. أبعد عني و سيبني في حالي بقى.. ”
حاولت جاهدة أن تتقمص الدور حتى تجعله يصدق ما قالته للتو، أما هو شعر بغصة في حلقة و أبت الأحرف أن تخرج منه.. ما يشعر بدر به الآن غير قابل للترجمة، حتى ثروته اللغوية خانته و ما خرج منه إلا تنهايد كلها متشبعة بالخيبة و الانكسار.. لقد عادت لشخصيتها القديمة، أو ربما لم تتغير صغيرته من الأساس، و بقيت كما هي عائشة المغترة بالحياة و ملذاتها، و حبه الشديد لها هو الذي هيء له أنها تغيرت للأفضل، و لكنها اصطنعت التغير باحترافية جعلته يصدقها.
تمتم بضعف تألم له زياد
” ليه !..
ولت عائشة له ظهرها في الحال، و حاولت بكل جهد ألا تنفجر من البكاء فقد احترق قلبها لرؤيته ضعيف أمامها هكذا و هي السبب في انكساره، و لكنها تعلم أن ما هتفت به من قساوة سيجعله يتخطاها و يعيش حياته فيما بعد دون التفكير فيها..
اقترب منها وهو يتحول للجمود و الغضب تدريجيًا ثم أدارها له، ليبادلها النظرات و لكن بغضب و كُره لأول مرة تشهده منه.. قال بلا مبالاة لدموعها التي عادت تهطل ثانيةً
” أنتِ السبب في كل الوجع اللي أنا عايشه.. حياتي قبلك كانت جنة.. اليوم اللي جيتي فيه للدنيا كان بداية دخولي للجحيم.. الجحيم اللي أنا عايش فيه بسبب قلبي اللي عشقك.. أنا مش ندمان إني حبيتك.. أنا ندمان إني لسه بحبك.. بس و يمين الله لأدوس على قلبي و اخلعه من ضلوعه لو فكر فيكِ تاني.. أنا هتعالج يا عائشة.. بس مش عشانك.. عشاني أنا.. عشان أثبتلك إني أستحق أتحب.. هتشوفي بدر تاني خالص غير اللي عرفتيه.. و ساعتها هتفتكري اليوم ده و تتمني لو مكنتيش قولتي لأ.. بس ساعتها أنا اللي هقولك لأ.. ”
تركها و ترك المنزل برمته، ثم خرج متوعدًا نفسه أن ينساها و يبدأ في خوض مرحلة العلاج، و يرمم ذاته ليصبح أفضل عن ذي قبل، و لكن.. بإمكان الإنسان نسيان كُل شيء، ولكنه لن ينسى أبدًا بشاعة ما شعر به عندما خُذل.
بالداخل بقي زياد يحاول تهدئة عائشة بالكلام الطيب، فقد انهارت تمامًا بعد رحيل بدرها و أجهشت بالبكاء وهي تردد بعجز و انكسار
” أنا كسرت قلبه.. خذلته.. و جعت الشخص الوحيد اللي حبني بجد.. بس غصب عني.. والله العظيم غصب عني.. أنا.. أنا عملت كده عشانه.. عشان ينساني و يعيش حياته لأنه يستحق اللي تقدره بجد.. و أنا تعبته معايا كتير.. هو ميستاهلش كل ده.. بدر يستاهل يفرح كل يوم.. يستاهل يعيش حياة حلوة.. و حياته مش هتحلو غير ببُعدي عنه..
رد زياد بحزن هو الآخر
” كان ممكن تفضلي معاه و تكملوا حياتكم سوا.. القرار اللي أخدتيه صعب يا عائشة.. لا بدر و لا أنتِ هتقدروا تتعافوا من الحُب ده..
” مش مشكلة أنا يا زياد.. المهم هو يتعافى مني.. أنا زي العقبة في حياة بدر.. ولو كنت وافقت أرجعله.. كان هيماطل في العلاج واحتمال مكانش كمل علاج أصلًا.. أو افرض نوبات التعب رجعتله و حاول يأذي نفسه أنا هتصرف ازاي !..
أنا كنت هرجعله فعلًا بس بعد اللي شوفته منه ده.. أنا بقول بُعدي عنه أحسن ليه.. خليك معاه لحد ما يتعالج و يبقى كويس يا زياد.. بالله عليك ما تسيب بدر لوحده غير إما يخف..
أومأ زياد قائلًا بحسن نية
” أنا حزين عليكِ أكتر من بدر.. بدر وسط عيلته اطمني.. لكن أنتِ هنا بعيدة عننا ولوحدك.. أنتِ يتخاف عليكِ أكتر يا عائشة
قالت بتعب وهي تأخذ أنفاسها بصعوبة
” أنا دايمًا كُنت بعيدة عنكم يا زياد.. أنا خلاص لقيت عيلتي التانية.. بقى ليا عيلة خلاص.. متقلقوش عليا.. خلي بالك من بدر أهم حاجة..
