روايات

رواية بأمر الحب الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم تميمة نبيل

رواية بأمر الحب الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم تميمة نبيل

رواية بأمر الحب البارت التاسع والعشرون

رواية بأمر الحب الجزء التاسع والعشرون

بأمر الحب
بأمر الحب

رواية بأمر الحب الحلقة التاسعة والعشرون

(سامحني يا عمر أرجوك)
عقد حاجبيه وهو ينظر إلى وجهها المرفوع اليه باستجداء، بينما قلبها الصغير كان يرجف بذعر تحت كفه حيث ذراعه تلتف حول خصرها باسترخاء…
و الآن لم يعد قلبها هو فقط من يرتجف، الا أن جسدها كله كان ينتفض برعب، مما زاد قلق عمر بل و خوفه عليها، لكن ما أن فتح فمه ليسألها عم بها بخوف حتى و جدها تحيد بنظراتها عنه في اتجاه محدد…
فتبع نظراتها، الى أن تسمر مكانه و تشنجت عضلات جسده كلها وهو يرى ما كان يخيفها بتلك الصورة…
حيث وجد ذلك اللزج المدعو خطيبها يوما، يقترب منهما و كفيه في جيبي بنطاله، ببطء حيةٍ رقطاء و على فمه ابتسامة غل لا يمكن اغفالها…
شعر عمر في تلك اللحظة بأن الدم يغلي ساخنا في عروقه و بأنه على وشكِ ارتكاب حماقة ما، الا أن ارتجاف رنيم تحت ذراعه جعله يسيطر على البقية الباقية من هدوؤه، فشدد ذراعه على خصرها في حركةٍ تملكية وهو يشدها الى جذعه القوي…
الى أن وصل اليهما بتراخٍ يثير القشعرة في الجسد، بينما كانت رنيم تنقل ثقلها من ساقٍ لأخرى و كأنها تتخاذل و توشك على السقوط…
قال نائل أخيرا بصوتٍ لدن و ابتسامةٍ متشفية (مبارك يا رنيم، لم أستطع أن أترك المناسبة دون أن أبارك لكِ، رغم أنكِ لم تدعينني لزفافك)
ازداد ارتجاف رنيم و حاولت النطق بتلجلج بلهجةٍ معتذرة أكثر مما ينبغي و كأنها تترجاه لسببٍ مجهول (أنا، أنا، آسفة جدا، لقد جاء كل شيء سريعا و لم أتمكن من).
قاطعها عمر بصوتٍ قاطع قوي كحد السيف وهو يشدد أكثر على خصرها يكاد يقسمه دون وعي، (الوضع غير مناسب يا سيد نائل، كما هو وجودك هنا غير مناسب)
احمر وجه رنيم بشدة من هول احراج ما قاله، لم تعتد تلك الصراحة، و الأسوأ أن نظرة نائل التي أطلت من عينيه بما فيها من حقدٍ دفين ارعبتها و أعلمتها بأنه لن يمرر ذلك على خير، انها تعلم تلك النظرة علم اليقين و قد ادركتها منذ أن دخل من باب القاعة…
و بالفعل حين فتح نائل فمه ليتكلم قال بمنتهى الهدوء (لا تقلق يا سيد عمر، أنا سأغادر حالا، لكن ليس قبل أن أهنيء رنيم، فما بيننا لم يكن بقليل)
هدر عمر بصوتٍ أثار الفزع في أعصاب رنيم لكن لحسن الحظ أن الموسيقى الصاخبة منعت وصوله الى آذان باقي المدعويين (ليس بينكما شيء، ولم يكن يوما، فانصرف من فضلك، لقد هنأتها بالفعل).
ازدادت ابتسامة نائل التواءا على نحوٍ مقزز خبيث دون أي احساس بالكرامة، أثار قشعريرة في جسد رنيم و تعجبت من مقدرتها على الاصرار يوما على القبول بمثل ذلك الشخص، كيف كانت ستعيش معه!، كيف كانت ستسمح له بلمسها!..
ازدادت قشعريرتها، و ازداد رعبها على فرحتها التي لم تهنأ بها بعد
و تحول رعبها الى حالة غثيان ما أن توالت كلماته التالية أمام عينيها الزائغتين (لكني أريد أن أهنئها على شيء آخر أبدعت به، على قدرتها الفائقة على اللعب بي لآخر يوم قبل خطبتك لها).
ترك عمر خصر رنيم بعنف وهو يمد يده ليمسك بذراع نائل بقوة وهو يهمس بلهجة خطرة أمام وجهه (أنا لا أسمح لك، ولولا أنني لا أريد الفضائح لكنت رميتك خارجا، و الآن اخرج قبل أن أفقد السيطرة على الذرة المتبقية من التحضر لدي).
نقل نائل نظره من كف عمر المتشبثة بذراعه، الى وجهه بكل برود و استهانة، قبل أن يقول بمنتهى البرود (حالا، لكن ليس قبل أن أخبرك بأن حرمك المصون، كانت خطيبتي في نفس الوقت الذي كنتما مرتبطان فيه، و أنها أعادت إلى خاتمي يوم أن تقدمت إلى خطبتها صباحا!).
للحظاتٍ عم السكون المرعب على ثلاثتهم، الا من شهقة أنين صامتةٍ أفلتت من بين شفتي رنيم خلف عمر، التي التقطتها آذانه المرهفة في تلك اللحظة أكثر من اي وقتٍ مضى، فالتفت اليها نصف التفاتة ينظر اليها بطرف عينه، يريد أن يلتقط منها الإشارة فقط كي يسحق عظامه…
الا أن نظرة وحيدة اليها كانت كفيلة بأن تجمده مكانه، عيناه مسمرتان عليها و هي تغطي وجهها بكفيها دون عينيها المرعوبتين الشاخصتين اليه بذعر، يكاد يكون ارتجافها اهتزازا لا اراديا ملحوظا و بقوة…
بينما التوسل يكاد ان يقفز من بين الرعبِ في نظراتها…
حينها تابع نائل بعد أن تأكد من نجاح خطته في الجامهما بالصدمة، (ظللت عدة ايام قبلها اراقبها ما ان ساورني الشك في طريقة قبولها بالعودة الي، حينها اكتشفت عملها، ثم اكتشفت انها تخلع خاتمها ما ان تدخل، الى ان اكتشفت علاقتها بمديرها، و قبل ان اواجهها، كانت قد اتت إلى صباحا لتضع الخاتم امامي بكل هدوء مدعية بانه لا نصيب…
انا اعرف متى تنتهي قضيتي تحديدا، و رنيم كانت قضية خاسرة من البداية، الا ان الفضول جعلني اصمت للنهاية، لكني لم اصبر طويلا، ليلتها ذهبت إلى بيتها لأجد أنها تخطب في نفس اليوم الذي تخلع فيه خاتمها السابق!)
عاد الصمت المهلك بينهما، عيناه تخترقانِ عينيها، تتوسلانِ اليها و تأمرانها بقسوتهما أن تكذب ما نطق به هذا الحقير للتو…
الا أن نظرة الرعب و ضياع تركيزها كانت كفيلة بأن تخبره الواقع بكل ضآلته…
لم يشعر بأن نائل قد ربت على ذراعه باستهانة قائلا بخفة (يجب أن تحكم عليها الطوق من الآن، لو قررت المتابعة معها، فعلاقتها باثنين في آنٍ واحد ليست إشارة جيدة)
التفت عمر في دوامةٍ اعصارية ضخمه، لتسبقه قبضته دون وعي و تضرب فك نائل بكل ما يعتمل في صدره من غضب بركاني و امتهان لرجولته في تلك اللحظة…
تراجع نائل عدة خطوات من شدة الضربة حتى أن سقط على بعض المدعوين خلفه دون أن يسقط أرضا، و سط صيحات الجميع من حوله…
استقام نائل بغضب يهدر بكلماتٍ غير مفهومة وهو يتلمس شفتيه النازفتين، الا أنه لم يتمكن من الإقتراب لخطوةٍ واحدة خاصة حين برز جاسر في لحظةٍ ليقف أمامه كجبلٍ عملاق بملامح مخيفة، و من نظرة واحدة منه إلى وجه عمر المرعب في تلك اللحظة، لم يحتج لأكثر من ذلك كي يستدير إلى نائل ممسكا بذراعه وهو يقول بصوتٍ خافت (من الأفضل أن تنصرف الآن لأنك تفسد زفافي، ولو كنت مكانك لما فعلت ذلك في زفافٍ، كانت زفته بالمديّ المطاوي).
نقل نائل نظراته بين الرجال اللذين بدأوا في التجمع من اللا مكان، و بعد عدة لحظات تمكن من اظهار تلك الإبتسامة الثعبانية المقززة، فقال بصوته اللزج وهو يمسح الدم عن فكه بظاهر يده (لا بأس، لقد قدمت واجب التهنئة الذي جئت من أجله و انتهى الأمر، و أنا اعذر العريس رغم كل شيء).
ثم استدار لينصرف وسط دهشة الحضور جميعا، و رعب والدي رنيم اللذين التفا من حولها، بينما ارتفع صوت جاسر عاليا بقوة (لماذا توقف الغناء، اليوم يوم عرسي و أنا أريد الرقص حتى الساعات الأولى من الصباح، هيا)
ثم نظر الى حنين التي كانت واقفة في أحد أركان القاعة و يدها على فمها بذهول تراقب ذلك الموقف الذي لم ترى عمر فيه من قبل بتلك الصورة…
ظل جاسر ينظر اليها مدققا قبل أن يشير اليها بإصبعه مجددا كي تأتِ اليه. الا أنها ما أن وعت له حتى انحنت قليلا لتمسك طبقات الثوب الغزيرة بكلتا قبضتيها ثم تستقيم لتنصرف من بابٍ جانبي من القاعة مهرولة…
الا أنه لم يكن ليتركها تغيب عن ناظريه للحظةٍ واحدةٍ فاندفع خلفها متخللا سيل المدعوين الواقفين يتابعون العريس الذي ضرب أحد المهنئين بكل إهتمام…
غافلين عن الآخر الذي كان يجري خلف عروسه التي تبدو و كأنها تهرب جريا من شياطين تلاحقها…
كانت نظرات رنيم مثبتتة برعب و ضياع على وجه عمر المخيف، لا تكاد تشعر بوالدتها التي تقوم على تهدئتها، لا تشعر الا به، لا ترى غيره، تكاد تفقد وعيها الا أن خوفها من أن تفقد اثره في لحظة هو ما جعلها تقاوم ذلك الدوار المحيط بها كي لا يتوه عن ناظريها. و ما أن رأته يبتعد ببطء الى أحدى الشرفات البعيدة حتى ركضت خلفه دون أن تسمع نداء والدتها…
وصلت اليه وهو يقف مديرا ظهره اليها، ناظرا من حاجز الشرفة الى الظلام الدامس الممتد أمامه…
فاقتربت عدة خطوات وهي تخشى اثارة غضبه أكثر بمجرد سماع صوت خطواتها المتعثرة الخرقاء…
و حين لم يتحرك و لم ينظر اليها، همست بنشيج خافت تناديه، تستجديه (عمر)
دون أن يتجاهلها و دون أن يستدير، قصف صوته باردا ليثير الرجفة في أعماقها وهو يسأل دون مقدمات (هل استعدت خاتمه بالفعل؟).
ابتلعت رنيم غصة الخوف المؤلمة في حلقها و هي تهمس بضياع (نعم، لكن لم)
الا أنه لم يعطها الفرصة لتتابع و هو يسألها مجددا (و متى أعدتهِ اليه في المرة الثانية؟).
لم تستطع رنيم الرد، الا يكفي أنه سمع من نائل، الا أنه كان يريدها أن تقر معترفة بالأمر، لكنها لم تستطع، في وقتها كانت تشعر بمجرد تأنيب ضمير مع القليل من الحقارة، الا أنها الآن تشعر بمدى فداحة ما فعلته و مدى سوء صورتها في عينيه في تلك اللحظة، حتى أنها لم تتمكن من النطق بكلمةٍ وهي تطرق برأسها بخزي، و لم تره وهو يستدير اليها ليمسك بأعلى ذراعيها بقوةٍ.
هدر نفسا ساخنا لفح بشرة وجهها الحساسة وهو يقول بصوتٍ خافت من بين أسنانه (لا أحتاج للسؤال اليس كذلك؟، ما أن عرضت عليك الزواج حتى جريت اليه و رميت الخاتم اليه، و كل تلك الفترة التي سبقت خطبتي لكِ!، كنتِ مرتبطة بي بينما أنتِ مخطوبة و تخفين خطوبتك كمن يرتكب جرما!، يالهي من أنتِ حقا)
استطاعت بكل غباء أن تقول بصوتٍ ميت خافت دون أن تنظر لعينيه القاسيتين (لم أكن مرتبطة بك).
للحظاتٍ شعرت من سرعة أنفاسه أنه على وشكِ ضربها، و كانت لترحب، لربما حينها يندم و يصبحا متساوين في الخطأ، لقد قبلتها من الحقير نائل من قبل، أفلا تقبلها من عمر!..
الا أنه حين تكلم أخيرا جاء صوته في قساوة الجليد بينما يحوي الكثير من الإزدراء، (كنتِ تقبلين بمغازلتي لكِ، تسعدين بنظراتي و تلميحاتي، كلماتك كلها اشاراتٍ خفيةٍ لي، إن لم يكن هذا ارتباطا ووعدا بيننا فماذا يكون اذن؟، كيف استطعتِ بقبول دعوة رجل اليك بينما أنتِ تحملين خاتم آخر، و لا تهيني نفسك بقول أنك لم تلاحظي اهتمامي و اشاراتي لكِ بل و تشجيعها أيضا بكل قوة…
الكلمة التي أريد أن أصفك بها لا تقوى حتى على الخروج من فمي)
ثم نفضها من بين يديه و كأنه يأنف أن يلمسها و استدار عنها إلى الظلام المحيط به ليقول بصوتٍ كالثلج (اخرجي من هنا حالا يا رنيم و دعيني وحدي)
وضعت رنيم يدها على قلبها الخافق، و همست بخفوت و كأنها فقدت القدرة حتى على الخوف (ماذا ستفعل الآن؟، هل تنوي إلغاء الزفاف؟)
نظر اليها من فوق كتفه نظرة ألجمتها و خنقت أي كلمةٍ غبية ستتفوه بها…
حينها تعالت الأصوات من خلفهما و اقتربت حور منهما ترفل بثوبها الهفهاف خلفها وهي تتصنع الضحكات مائلة برأسها تقول بكل سحر و أنوثة (أين تختفيان كل هذا الوقت؟، أتركا القليل لما بعد العرس، هيا انه وقت تقطيع قالب الحلوى و أمامكما تقريبا عشرين طابقا منه عليكما تقطيعه حتى تنقطع أنفاسكما).
الا انه رغم مرحها الخادع، رنت منها نظرة مستفهمة الى رنيم التي نظرت اليها بيأس مقهور، فعلمت منها مدى سوء الموقف، لكنها لم تستسلم، و لن يخيفها هذا العمر الذي يبدو على وشكِ قتل أحدهم…
من هو ليرعب المسكينة رنيم التي تحملت الكثير من قبل، و التي انتظرته طويلا، أم كان يريدها أن تظل رهن اشارته كالبيت الوقف الى أن يعطف عليها و يمنحها الأمان بكلمة!..
فقالت مهللة بقناع من المودة و السعادة (هيا، الجميع في انتظاركما و يتسائلون عن مكانيكما)
التفت عمر اليهما، و حلت لحظت صمت طويلة، شملت ثلاثتهم بتوتر يفوق الحد قبل أن يقول بهدوء (هيا، لا يجب ترك المدعوين يتسائلون طويلا يا عروسي)
لم يفت رنيم سماع المرارة المتهكمة في صوته حين نطق كلمة عروسي…
ارتجفت وهي تمد يدها ببطءٍ متلهف تتشبث بضعف بكفه المسدلة بجانبه، الا أنه رفع يدها للتمسك برمفقه بدلا من كفه كما عودها، يفصله عنها قماش كم سترته الثقيل، و الذي شعرت به كأشواك جارحة على بشرة كفها الذي كان يتوق لأمان كفه…
و اثناء سيرهما الى القاعة، التفتت من فوق كتفها تنظر لحور باستعطاف، الا أن حور كانت قد فقدت قناع المرح ووقفت مكانها تراقبهما بصمت و تنظر اليها نظرة من فقد الحلول…
رفعت رنيم عينيها الى عمر الذي تحول وجهه الى وجهٍ أصم صلب فقد كل حواسه، فهمست مستجدية لأذنيه فقط دون أن يسمعها غيره (عمر، أرجوك)
الا أنه ظل صامتا لفترة. مبتسما شبه ابتسامة لا معنى لها للمدعوين الناظرين اليهما بفضول، ثم همس من بين أسنانه (أفضل ما تفعلينه الآن الا تتحدثي لفترة، كي أتمكن من تمضية المتبقي من تلك الليلة على خير).
عضت على شفتها و هي تنشج دون أن يشعر بها أحد و هي تتجرع عذابها بصعوبة كي لا يلاحظ المدعوين ما يمران به…
هل هذا هو عرسها الذي كانت تتمناه و تتخيله يوما بعد يوم طوال السنوات الأخيرة…
ها هو مجرد ليلة ينتظر زوجها الدقائق بصعوبة كي تنتهي، لا لينفرد بها وحدهما، بل ليتخلص منها بعد أن خذلته…
اخذت تبتسم للكاميرا، و للمدعوين، و للضوء المسلط عليها يكاد يعميها، حتى أنها نست تماما الخطوات التي حفظتها مع حور قبلا كي توجه جانب وجهها الأيمن دائما لشاشة كاميرا التصوير كي لا يظهر جرح شفتيها، و كل ما كان يشغل بالها حاليا…
ليس فستان الزفاف. أو حفل الزفاف، أو الصور التي يجب أن تخرج خالية من العيوب…
بل كان شيئا واحدا هو ما يشغل بالها في تلك اللحظة، هل من الممكن أن تفقد عمر؟، من أجل هفوة بسيطة؟..
دائما كانت انسانة طيبة و مهذبة بشهادة الجميع، لا تطلب الكثير، لم تخطىء خطأ جسيما في حياتها…
فهل يكون جزائها حين تخطىء لأول مرة خطأ كانت تحاول به الدفاع عن أحلامها، أن يحكم عليها بالإعدام!
الآن فقط تتخيل شكل حياتها لو نبذها عمر من حياته، لن تكون لحياتها معنى من الأساس…
و لن يصبح الزواج بالنسبة لها هو نفس الهاجس الذي كان يمثله لها سابقا، بل هو الشريك الذي كانت تبحث عنه طويلا، و ما أن وجدته حتى توشك الآن على فقده…
زوجها…
نظرت الى عمر رافعة وجهها اليه تتنفس بعذاب وهو ناظر أمامه دون أن يرحمها بنظرة، يده فوق يدها بقسوة وهي ممسكة بالسكين الطويلة، تنزل بها طابقا بعد طابق من طوابق كعكة الزفاف الضخمة…
انه زوجها، الذي يبدو عليه في تلك اللحظة انه قد أساء اختيار أم أطفاله و شريكة حياته، فبماذا تنفعها أحلامها الآن بعد هذا!..
(الي أين تظنين نفسك ذاهبة!)
وقفت آخر الممر بعد ان انتهى بحائطٍ مذهب، فتسمرت وجهها اليه وهي تلهث، متشبثة بثوبها بقبضتين من حديد الي اين الهرب، لا فرار منه بعد الآن…
خطواته التي كانت سريعة كخطوات فرسٍ عنيف على ظهره فارس يطارد ثعلبا صغيرا هاربا، لا لشيء سوى للمتعة، خطواته تباطأت تدريجيا حتى توقفت خلفها تماما، و حتى وصلها صوت نفسه اللاهث كنفسها، الا أن حشرجة خشنة كانت تزيد عليه…
همست بصوتٍ لاهث مجوف (الي لامكان لا تستطيع لحاقي به).
سمعت صوت ضحكةٍ خشنةٍ خافتة من خلفها، عميقة جدا كضحكة وحش من ساكني الكهوف في الأساطير، لتحط يديه أخيرا أعلى ذراعيها، و لمست أنفاسه بشرة عنقها فاقشعرت و أغمضت عينيها…
لتحط شفتاه بعدها على طرف كتفها الظاهر من ثوب زفافها، ثم سمعت صوته الخافت يلامس بشرتها بعمق (كنت أموت احتراقا منذ ساعات على تلك الفرصة وحدنا، لأقل لكِ، كم أنتِ جميلة).
