روايات

رواية يناديها عائش الفصل التاسع والخمسون 59 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل التاسع والخمسون 59 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الجزء التاسع والخمسون

رواية يناديها عائش البارت التاسع والخمسون

يناديها عائش
يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة التاسعة والخمسون

من المريب جدًا أن يتوقف احساسك بالحزن؛ فتُصبح كل المواجع في عينك معتادة، وهي ليست كذلك أبدًا، من المريب أن تُصبح جامدًا كفاية. ” لصاحبها البائس”
*******
نظرت مُفيدة لملك نظرة لوم على ما تفوهت به، فذلك الخبر جميعهم يعلمون أنه سيعكر صفو مزاجهم إذا قيل في مناسبة جميلة و سعيدة كهذه.. الجميع يعلم أن زياد لو علم بأمر انفصال بدر عن عائشة؛ لن يدع ذلك يمر بسهولة، سيقلب الأمور رأسًا على عقب، و من المحتمل أن يذهب لعائشة، و يجبرها على الرجوع للعائلة ثانيةً.
هتفت والدة ملك بتصحيح عما قالته ابنتها
” دي بتهزر.. حد ياخد على كلام العيال برضو ”
طالعت ملك والدتها بدهشة لتقول بعفوية
” والله مش بهزر يا ماما.. حضرتك كنتِ موجودة لما عمو مصطفى خد عائشة وصلها لجدتها.. وكمان كانت بتعيط وهي ماشية لما سلمت علينا كلنا عشان مش هتيجي هنا تاني.. حتى أبيه بدر كان زعلان أوي.. أنتِ نسيتي و لا إيه ؟ ”
قامت والدتها بقرصها قائلة بابتسامة مصطنعة
” أنت عارف بقى يا زيزو.. ملك من صغرها خيالها واسع.. هي بس عائشة راحت تزور جدتها عشان تعبانه و هتقعد عندها كام يوم لحد ما تخف ”
تدخلت مفيدة تؤكد على كذبة سلِفتها
“كلها كام يوم و بدر يروح يجبها إن شاء الله.. المهم عاوزين نحتفل بالمناسبة السعيدة دي”
و قالت سارة تشاركهما الكذب
“أنت تصدق برضو إن بدر يطلق عائشة.. ده ميقدرش يعيش من غيرها”
ادعوا ثلاثتهم الكذب؛ لملاحظتهم أن زياد عندما أخبرته ملك بطلاق عائشة و بدر، انتابته حالة من الدهشة مصحوبة بالصدمة الشديدة و عدم الاستيعاب، بينما هاجر وقفت تطالع ملك بعدم تصديق و عقلها رافض تمامًا استيعاب انفصالهما.
نطق زياد أخيرًا بِذُهُول
” كنت حاسس إن فيه حاجة غلط.. بدر طلق عائشة ! ”
و قالت هاجر بعدم استيعاب
” لا مستحيل.. أكيد بتهزروا.. ده بدر أخويا و أنا عارفاه.. عائشة بالنسبة لبدر هي الأكسجين.. ازاي يقدر يبعد عنها ! ”
ردت مفيدة بقلة حيلة بعد إدراكها أنهما اكتشف الأمر، و لا مفر منه
” قدر و مكتوب.. مكنش في ايدنا حاجة نعملها.. ده كان قرارهم ”
” يعني هو طلقها بجد ؟! ”
قالها زياد باِمْتِعَاض، فردت ملك سريعًا
” آه والله يا أبيه زياد.. حتى اسأل عمو مصطفى
” و بابا ازاي ميقوليش حاجة زي كده !؟ ”
” مكنش عاوز يضايقك أنت وهاجر و أنتم في العُمرة.. عشان عارف إنك لو كنت موجود مكنتش هتوافق على انفصالهم ”
قالتها سارة بحزن، فصاح زياد بتعصب
” طبعًا مكنتش هـوافق.. بت يتيمة زي دي تترمى كده محدش يعرف عنها حاجة !! ”
هتفت مفيدة بمدافعة
“مين قالك إننا رميناها.. والله يابني هي اللي قالت هتمشي.. و بعدين هي قاعدة عند جدتها مش حد غريب”
هزت هاجر رأسها ضاحكة بحسرة
” أنا مش مصدقاكم بجد.. أنتم ازاي يجيلكوا قلب تسيبوها تمشي ؟؟! ”
سكتوا جميعهن، و العجز عن الدفاع عن أنفسهن كان سيد الموقف.. ألقى زياد عليهن نظرة أخيرة بغيظ منهن، قبل أن يتركهن و ينزل باستشاطة للأسفل عند اجتماع الرجال.. ارتدت هاجر اسدال سريعًا و نزلت وراء زوجها بغضب تملكها هي الأخرى، فلقد حزن قلبها حُزنًا شديدًا على فراق عائشة.
ترك زياد جميع رجال عائلته، ثم اتجه بغضب عارم و عصبية بالغة لذاك الذي يتبادل الحديث مع “أُبَيُّ” بهدوء؛ ليجذبه من ذراعه بقوة دُهش لها بدر و جميع الواقفين، ثم صاح بحَنَقَ
” طلقتــــها ليــه يا بــــــدر ؟؟؟ ”
في البداية ظل بدر لثونِ ينظر لزياد بعدم فهم لما يحدث، ثم بعد أن استوعب الأمر.. رد بهدوء استفز زياد أكثر
” ده شيء يخصني يا زياد ”
هتف الآخر في تَشنّج
“لا ميخصكش.. ميخصكـش يا بـدر.. لما يبقى عمنا الله يرحمه موصي الكل عليها و تروح أنت تتجوزها فإحنا نطمن إنك هتخلي بالك منها.. تقوم مطلقها و راميها في الشارع متعرفش عنها أي حاجة.. يبقى ميخصكش.. يخصنا كلــنا.. لما ترمي لحمنا و دمنا لكلاب السكك يبقى متقولش يخصني.. اسمها أنا مش راجل..
علا صوت بدر ليقول بتعابير وجه تحولت للغضب
” يعني ايـه يا زيـــاد ؟؟! ”
” يعني أنت مش راجــل يا بــدر.. و بقولهالك قدامهم كلهم أهو.. أنت مش راجل و مش قد المسؤولية.. و البت دي ذنبها في رقبتك ليوم الدين ”
أغلق بدر قبضة يده بقوة، و بدا وجهه متجهمًا مشدودًا، و عقد حاجبيه بسخْط، فلاحظ زياد ذلك في الحال بعد أن وزع نظره ما بين قبضة يد بدر، و تعابير وجهه الغاضبة.. أدرك فورًا أن ابن عمه تملك منه مرضه النفسي ثانيةً، و بدت الأعراض تظهر عليه و هذا ما اراده زياد..
تبسم الأخير ابتسامة صفراء دلالة على المعرفة التامة بسمات و نقاط ضعف الشخص الماثل أمامه.