جاءت أم رحيم و أخذت عائشة في أحضانها لتقول بعاطفة الأمومة
” عائشة هنا في أمان.. ابن عمك محتاج حماية أكتر..
ظن زياد أن هذه المرأة التي يبدو عليها طيب النفس هي جدة عائشة، فارتاح قلبه قليلًا و ودع عائشة ليلحق ببدر، بعد أن وعدها ببقائه بجانب بدر حتى يكمل علاجه و تتحسن حياته، و أخبرها أنه سيأتي لزيارتها غدًا برفقة باقي العائلة، أومأت عائشة بموافقة دون أن تخبره بشيء بشأن ما حدث لجدتها.
****
خرج زياد ليرى بدر يسرع الخطوات مبتعدًا عن الشارع الذي تسكن فيه حبيبته الخائنة من وجهة نظره، فقد ساقته ظنونه أن غدرها له و تلاعبها بمشاعره هي خيانة في حد ذاتها.
ركل حجرة أمامه وهو يصيح بغضب جنوني
” خاينـــة.. لعبت بمشاعري.. غدرت بيــا.. يارتني ما حبيــتك.. يا رتني ما حبيــــتك..
لحق به زياد ليمسكه من كتفه خوفًا عليه من تهوره و اللجوء لأذية نفسه ثانيةً.. قال في محاولة منه لتهدئته و أخذه للسيارة
” بدر اعقل ابوس ايدك.. الناس بتتفرج علينا.. عايز تقل من نفسك قدامهم !.. أنت نسيت أنت مين ولا إيه ! يلا معايا على العربية.. نتكلم بعدين…يلا بالله عليك
سحب يده من زياد وهو ينظر له بغضب و عتاب يلومه على الإتيان به لهُنا، ثم سبقه ليركب السيارة صافقًا بابها بقوة وهو يتنفس بغضب و انزعاج.. احتل زياد كرسي القيادة بجانبه، و حاول التكلم معه بلُطف، و لكن بدر اسكته هاتفًا بشرر
” أنت السبب يا زياد.. يا رتني ما سمعت كلامك وجيت.. قولتلك اتعالج الأول و بعدين اروحلها.. لكن لما هي شافتني بحالتي دي كرهتني أكتر.. بسببك كرامتي بقت بسوى التراب.. أنا لأول مرة أحس إن بكره عائشة.. بكرها و نفسي أنتقم منها بأي طريقة على اللي عملته معايا.. كنت فاكرها اتغيرت.. بس صدق اللي قال اللي فيه طبع مبيغيروش.. وهي طبعها طبع رقاصين.. ما هي هتجيبه منين يعني.. ابن الحرام هيفضل طول عمره ابن حرام..
” أنت ايه اللي بتخرف بيه تقول ده ! ايه القرف اللي بتقول ده..؟!
هتف بها زياد في تعصب شديد من غلظة الحديث الذي يتفوه به بدر، و الذي بالكاد لو سمعته عائشة ستفقد الوعي فورًا، برغم علمها مؤخرًا قبل الطلاق أنها ابنة زنا، ولكن مرارة التخيل أفجع بكثير، هي بالفعل لم تتخطى ذلك، لكنها تصطنع النسيان؛ حتى لا تفعل بنفسها شيء يجعلها تخسر الآخرة كما خسرت دُنياها.
أخذ يردد بعصبية أكبر
” أنت السبب.. جبتي هنا عشان اتهان و تقل مني.. أنا مش هسامحك أبدًا.. أنا بكرها و بكره نفسي..
اكتفى زياد بالصمت دون الرد عليه، مقدرًا حالته و الوضع الذي هو فيه الآن بسبب ما قالته عائشة، و لكنه حزن كثيرًا لاتهامات بدر بأنه السبب فيما حدث.
تابع بدر حديثه المحتد و الغليظ
” أنت كنت عارف إنها بتمثل عليا الحُب.. عشان كده أصريت تجبني عندها عشان تهد الباقي مني.. كنت عارف إن ده هيحصل.. عارف لو مكنتش ابن عمي.. كنت…
تلك المرة كان الصراخ من نصيب زياد.. قاطعة بحدة بعد أن فاض الكيل من سُم كلامه
” كنت هتعمل ايــــــه !!؟.. كنت هتنتقم مني أنا كمــان !!..أنا لولا إني مقدر الحالة اللي أنت فيها و عارف إنك متقصدش الكلام ده.. و كل الهري ده من ورا قلبك.. كان هيبقى ليا تصرف تاني معاك
صمت للحظات يناظره بغضب، ثم تابع بنبرة أقل حدة
” أنا فعلًا كان في نيتي أرجعكم لبعض.. بس طالما ده قرارها أنا مش هقدر أغصبها على حاجة.. أنت تنساها و تتعالج و تشوف حياتك بقى.. ارجع لحياتك القديمة يا بدر..
رد بدر بعد دقائق من الصمت، و قد التمعت بعينيه لمعة غريبة غامضة لم يستطيع زياد فهم السبب وراءها..
