رواية شهادة قيد الفصل الثالث 3 بقلم دودو محمد
رواية شهادة قيد الجزء الثالث
رواية شهادة قيد البارت الثالث
رواية شهادة قيد الحلقة الثالثة
تنهد مهران بضيق وكأن كل همومه خرجت مع تلك الزفرة، لكنه تفاجأ بفتح باب غرفته ودخول ذات عليه بجسد متأرجح، كأنها قد تحملت عبئاً ثقيلاً أسقطها في دوامة من الذهول والارتباك. تقدمت منه سريعا، وعينيها تتلألأ بوهج غريب، كأنها قد استيقظت للتو من كابوس عابر، مما زاد من قلقه. انحنت قربه ببطء وتمدت بجواره على التخت بشيء من الضياع وكأنها تبحث عن جو نبض للحياة. كانت ملامحها تختلط بين الهزل والجد وعدم الفهم، مما زاد من ارتباك مهران. كان يشعر بأنه أسير في فخ تم نصبه له بمحض إرادته، وبينما كانت ذات تنظر إليه بعيون تحمل تساؤلات عميقة عن شيء لم يعرفه هو، كان يشعر بأنه محاصر بأحاسيس مختلطة من القلق والفضول.
انتفض من مكانه سريعا وتكلم بتلعثم، محاولاً استعادة بعض من هيبته:
“ا ا انتي بتعملي ايه هنا؟ روحي الاوضه اللى كنتي فيها”.
أغلقت عينيها من شدة ارتفاع صوته، وكأنها تأمل أن يختفي كل الهم حولها، وتكلمت بأنزعاج، موجهة صراخها إلى الفضاء الذي حولها:
“ششش، بلاش صوتك العالي ده عندي صداع ارجوك”.
انتهت من كلامها واستسلمت مره أخري إلى النوم، مغلقة عينيها وكأنها تأمل أن تعود تمددت بلا قلق.
ظل يتابعها بتوتر، غير قادر على ضبط نفسه، اقترب منها ثم ربت على وجهها بشكل تلقائي، موقظاً فيها حواسه:
“ا ا انتي، ذات ردي عليا، ذاااااات”.
لكنها كانت تسبح في عالم أحلامها ولم تجب عليه، مما زاد من ضغوطه. زفر بضيق واتجه إلى الأريكه، حيث تسطح عليها، عائداً بخياله إلى تلك اللحظات، بينما ظل يتابعها وهي نائمة حتى غرق هو الآخر في سبات عميق، مستسلماً لعالم آخر يقتحم غفوته بلا استئذان.
«««««««««««««««»»»»»»»»»»
في صباح يوم جديد حافل بالأحداث الدسمة داخل حياة ذات، بدأت تحرك رأسها بتكاسل، شعرت بثقل شديد برأسها، زفرت بضيق وكأنها كومة من الأحزان. ثم فتحت عينيها بصعوبة، نظرت حولها باستغراب، وكأنها كانت تبحث عن جزء مفقود من نفسها، اعتدلت بهلع عندما وجدت مهران متمددًا أمامها على الأريكة. نظرت إلى جسدها بسرعة، مطمئنة لوجود الملابس، وسرعان ما ارتسمت الابتسامة على شفتيها عندما طالعت وجه مهران وملامحه الرجولية الجذابة، وكأنها رأته للمرة الأولى بوضوح.
تحركت ببطء، وغرقت في شعور غريب من الفضول، اتجهت إليه، جثت على ركبتيها أمامه وظلت تتابعه وهو نائم، تتأمل تفاصيل وجه بتمعن، كانت تريد أن تلامس ملامح وجهه، حركت أناملها على كل فزة في وجهه، وكأنها تحاول حفظ ملامحه بذاكرتها، وفي ذلك الوقت شعرت بحركته. استقامت سريعًا بجسدها وعادت إلى التخت، تلاعبت بأصابعها بتوتر في محاولة لتهدئة مشاعرها.
فتح مهران عينه ونظر أمامه، وجد ذات تجلس بتوتر، اعتدل سريعًا وتكلم بتلعثم، محاولاً ضبط نفسه:
“ص ص صباح الخير”.
أجابته بصعوبة، وهي تقاوم نشوة الصبحة الجديدة:
“ص ص صباح النور، ه ه هو انا جيت عندك الشقه ازاى وايه نيمني هنا فى اوضك؟!
كان صوتها يحمل تساؤلات وأفكار متشابكة، وكأن كل تلك الأسئلة تعقدت بسبب حالة الليل الغامضة التي عاشتها. أجابها مهران بتلعثم، محاولاً استجماع أفكاره:
“انا اللى جيبتك هنا معايا الشقه بعد ما طلبتي مني ده، أما وجودك هنا فى اوضي انتي اللى جيتي برجلك بعد ما نيمتك فى اوضه تانيه”.
ابتلعت ريقها بصعوبة، وظهرت مرتعشة، وتكلمت بتلعثم:
“ها ا ا انا اللى طلبت منك تجيبني معاك الشقه و و وكمان جيتلك الاوضه برجلي! ش ش شكلي تقلت فى الشرب أمبارح”.
كانت كلماتها تعبر عن مزيج من الندم والاستياء، مثل كرت هش ينذر بكارثة.
ثم نهضت سريعًا تبحث عن علبة السجائر الخاصة بها لكنها لم تجدها، وكأنها فقدت شيئًا بالغ الأهمية في عالمها الضبابي.ظل مهران يتابعها باستغراب، وتكلم بتساءل، مثل مخلوق يحاول فهم ما حدث.
“انتي بدوري على ايه؟!.
نظرت له بتوتر، عينيها تجسد قلقها، وقالت:
“ب ب بدور على علبة السجاير بتاعتي”.
حرك رأسه بالرفض، وتكلم بتوضيح:
“مافيش سجاير العلبه رمتيها امبارح لما خلصت واحنا مروحين على الفيلا قبل ما اجيبك هنا”.
زفرت بضيق وجلست مره اخرى على التخت، وضعت رأسها بين كفوف يدها، وكانت كأنها تتقبل اعترافًا مؤلمًا بحقيقة واقعها، وقالت بألم:
“انا دماغي هتفرتك، عايزه اشرب سيجاره واشرب واحد قهوه علشان افوق”.
ثم نظرت إلى مهران بترجي، وكأنها تسأله، عسى أن يكون لديه الحل:
“ممكن تنزل تجيب ليا علبة سجاير على ما اعملي واحد قهوه ارجوك”.
زفر بضيق ثم استقام بجسده، الأشياء تتراكم عليه، وتحرك إلى خارج الغرفه قائلاً:
“هدخل الحمام الاول وبعد هروح اجبلك”.
أنهى كلامه وخرج من الغرفه، واغلق الباب خلفه.نظرت ذات إلى أثره وارتسمت ابتسامه على ثغرها، وكأنها شعرت بتفاعل غريب، ثم نظرت حولها في الغرفه بأعجاب شديد، كل شيء بها كان جذابًا ويخطف الأنظار، ولكن ما جعل ابتسامتها تزداد عندما رأت صوره معلقه على الحائط، بها مهران في ملابس الميري، البدلة كانت تبرز جسده الرجولي وتزيد من جمال الوجه الحسن. حركت أناملها عليها، وكأنها تحاول أن تعطي الفرح لذكرى، وفى ذالك الوقت استمعت لصوت مهران من الخارج وهو يقول:
“انا نازل ومش هتأخر حضري قهوتك علشان متتأخريش على الشركه”.
تحركت إلي الخارج، وجدته بالفعل غادر المنزل، بحثت عن غرفة المطبخ حتى وجدتها، وبدأت تبحث عن أشياء تحضير القهوه، حتى وجدتها، واعدت اثنين من القهوه، واحد لها والآخر لمهران. وبعد عدة دقائق عاد المنزل، وجدها تنتظره على الأريكة، وضع أمامها علبة السجائر وتكلم بنبرة جادة:
“اتفضلي اهى السجاير، ياريت تنجزي في السريع علشان فاضل ساعه الا ربع على ميعاد الشركه”.
أشعلت السيجار، ونفثت الدخان بالهواء، وارتشفت ورأها القهوه وقالت بتساءل:
“هو انت كنت ظابط قبل ما تبقى حارس شخصي؟”.
ارتشف من القهوه وأومأ برأسه بالتأكيد، وقال باقتضاب:
“ايوه”.
نظرت له باستغراب، وقالت بتساؤل:
“طيب ليه سيبت الشرطه واشتغلت حارس؟”.
استقام بجسده بغضب، وتكلم بصوت مختنق، وكأنه يحاول الحفاظ على مسافة آمنة وسط حيرته:
“كفايه لك لحد كده واتفضلي يلا علشان اوصلك الشركه”.
نهضت سريعا، واقتربت منه ببطئ، وحركت يدها على صدره، وكأنها تحاول استشعار قلبه المتردد، وقالت بصوت هامس:
“انت وراك حاجه غامضه، وانا حطيتك فى دماغى، ومدام ذات حطت حاجه فى دماغها هتفضل وراها لحد ما تجيب أساسها”.
ثم اقتربت منه أكثر حتى تقلصت ما بينهم المسافة، والتصقت به، نظرت بعينه باهتمام عميق قالت:
“من النادر انشغل بحد اوي كده، وحظك انك شغلتني”.
من ثم أخذت نفسًا من السيجار، ونفثت بوجه دخانها، وابتسمت له بشكل يُشعل فضولا غير مفهوم.دفعها بقوة، أبعدها عنه، وتكلم بنبرة رجولية تحمل تحذيرًا:
“قدراتي اقوي من واحده زيك تستحملها، فبلاش تدخلي فى تحدي انتي مش قده”.
ثم تحرك اتجاه الباب، وقال بأمر:
“يلا بينا، اتأخرنا”.
نظرت إلى أثره بأعجاب شديد، وارتسمت ابتسامه هادئه على شفتيها، وتكلمت بصوت هامس:
“وانا ايه شغلني بيك الا قدراتك دي يا مهورتي، استعد يا حلو للي جاي ده، أنا ذات الزويدي اللى الرجاله كلها بتتحدف تحت رجليها”.
أنهت كلامها وتحركت سريعا خلفه، وجدته ينتظرها امام المصعد الكهربائي، وقفت بجواره حتى انفتح الباب، ودخلت هي أولاً ثم مهران خلفها. هبطوا إلى الأسفل، ثم تحركوا إلى السياره، أمر السائق أن يفتح لها الباب الخلفي، وبالفعل نفذ ما أمره به، لكنها تجاهلت السائق وصعدت بالمقعد الامامي، ونظرت إلى مهران وقالت:
“انا هركب هنا وانت اللي هتسوق العربية”.
أغلق عينه بضيق، وتكلم بنفاذ صبر، وأصوات القلق تتعالى في ذهنه:
“لو سمحتي يا انسة ذات، اركبي وراه، خلينا نشوف شغلنا”.
حركت رأسها بالرفض، وقالت:
“لا مش هرجع وراه، وانا بأمرك انك انت اللى تسوق العربية، يلا علشان هنتأخر على الشركه”.
ضغط على أسنانه بغضب، ونظر إلى السائق، وقال بأمر قاسي:
“روح انت اركب معاهم فى العربيه التانيه”.
أومأ السائق رأسه بالطاعة، ونفذ ما أمره به مهران، وصعد هو بجوارها أمام المقود. وزفر بضيق، كأن العبء يزداد عليه، وقال بتحذير:
“حسك عينك تتكلمي معايا بطريقتك دى قدام السواق، فاهمه!”.
ابتسمت له وتكلمت بهدوء، وكأن تحدي يدور في خَلَدها:
“اللى تأمر بي يا مهورتي”.
نظر لها بضيق، ثم أدار السياره وتحرك بها مسرعًا إلى الشركه، مع انبعاث مشاعر متشابكة من التوتر والتحدي.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»
بالفيلا الخاصة بعائلة سليم الزويدي.
نظر سليم إلى ابنه يزيد بحيرة وقلق، وكانت ملامح الغضب تعلو وجهه. صرخ بحدة:
“يعني ايه راحت معاه بيته؟ فين رجولتك يا غبي! ازاى تسيب بنت عمك وخطيبتك تروح بيت راجل غريب من غير ما تمنعه! أنت عبيط!”
كان صوته يكتسح أرجاء الفيلا، مما جعل نوافذ المنزل ترتعش وكأنها تشعر بتوتره. سليم، الذي نشأ في بيئة تتطلب الشجاعة والمروءة، لم يكن قادرًا على استيعاب تصرفات ابنه في موقف يعتبره مهينًا لعائلتهم العريقة.
تحدثت زوجته بسرعة، مدافعة عن ابنها، قائلةً بنبرة مفعمة بالقلق:
“الله، وهو ماله؟ ما تحكم على بنت أخوك بتصرفاتها دي، هيعمل أيه مع واحده سُكريه زي دي؟ ما هو ده المتوقع منها، أننا نجيبها من بيوت الرجالة كل شوية!”
كانت تدرك جيدًا معاناة ابنها، فكل تصرف يبدو أنه ينأى به عن مسؤولياته، ولكنها لم تستطع الصمت على هجوم سليم. كان حديثها مشوبًا بالحيرة، وكأنها تحاول انقاذ ما يمكن انقاذه في عائلة تتفكك أمام عينيها.
ارتفع صوت سليم، وهو يطرق بيده على الطاولة في توتر، محذرًا:
“هااااله، حطي لسانك في بؤك شويه! لو كنتي عرفتي تحتويها من صغرها، مكنش ده بقى حالها. غيرتك وكرهك لأمها قسا قلبك عليها وهي لسه طفلة، متفهمش حاجة. قصدي تهمليها علشان تبقى بالمنظر ده وتفرحي في بنت رحاب! اتقي الله، يا شيخة، مش كفاية طفشتي ولادك الاتنين وسافروا وبعّدو عنك!”
كانت كلمات سليم تتردد في الأرجاء، وكأنها قذائف حادة تصيب القلب. هرعت الأفكار إلى رأسه، وبدأ يراجع في ذاكرته جميع المواقف التي شهدت فيها عائلته تدهورًا ملحوظًا، ويشعر بثقل مسؤوليته كأب وزوج في إنقاذ ما تبقى.
أنهى سليم كلماته، واقفًا في غضب، ثم أضاف:
“أنا هغور أروح الشركة ومحدش يفتح بؤه بكلمة واحدة مع ذات، أنا هعرف أعاقبها بطريقتي علشان متسؤش فيها وتعملها تاني!”
وغادر بسرعة، غير مستمعًا لما سيقوله الآخرون. كان غاضبًا للغاية، ولكنه لم يكن مدركًا أن هذه الانفعالات لن تؤدي إلا إلى مزيد من الشقاق في العائلة. كانت خطواته تتردد في الذاكرة، كأنها تعبر عن الفراق الذي يعاني منه الجميع.
نظرت هالة إلى أثره بغضب وقالت:
“عايش دور المضحي بكره كل حاجه هتظهر على حقيقتها وهيظهر ليها وشه الحقيقى اللى لسه مشفتهوش”.
نظر يزيد لها بأستغراب وقال بتساءل:
“صح يا ماما انتي ليه بتكرهي مرات عمي اوي كده ايه السر اللى يخليكي تكرهيها هى وبنتها بالشكل ده؟”.
نظرت هالة أمامها بحقد وكراهية، وتحدثت بنبرة غاضبة، وهي تتذكر تلك اللحظة التي لا تفارق خيالها:
“ده موضوع قديم قوي، بدأ من اللحظة اللي جه عمك يتقدم ليا، كان وقتها رحاب أقرب صديقة ليا، جارتي، كان عمك جاي يتقدملي، وده كان يعتبر حلم من أحلام شبابي، إلا أن رحاب أصبحت عائق قصاد الحلم ده. عمك شافها وطلب إيديها، والكل اتعجب من اللي بيحصل، لأنه كان جاي عن طريق واحدة جارتنا. وقتها، أبوك طلب إيدي أنا وعمك طلب إيديها هي، وأنا حسيت بصدمة. إزاي تخطف العريس اللي جاي يتقدملي؟ كانت فيها إيه أحسن مني؟ الشكوك بدأت تدب في قلبي، وفضلت أسأل نفسي مليون سؤال، عن كل شيء فيها، من مظهرها إلى شخصيتها. مش حب في عمك، لكن إحساس صعب لما يكون العريس يعجب بصحبتي ويتجوزها، كانت تمثل لي خيانة غير معلنة.
ومن وقتها، قطعت علاقتي بيها، وحاولت أبعد عنها، لكن الأحداث كانت أكبر مني. اللي زود كرهي ليها، إن جدك وجدتك كانوا بيحبوا رحاب أكتر مني. كنت بشوف نظراتهم الودودة ليها، وأحيانًا أحس إنهم بيتجاهلوا كل محاولاتي لكسب حبهم. عملت كل حاجة علشان يحبوني، لكن هي استحوذت على حب الكل حتى جوزي، اللي كان المفروض يكون في صفي. ولما جبت أخوك الأول، الضغوطات زادت. كان المفروض يحبوني أكتر منها، لكن تفاجئت إنهم كلهم مهتمين بيها وبيراعوا مشاعرها، خافوا يفرحوا معايا بأخوك عشان متزعلش. الواقع كان مرير، وحسيت إني كنت عايشة في كابوس.
وبعدين، جبتك أنت، وكنت متأملّة إن وجودك هيخليهم يحبوني أكتر، لكن الوضع فضل زي ما هو. كانوا بيتعاملوا مع رحاب كأنها الملكة، وأنا كنت أحس اني غريبة في العايله. وبعدها بفترة صغيرة، حملت في مقصوفة الرقبة، وجابتها. حسيت ساعتها إن الدنيا ضحكتلي، وقولت إني كفتي مايلة اكتر لأن معايا ولدين شايلين اسم العيلة. وهي، حتة بنت، ولا ليها لازمة. لكن طلعت هبلة وعبيطة، الحب والاهتمام كله كان لرحاب وبنتها، والكره كله ليا. عشت سنين وأنا بشوف حبهم ليها وكرههم ليا، وأنت عارف الباقي بقي”.
اتسعت عينا يزيد بصدمة، وتكلم بعدم تصديق:
“ياااا يا ماما، كل ده شايله في قلبك ومتحملاه، وحياتك عندي لدفع بنتهم التمن. المهم إنك تكوني مبسوطة!”
الكلمات خرجت من قلبه الذي تعب بفعل ما سمعه، وكأن كل معاناتها وضغوطاتها تنقل إليه بشعورها الساكن والمخفي منذ زمن طويل. كان يدرك تمامًا أن الأمور لم تكن سهلة، وأن والدته قد تحملت الكثير من الأثقال التي أثرت على روحها وضحكتها، ولكنه لم يكن يتخيل أن هذه الجروح لا تزال تنزف في داخلها.
ربتت هالة على يده بحنان، وقالت:
“ربنا يبارك لي فيك، أنت الوحيد من إخواتك اللي فيك الخير. الاتنين ما صدقوا يسافروا بره، ومحدش شاف وشهم من ساعتها.”
كان ذلك تذكيرًا مُحبطًا بواقع عائلتها المتشتتة، حيث تباعدت المسافات وفقدت الروابط، لكن يزيد كان يمثل الأمل، تلك الإضاءة التي تشع في ظلام الشكوة، وكأنها تعيد إحياء الذكريات الدافئة التي كانت تجمعهم بقبضتهم الصغيرة. في عينيه، كانت تعكس مشاعر الدعم والحب الحقيقي، رغم كل ما مروا به.
ابتسم لها بحب، وقال:
“أنا جنبك، ومش هسمح لحد يعكر مزاجك مهما كان مين.”
كان صوته يحمل العزم والصدق، كتعهد قوي بأن تكون والدته دائمًا في مأمن، وأن لا يسمح لظواهر الحياة القاسية أن تمسها بأذى أو تؤثّر على سلامها النفسي. كانت كلماته بمثابة وعود متجددة، تشبه الجدران التي بنيت لحماية قلوبهم.
أنهى كلامه، واستقام بجسده، مقبلاً رأس والدته، وغادر البيت متجهاً إلى الشركة، مصطحبًا معه عزيمته لحماية والدته من كل سوء. ورغم مشاغل العمل وضغوطات الحياة اليومية التي في انتظاره، إلا أن قلبه كان مع والدته، يجري جنبًا إلى جنب معها في كل اللحظات الصعبة، مؤمنًا أنه سيساعدها على استعادة ابتسامتها.
««««««««««««««»»»»»»»»»»
وصل مهران بالسياره أسفل الشركه ونظر حوله حتى يتأكد من عدم وجود أى خطر على حياة ذات، فالشوارع كانت زاخرة بالحركة، والسيارات تمر بجانبه بشكل متسارع، مما زاد من قلقه. ترجل من السياره واتجه إلى الباب الآخر وفتحه لها. هبطت منها بأبتسامه مشرقة، كانت تتألق كالشمس الساطعة في صباح يوم مشمس، واتجهت أعين الجميع إلى جسدها الظاهر من ملابسها المثيرة التي كانت تصدح بأنوثتها. نظرت إلى مهران وقالت بصوت هامس مفعم بالثقة:
“الرجاله هتاكلني بعيونها أول مره يشوفوني بالهدوم دي”.
اتسعت عيناه بصدمه، حيث انتبه إلى ملابس ذات المثيرة وأدرك أنها لم تبدلها منذ أمس، وكانت تشكل نقطة جذب لكل الأنظار. أغلق عينه بنفاذ صبر، كأنما يحاول قمع شعوره بالغضب والانزعاج، وتكلم بصوت غاضب:
“تطلعي على مكتبك ومدخليش حد ولا تخرجي بره لحد ما اجبلك هدوم تانيه بدل المسخره اللى انتي لبساها دي”.
تمسكت بذراعه وقالت بأبتسامه جريئة:
“غيران عليا يا مهورتي، ولا بس خايف على شغلك؟”.
أبعدها عنه بهدوء حتى لا يلاحظ أحد ما يحدث، وضغط على أسنانه بغضب، وكأن كل كلمة تخرج من فمها تزيد من نار الغضب بداخله وقال بصوت هامس وكأن الكلمات تخترق عظامه:
“ابعدي عني واتظبطي بدل ما اظبطك وبعدين هغير عليكى ليه انتي بالنسبالي مجرد شغل مش اكتر، وأنا بعمل كده بدافع وظيفتي. اتفضلي امشي يلا”.
كلماته كالرصاصه التي اخترقت قلبها، لكنها حاولت الحفاظ على هدوئها وكبريائها. اقتربت من أذنه وقالت بصوت هامس مفعم بالتحدي:
“براحتك، بكرة تيجي راكع تحت رجلي وساعتها هتصعب عليا وهخدك فى حضني يا جميل”.
زفر بضيق من جرأة كلماتها، حيث كان شعور التحدي يجعله يتأرجح بين الانجذاب والاحتقار، ثم ابتعد عنها وتكلم بأمر حاسم:
“اتفضلي امشي يا انسه ذات”.
تحركت أمامه بكل ثقه تحت نظرات الرجال التي تلتهمها بأعيونهم كالذئاب الجائعة. شعر بنار داخله مثل المرجال تحرق روحه من فرط الغضب والغيرة، فلم يحتمل هذا النوع من التعرض. تكلم بصوت غاضب:
“ممكن تسرعي شويه يا انسه ذات ورانا حاجات كتير”.
تعالت ضحكاتها، وكان صوتها كأجراس معلنة عن آمال جديدة، وتحركت بليونه أكثر وظلت تتمايل بجسدها الممشوق مما زاد من غضبه. أمسك ذراعها، وأرغمها على التحرك معه بسرعه أكبر حتى صعدوا المصعد الكهربائي. وبمجرد دخولهما، وجد رجل يقف ورآهم وينظر بنظرات شهوانية إلى جسد ذات، مما جعل الغضب يشتعل في عروقه. ضغط على أسنانه بنفاذ صبر، واستدار إلى الرجل وأمسكه من عنقه بغضب شديد، وقال بتحذير:
“عينك دى لو شوفتها بتبص عليها تانى هخزقهم ليك، فااااهم؟”.
ارتعد هذا الرجل وأومأ رأسه بتوتر، مظهراً خوفه وذعره.
“ح ح حاضر ا ا انا نازل فى الدور ده اصلا”.
أنهى كلامه، وخرج سريعاً من المصعد، محاولاً محو آثار تلك اللحظة المحرجة.اعتدل مهران مرة أخرى فى وقفته لكنه تفاجئ بذات تمضغ العلكة بطريقة مثيرة كأنها تخاطب كل حواسه. تنهد بنفاذ صبر، كأنما يحاول ضبط انفعالاته، وتكلم بصوت جهوري:
“ارمي الزفتة اللى فى بؤقك دي، انتي ناويه تختمي على جناني؟”.
بصقتها على الأرض، بخفة ودلال، واقتربت منه وحركت يدها على صدره، وكأنها ترسم خطوط الموضة بجسدها، قالت بمزاح:
“انت تأمر يا سبعي، بعد الشر عليك من الجنان يا روحي، انا عايزاك بصحتك علشااااان…”
لم تكمل حديثها الجرئ، بل انهت حديثها بغمزة مثيره تحمل خلفها الكثير من الوعود والتحديات. وفى تلك اللحظة، انفتح باب المصعد، وخرجت منه سريعًا، وكأنها تحمل عبءًا من القضايا التي تنتظرها. اتجهت إلى المكتب الخاص بها، كأنما تترك خلفها سحابة من الإثارة.شعر مهران بالنيران تشتعل داخله، لأول مره يشعر بهذا الشئ من جرأة كلماتها، تعالت أنفاسه بشكل مبالغ فيه، أخذ نفساً عميقاً حتى يهدأ قليلاً ويخرج ما تسلسل داخله من أفكار شيطانية تجاه هذه الفتاة المفعمة بطاقه لا مثيل لها. انتبه إلى باب المصعد ينغلق، تحرك سريعًا إلى الخارج، ووقف أمام باب المكتب الخاص بذات، رافضًا الدخول خلفها حتى لا يفعل شيئًا يندم عليه، كأنه يحاول القبض على أنفاسه في انتظار ما ستأتي به اللحظات القادمة.
««««««««««««»»»»»»»»»»
جلست ذات على مقعدها الجلدي الفاخر خلف مكتبها الخشبي الأنيق، وقد انطلقت ضحكاتها بخفة من ردة فعل مهران تجاه ما فعلته معه في المصعد. تأكدت من أنه لم يتبعها وسينتظر بالخارج. بعد لحظات من الضحك، بدأت تهدأ وتعود لتركيزها على عملها بنشاط. وفي خضّم ذلك، سمعت صوت عمها الغاضب وهو يفتح الباب قائلاً:
“اتفضل معايا يا استاذ جوه”.
دخل مهران مع سليم إلى الغرفة، وأغلق الباب خلفه، بينما كان التوتر يعتريه، فسرعان ما ابتعد بنظره عن ذات عندما غمزت له بدعابة.
تراجعت ذات بظهرها إلى الوراء، وتحدثت بعدم اهتمام قائلة:
“خير يا سولي، متعصب أوى كده ليه؟ تكونش زعلان علشان كنت نايمة في شقة مهران طول الليل؟ لا، متزعلش ومتقلقش، مهران آخر واحد يفكر يقربلي، زي ما تقول كده خجول زيادة عن اللزوم. أنا لسه فرچين ومحدش قرب مني. تحب تخدني لدكتور يأكد ليك كلامي؟”.
تحدث سليم بغضب شديد، وقال بنفاذ صبر:
“انتي عايزة توصلي لإيه بالظبط؟ ليه بتعملي معايا كده؟ أنا معملتش حاجة وحشة معاكي. أنا اعتبرتك بنتي من اللحظه اللي فقد فيها أخويه، وفرت ليكي كل سبل الترفيه، اتكلمي يا ذات، ليه بتعملي كده؟”.
نهضت ذات من على مقعدها، اقتربت منه، وحدقت في عينيه، وتكلمت بصوت مختنق:
“مش يمكن هي دي المشكلة، إنك عمرك ما قولتلي كده غلط. عمرك ما حاولت تمنعني أمشي في الطريق اللي أنا فيه دلوقتي. عارف ليه؟ لأن كل اللي يهمك هو الشركة والفلوس، إنما أنا آخر همك. مسألتش نفسك انا روحت امبارح عند مهران ونمت عنده لية؟ أقولك أنا، روحت نمت عنده علشان ابنك وسخ، اه والله، وكل يوم يستغل سُكري ويعمل معايا حركات قذره شبه، امنت على نفسي مع مهران لأني متأكدة إنه مستحيل هيعمل معايا زي ما ابن عمّي بيعمل”.
لم تكن قادرة على كبح مشاعر الغضب التي سكنت أعماقها، بينما شعرت بأن كل كلمة تقولها تعبر عن عذابها المكبوت.
“كل مره ابص على نفسي وانا سكرانه، بكره نفسي وافعالي كنت بتمني الاقي اللى يمنعني يحسسني بالامان، كنت بكره كل حته فى جسمي من كتر لمسات ابنك عليه وانا ضعيفه ومش قادره حتى ارفض تصرفاته المقرفه معايا، وهو مكانش عنده لا رحمه ولا شفقه معملش حساب أن انا بنت عمه حته منه، ازاى يجيله قلب يعمل كل ده فى عرضه! الوحيد اللى حسيت معاه بالأمان هو مهران لاول مره فى حياتي انام وانا مش خايفه”.
هدر سليم بغضب، وارتفع صوته:
“قطع لسانك! ابني مستحيل يعمل الحاجات القذرة دي. يعني سُكريه، وكمان كذابة؟ انتي قاصدة تعملي كده علشان توقعي الكل في بعضه. آخر كلام عندي يا ذات، فرحك على يزيد الأسبوع الجاي، خلينا نخلص من الموضوع ده”.
ضغطت على أسنانها بغضب، ونظرت إليه بتحدٍ وقالت:
“اتجوز ازاي وأنا متجوزة!”
صدم مهران عندما سمع الكلمات تنطق بها ذات، كأنها أخرجت سيف الخيانة من غمده. اتسعت عينا مهران وسليم من الصدمة، وكأنهما لم يتوقعا أن تتجرأ على التصريح بما يخفي كل منهما داخل قلبه. اقتربت ذات من مهران، ممسكة بذراعه، وقالت بابتسامة مزيجة بين التحدي والتحديق……
«««««««««««««»»»»»»»»»
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية شهادة قيد)