اقترب زياد من بدر حتى انعدمت المسافة بينهما، فكانا طولهما متقارب جدًا.. نظر زياد له نظرة ثاقبة ليقول بهمس غاضب و غيظ
” كفاية ضِعف و واجهني..كسرتها ليه ؟ ”
اجتمعن نساء العائلة مع رجالهم، لتصبح عائلة الخياط بأكملها في بيت مُصطفى، و قد وقفوا جميعهم يطالعون هذان الوهران و على وجههم علامات الاضطراب و الخوف من مواجهة الموقف، جميعهم بلا استثناء خائفون من زياد.
صاح بدر بانفعال شديد وهو يدفع زياد في صدره بقوة، ليرجع الآخر بضع خطوات للوراء من قوة الدفع
” أنا مش ضعيــــــف.. أنا أكتـر واحد اتحملت اللي محدش يتحمله.. أنا أكتر واحد عنيت معاكم.. أنتم السبب في تعاستي.. و عائــــــشة.. أنا و عائشة مينفعش نكمل مع بعض..
قاطعه زياد محاولًا اخراج ما فيه، لغرض. يدور في رأسه
” عشان أنت ضعيف.. مفيش راجل يتخلى عن واحدة أبوها سايبهاله وصية ”
زاد كلامه المؤلم من غضب بدر، ففقد السيطرة على نفسه، و بدأ بكسر كل شيء يراه أمامه بينما زياد يقف يتابعه ببرود دون تأثر، أما البقية انتابتهم الصدمة الشديدة، فلأول مرة يرون بدر بتلك الحالة المذرية، كانوا يلاحظون عصبيته أحيانًا، ولكن ليس لتلك الدرجة التي يعجز فيها التحكم في نفسه.
يعاني مصابو اضطراب الشخصية الحدية من غضب شديد مبالغ فيه أو صعوبة في السيطرة على غضبهم، وقد يؤدي ذلك إلى الصراخ، ورمي الأشياء، و افتعال المشاجرات، و غالبًا ما يتبع ذلك الإحساس بالذنب والخجل. بينما في بعض الحالات قد يكون الغضب داخليًا دون التعبير عنه، وعادة ما تحدث نوبات الغضب كرد فعل على الشعور بالخوف، أو الإهمال، أو الهجر.
و في تلك الحالة شعر بدر بالخوف من مواجهة الموقف، فقام يرمي بالأشياء هنا وهناك وهو يصيح في انفعال
” أنا مش ضعيف.. مش ضعيـــف”
كانوا جميعهم يحاولون تفادي الاشياء التي يقوم بكسرها، و النجاة بأنفسهم من هذا الثور الهائج، أما زياد راح يخفي هاجر وراء ظهره وهو يراقب ما يفعله بدر من جنون، بينما هاجر تمسكت في قميص زوجها من الخلف، و أخذت تبكي في صمت، وهي تراقب هول المنظر.
توقف بدر عما يفعله، ليصوب نظره بحدة على زياد يريد تهشيم رأسه، فقال زياد بفتور
” خلصت ؟ ”
حولوا جميعهم أنظارهم نحو زياد بعدم فهم متسائلين فيما بينهم “لماذا يقوم زياد باستفزاز بدر ؟” ” ولماذا بدر يبدو هكذا ! كأنه شخص آخر ؟! ”
ألقي زياد عليهم نظرة قاسية و سألهم بصرامة
” و أنتم ! بالسهولة كده سيبتوها تمشي ! ازاي حضرتك يا بابا ياللي المفروض كبير عيلة الخياط أنت و عمي مجاهد تسمح بالمهزلة دي تحصل ؟؟ ”
قال عمه مجاهد بتوتر و مدافعة عن نفسه
” هما اللي قرروا كده يابني.. محدش ضربهم على ايدهم ”
و قال والده بقلة حيلة
” بدر مش صغير.. بدر كبير و واعي للي بيعمله و ده كان قراره ”
رفع زياد حاجبيه بتعجب منهم.. و انفلتت أعصابه ليصرخ في وجوههم
” واعي للي بيعـملـه !! أنت متأكد إن بدر واعي للي بيعمله بعد اللي شفته بعينك ده !!
لم يجيب والده، فتابع زياد استيائه منهم جميعًا
” أنا مش مصدق.. مش قادر استوعب أنكم عملتم كده.. !! ولا واحد منكم عرف يدخل و يحل اللي بينهم قبل ما الموضوع يوصل للطلاق !! و لا هي عشان بنت عمي محمود ! ولا يمكن عشان بنت الرقاصة اللي بسببها أخوكم جبلكم العار !
ولا.. ولا عشان أنتم مش قد المسؤولية فقلتم يلا أهي كلبة وراحت !.. بجد ازاي قلبكم طاوعكم تعملوا كده في بنت يتيمة ! بنت ملهاش أي ذنب في اللي أبوها و أمها عملوه زمان.. بنت جات للدنيا مش بمزاجها و اتربت وسط ناس مش عارفة هما بيكرهوها ليه ؟ بسهولة كده سيبتوها تمشي لمكان احنا أصلًا مش عارفين هو حلو ولا وحش ؟! .. أنا بس عايز أفهم جاتلكم الجرأة منين تتخلوا عن عرضكم ؟ بجد عقلي مش راضي يستوعب اللي حصل ”
تدخل بدر ليقول بأعصاب متوترة
” أنت.. أنت ملكش أي حق تحاسبنا.. دي كانت مراتي أنا.. يعني أنا حر في اللي أعمله معاها ”
رد زياد بتقزز منه
” أنت تخرس خالص.. أنت لا تُؤْتَمَن على عرض يا بدر ”
تلك الجملة اصابت بدر في منتصف قلبه، جعلته عاجز تمامًا عن قول أي شيء، وهذا العجز ساقه إلى رد كرامته بالعُنف و الضرب، شخصية غير متزنة عقليًا و مضطربة مثل بدر، في تلك المواقف تجعله يدافع عن نفسه بافتعال الفوضى.. قرر أن يدخل في شجار جسدي مع زياد ليشبع رغبته في الانتقام من إهانته أمام أعدائه، نعم.. جميع الواقفين أمامه الآن ليسوا عائلته، و إنما أعدائه كما صور له عقله المضطرب.
كان زياد على أهبة الاستعداد؛ لـتلقين بدر درسًا يجعله يقرر بنفسه أن يعود للعلاج، فقد حاول معه كثيرًا بشتى الطرق أن يعالج هذا المرض النفسي قبل أن يسبب له الهلاك، و لكن بدر كان خائفًا بشدة من معرفة عائلته بالأمر، فيغيرون نظرتهم تجاهه، بالأخص معشوقته التي أفقدته عقله من كثرة التفكير فيها ” عائش”.