ثم أدارها اليه و أبعدها عنه قليلا، بينما لا يزال ممسكا بكتفيها، و أخذ ينظر اليها كلها، تطوف عيناه بحريةٍ من ملامح وجهها الهشة البسيطة…
الي العينين اللتين أصبحتا تمثلان له هوسا في الأيام السابقة من حياته، تنظران إلى عينيه بتجمد، بينما يحدد الألم استدارة حدقتاها الداكنتي الخضرة بوضوح…
فعنقها الطويل الذي ينتهي بطوقٍ ذهبي مرصع بالماسات، هو نفسه الذي أهداه اليها منذ عدة أيام، لكنه لم يكن يتخيل أن يكون بمثل هذا الجمال و الروعة عليها…
بها شيئا ما يجعله يخر راكعا أمام بساطتها و تناقض تلك البساطة مع هالة جمالٍ و سحرٍ خفية لا يراها الا هو، من كان يظن أن تلك الطفلة الهزيلة التي كانت تلعب في حيهم، تقف الآن أمامه بتلك الصورة الخلابة…
رآها في كل صورها من قبل، و أصبح يعرف عنها ما لا تعرفه عن نفسها، لكن تلك الصورة أخيرا، و هي تحمل اسمه أمام العالم، تحيط عنقها بطوقه الذهبي تثير به همجية فاقت كل حدود همجيته في أي أمر من أمور حياته سابقا…
همجية تجعله يخشى عليها من نفسه، من غضب بركاني لايزال يحترق بداخله لتهترى أعماقه كلما فكر بأنها تحن، لرجلٍ آخر، حتى ولو كان مجرد طيف في خيالها…
لقد كان السبب فيما آلت اليه الأمور، لذا توجب عليه الآن أن يتحمل النار التي تحرق أحشاؤه الى أن تتخلص من ذلك الوهم، و حتى يتحقق ذلك، فهو يخاف عليها من نفسه، يخاف أن ينظر اليها فيجدها تنادي وهمها بعينيها، كما حدث من دقائق، فكانت النتيجة هو تلذذه بكلِ لحظةٍ ضمها اليه بوحشية أمام هذا الجمع من البشر…
رفعت عينيها اليه، و سكنت تنظر اليهما قبل أن تقول بصوتٍ خافت متجمد (ماذا كنت تقصد برقصتك المقززة تلك؟، لقد كانت فضيحة أكثر منها رقصة)
أنزل كفيه عن كتفيها إلى خصرها، يشدها اليه ببطء حتى التصقت به، بينما تلوي فمه ابتسامة ساخرة، و يزين عينيه جوعا مخيفا، و قال بصوتٍ خافت عميق (لن تكون فضيحة أكثرمن تلك التي تسبب بها زوج الحمقى اللذين شاركانا العرس…
أما أنا، أما أنا فكنت أراقص زوجتي؟، تلك التي كانت هاربة مني منذ سنوات طويلة!)
زفرت نفسا غاضبا مقهورا، و همست بحقد (من كان هاربا؟)
ازدادت التواءة ابتسامة شفتيه، تحمل لمحة حنان خفي لم ترها بينما زاد من ضمها اليه قليلا وهو يرد بخفوت (أنا).
لم تكن واعية لأنغام الموسيقى الناعمة المنبعثة من القاعة، و الأكثر أنها لم تكن واعية له وهو يتمايل بها قليلا يراقصها وهما في مكانيهما دون أن تلحظ من شدة الوهج الغاضب و القاسي الذي لا يزال يمزقها و يأبى أن يرحمها، (ابتعد عني)
همست بقسوة وهي تحاول التملص منه الا أن شدد ذراعيه عليها متجاهلا إياها وهو يتمايل بها ليقول، (أكنتِ تريدين رحلة شهر عسل؟، لقد نسيت أن أسألك ذلك من قبل).
همست بحقدٍ أكبر، تدفعه أكثر (ابتعد)
الا أنه استمر يقول ملامسا أذنها الصغيرة بشفتيه (لكنني أفضل بيتنا، لنأخذ به راحتنا. وحدنا، بعيدا)
همست من بين أسنانها بقسوةٍ مشددة. تنبهه لخطأه (بيتي)
عاد ليضحك ضحكته العميقة وهو يحرك يده على ظهرها مدللا إياها مقبلا وجنتها وفكها ليهمس ويسترضيها من جديد (بيتك)
(سيدي، حان وقت تقطيع كعكة زفافكما).
رفع جاسر رأسه ببطء وهو يشتم بداخله من ذلك اللزج الذي انبثق من تحت الأرض، و المسمى بمنسق الحفل…
الى أين يهرب منه؟، منذ بداية الحفل وهو يلاحقه كظله، ينتقده على كلِ حركةٍ يخطوها، حتى أنه كاد ان يصاب بصدمةٍ عصبية من رقصة المطاوي ، (سيدي، السيد عمر و عروسه قاما بتقطيع كعكتهما، بينما أنتما هنا)
رفع جاسر راسه اليه ليقول من بين أسنانه (حسنا اسبقنا و سنلحقك)
قال منسق الحفل (لكن يا سيدي).
قاطعه جاسر بقوة ضاغطا على أحرفه (قلت، اسبقنا و سنلحقك)
ارتعش الرجل المسكين من نبرة ذلك الكائن الشعبي الهمجي الذي لأول مرة يطأ أمثاله أرض تلك القاعة الفخمة التي تعد من أشهر و أرقى قاعات الزفاف في البلد…
لكنه آثر الإنسحاب تاركا إياه فليأت ما أن يريد أن يأت…
و بالنسبة له فهو سيستقيل من تلك المهنة التي خربت على يد أمثال هاؤلاء العرسان…
أحدهما يلكم أحد المدعوين، بينما الآخر يرقص رقصة المطاوي !..
عاد جاسر ليلتفت الى حنين الصامتة، يحدق بها بتركيز، رقيقة و ضعيفة في وسط تلك الكومة الحريرية البيضاء الضخمة المحيطة بها و التي تضيق عند خصرٍ نحيف لم يرى مثله من قبل، مربوطٍ في آخر ظهرها بشريطٍ حريري أبيض يجمع ظهر الفستان بتقاطعاتٍ عديدة تنتهي عند تلك الربطة الأنيقة خلف خصرها و التي ينسدل منها شريطين طويلين فوق تنورتها المنتفخة يستحثان أصابعه لجذبهما من ربطتهما…
محتجزة كعصفور صغير في أحدى زوايا الممر الطويل، محاصرة به تماما، حدقتاها تتحركان بتوتر، هل هي خائفة منه!، انها ليست عروس عذراء لتخشاه بل هي أبعد ما يكون عن ذلك، لكن ربما كان هذا هو سبب توترها منه…
تذكر تلك المرة بينهما أثارت الجوع في دماؤه مجددا، لا يظنه جوعا سيهدأ يوما…
مد كفيه إلى خصرها يسحبها اليه وهو يكابد مشاعره الهائجة بضراوة قائلا بخشونة، (هيا لنعد الى ذلك الجمع السخيف، قبل أن أتهور و اريكِ شيئا من التصرفات المقززة بحق)
تلوت لتحرر خصرها منه بشراسة، ثم انحنت لتجمع طيات فستانها و سبقته بسرعةٍ تتعثر من طبقاته، أو ربما تتعثر من خوفها منه هو شخصيا وهي تعلم بأنه خلفها خطوة بخطوة…
ما أن دخل من أبواب القاعة الضخمة، حتى كانت عيناه تبحثان عنها تلقائيا، بين حشود الناس، و الألوان تداخل أمامه الا أنه يبحث عنها، يحتاج لأن يراها.
لم يفهم سبب تصميمها أن تظل بجوار رنيم من أول اليوم و حتى النهاية، حتى أنها أخبرته بفتور بأنها ستقابله في القاعة مباشرة…
عادت عيناه تدوران بتوتر، هل يمكن أن تكون مختفية عن عينيه؟ في زاوية هنا أو هناك؟..
فجأة قرعت الدفوف و الطبول، ووقف المدعوين لحظة دخول حنين و جاسر، ثم بعدهما عمر و رنيم…
ابتسم نادر الذي كان واقفا على مقربة لحنين حين مرت بمحاذاته، كانت تبدو ضائعة تلك الفتاة الصغيرة، تماما كما كان يراها، حتى على الرغم من اعجابه بقوتها في مواجهة ظروفها…
الا أن نظرة الضياع و التشتت كانت أكثر وضوحا في زفافها، فابتسم لها أكثر مشجعا و هو يحني رأسه لها قليلا، فابتسمت له حنين بضعف من بين ارتجافاتها…
فابتسم لها أكثر، و بعينيه يعطيها الرسالة لتتقدم، فلقد أبلت جيدا حتى الآن…
تجاوزه العروسان الأولان ليتبعهما عمر و رنيم، فقست ابتسامته وهو ينظر شزرا لرنيم، لا ينسى فعلتها التافهة مع حور سابقا…
لكن أفكاره تشتت قليلا حين بدأ الهمس من حوله قليلا، و بدأت نظرات معروفة اليه الى حد كبير تعلو أعين العديد من المدعوين من حوله، و خاصة الرجال منهم…
بعض همهمات مموهة غير واضحة وصلت آذانه دون أن يستطيع تحديد مصدرها من شدة قرع الطبول، همسات عن تلك التي تتبعهم، عن الجمال الصارخ!..
رغما عنه تصلب جسده و توترت أعصابه، ولم يتساءل طويلا وهو يراها تتبعهما…
اتساع خفيف في عينيه، و تحولت أنفاسه الى ساخنة هادرة تطوف في صدره لتخرج في حلقاتٍ ملتهبة من بين شفتيه…
ملكة!..