” هبقى كداب لو قولتلك سهل أنساها.. بس أنا هعرف أنسى واحدة خاينة زيها ازاي.. أنا مش هنساها و بس.. أنا هخليها تندم على كل الحُب اللي حبتهولها.. و هرد كرامتي اللي اتهانت..
أحس زياد بالخوف على عائشة من طريقة كلام بدر التي توحي بالتهديد و الرغبة الملحة في الانتقام منها بأي طريقة.. قال بهدوء وهو يربت على كتفه
” تعوذ بالله من الشيطان الرجيم يا بدر.. متنساش إنها بنت عمنا و فوق كل ده عمك وصاك عليها.. وصية الميت واجبة التنفيذ.. و أنت سيد العارفين.. اهدى كده و شيل فكرة الانتقام دي من دماغك خالص..
تجاهل ما قاله زياد، ليكمل بقسوة
” ابن الزنا لا يرث من أبوه في الإسلام.. يعني عائشة ملهاش جنيه في ورث أبوها.. مش هتطول مليم واحد يا زياد.. كفاية إننا خدعنا الحكومة و اتكتمنا على إنها بنت زنا عشان عمي الله يرحمه يعرف ينسبها ليه في شهادة الميلاد..
يدرك زياد صحة ما قاله بدر، لذلك لم يعلق بكلمة..
حيث جاء في الإسلام أن ابن الزنا لا يلحق الزاني ولا يرث منه ولو نسبه إلى نفسه؛ لأنه ليس أبًا شرعيًا، وهذه النسبة غير معتبرة.
و اتفقت المذاهب الأربعة ـ الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ـ على أنّ ولد الزنا لا يرث من والده الزاني، ولا من أقرباء والده، ولا يرثون منه؛ لأنّ الميراث تابع للنسب الشرعيّ، وليس بين ولد الزنا و والده الزاني نسب شرعيّ.. روى الترمذي في سننه أن رسول الله صلّ الله عليه وسلم قال: أيما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث..
ولكن جاء الإسلام عادلًا في تلك المسألة، فابن الزنا يلحق نسبا بأمه ، وحكمه حكم سائر المسلمين إذا كانت أمه مسلمة ، ولا يؤاخذ ولا يعاب بجرم أمه ، ولا بجرم من زنا بها ، لقوله سبحانه : ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ”
ولا يمنع ذلك كله الإحسان إلى هذا الطفل، ومعاملته بالحسنى ، والسعي في إسلامه وربطه بالعائلة ، على ألا ينسب إلى أبيه من الزنا؛ لأن النسب نعمة من الله سبحانه و تعالى و ما فعله الزاني هو جُرم يعاقب عليه في الدنيا قبل الآخرة..
و الطفل الذي جاء من الزنا، هو أمانة بين المسلمين، عليهم أن يربوه تربية إسلامية، وأن يحسنوا إليه حتى يشب، ويعلم مع أولاد المسلمين في بلاد المسلمين، ويوجه إلى الخير، ومتى استقام، وبلغ الحلم، وتخلق بأخلاق الأخيار؛ صح أن يكون داعية إلى الله، وأن يكون معلما،أو طبيبًا، أو مهندسًا، أو مهنة شريفة يحبها، وأن يكون زوجًا لبقية من يكافئه من المسلمين، فليس عليه ذنب، الذنب على غيره، إنما عليه الاستقامة إذا بلغ، عليه أن يستقيم على أمر الله، وأن يحذر محارم الله، ومتى صلح في نفسه، واستقام في نفسه؛ فحكمه حكم سائر المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، وإذا مات صغيرًا؛ دفن في مقابر المسلمين، مادام من أم مسلمة، دفن في مقابر المسلمين، غسل، وصلي عليه كسائر أولاد المسلمين، ولا يجوز إهماله.
___
بعد قليل من الصمت الذي خيم على الاثنان، رن هاتف زياد فشعر بقلبه ينقبض بخوف و اقشعر بدنه فجأة كأن هناك كارثة حدثت، لا يعلم ما هذا الشعور الذي انتابه فجأة، همس وهو يجيب على والدته
” خير يارب.. السـ…
“الحقني يا زيــــاد.. هاجـر.. هاجــــر اتخطفت يا زيـــــاد..
اندفعت والدته تقول ذلك وهي تبكي بشدة على الجانب الآخر في الحديقة التي تم خطف هاجر منها.. فور أن سمع زياد ذلك، وقع الهاتف من يده و اهتز جسده بخوف شديد لم يشعر بمثله من قبل.. اصفر وجه لينطق بصدمة و عدم استيعاب
” هاجر اتخطفت !!!..
رمقه بدر بصدمة هو الآخر ليهتف
” اتخطفـت ؟؟!..
ظل كلاهما يتبادلان النظرات في صدمة وخوف ودهشة كبيرة، كأن عقلهما لم يستوعب الفاجعة بعد.. ضغط زياد على مكابح السيارة ليقود بسرعة جنونية باتجاه الحديقة العامة، فقد أخبرته هاجر بالذهاب إليها.. انحنى ليحضر الهاتف الذي أسقطه في أرضية السيارة، فكاد أن يفتعل حادث لولا أن كان بدر منتبهًا، و أدار عجلة القيادة بسرعة..
