رواية قلوب حائرة الفصل الرابع والثمانون 84 بقلم روز أمين
رواية قلوب حائرة البارت الرابع والثمانون
رواية قلوب حائرة الجزء الرابع والثمانون
رواية قلوب حائرة الحلقة الرابعة والثمانون
🦋 الفصل الثالث والأربعون 🦋
كمْ هوَ مُؤْلمٌ مُؤْذِي شُعورَ الحبيبِ من الحبيبِ بالإهانةِ،حقاً مذَاقهُ مُرٌّ كالعلقمِ،وماذا لو أتاكَ الخذلانِ من المُتَيَّمِ،كم أنهُ لشعورٍ مُوجعٍ حين يؤْلمُك ولا يَعِي حجمُ ما فعلَ بكَ من إنهياراتٍ عَصَفتْ بكلِّ ما كان يُشعرُك بالسلامِ الدَّاخِلِي والسكونِ اللذانِ كانا يجتاحَا عالمُكَ في حضرتِه
خواطر مليكة عثمان
بقلمي روز أمين
قطب ياسين جبينهُ مستغرباً حِدة والدهُ،هو أكيداً من أنهُ لم يفعل شئ يُغضبهُ لهذا الحد!
إذاً لما كل تلك الثورة العارمة وما سببها يا تُري؟!
ضيق عيناه مستغرباً ثورته والتي يجهل سببها فصاح عز مؤبخاً إياه بلهجة حادّة:
-فاكر نفسك كِبرت عليا يا أبن منال
برجاحة تحدث إلي أبيه موقراً إياه:
-إهدي يا باشا أرجوك وفهمني إيه اللي مزعل جنابك مني بالشكل ده؟
رمقهُ بعيناي غاضبة كحدة الصقر ثم هتف متسائلاً بسخط:
-يعني مش عارف بجد يا سيادة العميد؟
ولا بقيت معتمد علي إن أبوك بقي راجل مُغفل وقاعد في البيت مش داري باللي بيحصل حواليه؟
بنظراتٍ حائرة تائهة كان يتطلع علي ثورة أبيه ولأول مرة لا يُدرك مقصد والدهُ،بفطانته فهم الآخر عدم إدراك نجلهُ فاراد كشف غايته واردف بايضاحٍ متهكم:
-إلا قول لي يا ياسين بيه،إيه حكاية العريس اللي متقدم لـ سيلا ده؟!
الآن وفقط إستوعب إنفعال والدهُ وغضبه العارم،أخذ نفساً عميقاً وبمنتهي الهدوء زفره إستعداداً لمجابهة ذاك الفطن،وقبل أن يبدأ مواجهتهُ الشرسة مع خصمهِ الجبار الذي لا يُستهان به،أراد أن يستعلم عن من قام بإبلاغ أبيه وقام بالوقيعةِ بينهما وتسبب بإغضاب غاليه منه إلي هذا الحد
فتسائل مستفسراً بهدوء:
-ممكن أعرف مين اللي بلغ حضرتك بالموضوع ده يا باشا؟!
بفطانة أراد أن يغلق عليه هذا الطريق فقرر اللعب مع ذاك الداهي بدهاءٍ أقوي،جحظت عيناه بتصنُع وصاح بنبرة حادة أربكت الآخر وجعلته يلتهي ويُصبح شُغلهُ الشاغل هو إرضاء غاليه وفقط:
-هو ده كُل اللي لفت نظرك من كلامي يا بيه؟!
إنزعج حين رأي استياء والدهُ وعلي عُجالة أردف بايضاح:
-إهدي يا باشا أرجوك وانا هوضح لجنابك كُل حاجة
بغضبٍ عارم صاح قائلاً:
-هتوضح لي بعد إيه وتنيل لي يا باشا،بعد ما حسستني إني ماليش أي لزمة في حياتك ولا ليا الحق في إني أشاركك في مناقشة موضوع مصيري بيخص مستقبل حفيدتي؟
بنبرة هادئة ونظرات أسفة تحدث بإبانة:
-الموضوع مش كدة خالص يا باشا،أنا هحكي لك اللي حصل كله ومتأكد من إن سعادتك هتقدر تفهمني
رمقهُ عز بنظرات حادة قابلها ياسين بأخري مستعطفة وترجاه بأن يجلس وأن يستدعي هدوئهُ كي يستطيع إيضاح الأمر له،بالفعل تحرك عز إلي الأريكة المتواجدة بمنتصف الحُجرة وتجاورا الجلوس وبدأ ياسين بسرد جُل ما حدث بالتفصيل،بدءاً من ملاحظتهُ لنظرات الهلع علي الحبيب التي تبادلها كُلاً من العاشقان أثناء وقوع حادثة الإغتيال مروراً بلهفة كارم وسؤالهُ المتشوق علي أيسل بعد إفاقتهُ وخروجهُ من غرفة العمليات مباشرةً وصولاً إلي طلبهِ المباشر بالزواج من إبنته
تنهد عز بعدما هدأ بفضل إستعطاف ياسين وإلحاحهُ علي مسامحة والدهُ له علي هذا الخطأ العظيم الغير مقصود،أردف عز متسائلاً إياه بتعجُب:
-أنا مش قادر أفهم ولا أستوعب سبب رفضك للموضوع،المفروض إنك أكتر واحد عارف ومقدر اللي هما فيه،وواجب عليك إنك تحاول تساعدهم مش تحاربهم وتقتل إحساسهم؟!
ده انتَ أكتر حد إتوجع من بُعد حبيبه عنه يا ياسين…نطقها بعيناي متألمة لمست قلب الأخر الذي أردف باقناع جاد:
-وعلشان أنا زي ما حضرتك بتقول كدة،مش عاوز بنتي تتوجع زيي ولا تدوق المُر اللي أنا دوقته
وبعيناي متألمة أكمل مسترسلاً بذعر أب يخشي جرح صغيرتهُ:
-مش حابب أشوفها بتنطفي قدام عيوني
قطب جبينهُ بعدم استيعاب لحديثهُ الغامض وتسائل مستفسراً:
-وهي إيه اللي هيطفيها لما تتجوز اللي بتحبه؟!
بصوتٍ صارخ متألماً أردف بتأكيد:
-مش هتتجوزه يا بابا،كارم مش هيقبل بتجوز أيسل وهيرفضها زي ما حصل مع خطيبته الأولي
ضيق عز عيناه غير مُدركٍ حديث نجلهُ فاسترسل الأخر شارحاً:
-أيسل وكارم زي الليل والنهار عمرهم في يوم ما هيتقابلوا
واستطرد مادحاً:
-كارم شخصية ناضجة وقوية وحازم في قراراته وقد المسؤلية بجد،وما بيقبلش غير بالكمال في حياته،راجل بجد وتربية أبوه
أرجع ظهرهُ للخلف ثم استطرد بنبرة مهمومة:
-وأيسل زي ما حضرتك عارف،رقيقة ومتدلعة،مش واخدة علي تحمل المسؤلية وأكتر حاجة بتكرهها هي إن حد يفرض رأيه عليها أو يوجهها،وكارم راجل عسكري حاسم واخد علي الأوامر والطاعة،الدنيا عنده لونين ما فيش غيرهم،أبيض وإسود،واللون الرمادي مالهوش أي وجود في حياته
بنبرة هادئة تحدث بحصافة:
-خلاص محلولة،خليهم هما اللي يقرروا ده بنفسهم ويعرفوا إنهم مش هيقدروا يكملوا ويسيبوا بعض بإرادتهم
واسترسل بايضاح:
-بدل ما يعيشوا عمرهم كله يحملوك ذنب بعدهم عن بعض
إتسعت عيناه وبدا علي ملامحهِ الهلع من مجرد تخيُلهُ للفكرة:
-عاوزني أجازف بقلب بنتي وادخلها تجربة وأنا متأكد من فشلها؟!
عقب متسائلاً بتعجُب:
-وإنتَ إيه اللي مخليك واثق قوي كدة من فشل قصتهم؟!
مش يمكن يكونوا بيحبوا بعض بجد وتكون بقرارك المُتعسف برفضه بتقضي علي قلوبهم؟
عقب بتأكيد:
-أنا متأكد من إن أيسل ما بتحبهوش
إبتسامة ساخرة خرجت من جانب فمه وتحدث بما أشعل روح ذاك الغيور:
-طب إيه رأيك إن بنتك بذات نفسها اللي طلبت إني أتدخل وأتوسط له عندك علشان توافق علي الخطوبة
بمداعبة استطرد بإبانة:
-بنتك بتحب يا باشا،الواد قدر في وقت قصير يوصل لقلبها ويملكه لدرجة إنها تخرج عن المألوف وتتخلي عن خجلها وتلجئ للي يتوسط له عندنا
إشتعل قلبهُ بنار الغيرة علي صغيرتهُ جراء حديث والدهُ ثم جحظت عيناه وتحدث وهو يجزُ علي أنيابهِ:
-حضرتك متأكد من الكلام ده يا باشا؟
أيسل فعلاً جت لها الجُرأة وأتكلمت في الموضوع ده؟
أرجع عز رأسهُ للخلف وأنطلق مُقهقها وهو يتطلع علي وجه إبنهِ المحتقن بنار الغيرة،أما ياسين فكان ينظر عليه بغيظ،حاول كظم ضحكاته قدر الإمكان كي لا يثير حفيظتهُ،وبصعوبة أردف مستفسراً بعدما استطاع بالأخير السيطرة علي حالة :
-هو الباشا غيران علي بنته ولا إيه؟
بعيناي متأثرة أردف مترجياً:
-يا باشا حاول تفهم وتقدر خوفي علي بنتي،أيسل لسة صُغيرة
بنبرة متعجبة صاح عز بابانة:
-يادي صُغيرة اللي إنتَ ماسك لنا فيها دي كمان، بنتك داخلة علي إتنين وعشرين سنة يا ياسين،يعني بقت أنثي مكتملة وتقدر تختار بعقلها قبل قلبها الإنسان اللي هي شيفاه مناسب علشان تكمل معاه حياتها
نظرة إنهزامية سكنت عين ياسين لمحها عز فأمسك كفهُ وتحدث بحصَافة لإزالة ألمهُ وتشتت عقله:
-أنا فاهم خوفك وقلقك علي بنتك لأني مريت بنفس إحساسك لما حسام إتقدم لشيرين أختك،إحساس صعب أنا عارف،بس هي دي سُنة الحياة ولازم نتبعها
بنبرة خافتة أردف بانهزامية مما جعل قلب عز يتوجع لأجل صغيرهُ:
-حضرتك ليه مش قادر تفهمني؟،سيلا لسة ما استقرتش نفسياً يا بابا وده اللي راعبني
شدد من مسكة يداه واردف بابتسامة حنون مؤازراً صغيرهُ الأقرب إلي قلبه:
-مين بس اللي قال لك الكلام ده يا حبيبي،صدقني يا ابني كُل دي هواجس جواك مش أكتر
واستطرد موضحاً برصانة:
-ما تغالطش نفسك يا ياسين،بنتك معنوياتها مؤخراً بقت مرتفعة وفي السما،وكلنا ملاحظين رجوع سيلا بتاعت زمان
واستطرد موصياً إياه بتعقُل:
-روح أقعد مع الدكتور بتاع بنتك وأتكلم معاه، وأفهم منه قبل ما تخاف وتحكم علي بنتك وتظلمها
واسترسل بإرشادٍ بنبرة حنون:
-خليك سند لبنتك وروح أقعد معاها،خدها في حُضنك وأسألها وأفهمها يا ياسين وما تنساش إنها فقدت أمها،يعني سيادتك لازم تقوم معاها بدور الأب والأم مع بعض
أغمض عيناه وبات يهز رأسهُ تطابقاً مع رؤية حديث والدهُ العقلاني،ضيق عز عيناه بتدبر ثم أردف بدهاءٍ متبعاً سياسة الأمر الواقع كي لا يعطي الفرصة لـ نجلهُ بالتملُص:
-أطلب لي الدكتور فيديو كول حالاً علشان نكلمه ونتطمن منه علي حالة البنت
بعدين يا باشا…نطقها بعيناي مُتهربة فتحدث الأخر بإصرار واضعاً إياه تحت الإجبار:
-خير البر عاجله يا حبيبي،إتصل إتصل
كظم غيظه وبقلبٍ مستشاط أمسك هاتفهُ وقام باجراء مكالمة عبر تطبيق مكالمات الفيديو،وبدأ عز بطرح الأسئلة عليه سؤالاً يلو الآخر حتي تأكدا كلاهُما أن الفتاة أصبحت بحالة رائعة وبلا حاجة إلي زيارة الطبيب من جديد،أغلق ياسين بعدما شكر الطبيب وأثني علي مجهودهُ في المساعدة لإعادة إبنته إلي طبيعتها
إبتسامة خَبيثة ظهرت فوق ثغر ذاك الذي رفع كفاه في الهواء وتحدث بمشاكسة:
-أظن كدة إطمنت واتأكدت إنها بتحبه بجد
واستطرد بتكليف:
-كلم الرائد وقول له إنك راجعت نفسك وخليه ييجي يطلبها رسمي.
إتسعت عيناه بذهول وتحدث باعتراضٍ مُستاء:
-كلام إيه اللي بتقوله ده يا باشا؟!
حضرتك عاوزني اتصل بيه وأقوله هات أبوك وتعالي أخطب بنتي؟!
واستطرد متهكماً بنبرة حادة:
-ما أتأسف له بالمرة وأترجاه يسامحني
إتكأ عز بساعدهُ علي حافة الأريكة ثم ضيق عيناه وبات يتطلع إلي ولده مدققاً النظر داخل مقلتاه،تنفس ياسين بانهزام وازاح بصرهُ مُنسحباً بعيناه ثم تحدث مُتهرباً:
-لو بيحبها بجد هيرجع يفاتحني تاني في الموضوع،وساعتها هبقي أبلغه بموافقتي المبدئية
واستطرد بنبرة حزينة:
-السناوية بتاعت ليالي الله يرحمها بعد عشر أيام،وكدة كدة مكانش هينفع نعمل خطوبة اوي اي حاجة قبل مرور سنة علي وفاة أمها
تنهد عز ثم تحدث مستفسراً كي يطمئن عليه:
-مالك يا ياسين،فيه حاجة تانية مضايقاك غير موضوع سيلا؟
أخرج من صدرهِ تنهيدة حارة أوحت إلي كم الهموم التي يحملها داخل صدره،ثم نظر إلي أبيه وكأنهُ كان ينتظر سؤالهُ كي يُخرج ما يضيقُ به صدره علهُ يشعُر ولو ببعضاً من الراحة:
-إتخانقت أنا ومليكة بسبب أيسل وقولت لها كلام ما كانش ينفع أقوله
رفع منكبيه باستكانه وبنبرة تقطرُ ندماً تحدثَ شارحاً:
-في لحظة غباء وتهور مني خرجت فيها كُل غضبي لدرجة إني إتهمتها إن مصلحة أيسل ماتهمهاش،وإنها مجرد مرات أب لأولادي
بقلبٍ حزين كان يستمع إلي صرخات قلبه لا فقط لكلماته،تحدث بنبرة هادئة ليبث داخل روحهُ الطمأنينة:
-مليكة بنت أصول وبتحبك،وأكيد هتعذر خوفك علي أيسل
واستطرد بابانة:
-هات لها بوكية ورد شيك وروح إعتذر لها وحب علي راسها وراضيها،وهي أكيد هتسامحك
هز رأسهُ واردف بيأسٍ:
-مش قابلة مني أي كلام يا باشا وقافلة دماغها علي الآخر
واستطرد بايضاح:
-أول مرة تعاملني وتقسي عليا بالطريقة دي
واسترسل بعيناي حائرة:
-دي هددتني لو قربت منها هتسبني وتروح تنام في أوضة الأولاد
بإبتسامة ساخرة تحدث:
-بنت سالم عثمان رفعت عليك راية العصيان يا باشا،قابل بقي وأشرب يا حبيبي
سألهُ مترقباً ردهُ بتشوق:
-دبرني يا باشا،أحلها إزاي معاليك
غمز له وتحدث:
-أنا بردوا اللي هدبرك يا روميو عصرك
تنهد ثم أرجع رأسهُ سانداً إياها للوراء ثم أغمض عيناه،بسط عز يدهُ باتجاه ولدهُ وربت علي كتفه واسترسل ليبث داخلهُ السكون:
-كُل حاجة بتتحل وتتعالج مع الوقت
أحني رأسهُ بإيماءة بسيطة وهب واقفاً واستأذن والدهُ وصعد إلي الأعلى،خلع عنه ثيابهُ وحصل علي حماماً دافئاً أزال بهِ بعضاً من عناء يومه وأرقهُ وتحرك حتي وصل لتختهِ وقام بإلقاء جسدهِ المنهك عليه وبغصون عدة دقائق كان يغط في سباتٍ عميق وكأنهُ يريد الهرب بالتوغل بالنوم
❈-❈-❈
داخل الكافيتريا المتواجدة بجامعة القاهرة
جلس يحتسي قهوتهُ منتظراً حضور من أصبحت تستحوذُ علي لُبّه لتأتي إليه بعد إنتهاء محاضرتها،رأته مايان حيثُ كانت تدخل المكان بصُحبة صديقتيها لتناول بعض الشطائر الخفيفة والمشروبات الغازية،إرتجف قلبها فرحاً حين رأته جالساً حول إحدي الطاولات وعلي الفور إعتذرت من صديقتيها وهرولت منطلقة إليه،وقفت أمامهُ تتطلع عليه بنظرات ولهة لعاشقة صغيرة وتحدثت بحبورٍ:
-كارم،إيه المفاجأة الحلوة دي؟
رفع قامته ناظراً عليها وأردف بإبتسامتهُ الساحرة:
-إزيك يا مايا
أنا ببقي كويسة لما بشوفك…نطقتها بإبتسامة سعيدة وقلبٍ يتراقص مما أحزن قلب هذا الفارس الذي طالما ما رأها إلا كـ شقيقتهِ ويكن لها شعوراً طيباً بداخل قلبه
إبتسم لها بهدوء ثم أردفت هي باستئذان مُتلهفاً:
-ممكن لو ما فيهاش إزعاج أقعد معاك؟
وبرغم عدم رغبتهِ بجلوسها تجنباً لإثارة غيرة حبيبتهُ المتمردة عليه،إلا أنهُ عقب علي حديثها قائلاً بترحاب كي لا يُحزنها:
-أكيد طبعاً،إنتِ بتستأذني!
بلهفة سحبت مقعدها وجلست وأشار هو بيدهِ يستدعي النادل الذي حضر علي الفور وتحدث بإيماءة بسيطة:
-تحت أمرك يا أفندم
حول بصرهُ إليها وتحدث متسائلاً باحترام:
-تاخدي إيه يا مايا؟
وضعت سبابتها علي طرف فكها وضيقت عيناها بتفكُر ثم أردفت تُملي طلباتها إلي النادل بنبرة حماسية:
-عاوزة ساندوتش برجر بالبيض ومعاه كولا لايت
مال بعيناه في إشارة منه إلي النادل بجلب ما طلبت فاسترسلت متسائلة بدلال:
-إنتَ مش هتاكل معايا؟
أكلت وأنا جاي في الطريق…نطقها بهدوء كي لا تحزن فابتسمت وباتت تتحدث إليه بحماسة إلي أن جلب لها النادل شطيرتها وبدأت بتناولها تحت سعادتها وفتح أحاديثاً تستقطب بها إهتمام ذاك الذي يمتلكُ قلبها ودائماً ما تسعي إلي أن يمتلك هو الآخر خاصتها
دخلت تلك الحالمة من البوابة تتطلع بقلبٍ شغوف وعيناي عاشقة علي من ملك الفؤادِ وتملكَ،تسمرت بمكانها عندما وجدته يجلس بصُحبة تلك الغليظة،إستشاط داخلها وكادت أن تتحرك لتعود إلى الخارج لولا ذاك الذي لمحها وبسُرعة تحرك إليها وتحدث بنبرة حنون لعيناي هائمة:
-رايحة فين يا أيسل؟
رمقته بنظرة غاضبة ثم حولت بصرها وتحدثت وهي تحدق تلك التي تطلعت عليها بحِقد:
-مش عاوزة أكون عزول وأضيع لكم جمال اللحظة
بنظرات لائمة أردف بنبرة جادة:
-بطلي جنان وتعالي علشان أعرفك علي بنت خالتي
حدقته بحِدة فاستطرد لائماً عيناها:
-وبعدين معاكي،ما ينفعش تخرجي من غير ما تسلمي عليها
واسترسل بمشاكسة كي يُزيل ما أصابها من توتُر:
-إنتِ كدة هتبقي بتعلني عن دق طبول الحرب بينك وبين خالتي بدري،وطبعاً أمي هتاخد صف أختها وكدة البداية مش هتبقي مُبشرة،وأنا اللي هتفرم في وسطيكم
غضبت من أسلوبه الساخر المتغاضي عن غيرتها التي أشتعلت بجسدها بفضل وجودهُ مع تلك المنافسة،فتحدث هو بنبرة جادة أشبه بأمرة بعدما فقد إقناعها بالعقل:
-أدخلي سلمي علي مايا يا أيسل
كادت أن تُغادر تاركة إياه وليكن ما يكون لكنها تراجعت باللحظة الأخيرة لسببان،أهمهما هو عشقها الحقيقي لذاك الحبيب،والاخر هو رفضها لفكرة الإنسحاب والتخلي عن حقها في الحبيب أمام تلك المايان
نظرت أمامها بتحدي وتحركت بعدما إنتوت المواجهة تحت أرتياح قلب كارم الذي تحرك بجانها بهدوء،وقفا كلاهما أمام الطاولة وأشار إلي ميان وهو ينظر إلي أيسل:
-دي مايان بنت خالتي،طالبة في الفرقة التالتة وبعتبرها زي أختي الصغيرة بالظبط
نزلت كلماته الهادمة علي قلبها شطرته لنصفين وطاحت بأحلامها البريئة التي عاشت تشيدها بخيالها الحالم
نظرت إليه بعيناي حزينة تحت ارتياح قلب أيسل وهدوئها النسبي،حول بصره ناظراً علي مايان واشار بيده إلي حبيبتهُ وتحدث وهو يتناقل النظرات بين كِلتاهما:
-ودي دكتور أيسل المغربي يا مايان
تطلعت إليه منتظرة بتأمل كي تستمع بما سيُسعد قلبها ويجعلها تحوم بالهواء كـ فراشة طائرة،فاسترسل بمداعبة هادئة:
-دي بقي تبقي الهدف اللي أنا مسؤل عن حمايته
تطلعت إليه بخزلان لاحظهُ هو وتلاشاه كي لا يلفت نظر الأخري إليهما،قام بسحب مقعداً مجاوراً له وتحدث وهو يُشير لها:
-إتفضلي أقعدي يا دكتورة
نظرت عليه بعيناي لائمة بادلها بأخري مستسمحة وأشار إليها مؤكداً:
-اقعدي يا أيسل
تمالكت من حالها ثم نظرت علي تلك الجالسة وجدت علي ثغرها إبتسامة شامتة مما أثار حِنقها وحثها علي الإصرار في البقاء وعدم المغادرة،رفعت قامتها للأعلي وجلست ثم نظرت علي تلك الجالسة وتحدث بكبرياء:
-أهلاً
أهلاً بيكِ…نطقتها وهي تقذفها بنظرات حارقة مما أثار حفيظة الأخري وجعلها تبادلها إياها بنظراتٍ فتاكة جعلت ذاك الذي يتوسطهما يبتلع لعابهُ طالباً العون من الله والنجاة سالماً من ما هو آتْ
تحدث كارم كي يكسر حاجز الصمت الذي أصاب الجميع:
-هتشربي إيه يا دكتورة؟
ميرسي…نطقتها بغلاظة أثارت حفيظته لكنهُ عذرها وتحدث بإصرار:
-لازم تطلبي حاجة،أنا هاخد ليمون فريش بالنعناع
واستطرد بعيناي مستعطفة أثارت غضب مايان:
-إيه رأيك أطلب لك زيي؟
لان قلبها قليلاً واومات له بملامح وجه جادة،أشار للنادل الذي أتي واملي عليه ما يريداه ثم استطرد متسائلاً مايان التي مازالت تتناول شطيرتها:
-تحبي أطلب لك حاجة تاني يا مايا؟
بابتسامة سعيدة إستدعتها نِكَايةً في تلك الغريمة وتحدثت مدللتاً إياه تحت تعجب كارم:
-ميرسي يا كرومة
ضيق عيناه مستغرباً طريقة حديثها الجديدة عليه،أما أيسل فشعرت بناراً تسري بكامل جسدها وتقتحم قلبها بقوة أفحمته،تمنت لو أن باستطاعتها إنتشال عبوة المشروب الغازي الموضوعة فوق الطاولة وسكبها بالكامل فوق شعر رأس تلك المايان كي يهدأ فوران قلبها،لكنها سُرعان ما نفضت وأبعدت تلك الافكار الشاذة من مخيلتها
هتفت إحدي الفتيات تستدعيها كي يتحركن إلي قاعة المحاضرات كي يلحقن بمحاضرتهُن،تجهم وجهها ثم وقفت وتحدثت بابتسامة زائفة:
-كان نفسي أتعرف عليكي أكتر،لكن مضرة أتحرك علشان ألحق محاضرتي
وقبل إنصرافها استرسلت بمكرٍ قاصدة بما أحرق روح تلك العاشقة وهي تنظر إلى كارم بعيناي هائمة:
-هستناك بكرة علي الغدا يا كارم،وهعمل لك بنفسي طاجن ورق العنب بالموزة اللي بتحبه
نطقت بكلماتها التي جعلت من قلب أيسل محترق واسترسلت وهي تنظر علي الاخري بمكرٍ:
-باي
وقبل أن تتحرك أردفت ذات القلب المحترق بنبرة باردة في مبادرة منها بحرق روح تلك المايان:
-أنا شايفة إنك ما تتعبيش نفسك لأن سيادة الرائد وراه ميعاد مُهم بكرة،وما أظنش إنه هيسيبه
واستطردت بابتسامة ساخرة:
-علشان طاجن ورق العنب بتاعك
رفع أحد حاجبيه باستنكار لحديثها الغير مقبول بالنسبة له،ثم تحدث لتلك التي تعجبت من جُرأتها بالحديث متجاهلاً ما تفوهت به أيسل منذُ القليل:
-وصلي سلامي لـ خالتو وجدتي علي ما أشوفهم بكرة إن شاء
بتجاهل مماثل عقبت مايان بعيناي تشعُ سعادة:
-أكيد هبلغهم
واستطردت وهي تتطلع إلى أيسل بنظرة إنتصار:
-باي باي يا دكتورة
نظر علي تلك المحترقة وعلم من ملامح وجهها المحتقنة بالغضب أن إعصار إبنة المغربي قادماً لا مُحال،رمقته بنظراتٍ حَانِقة وبنبرة شديدة اللهجة هتفت بتبكيت:
-إنتَ إزاي يا سيادة الرائد تسمح لنفسك تهيني بالطريقة دي قدام بنت خالتك؟
رمقها بنظرات مُتعجبة جراء حديثها المنافي لما حدث:
-أنا اللي هينتك ولا أنتِ اللي خليتي شكلنا زي الزفت قدام البنت يا دكتورة؟!
واسترسل مُبكتاً إياها بنبرة حادة:
-وبعدين تعالي هِنا،إنتِ علي أي أساس بتقولي لها إني مش هروح عندهم بكرة وتحطيني وتحطي نفسك في الموقف البايخ ده؟!
رفعت قامتها للأعلي ثم نظرت عليه وتحدثت بثقة عالية لا تعلم من أين أتت بها:
-قولته علي أساس إنك فعلاً مش هتروح يا كارم
أفندم؟!…نطقها بذهول ثم استرسل مستفهماً:
-هو إنتِ بتتكلمي جد؟
وتسائل:
-ثم بغض النظر عن رفضي لتدخلك بالشكل ده، بس إنتِ عارفة أنا رايح هناك ليه؟
نظرت إليه وأردفت بكثيراً من الغيرة:
-مهما كانت الأسباب أنا من حقي أغير عليك وامنعك تروح عند واحدة بتكراش وهتموت عليك
برغم إرتياحهُ لإعلانها الصريح عن مدي وصولها في درجة عشقه وغيرتها عليه إلا أنهُ نطق بتجهم واعتراض لاستيائه من نطقها لكلمة بعينها:
-أمنعك!
وبرغم إعتراضه علي إسلوبها المستفز إلا أنهُ استطرد موضحاً بهدوء كي لا يُحزنها:
-هو أنا ما أقدرش أنكر إني إنبسطت من شعورك بالغيرة عليا واللي أكد لي إنك فعلاً بتحبيني وإني أفرق معاكى
واسترسل باعتراضٍ صارم:
-لكن مع تحفظي الشديد علي إسلوبك في الكلام وطريقة الأمر اللي بتتكلمي بيها واللي لا تناسب ولا تتنَاسب مع شخصية زيي
رفعت أحد حاجبيها بعدم إستيعاب لما نطق به،فاردفت مستفسرة:
-تقصد إيه بكلامك ده يا كارم؟
نطق موضحاً بنبرة جادة لملامح وجه صارمة:
-أقصد إن ياريت اللي حصل من شوية ده ما يتكررش تاني،لأن رد فعلي ممكن ما يعجبكيش وقتها
بنظرات جادة سألته:
-أفهم من كلامك إنك هتروح عزومة بُكرة؟
تنهد بضيق من طريقتها الحادة المرفوضة بالنسبة له شكلاً وموضوعاً وتحدث بنبرة جادة:
-هو مش المفروض أول حاجة كنتي تعمليها هو إنك تسأليني عن سبب زيارتي لبيت خالتي يا أيسل؟
صمتت واكتفت بنظراتها اللائمة له،تنهد هو وأردف مسترسلاً بايضاح كي تكتمل الصورة أمامها علها تُدرك حقيقة الأمر وتهدأ ثورتها:
-جدتي أم ماما عايشة مع خالتي في بيتها لأن جدتي تبقي عمة جوز خالتي،وهو أخدها تعيش معاه بعد وفاة جدي الله يرحمه وسفر خالي للسعودية
واسترسل بإبانة:
-وماما لازم تسافر القاهرة كل شهر مرة علشان تطمن علي جدتي وتقعد معاها يومين،وبما إن أنا اللي عايش مع ماما وإلتزاماتي أقل من إخواتي المتجوزين،فمن الطبيعي إن أنا اللي بوصلها بعربيتي،وبروح لها بعد يومين أجيبها
واسترسل بعيناي معاتبة:
-يعني أنا لا رايح علشان اتأنس وانبسط بقعدتي مع مايان،ولا هموت وأكل من إديها طاجن ورق العنب زي ما خيالك صور لك
أنا رايح أودي أمي تشوف أمها وأصل رحمي اللي ربنا أمرنا بيه يا دكتورة
واستطرد معاتباً:
-يعني ما كانش ليه أي داعي اللي عملتيه ده كله
بنبرة حزينة سألتهْ بنظرة عِتاب:
-طب ده بالنسبة للعزومة يا كارم،تقدر تقول لي ليه ما قولتش لـ بنت خالتك علي طبيعة علاقتنا وإنتَ بتقدمني ليها؟!
عقب متسائلاً باندهاش:
-اللي هي إيه طبيعة علاقتنا يا أيسل؟!
ممكن توضحي لي شكل علاقتنا الرسمية اللي كُنت هقدمك بيها لـ مايان؟
واستطرد مُستنكراً:
-ولا كُنتي عاوزاني أقول لها دي أيسل حبيبتي اللي إتقدمت لها وأبوها رفضني وحذرني من إني أقرب منها أو أحاول اتصل بيها،وكمان أعفاني من مهمة قائد الحراسة الخاصة بيها؟!
إتسعت عيناها بشدة واحتدمت ملامحها بالغضب بعدما استمعت لتهكماتهِ بالحديث علي تفكيرها واتهامها بضيق أفقها لنظرتها للأمور،فهتفت بعيناي حادة:
-الظاهر إني رخصت نفسي معاك قوي يا حضرة الرائد لدرجة إنك قاعد تتريق عليا من غير ما تراعي شعوري،بس وعد مني مش هتتكرر
ثم هبت واقفة وبدأت بلملمة أشيائها تحت غضب كارم الذي هتف بنبرة صارمة:
-إقعدي وخلينا نكمل كلامنا زي الناس وبلاش تصرفات الأطفال بتاعتك دي
واستطرد بإبانة:
-ومش معني إني بلفت نظرك لتصرف غلط عملتيه تقومي تغضبي وتقرري تنسحبي
واسترسل بايضاح:
-أنا عملت كدة علشان من الأول نفهم طباع بعض وكل واحد فينا يحاول يعرف إيه اللي بيضايق الطرف التاني،ويحاول يتجنبه علشان نقرب من بعض بطريقة صحية وصحيحة
بكبرياء عقبت:
-بس أنا مش شايفة نفسي عملت حاجة غلط،وعلي فكرة،اللي بيحب حد بيتقبله زي ما هو،مش من أولها يقعد ينتقد في تصرفاته ويطلب منه يتغير
ثم رفعت رأسها بكبرياء وحدثت ذاك الذي مازال جاساً فوق مقعدهُ ينظر لها بعيناى مترقبة لكلماتها وردات فعلها:
-ومن الآخر كدة أنا ما بتغيرش علشان حد يا سيادة الرائد
برافوا يا دكتورة،إتفضلي علشان ما تتأخريش…هكذا نطق بملامح وجه مُبهمة وبكل برود وهو يُشير لها بكف يده إلي الخارج،مما جعل جسدها يستشيطُ غضباً بعدما كانت تتأمل وقوفهُ وأعتذارهُ لها ومحاولة إرضائها التي كانت ستحدث بالتأكيد وتستكمل معه جلستها واحاديث العشاق الخاصة بهما،لكنهُ حطم أمالها،رمقتهُ بنظرة مخيبة للأمال واندفعت خارجة من المكان كالإعصار حتي وصلت إلي ضابط الحراسة ثم استقلت السيارة متجهين إلي القاهرة تاركة ذاك المشتعل من حديثها
عادت من جامعتها بقلبٍ يأنُ من شدة ألمهِ،شعرت بأن عالمها إنهار وانتهت قصة عشقها قبل أن تبدأ،صعدت إلي غُرفتها أبدلت ثيابها وباتت تبكي بمرارة حتي غفت بمكانها دون إدراك،فاقت من نومها عند الغروب،ابدلت ثيابها ثم توجهت إلي منزل رائف وصعدت إلي حُجرة مليكة بعدما هاتفت سارة وطلبت منها الإلتحاق بها،جلست تتوسط كلتاهُما فوق الأريكة وباتت من بين دموعها الغزيرة تقص عليهما كل ما دارَ بينها وبين ذاك الكارم الذي خيب أمالها
إحتضنتها سارة وتحدثت بملامح وجه متأثرة بدموع صديقتها:
-إهدي يا سيلا ما تعمليش في نفسك كدة،كارم بيحبك واكيد هيراجع نفسه ويكلمك ويعتذر لك
بقولك سابني أمشي من غير ما يقولي كلمة واحدة…نطقتها وهي تهز رأسها نافية حديث سارة ثم نظرت إلي تلك الصامتة وتحدثت مستفسرة بعدما لاحظت شرودها:
-إنتِ ساكتة ليه يا مليكة؟
قوست شفتاها وأردفت بتحفُظ:
-خايفة أقول لك رأيي في اللي حصل تزعلي مني
ضيقت عيناها باستغراب وسألتها من بين دموعها:
-وأنا إيه اللى هيزعلني منك؟!
واستطردت بعدما فقدت قدرتها علي التحمل:
-ياريت يا مليكة تتكلمي وتقولي اللي تقصديه بوضوح،أنا متوترة وأعصابي مش متحملة لا ألغاز ولا كلام غامض
قررت مواجهتها بأغلاطها حتي لو أدت تلك المصارحة إلي غضب تلك المدللة منها،بنبرة هادئة تحدثت بمكاشفة:
-بصي يا سيلا، أولاً كدة تحت اي ظروف ماكانش ينفع تكلمي الرائد كارم بالطريقة دي أبداً،كارم شخصية شديدة زيه زي ياسين بالظبط،والنوع ده من الرجالة ما بيحبوش الندية في المعاملة
واسترسلت بذكاء:
-كلمة حاضر ونعم ليهم واقع السِحر عليهم،وتقدري بيهم تملُكي قلبه وتشتري راحتك معاه العُمر كُله
واستطردت موضحة:
-الرجالة اللي من نوعية بابا وكارم ما بيقبلوش أبداً بدخول ست عندية في حياتهم،لأن ببساطة حياتهم كلها مخاطر وطول الوقت مضغوطين نفسياً
واسترسلت بإبانة:
-من حق كل واحد فيهم لما يرجع بيته يلاقي ست حنينة ومتفهمة تقدر تمتص من جواه تعب اليوم كله بحنيتها
بملامح وجه مُرتعبة نطقت بارتياب:
-تقصدي إن كارم إتأكد إني مش مناسبة ليه وخلاص كدة قرر يبعد عني؟
ضيقت عيناها وتحدثت بحصَافة:
-ما أظنش،إنه يقرر يتجوزك ويروح يطلب إيدك من بباكي معناه إنه حبك بجد،وشاف فيكِ مراته اللي هيقدر يكمل معاها باقي حياته
واستطردت بحصافة:
-ده ظابط في جهاز المخابرات يا سيلا،يعني ما بيخطيش خطوة غير وهو دارسها كويس وعارف هو رايح فين بالظبط
وافقتها سارة الرأي وسألتها الأخري بتشوق:
-طب إنصحيني وقولي لي أعمل إيه؟
رفعت منكبيها واسترسلت بهدوء:
-ولا أي حاجة،تابعي حياتك وروحي جامعتك وسيبي الأمور تمشي بطبيعتها
وافقاها الرأي وأكملن أحاديثهُن
ليلاً
دخل ياسين إلي صغيرتهُ القابعة بغرفتها،وجدها تجلس خلف مكتبها تذاكر دروسها بتمعُن وتركيز، تحرك إليها وتحدث مبتسماً بعدما جلس علي طرف الفراش:
-عاملة إيه في دراستك يا حبيبتي؟
أجابته بنظرة يسكنها الحزن لم تستطع حجبها عنه:
-الحمدلله يا بابي،بدأت اتأقلم علي الدراسة والدكاترة بتوعي،وبصراحة الدكاترة طلعوا متفاهمين وقدروا يستوعبوا ظروف إنتقالي، وساعدوني في إني أندمج بسُرعة
أومأ بهدوء ثم تحدث بمراوغة:
-مفيش حاجة تانية غير الدراسة عاوزة تحكيها لي؟
بعدم استيعاب لسؤاله أردفت معقبتاً:
-حاجة تانية زي إية يا بابي؟!
بابتسامة هادئة أجابها متراجعاً:
-مفيش يا حبيبتي،أنا كنت حابب بس أطمن عليكي
واستطرد وهو يهم بالوقوف كي ينسحب إلي الخارج:
-سيلا،انا عاوز أقول لك إنك أهم حاجة في حياتي إنتِ وإخواتك،وإن أي حاجة بعملها بتبقي من خوفي عليكم وعلي مستقبلكم
أومات له بإبتسامة حنون قابلها بأخري هادئة وتحرك إلي الخارج تاركاً إياها لمتابعة دروسها
❈-❈-❈
بعد مرور ثلاثة أيامٍ أُخر،مرت علي ذاك العاشق بصعوبة بالغة لإبتعاد مالكة القلب عنه
فمُنذ معاقبتهِ علي يد تلك العنيدة التي قررت تأديبهُ علي نعتهِ لها بأبشع طريقة،فكانت اكثرُ قسوة وشراسة مما إعتقد واختارت أسوء أنواع العقاب لتهذيبه ألا وهو إبتعادها عنه،وأي عقابٍ أبشع من ذاك أيها الياسين،ومن حينها وقد جافاهُ النوم والراحة ولم يعُد يذُق لهُما طعماً
خرجت من غرفة صغارها حاملة طفلتها علي ساعديها بحرصٍ بعدما قضت سهرة سعيدة بصُحبة جميع أطفالها،تحركت إلي جناحها وقامت بتجريد الرضيعة من ثيابها ووضعتها داخل حوض الإستحمام الخاص بها وبدأت بتحميمها وهي تغمرها بالماء والصابون بدلال مما أسعد الصغيرة وجعلها تشعر بالإسترخاء مع دلال مليكة لها
وبعد مدة كانت الطفلة غافية داخل أحضان مليكة بعدما قامت بإرضاعها من حليب صدرها الحنون،أرجعت جسدها للخلف مُستنده علي ظهر التخت وباتت تستعرض حالتها وما أوت إليه بفضل عشقها التي لم تجني منه سوي الألم وجلب الشقاء لقلبها البرئ الذي لم يقترفُ جُرماً سوي أنه عشِق بضمير،وما جني من ذاك العِشق اللعين سوي المعاناة والإهانة والتخلي عن الكرامة،هذا ما كان يُحدثُها به عقلها الغاضب دائماً عقب كل مشاجرة تحدث بينهما
تحرك إلي جناحها متأملاً عودتها إلي أحضانه عَل إشتياقها وحنينها إليه يحثاها علي الرضوخ والعودة من جديد لعالمها الساحر معهُ
خطي بساقيه إلي الداخل وجدها تتوسط تختها محتويه صغيرتها بين أحضانها،وبمجرد دخولهُ حتي إحتدت ملامحها وأشاحت عنه بوجهها، تنهد بثقل وتحرك إلي أن وصل إلي الفراش وجلس بطرفهِ ثم تحدث بنبرة هادئة:
-عاوز أتكلم يا مليكة
نظر عليها وما وجد منها سوي الصمت الذي بات يمقتهُ منها مؤخراً،زفر بأسي وأردف بهدوء كي يستدعي إسترضائها:
-أنا عارف إنك زعلانة مني وليكي كل الحق،بس لازم كمان تعذريني وتقدري الظروف اللي أنا كُنت فيها
تنهد لصمتها المستمر واستطرد بصوتٍ يحمل بين طياتهُ أنيناً مؤلماً:
-أنا تعبان قوي يا مليكة،محتاج تاخديني في حُضنك وتطبطبي عليا مش تهجُريني بالشكل ده
حملت صغيرتها إستعداداً لنقلها داخل مهدها وتحدثت بنبرة حادة:
-من فضلك يا سيادة العميد،أنا نعسانة وعاوزة أنام
وقف سريعاً وحمل رضيعتهُ عنها ثم قام بوضعها داخل المهد الخاص بها داثراً إياها بغطائها الوَثِير،مال عليها وبحرصٍ تام قام بوضع قُبلة حنون فوق وجنتها الناعمة واستدار ناظراً علي حبيبتهُ لكنه فوجئ بذهابها إلي الأريكة وبدأت بتجهيز نومها ككُل يومٍ مُنذُ مشادتها معه
تحرك إليها وقبل أن تتسطح فوق الاريكة جذبها من كفها وتحدث مستعطفاً إياها بنبراته ونظراته:
-مليكة،ما ينفعش اللي إنتِ بتعمليه ده،إحنا لازم نتكلم
واستطرد بنبرة مستاءة:
-إحنا مش هنقضي بقية عُمرنا متخاصمين وكل واحد مننا نايم في مكان بعيد عن التاني
ترقب حديثها وما وجد منها سوي الصمت وكأنها ابرمت معهُ إتفاقاً كي تقود الآخر إلي الجنونِ،هتف بلهجة مُحتدة:
-إنتِ ساكتة ليه؟!
أنا نعسانة وعاوزة أنام،من فضلك تقفل النور…نطقتها ببرود ثم قامت بسحب يدها من بين كفهُ وتمددت فوق الاريكة داثرة جسدها تحث الفراش مما جعل داخل ذاك الواقف يستشيط غضباً لكنهُ تمالك حالهُ لابعد حد كي لا يجعلها تحتدمُ أكثر
تنهد بهدوء بصعوبة شديدة استدعاه ثم أردف مراعياً حالة الغضب والثورة اللتان إنتباها بعد إهانتهُ لها:
-حاضر يا مليكة،أنا هبعد لو كان ده فيه راحتك،بس خلي بالك
واستطرد بإبتسامة حنون وهو ينظر داخل مقلتيها باشتياقٍ ورغبة نالتا استحسانها:
-ياسين مش هيقدر علي بُعد حُضن حبيب جوزه كتير
نطقها وانسحب من أمام تلك المكفهرة التي وما أن أغلق الإضاءة وشعرت بمكوثهُ فوق التخت حتي إنفرجت أساريرها وابتسمت رغم إستمرارها لاحتدامها منه
صباحاً،والذي وافق يوم الجمعة يوم فطور العائلة الجماعي
فاق من نومهِ بجسدٍ مُرهق وصداعٍ يكادُ يفتك برأسهِ من شدته،
بصعوبة قام بفتح جفونهُ وبلهفة نظر علي مكانها متأملاً رؤية وجهها،أصابهُ الإحباط حين وجده خَالياً من وجودها،فتذكر ورفع رأسهُ يتطلع علي الأريكة وجدها خالية هي الأخري،يبدوا أنها حملت صغيرتها وتسحبت من جوارهِ عندما سقط في غوفة متأثراً بإرهاقهِ الشديد جراء إنتظارهِ لعفوها والسماح لهُ بدخول أحضانها من جديد
فرد ذراعيه وتمطئ بتعب وقام بسحب جسدهِ للأعلي وعلي الفور إستمع إلي خبطات خافتة فوق باب الحُجرة فتحدث بصوتٍ مرتفع:
-إدخل
فُتح الباب ودخل منه ذاك الانس الذي هرول إلي ياسين وتحدث بنبرة حماسية:
-صباح الخير يا بابي
صباح الفل يا قلب بابي…نطقها بحبور ثم إلتقط الصغير وقام برفعه وأجلسهُ داخل أحضانه وتحدث وهو يُقبل وجنتهُ:
-عامل إيه يا أنوس باشا
أردف بإبتسامة سعيدة:
-الحمدلله يا بابي
واستطرد بإعلام:
-مامي قالت لي أطلع أصحيك علشان الفطار جِهز،وجدو عز وجدو عبدالرحمن قاعدين يلعبوا شطرنج في الجنينة
تنهد بثقل وتحدث إلي الصغير:
-حاضر يا حبيبي،إقعد إستناني هنا علي ما ادخل الحمام وأغير هدومي وارجع لك علشان ننزل سوا
أوكِ يا بابي…نطقها الصغير فانزلهُ الآخر عن ساقيه واجلسهُ يتوسط التخت وتحرك متجهاً إلي الحمام
بعد قليل نزل من فوق الدرج حاملاً الصغير الذي نزل وهرول إلي مروان وحمزة وياسر الجالسون فوق المقاعد المتواجدة بالبهو وهم ينتظرون الإنتهاء من تجهيز الطعام،تحرك ياسين بطريقهُ إلي الخارج بعدما ألقي التحية علي الصِغار
كان الصغار يجلسون بأرضية المكان يلتفون حول عز ويلهون بألعابهم،وقفت ليزا وتحركت إلي مروان وتحدثت تشتكيه:
-مارو،رائف سراج أخد العروسة بتاعتي وشد شعرها ومش راضي يديهاني
إنتبه لها وتحدث بنبرة هادئة وهو ينظر إلي الصغير الذي لم يتعدي عمرهُ الثلاثة أعوام:
-معلش يا حبيبتي،إلعبي بأي حاجة تانية وهو شوية وهيزهق ويرميها
بس دي العروسة اللي إنتَ جبتها لي يا مارو، وانا بحبها تنام في حُضني وشعرها متسرح كويس…نطقتها بعيناي حزينة فعقب الاخر بهدوء لكي لا يحزنها:
-هبقي أجيب لك واحدة غيرها
مطت شفتاها للأمام وتحدثت وهي تدق بساقيها فوق الأرض بغضبٍ عارم ظهر بَيِنّ داخل مقلتيها بعدما أصابها حديثهُ بالإحباط:
-دي عروستي أنا ومش هسيبها لحد
واسترسلت بحدة:
-ومش عاوزة منك حاجة،أنا هروح أخدها منه
جحظت عيناه لملاحظتهُ غضبها بتلك الطريقة العنيفة فتحدث بنبرة حنون وهو يسحبها من كفها وإعادتها إليه من جديد بعدما كانت تتحرك بطريقها إلي رائف:
-طب إهدي يا قلبي وتعالي وانا هعمل لك اللي يرضيكِ
مازالت تمطُ شفتاها بغضب فأدخلها بأحضانه وقام بتقبيلها وفوراً شعرت الصغيرة بالإستكانة ولفت ذراعها حول عُنق الفتي وألقت بوجهها فوق كتفه باسترخاء وكأنها وجدت ملاذها،مما جعل الفتي يبتسم براحة تغلغلت داخل روحه وتحرك إلي الصغير وسحب منه الدُمية وبدلها لهُ بأخري أسعدته
وأعاد إلي تلك المتمردة الغاضبة دُميتها فانفرجت أساريرها وتحركت معهُ إلي الأريكة وضلت جالسه بجواره تستمع بحبور وتمعن لحواره مع رفاقه حمزة وياسر
أتت مليكة وبلغت الأطفال بتحضير طاولة الطعام وتحرك الجميع إلي الخارج والتفوا حول المائدة وبدأوا يتناولون طعامهم تحت سعادتهم دون ذاك الثُنائي العنيدان وتلك العاشقة الصغيرة
❈-❈-❈
باليوم التالي ليلاً
دخل إلي جناحهُ وجدها تتسطح فوق تختها وتتمدد علي جنبها الأيمن بعيناي مفتوحة،تحرك وجاورها التمدد ثم نظر وتعمق بزرقاويتاه بعيناها الساحرة مطالباً بهما الصفح والغفران، أزاحت مقلتيها عنه فمد يدهُ وأعاد وجهها إليه وتحدث بنبرة أسفة:
-حقك عليا،والله ما كنت أقصد أزعلك،أنا كُنت متضايق وشايط من موضوع سيلا وللأسف،من غير ما أحس صبيت غضبي كله عليكي
واستطرد بعيناي مُترجية:
-أنا أسف
أغمضت عيناها ثم فتحتهما من جديد وأردفت متسائلة بأسي:
-أنا مرات أب لأولادك يا ياسين؟
ليه! إيه اللي أنا عملته فيهم خلاك تشوفني وتبص لي بالعين دي
واسترسلت بإبانة:
-أنا لو كُنت بعدت عن أيسل الفترة اللي فاتت فده علشان خاطر ما أضايقهاش ولأنها هي اللي كانت رافضة وجودي،ولما أحتاجت لي وحسيتها قابلة تدخلي في حياتها قربت واحتويتها
وبعيناي متألمة تحدثت:
-أنا عمري ما كنت مرات أب ولا أستاهل منك توجعني بالكلمة والوصف ده يا ياسين
بعيناي نادمة تحدث بشجن أظهر كم أسفه:
-أنا أسف،والله العظيم أسف
واسترسل مُستعطفاً إياها بعيناه:
-ما تحاسبينيش علي كلمة طلعت مني غصب عني في وقت غضبي يا مليكة
نزلت دمعة هاربة منها مد يدهُ سريعاً وقام بتجفيفها وتحدثت هي بنبرة متألمة:
-وقت الغضب الإنسان بيخرج اللي موجود جوة قلبه يا ياسين
بنظرة عاتبة هز رأسهُ نافياً وتحدث بلسان العاشق الساكن بروحه:
-اللي في قلبي ليكِ مايقدرش علي وصفه كلام الدنيا كله يا مليكة،إزاي قدرتي تقولي كدة
عاتبتهُ عيناها فبادلها بمعتزرة فتنهدت بهدوء لمسهُ فاقترب منها وقام بوضع أصابع يدهُ وتلمس بها شفتاها الكنزة بنعومة أثارة تلك العاشقة حيثُ أغمضت عيناها علي أثرها وأخرجت تنهيدة حارة جعلت ذاك العشق يلصق شفتاه بخاصتها ويغوص بقُبلة ناعمة سُرعان ما تبدلت بشغوفة ثم غاصا بعالم عِشقهما الهائل
بعد مرور حوالي النصف ساعة،كانت تقبع داخل أحضانهُ التي أدخلها بها وطوق علي جسدها بذراعيه كمن يخشي الهروب،ينظر إليها بنظرات متشوقة لهوفة وهو يتطلع إلي كُل إنشٍ بوجهها،
مال علي أرنبة أنفها وقام بتقبيلها ثم أبعد وجههُ قليلاً وتحدث بصوتٍ متحشرج جراء حالة الوله التي يعيشها كِلاهُما:
-وحشتي جوزك يا قلب جوزك
وحشتك بجد يا ياسين…نطقتها وهي ترمش بأهدابها وتضم شفتاها بانوثة وسِحراً طاغياً جعل من جسد ذاك العاشق الولهان مُلتهب مجدداً،مرر لسانهُ فوق شِفته وتحدث بنبرة حنون:
-قوي قوي يا قلب ياسين
إبتسمت وتحدثت بدلال:
-طب ولما أنا بوحشك قوي كدة لما ببعد،بتزعلني منك ليه؟
بغمرة من عيناه عقب قائلاً بمشاكسة:
-بزعلك مخصوص علشان لحظة الإشتياق اللي إحنا فيها دي
واستطرد بنبرة رجل عاشق:
-سِحر لُقي القلوب ولهفتها علي الحبيب بعد الخصام يستاهل الوجع اللي بنمر بيه قبلها
بارتياح خرجت تنهيدة من صدرها ثم دفنت حالها داخل أحضانه وتحدثت بقلبٍ مُلتاع:
-بحبك
أراد مداعبتها فتحدث بنبرة لائمة:
-واللي بيحب حد بردوا بيروح يفتن عليه؟
إرتبك داخلها وخرجت سريعاً من بين أحضانه ثم نظرت عليه بترقُب فاسترسل لائماً:
-رايحة تشتكيني لأبويا يا مليكة؟
أنا،ماحصلش…نطقتها بنفيٍ ماكر فتحدث هو بغمزة من عيناه:
-عيب عليكِ،ده أنا ياسين المغربي يعني بفهمها وهي طايرة،وما حدش يجرأ يعمل العملة دي ويفتن عليا عند الباشا غيرك
إبتسمت بتخابث ثم تحدثت باعترافٍ نال استحسانه:
-وهو أنتَ فاكر إني كُنت هقدر أخبي الموضوع عليك كتير،ما انتَ عارف حبيبتك،ما بتقدرش تخبي عنك حاجة أكتر من يومين
وكمان بتعترف من أول قلم…نطقها بضحكة ساخرة فسألته بإلحاح:
-طب قولي بقي،الباشا الكبير عمل معاك إيه؟
أنا محدش يقدر يعمل معايا حاجة غير حبيب جوزه وبس…نطقها بإبتسامة رائعة وغمزة ساحرة إنفرجت أساريرها علي أثرها ومن جديد رمت حالها بأحضان ذاك العاشق الذي ضمها أكثر وبات يزيدها من قُبلاتهِ المحمومة وكلماته المعسولة ويغمرها بأحضان الهوي إلا أن غفا كلاهما بسلام وارتياح داخل أحضان بعضيهما بعد أن أصبح عِشق كُلاً منهما للأخرَ ترياق الحياة
❈-❈-❈
بعد مرور عشرة أيام
داخل مدافن عائلة المغربي،في مشهدٍ مهيب مذكراً الجميع بمثوي الإنسان الأخير،يلتف جميعهم حول قبر تلك التي قُتلت غدوراً حيثُ اليوم الذكري الأولي لرحيلها المؤلم للجميع
يقف أمام قبرها ينظر عليه بملامح وجه متأثرة،تذكرها ومرت صورتها بمخيلته وبات يسترجع ذكرياتهُ معها،إبتسامتها وحتي تذمرها وتمردها،كم كانت كـ فراشة طليقة محبة للحياة، تنهد وبات يدعو الله داخل سريرتهُ بأن يتغمدها برحمته وأن يجعل ما تعرضت إليه في صحيفة أعمالها الحسنة
تتجاورتان بالجلوس فوق مقعديهما ثريا ومنال حيثُ تُمسك كُلاً منهما نسخة من كتاب الله المقدس(المصحف الشريف) ويتلوتان قراءة أياتهِ المُحكمات،تجاورهما باقي نساء العائلة،أما مليكة فكانت تجاور أيسل الوقوف وهي تحتضنها بعدما اجهشت الفتاة ودخلت بنوبة بكاء شديدة وهي تتذكر ليلة رحيل والدتها المشؤومة وباتت تجلدُ حالها وتؤنبها علي تساهلها والمساهمة بشكلٍ غير مباشر في عملية إغتيال والدتها
حضرتا للتو قسمة وداليدا بصحبة أحمد العشري الذي تحرك ووقف بجانب الرجال بعدما ألقي التحية علي جميعهم،أما كِلتا اللتان إستشاطتا وأصابهما الحِنق وتأججتا مشاعرهما بعدما شاهدتا أيسل تُلقي بحالها داخل أحضان من كانت غريمة لوالدتها
تحركتا ووقفتا بجانب الفتاة دون أن تُعير أياً منهما نساء المغربي أجمع،إحتدمت ملامح وجه قسمة وتحدثت إلي مليكة وهي تنتزع الفتاة من بين أحضانها بقوة وعُنف وتدخلها بخاصتها:
-هاتي البنت وروحي إقعدي زي اللي قاعدين
إرتبكت مليكة بعدما رأت إحتدام ملامحها وتحركت منسحبة بدون تعليق منعاً لإثارة المشاكل،فتحدثت داليدا مبكتة إياها كي تُشعرها بالذنب متغاضية عن حالة الفتاة السيئة:
-خلاص يا سيلا نسيتي مامي؟قوام روحتي رميتي نفسك في حُضن العقربة اللي خطفت بابي منها وكانت السبب الرئيسي في موتها؟!
وأكملت علي حديثها قسمة وباتتا تُكيلا الإتهامات للفتاة ويؤنباها وأبيها متغافلتان عن حالة الفتاة حتي إنفجرت بعدما فقدت صبرها وما عاد فيها الإحتمالُ أكثر،خرجت من داخل أحضان جدتها المسمومة وشهقت ثم أردفت معاتبة باستياءٍ:
-كفاية بقي حرام عليكم،إنتوا صعبان عليكم تشوفوني إنسانة طبيعية ومعنديش مشاكل نفسية؟!
ثم استرسلت وهي ترمق قسمة بنظرات لائمة:
-كفاية لحد كدة يا نانا،أنا مش هسمح لكم تاني تسمموا حياتي زي ما عملتوا مع مامي،كفاية إنكم حولتوها لمسخ تابع لكلامكم بعد ما كانت بريئة وقلبها نضيف
واستطردت معاتبة داليدا:
-جاية تلوميني ومستغربة قوي إني رميت نفسي في حُضن مليكة؟!
طب كنتوا فين السنة اللي فاتت دي كلها وأنا ضايعة من نفسي؟!
هتفت قسمة مبررة:
-إسألي ياسين بيه المغربي اللي حرمنا نيجي ونشوفك وبعدك عننا واستفرد بيكي علشان يملي دماغك من ناحيتنا ويخلي له الجو مع الهانم بتاعته،ويعرفوا يسيطروا عليكي ويخلوكي تنسي مامي ونانا وخالتو
تحركت إليهم تلك الراقية التي كانت تتسمع عليهم ورغم ضعف أصواتهم إلا أنها إستطاعت الإستماع إليهم،أردفت قائلة بلهجة فظة:
-هو إنتوا دايماً كدة ماعندكوش أي إحترام للمدافن ولا إتعاظ من الموت؟
ثم لوت فاهها واخرجت صوتاً ساخراً وتحدثت بتجهم وهي تنظر للون شعر قسمة القرمزي:
-طب لو بنتك ما اتعظتش من الي جرا لأختها تبقي معذورة،إكمنها يعني لسة صغيرة ومتعشمة في الدنيا
واسترسلت متهكة وهي ترمقها ساخرة:
-طب وإنتِ يا اللي عديتي الخامسة وستين وبقيتي زي ما بيقولوا رجل برة ورجل جوة
واستطردت مؤنبة إياها بتهكُم:
-بقي يا ولية بدل ما تتعظي من موت بنتك اللي راحت في عز شبابها وتعملي لأخرتك،جاية السانوية بتاعتها بشعر أحمر؟!
رمقتها قسمة بنظرات اشمئزاز وهتفت داليدا موجهة حديثها إلي أيسل مستشهدة بحديث راقية:
-شايفة ستات عيلة أبوكِ يشرفوا إزاي،هما دول الناس اللي رميتي نفسك في حضنهم ونسيتينا علشانهم؟!
إحتدت ملامح الفتاة واردفت بنيرة رافضة:
-من فضلك يا خالتو،ياريت ما تغلطيش في أي حد من عيلتي أو تحاولي تقللي من شأنه لأني مش هسمح لك بده
جحظت أعين كلتا الحقودتين ورمقاها باشمئزاز تحت هتاف راقية التي تحدثت بحبور وانتصار:
-أيوة كدة يا سيلا،إديهم فوق نفوخهم إياكش يحسوا
واسترسلت باستحسان:
-إنتِ كدة أثبتي إنك مغربية أصيلة علي حق
إنسحبتا جانباً ووقفتا بعيداً عن الجميع يتطلعان بقلوب شاعلة علي ياسين الذي كان يتابع ما يحدث من بعيد دون تدخُل كي لا يساعد علي إفتعال المشاكل،إقترب علي إبنته وقام بإدخالها بأحضانه وبات يُربت فوق ظهرها بمواساة تحت إنهيار الفتاة ودخولها في نوبة بكاءٍ حار
بعد قليل جلست الفتاة بجانب قبر غاليتها وجاورها شقيقها محتضناً إياها وباتا يدعوان الله بأن يتغمدها برحمته،إنتفضت بجلستِها ووضعت يدها فوق صدرها لتهدئ من ضربات قلبها السريعة بعدما إستمعت إلي صوتاً زلزل كيانها
إستمعت إلي نبرات الصوت من جديد مما جعلها تتأكد من حدسِها،تلك النبرات هي تحفظها عن ظهر قلب،إنها لهُ مُعذبها ومالك فؤادها “نعم” إنه هو،إنتفض قلبها بعُنف معلناً عن إنهيارهُ واستسلامه لحضور ذاك الحبيب
أما هو فقد حضر بعدما علم بحضورهم بالمقابر في بادرة منه للتقرب إلي ياسين من جديد وتأملاً بالعدول عن تعسفهُ بقرارهُ الظالم لقلبهُ وحبيبته،إقترب من ياسين وتحدث بنبرة هادئة متأثرة بالمكان وقدسيته:
-تعيش وتفتكر يا سيادة العميد
قطب جبينهُ متعجباً حضورهُ الذي لم يكن بالحُسبان،فاقترب عز وعلي عُجالة تحدث كي يقطع أية محاولة من نجله لصد ذاك الوسيم:
-أهلاً يا سيادة الرائد،ما حدش يجي لك في حاجة وحشة
تهللت ملامح وجه كارم من مقابلة ذاك القامة الكبيرة صاحب المقام الرفيع والذي يمتلكُ سيطاً هائلاً داخل جهاز المخابرات المصرية ويكن له الجميع التقدير والإحترام لما لهُ من إنجازات ونجاحات ساحقة في ملفاتٍ عدة
بسط ذراعهُ ليُصافحهُ وهتف بنبرة حماسية:
-أهلاً بجنابك،أنا أسف علي تطفُلي وإني جيت في ظروف خاصة وحساسة زي دي،بس حبيت أشارككم أحزانكم
في حركة مباغتة لكارم وياسين الذي جحظ بعيناه ناظراً على والدهُ باستغراب بعدما حاوط كتف كارم بساعدهُ في حركة حميمية وتحدث بنبرة ودودة وكأنهُما صديقان مُنذُ الكثير من السنوات:
-تطفل إيه بس يا كارم،ده أنتَ خلاص،بقيت واحد من العِيلة
إبتسامة مع نظرة دهشة خرجتا من كارم الذي بات ينظر إلي عز بعدم إستيعاب لما استمع منه للتو،حول عز بصرهِ يتطلع إلي ياسين المتعجب تصرف أبيه وتحدث بنبرة تأكيدية:
-ولا إيه يا سيادة العميد؟
إحتراماً لوالدهُ وقراراتهُ الحصيفة التي دائماً ما تصُب في مصلحة العائلة وبدون تفكير تحدث ياسين بنبرة هادئة:
-هو فيه كلام يتقال بعد كلام معاليك يا باشا
بلهفة عارمة نظر كارم علي ياسين مترقباً عيناه للإِستعلام داخلهما عما إذا كان ما وصلهُ حقاً أم ما،فتحدث الاخر مؤكداً صحة ما وصل ذاك الفارس من شعور:
-أهلاً بيك يا كارم
إستغل كارم تلك الفرصةِ الثمينة التي لا تُعوض واردف مخاطباً كلاهُما باحترام:
-بعد إذن سعادتكم،كُنت حابب أتشرف بزيارة بيت معالي الباشا
إبتسم عز وتحدث بحبور:
-هنستناك بعد بكرة بالليل،تجيب الدكتور جمال وسيادة المديرة وتيجوا تشرفونا
بذهول نظر عليه كارم من معرفته لإسم ومهنة والداه وبعدها لام حالهُ علي جهله،فلما الإستغراب إذا كان الامر يتعلق بذئب المخابرات عز المغربي
هتف شاكراً:
-متشكر معاليك
أما ياسين فأردف معتراضاً بهدوء:
-مش بدري قوي بعد بكرة يا باشا؟!
خير البِر عاجلهُ يا سيادة العميد…نطقها وهو يُربت فوق كتف كارم الذي شعر بأن عالمهُ يفتح له ذراعيه علي مصرعيهما ويستقبلهُ بحفاوة،ثم تحدث إلي كارم بعدما وجدهُ يسترق النظر بدهاء من تلك الجالسة بجانب قبر والدتها:
-روح سلم علي ثُريا هانم ومنال هانم وواسي الدكتورة يا حضرة الرائد
إبتلع لعابها ثم نظر إلى ياسين ليتأكد من موافقته تجنباً غضبته،فتحدث عز إليه بمشاكسة:
-بتبص علي مين يَلاَ،الكلمة الأولي والاخيرة هنا ليا أنا
واستطرد مداعباً إياه:
-إنتَ شكلك كدة هتبتدي تزعلني منك
ما أقدرش جنابك…نطقها بعيناي مستعطفة ثم نظر إلي ياسين مرةً أخرى لكي لا يتخطي حدود الأصول،فأشار له ياسين بإيماءة من عيناه تعني الموافقة،فشكرهُ وتحرك إلي ثريا ومنال بصُحبة طارق الذي استدعاهُ عز لاصطحاب الشاب وتقديمهُ إلي والدتهُ
أردف ياسين بنبرة يبدوا عليها الغضب:
-سيادتك إتساهلت معاه قوي يا باشا
ضيق عيناه متعجباً عتاب نجلهِ له وتحدث لائماً إياه:
-يا قلبك الجاحد يا ياسين،أومال لو ماكنتش عاشق قديم والبُعد كواك
تنهد ياسين بأسي واسترسل ذاك المشاكس مفسراً:
-الواد يا عين أمه واقف يُفرك ومش علي بعضه من كُتر الإشتياق،عمال يبص علي البنت وهيموت ويشوفها،خليك رحيم يا أبن عز
تنهيدة حارة خرجت من قلب ذاك الذي ينظر علي كارم الذي إقترب من أميرة أبيها بقلبٍ مستشاط،شعرت به متيمة روحهُ فاقتربت منه وقامت باحتواء كفهُ،نظر بمقلتيها وجد بهما حناناً وإطمئنان إطمئن بهما روحهُ وسكنت ثورتهُ واستكان كفهُ وهدأت نبضاتهُ العالية وتحولت إلي متراخية مستكينة
أما كارم،فقد إعترتهُ نشوة عارمة واهتز قلبهُ من شدّة إبتهاجه حين وقف أمامها وتعمق بعيناها ثم تحدث بنبرة جاهد بإخراجها جادة كي لا يثير غضب عمها طارق المجاور له:
-تعيشي وتفتكري يا دكتورة،الله يرحمها ويغفر لها
شعوراً بالراحة والسكينة إنتاباها من مجرد النظر إلي عيناه الساحرة التي إشتاقت لها حد الجنون، وتحدثت إليه بنبرة خرجت متشوقة حنون رُغماً عنها:
-ميرسي يا سيادة الرائد
إبتعد طارق والأخرين قليلاً ليُفسحا لهما المجال بعدما وصل لهم عن طبيعة علاقتيهما من نظرات عز وابتهاج روحه وهو ينظر لذاك الرائد،جذبت راقية ذراع ثُريا بعنفٍ مما جعل الأخري ترتعب وتنظر لها مُبرقة العيناي،سألتها متلهفة بفضول كعادتها:
-مش الجدع اللي واقف مع سيلا ده يبقي ظابط الحراسة اللي أخد الطلقة مكانها يا ثُريا؟
واسترسلت متلهفة:
-هو طلب إيدها للجواز ولا إيه؟
وأنا إيه بس اللي هيعرفني إذا كان إتقدم ولا لاء يا راقية،أنا واحدة قاعدة في بيتي لا بطلع ولا بدخل علشان أعرف الأخبار…نطقتها ثُريا بنبرة زائفة حيث أنها علي دراية بالقصة كاملة من عز وياسين وايضاً مليكة التي قصت لها عندما كانت تشتكي لها من ياسين وما فعلهُ بها
رفعت أحد حاجبيها باستنكار وتحدثت بنبرة مشككة:
-عليا أنا الكلام ده بردوا يا ثُريا،إنتِ صحيح قاعدة في بيتك بس الأخبار كلها بتوصل لك لحد عندك بالدليفري
تنهدت ثُريا وأمسكت المصحف الشريف وتابعت قراءة أياتهُ الكريمة كي تحث تلك الثرثارة علي الصمت الذي حدث بالفعل بعدما لوت الأخري فاهها باستنكار
عودة إلي ذاك العاشق حيث نظر داخل عيناها وتحدث باشتياقٍ ظهر جارف داخل مقلتاه:
-وحشتيني يا أيسل
نطقت بنبرة عاتبة ظهرت بعيناها من وسط دموعها التي جعلت قلبهُ يئنًُ ألماً عليها:
-لو وحشتك ماكنتش قدرت تبعد عني كُل المدة دي
بحصافة تحدث موضحاً:
-كان لازم البُعد علشان كُل واحد فينا يعرف قيمة التاني عنده،وبعد كدة يفكر ألف مرة قبل ما يقول أو يعمل أي حاجة تزعل حبيبه منه
إبتسمت واومأت بموافقة ثم تحدثت بعيناي أثارت جنون ذاك الولهان:
-أنا أسفة يا كارم
وأنا أسف يا عيون كارم…نطقها بقلبٍ وعيناي يفيضان هياماً جعل قلبها ينتفضُ طرباً ونشوة بالغة إعترت روحها
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية قلوب حائرة)