هذه هي الكلمة الوحيدة التي تصف ما يراه حاليا…
حيث تبعتهما بجسدها المتفجر الفارع، ترتدي ثوبا من الحرير الأحمر الداكن بشدةٍ كحجر الياقوت، يضيق عند صدرها و خصرها لينسدل هفهافا من وركيها الممتلئين بإثارة…
تتهادى بدلالٍ مدروس يسبي قلوب من يراها، وهي تتمايل على كعبين حادين عاليين لصندالٍ براق أحمر اللون، يعلوه خلخالها الذي لم تتنازل عنه…
شعرها المجموع من جانبي وجهها للأعلى ثم يهبط في شلالٍ أسود حريري على ظهرها بهمجية…
بينما الفرق في منتصف رأسها ينسدل منه سلسال ذهبي ينتهي بياقوتة صغيرة ترتاح على جبهتها…
شفتاها!، شفتاها المكتنزتان مطليتان بالأحمر الياقوتي تبدوان بطعم الرمان…
أما عينيها الداكنتين فهما غير مباليتين و إنا كانتا واعيتين الى سحرها الذي انتشر بين رعاياها و هي تتهادى ممسكة بباقة من ورود الجوري الحمراء مزينة ببعض الياسمينات البيضاء…
كانت مذهلة…
و على قدر ما كانت مذهلة فقد شعر بالنفور يهيج في أعماقه، النفور القديم…
نفور لا يستطيع تحديده، كبرياء رجولة يخدش من الشهقات الخافتة و التلميحات السافرة، وهو يتطلع حوله عله يمسك بمن يهمس…
عيناه تلتفان في وسط رأسه، فقط ليلمح من ينهش جسد زوجته بنظراته الجائعة، الا أنه لا يستطيع التبين في وسط الجمع، و إن كان بعضهم يبدو في حالة من الإنشداه بتلك المخلوقة الحمراء و التي تشبه الهنود في طلتها و الغجر في نظراتها، و الملكات في مشيتها المتهادية، بينما روحها شعبية حتى النخاع…
تذكر المرة الأولى التي رأها بها، كان في زفافٍ كهذا و بثوبٍ أحمر كهذا، لكنها الآن أكثر احتشاما بالثوب المغلق و بكمين تصلنان لأسفل المرفقين…
و هي أكثر جاذبية، و أكثر متعة للنظر الآن منها عن أول مرة، أكثر رقيا و أكثر نضجا، ظاهريا فقط
لكن الشعور بالنفور كان هو نفسه…
مع بعض الإختلاف، أن نفوره الآن يصاحبه شعور ملح في أن يلقي عليها غطاءا سميكا كي يمنع عنها العيون الملتهمة لها، و الغضب يصاحبه نزعة تملكية في ام ابنه، التي تخصه وحده، بينما لا يبدو عليها أنها تدرك ذلك و هي تشعر بالإعجاب الصريح حولها بلامبالاة…
ها قد التقت عيناها بعينه، و شعرت بأن الزمن قد توقف بينهما، و اختفت من حولهما الأصوات الصاخبة و هي تتقدم ناحيته بوجلٍ خفي…
أسيظل الحال على هذا النحو دائما، تراه و كأنها تراه لأول مرة، تتدافع دقات قلبها من أجل قلبه الذي تسكنه أخرى، سواء كان يحبها أم مجرد نزوة، المهم أنه لا وجود لها هي بقلبه…
نقطة الصفر…
يعودان الى البداية، نظرة الجفاء في عينيه، بينما يتمناها الجميع، تريد أن تكويه بنيران تلك النظرات من حولها، الا أنه صامت، بوجهٍ كئيب غير مقروء، يديه في جيبي بنطاله، يطالعها من بعيد، من بعيد جدا…
فغرت شفتيها الياقوتيتين لتتنفس نفسا مشتاقا اليه، بينما القسوة تغلف شوقها من طول ما نالها من جفاؤه…
اعادت وجهها إلى الأمام و هي تتقدم خلف العروستين، مبعدة عتابها عنه، فالعتاب لم يعد يجدي…
قلب آخر سكن في صدمة، ليعود فيخفق بجنون، شوق مرآها دمره، عذاب فراقها أضناه، لتعود و تحل على حياته كنسمةٍ ناعمة…
تدخل برقةٍ تنافس نعومة الورود البيضاء…
همس بداخله متأوها لقد وصلتِ يا وجه القمر، لم يشعر بنفسه وهو يترك رجلا من أهم رجال الأعمال واقفا يحدثه. لا يعلم ان كان قد استأذن منه قبل أن ينصرف أم لا…
لكن ما يعلمه هو أن الخطوات أخذت تتضائل بينهما بسرعة البرق بينما وقفت هي مكانها ما أن لمحته، فحلت القسوة على عينيها الا أنه لم يأبه…
ما أجملها!، ما أجملها!، و ما أشد اشتياقه اليها…
وصل اليها ليقف على بعد خطوةٍ منها، كلا ينظر الى عيني الآخر لكن اختلفت نظرتيهما اختلاف الأرض عن السماء…
همس عاصم أخيرا بصوتٍ أجش عميق كتقرير واقع (أنتِ هنا)
رفعت ذقتها لترد عليه بإباء (أنا هنا من أجل حنين، ليس الا. ، و لا حتى لأجل المناظر الإجتماعية، فهي لا تعنيني)
همس صوته العميق إلى عيون القطط العسلية (لا بأس، ما دمتِ هنا).
ودون تردد انحنى اليها ليقبلها على وجنتها، ليتبعها على الوجنة الأخرى بقبلةٍ طالت عن الأولى، طالت كثيرا…
حتى أرجع رأسها للخلف فأغمضت عينيها بصمت…
حين أبعدها أخيرا، كانت بعض الأضواء تحيط بهما لتسجل لحظة تقبل عاصم رشوان للتهنئة من زوجته الشابة، الا أنه لم يلمح سواها…
مد يده ليسحبها من كفها عله يجد زاوية يستطيع مكالمتها بها، و ما أن استدار اليها حتى نظر اليها طويلا متشربا ملامحها الناعمة ليقول بصوتٍ عميق لا يحمل أثرا للمرح (كيف هي أيامك؟)
كيف هي أيامي؟، بدونك، ضائعة زائفة بادعائها القوة، يهدها الشوق إلى عدو من اعدائها، طعنها طعنة غدر، كانت لتتحملها من أيا كان، لكن ليس منه هو، من الرجل الذي وهبته قلبها…
لا لم تهبه قلبها طوعا، بل خطفه غصبا، كما خطفها هي في أكثر أوقات ضعفها و احتياجها، كما خطف أمانة ليست من حقه، كما خطف بيتها، بيت أحلامها و بيت طفولتها و بيت والدها، فأصبح مساويا للأرض تمر كل يومٍ من أمامه لتتجرع ألما و عذابا، فتهدىء بهذا العذاب شوقها الغادر الى من خانها…
قالت بهدوء (من المؤكد أن التقارير تصلك أولا بأول)
ابتسم عاصم دون أن تصل الابتسامة إلى عينيه وهو يقول بهدوء مماثل (أصبتِ).
ظل الصمت ثالثهما لفترة قبل أن يقول (هل تجدين الراحة في تلك الشقة الصغيرة بالإيجار والتي تقطنينها مع فتحية؟)
هزت رأسها غير مصدقة. ثم قالت بسخرية مريرة (لا أمتلك غيرها)
قال عاصم بهدوء (لقد وضعت لكِ ضعف ثمن البيت في حسابٍ مستقلٍ لكِ، فلماذا لم تستخدمين المال؟)
سارعت صبا تبصق الكلام في وجهه (ما سرق مني، لا أسترد ثمنه كتعويض، بل أسترد حقي ممن سرقني).
لهثت قليلا من شدة القسوة التي تحرق قلبها في تلك اللحظة، فقال عاصم بجفاء (يفضل أن تسيطري على نفسك أكثر من ذلك، فملامح البغض على وجهك واضحة وضوح الشمس لكل من يراكِ الآن)
أرجعت رأسها للخلف وهي تتنفس بصعوبة قبل أن تقول بهدوء مسيطر (مسألة عودتي لكِ منتهية يا عاصم، فانس الأمر)
قال عاصم بملامح الحجر و بصوتٍ هادىء لا تعبير به (و أنا لم أطلب منكِ العودة).
تنفست بصوتٍ واضح قبل أن تقول بكبرياء (يستحسن أن أذهب إلى حنين الآن)
قال عاصم دون أن يتحرك من مكانه وهي تتجاوزه (نعم يستحسن)
فتح لها باب الغرفة كي تتقدمه بصمت، لم ينطق بكلمةٍ واحدة منذ أن انتهى الحفل و أثناء صعودهما للغرفة التي كان قد حجزها بالفندق…
للملمت رنيم ثوبها و تقدمته و هي تكبح دموعها بصعوبةٍ قاتلة…
دخلت الى منتصف الغرفة و توقفت لا تدري كيف ستتصرف الآن معه، بمفردها…
انتفضت حين سمعت صوت انغلاق الباب، فالتفتت اليه سريعا تدعو الله أن يكون قد عفا عنها و نسي الموضوع بأكمله، الا أن ملامحه المتصلبة أرعبتها و خذلت أمنيتها…
ابتلعت غصة في حلقها و انتظرت الى أن اقترب منها قليلا فتجرأت وأمسكت بكفه بكلتا يديها بضعف وهي تهمس مستعطفة مجددا (عمر، أنا آسفة).
نفض يدها بقوة وفقد وجهه القناع الزائف الذي كان يرتديه طوال الوقت فرمقها بنظرة أرعبتها جعلتها تدرك أن الخوض في الأمر الآن ليس أمرا صائبا، فابتعدت عدة خطوات متخاذلة للخلف ثم استدارت لتتجه لأقرب بابٍ وجدته حيث كان الحمام بالفعل…
أغلقت الباب خلفها، ثم استندت اليه بظهرها تنشج بعذابٍ جاف كي لا تبكي و تعلن الفشل…
أغمضت عينيها و تذكرت كلمات حور الخفية لها قبل أن تغادر العرس.
حين همست لها بقسوةٍ ما أن رأت ارتعابها (تذكري أن تلك ليلة زفافك و أن بإمكانك أن تأسريه و تنسيه ما حدث، كوني له حلم لا يتخيله)
أومأت رنيم لها وهي تكاد تبكي، وها هي تقف في الحمام الملحق بالغرفة مغمضة عينيها تومىء برأسها لكلام حور و كأنها تسمعها…
ثم فتحت عينيها لتتطلع حولها، فوجدت ثوب النوم الأبيض العرائسي الرائع الذي أعدته لها أمها و أخبرتها بأنه ستضعه لها هنا تحديدا معلقا…
مدت رنيم أصابع مرتجفة ببطء كي تتلمس القماش الأبيض الناعم الشبه شفاف، و عضت على شفتيها المرتجفتين ببكاء صامت تكبح دموعه كي لا تفسد زينتها…
حين اختارت هذا القميص منذ عدة أيام، كانت تمتلك ثقة بالنفس تجعلها و كأنها قادرة على تسلق قمم الجبال، كان يدفعها حبه و شغفه بها، نظرته اليها و التي تشعرها بأنها في غاية الإكتمال…
أما الآن وهي تنظر اليه برعب، كيف سترتديه، كيف وهو ينظر اليها بمثل ذلك الإحتقار الذي رأته في عينيه من لحظات، وهي بكامل ثيابها، فكيف بدونها؟، من أين ستأتيها الثقة بأن تخرج له بجسدها المشوه الذي يقرف من ينظر اليه…
بكت شاهقة، لكن بدون دموع، كي لا تفسد زينتها، طرفت بعينيها عدة مرات، ثم أخذت نفسا عميقا، و مدت يديها خلف ثوبها تكافح كي تحاول فكه وحدها دون طلب مساعدة، حيث أنها من المؤكد لن تجدها الآن…
بعد جهد طويل، وقفت تلهث أمام المرآة الضخمة تنظر لنفسها بقميص النوم الأبيض…
ارتجفت بشدة تتبع بعينيها كل تفصيلةٍ ظاهرة من قميص نومها و التي خلا القليل، القليل منها من الجروح…
إنها مقرفة…
همست لنفسها برعب في المرآة (أنا مقرفة، لن أكون حلما له كي يتمكن من النسيان، بل سأكون كابوس يؤكد له أنه قد أخفق تماما في الإختيار).
أغمضت عينيها تعصرهما كي لا تنهار و تبكي حاليا، ثم أقنعت نفسها أخيرا بأن لا جدوى من الإختباء هنا طوال العمر…
فتحت الباب بحذر و خرجت الى الغرفة تكاد تشعر بأنها تموت ألف مرة مع كل خطوة، تريد ان تستدير بمنظرها هذا و خرج هاربة من الغرفة و منه…
أخيرا وجدته واقفا ينظر من النافذة المظلمة إلى البحر الأسود و الذي تنيره أضواء الليل و المصابيح الذهبية من بعيد، تماما كما كان ينظر من شرفة القاعة المظلمة…
ظلت واقفة خلفه قليلا، تهدىء قلبها المعذب بيدها ثم همست أخيرا (عمر)
لم يظهر عليه انه سمعها أبدا، و ظنت بأنه سوف يتجاهلها، الا أنه تحرك ببطىء و استدار اليها…
لم تستطع أن تتكهن بما يفكر أو يشعر حاليا، حيث أنها لم تمتلك الجرأة على النظر اليه…
كانت قد حضرت نفسها لتلك اللحظة آلاف المرات، و دربت نفسها و أقسمت على أن تنظر لعينيه كي ترى انطباعه الأول عنها…
الا أن تدريبها ضاع هباءا، و أحنت رأسها بعجز، تنتظر و تنتظر…
أغمضت عينيها بعد أن طال انتظارها وشعرت بنصلِ خنجرٍ حاد يدب في قلبها…
لكنها فتحتهما من جديد ما أن شعرت به يمر من جانبها مبتعدا، حينها فقدت كرامتها و انسحق كبريائها فأسرعت تتعلق بعنقه قبل أن يتجاوزها لتنفجر دموعها التي كبتتها طويلا…
و ارتفعت على اصابع قدميها تتشبث به بقوةٍ تترجاه باكية (أنا آسفة يا عمر، أنا آسفة، أرجوك لا تجافيني بهذا الشكل، أعلم أنني لا أستحق رجلا مثلك لكن لو ابتعدت عني سأموت، أقسم أنني سأموت)
مد كلتا يديه ليلفهما حول معصميها خلف عنقه ينوي أن ينتزعهما، لكنها ازادتت تشبثا به وكأنها تتشبث بحياتها، فقال بخشونة لا تحمل رحمة (ابتعدي يا رنيم).
لكنها بدت كم يدافع عن حقه الأخير في الحياة فاستطالت أكثر و هي تتلمس وجنتيه و عينيه بشفتيها، تتذكر كلمات حور بأن تنسيه ما كان و تأسره مهما تطلب الأمر…
لكنه تمكن من انتزاع ذراعيها بالقوة و دفعها بعيدا حتى أنها تعثرت لعدة خطوات، ترتجف من قمة رأسها لأطراف قدميها، ثم صرخ بها بقسوة (الآن هو آخر وقت يمكنني أن أشعر فيه بأي مشاعر إيجابية تجاهك).
شعرت بالصدمة تزلزل كيانها و تشوشت رؤيتها بفعل دموعها التي لم تعد تعرف سبيل التوقف، فهمست ترتجف باكية بشكلٍ يثير الشفقة (إنها أنا، أنا رنيم التي أحببتها، إنها أنا بنفسها التي قلت أنك لا، لا تطيق بعدا عنها)
قذف عمر بأول الكلماتِ التي أراد أن يؤلمها بها (صدقيني في تلك اللحظة، اغرائك لا يتطلب الكثير من الجهد لمقاومته).
سكتت تماما، و توقف صوت بكائها دون أن تتوقف دموعها، لكنها فغرت شفتيها بعذاب، غير مصدقة لما سمعته منه للتو، فابتلعت الغصة المسننة في حلقها…
لتكتف ذراعيها مطوقة صدرها، تريد أن تخفي نفسها عنه و عن الحياة كلها…
لقد ضاع ما كان يغيره فيها، الشيء الوحيد الذي كان يجذبه اليها، براءة روحها، لتتعرى تماما بدونها فتفقد أي مقومات من الممكن أن تجذبه اليها…
نسيت أنها لم تكن تمتلك غيرها، فضيعتها بكل غباء في سبيل الفوز بورقة و حفل زفاف…
كان أصعب ما ستقوم به هو أن تتحرك و تمر من أمامه حاليا، لكنها تمكنت من فعلها أخيرا وهي تطوق نفسها لتركض من أمامه الى الحمام مجددا ثم أغلقت باب و استندت اليه بظهرها تبكي بمرارة و عجز، لم يعد يهمها صوت شهقاتها العالية، فأخذت تبكي و تبكي…
الى أن فتحت عينيها أخيرا منتحبة و نظرت الى حقيبتها الصغيرة الموضوعة على أحدى الرفوف الزجاجية و التي وضعت أمها بها بعض متعلقاتها الشخصية…
فأسرعت اليها تفتش فيها بأصابع خرقاء، الى أن وجدت هاتفها فطلبت رقم حور التي ما أن ردت حتى أخذت رنيم تهذي مرتجفة بفعل بكائها و هي تغطي فمها بكفها تهمس باختناق البكاء و تتراجع الى أن ارتطم ظهرها بالحائط (لقد رفضني، لقد رفضني و اشمأز مني، لم يستطع حتى الإقتراب مني بعد أن خذلته، لم أكن أملك سوى حبه، لكني فقدته هو الآخر).
ردت عليها حور بقسوة (رنيم، رنيم، اهدئي، لا أستطيع أن أفهم منكِ شيئا أبدا، أخبريني بما حدث دون بكاء)
قالت رنيم تنشج بضعف و ارتجاف مرعب و أصابعها ترتجف كذلك و هي تغطي فمها المتورم من البكاء (انه لن يسامحني، لن يسامحني أبدا، كرامته و رجولته لن تمكنانه من مسامحتي يوما، لقد كانت فكرتك و لقد دمرت حياتي، افعلي شيئا، افعلي شيئا)
ثم أغمضت عينيها و أخذت تبكي هامسة باستجداء (أرجوكِ افعلي شيئا، أرجوووك).
ردت حور بقوةٍ عليها (الم يكن طلبك الا تخسرين كلتا الفرصتين؟، الم تقتليني بحثا و رجاءا عن نصيحةٍ كي تتمكنين في النهاية من نيل خاتم الزواج، لم لا تكونين صريحة مع نفسك و تعترفين بأن عمر لم يكن يمثل لكِ مثل تلك الأهمية، انه فقط الفرصة الأجمل، الفرصة الأخف على قلبك، و الا ماكنتِ لتنفذين نصيحتي ولو على جثتك…
بمعرفتي بكِ يا رنيم لقد نصحتك بما أردتِ سماعه، فلا تلقين اللوم على الآن وواجهي مشكلتك بقوة بدلا من اختبائك في الحمام باكية تستنجدين بي في ليلة زفافك)
اخفضت رنيم يدها من على فمها ببطء، لتتبعها يدها الممسكة بالهاتف، و بقت ساكنة لفترة طويلة، قبل ان تتجه كالأموات الى المرآة من جديد لتنظر لنفسها…
وكم بدت مخلوقا مشوها ملطخا بالأصباغ، ميت، لا حياة ولا روح، حتى نبع البكاء، قد جف في مقائيها.
انحنت الى المغسلة و فتحت صمبور الماء لتغسل وجهها بقوةٍ، تفركه بكلتا يديها حتى تورم واحمر لونه…
و ما أن تمكنت أخيرا من اتخاذ قرار الخروج، للمرة الثانية، كانت هادئة، نسبيا، الا أنها كانت ميتة…
رأته جالسا على أحد المقعدين في الغرفة، مسندا ذقنه الى كفه، ينظر اليها بلا أي عاطفة…
فتوجهت ببطءٍ الى الفراش الوثير، ليس لديها حاليا ملابس لتسترها سوى ملابس الخروج لليوم التالي و لن تتمكن من ارتدائها الآن…
لذا كان الدخول الى الفراش هو الحل الأمثل، و أمام عينيه كانت قمة الذل لها، وهو يراقبها واضعا ساقا فوق الأخرى دون أن يتحرك من مكانه و دون حتى أن يزيح عينيه عنها…
فدخلت الى تحت الغطاء بإجهاد، مستلقية على جانبها لتتكور على نفسها وهي تمسد ساقها المتعبة من شدة ما رقصت في بداية حفل الزفاف بالكعب العالي، ابتسمت بمرارة و هي تتذكر نفسها ترقص كما لم ترقص من قبل
كان وجهها ناحيته، لم تستطع أن تعطيه ظهرها و كأنها تخشى أن يقتلها، و الأكثر رعبا تخشى أن يهرب!..
صحيح أنها لم تستطع مواجهة عيناه المسمرتان عليها دون أن يتزحزح عن مكانه، الا أنها كانت تقاوم النعاس و تعب جسدها المتهدم كي لا تغلق عينيها فتحهما لتراه قد فر هاربا و تركها وحيدة…
الا أن جفنيها أخذا في التثاقل شيئا فشيئا، ينغلقان فتسرع لفتحهما، عدة مرات قبل أن تستسلم أخيرا متنهدة بتعب و أنين، و تذهب في سباتٍ عميق…
وقفت مكانها و الهاتف في يدها، تشعر بوجعٍ في قلبها مما سمعته للتو، صديقتها الطيبة الصغيرة اللطيفة. التي كانت دائما تناصرها ظالمة أو مظلومة، تتألم، في أكثر ليلة كانت من المفترض أن تكون سعيدة فيها…
فهل هي السبب بالفعل؟، هل آذتها فعلا؟..
هل هي مسلوبة الإرادة بهذا الشكل و سلمتها مقاليد حياتها طوال فترة صداقتهما؟..
صوت ما خلفها جعلها تستدير، لتجد نادر واقفا ينظر اليها بغموض، ثم قال بعد فترة بصوتٍ جاف (هل لكِ دخل بأيا كان ما تتصل به صديقتك باكية في ليلة زفافها؟)
قالت حور بصوتٍ خافت فاتر (ماذا سمعت؟)
قال نادر بوجوم (سمعت بما يكفي لأعلم بأنكِ آذيتِ أحدهم، دائما ما تسائلت عن سر تلك الصداقة السوداوية التي تجمعكما)
اتسعت عينا حور قليلا لتقول بخفوت (سوداوية!).