أوقف زياد السيارة ليتصل عليها، فوجد هاتفها مغلق، و بعدما أعاد الاتصال عدة مرات بخوف وقلق جنوني سيطر عليه، آتاه أن الرقم غير موجود بالخدمة، جاءته الخدمة الصوتية ثانيةً تقول أن الهاتف مغلق.. !
صرخ بدر بانهيار مرتجفًا بخوف على شقيقته
” إحنا مستنيين إيـــــه !! اطلع بينا على القسـم..
لم يصل لمسامع زياد ما قاله، بسبب التفكير برعب فيما قد حدث لها، حرك السيارة باتجاه الحديقة.. ليصل إليها بعد دقائق بسبب سرعته الهائلة في القيادة، ثم نزل ركضًا باتجاه والدته، ليجدها تجلس على الأرض تنتحب بصوت عالي و تبكي بشدة، و من حولها الناس يحاولون تهدئتها.. ارتكز زياد على ركبتيه أمامها ليهزها باضطراب و هلع
” اتخطفت ازاي.. اتخطفت ازاي يا مـاما.. ازاي.. اتكلــمي..
لم تستطيع النطق بكلمة بسبب بكائها الشديد، فحكي له أحد الحاضرون ما حدث، مما تشنج بدر و علا صوته يصيح في الجميع
” واحدة تتخطف ازاي في مكان عــــام.. و لما أنتم شوفتوها.. محدش منكم اتحرك و أنقذها ليـــــه.. ليـــــه يا ولاد الـ***
” الله.. الله.. ! جرا إيه يا أستاذ ؟! إحنا هناخد بالنا من عيالنا ولا من عيال غيرنا ؟!..
تلك الجملة جعلت بدر في منتهى الغضب و الغيظ.. قبض على ياقة قميص الرجل يشده بعنف و من ثم ناوله ضربة بقبضته في رأسه، فوقع متألمًا، و كاد أن يكمل عليه من شدة غيظه، و لكن تدخل الواقفين سريعًا و قاموا بفض ذلك الشجار، ليقول شاب وهو يطالع زياد بدهشة
” وكيل النيابة زياد الخياط !!
لم يعرّه زياد انتباه؛ بسبب عقله الذي سينفجر من كثرة التفكير.. تابع الشاب متسائلًا
” هي أخت حضرتك و لا مراتك اللي اتخطفت ؟
صرخ به زياد بنرفزة
” هيفرق مع أهلك في حاجة !!..
” مش القصد.. بس حضرتك معروف يعني في القضاء المصري.. و أكيد وكيل نيابة ناجح زيك ليه أعداء ”
قالها الشاب بارتباك من ملامح زياد التي تحولت للشراسة من كثرة الغضب، ليهتف بعقل غير مستوعب بُعد وردته عنه
” أعداء ! ”
_______________♡
﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ ﴾
********
غابت تلك الوردة البريئة عن الوعي؛ بسبب المخدر الذي كتم أحد الرجال الملثمين فمها و أنفها به.. قام الرجل بنزع الشريحة من هاتفها ثم كسره نصفين، و أغلق الهاتف خوفًا من تتبع الشرطة مكانهم، فهم على دراية تامة بالمنصب المهم الذي يشغله زياد في القضاء المصري، و يعلمون من هو وكيل النيابة الذكي الذي زياد الخياط.. قام رجل آخر بأخذ الهاتف من زميله ليكسره لقطع صغيرة قائلًا
” التليفون ده ميلزمناش في حاجة.. شايله معاك ليه !
” الله يخربيتك بتكسره ليه.. ده آيفون.. أنت عارف تمنه كام ده عشان تكسره ؟! ”
” مش أحسن ما يجبلنا مصيبة و الباشا يطير رقبتنا لو حد وصلنا ”
نظر الرجل لتلك المغشية عليه بجانبه، ليقول بابتسامة خبيثة و هو يتأمل براءة وجهها
” لا بس حتة حلوة ياض يا رزق.. خسارة في البهدلة ”
رد زميله وهو يتأملها أيضًا بنفس النظرة الراغبة
“حلوة بس ! دي تتاكل أكل.. بس شكلها يدي ستاشر و لا سبعتاشر سنة.. عيلة صغيرة لسه..
قاطع رئيس العصابة حديثهما، ليقول
” إحنا مالنا صغيرة ولا كبيرة.. إحنا ننفذ العملية دي زي ما الريس قالنا بالحرف الواحد و نقبض تمنها و نشوف عملية غيرها.. زي ما اتفقنا يا رجالة.. شغلنا مفيهوش اديني قلبك ولا تاخد قلبي.. قلبك ده تركنه على جنب خالص.. أنا عايز مخكم مفتح كده عشان منغلطش.. و الغلطة بالذات مع البت مرات وكيل النيابة دي برقبتنا علطول.. آمين !