هجم بدر في حركة مفاجأة على زياد بلكمة قوية في وجهه، جعلت أنفه ينزف دمًا، مما صرخت هاجر بخوف و ارتعش جسدها بهلع على زوجها و شقيقها، فظلت تبكي على جنب في عجز و ضعف، أما البقية اتسعت أعينهم بصدمة و حاول الآباء التدخل، فأوقفهم زياد بإشارة من يده وهو يمسح دماء أنفه
” محدش ليه دعوة ”
ثم التفت لهاجر و قال لها بلهجة أمر
” اطلعي فوق ”
هزت رأسها بنفي و جثت على ركبتيها تبكي بشدة، مما هرولت أمها و حماتها لمساعدتها في الصعود لشقتها، و لكنها أبت و وقفت تشاهد ما يحدث بحسرة.
وجه زياد حديثه لبدر قائلًا بصرامة
” هات آخرك.. وريني ضِعفك هيوصل لحد فين ”
تنفس بدر بغضب، و بدأ المهاجمة ثانيةً.. و لكن في تلك المرة أمسك زياد بقبضة يده، و بكل قوته قام بإنزالها، ثم ناول بدر ضربة برأسه في جبهته جعلته يتراجع للخلف، فتناثرت خصلات شعره الطويلة على جبهته و أخفت عينه، و قبل أن يرفع شعره عن عينه تلقى ضربة أخرى من زياد أسقطته أرضًا..
اتجهت هاجر نحو شقيقها بسرعة، و جلست بجانبه تتحسس وجهه بخوف، فانحنى زياد و حملها رغمًا عنها ليبعدها عنه؛ لأنه يعلم أن بدر فقد السيطرة على نفسه وليس في وعيه الآن..
حاولت هاجر التحرر من يده التي تحيط خصرها وهي تصيح باكية
“سيبني يا زيـــاد عشان خاطـري.. حرام عليكم اللي بتعملوه ده”
همس زياد في أذنيها يحاول تهدئتها
” ششش.. اهدي متخافيش.. دلوقتي تعرفي كل حاجة ”
تقدم أُبَيّ ليساعد بدر في النهوض، فنهض بدر بغضب جامح و أثناء وقوفه، لمح زجاجة عصير فارغة بجانبه، فأخذها ليضرب بها أُبَيّ دون أن يكون على دراية بالأشخاص من حوله، فهو الآن لا يستطيع التفرقة بينهم.. جميعهم بالنسبة له جيش من العدو و عليه محاربتهم.
لم يشعر أُبَيّ إلا و بالدماء تسيل من رأسه، مما صرخ الجميع بفزع و ركضت أمه تتفحصه بهلع شديد.. بينما قُصي أحس أنه هو من نال الضربة، فهرع يدفع بأخيه نحو المرحاض ليضع رأسه تحت الماء.. و صرخت نورا بإسمه، لا تدرِ لماذا شعرت بأن قلبها سقط من ضلعه، حين رأته ينزف هكذا.. أسرعت باحضار علبة الاسعافات الأولية و نست كل شيء.. تجاهلت جميع العائلة و شدت أُبَيّ من يده وهي تبكي في صمت، لتدخله غرفتها بعيدًا عن تلك الفوضى، بمساعدة قُصي تتبعهم أمه و أخواته خائفين بشدة عليه.. لم تشعر نورا بوجودهم حولها و تجاهلت الجميع بما فيهم قُصي الذي جلس ملتصقًا بأخيه يمسد على ظهره يبث فيه الدعم و الطمأنينة.. أخذت نورا المطهر و القطن و قامت بتنظيف الجرح، مما هتف أُبَيّ بألم من قوة المطهر
” آه.. بس كفاية ”
نظرت في عينيه بدموع و قالت وهي تمسح بالقطن الدم المتبقي
” أنا آسفة.. استحمل.. خلاص هلفلك الشاش أهو
كان يتأمل ملامحها التي ولأول مرة تكون قريبة منه هكذا، بينما هي تقوم بمداواة جرحه بلُطف.. همس بعشق متناسيًا تلك النظرات التي تتابعهم بشك
” دول.. أجمل.. عيون.. شـَ.. شافتها عنيا ”
توقفت عما تفعله، و بادلته النظرات بحُب لأول مرة بدا واضحًا جدًا في عينيها.. قالت باسمة بخجل و هي تشير لجبهته الملفوفة
” أنا خلصت ”
” أنا بحبك ”
قالها وهو ينظر بعيدًا عن عينيها؛ حتى لا يشعر بالتوتر و يتلعثم.. ثم أعاد النظر لها بعد أن أعترف بحبه.. و مد يده يتحسس خدها المحمر بشدة، و قبل أن يمسها..حمحم قُصي وهو يقرص أخيه ليعيده لوعيه
” احم..في معركة دايرة برا يا فلين رايدر ”
انتبه أُبَيّ أخيرًا لوجود والدته تطالعه بمعالم وجه مندهشة بدت مضحكة من المشهد الرومانسي الذي حدث منذ لحظات، اما أخواته الفتيات تبادلن النظرات بفهم و أخذت كل منهن تضرب الأخرى بخفة و تضحكن بخفوت.
” إن شاء الله هتبقى كويس ”
قالتها نورا بإحراج شديد من الموقف، ثم تركتهم وخرجت..
ظلوا جميعهم ينظرون لبدر بدهشة و صدمة مما يفعله.. هتف زياد وهو يشير لبدر بغضب
” بذمتكم ده واحد واعي للي بيعمله ؟؟ ”
أنهى جملته بأن لكم بدر لكمة أخرى في رأسه، جعلت الرؤية مشوشة أمامه فأخذ يفتح عينيه و يغلقهما ليتفادى شعور الدوار.. تقدم زياد منه و جذبه من قميصه ليهزه بقوة و صاح فيه
” فـوق بقى.. هتفضل طول عمرك ضعيف طول ما أنت مش عاوز تتعالج ”
دفعه بدر ليبعده عنه و قال بقسوة
” أتعالج عشان ميـن !! و أتعالج من ايــــه ؟؟
أنا كويس.. أنتم اللي مرضى.. أنـا كويس فاهم.. أنا أحسن منك و منكم كلكم..
بدأت نبرة صوته تتغير للضعف و الخوف فقال بلهجة أقل صرامة و بملامح بدت طفولية للغاية
” أنا.. أنا مقصدش أزعلكم.. أنتم عارفني كويس.. أنا بدر.. بدر اللي بيحبكم كلكم..
ازدادت دهشة الجميع من تحوله المفاجئ، إلا زياد الذي كان على علم بما يحدث لبدر.
تابع بدر حديثه بغيظ و سخرية
” عائشة تستاهل كل اللي عملته فيها.. حظها إني طلقتها قبل ما أخلص عليها
شهق الجميع بعدم تصديق لما قاله.. و هتف عمه مصطفى بذهول
” تخلص عليها !!؟ ”
نظر له بدر بضعف و بدأ في البكاء كالأطفال
” أصل أنا بحبها أوي.. أنت.. أنت مش متخيل أن بحبها قد ايه.. هي نقطة ضعفي.. وحشتني.. أنا عاوزها.. هاتولي عائشة.. أنا عايز عائـش..
صوب مجاهد نظره لزياد متسائلًا بتعجب و غرابة لأفعال بدر
” هو في ايه يا زياد ؟ بدر ماله ؟! ”
كان سيف جالسًا بعجز يتأمل حالة أخيه، فقد درس كل ما يمر به و يشاهد الآن من حالته في السنة الدراسية الأولى له من كلية الطب.. قال بصوت يبدو عليه أثر البكاء
” بدر مريض نفسي ”
” مريض نفسي !! ”
قالها معظمهم في صوت واحد غير مصدقين..
مريض الاضرابات الحدية بعدَ فورة الغضب، غالبًا ما يشعر بالخجل والذنب، ممَّا يعزّز من شعوره بالسوء.. بقي بدر مذعورًا يتلمس الخلاص من هذا المأزق، وهو يحدق فيهم تحديق الخائف المذعور من انكشاف أمره للجميع..
أراد زياد حدوث كل ذلك أمام أعينهم ليدركوا بأنفسهم أن ما يمر به بدر و يشعر به ليس بالأمر الهين، و لا يجب الإستهانة به، بل عليهم جميعًا التكاتف لتقديم الدعم له و مساعدته على النحو الصحيح، و لولا ما حدث ما كان بدر سيبادر بالعودة للعلاج، وكان سيهلك لا محالة..
حان الآن التدخل و تقديم الدعم له و مطمأنته.. اتجه إليه زياد ثم شده ليعانقه بشده ويحتويه كطفل يحتاج لرعاية خاصة، فبكى بدر بخجل من نفسه في حضن زياد و همس بمرارة
” أنا خايف.. شكلي بقى وحش قدامهم ”
مسح له زياد دموعه، ليقوم بدور الأب فاحتوى وجهه بقوة ونظر في عينيه نظرة ثاقبة قائلًا
” كلنا مرضى نفسيين.. كلنا محتاجين للعلاج.. مفيش حد مُعافي.. كلنا عندنا عيوب ”
” تفتكر رد فعلهم ايه !.. هيفضلوا شايفني بدر الـ..
قاطعه زياد بابتسامة تنم عن التفاؤل
“أنا جنبك.. متخافش”
****

______♡
الأب حياةٌ ، والأم نَفَسٌ .
*****
تحولت ملامح روان من السعادة للحزن و الإنطفاء، بعد مكالمة والدتها و سماع صوتها تستغيث طالبة المساعدة منها.
شعرت روان بالهلع عليها، و رغم كل ما فعلته معها، إلا أنها ما تزال تحن لها و تشتاق إليها.. ذهبت روان لوالدها بوجهه منطفئ خائف، فتساءل حافظ بلهفة
” مالك يا روان ؟ ”
قالت بصوت حزين خائف و مضطّرب
” ماما.. ماما اتصلت وشكلها مش بخير.. صوتها مش مطمني.. عاوزاني اروحلها بسرعة.. بس أنا محتارة.. أعمل ايه يا بابا ؟ ”
ربت الأب على كتفها بحنو ثم أردف بعقلانية
“مهما حصل بينك وبين أمك.. هتفضل أمك في النهاية.. حتى لو مش بتحبيها بس واجب عليكِ تكوني باره بيها لأجل ربنا.. روحلها و متخافيش أنا مش هسيبك تروحي لوحدك.. هاجي معاكِ”
تذكرت آخر مرة ذهبت لتزورها مع رُميساء، و كيف أن والدتها استقبلتها ببرود و رفضت أخذ الهدايا التي أحضرتها لأخواتها.. أخذت نفسًا عميقًا ثم قالت باستياء
” بس أنا محستش إن ليا أم.. هي سابتني و أنا صغيرة و راحت دورت على نفسها و رمتني.. معدتش بتسأل فيا.. جايه دلوقت تفتكرني !؟ ”
شعر والدها بالأسف تجاهها.. فقال بهدوء
” بس هي محتجالك دلوقت لازم تكوني أول واحدة تقف جنبها.. اظهري معدنك الطيب و الاصيل يا روان.. و متخليش الماضي يسيب أثره الأسود فيكِ.. أمك محتجالك مينفعش تديها ضهرك ”
تجمعت الدموع بعينيها خوفًا على والدتها لتقول بانكسار
” و أنا قليلة الحيلة قدام ماما بالذات.. لأني لسه بحبها.. و مش همل من إني استنى اليوم اللي تاخدني في حضنها فيه و تحسسني إن ليا أم بتحبني زي باقي الأمهات ”
ابتسم والدها برضا عن ابنته قائلًا
” يلا كلميها شوفيها هي فين وفي ايه بالظبط عشان نروحلها”
أعادت روان الاتصال بوالدتها “ثرية” لترد عليها بعد محاولة اتصال أخرى وهي تبكي و تقول
” أنتِ فين يا روان.. أنا واقفة في الشارع لوحدي مش معايا لا فلوس ولا أي حاجة.. ملحقتش أخد غير تليفوني ”
” في ايه يا ماما ؟؟ ”
سألتها روان بخوف، فأجابت والدتها باكية
“تعالي بس خديني الأول.. اللي رايح و اللي جاي عمال يتفرج عليا”
” طيب مسافة السكة و هكون عندك ”
التفتت لوالدها بعد أن أنهت المكالمة، و قلبها يتآكل من الخوف على أمها، فأخبرته بما حدث، مما أحس بالحزن عليها، و اتجه سريعًا يشغل سيارته مصطحبًا روان لمكان تواجد طليقته.
بينما إيناس زوجة والد روان تقبلت الأمر بتفهم و عقلانية، و حثت ابنة زوجها على حُسن معاملة أُمها مهما حدث.
وصل حافظ بسيارته عند المكان المُراد، و عندما لمحت روان والدتها تجلس على جانب الطريق تبكي في صمت؛ ركضت إليها سريعًا لتجلس القرفصاء أمامها و تحتوي أَكُفٌّ والدتها قائلة بلهجة دافئة
” ماما أنا جيت.. أنا هنا يا حبيبتي.. بطلي عياط و احكيلي مالك ”
تأملتها والدتها للحظات لتقول من بين دموعها
“أنتِ جيتي يا روان ! ”
أومأت روان لتشاركها البكاء رغمًا عنها، ثم احتضنتها و قالت
” ايوه جيت.. متخافيش أنا موجودة ”
ثم ابتعدت عنها متسائلة عن حالتها الغير مرتبة، فقالت بحسرة
” منها لله هي السبب في كل ده..
تساءلت روان بعدم فهم
” هي مين ؟؟
” أخت أشرف جوزي.. متبطلش توقع بيني وبينه.. راحت قالتله إن بعت دهبي و بدلته بصيني عشان اعمل بيه مشروع من وراه.. و أنا كنت ناوية أعمل حاجة للعيال تأمن مستقبلهم.. هو لا عاد بيشتغل ولا نيلة و مضيع أي قرش يدخل جيبه على السجاير و القرف.. والله أنا زهقت دي بقت عيشة هباب.. جاي من برا يقولي فين فلوس الدهب و نزل فيا ضرب والعيال تصوت راح ماسكهم ضربهم و شدني رماني برا الشقة زي ما أنتِ شايفة بعباية البيت كده.. قالي يا تجيبي فلوس الدهب يا ملكيش عيشة معايا.. هو عشان عارف إني مليش غيره وبحبه بيعمل فيا كده.. ده أنا بعت الدنيا كلها عشانه ”
كان والد روان واقفًا يراقب المشهد في صمت ورغم أنه انزعج مما حدث معها، لكنه لم يستطيع منع نفسه من الرد بصرامة على آخر جملة قالتها ثرية
“أنتِ فعلًا بعتي الدنيا عشان واحد ميستاهلش.. من ضمن اللي بعتيهم بنتك اللي قاعدة قدامك ملهاش ذنب في أي حاجة.. اللي يبيع ضناه يا ثرية يستاهل الحـرق”
نظرت روان لوالدها نظرة جانبية ليصمت، بينما ثرية نظرت له بانكسار ثم أخفضت رأسها بخزي قائلة
” عندك حق يا حافظ.. أنا كنت عامية مكنتش حاسة بقيمة النعمة اللي جوايا.. سامحوني.. سامحيني يا روان ”
ابتسمت روان بلُطف ثم مسحت دموعها لتقول بصدق
” من آخر مرة جتلك فيها و حصل اللي حصل.. خدت عهد على نفسي موركيش وشي تاني.. و كنت زعلانة منك أوي لدرجة إني قلت بيني و بين نفسي مستحيل اسامحك.. بس يا ماما مجرد ما بشوفك بنسى كل الزعل اللي بينا.. مهما حصل هتفضلي أمي حبيبتي..و اللي يزعلك يزعلني.. عشان خاطري متزعليش نفسك.. سبيه يولع متفكريش فيه ”
ما قالته روان عن طيب قلب، زاد من تألم فؤاد أمها و شعورها بالخجل و الخزي من نفسها على ما فعلته معهما.. قالت و هي تربت على يد روان بابتسامة صغيرة
” يمكن اللي حصل ده.. حصل عشان يقربنا من بعض و يخليكِ تسامحيني.. حقك عليا يا روان.. أي حد يتمنى يكون عنده بنت زيك.. أنا مستاهلش إن أكون أمك.. حقك عليا ”
” طيب يلا بينا نركب العربية عشان الناس عناله تتفرج علينا.. مينفعش قعدتنا كده في الشارع ”
قالها حافظ بهدوء، فتفهمت روان الأمر و نهضت وهي تسحب يد أمها بلُطف قائلة
“خلاص يا ماما الزعل مات.. قومي يا حبيبتي نروح البيت”
ردت سريعًا بخوف
” لأ.. ده لو عرف إني روحت عندكم مش بعيد يقتلني فيها.. ”
هتف حافظ بغيظ
” ميقدرش يعملك حاجة.. متخافيش ”
ظلت روان لدقائق تتوسلها أن تذهب معهما، و لأنها ليس لديها أحد، و لا يمكن أن تقضي الليل في الطرقات، فاستسلمت لهما و نهضت تذهب مع ابنتها.. لم تمر لحظات من تحركهم قاصدين السيارة، و التفتوا ثلاثتهم لصوت رجل غليظ يصرخ بإسمها
” رايـحة فيــــن يا ثريـــة ”
تسمرت ثرية مكانها بخوف شديد و قالت بصوت مهزوز من الرعب
” خدي أبوكِ و امشي يا روان ”
تقدم حافظ أمام ابنته و طليقته ليهتف بغضب
” لم نفسك يا جدع أنت و امشي غور من هنا
رد الآخر بسخرية و غضب وهو يوزع بصره على حافظ و ثرية
” آه.. هي الـ**** ما صدقت إني كرشتها و جاية تشتكيلك !… عايزه ترجعي لطليقك يا ثرية !
لم يستطيع حافظ تمالك نفسه من سب الرجل لطليقته بهذا اللفظ المهين، و تشابك معه ليقوم بضربه.. مما صرخت روان ووالدتها و اجتمع الناس حولهم يشاهدون دون تدخل..أخرج “أشرف” زوج “ثرية” سكينًا حادًا، ثم طعن بها حافظ فسال الدم من جسده و خرّ ساقطًا على الأرض لا يقوى على الحراك، مما أخرج معظم الناس هواتفهم يصورون ما يحدث و البعض الآخر منهم من هرب خائفًا و منهم من ظل يشاهد في صمت خائفون أن يتدخلوا؛ فيصيبهم ما أصاب حافظ.. صرخت روان بفزع على والدها و نزلت على ركبتيها تنادي عليه بجنون؛ لئلا يفقد الوعي.. ثم نظرت للناس تتوسلهم أن يفعلوا شيء، فطلب أحد الواقفين سيارة الاسعاف.. بينما أشرف ركض وراء ثرية يتوعدها بالقتل، فحاولت ثرية الهرب من أمامه ولكنه كان أسرع منها فلحق بها و طعنها من الخلف طعنة جعلتها لا تستطيع المقاومة، ظلت تصرخ ليغيثها أحد و لكن لا حياة لمن تنادي.. انتبهت روان لوقوع أمها بين يدي ذلك المجنون زوجها.. و في الحال ركضت للدفاع عنها وهي لا ترى أمامها من كثرة البكاء، و قبل أن تصل إليها، أمسك أ”شرف”برقبة ثرية و نحرها على الفور، ذبحها كما تُذبح الأضحية دون رحمة.. قاومت ثرية لثوانِ، حتى وصلت صوت حشرجة روح والدتها لآذان روان التي وقفت تطالع المشهد بعينان متسعة على مصراعيها من الذهول، و الصدمة، و الرعب من هول المنظر.. انفجرت الدماء من عنق ثرية كالنافورة، و حاول أشرف الهرب، و لكنه وقع في قبضة الشُرطة قبل الفرار.
_______________♡
“وما الحبّ إلا أن تختلف وتغضب وأنت آمِن من الفراق”
********
اتجهت رُميساء برفقة كريم للداخل بعد وقوفهم في حديقة الفيلا الواسعة لدقائق سويًا.. قالت باصرار طفولي
” يعني مش هتقولي مين دي ؟ ”
ضحك كريم و حك ذقنه النابت، ليقول بمشاكسة
“مصممة يعني ؟ ”
قالت بعفوية نابعة من قلبها
” أصل بصراحة شكلها حلو أوي.. و..
قاطعها و هو يقطع عنها الطريق بجسده الرياضي واضعًا يديه في جيبه، ناظرًا في عينيها بقوة و بحُب قال
” هي مش حلوة ولا حاجة.. عيونك الحلوين هما اللي بيشوفوا كل حاجة حلوة.. بجد أنتِ لازم تداري عيونك.. عشان من ساعة ما شوفتهم و أنا اكتشفت إن ليا نقاط ضعف”
أخفضت رأسها بخجل للحظات، ثم رفعتها و قالت ممازحة
” اومال لو كانت عيني ملونة كنت قولت ايه ! ”
لوى شفتيه بلا مبالاة وهز كتفيه قائلًا
“و لا حاجة.. شوفي رغم إن عيني لونها رصاصي واللون ده نادر و كتير بيقولوا عنيك حلوة.. بس مبحبهاش.. أنا مبحبش العيون الملونة.. و لا عمري التفت لعيون بنت.. بس أنتِ رسمة عيونك حاجة تانية.. غزال واقف قدامي..
تابع غامزًا بضحك
” يا غزالة كريم يا حلو أنت ”
تحرك بؤبؤ عينيها إلى الأسفل يمينًا مع ابتسامة خجولة أخفاها النقاب، دلالة على سعادتها الشديدة، و ضربت بضوابط الخطبة عرض الحائط.. من الطبيعي و المعتاد أن يضعف الإنسان أمام من يحب أحيانًا، حتى ولو كان ذو إيمان قوي، فنحن بشر لسنا معصومين من الخطأ، و أكثر المواقف التي تضعف فيها هي عند سماعك للكلام الرقيق العاطفي ممن تُحب، خاصة لو كنت جديدًا في الارتباط، و لأن رُميساء لم تسمع هذا الكلام من أي أحد من قبل، لم تستطيع من نفسها من اظهار الفرحة بسماعه، و رغبتها في أن تسمعه مرارًا.
أما كريم أحب رُميساء من كل قلبه، حبًا صادقًا قويًا يخلو من أي مشاعر مزيفة، أحس معها كأنه وُلد من جديد، و برغم شخصيته القوية و ملامحه الصارمة، لكنه يضعف عند رؤيتها أو سماع صوتها، الوحيدة التي استطاعت جعل الليث قطًا أليفًا.
من توتر رُميساء و خجلها، نظرت في هاتفها لا اراديًا فلاحظت أن روان اتصلت بها عدة مرات.. و وجدت رسالة منها تقول أن النتيجة ظهرت، كان ذلك قبل أن تدخل روان على الموقع و تعرفها.. دق قلب رُميساء بعنف و ازداد التوتر و الخوف عندها، حتى كريم لاحظ ذلك من عينيها الحائرة فتساءل
” في حاجة و لا إيه ؟ ”
قالت باضطراب
” النتيجة ظهرت ”
رد عليها بلُطف و هو يأخذ هاتفها
” طيب اهدي كده متقلقيش.. أنا هشوفهالك ”
سحبت منه الهاتف سريعًا قائلة برهبة انتابتها
” لأ.. أنا خايفة.. الفيزياء محلتش فيها كويس”
” فراشتي.. اهدي ممكن !.. مش الفيزياء اللي تخلينا نعيط.. دي أتفه مادة ”
هتفت مستنكرة من قوله
” أتفه مادة ازاي.. ده بسبب تفاحة الناس مش مرتاحة ”
ضحك وهو يسحب منها الهاتف ثانيةً ليقول
” اديكِ قلتِ.. تفاحة.. يعني مش تفاحة تهزك.. ! انشفي كده في ايه.. ده أنتِ هتتجوزي ظابط ”
زفرت بضيق و بتوتر قالت
” أنا بجد يا كريم محلتش كويس في الفيزياء ”
” ولا تزعلي نفسك يا روحي.. متعوضة في الملاحق ”
رمقته بدهشة ثم سحبت الهاتف بقوة و هتفت بغيظ و هي تذهب من أمامه
” هات التليفون يا كريم.. ده بدل ما تطمني بتخوفني أكتر ! ”
اعترض طريقها ليسحب الهاتف ثانيةً، قائلًا بمرح
” يهود الدفعة مش بيسقطوا.. اهدي بقى خلينا نشوف طلعتي الكام على الجمهورية ”
وقفت مستسلمة تدعو الله في صمت، بعد أن أخبرته برقم جلوسها، و فتح كريم الموقع ثم أدخل الرقم لتظهر النتيجة بعد ثوانِ.
” رُميساء مصطفى صديق.. علمي علوم.. ٩١,٣ ٪ ”
اتسعت ابتسامة كريم الجميلة، بينما رُميساء كانت تراقبه في ارتباك و قلق، لتتساءل بفضول حين رأته يبتسم
” نجحت ؟ ”
” نجحتِ في خطف قلبي ”
قالها بابتسامة لعوب و لهجة مرحة، فقالت بعيون أدمعت على الفور
” مش وقته بالله عليك.. أنا نجحت ؟ ”
قال وهو يضع الهاتف أمام عينيها
” مش بقولك من يهود الدفعة ”
تحولت ملامحها من الخوف للحزن، عندما وجدت نسبتها المئوية ضعيفة.. قالت بحسرة
” ٩١ ٪ !.. يعني و لا حاجة ”
” ٩١ ٪ يعني أنتِ من المتفوقين بس التصحيح ظلمك ”
قالها قاصدًا التخفيف عنها.. قالت وهي على وشك البكاء
” أنا كنت حاطة كل أملي في كلية من كليات القمة.. دلوقتي أنا مش هلحق أي حاجة.. ٩١ ٪ دول يا كريم في العلمي ولا حاجة.. بابا و ماما ميستاهلوش إني أكسر بخاطرهم.. أنا لو عليا فأنا راضية الحمدلله.. بس خايفة أوي من ردة فعل أهلي”
رد كريم بتفهم محاولًا تهدئتها
” أنا متأكد أنهم هيفتخروا بيكِ لما يعرفوا.. أنتِ جبتي المجموع ده بمجهودك في الوقت اللي معظم الطلبة بتغش فيه.. ده نصيبك من المجهود.. الحمدلله أنه مضاعش.. في كتير يا حبيبتي متفوقين و بينظلموا في التصحيح.. مجامعيهم أقل من مستوى الطالب الفاشل.. فنقول الحمدلله و نفرح بنتيجتنا.. و بعدين الثانوية مش آخر الدنيا.. و مش شرط تدخلي كلية قمة عشان تبقي ناجحة و الناس تبصلك بفخر.. تغور الناس المهم أنتِ.. ممكن ربنا يحطك في كلية عادية و تلاقي نفسك و راحتك فيها.. و ممكن تبقي في كلية قمة و متنجحيش فيها.. اللي يجيبه ربنا خير.. و لازم الأهل يفهموا كده.. إن ربنا ما بيعملش للبني آدم غير الصح و المناسب ليه.. فأوعي المح الحُزن في عيون الغزلان دي.. ماشي يا غزالة كريم ؟ ”
أومأت في صمت، فقد طمأنها كلامه قليلًا، و لكنها ما تزال حزينة.. قامت بالاتصال على روان لترى ماذا فعلت هي الأخرى.
جاءها الرد من زوجة والدها
” ازيك يا رُميساء عاملة ايه ؟ ”
” الحمدلله ازيك يا طنط.. هي روان فين ؟ ”
” روان راحت مشوار مع أبوها و نست التليفون ”
” طب متعرفيش هي عملت ايه في النتيجة ؟ ”
” ما شاء الله جابت ٩٥ ٪ و كانت طايرة من الفرحة.. أنتِ عملتي ايه ؟ ”
” الحمدلله.. اما تيجي خليها تكلمني ”
” ماشي يا حبيبتي.. مع السلامة ”
أغلقت رُميساء المكالمة وقد تغيرت تعابير وجهها للسعادة، و ظهر ذلك في عينيها التي لاحظها كريم و تساءل عن سبب فرحتها، فقالت بسعادة
” روان صحبتي جابت ٩٥.. الحمدالله.. أخيرًا حصلت حاجة فرحتها.. أنا فرحنالها أوي.. هي تستاهلها والله.. ربنا يحققلها حلمها و تفتح الحضانة اللي نفسها فيها ”
” للدرجة دي بتحبيها ؟ ”
ردت بمشاعر صادقة
” روان بحسها جزء من روحي.. أختي اللي مقدرش اشوفها زعلانة.. طيبة لأبعد حد.. يعني من كُتر منا ببقى مرتاحة لما اتكلم معاها بقت هي فرع أساسي من شجرة العيلة.
_____
في شقة راقية نوعًا ما، اجتمع رفقاء كارمن على طاولة متوسطة الحجم وُضع عليها مختلف زجاجات الخمر وبعض الألعاب المُسلية.. بالقرب منها يتسطح” آراش “على الأريكة بتعب شديد من ضرب قُصي له.. ليقول بألم
” لن يمر الأمر ببساطة.. سأمزقه و ألقي بجثته للكلاب ”
رمقته كارمن بغيظ منه و صاحت غاضبة
” اصمت آراش.. بسببك سنذهب جميعًا للجحيم.. قُصي الخياط ليس شابًا ساذجًا كما اعتقدنا.. لقد وقعنا مع أكثر رجال عائلة الخياط داهية.. ”
سألها واحد من الجالسين
“قلت لكِ منذ أن رأيته في ذلك المقهى.. أن هذا الشاب ليس عاديًا.. نظرات عينيه تدل على شدة ذكائه..”
تساءلت كارمن بحيرة وهي تشعل السجائر بتوتر
” ماذا سنفعل الآن.. لقد حاصرنا أزرق العينان ”
رد آراش وهو لا زال يتألم
” سنقتله ”
قال صديق لهم بسخرية
” أنت تخرس خالص.. بعد اللي عمله فيك احنا منقدرش ناخد خطوة واحد قدام.. لازم نتخلص من الشريحة اللي في ضهرك دي عشان هو دلوقت قاعد حاطط رجل على رجل وعارف كل خطوة بنخطيها ”
في تلك اللحظات رن الجرس، ففتحت كارمن ثم ابتسمت للزائر ابتسامة صفراء قائلة
” أخيرًا جيتي.. محبتش أرسم الخطة الجاية غير لما تبقي موجودة معانا ”
جلست واضعة قدم فوق الأخرى بغرور و قالت
” سوري يا قلبي على التأخير.. كنت بخطط لحاجة أهم ”
” و ايه الأهم من إننا نرجع حقنا اللي نهبوه عيلة الخياط ”
” إحنا مش هنرجع حقنا وبس.. إحنا هننهي دولة كاملة ”
تساءلت كارمن بعدم فهم
” قصدك ايه ؟ ”
ردت الأخرى بمكر
“تفتكري لما يبقى ظابط في المخابرات المصرية يسرب معلومات عن دولته و جيشه لدولة تانية.. و الدولة التانية دي مستنية ولو معلومة واحدة بس عشان تقدر تهجم وهي مطمنة.. و إحنا اللي هنكون الطرف الوسيط.. يعني لو اللي بخططله حصل بالملي.. هنتنقل نقلة تانية خالص”
زفرت كارمن بضيق قائلة
” رودينا.. أنا بجد مش فاهمة أنتِ تقصدي إيه و عاوزه توصلي لإيه..”
” بعدين تفهمي.. احكيلي بقى.. مين قُصي الخياط ده ؟ ”
_____________♡
لا تستمر الحياة إلا بالتجاوزات، تجاوز حزنك ندمك هزيمتك علاقات أرهقت روحك، يجب أن تجدد الشعور الذي بداخلك دائمًا.
*******
“عائش.. اتفضلي.. ميه ”
توقفت عن البكاء فور أن سمعته يُناديها عائش.. ذلك الإسم الذي يخص بدر الشباب فقط !
رفعت رأسها لتطالعه بدهشة من مناداته لها بهذا الإسم الخاص بحبيبها.. رفعت رأسها لتزداد دهشتها التي تحولت لصدمة، لم يكن ذلك سوى بدر.. بدر الذي ناداها “عائش” منذ ثوانِ !
مع التوتر و الاجهاد، و قلة النوم و التفكير الدائم في فراقها لبدر، بعد أن تعلقت به و أحبته بشدة.. أصبحت ترى وجهه في الأشخاص من حولها، و لأن رحيم في مثل طول بدر و استعمل اللقب الخاص بها، و الذي يناديها به بدر دائمًا، صور لها خيالها أن هذا الماثل أمامها هو بدر الشباب، لقد عاد حبيبها من أجلها.. هكذا ترجم لها العقل بعد أن جعل حدسها يصدق تواجد بدر أمامها الآن.
منذ أسبوع، اشترت عائشة دواء مضاد للاكتئاب من دون علم جدتها؛ ليحد من اكتئابها، و يساعدها على التعايش مع حقيقة فراقها عن بدر..
أثر هذا الدواء بالسلب عليها، فأصابها بالهلوسة، و الهلوسة بشكل عام.. هي عبارة عن المرور بتجربة حسية تبدو و كأنها حقيقة ناتجة عن صنع الدماغ لها، حيث ثؤثر على واحدة أو أكثر من الحواس الخمسة، و تنشأ بسبب أمراض عقلية، أو أمراض جسدية، أو تناول بعض الأدوية، أو الإدمان. تتضمن الهلوسة البصرية رؤية أشياء، أو أشخاص، أو أنماط مرئية، أو أضواء غير موجودة.. مثل ما تخيلت عائشة أن رحيم هو
” بدر ”
و بسبب سوء حالتها المزاجية، و التوتر النفسي و العصبي الذي تمر به.. ظلت للحظات تطالع رحيم بابتسامة مشتاقة، و همست باكية
” ليه سبتني بعد ما علقتني بيك يا بدر !
هانت عليك عائش ؟ هان عليك فراقها ؟ ”
لم يدرِ رحيم ماذا يفعل، فجلس بجانبها و قال بهدوء
” عائشة.. أنا رحيم.. مين بدر ده.. أنتِ كويسة ؟
تأملته جيدًا، ثم اتسعت عينيها بذهول و دهشة بعد دقائق من الاستيعاب، لتهب واقفة بعصبية شديدة و صاحت في وجهه
” أنت ميـن ؟؟؟
نهض ليقف أمامها بعد أن لاحظ أعين الجميع تحيط بهما، فصوتها كان عاليًا و المشفى لا يجب الصراخ بها؛ احترامًا لراحة المرضى.. قال محاولًا تهدئتها
” أنا رحيم.. جاركم..
استوعبت أخيرًا حجم الكارثة التي تفوهت بها.. قالت وهي تنظر له بأعين يتطاير منها الشرر
“أنت نادتني عائش ؟؟!”
أومأ بعفوية، فأخذت كوب الماء و سكبته كله بقسوة في وجهه وهي تصيح بجنون
” الإسم ده يخص بدر بس.. فــــاهم.. حسك عينك أسمعك تناديني بيه تاني.. هقطعلك لسانك ”
مسح الماء من على وجهه، وهو ينظر لنفسه المبللة و ينظر لها بصدمة مما فعلته.. تحولت ملامحه للغضب هو الآخر متناسيًا أنهما في مكان خاص
” أنتِ شكلك طلعتِ مجنونة.. المرة الأولى أنا عديتها بمزاجي.. لكن المرة دي.. لأ.. انسي ”
لم تتردد في دفعه بكلتا يديها بقوة في صدره وهي تتابع صياحها الغاضب
” هتعمل ايــه يعني.. هـــا.. هتعمــــل ايـه..
قبض على معصم يدها بقوة، و قال ببرود
” أنا عمري ما ممديت ايدي على بنت.. بس شكلي هضطر أمدها
سحبت يدها منه بقوة، و أخذت تبحث بعينيها عن أي شيء تكسره على رأسه.. تدخلت احدى الممرضات لتقول بعصبية
” لو سمحتِ يا أستاذة.. إحنا في مستشفى.. احترمي المكان اللي أنتِ فيه
” خليكِ في حالك أنتِ ”
قالتها عائشة بنرفزة، ثم نظرت لرحيم بقرف و قامت بسبه لتمشي من جانبه متجهة للخارج، أما هو اتسعت عينيه بدهشة و رغم عنه ضحك ليقول بعدم تصديق
” أنا يتقالي يا *** !!!
خرجت عائشة من المشفى، و انفجرت في البكاء بصوت عالي وهي تمشي بقلة حيلة و ضعف تجاه البحر، الذي كان قريبًا من سور المشفى.. خرج رحيم وراءها؛ خوفًا عليها.. وجدها تقف عند حافة البحر و تنظر للأسفل بانكسار.. قرر تركها مع نفسها قليلًا ووقف يراقبها بصمت متسائلًا في نفسه
” مين بدر ده ؟ ”
ظلت عائشة تبكي و تبكي بكثرة و بمرارة، تشعر أن وجودها في هذه الحياة لم يعد مهمًا، تمنت لو أن رحيم هو بدر بالفعل و أنها لم تتخيل، لكانت الآن تتشبث بأحضانه تحكي له عن قسوة العالم، و لكن في الواقع هو بعيدًا عنها، وهي الآن وحيدة.. جدتها تلقت ضربة على رأسها لا تعرف من فعل ذلك، و ابن خالها لا زال في السجن، و بدر تركها و لم يعد يهتم لأمرها و لا يسأل عليها، ربما لم يحبها بالأساس و تزوجها فقد لتنفيذ وصية عمه، لكنه ملّ منها سريعًا.
ظلت تبكي وهي تتذكر معاملة أهلها لها بقسوة، و نشأتها بدون أم، و بُعد والدها عنها، و خداع أصدقائها لها.. حامت حولها الذكريات السوداء وهي مستمرة في البكاء تشهق بقوة، لقد كانت كل جراحها الداخلية من أقرب الناس لها، و هذا أسوأ ما في الأمر.
انعدمت الرؤية أمامها، و أصابها الدوار فأخذت تتمايل حتى سقطت في البحر.. صاح الناس و اجتمعوا عند حافة البحر، و ركض رحيم سريعًا بعد أن انتبه لسقوطها؛ ليقفز دون تردد وراءها.. نجح في سحبها من قاع البحر بعد أن غرقت للحظات.. حملها و خرج بها وهي على ذراعيه فاقدة الوعي.. كانت الملابس ملتصقة بجسدها من المياة، فتقدم أحد الواقفين و أعطى لرحيم سترة غطا بها عائشة، ليخفي تفاصيل جسدها عن أعين الناس.. ثم وضعها على الأرض برفق على سطح صلب ومستوي، و تفقد نبضها.. ليطمئن أنه موجودًا، ليبدء عملية الانعاش القلبي الرئوي بالتنفس الصناعي طريق الفم..
قام رحيم بإمالة رأس عائشة برفق للخلف قليلًا، و رفع ذقنها لضمان فتح المجاري التنفسية، ثم أغلق
فتحتي الأنف بالضغط عليهما بواسطة الإبهام والسبابة.. ليبدء عملية وضع الفم على الفم ومن ثم إحاطته بكلتا اليدين لإحكام إغلاقه.
قام بالنفخ في فمها مرة واحدة لمدة ثانية بإعطاء نفس ثابت وقوي بما يكفي لرفع صدرها، و عينيه تنصب تركيزها على صدرها لملاحظة ارتفاعه.. و في حال ارتفاعه، يقوم بإعطاء النفس الثاني، ثم
الاستماع لتنفسها، و بعد دقائق شهقت عائشة و أخرجت القليل من الماء من فمها بعد أن عادت لوضعها الطبيعي.. كانوا الناس يشاهدون ما يحدث منهم من يدعو الله أن تستعيد وعيها ومنهم من يراقب رحيم وهو يقوم بعملية التنفس الصناعي بمهارة.
عندما استعادت عائشة وعيها، أخفاها رحيم في صدره، ثم حملها عائدًا بها للمشفى.. كانت ترتعد من شدة البرد رغم أنهم في فصل الصيف.. أنزلها رحيم على أحد الفرائش تتبعه إحدى الممرضات، ثم دثرها جيدًا وهو يقول
” الحمدلله عدت على خير.. اهدي متخافيش أنا جنبك.. هتبقي كويسة ”
تساءلت الممرضة
” هو حضرتك تقربلها ايه ؟ ”
نظر لعائشة التي كانت تتمسك بالغطاء جيدًا وتلف نفسها به باحكام ليشعرها بالدفء.. قال وهو لا زال يصوب نظره عليها
” مراتي ”
“طب ياريت تجبلها لبس عشان زي ما أنت شايف كده لبسها كله مبلول”
أومأ ليلقي نظرة أخيرة عليها قبل أن يتركها ويذهب لاحضار ملابس لهما، فهو أيضًا بلل ملابسه بالكامل.
_____

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى