رواية بأمر الحب الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم تميمة نبيل
رواية بأمر الحب البارت الرابع والعشرون
رواية بأمر الحب الجزء الرابع والعشرون
رواية بأمر الحب الحلقة الرابعة والعشرون
جلس ذلك الشاب الوديع على الكرسي أمام المكتب الضخم و البالغ الفخامة، ينظر بحذرٍ الى الرجل ذو الهيبة و الرجولة و الذي يجلس خلف المكتب مستندا بظهره بأريحية، ينظر بدوره الى الشاب مدققا به و كأنه ينفذ الى أفكاره…
وحين طال الصمت طويلا حتى أصبح خانقا، قال الشاب أخيرا مبتسما محاولا جره للحديث و معرفة سبب تواجده هنا (كيف حال صبا؟، اشتقنا لها).
لكن ما أن نطق سؤاله الودود حتى أدرك بأنه قد أخطأ خطأ جسيما وهو يرى ملامح ذلك الضخم الجالس أمامه تتوتر و تتشنج و تشتعل عيناه في لحظةٍ واحدة ٍ بغضب ناري أرسل رعشة رغما عنه في أوصاله…
و ساد الصمت مجددا لكن بصورةٍ أكثر توترا، الى أن تنازل عاصم رشوان في النهاية بالرد.
، بكل عنجهية مكانته و كل همجية ما يشعر به من غضب وهو يحاول تبني السيطرة على نفسه و محاولة التحضر في الحوار من شاب و هو يعلم جيدا أن زوجته تتواصل معه هاتفيا و غير هاتفيا و ربما يوميا…
ولولا أن ما يحتاجه اهم لكان له تصرفا آخر يجعل ذلك الفتى الجميل الجالس أمامه الآن يتمنى لو لم يعرف يوما من تدعي صبا، (السيدة صبا، بخير، و أرجو من الله أن تظل كذلك).
لاحظ حاتم كيف شدد عاصم على لفظ سيدة، فعلم أنه ربما قد تجاوز قليلا في التساهل في نطق اسمها بعفوية أمام زوجها و الذي هو عاصم رشوان، لكنه حين أمعن في الجملة التالية أرجو من الله ان تظل كذلك، لوهلة أخطأ فهم المقصود، فهل يقصد أنه يهدده بأن يصيبها بسوءٍ ربما، بسبب تجاوزه؟، هل هو رجعي إلى تلك الدرجة؟، لقد سمع كثيرا عن عاصم رشوان و يعرف أنه من مجتمع غير مجتمعهم اطلاقا، و إن كان أمثاله هم من يسيطرون حاليا على المشروعات الرأسمالية الضخمة…
لكنه شعر بعد عدة لحظات أنه من المؤكد قد أساء الفهم وهو يرى عاصم يتلاعب بقلمه الذهبي و سبحته المرمرية بتفكير عميق، طارقا به على سطح المكتب و عينيه لا تفارقانه بتدقيق، فعلم ان الأمر اكبر و أخطر، و هو له علاقة بالسبب الذي استدعاه من أجله الى مكتبه، في نفس اليوم، بعث اليه اثنين من رجاله اظهروا له هوايتهم لكي يطمئن بعد ان اتصل به عاصم شخصيا، فاصطحباه معهما إلى مكتب عاصم، فعلم بالبديهة ان السبب في ذلك، الا يجد الوقت لكي يخاطب صبا و يسألها عن سبب رغبة عاصم زوجها في رؤيته…
الآن فقط بدأت الأمور تتوضح اليه، لكنه انتظر أن يبدأ عاصم الكلام الذي بدأ يترتب في عقله حتى قبل أن ينطقه عاصم، و بالفعل تكلم عاصم بصوت هادىء خطير دون أن تحيد عيناه عن عينيه، (أعتقد أنك الآن قد بدأت تفهم سبب تواجدك هنا)
صمت حاتم للحظة، قبل أن يقول بهدوء (انتظر لأسمع مزيدا من التوضيح من سيادتك، و لو أن الفكرة الأساسية قد تكونت عندي بالفعل).
ابتسم عاصم قليلا، ابتسامة قاسية خالية من أي نوع من أنواع المرح، ثم أخذ نفسا عميقا قبل أن يقول بحزم (دون أي مقدمات لأنني شخصيا لا أفضلها، أنا لن أسمح لأي شيء على وجه هذه الدنيا بأن يمس زوجتي)
أطرق حاتم برأسه وقد حصل على ما توقعه تماما، لحظاتٍ قليلةٍ ثم عاد لينظر لعاصم قائلا بهدوء (صبا انسانة ناضجة وواعية، واعذرني إن لم تكن وقاحة مني، لماذا تخبرني أنا بذلك بدلا من أن تطلب منها الإبتعاد؟).
لم يعي تلك المرة على تضاعف جرعات الشر في عيني عاصم حين عاد ليلفظ اسم صبا مجردا و كأنهما صديقان حميمان…
لكنه كان مهتما بسماع الاجابة فلم يلحظ الضغط الذي يمارسه عاصم في السيطرة على نفسه…
أخيرا قال عاصم بقوة ودون اي تجميل للواقع (زوجتي تجرفها حماس الشباب، و أنا لن أضيع المزيد من الوقت في محاولات اقناع دون جدوى، أنتما لا تعلمان مع من تعبثان).
ابتسم حاتم قليلا دون أي تعبير ثم قال بعد لحظات (أولا نحن لا نعبث، الأمر أعتقد من وجهة نظر اي شخص لديه بعض من الضمير يستحق المجازفة، ثانيا من المؤكد أننا نعلم مع من نتعامل، تماما كما تعرفهم سيادتك حق المعرفة)
التهبت عينا عاصم وتصلبت ملامحه بشراسةٍ مخيفة وهو يهمس (الا ترى أنك قد تجاوزت حدودك)
هز حاتم كتفيه ببساطة وهو يقول بتهذيب (أعتذر إن كنت قد تجاوزت حدودي، كنت فقط اسرد الحقائق).
نفس الإهانة لكن بأسلوب مهذب، ظل تحدي النظر بينهما طويلا حتى أصبح الجو في الغرفة مشحونا للغاية
الى أن قال عاصم أخيرا بهدوء خطير (ما دمت تعلم الحقائق فأنت بالتأكيد تعرف أنني قد فقدت أحد رجالي على أيديهم، و أنا الى هذه اللحظة لا أستطيع التأقلم مع هذا الأمر).
اخفض حاتم عينيه للحظة دون ان يجيب، فتابع عاصم بقوةٍ أكبر و تهديد (و أنا لن أسمح بأن يطال زوجتي أي اذى، لن أسمح بأن يمسها سوء مادام في صدري نفس يتردد).
تنهد حاتم وهو يحك جبهته بيده، ثم قال اخيرا (أنا متفهم لموقفك يا سيد عاصم، حقا أنا أقدر ما تشعر به، لكن أعود و أسألك ماذا بإمكاني أن أفعل؟، إن كنت سيادتك قد فشلت في اقناع صبا على ما يبدو، فهل سأنجح أنا؟، لأكون صادقا معك لقد حذرتها مرارا، صحيح انني أساندها وسأساندها دائما، الا أنني بالفعل أخاف عليها و نصحتها مرارا من قبل…
اي خطوة كنا نقوم بها كنت احذرها قبلها أن العواقب قد تكون وخيمة، و أنني أفضل لو تتنحى عن هذا الأمر و تتركه لمن في يده التصرف، لكن أنت تعرف صبا و عنادها)
ضرب عاصم بقبضته بمنتهى القوة على سطح مكتبه بكل قوته حتى اهتزت محتويات المكتب و ترجرجت وهو يهدر (اسمها السيدة صبا)
اتسعت عينا حاتم وهو يرى ذلك الضخم المسيطر قد فقد أعصابه لمجرد أنه زل بلسانه و نطق اسمها مجردا مرة أخرى…
أخذ عاصم نفسا عميقا وهو يشد على قبضته حتى ابيضت مفاصل أصابعه، لقد فقد السيطرة على نفسه و احرج نفسه امام الفتى الجميل، لكنه لم يحتمل، للآن لا يحتمل طريقة حياتها التي تفرضها عليه…
الاستاذة ابنة المستشار، وعلى الرغم من تمسكها بمبادئها بيدٍ من حديد و بنتهى العند و الغباء، الا أنها في ذات الوقت و باستقلالها و تعاملها مع اي كان تثير جنونه، لا تزال الهوة بينهما كبيرة لكنه مصمم على ردم تلك الهوة ولو رغم عنها…
لكن الآن، الآن، ركز يا عاصم، ركز، أنت تحتاجه بشدة فلا تفقد سيطرتك على نفسك.