رد الاثنان الآخران بطاعة
” آمين يا باشا ”
وصلوا لمكان شبه مهجور، مبنى قديم جدًا مكون من ستة طوابق لا يسكن بهم أحد، نزلت العصابة من السيارة المصفحة، و حمل أحدهم هاجر ليصعد بها لأحد الطوابق، ثم دخلوا شقة متسخة و رديئة بفعل عوامل الزمن، بالكاد يصل ضوء الشمس إليها، و وضع الرجل ” هاجر ” بإحدى الغرف الضيقة و العفنة، و المليئة بالتراب و العنكبوت و الفئران، و الحشرات الصغيرة، غرفة تشبه السجن الانفرادي.. لايوجد بها أي نوافذ، ضيقة، و جدرانها متسخة وبها آثار دماء، يبدو أن أحدهما قد نال العذاب فيها حتى مات.. ألقى الرجل بها على الأرض و تركها وحيدة، ثم أغلق الباب الذي به فتحات صغيرة من الأعلى مصنوعة من الحديد تسمح بمرور الأكسجين و الضوء الطفيف للداخل.
” ايه الخطوة الجاية بعد كده يا باشا ؟ ”
تساءل المدعو رزق، فأجاب رئيسهم
” لسه موصلتليش تعليمات جديدة.. الراجل اللي اتفق معانا على العملية دي أنا معرفش شكله لحد دلوقت.. هو وصلي بالتليفون و اداني نص المبلغ.. سابوا مع حد معرفة.. و بيتواصل معايا عن طريق التليفون بس.. كله اللي قالوا إننا نخطف البت دي و نلقحها هنا لحد ما يشوفلها صرفة..
قال آخر و يدعى سعيد القرصان، وهو من تجرأ و اختطف هاجر من وسط العامة بالحديقة
” وهو عاوزنا نخطف مرات وكيل نيابة ليه ؟ أكيد لسببين.. يا إما ليه تار بايت عنده.. يا إما هيساومه بفلوس..
قال الرئيس بتفكير
” مظنش عشان الفلوس.. ازاي هيتفق معانا على مليون و يدينا نصهم قبل ما العملية تتم عشان خاطر نخطف واحدة يساوم عليها بالفلوس.. لا لا.. استبعد السبب ده خالص..
” هو أكيد وكيل النيابة ده داسله على طرف عشان كده بينتقم منه في نقطة ضعفه.. مراته ”
قالها رزق، ثم التفت سريعًا لمصدر الصوت القادم من الغرفة التي حُبست هاجر بداخلها..
اتجهوا ثلاثتهم تجاه الغرفة، ثم فتحها الرئيس ليجد هاجر تتكئ على ذراعيها بتعب، و تحاول التعرف على المكان من حولها برهبة و خوف بعد أن عاد إليها وعيها.. عندما وقع بصرها عليهم انتفضت للوراء سريعًا بفزع، حتى التصق ظهرها بالحائط، و أخذ يردد لسانها بخوف اسم الله، لتتسائل بعد أن استوعبت ما يحدث لها
” أنتم.. أنتم مين !.. عاوزين ايه ؟.. جايبني هنا ليه ؟؟ ”
تقدم سعيد القرصان منها ليرتكز على ركبتيه في محاولة منه للتقرب منها قائلًا بسخرية
” متخافيش يا قطة.. الست اللي تدخل مزاج سعيد متخافش أبدًا..
نهضت سريعًا مبتعدة عنه وهي تقول بشجاعة مزيفة
” ابعدوا عني.. أنتم متعرفوش جوزي يبقى مين !
ضحك الرئيس بصخب ليقول باستهزاء
” مهو أنتِ هنا مخصوص عشان جوزك يبقى حضرة وكيل النيابة زياد الترزي باين.. ولا.. اسمه ايه !
رد عليه رزق ضاحكًا
” زياد الخياط..
تابع الرئيس سخريته من زوجها
” مين ! زبادي العياط
” زياد الخياط يا باشا..
” طب لما هو خياط ما يجي يخيطلي الجرح اللي في قلبي ده.. بقالي سنين عايش بيه.. آه من الحُب و عذابه.. أنتِ اسمك ايه يا حلوة صحيح؟
” أنتم عايزين مني إيه ؟ ”
تساءلت هاجر بضعف وهي على وشك البكاء من شدة الخوف.. رد سعيد
” إحنا مش عاوزين منك حاجة.. أنتِ مجرد طُعم مش أكتر.. ولا إيه يا باشا ؟
” اسكت أنت يا غبي.. سيبوها مرزوعة هنا واقفلوا عليها لحد ما نعرف راسنا من رجلينا ”
قالها رئيسهم، ثم خرج و تبعه رزق.. أما سعيد ظل واقفًا يناظرها بوقاحة، حتى ازداد خوف هاجر و ظلت تردد قوله تعالى
” وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ”
حتى أحس سعيد بأن شيء ما دخل في عينيه، فظلت تدمع وحدها، أخذ يدعكها ثم تركها وخرج وهو يغلق الباب وراءه بالقفل، و يدعك عينيه باستياء.. بينما جلست هاجر مكانها القرفصاء و رغمًا عنها بكت من شدة رهبة الموقف، و لكن شيء واحد يطمئن قلبها.. ” القرآن” ظلت تقرأ كل ما حفظته وهي تحتضن جنينها برفق و تحدثه بيقين
” متخافش.. ربنا مش هيسيبنا.. بابا هيجي.. و ماما معاك.. متخافش ”
بالخارج.. تحدث رئيس العصابة مع الرجل المجهول الذي اتفق معهم على خطف هاجر.. تساءل الرئيس
” هنعمل معاها إيه يا باشا ؟ ”
رد الرجل على الطرف الآخر بابتسامة ماكرة كلها حقد و كُره
” اعملوا اللي أنتم عايزينه.. العبوا معاها.. بس أهم حاجة.. كل اللي يحصل يتصور فديو على كارت ميموري مخصوص ..
فهم الرئيس المغزى من حديث الرجل، فاتسعت ابتسامته وهو يداعب شاربه
” اعتبره حصل ”
________________
” أنا.. أنا بشوف الحاجة قبل ما تحصل.. ”
قالتها روان بتوتر بعض الشيء، كأنها ارتكبت جُرم، بينما زوجة والدها كانت تجلس على فراشها بعد أن عادوا من المشفى، و ظلت تلح على روان بإخبارها كيف عرفت أنها ستقع وتصاب بنزيف، و كيف عرفت بما سيحدث لوالدتها..
قالت إيناس ببساطة
” قصدك بتحسي بالحاجة قبل ما تحصل يعني ؟.. أصل ستك أم أبوكِ الله يرحمها كانت كده برضو.. قلبها كان دايما يقولها إن هيحصل كذا فيحصل علطول سبحان الله ”
هزت روان رأسها بقلة حيلة، كردة فعل على أن زوجة والدها لم تستطيع فهمها بعد.. تابعت روان باستياء من نفسها
” أنتِ مش فهماني.. أنا مش بحس بالحاجة.. أنا بشوفها.. فاهمة.. بشوف الحادثة كأنها مشهد في فيلم بيتعرض قدامي.. قبل ما يحصل مع ماما اللي حكتلك عليه أنا شوفته كله بعيني.. كأنه شريط فديو.. بس قدرت ألحق المصيبة قبل ما تحصل.. حاسة إن دي إشارات بتجيلي.. إني لو ملحقتش الشخص ده مثلًا هيحصله كذا.. يعني لو مكناش جينا في الوقت المناسب وشوفتك وأنتِ بتقعي قبل ما أشوفك بجد مثلًا.. احتمال كان حصلك الأسوأ لقدر الله.. أنا بجد خايفة من نفسي.. الموضوع مش بسيط زي ما أنتِ فاكرة..”
حاولت إيناس تهدئتها، فقالت وهي تربت على ظهرها بحنو..
” طيب اهدي و مضايقيش نفسك.. روحي نامي دلوقت و بطلي تفكير عشان بكره إن شاء الله تبقي فايقة لما الناس يجوا يباركولك عشان النتيجة.. ”
تنهدت بضيق قائلة
” مش هعرف أبطل تفكير في اللي حصل.. مش هيرتاح بالي غير إما أعرف ايه اللي بيحصلي ده ”
” مش يمكن مكشوف عنك الحجاب ؟! ”
قالتها إيناس بابتسامة بسيطة، فنظرت لها روان للحظات، ثم ضحكت بسخرية و قالت
” مفيش حد بيعلم الغيب غير ربنا سبحانه و تعالى.. الجملة دي كان بيقولها الناس زمان أيام الجهل لما كان واحد يحس بحاجة قبل ما تحصل وتحصل فعلًا.. إنما نقول مكشوف عنه الحجاب و بيعرف الغيبيات ده حرام.. الغيب لا يعلمه إلا الله وحده..