قال نادر بوضوح (نعم تلك العلاقة الغريبة التي يحددها واجب لا يخضع لأي قوانين)
اقترب منها يتطلع اليها ثم قال ببرود (كتلك الصداقة التي كانت بيننا يوما، أتتذكرين؟)
ارتجفت حور تحت سطح برودها الظاهر، لكنها همست بهدوء (و كيف أنسى؟)
و رغم الألم بداخلها قالت حور بلا حياة و عيناها تتبعان عينيه (و طبعا أنت الآن أصدرت حكمك على قبل أن تفهم حقيقة الأمر).
رفع نادر احد حاجبيه ليقول بلهجة عادية (أين الحكم الذي أصدرته؟، لا أذكر أنني حاكمتك)
قالت حور و هي تقف بشموخ أمامه (لا داعي لنطقه، يكفي أنه ظاهرا في عينيك)
اقترب منها عدة خطوات، ثم توقف قريبا منها يتأملها بكلِ هيئتها الملوكية الفاتنة و التي لا تلائم بساطة المكان من حولها بعد أن عادا إلى بيتهما، ثم قال بنفس اللهجة (وماذا تخبركِ عيناي؟).
اقتربت منه هي الأخرى خطوة لتحرك شفتيها بتمايل مدروس اكتسبته من مشاعرها الفطرية تجاهه و ليست لأي مدرسة أخرى الفضل (تخبراني بأنك تريدني بشدة، تتلهف شوقا لأن أكون بين أحضانك، دون الحاجة لأن تطلب)
قست عيناه و ضاقتا، و تجمدت ملامحه، لكنه لم يرد عليها بكلمةٍ و هي تهديه نظراتها التي تتهادى عليه و تشعره بأنه الرجل الوحيد على سطح عالمها…
تلك النظرات التي كانت ترضيه سرا حتى وهو في قمة رفضه لها…
عادت عيناها الى عينيه، ثم تابعت بهدوء (لكنهما تخبراني ايضا أنني غير لائقة بك، ولم أكن يوما لائقة بك)
ضيق بين عينيه أكثر وهو يشعر بالإهتمام لسماع ما ستقوله، فتابعت (منذ اليوم الأول الذي عرفتك به و أنت تعاملني باستعلاء)
ارتفع حاجبه بينما علت شفتيه ابتسامة سخرية بما تقول، ثم قال (حور رشوان، من يجرؤ على أن ينظر اليها أو أن يعاملها بإستعلاء؟).
لم ترد على سخريته و لم تبتسم، بل ظلت تنظر إلى وجهه الرافض لما تقول، لكنها قالت بهدوء (لا أناسب تفكيرك، و لا أرقى لمجتمعك، قد تكون قد اخترت مجتمعا آخر لتحيا به على سبيل التغير أو الهروب من حياتك، الا أن بيني و بينك، لازلت تتعامل بنفس المنطق الرافض لأمثالي…
حين كنت أشكو اليك من معاملة صديقاتي، كنت تخبرني دائما أن النقص عندهن و ليس عندي لأشعر به…
النقص الذي أشعر به أنا التي أتحكم به بتصرفاتي، لكنك لا تعرف بأنك مثلهن تماما…
اخترت آلاف الأسباب لتبين رفضك لي و لتصرفاتي، الا أنك في الواقع كنت ترفض حياتي التي أتيت منها بما تشربته من تصرفات و تعامل و شخصيةٍ بأكملها، أنت ترفضني لأنك مثلهم جميعا)
صدرت عنه ضحكة صغيرة ثم هز رأسه وهو يقول بخفوت (الآن هذه عقدة نقص بالفعل).
رفع عيناه اليها ليجد أنها لم تشاركه ضحكته، بل وقفت تنظر اليه، تدقق في ملامحه دون أن تصدر منها حركة…
اختفت ضحكته هو الآخر تدريجيا، بادلها النظر قبل أن يقطع الخطوة التي تفصلهما ليضع كفيه لتستريحا على جانبي خصرها، وهو يجذبها اليه قائلا بخفوت بصوتٍ رجولي متطلب باتت تعرفه جيدا (حسنا، تعالي معي و سأقضي على عقدة النقص تلك و أشفيكِ منها).
اسبلت جفتيها الفضيين، تسكن لأنفاسه على وجنتيها، تريد أن تستسلم، تتمنى لو تترك لنفسها حرية الاستسلام، فقط لتلك الليلة، ليلة واحدة فقط…
ومع حركة يديه من خصرها الى ظهرها تحركان بها نارا لا تهدأ و لم تهدأ أبدا…
نشيج ساخن أفلت من بين شفتيها لتهمس بتأوه الى أذنيه (أريد حبك، أعطني حبك و أنا سأسامحك)
رفع رأسه ينظر اليها، طيعة، جميلة، وديعة، لكن بروحٍ قاسية كالجليد، فقال بخفوت (تسامحيني على أي شيء؟).
رفعت عينين مهزومتين اليه، تنظر اليه طويلا، فتحت شفتيها تريد أن تنطق بخيانته، لعلها تمسك بشيءٍ ضده فيصبح اسيرها، فلا يصبح أفضل منها كما يدعي دون أن أن ينطق بها مباشرة…
كي لا يحتقرها يوما…
لكن ماذا إن كان يحبها؟..
قال نادر يقاطع بؤسها هامسا، (ليس هناك ما تسامحيني من أجله)
رفعت عينيها اليه تريد ان تصرخ به، بلى، هناك خيانة لا تضاهي ما تمسكه ضدي من أخطاء…
لكنها خافت إن تكلمت في الأمر و كشفت أوراقها. أن يرحل بمنتهى البساطة، ليختار الأخرى، و هي لم تتخذ قرار الفراق بعد، لا تقوى على التفكير به بعد، لا تقوى على قتله بداخلها بعد…
جذبها اليه بقوةٍ ليقبل صدغها بقوةٍ ليهمس مجددا بثقة (ليس هناك ما تسامحيني من أجله، كل ذلك من وهم خيالك)
لم تتبين الصدق في صوته، لم تتبين في صوته أنه يعلم بالذي يشغل بالها و ينتظر أن تنطق به…
لكنها همست بأنين (هل تحبني؟).
رفع عينيه اليها بصمت، ثم قال بهدوء (نعم)
اهتزت عيناها قليلا و لم تفهم للوهلة الأولى، فهمست وهي عاقدة حاجبيها (ماذا قلت؟)
رد عليها يجذبها اليه لتستريح على صدره وهو يلاعب شعرها الكث (قلت نعم)
رفعت رأسها اليه مجددا وهي تقول مصرة غير مستوعبة بعد (لقد قلت)
رفع اصبعه ليضغط به على شفتيها الحمراوين ككأس من الدم وهو يهمس (شششششش، كفى).
ثم رفع يده لينتزع الياقوتة من على جبهتها ليرميها بعيدا ثم حملها اليه بقوةٍ حتى تطاير طرف ثوبها الهفهاف حولهما، بينما أحاطت عنقه بذراعيها لتخفي وجهها في كتفه متأوهة بخفوت معذب…
و سار متجها بها الى غرفتهما التي لم تعد تطيق ابتعادها أكثر، وهو يعلم بذلك النفور الذي كان يحرق أحشاؤه حين رآها في أول الحفل، تماما كما يفعل دائما منذ أن عرفها، ذلك النفور الذي يهدد ثبات عقله و سكون حياته…
بات يتأكد يوما بعد يوم من هوية هذا النفور، و سيخبرها…
لكن ليس الآن، الآن لديه الكثير ليخبرها به، دون كلام، فليدعا الكلام فيما بعد…
عبرت سيارته السوداء بوابة البيت، بيتهما، لا، بيتها، هكذا مدت رأسها قليلا وهي تنظر من النافذة الجانبية، بإدراك جديد لهذا البيت الذي كرهته من قلبها في فترة احتجازها القسرية…
هذا البيت له معها ذكريات سيئة جدا، لكنه بيتها الآن، و يجب عليها أن تتأقلم على حبه بالقوة…
أخيرا اصبح بيت لها، ملكها، و قد دفعت ثمنه غاليا…
انتفضت حين شعرت بيدٍ قويةٍ سمراء تمتد لتمسك بكلتا كفيها المضمومتين معا بتوتر و قلق فوق قماش ثوبها الأبيض…
حاولت نزعهما من يده بالقوة، فأفلتت واحدة الا أنه تمكن من القبض على الأخرى، و فعلت المستحيل كي يتركها الا أنها لم تفلح، فهتفت بغضب (اترك يدي)
رد عليها جاسر بهدوء مستفز و بصوتٍ آمر (اهدئي).
ردت عليه حنين من بين أسنانها بجنون (سأهدأ ما أن تغيب عن ناظري)
ضحك بخفوت وهو يتلاعب بأصابعها حتى تخللها بأصابعه و شبكها بها، لرفعها الى فمه مقبلا كل إصبعا منها…
و قال بصوتٍ أجش (هذا ما لن أستطيع تحقيقه لكِ حاليا)
حاولت أن تحرر يدها مجددا و حين فشلت صرخت و ضربته بالأخرى على كتفه بقوة، ثم استندت الى ظهر المقعد بعنف و يدها مستسلمة مرفوعة لفمه…
ما أن هدأت قليلا حتى انتبهت أن السيارة قد توقفت أمام باب البيت، اخذت نفسا متوترا، قبل أن تسمعه يقول مجددا (اهدئي، ليس هناك ما تخشيه بعد الآن، لقد أصبح بيتك)
التفتت اليه ببغض فرأته ملتفتا اليها و يدها لا تزال بكفه، فجذبتها بقوةٍ فتمكنت من تحريرها هذه المرة لأنه سمح لها وهو يقول بصوتٍ عميق (هيا انزلي).
رمقته شزرا ثم نزلت من السيارة صافقة الباب خلفها بكل قوتها، لتلملم ثوبها و تصعد الدرجات القليلة، لكنها توقفت امام الباب و ترددت…
لماذا التردد الآن، لقد حدث ما حدث، وهو لن يسمح لها بالفرار، لذا فلتستسلم…
تنهدت بأسى، الا أنها عادت لتنتفض ما أن شعرت بيده على خصرها، فقال بعد فترة صمت بصوته الاجش (هل هكذا سيكون الحال دائما؟، تنتفضين مذعورة كأرنبٍ هارب ما أن ألمسك؟).
نظرت اليه بقسوةٍ لتقول من بين أسنانها (لست مذعورة منك، أنا لا أخافك)
ابتسم في الظلام فتألقت أسنانه البيضاء ليقول بعمق (هذا أفضل ما سمعته منكِ اليوم، سألزمك بكلمتك تلك فيما بعد)
انتفضت مجددا بداخلها الا أنها لم تسمح له برؤية انتفاضتها، وهي تنظر بسخطٍ اليه وهو يفتح الباب، و يمد يده قائلا (تفضلي، بيتك يا زيتونة)
نظرت اليه بجنون لتقول (يا ماذا؟)
ثم هزت رأسها وهي تدمدم بحنق (فليشفيك الله).