أخذ نفسا عميقا وهو يغمض عينيه و يعود و يفتحهما ليقول (اسمع، أنا الآن، اتسابق مع الوقت، فلو حدث شيء لزوجتي، لو مسها شيء، أي شيء)
صمت عاصم دون أن يجد القدرة على الكلام، و شعر حاتم بما يعانيه، فسكت للحظات قبل أن يقول بلطف (هل تريد أن أعود و أحاول أقناعها؟، لكني لا َضمن لك بمنتهى الصدق أن توافق)
رفع عاصم عينيه اليه وهو يفكر، ما أريده أن تختفي أنت و كل ما هو مذكر من حياتها للأبد …
الا أنه تمكن هذه المرة من السيطرة على نفسه و حجب أفكاره التي ليست في وقتها الآن ليقول بهدوؤه الخطير (لا، لقد فات أوان الإقناع، ما أريده منك هو شيئا آخر)
توجس حاتم وهو ينظر لعيني عاصم اللتين فقدتا اشتعالهما في لحظةٍ ليتحولا الى لوحين من الجليد بمنتهى القسوة، و كأنه قد اتخذ القرار و حسم الأمر…
فقال دون أي مقدمات (أريد كل ما معك من ملفات ورقية أو نسخ رقمية).
للحظات لم يفهم حاتم ما سمعه للتو. واخذ عدة لحظات قبل أن يستوعبه و حين تكلم أخيرا كان صوته دون أي تعبير (ماذا قلت، سيادتك؟)
رد عاصم بهدوء و عينيه تتجمدان أثر و أكثر (ما سمعته، أريد كل ما معك، و أعرف انه معك، بل أنا متأكد من ذلك).
ضحك حاتم قليلا دون مرح ثم عاد لينظر إلى عاصم وهو يقول بحيرة (حين بدأت الكلام، ظننت أنك تريد إيقاف صبا عن التدخل في تلك القضايا، لكن الآن أجد أنك تريد إيقافي أنا أيضا، بل الأصح أنك تريد ايقاف القضايا نفسها و طمس معالمها)
رد عاصم بمنتهى الهدوء و الإختصار (نعم، هذا ما أريده بالضبط)
عاد حاتم ليضحك ضحكة صغيرة مذهولة ثم صمت وهو ينظر لعاصم طويلا قبل أن يقول (و كيف تخطط ان تمنعني، سيادتك).
صمت عاصم وهو ينظر اليه قبل أن يقول بهدوء (لو أردت منعك لفعلت، لكني أطلب منك، مساعدتك ستكون افضل، و أنا بحاجة اليها)
قال حاتم بحدة (وما الذي يجعلك تعتقد أنني سأوافق على ذلك؟)
لم يطرف عاصم بعينيه وهو يجيبه بثقة (أخبرتك للتو بأنني فقدت أحد رجالي، و أنا الى الآن لا أستطيع تجاوز الأمر، فهل ستتحمل نفس هذا الحمل لو، أصابها).
لم يستطع أن يكمل، لم يستطع حتى أن ينطق الكلمة، و لم يستطع حاتم أن يتخيل عجز عاصم رشوان العظيم عن المتابعة، و للحظة تخيل لو بالفعل اصاب زوجته مكروه على أيديهم، فماذا سيكون رد فعله…
تنحنح حاتم بعد فترةٍ ليقول (سيد عاصم، انا مقدر لموقفك جدا، و اشعر بقلقك، لكن لا يمكننا أن نفعل ذلك بصب، بزوجتك دون علمها، بعد كل المجهود الذي بذلته، نعاملها كأنثى عاجزة مسلوبة الإرادة لمجرد حمايتها).
امسك عاصم نفسه من الانفجار وهو يجد شابا امامه يحاول تعليمه كيفية التعامل مع زوجته و كانه يعرفها اكثر منه، نار. نار هوجاء تحرق احشاءه في تلك اللحظة غيرة عليها، و خوف، بل رعب عنيف يكاد يمزق صدره و يزهق روحه وهو يتخيل كل ليلة ٍ انهم قد وصلوا لها، او يتذكر المشهد القديم أمام عينيه و ثلاث من حيواناتهم ينهشون جسدها امامه، لقد تكفل بهم دون ذكر قضيتهم، كلا منهم قد نال نصيبه داخل الحجز، من رجال دخلو خصيصا اليهم، و على الرغم من ذلك روح الانتقام بداخله لم تهدأ بعد بداخله.
كل هذا وهو مضطر الآن ان يحني رأسه و يمنعها عن التعرض لأسمائهم، و مضطر أن يحابي و يدلل ذلك الفتى الجميل أمامه لكي يحصل منه على مايريد، وهو يعرف بانه و سيلته الاكثر ضمانا…
فأي عذاب يعيشه في تلك اللحظة!، يود لو يسجنها في قنينةٍ لا يعرف طريقها غيره، يود لو يمسح رأسها الصلب بتعويذةٍ سحرية فلا تتذكر سواه…
اندفع عاصم مائلا على سطح مكتبه وهو يضربه بقوةٍ مرة أخرى وهو يهدر من بين أسنانه (ما أعرفه أنني سأفعل أي شيء لأحميها منهم، أي شيء، ولو ضد رغباتها و ضد رغبات العالم كله، هل هذا مفهوم تماما؟)
لم يستطع حاتم الرد لعدة لحظات، فانتهز عاصم الفرصة ليضرب ضربته مباشرة وهو يعود ليتراجع في مقعده
و يذكر رقما ماليا خرافيا بصوت هادىء…
لم يستوعب حاتم لعدة لحظات مقصد عاصم، الا أنه ملامحه الهادئة الغير قابلة للشك أفهمته المقصود، فهتف حاتم مستنكرا بغضب (أترشوني؟)
قال عاصم بمنتهى الهدوء (الرشوة تكون في سبيل عمل غير شرعي، أما أنا فأكافئك على مساعدتي في حماية زوجتي ليس الا)
اتسعت عينا حاتم بذهولٍ من المنطق، و قال بانشداه (لا بد انك تمزح).
قال عاصم بنفس الهدوء و العزيمة (أنا لا أمزح، سأكفل لكِ كذلك عملا فوق مستوى الخيال بالخارج حتى تبتعد عنهم تماما، لابد أنك ستكون الآن أول موضع شك بالنسبة لهم، ولن يرحموك صدقني و أنا أدرى بهم).
لم يستطع حاتم الرد وهو ينظر اليه مذهولا فاغرا فمه، فتابع عاصم حتى لا يمهله فرصة للتردد (أنت لم تفكر في أسرتك أبدا و أنت تتهور بحماس الشباب. اليس كذلك؟، دون أن تفكر فيما سيكون حالهم لو حدث لك مكروه، الا ترى أن في هذا نوع من الأنانية؟، الا تتخيل نوع الأحساس المضني الذي سيكونون مضطرين للتعامل معه إن أصابك شيء، ان كنت أنت لا تهتم، لكن أنا أهتم، و بشدة، و لن أسمح لنفسي بأن أتهاون في الدفاع دون حدوث ذلك لزوجتي، لذا انصحك أن تفكر جيدا في فرصة لن تتكرر لك و لو بعد مئات السنين).
تركزت نظرات حاتم على السبحة في يد عاصم، و حين استطاع النطق أخيرا بحشرجة (سيد عاصم، لا أعتقد أني)
قاطعه عاصم بهدوء مستفز (فكر جيدا بتلك الفرصة، لأنك لو رفضتها لن تنالها مجددا، و التفكير سيكون حاليا فقط، ففلا مجال للخروج من هنا قبل أن تتخذ قرارك)
اتسعت عينا حاتم قليلا وقال بصوتٍ خافت (هل هذا تهديد؟).
هز عاصم رأسه نفيا ببساطةٍ ليقول (ليس تهديد، لكن ما فائدة أن تتخذ قرارك بعد أن تخبر صبا بهذا الحوار بيننا)
عقد حاتم حاجبيه ليقول بشعورٍ بالإهانة (لم أكن لأقول لصبا، في حالة رفضي).
ابتسم عاصم قليلا وهو يلمح بعض التردد في لهجته، لقد بدأ يلين للعرض الخيالي الذي لا يمكن لبشر ان يرفضه، لكنه و كعادته في التعامل مع السوق، أخذ وقته هادئا و هو يعطي العميل الفرصة كاملة أمام عينيه بينما هو يطرق بقلمه هادئا متلاعبا بسبحته فوق سطح المكتب…
ومرت الدقائق، حاتم ينظر إلى عاصم بتوتر لا يفلح في اخفاؤه، بينما عاصم يبدو في غاية الهدوء على الرغم من أن توتره يفوق توتر حاتم بمراحل لا تنتهي…
الي أن نطق حاتم أخيرا بصوتٍ خافت متخاذل، (لو فرضنا)
قاطعه عاصم بحسم لينهي الموضوع (لن نفترض شيئا، الأمر محسوم من البداية، و لا يحتاج لأي تفكير، و صدقني، أنت تفعل الصواب، ليس من أجل ما سأقدمه لك، لكن من أجل حماية زوجتي و حماية اسرتك من أن يفجعوا في شيءٍ قد يصيبك، ومن أجل ماذا؟، الحق؟، هناك من هم مكلفون بالسعي خلفه و تلك ليست وظيفتكما).
أطرق حاتم برأسه، ثم قال دون ان ينظر لعيني عاصم (ماذا تريد تحديدا؟)
ابتسم عاصم وهو يتنهد ارتياحا و عينيه تبرقان انتصارا، ليقول بعدها بهدوء (كما اخبرتك، اريد ما معك من معلومات، و اذا كان هناك غيرها في مكانٍ آخر)
لم يرد حاتم، ولم يرفع رأسه ليواجه عيني عاصم المنتصرتين بينما يشعر بالخزي يتشعب بداخله بعد ان كان قد بدأ مؤخرا يشعر بالانتشاء من فكرة ان يدافع عن الحق و يقوم بدور البطولة…
لكن عرض عاصم رشوان له جاء مذكرا اياه بقسوةٍ بحياته الصعبة التي نشأ بها هو و اسرته، و حين بدأت الحياة تتفتح له قليلا بالعمل في مجموعات الراجي، لفظوه منها فجأة و ظلموه ظلما بينا، (و هناك شيئا آخر أريده منك، لا يقل أهمية)
رفع حاتم عينيه إلى عيني عاصم وهو يسمع جملته الغامضة و التي قاطعت أفكاره، الا أن نظرات عاصم أخبرته بوضوح أن ما سيسمعه لن يسره، لن يسره أبدا…
شهران مضيا و هو يعلقها به كل يومٍ أكثر من الأول، دون أن يكون صريحا او مباشرا، و كيف يكون صريحا معها وخاتم غيره ملتفا حول إصبعها، يلتف حول صدره ينهشه بغضبٍ هادر لم يعلمه عن نفسه قبلها
يوهمها بأن صداقة رائعة قد نشأت بينهما بينما القسوة تغلف قلبه، كما لم يلمح أبدا لما يتجاوز ذلك…
بينما لم يوهم نفسه أبدا بأنها صداقة، بل إن ما يشعر به لا يمت للصداقةِ بصلة…
ما يشعر به يتجاوز كل الحدود التي نشأ عليها يوما، يكاد يتعرف بداخله على شخصٍ غريب لم يعرفه أبدا من قبل…
لم يكن يوما ممن يعقدون صداقاتٍ مع إناثٍ…
لم ينظر يوما و لا حتى في أحلامه إلى فتاةٍ مرتبطة بغيره، لم يعقد أبدا أي علاقة مع موظفة عنده أو حتى إحدى زميلاته…
لتأتي قطعة الشوكولا الذائبة وتهد كل قناعاته و تذيبه بها قالبة كيانه رأسا على عقب…
لن يهدأ له بال حتى تخلع الخاتم من إصبعها، و بقرارها هي، ليس بناء على طلب منه، و إنما عن ارادتها و اقتناعها التام
ارتسمت ابتسامة قاسية قليلا على فمه وهو يطالع صورتها على شاشة حاسوبه ليلا، متمددا على فراشه…
مد اصبعه يتلمس شاشته المضيئة ليلا بابتسامتها المهلكة، تحركت أصابعه على زوايا فمها المبتسم بميلٍ حزين
ليرتفع سبابته حول فكها و يلامس الأهداب السوداء الطويلة…
كان يعلم كرجل أنها بدأت تذوب به من نظراتها الى عينيه، من همس صوتها وهي تنادي باسمه…
هل يشعر بالذنب؟، ربما، لكنه لن يستسلم، سيستخدم كل وسائله دون رحمة، مستغلا ضعفها…
عاد يتلمس ملامحها من جديد و قد اختفت ابتسامته، كم هي ضعيفة بالفعل، هشة، قابلة للعطب…
لكن بداخلها روح نقية، لم يرى في نقاوتها و بياضها من قبل…
ما يفعله يفعله من أجل مصلحتها، فلو كانت مرتبطة بالشخص الذي يستحقها لربما كان تمنى لها السعادة و ابتعد عن طريقها، لكن بما إنها عمياء الى الآن، فسيأخذ على عاتقه تخليصها منه، و سيفعل.
عادت ملامحه للتجهم وهو يطرق بأصابعه أزرار الحاسب (ألم أقل لكِ من قبل أن تزيلي صورتك الشخصية من موقع التواصل؟).
لحظات احترق خلالها حتى و صله الرد المكتوب الناعم من هاتفها و كأنه يسمع صوتها، و كأنه يرى ابتسامتها المتفاجئة كلما ناداها (مرحبا، الا سلام أولا؟)
ضغط على اسنانه غيظا وهو يطرق الأزرار (أنتِ لا تستمعين لأي نصيحة أبدا، و لماذا تعلقين في الصفحات؟، باسمك و صورتك؟، أنتِ حقا لا حدود لتهورك)
مرت لحظات صمت دون أن ترد عليه، فتوتر و أصابعه تطرق بتوتر فوق الحاسب، ماذا الآن؟، هل تبكي؟..
الا أن الرد وصله بنفس النعومة (هههههههههههههههه)
نظر مقطبا ثم همس لنفسه بغضب يكاد يحطم معه الشاشة، ما تلك الضحكة الغبية؟
هز رأسه حنقا وهو يزفر بنفاذ صبر، ثم عاد ليطرق الأزرار (أزيلي صورتك يا رنيم الآن، و لا تعلقي في أي صفحة. مفهوم؟)
ردت عليه بعد لحظة (حاضر)
رغم أن الكلمة جعلت زاوية شفتيه ترتفعان قليلا، الا أنه قلق من اختصارها في الرد، فسألها كتابة (ماذا بكِ؟).
اجابته برقة (لا شيء، لكن أنا، فقط، اشكرك على اهتمامك)
زفر بنفسٍ ساخن، غاضب، يريد أن يحطم شيئا و بشدة، يريد لو بإمكانه العبور من تلك الشاشة المحدودة ليكون أمامها الآن يخنقها بكل ما في يعتمل في صدره، ثم، يأخذها بين ذراعيه، يربت على شعرها…
يخبرها بأنها ليست وحيدة و أنه معها…
لا يخفي عليه أحيانا شحوب وجهها، و نظراتها الحزينة صباحا، فيدرك جيدا أن السبب هو ذلك الأحمق…
فهو من بعد معرفته بها و تعرفه على تفاصيل حياتها أدرك أنها تتمتع بأب و أم رائعين، لا يدخرون فرصة لإسعادها، لكنه ذلك البغيض، دائما ما تتجنب الحديث عنه، ذكرت بعض التفاصيل عن ارتباطهما الذي بدا له ارتباط مصالح تقليدي لا يحمل أي نوع من المشاعر، و قد أراحه هذا بعض الشيء…
أراحه وهو يتأكد كل يومٍ بأنها لا تحمل مشاعر لذلك الشخص السمج، و في نفس الوقت يود لو يهشم فكه إلى شظايا كونه يتسبب في استهلاك روحها على هذا النحو البائس…
لقد بحث عن كل ما يخصه و بمنتهى الصعوبة، عله يجد أي بارقة أمل فيتركها لحياتها بسلام، على الرغم من أن ايجاد مثل تلك البارقة ستكون بمثابة طعنة نافذة له، لكن سعادتها تهمه بدرجةٍ أكبر.
لكنه الآن مصمم و بشدة على تخليصها منه و لو رغما عن عقلها الغبي، بعد أن تورط قلبه و انتهى الأمر…
عادت اصابعه تخط الكلمات لها (لماذا أشعر بصوتكِ حزين؟)
فترة صمت ثم وصله الرد (لا أبدا، أنا الحمد لله، بألف خير، لا تشغل بالك)
عقد حاجبيه وهو ينظر لكلماتها القليلة الموجزة، هل بدأت تبتعد عنه؟، هل ستتجنبه؟..
لا والله لن ليسمح لها…
فضرب بقوةٍ على الأزرار متهورا (سأهاتفك).
ودون أن يسمع جوابها التقط هاتفه و طلبها، انتظر طويلا والرنين يحرق أعصابه اكثر، دون أن يرفع عينيه عن صورتها أمامه، و ما أن انقطع الرنين حتى كتب لها بقوة و غضب (ردي على هاتفك)
مرت عدة لحظات قبل أن تكتب له (لا أظن أنها فكرة سليمة، الوقت متأخر يا عمر، لكن أنا بخير، لا تقلق، أنا مضطرة للخروج الآن، سلام)
ثم شاهد خروجها وكأنها تسد الطرق أمامه، فرمى هاتفه بغضب شاتما بهمس مكبوت…
ظل مكانه طويلا يتأمل صورتها أمامه، هل تكلم خطيبها البائس الآن؟، ترى حين يتواجدان معا، هل يمسك بيدها؟، و إن سمحت له. هل يتمادى؟..
اندفع الدم ساخنا في عروقه و الصور البغيضة تتلاحق أمام عينيه لذلك المخلوق اللزج و هو يزحف على بشرتها دون أن تردعه بقوة…
كم تدهشه رغبته العنيفة من ضرب شخص لا يعرفه و لم يره سوى مرة واحدة…
كل ما يعرفه الآن وهو موقنا منه حق اليقين، أن رنيم أصبحت تخصه، ملكه، و لن يهدأ له بال قبل أن يحدث ذلك و توقع بروحها عليه…
سمع صوت طرق هادىء على باب غرفته، و حين اذن اليها بالدخول وهو يعرف أن لا غير صغيرته هي من تزوره في هذا الوقت لتحكي معه عن كل ما يحدث بيومها…
دخلت علا مبتسمة تطل برأسها ذو الشعر البني الناعم المتهدل بعفوية حول وجهها الذي يحمل كل ملامح الشقاوة. و قالت مبتسمة (نمت أم ليس بعد؟، لأوقظك ليس أكثر)
ابتسم عمر رغما عنه وهو يغلق الصفحة التي تحمل صورتها كي لا تلاحظها علا، وهو يقول بخشونة (ادخلي يا رأس الإزعاج)
دخلت جريا ثم قفزت لترمي نفسها بجواره متشبثة بذراعه حتى كادت أن توقعه هو وحاسبه وهي تقول بتطفل (ماذا تفعل؟).
دفع رأسها بقوةٍ عن كتفه وهو يقول بخشونة (الا ترين أنكِ قد كبرتِ قليلا على مثل تلك التصرفات؟، و أصبحتِ طويلة كضرفة الدولاب)
عبست علا وهي تقول بامتعاض (هل هذا اسلوب تكلم به انثى محترمة؟)
قال عمر دون أي مرح (أي أنوثة تلك و انت تتصرفين كلاعبي الملاكمة)
عقدت علا حاجبيها وهي تقول متوجسة (أنت في حالٍ سيئة جدا اليوم، ماذا بك؟).
تجاهلها عمر وهو يقول بصلابة بينما عينيه كانتا شاردتين بعيدا عنها (لا تتدخلي فيما لا يعنيكِ)
ظلت علا تحدق اليه بتدقيق الى أن قالت بصوتٍ لا يقبل الجدل (انها زميلتك الجميلة اليس كذلك؟، تلك التي تكاد تطير فوق الأرض، ذات صوت العصافير)
نظر اليها عمر قائلا بفظاظة (علا، ابتعدي عن سمائي، فأنا لست في مزاجٍ يسمح بسخافاتك الآن).
قالت علا منتهزة الفرصة (نعم، اثبت عندك، لماذا لست في مزاج الآن تحديدا؟، ما الذي جد عدا أنها مرتبطة بغيرك؟)
تأفف عمر وهو يغلق حاسبه بقوةٍ كادت أن تحطمه وهو يقول بفظاظة (علا، أريد حالا أن أرى كمال خطواتك وانتِ في طريق الخروج من الغرفة بلا رجعة)
قالت علا تسترضيه (انتظر فقط، لنتفاهم)
لم تلن نظرات عمر وهو يقول عابسا بصرامة (اخرجي بكرامتك قبل أن أرميك خارجا).
عبست علا هي الأخرى و هي تنهض من الفاراش لتقول باستنكار (وأنا التي كنت أفكر في زيارتك بعملك، و تقوية صداقاتي ببعض الموظفين عندك، لرفع روح العمل، لكن أنت لا تستحق)
كانت عند الباب و يدها على المقبض تنوي المغادرة، قبل أن تسمع صوته يأتي خشنا جافا به لمحة تخاذل (أنتظري)
ابتسمت علا وهي توليه ظهرها، الا أنها حين استدارت كانت تنظر اليه بعبوس و ملل زائف منتظرة أن يتكلم.
تنحنح عمر قليلا قبل ان يقول بصرامة بدت مضحكة في عينيها (هل تريدين الذهاب معي الى العمل ذات يوم؟، لكن أنبهك أنها ستكون المرة الأولى و الأخيرة، أنا لست متفرغا لتسلية سعادتك، مفهوم؟)
نظرت اليه علا بحاجبٍ مرتفع قليلا، لكنها آثرت الا تستفزه أكثر، فعمر شقيقها الذي تعرفه يمر بمرحلة مراهقة متأخرة غريبة عليه و لا يجب عليها أن تضغط عليه أكثر.
كل ما تفكر به حاليا هو أن شقيقها الوحيد و الذي تحمل عبىء أسرتهم منذ وفاة والدهم، هي و شقيقاتها حتى زوجهن كلهن و لم يتبقى غيرها، وها هو في الخامسة و الثلاثين و لأول مرة في حياتها تراه على تلك الصورة، مهتما بفتاة، الا أن كلمة مهتم لا تقارن بما تراه في عينيه…
أخذت علا نفسا عميقا حتى انتفخ صدرها و هي تفكر، شقيقها الحبيب أحق بالحصول على من ارتاح لها قلبه أخيرا، و ستعمل هي على تحقيق ذلك، أنه شقيقها و ووالدها، اذن هي الحرب…
ها هي تقف خلفه، تراقبه كما تفعل دائما وهو يزرر قميصه أمام المرآة، لم يظهر أنه يلمحها بل تابع تمشيط شعره، احكام ساعة معصمه، و حين تناول زجاجة عطره الخاص الذي لم يغيره منذ سنوات، سمع وقع الخطوات من خلفه و رنين الخلخال الذي بات يلاحقه مؤخرا طوال الوقت، في أذنيه أكثر منه في الواقع!..
وصلت خلفه تماما ثم شاهد الذراع البيضاء المحلاة بالأساور الذهبية و هي تمتد من خلفه، تلتقط زجاجة عطره من يده لتديره اليها و هيا تضع له العطر بنفسها مبتسمة برقة…
جميلة كبداية الصباح…
شعرها الطويل مشعثا قليلا، وجهها الخالي من زينتها المعتادة ذو ملامح بيضاء تكاد تكون وردية بسبب برد الجو، ترتدي ثوبا طويلا دون أكمام!، متهدلا فوق قوامها المتمايل، فقط وشاح صوفي ملقى على كتفيها بإهمال فسقط عنهما حتى ذراعيها النضرتين…
قال نادر مبتسما بصوت خافت (ستبردين).
ابتسمت حور بهدوء دون أن ترد عليه، فمد ذراعيه ليعيد الوشاح فوق كتفيها، لكنه لم يرفع يديها عنها لفترةٍ وهو يتطلع طويلا لعينيها العميقتين بعمق البحر…
ظلت حور منتظرة أن تسمع منه كلمة، خاصة بعد أن اختفت ابتسامته و تقريبا ظهر عبوس تفكير ضئيل ليظلل ملامحه وهو ينظر إلى عينيها…
لم تبادر بكلمة، منذ فترة وعلاقتهما يشوبها الغموض الذي أصبح ضاغطا عليها بأكثر مما تحتمل، منذ تلك الليلة التي قضاها معها بعد فراق، عاد اليها مجددا الليلة التي تلتها. و التي تلتها…
و بعدها و كأنه قد اتخذ قراره، عاد ذات ليلةٍ اليها و هي في فراشها نائمة بجوار معتز، فامسك بكفها ليجذبها لتقف بهدوء و همس لها برقة بأن مكانها منذ الليلة في غرفته…
تلك اللحظة ضربتها كل مشاعر السعادة التي عرفتها و التي لم تعرفها من قبل…
ومن يومها عادت زوجته، بكل معناها الحرفي، اليس كذلك؟..
لكن يوما بعد يوم، شعور بالفراغ كان يتزايد بداخلها، على الرغم من أنها أخيرا أصبحت تحظى باهتمامه بطريقة فاقت بداية زواجهما بكثير…
حتى طريقة تعامله معها، اصبحت رقيقة للغاية، صوته خافت، لا ينتقدها على كل شيء كما كان يفعل، بل يتعمد المبالغة في مدح أي تقدم تقوم به في الشؤون البيتية…
مجاملاته لها كانت تدفيء قلبها و كأنه يهديها أروع كلمات الغزل، لكن وما أن تنتهى تلك الكلمات و يعود لصمته حتى يقوى احساسها بالفراغ و البرود في قلبها، و الذي لا تعرف له سببا…
أحيانا تشعر بأنها بالفعل لم تعد تعرف ما تريد، تماما كما كان يقول لها دائما، فاهي قد استعادت زوجها تماما كما وضعت الهدف نصب عينيها، فما الذي يمنع سعادتها بذلك الانتصار الذي حققته…
ومنذ فترة قصيرة، خلال هاذين الشهرين، توقفت عن محاولة الفهم، سواء فهمه أو فهم نفسها…
سلمت و أستسلمت…
و حين يصمت كانت تصمت و تبتعد عنه بفكرها، معظم يومها أصبحت شاردة، حتى في وجوده!..
أفاقت على ملمس أصابعه وهو يتحسس بشرة كتفيها ليهمس بعدها برقة (بم أنتِ شاردة؟)
ظلت صامتة تنظر لعينه عدة لحظات قبل أن تبتسم ابتسامةٍ صغيرةٍ مهتزة وهي تهمس بصوتٍ لا يكاد يسمع (لا شيء محدد)
ثم وسعت ابتسامتها قليلا على قدر ما استطاعت و هي تقول جاهدة بمرح (هل سأتي معنا اليوم إلى النادي؟).
ارتجفت ابتسامة نادر قليلا فأدركت دون شك أن الإجابة منتهية، بعدها قال معتذرا (الوقت الذي كنت سأخصصه لكما، جاءتني به زيارة ضرورية، حاولت تأجيلها مرارا دون جدوى، لابد أن أذهب يا حور)
لم تختفي ابتسامتها، و لم تهتز حتى، بل أنها لم ترمش بعينيها وهي تقول بهدوء (لا بأس)
عبس قليلا بحيرةٍ و همس مستفهما (لا بأس؟)
أومأت حور برأسها بهدوء و هي تقول (أعلم أن عملك عندك في المقام الأول).
ازداد عبوسه قليلا بينما ظللت عيناه مشاعر غامضة غير مفهومة لها، و مرت لحظة قبل أن يقول بخفوت متهربا من عينيها (ليست مسألة أنه في المقام الأول، الأمر أن)
قاطعته حور بهدوء دون أن تنمحي ابتسامتها (حقا يا نادر أنا متفهمة، و أنا عن نفسي أصبحت أستمتع بالوقت الذي أقضيه في النادي بعد أن حذفت الناس القليلة القيمة من حياتي)
ارتفع حاجبه قليلا قبل أن يقول بخفوت (من الواضح أنكِ قد بدأت تتأقلمين جيدا).
اتسعت ابتسامتها أكثر دون أن تصل إلى عينيها وهي تقول (اكتشفت اشياء أكبر أهمية و أكثر سعادة، و أولها مراقبة معتز)
و حين لم يرد وهو ينظر اليها متأملا بتركيز تابعت تقول (مراقبته وهو يتعامل مع ما حوله وحدها متعة لم أكن أدركها من قبل، مع أني أشعر بنوع من الأنانية في استمتاعي بالأمر)
ابتسم نادر قليلا وهو يقول (يبدو أنكِ فعلا تتدبرين أمرك)
هزت حور كتفيها وهي تقول ببساطة (أحاول).
أومأ نادر برأسه دون أن يرد لكن عينيه كانتا شاردتين مدققتين بها في نفس الوقت، و كانت نفس النظرة التي نظر بها اليها طويلا عند الباب قبل أن يخرج، وكأنه اعتاد أن ينظر اليها بتلك الطريقة الغريبة…
كانت قد استدارت لتذهب لمعتز قبل خروجه، الا أنه جذبها من ذراعها فجأة اليها ليرفع رأسها اليه، مبعدا شعرها الكثيف عن وجهها كي يتمكن من رؤية عينيها، و حين نظرت اليه بعينين متسائلتين، نزل برأسه اليها يودعها بشغفٍ لم تعتده منه سوى في الفترة الأخيرة فقط…
حتى قبلته مختلفة، وكأنه، وكأنه يحاول تحصين نفسه بها قبل خروجه، لكن، من ماذا؟..
ظل السؤال يتردد بداخلها طويلا وهي تنظر للباب الذي اغلقه بينهما، بينما اختفى كل أثرٍ للابتسامة من على شفتيها…
لا تعلم لماذا تذكرت ماحدث منذ شهر تقريبا…
حين وصل إلى البيت مساءا و قبل موعد عودته بعدة ساعات، يومها انتابها رعبا لم تعرف مثله من قبل، قد يكون رعبا مماثلا لذلك الذي خبرته من عشر سنوات و لم تعرف مثله من يومها…
الي أن جاء ذلك المساء، و سمعت الصوت الذي لا يزال له وقع ليالي الأعياد على نفسها، صوت مفتاحه بباب الشقة في غير موعده…
حينها كانت هي ومعتز جالسين معا فوق الفراش يتكلمان مع بعضهما بلغة الاشارة بعشوائية ميؤس منها و كلا منهما لا يفهم الآخر، لكن ابتسامة عريضة كانت على وجه كلاهما و كأنهما قد وجدا الوضع طريفا رغم فشلهما…
ما أن سمعت صوت المفتاح و رافقه خفقة قلبها المعتادة حتى طارت إلى الباب لتراه…
و لن تنسى أبدا منظره في تلك اللحظة التي دخل فيها من باب الشقة، وهو يحمل كنزته على ذراعه بينما قميصه الأبيض غارقا في الدماء التي غطت صدره…
للحظات ٍ ظلت مسمرة مكانها، متسعة العينيه و فاغرة الفم، حاولت الصراخ الا أنه رفض الخروج من حنجرتها التي أصيبت بالشلل، حاولت و حاولت لكن دون جدوى، وكأنها في ذلك النوع من الكوابيس التي يرفض فيها الصراخ بالخروج ليحررها من قسوة ذلك الكابوس…
و ما أن رفع نادر عينيه إلى عينيها المذعورتين و هي تقف منكمشة في أحد الأركان تضم رأس معتز بقوةٍ إلى ساقيها حتى أوشكت أن تخنق أنفاسه، قال نادر بصوتٍ مجهد و كأنه يلهث وهو يفك أزرار قميصه متجها للحمام (حور، أريد قميصا نظيفا، لا أستطيع التأخر طويلا)
لكن و قبل أن يصل لباب الحمام، كانت قد تمكنت أخيرا من الصراخ عاليا و بغضب حتى أنه استدار اليها مذهولا…
وهي تصرخ و تصرخ بغضب، غير آبهةٍ لصوتها الذي هو من المؤكد مسموع للجيران بكل وضوح، تهذي بكلماتٍ غير مفهومة، لم يستوعب منها سوى معنى واحد وهو أنه كيف تجرأ على الدخول إلى البيت بهذا المنظر، و أنها لا تستطيع النظر اليه، و أنه من المؤكد قد انتابه الجنون ليتصرف بهذا الشكل دون أن ينبهها…
لن تنسى أبدا منظر نادر وهو واقفا بطوله الفارع ينظر اليها بكل ثورتها الهيستيرية، دون حتى أن يأمر بخفض صوتها، لكنها لم تتوقف حتى بعد ان جذبت معتز بالقوة و جرته خلفها لتدخل إلى غرفته صافقة الباب خلفها بكل قوتها…
و بعد أن خفض صوت صراخها ولم يتبقى سوى بعض من هذيانها الغاضب الهائج، سمعت فجأة صوت باب الشقة يغلق من جديد…
حينها سكتت تماما وهي تلهث، متشبثة بمعتز الذي كان بدوره متمسكا بأحضانها بخوف، دون أن يسمع شيئا من صراخها. ، الا أن منظر وجهها الصارخ أرعبه، ربتت قليلا على شعره الناعم، ثم أبعدته عنها برفق وهي تنهض لتتجه ببطء شديد و حذر لتخرج من باب الغرفة، فلم تجد سوى الصمت و الذي كان ضغطه على أذنيها أشد وقعا من ضغط صراخها…
خرجت ببطء، حافية القدمين. تتعثر بهما فوق الأرضية الباردة كالثلج، تجول بعينيها في أنحاء الشقة دون أن تجده، وكأن العرض المسرحي الذي حدث منذ دقائق كان من محض خيالها المجهد…
استمرت في التقدم ببطء من باب الحمام المفتوح، فوجدت آثار الاستحمام بعجل، ثم رأت قميصه…
لكن الفارق أن القميص كان مغسولا!..
لم يضعه في سلة الملابس التي تحتاج للغسل، بل وقف ليغسله بيديه في حوض الحمام، ثم علقه على احدى الخطافات الصغيرة خلف الباب ليجف!..
ظلت تنظر إلى القميص المبلول و المعلق أمامها طويلا، وهي ترى بعض الآثار الوردية به، فهو لن يتخلص من الدماء بسهولة، و من المؤكد أنه سيتخلص منه، لكن بعد أن كان حجب عنه أكبر كمية ممكنة من الدماء…
مدت يدها ببطء تتلمس القماش المبتل، و البلل في عينيها يتزايد و يتزايد. حتى ضاعت الرؤية من عينيها و هي تتشجع لتمسك بالقميص تضمه الى صدرها بقوةٍ غير آبهة بالبلل الذي انتقل إلى ملابسها البيتية في هذا البرد القارص…
لم تدري كم بكت تلك الليلة، لكنها لم تتوقف عن البكاء، حتى بعد أن سمعت صوت المفتاح للمرة الثانية في نفس الليلة، لكنه لم يجلب لها البهجة المعتادة، و انتظرت، انتظرت في غرفتهما، لكن دون أن يدخل…
فخرجت هي اليه، تبحث عنه، الى أن وجدته ممددا على الأريكة بملابسه، يغطي عينيه بذراعه و يتنفس برتابة…
للحظات ظنته قد نام، الا أنها من مجرد حركة صدره أدركت عكس ذلك…
استندت بكتفها الى الجدار بجوارها، و مالت برأسها لتريحه عليه و هي تتلاعب بأصابع كفيها بعصبية، و عينيها تكادان تدميان من شدة تورمهما، تماما كشفتيها اللاهثتين بتوتر.
لماذا لا ينفجر فيها، لماذا لا يخبرها الآن بأنه سئمها و يئس منها و يطلب منها الرحيل دون عودة…
و حين طال به الصمت على هذا الحال، و أرادت قطعه بأي وسيلة، سألت أغبى سؤال من الممكن أن يسأل في تلك اللحظة، بصوتٍ باهت كصوت الأشباح إن كان لها صوت (كيف كان يومك؟)
لم يبد عليه أنه سمعها أو أحس بوجودها أصلا، و اخذ الارتجاف يطوف بجسدها كحلقاتٍ من هواءٍ بارد، الى أن شاهدت شفتيه تتحركان أخيرا بهدوء (كان يوم، ككل الأيام).
ابتلعت ريقها بصعوبة و هي مرتعبة من هدوؤه، فقالت بعصبية لم تستطع السيطرة عليها (و ماذا كان، الذي، الذي)
لم تستطع المتابعة، و ظل هو صامتا دون أن يرفع ذراعه عن عينيه حتى ظنت أنه سيتجاهلها، لكنها فوجئت به يقول بنفس الهدوء الفاتر (كان حادثا، به العديد من المصابين)
ابتلعت ريقها و زاد ارتجافها أضعاف، ثم همست بصوتٍ لا يكاد يسمع (وهل، هل، مات أحد؟).
لم يرد عليها لفترة دون أن يظهر اي تعبير على الجزء المتبقي من ملامحه من تحت ذراعه، قبل ان يقول ببساطة رتيبة (نعم)
فقط نعم، دون أي تعبير، دون أي اضافة، و حين تأكدت أنه لن يتابع، قالت بتوتر (لا، لا يبدو عليك التأثر)
أيضا عدة لحظات مرت دون أن يرد، ودون أن يرفع ذراعه عن عينيه، الى أن أجاب بنفس اللهجة التي لا تعطي أي انطباع (تعاملت مع الموت من قبل، أكثر من مرة).
ارتجفت شفتيها، بشدة حتى فقدت السيطرة عليهما، وهي تحاول النطق دون أن تستطيع، إلى أن همست أخيرا و عينيها مرغرتين بالدموع، (حسنا، يبدو أنك، تجيد التعامل مع الأمر، كما تجيد التعامل مع كل شيء)
لم يرد، و انتظرت و انتظرت أن تنقضي لحظات الصمت التي تسبق رده، لكن انتظارها هذه المرة قد طال، وطال، و عرفت بأنه أغلق الباب بينهما من جديد…
استدارت بصمت و حثت خطاها فقط تتمكن من الوصول إلى غرفتهما، وما أن دفنت نفسها تحت الغطاء حتى عادت للإنفجار في البكاء و هي تعلم بأنها ضيعت فرصتها الأخيرة معه حتى قبل أن تبدأ…
لم تعلم كم من الوقت ظلت مستيقظة، لكنها كانت تسمع كل تحركاته خارج الغرفة، حتى وصل لغرفة معتز، فدخلها و مكث بها طويلا، فظنت بأنه قرر النوم بجانبه و هجرها من جديد، ومن يلومه بعد عرض الفضائح الذي علا به صوتها اليوم…
لكنها فجأة حبست أنفاسها حين شعرت به يدخل إلى الغرفة، أغمضت عينيها بشدة و هي مدفونة تحت الغطاء توليه ظهرها، تسمع حركاته هو يبدل ثيابه، حتى أوشكت على الاختناق من شدة ما كتمت تنفسها بينما قلبها يئن بحزن…
و سرعان ما أحست به يندس بجوارها دون اي كلام…
مضت الدقائق كئيبة صامتة، تكاد أن تختنق من الغصة في حلقها، وما أن فقدت السيطرة على تماسكها حتى صدرت عنها شهقة مكتومة رغما عنها، فوضعت يدها على فمها المرتجف كي تخنقها
بعدها بلحظاتٍ قليلة شعرت بدفئه وهو يقترب منها بصدره الذي التصق بظهرها. تبعته ذراعه التي التفت حول خصرها تشدها اليه بقوة…
في تلك اللحظة فقدت كل القدرة على احترام الذات و هي تنفجر باكية بمرارةٍ دون ان تعلم السبب…
عدة أشياء تداخلت معا فاكتملت بمنظره وهو يدخل غارقا في الدماء…
تذكرت جيدا وهي تبكي أعلى و أعلى، فيشدها بقوةٍ أكبر كلما علا صوت بكائها، ذلك اليوم تحديدا هو اليوم الذي تأكدت فيه أن أسرتها تتجنبها لسببٍ ما، شهر كامل وهو يحاولون التهرب منها، تماما كصديقاتها، او من كن كذلك يوما ما، علمت بأن شيئا ما قد حدث في البيت و حين حاولت الاستفسار تهرب الجميع منها و أولهم أمها، و كأنها من الاعداء…
لم تعي بأنها قد همست كل ذلك أثناء بكائها، لا تعلم إن كان نادر قد سألها أم هي من تطوعت مشكورة بهذا الهذيان أثناء بكائها، بينما كان صوت نادر و هو يهدهدها برفق لتهدأ يدخل مباشرة إلى أذنها دون جدوى…
فتتابع بعدها عن إحساسها بالنبذ كذلك من صديقاتها اللاتي أخرجنها من دائرتهن للأبد و خاصة بعد الشجار الذي حدث بينها و بين إحداهن بعد أن قذف معتز ابنها بكومةٍ رملية ترابية محترمة دخلت كلها و باقتدار في عيني الطفل الآخر، و بعد أن ولول الطفل صارخا كانت النتيجة شجارا عنيفا بين أمه و بين حور، انتهى بصراخ صديقتها بأن الخطأ هو دخول امثالها من أهل تلك الطبقات المتدنية و المعاقين، لتنهي صراخها بكلمة لن اسكت حتى يتدخل أبي و يأمر مجلس ادارة النادي بمنعك أنتِ و ابنك الأصم، من دخول النادي.
همست حور بصوتٍ يختنق بكاءا (قالت عليه أصم أمام الجميع)
تصلبت ذراعي نادر من حولها قليلا، قبل أن يقول بعد عدة لحظات بخفوت (وهو أصم)
شهقت حور عاليا من بين بكائها العنيف و هي تعترف للمرة الأولى بانهيار (لا، لا، لا أريد، ذلك يقتلني)
حينها قال بصوتٍ أكثر خفوتا (وهل ما نريده سيشكل فارقا في الأمر؟، مشكلتك أنك لا تتقبلين ما لا تريدينه و طالما أنت بهذا الحال لن
تعرفي معنى الراحة أبدا).
مشكلتك أنكِ لا تتقبلين ما لا تريدين، ظلت العبارة تطوف في ذهنها مرتبطة بصورته و هو يدخل عليها مغرقا في الدماء…
أغمضت عينيها بقوةٍ و شهقت و الأفكار المرعبة تتلاحق في ذهنها المشتت، فرفعت يدها لتضعها على صدرها اللاهث بقوةٍ و هي تشهق باكية من جديد…
فهمس نادر بقلق (حور، ماذا بك؟)
قالت باختناق من بين بكائها (صدري، صدري يؤلمني للغاية).
وعادت للبكاء أقوى و أاقوى، فمد نادر يده ليضعها تحت يدها، فوق قلبها المتألم بقوة، و أخذ يهمس في اذنها و ذراعه تشدها اليه بقوة (هششش، أنتِ بخير، لا تخافي، أنا هنا بجانبك)
همست من بين دموعها الغزيرة بينما بدأت عينيها المتورمتين في الانغلاق بإعياء (لا تذهب، أرجوك)
و آخر ما سمعته في تلك الليلة هو صوته يهمس في أذنها و هي بين ذراعيه، (لن أذهب، و لن أتركك).
بعد شهر كامل من تلك الليلة، ها هي تقف خلف الباب الذي أغلقه بعد خروجه، طوال ذلك الشهر اعتمد معها الرقة كلما رآها، اهتمام مهذب، و شغفا عنيفا ليلا…
وهي من جانبها، لم تعد تتعقب تحركاته كما كانت، على الرغم من الوحدة التي تشعر بها، لكن اختلاط مشاعر غريب بداخلها يجعلها تحاول اعادة حساباتها مع نفسها أولا، ربما حينها ستتمكن من فهمه…
و فهم ذلك الفراغ الذي يتسع بينهما كلما اقترب منها…
كانت صبا تجلس على حافة الفراش وهي تكاد تموت رعبا، تفرك أصابعها بتوتر، ثم تعود و ترفع يدها لتمسك بها القلادة (الماشاء الله)
، و لسانها لا يكف عن الدعاء…
لم تكن أن مشاعر الأخوة مؤلمة لتلك الدرجة، لطالما كانت تتمنى سرا لو كانت لها أخت تؤنس وحدتها، خاصة بعد رحيل والديها، الا أنها لم تكن تتخيل أن يكون الأمر شاقا عليها بتلك الصورة، خاصة حين تخرج أختها الغبية من حفرةٍ لتقع في مصيبة…
لطالما كانت منطلقة في حياتها، تحقق اهدافها، دون أن تخشى شيئا أو أحدا، لكن منذ أن عرفت طعم العائلة من جديد و هي تكاد تموت رعبا عليهم كل يوم، على أمها إن هدها الحزن، على أخاها الهائم في ملكوت الله، لا يتمكن من الخروج من أحزانه، على حبيبها و زوجها الذي لم تتتعرف حبه الا مؤخرا…
علي أختها، التي تقبع في الحمام منذ نصف ساعة كاملة…
عضت صبا على شفتها حتى اوشكت أن تدميها من شدة قلقها…
مرت عدة دقائق إضافية، قبل أن تسمع صوت الباب يفتح، فقفزت واقفة وهي تكاد تلتهم ملامح حنين الباهتة و هي تسألها بسرعة (ماذا؟)
لكنها في الواقع لم تحتج الحصول على الإجابة شفويا، لقد رأتها في ملامح حنين ما أن أطلت من خلف الباب
هوت صبا جالسة على حافة الفراش من جديد وهي تسأل مبهوتة، (أنتِ حامل؟).
لم ترد حنين و لم تومىء حتى برأسها و هي تتجه إلى فراشها بلا أي تعبير على وجهها، لتندس تحت أغطيته علها تتخلص قليلا من البرد الذي يحفر في عظامها الهشة…
استدارت صبا اليها وهي جالسة على السرير لتهمس برعب و هي تضع يدها على صدرها الخافق (يالهي، يالهي، انجدنا يا رب)
قالت حنين بصوتٍ أجوف خافت، (لماذا هذا الرعب المفاجىء؟، الم تنبري لتدافعي عن تحريم ما كنت سأقترفه).
ارتبكت صبا قليلا ثم قالت بخوف تحاول اخفاؤه دون جدوى (نعم، أنتِ تصرفتِ بمنتهى الضمير يا حنين، فلا تخافي، أنا سأظل جانبك و لن اسمح لأحد بأن يتعرض لكِ)
شردت عينا حنين تطالعان السماء من نافذتها، قبل أن تهمس ببساطة (لم يعد عندي ما أخاف عليه).
ظلت صبا تنظر اليها بصمت بينما هي مرتعبة من الكوارث و الحروب التي ستندلع في البيت ما أن يعرف هذا الموضوع، فهمست أخيرا بقلق (حنين، هل فكرتِ في الأمر الفترة الماضية؟، هل ستتحركين لنيل الطلاق؟، وهل، ستخبرينه، بالطفل؟)
لم ترد حنين و ظلت شاردة في السماء من زجاج النافذة…
تلك الليلة في غرفتهما حين دخل عاصم، كانت صبا في استقباله و ابتسامة وديعة على شفتيها الا أن اهتزاز حدقتي عينيها فضح رعبها منه، لكن ليس على نفسها، فهي لا تخافه أبدا…
كان عاصم عابسا و لم يستجب لابتسامتها الهشة، فاختفت الابتسامة سريعا و هي تتسائل برعب، هل من الممكن أن يكون قد علم بالأمر؟..
سرعان مانفت الفكرة من رأسها، فلو كان عاصم قد عرف لكان صوته الآن يجلجل مزلزلا جدران البيت فوق رأس المسكينة حنين، و رغما عنها و بأنانية حبها أشفقت عليه و هي تفكر من أي جهة سيتحمل كل ما يصيب عائلته…
أخذت نفسا عميقا تحاول به تهدئة نفسها و هي تلقي عليه السلام ببشاشةٍ مرتجفة، لكنه لم يرد عليها و لم يختف العبوس من وجهه، فازداد توجسها و هي تستدير حوله لتخلع عنه سترته قبل أن تعلقها و هي تقول بمرح مصطنع، (ماهذا؟، هل هي حرب الصمت بيننا و أنا لا أدري؟).
و حين استدارت اليه كان عبوسه قد ازداد و وقف أمامها واضعا يديه على وركيه في وقفةٍ هجومية، لا تتناسب مع ضآلة حجمها و هي تقف أمامه تشرئب برأسها وهي تنظر اليه بشجاعة زائفة، إلى أن قصف صوت عاصم جاعلا إياها تنتفض (الي أين ذهبتِ اليوم؟)
تنهدت براحةٍ في داخلها و هي تدرك سبب غضبه، وهو السبب الأزلي، لكن من هول الموقف نست تماما أنها قد خرجت من دون اذنه، مجددا…
أخذت نفسا آخر و هي تبتسم بوداعة و تقول (مادمت تعلم أنني خرجت، فمن المؤكد أن رجالك قد تكرموا و أطلعوك على أنني لم أذهب لأبعد من الصيدلية الموجودة في الحي)
قال عاصم بصرامة و دون أي احساس بالخجل من تأنيبها الغير مباشر (نعم أخبروني، لكن أنا أنتظر تفسيرا لخروجك دون اذن مني، للمرة الألف ربما).
اخفضت عينيها و هي تلتزم بالوداعة كي لا يتسرب الشك لقلبه مؤقتا إلى ان يتدبروا كيف يتصرفون في مثل تلك المصيبة، فهمست برقة بينما احمر وجهها خجلا رغم زيف الموقف (كنت أود شراء بعض الأشياء الخاصة يا عاصم، ما ذاك التحقيق من أجل أمر تافه، الا يوجد أي نوع من الخصوصية في هذا البيت؟).
ابتسم عاصم رغما عنه وهو يقترب منها ليحاصرها و هي تحاول الابتعاد عنه، الى أن سجنها في ركن الغرفة وهو يقول مبتسما (و لماذا لم تطلبي مني ما تريدين؟، الازلتِ تخجلين مني؟)
احمر وجهها بشدة وهي تدير رأسها عابسة بعيدا عن عينيه المتصيدتين، لتهمس بتأفف (اللهم طولك يا روح، عاصم كن جادا قليلا).
لكنه اقترب اكثر وهو يميل اليها ليقبل وجنتها بقوةٍ حتى تسبب في احمرارها و كأنه قرصها من خدها، و رفع رأسه ليقول مبتسما بعبث (لم أسلم عليكِ كما ينبغي حين دخلت)
مطت صبا شفتيها بامتعاض و هي تقول بتذمر (كنت مشغولا برصد تحركاتي، كمسجل خطر عليه أمر مراقبة)
اتسعت ابتسامته قليلا، ثم امسك بذقنها ليرفعه اليه ونظر إلى عينيها مليا قبل أن يقول بعمق (صبا، لماذا كنتِ تتكتمين خروجك بهذا الشكل؟، هل تخفين عني شيئا؟).
اتسعت عيناها و ضاعت ابتسامتها و هي تهمس بسرعة (لا، طبعا لا، ما كل هذا الشك؟)
لكن ابتسامة عاصم لم تختفي وهو يهمس بتأمل (صبا، هل كنتِ تشترين اختبار حمل؟، هل أنتِ حامل؟)
اتسعت عيناها أكثر حتى بدت مذهولة…
و فغرت شفتيها بصدمة، كيف استنتج ذلك و كيف ربطها بها؟، كان من الممكن أن تكون قد ذهبت إلى الصيدلية لألف سبب، فكيف تمكن من التخمين هكذا بمنتهى البساطة؟..
ظلت لعدة لحظات بنفس المظهر المذهول المصدوم حتى هتف عاصم بعدم تصديق (صبا هل أنتِ حامل؟، حقا؟)
و قبل أن ترد كان قد رفعها اليه يعتصرها بقوة، و لو كانت حامل بالفعل لكان الطفل قد سحق تماما، عند هذه النقطة أفاقت صبا من ذهولها لتهمس أمام وجهه و هي تبعد قبلاته المتلهفة عن وجهها لتهتف بخوف (لا، لا، لا يا عاصم لست حامل اطلاقا).
نظر اليها عاصم بتركيز بعد ان تبخر كل ابتهاجه، ليقول بعد فترة بخفوت (هل أنتِ متأكدة؟)
أخذت صبا نفسا عميقا و قالت بشجاعة (طبعا متأكدة و أنا أدرى الناس بنفسي)
أنزلها عاصم ببطء، ثم تركها ليستدير بعيدا، حينها عبست صبا و هي تتأمل موقفه الجديد، فدارت حوله بسرعةٍ وواجهته قائلة بقلق (عاصم، هل أغضبك الأمر، نحن، لازلنا في بداية زواجنا).
نظر اليها عاصم، ثم ابتسم بعد لحظةٍ ليربت على وجنتها برفق و هو يراقب قلقها، و لام نفسه بشدةٍ على القلق الذي سببه لها بمظهر إحباطه…
فقال بحب (لست غاضبا أبدا، كل ما في الأمر أنني قد تعشمت للحظاتٍ و رسمت أحلاما عريضة خلال تلك اللحظات)
و قبل أن ترد عليه كان عاصم قد أحتضنها بقوةٍ و هو يهمس في اذنها (لو تعلمين مقدار شوقي في الحصول على طفلٍ من ثمرة احشائك يا بنت السلطان، لكنتِ سعيتِ لإنجاب عشرة اطفال).
أغمضت صبا عينيها وهي تدفن وجهها في صدره، و قلبها يخفق فوق قلبه خوفا من الايام القادمة على هذا البيت، بينما كان عاصم شاردا في شيءٍ آخر تماما، حيث اظلمت عيناه دون ان تتمكن صبا من رؤيتهما، أو سماع صوته الذي كان يهمس بداخله
سامحيني يا بنت السلطان، سامحيني، لن أفعل ما سأفعله الا خوفا على روحي، التي هي انتِ.
واقفا في مكانه المعتاد، من تلك الساعة ليلا، يتأمل نافذتها المضاءة، و كأنها تترك ضوء الغرفة خصيصا لكي يراها، حيث تختال من أمام النافذة كل فترة هنا و هناك، و في هذا الوقت و الظلام تبدو واضحة المعالم لكل من يمر من هذا الطريق الضيق…
صحيح أن الستائر الشفافة تغطيها عن عينيه قليلا، الا أنها لا تحجب رؤيتها تماما، عنه و عن اي أحد…
زم شفتيه وهو ينفث لهيبا يعبق بقهر الشهرين الماضيين…
شهران كاملان وهو يراها عن بعد، مضاءة بضوء ذهبي شاحب، بينما ملامح جسدها الفتي داكنة، لا يصدق أنها تلك الفتاة الصغيرة التي تزوجها منذ عشر سنوات، ليست هي نفسها من تختال من خلف زجاج النافذة…
ذات الشعر الطويل، طويل جدا، طال عن اول مرة رآها فيها بعد عودته، وكأنها لم تعتد تهتم إلى أين سيصل، آخذا عينيه معه…
من يصدق أن جاسر رشيد في يوم ما سيظل قابعا تحت نافذة فتاة يتأمل كل تفصيل من تفاصيلها، لكنها ليست فتاة، انها زوجته، بكل ما للكلمة من معنى، جسده يعرفها و يناديها، و عيناه تدركان كل لمحة منها و كأنه حفظها كلها عن ظهر قلب…
اقبضت قبضتاه بشدة، وهو يراها تقترب من النافذة ببطء، لتزيح الستائر، و تفتح زجاجها، ثم تستند بيديها الى حاجز النافذة رافعة وجهها و كأنها تتنفس الهواء البارد…
اشتعلت مشاعره كلها بلحظة، و احترق الدم في عروقه وهو يراها بهذا المظهر الخلاب أمامه…
نظر حوله يتأكد إن كان هناك من هو مارا الآن ليستمتع بمشاهدة تلك المجنونة، زوجته…
تنهد بيأس وهو يتأملها عاجزا عن إشاحة بصره عنها لأكثر من لحظة، لا يبدو عليها أنها قد تأذت منهم، يعلم الله اي قوة استحضرها ليتركها اليهم طوال شهرين كاملين، لكنه و بدفع عمر دفعا له بدروس توعية يومية أن أقصر طرق الأذى بالنسبة لها الآن هو أن يتركها لدى أهلها الى أن تهدأ الأحوال، و إلى أن…
هز رأسه رافضا التفكير في تلك المرة التي جعلها فيها زوجته فعليا، كان عليه فعل ذلك، و لم يجد القدرة على المقاومة أكثر، انه بشر قبل كل شيء…
مد يده إلى جيب بنطاله دون أن يرفع نظره عنها، ليلتقط هاتفه و يطلب رقمها، على ذلك الهاتف الذي اشتراه لها ذات يوم، و الذي خرجت بدونه إلى أحضانه، ثم أعادوها بالقوة، إلى الهاتف الذي لم تدمره، كان مغلقا لفترة طويلة، الى أن سمع رنينه ذات يوم، بعد أن قامت بشحنه، من يومها وهو لا يمل الاتصال بها كل يوم و في كل وقت، رنين، رنين، دون أن ترد…
ومع ذلك، تلك الخطوة أشعرته بحماسٍ رهيب، فمن الواضح أنها تشحنه باستمرار، و تسمعه وهو يطلبها في كل وقت، دون أن تتصرف حيال الأمر، بدا و كأنها ترحب بتلك الصلة بينهما…
لذا أخذ عهدا بالا ينقطع رنينه لها أبدا، الى أن تسمعه صوتها ذات يوم، و حينها، حينها ستكون اشارة البدء للتحرك اليها من جديد دون كلل، لو عليه لاستمر في خوض كل الحروب التي يعرفها…
الا أن شيئا غريبا عليه، غريبا عليه تماما، يجعله يتأخر في استجلاب المزيد من الضرر لها، و شيء آخر، في زاوية عميقة من زوايا نفسه، كره خطفها، يريدها أن تأتي اليه، بنفسها…
زفر جاسر بنفاذ صبر وهو يستشعر قربه من الاصابة بالجنون بسببها!
بدأ الرنين المعتاد في التسلل لأذنيه، ليراها وهي في وقفتها و شعرها يتطاير خلفها بجنون بفعل الرياح الباردة، تلتفت فجأة خلفها و كأنها سمعت صوت الهاتف، اتسعت عيناه قليلا وهو يرى لأول مرةٍ ردة فعلها على سماع رنينه اليها…
و بعد لحظةٍ من الرنين استدارت لتنظر اليه مباشرة…
ارتجف الهاتف في يده، لكنه لم يتحرك من مكانه وهو يبادلها النظر بقوةٍ و الهاتف على أذنه…
ثم كالعادة، استدارت و رحلت، و تركت الستائر المتطايرة تحل محل شعرها أمام عينيه…
لكنه لم يتراجع و لم ييأس، و ظل الهاتف على أذنه يخبره بأنها تستمع إلى رنينه…
لكن فجأة، رآها تعود إلى النافذة من جديد، اتسعت عيناه وهو يراها تنظر اليه بقوة، لترفع يدها ممسكة شيء ما، وضعته على أذنها، وقبل أن يستوعب ما حدث كان صوتها يخترق أذنه بكل هدوؤه، (ماذا تريد؟).
للحظات ظل جاسر مشدوها من صوتها الذي وصله أخيرا بعد غياب شهرين، و ما أن تمالك نفسه حتى هدر بقوةٍ (إياك أن تغلقي الخط والا قسما بالله ستجديني اقتحم البوابة لأصل اليك ِ، و ليحدث ما يحدث)
جاء صوتها مباشرا هادئا، وهي تقول بفتور (اخفض صوتك).
ابتلع ريقه بصعوبة وهو ينظر حوله ليتأكد من عدم وجود أحد ليشهد على مزيد من الفضائح، ثم عاد لينظر اليها وهو يحاول أن يستجمع أي تهديد من أي نوع، لقد أخذته على حين غرة، وها هو يقف صاغرا أمامها، غير قادر على استجماع كلمة…
و بعد صمت طويل، قال بحدة (أريد أن أراك ِ، أريد أن، اريدك، أنتِ زوجتي و سأستعيدك و لو رغما عنكِ)
لم ترد و لم يبد على وقفتها أنها قد اهتزت أو اصيبت بالإغماء من رعب تهديده الأخرق…
حاول الكلام مرة أاخرى فقال بخشونة رغم النبرات المرتجفة (هل آذوكِ؟)
لم تتحرك من مكانها وهي صامتة طويلا تاركة اعصابه تحترق بنيران القلق قبل أن تقول بصوتها الهادىء الجديد عليه تماما (أي حياةٍ تتخيل أنني قد عشتها الفترة الماضية؟)
نار، نار اندلعت في جسده و هددت بحرق كل جسور التواصل مع آل رشوان وهو ينتقصون من رجولته بايذاء زوجته، فهتف يرتجف (فقط اعطيني التأكيد و سترين أن).
قاطعته حنين بهدوء (المزيد من الألم)
هتف جاسر بقلق (لا، لا، لن يجرؤ احد بعد الآن على مسك بسوء فقط).
وجد أن صوته يرتجف حتى أن كلماته قد تقطعت، فحاول مرة أخرى التكلم بمنطقية خشنة (اسمعيني جيدا يا حنين، انا فرصتك الوحيدة في خروجك من السجن الذي تعيشينه الآن، أنا زوجك، لن تجدي أي فرصةٍ أخرى افضل من عودتك الي، لن يقبل بكِ غيري، وكأني أصلا سأسمح باقتراب أيا كان منكِ، أتريدين المزيد من الكوارث؟، سآتي لآخذك، و أمام كلمتك لن يستطيع أحد منعي).
أيضا لم ترد، ظلت واقفة طويلا و الهاتف على أذنها و رأسها مائل و كأنها تتأمله بتمعن، و ما أن بلغ توتره أقصى حدوده، حتى سمع صوتها يقول مفكرا (اذن انا بين خيارين، إما أن أفقد الأمل تماما في الزواج و الخروج من سجني، و اما ان اقبل بمن اغتصبني، ليغتصبني كل ليلة، لو كنت مكاني، اي الطريقين ستختار؟).
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بأمر الحب)