” اومال أنتِ ليه شوفتي الحادثتين قبل ما يحصلوا ؟ ”
” يمكن دي أحلام يقظة.. أو إشارات ربنا بعتهالي عشان أنقذ الموقف.. مش عارفة بجد ايه ده.. و اشمعنا أنا ؟ وهل في ناس بيحصلها كده فعلًا.. ولا أنا غريبة الأطوار.. ولا أنا مميزة ولا ايه بالضبط ؟! ”
” أنتِ فعلًا مميزة ”
قالها والدها، وهو يدلف للغرفة و يجلس بجانبها يتوق أكتافها بحنان، و تابع باسمًا بهدوء
” ستك الله يرحمها كانت دايمًا تحس بالشر اللي هيحصلنا أنا و أخواتي.. يعني مثلًا لو واحد فينا هيحصله حاجة وحشة لو راح المشوار الفلاني.. كانت تقوله قلبي مقبوض متروحش ليحصلك كذا.. لما كان يعاند ويروح كان فعلًا بيحصل معاه زي ما ستك توقعت.. بس أنتِ بتختلفي عنها بكتير.. ستك مكنتش بتعرف ايه اللي هيحصل بالتحديد.. هي كانت تحس بالشر ده وخلاص.. إنما أنتِ بتشوفي اللي هيحصل بالضبط.. عشان كده أنتِ مميزة.. ربنا ميزك أنتِ دونًا عن بقية الناس بالموهبة و الميزة الجميلة دي.. ”
أومأت إيناس بموافقة على كلام زوجها و قالت مبتسمة
” سرها باتع ”
رددتها روان بعدم فهم
” سري باتع ! يعني إيه سرها باتع ؟ ”
” دي جملة بالعامية بنقولها على الناس اللي عندهم حس عالي.. أو الحاسة السادسة زي ما بيقولوا.. و يقدروا يتوقعوا حجات هتحصلهم ”
تدخل والدها ليقول بشرح أكثر
” بس قبل كل حاجة حطي في دماغك إن مفيش مخلوق عالم بالغيب.. ربنا وحده اللي عالم بالمستقبل بتاع كل واحد فينا.. لكن اللي بيحصل معاكِ ده نعمة من الله اختصك بيها عن بقية عباده..ورغم كونها نعمة، ممكن تبقى في نفس الوقت نقمة..يعني الناس تبدأ تخاف منك و يفكروكِ من إياهم بتوع السحر و الشعوذة دول أعوذ بالله منهم أو مخاوية ولا حاجة..بس حتى دول مش بيعرفوا الغيبيات.. لكن الناس بقى لو عرفت إن حد بيشوف اللي هيحصل هتقول عليه دجال.. عشان كده بقولك دي نقمة لو استخدمتيها غلط.. خلي الميزة دي سر معاكِ طول حياتك.. و استخدمي نعمة ربنا في الخير يا بنتي ”
ابتسمت بتفهم، و نهضت لتذهب لغرفتها بعد أن استأذنتهم للخلود للنوم.. ولكنها في الحقيقة لم تنم تلك الليلة.. ظلت تبحث على مواقع الانترنت هنا و هناك عن أي توضيح كافي لما يحدث معها، أو أي شخص قد مرّ بما تمرّ به فيفيدها بأي معلومة..في النهاية بعد ما شعرت بالتعب من البحث.. وجدت مقالًا يقول..
الحاسة السادسة، كما تسمى، أمر فطري وتوفيقي من الله تعالى لعبده، وليست لها علاقة بمعرفة الغيبيات، إذ لا يعلم الغيب إلا الله.. فالمسلم الذي يتسم بالصدق والاستقامة وتحرّي الحلال بالمأكل والمشرب، يقذف الله في قلبه البصيرة.
تنهدت بارتياح قليلًا لتغلق المتصفح الخاص بها وهي تقول
” يعني دي هبة من الله عشان أساعد بيها الناس ! طب اشمعنا أنا بالذات اللي ربنا اختارني عشان يكشف ليا بصيرتي رغم إني حديثة التوبة ؟!..
لحظات و أذن مؤذن لصلاة الفجر، فنهضت لتتوضأ وهي تردد وراءه، و أثناء ذلك ترددت صورة سيف على مخيلتها وهو حزين للغاية، لا تعرف لماذا رأته حزين هكذا، و لكنها ظلت تدعو له الله أن يذهب الحزن عن قلبه و يصلح حاله و يشفيه..
________
يدخل سيف الإسلام في حالة انهيار شديدة، بعدما عرف باختطاف أخته..
لقد اتجه زياد و بدر نحو قسم الشرطة، و عادت سارة والدة زياد للبيت تجر خطى الخيبة وراءها ولا تزال تبكي بكثرة، و برغم أن زياد و بدر أكدوا عليها ألا تخبر أحدًا بالأخص مفيدة لأنها مريضة سُكر، لم تستطيع الصمود و علموا جميعًا بالأمر، و انتشر الخبر في أرجاء الحارة..
على الفور توجه مصطفى و مجاهد و أُبّي نحو قسم الشرطة الذي يتواجد به بدر و زياد، و تطوع بعض شباب الحارة بنشر منشورات في صفحات مشهورة عن اختطاف هاجر ووضع مكافأة مجزية لمن يجدها أو يدلهم على مكانها، بعد أن أعطتهم نورا صورة توضيحية لها.
أما مفيدة لم تتحمل الخبر، و سقطت مغشية عليها، و بعدما رجعت لوعيها، انعقد لسانها من هول الصدمة ولم تتحدث بحرف أو أنها لم تستطع التكلم !
بينما سيف ظل يبكي في كرسيه المتحرك بعجز، غير قادر على فعل شيء، فقط يبكي ويدعو الله أن يرد إليه شقيقته سالمة.
____________
في ذلك الممر السري تحت الأرض.
لم يكن دهشة و تعجب الضباط من قُصي، إلا من نصيب” الضابط كريم ” الذي هب من مكانه واقفًا بدهشة وهو يتأمل قُصي قائلًا بتعجب
” قُصي !! ”
عامله قُصي باستعلاء قليلًا وهو يعدل من ملابسه و يتوجه ليجلس على طاولة الضباط بفخر قائلا
” أنا عارف إني غني عن التعريف.. اسم الكريم ايه بقى ؟
تأمله كريم للحظات باعجاب متذكرًا عندما كان يحمله على كتفيه في صغره و الآخر يفرد ذراعيه الصغيرتين ليمثل أنه طائرة، و يصدر أصوات من فمه تشبه صوت الطائرة، كان كريم يحبه كثيرًا و يحب شقاوته و ذكائه الذي ظهر عليه في وقت مبكر جدًا من طفولته، فقد كان قُصي في الثالثة من عمره و يستطيع لعب الشطرنج بمهارة، و عندما وصل للخامسة ظهرت عليه لباقته و دهائه في الحديث.
ضحك كريم بعدم تصديق و قال
” كنت متوقع أنك هتبقى حاجة كبيرة في المستقبل.. بس مش لدرجة عميل سري ! ”
تساءل اللواء عزمي بفضول
” أنتم تعرفوا بعض ؟! ”
أومأ كريم وهو لا زال يناظر سيف باعجاب
” مش عارف هو فاكرني ولا لأ ؟ ”
تأمله قصي للحظات كأنه يسترجع ذاكرته، ثم اتسعت عينيه وهو ينهض و يحتضنه بسعادة مصحوبة بالدهشة
” كـرملة ! ”
بادله كريم العناق ضاحكًا
” أيوه يا ابو لسانين.. كرملة.. بس هنا اسمي حضرة الضابط كريم.. كرملة دي لما تكون أنت غالبني في الشطرنج ”
ضحك قصي غير مصدق وجوده، و أخذ يتأمله للحظات ثم عاود احتضانه وهو يقول
” والله العظيم وحشتني ”
اقترب منهما الضابط رحيم وهو يناظر سيف بغيرة شعر بها من ثناء الجميع عليه وعلى موهبته خاصة صديق عمره كريم.. قال رحيم ساخرًا
” هو الممر هيلم مراهقين ولا ايه.. مين الولا ده يا كريم ؟ ”
رمقه كريم بغضب ليصمت، و لكن حتى لو لزم الصمت، لن يسكت قصي عن إهانته..
اقترب قصي منه، ولأنه طويل القامة استغل مقاربة طوله لرحيم، و جذبه من رقبته في حركة مهينة أمام جميع الحضور ليقول بلا مبالاة لهم
” المراهق ده سلم عصابة كاملة من المافيا للولايات المتحدة.. و لبس رئيسهم قرون.. فمش صعب عليا ألبسهالك أنت كمان ”
” أنت بتقولي أنا الكلام ده يا ***”
تدخل كريم فورا ليبعدهما عن بعض قبل أن تعم الفوضى في المكان بسبب تهورهما، و لكن قصي لم يدع الأمر يمر بسلام.. صاح بصوت عالي ساخر وهو يشير لرحيم و يوجه حديثه إلى اللواء عزمي
” ما تلم نسوانك يا عزمي بيه ”
” أنا نســــوان !! ”
هتف بها رحيم غير مصدق، فقال قصي وهو ينظر في عينيه بتحدي
” هو اللي زعلك الجمع ! خلاص يا باشا ولا تزعل نفسك.. أنت نسوناية واحدة ”
” و ربنا منا سايبك غير اما اخليك تعيط عشان نشوف مين فينا المـ….
لم يكمل الكلمة؛ بسبب هجوم قصي عليه كالنمر الشرس، تدخل الضباط لفض تلك المهزلة، و صرخ بهم اللواء عزمي بغضب
“إحنا في حضانة هنا !! ايه اللي شغل الهمج ده يا حضرة الضابط المحترم رحيم !
تنفس رحيم بغضب مشيرًا لقصي
” العيل اللي أنت جايبه هو اللي همجي يا باشا ”
صاح به اللواء مرة ثانية وهو ينظر له بتحذير قائلا
” رحيــــم.. الزم حدودك.. إحنا هنا في مهمة.. أساس التعاون.. جو الغير و النفسنة من اللي اصغر منك تمحيه خالص.. اعتبر نفسك برا المهمة دي لو اللي حصل ده اتكرر تاني.. تمام ! ”
” تمام يا فندم ”
قالها وهو يؤدي التحية العسكرية بضيق، و في داخله يتوعد قصي بالنيل منه.
” اتفضلوا أماكنكم عشان نبدأ الاجتماع بحضور أذكي عميل شاب قُصي مجاهد الخياط ”
قالها اللواء عزمي بابتسامة رسمية وهو يعود لهدوئه، بينما كريم أجلسه بجانبه ليكون فاصلا بينه و بين صديقه رحيم.. أما الأخير عندما سمع اسم الخياط ظل يتردد على ذهنه كأنه يتذكر شيء ما..
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)