ثم خطت الى الداخل بتوجس، توسع حدقتيها في الظلام، الأنها كادت أن تصاب بالعمى ما أن أشعل الأنوار كلها دفعة واحدة، رمشت بعينيها عدة مرات، ثم تقدمت، و أخذت تنظر حولها.
نفس الأرائك الجميلة، و نفس المزهريات، السجاد الذي ستنظفه يوميا و لن تسمح لأحدٍ بأن يخطو عليه بحذائه…
تنفست بابتهاجٍ ضعيف، هل من الممكن أن تجد سعادتها في هذا المنفى؟..
شبه ابتسامة ظللت شفتيها وهي تدور بعينيها في أرجاء المكان…
نعم، نعم، سأجعل من هذا المنفى بيتي، بعيدا عن كل البشر …
لم تعي بأنه كان واقفا خلفها، و قد اختفت ابتسامة عبثه و حلت على عينيه نظرة عطف تصاحبها غصة في حلقه كانت أكثر ألما من ألم قلبه تحت نافذتها…
كان ينظر اليها وهي صغيرة هشة، ممسكة بأطراف ثوبها الذي يبتلعها، تدور بعينيها في البيت بإدراك أنه بيتها، لتظهر ابتسامة خائنة على شفتيها…
استدار قليلا عنها، و العطف في عينيه تحول الى ألم حتى أن حاجبيه انعقدا من شدته…
انها له الآن، لقد أصبحت له أخيرا…
همس بذلك لنفسه عله يحيي الانتصار ليطغى على هذا الألم، زفر بعمق مشجعا نفسه و حين عاد ليستدير اليها وجدها قد اختفت ليجدها عند السلم تصعد بسرعة…
فتبعها كظلها، وهي ترتقي درجة درجة، لا تزال تتأمل السلم و نقش الحوائط و كأنها تراها لأول مرة، بينما كان هو ينظر لخصرها و الشوق يفتك به…
انها صغيرة للغاية، تذمر بداخله، و تلك الصغيرة تفعل به الأعاجيب و كأنه لم يرى نساءا من قبل…
وصلت الى الطابق العلوي و مشت فيه ببطء، الا أنها توقفت عند غرفة محددة، تعلمها جيدا…
فهمست بحزن و هي تضع يدها على صدرها، (لا أريد العودة الى تلك الغرفة)
ضمها اليه برفق، ثم همس لها (لن تكون هذه هي غرفتك بعد الآن، اتفقنا؟).
أومأت برأسها دون أن تتكلم، لكن الذكرى مرت برأسها، ذكرى اغتياله لبرائتها، و ذكرى احتجازه لها، و ذكرى اقتحام عاصم للغرفة و صفعها…
كيف ستحيا معه تحت سقفٍ واحد؟، كيف؟، أغمضت عينيها وهي تتركه يجذب خصرها ليقودها الى غرفة كبيرة في آخر الممر…
فتحها لها، فدخلتها وهي خائفة قلقة، لكنها رفضت إظهار خوفها له، وهي تنظر الى الغرفة المعدة حديثا، بسريرٍ ضخم للغاية، مزين بالستائر و الأعمدة، و مفروش بمفروشاتٍ حريرية مزينة بشرائط جميلة…
كان كل شيء مجهزا و معدا بدقة، لدرجة أنها شعرت بالغضب و القهر من انسياق أمورها بمثل تلك البساطة دون إرادة منها تقريبا…
لقد أجبرها على كل ذلك، وهي لن ترحمه…
أخذت نفسا مرتجفا، الا أن عينيها تثبتتا على شيءٍ ما فوق السرير، رفعت احدى حاجبيها الرفيعين و هي ترى الدب الذي رمته من نافذة غرفتها مستقرا بأريحية على السرير الضخم، مستندا الى الوسائد خلفه…
اتجهت اليه و استندت الى السرير و هي تنحني لتلتقطه ثم جرت الى النافذة المفتوحة و ألقته منها بكل قوتها…
لتستدير اليه بغضب، الا أنه كان مكتفا ذراعيه يراقبها بابتسامة و قد زالت حسرتها التي رآها على محياها عند غرفتها القديمة…
فقال مبتسما بهدوء، (هل هدأت نفسك الآن؟)
شعرت في تلك اللحظة بمدى مقدار غبائها، انه ينجح في اخراج غباء منقطع النظير لم تعرفه في نفسها قبلا…
الا أنها استدارت عنه وهي تقول بجفاء، (من فضلك اخرج الآن، أنا متعبة للغاية و أريد أن أرتاح).
ساد صمت مريب خلفها، ثم سمعته يتحرك الى الغرفة وهو يقول بصوتٍ خافت حذر (اخرج إلى أين؟، انها غرفتي كذلك، إن لم تلاحظي بعد)
استدارت اليه بسرعةٍ و هتفت بقوة (نجوم السماء أقرب اليك مني يا جاسر رشيد)
الا أنه اندفع اليها وهي تحاول تجاوزه لتخرج جارية من الغرفة، فاعتقل خصرها بذراعه و يضع الأخرى تحت ركبتيها ليرفعها عاليا، فتساقطت ترحتها فوق وجهها وهي تتلوى صارخة بغضب (أنزلني أيها الحيوان، الهمجي، ال، ال).
قال لها بصوتٍ هادر ليعلو فوق صوتها (لقد اشتقت لسلاطة لسانك)
ثم مشى بها الى السرير ليرميها فوقه دون اهتمام فانقلبت على نفسها رأسا على عقب و تحولت الى كومة غير محددة المعالم من الحرير الأبيض…
و حين حاولت الأستقامة و تعديل نفسها بصعوبةٍ بالغة والهرب من الجهة الأخرى، سبقها بأن جذب احدى الشريطين الحريرين المربوطين خلف خصرها، لتنحل تلك الربطة و تبدأ التقاطعات في التفكك تلقائيا من شدة تلويها كي تهرب منه…
و حين شعرت ببرودة الهواء على ظهرها صرخت وهي تحاول تثبيت ثوبها، لكنها لم تتوقف عن المقاومة لتهرب منه، حتى استطاع أخيرا أن يأسرها بين ذراعيه و يثبتها تماما قبل أن يشرف عليها كصيادٍ استطاع احكام تقييد غزالٍ هارب…
أخذت تتلوى و تنشج و تصرخ، بينما هو هدأ تماما ينظر اليها، الى أن تعبت و أخذت تلهث من شدة الصراخ، فنظرت اليه بعينين متسعتين وهو في مكانه لا يتحرك، فقط ممسكا بها بين ذراعيه بإحكام…
فقالت دون وعيٍ تقريبا (لا أريد، أرجوك، أرجوك)
لم يكن مبتسما وهو يتأمل كل ذرةٍ من وجهها البريء، و عينيها المتسعتين خوفا الآن…
فهمس بصوتٍ أجش (أنتِ تطلبين مني ما هو فوق احتمالي، لن أستطيع تلبية طلبك هذا، انه يفوق طاقتي، رغما عني لا أستطيع تطويع نفسي تجاهك، فارئفي بي و بحالي، أرجوكِ أنتِ).
همست بهلع ترتجف و جسدها متصلب كالخشب (لا اريد، ارجوك، قلت أنك، ستعوضني و لن تؤذيني مجددا، أرجوك، أنا أعتذر إن كنت قد احتديت عليك منذ بداية الحفل، لم أقصد، لكن أرجوك اتركني)
قال بخفوت و قلبه الذي يغلي شوقا. ينعصر اشفاقا عليها، الا أنه ببساطة سيحترق و يصدر عنه أسوأ ما به إن تركها الآن، (قلتِ أنكِ لا تخافين مني، اتذكرين؟)
قالت بمنتهى الوضوح و دون تردد (كذبت).
ذابت عيناه عطفا عليها، و خفق قلبه مرارا بقوة ضخ جبارة تحت يدها التي كان يثبتها على صدره بكفه…
ثم قال أخيرا بصوتٍ لم تعرفه (اذن سأعلمك الا تخافين مني)
ثم انحنى اليها و شفتاه تتبعانِ همستها المرتجفة المترجية اليائسة (أرجووووك)
حين فتحت عينيها صباحا، لم تدرك للوهلة الأولى مكان وجودها، فرمشت بعينيها الى أن تبينت لها غرفة الفندق و ما أن أدركتها حتى تجلت لها ذكريات ليلة زفافها بكلِ كارثيتها…
استلقت على ظهرها بسرعةٍ وهي تستعيد كافة تفاصيل الأمس برعبٍ بائس، هل كانت حقيقة؟، ألم يكن مجرد كابوس؟..
الا أن صوته أوقفها عن التفكير وهو يقول بصرامةٍ من مكانٍ ما (هيا استيقظي، سنتأخر).
ارتجفت من جفاء صوته الصلب، لكنها تمكنت من الجلوس بصعوبةٍ حتى رأته واقفا عند مقدمة الفراش، بهتت ملامحهها و اتسعت عيناها قليلا وهي تراه في الصباح الباكر، مرتديا قميصا قطنيا سماوي اللون، و بنطالٍ أبيض رياضي يفصل قوة عضلاته…
شعره لا يزال مبللا من الحمام، و ذقنه القوية حليقة و ناعمة…
كان ينظر اليها بجفاء، الا أن هذا لم يمنع أن تنشده بوسامته…
ابتلعت ريقها و سحبت الغطاء ببطىءٍ لتغطي نفسها وهي جالسة بخزي، ثم همست مبتسمة بضعفٍ هش كالمتسولين (أنت وسيم جدا)
توهمت للحظةٍ بأنها سمعت نفس استهجان خشن صدر هادرا من صدره، الا أنها حين نظرت إلى وجهه وجدته صلبا بلا أي تعبير…
قال أخيرا بصرامةٍ و خشونةٍ أكبر (ليس لدينا الوقت لمثل تلك الملاحظات التافهة، سنتأخر هيا انهضي، أمامك عشر دقائق و تكونين جاهزة أمامي).
انتبهت لما يقوله للمرة الأولى فهمست بقلق (جاهزة لماذا؟)
رد عليها عمر واضعا يديه على وركيه في وقفة تحفزية و كأنه سيهجم عليها (أنسيتِ أن لدينا موعد طائرة يجب علينا اللحاق بها؟)
اتسعت عينا رنيم، كيف نست رحلة شهر العسل تماما في غمرة ما مرت به، لذا و بكل غباء همست بأمل و ترجي (هل سنسافر لرحلة شهر العسل؟، هل، هل قررت أن تسامحني؟).
رمقها بنظرةٍ أشعرتها بأنها دونية المستوى و الشخصية، فاقشعر جسدها و فقد وجهها لونه إن كان موجودا من الأساس…
قال عمر بصوتٍ خافت. صارم، محتقر، (أنتِ تطلبين الكثير، الكثير جدا)
ثم استدار عنها متجها للباب باندفاع، لكن قبل أن يخرج توقف دون أن يستدير اليها قائلا من فوق كتفه بجفاء (عشر دقائق لا غير).
بعد خروجه، كانت حالتها قد اصبحت شبه مأساويةٍ و هي تنظر بضياع للباب المغلق خلفه، لقد فقدت زوجها بالفعل، مر سواد الليل و حل الصباح بنوره ليبين لها الحقيقة التي رفضت تصديقها بالأمس…
أنها فقدت زوجها، قبل أن تفوز به كما كانت تظن أنها فعلت…
فتحت عينيها هي الأخرى للأشعة الدافئة التي داعبت أهدابها الطويلة، فابتسمت تلقائيا لها، شعور رائع بالإكتمال، المؤقت، تسكن به روحها و تخدع نفسها…
مدت يدها تتحسس الوسادة بجوارها و لم تندهش كثيرا حين علمت بأنها وحدها قبل أن تفتح عينيها…
تنهدت بقنوط، تنظر إلى سقف غرفتها التي اشتاقت اليها من اشتياقها اليه، أين ذهب الآن؟..
علي حد علمها ليس لديه عمل اليوم، هاهو الشعور بالفراغ يتسلل اليها تدريجيا. بعد ان كانت مستيقظة بإحساس رائع…
داعبت بأطراف اصابعها حافة الغطاء المحيط بها…
أغمضت عينيها وهي تتنهد بأسى، ها قد استسلمت له من جديد، ودون أي شروط، حتى دون أن تجرؤ على أن تفاتحه بالأمر…
غبية، غبية بالفعل و ستظل كذلك طالما هي ذائبة في عشقه…
فتحت عينيها فجأة على أقصى اتساعيهما، تتذكر اعترافه بحبه لها، ان كان قد يتهرب منها سابقا او ينطقها بغير تركيز بلهجة تحبببية، الا أنه ليلة امس نطق كلمة نعم بطريقة غامضة، تسللت الى قلبها دون اذن…
فسلمت حصونها له بمنتهى السذاجة و اليسر…
تنهدت بيأس، ثم تذكرت رنيم، ترى كيف انقضت ليلتها بالأمس؟، لم تقصد اذيتها أبدا و الله يعلم…
كيف تساعدها الآن، هل من الصائب أن تهاتفها في هذا الوقت أم تمنحها بعض الوقت…
أخذت نفسا عميقا لتنهض جالسة بوجوم، و شعرها مشعث حولها بجنون، بعد أن طاف بوجهه مرارا…
ابتسمت بخجل، رغم الحزن الضارب في أعماقها…
اين معتز؟، نعم، نعم، انه عند علية من الأمس…
علاقتها بعلية تتنامى تدريجيا بلطف، و أصبحت تسمح لها بأخذ معتز أحيانا، و حين تذهب لتأخذه كانت تتجاذب معها بعض الحديث، شيئا فشيئا بدأت تشعر انها ليست تلك الإنسانة السيئة التي تتصورها…
أحيانا تود لو تفضي اليها بما تعرفه عن نادر، و معرفته بامرأة اخرى، همست حور بامتعاض و هي تمط شفتيها، (الغالي)
أخذت نفسا و قامت من سريرها بتثاقل يائس، اذن هي حرة اليوم، حليفها اليأس و الإنهزام…
بعد فترة كانت جالسة جلستها المحببة و ساقيها تحتها على الأريكة الملونة، ممسكة بكوب القهوة وهي تنظر للبحر من بعيد شاردة فيه…
رن هاتفها بجوارها فالتقطته سريعا علها تكون رنيم فتطمئنها، الا أنها حين ردت سمعت صوت تعرفه جيدا يقول (صباح الخير، اشتقنا للجميلة)
اتسعت عيناها ثم عقدت حاجبيها وقالت بتردد (رامز؟)
سمعت ضحكته تسلل عبر الهاتف اليها خافتة وهو يقول (اذن تتذكرين صوتي).
لم تسأله كيف حصل على رقم هاتفها، الا أنها قالت ببساطة متحيرة قليلا (صباح الخير يا رامز، الوقت مبكرا قليلا)
رد عليها بهدوء (هل أنتِ جاهزة لنذهب للطبيب الذي أخبرتك عنه؟)
قفزت حور من مكانها وهي تقول بلهفة (متى؟، الآن.؟، لكن لن أتمكن، حتى أن معتز عند جارتي، بإمكاني أن أمر عليها سريعا و أصطحبه أثناء نزولي، فقط لو كنت أخبرتني من قبل لأتدبر أموري).
رد عليها رامز يقول (لا داعي لحضور معتز أول مرة، فقط يكفي أن تكون لديكِ بعض تقاريره و أشعاته)
عقدت حور حاجبيها و قالت (لا، لا أعلم شيئا عن وجود هذه الأشياء، و لا أعلم إن كان نادر قد لديه منها من الأساس)
رد رامز بعد فترة (حسنا لا بأس لما لا تأتين على كلِ حال فتتكلمين معه و تفهمين منه، و الزيارة الثانية تحضرين معكِ المطلوب).
عضت حور على شفتها قبل أن تقول (لا، لا، لن أضيع فرصة كهذه ربما لن تتكرر مع طبيبٍ مثله، سأصطحب معتز في كل الأحوال، أين هو العنوان)
لم تلحظ الوجوم في صوته وهو يقول، (لا أنا سأقلكما، أخبريني بعنوانك)
هتفت حور بسرعة (مستحيل، أقصد أنه ليس مناسبا، حسنا، نتقابل أمام النادي و بعدها نذهب معا)
رد عليها رامز بهدوء (لا بأس).
و في عشرون دقيقة كانت حور جاهزة و نزلت جريا الى علية، حيث وجدت معتز يلعب نظيفا ممشطا جميلا، الحمد لله أنه جاهز…
أمسكت بكفه لتقول لعلية بخفوت (علية، لا أريد أن يعلم نادر عن خروجي اليوم)
عبست علية بعدم اقتناع لتقول (ماذا لو حضر فجأة)
ردت عليها حور متوسلة (حينها سألفق أي حجة، المهم مصلحة معتز و أنا لن أضيع فرصة لأنه، ليس مهما الآن، المهم أتعدينني؟).
تنهدت علية و ردت بالإيجاب بعدم اقتناع، فأسرعت حور ممسكة بذراع معتز تجره خلفها…
صعد مالك كل درجتين معا الى أن وصل لباب أحلام الذي فتح تلقائيا و قبل أن يطرقه، و ما ان رأى وجهها الشاحب الخائف حتى هبط قلبه وهو يقول بتوجس (ما الأمر يا أحلام؟)
قالت أحلام بصوتٍ مرتجف خائف (أثير، لم تبت ليلتها هنا في البيت)
هتف مالك بهياج (ماذا؟، كيف و أين قضت ليلتها؟ إنها لا تمتلك مكانا تذهب اليه الآن).
حينها سمعت أحلام صوتا عند اعلى السلم فأشارت لمالك أن يصمت ثم خرجت ترفع رأسها تنظر إلى الطابق الذي يعلوها…
قالت أحلام بصرامة (هل تريدين شيئا يا حفيظة؟)
الا أن السيدة تلجلجت و أخذت تهدم سجادتها المهترئة المحملة بالأتربة (لا شيء يا أحلام، سلامتك حبيبتي، كنت أنفض سجادتي)
قالت أحلام بصرامة (وها قد انتهيتِ، ادخلي شقتك).
دخلت السيدة و هي تتذمر، لكن مالك لم يستطع تمالك نفسه وهو يقول لأحلام بخوف (ما الذي حدث يا أحلام؟، هل حدث بينكما خلاف؟)
قالت أحلام بصوتٍ خافت و هي تهمس (منذ فترة وهي غير طبيعية أبدا، و بالأمس ذهبت للنوم مبكرا و حين استيقظت وجدت سريرها مرتبا كما هو، وورقة مكتوب عليها الا أقلق، فقد أطالت إقامتها عندي).
تجمدت ملامح مالك تماما، و هدر احساس مخيف بداخله، ثم اندفع نازلا السلالم دون كلمة إضافية، فقط يتبعه صوت أحلام و هي تطلب منه أن يطمئنها ما أن يعرف شيئا…
قاد مالك سيارته، طولا و عرضا بعد أن خرج من ذلك المكان الحقير الذي كانت تعمل به أثير، فهو بعد تشميعه بالشمع الأحمر، عاد ليفتح مجددا، تماما كما حدث من قبل عدة مرات…
كان ليقتلها لو وجدها هناك، لكن حين لم يجدها زاد الخوف في قلبه…
لم يخف عليها قبلا. لأنها كانت تمتلك بيتا، قبل أن يأخذه منها، أما الآن فأين ستبيت فتاة شابة مثلها، و كم حقيرٍ قابلت في ليلتها تلك!
هاج الشعور بالذنب بداخله أضعافا وهو يعلم بأنه أحد هاؤلاء الحقراء اللذين يفكر بهم، فمن المؤكد أنه أذلها بتصرفه، فرفضت أن تبقى و تنتظر منه مساعدة…
تذكر أول معرفته بها، حين كان يحذرها دائما من المساعدات التي بلا مقابل، فهي دائما تكون بمقابل باهظ الثمن…
و لا بد أنها قد تذكرت كلامه بعد تصرفه الأخير معها، ضرب المقود بقوةٍ وهو يشتم غاضبا…
أين من الممكن أن تكون قد ذهبت؟، أين؟، حتى جارتها السابقة أم صابر ذهب ليسألها و كانت أمله الاخير، لكنها لم تكن هناك…
فجأة التمعت عيناه، و زاد من ضغطه لسرعة السيارة…
ابتسم متنهدا بتعب، ثم أخذ يتأملها و هي نائمة ببراءة طفلة، حيث شعرها الأشقر متناثر في خصلاتٍ هوجاء حول بشرتها الوردية، و التي زادت درجة ورديتها مع نومها العميق…
فمها الأحمر الصغير مفتوحا قليلا، حتى أنها تصدر شخيرا خافتاا، انه شخير أنثى، لا يمت للشخير المعتاد بصلة…
تبدو وكأنها تتحشرج قليلا في تنفسها ليس أكثر…
ضحك قليلا بعد أن اطمئن قلبه، يجب عليه أن يقنعها بأن تجري جراحة لحمية الأنف، و سيدفع ثمنها بلا مقابل..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بأمر الحب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى