رواية غوثهم الفصل المائة وثلاثة وستون 163 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة وثلاثة وستون
رواية غوثهم البارت المائة وثلاثة وستون
رواية غوثهم الحلقة المائة وثلاثة وستون
“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثامن وسبعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
إلى عزةَ اللهِ العزيز ابتهالُنا ..
يعلمُنا من عزهِ كيف نخشعُ ..
إليه تعالى ..
نرفعُ الذكرَ باسمهِ فنرقى ..
وعبدُ اللهِ باللهِ يُرفعُ
سبحان من له العزةُ جميعًا ..
ولا عزةَ إلا باللهِ القوي العزيز.
_”نصر الدين طوبار”
____________________________________
لكني يعز على فؤادي حينما أبحث عنك بعيني فلا أراكِ..
على الرغم وأنا أُفتِش في داخلي لم أجد سواكِ..
أأنتِ من نزعتي يدكِ عن يدي، أم أننا منذ البداية خُلقنا غرباءً؟ فأين أنتِ في الدنيا بعيدًا عني على الرغم أنكِ جزءٌ لا يتجزأ مني، اليوم أخشى أن أفتح عيني فلا أراكِ كما لم تحدث من قبل والقلب يهوى طيفًا سواكِ..لا بأس في عالمٍ لن يدوم، فالملتقى الأخير عساه يكون في عالمٍ غير هذا، عالمٌ أسمى صفاته العدل، وليس كما هذا الذي نعيش فيه تحت وطأة الخوف والفساد..
فدعينا من عالمنا هذا ولا تكترثي به، دعينا اليوم نحلق كما الطيور في السماء خِلسةً ونطالع الأرض من فوق السماء ولا نشغل بالنا كثيرًا، ولما نشغل بالنا وأنا وأنتِ سويًا من الأساس؟
اليوم وفي عالمنا هذا قد أفتح عيني ولا أراكِ،
لكن حينما افتش عنكِ في قلبي لم أجد سواكِ
اليوم أرغب أن أكون معكِ كما الطير حُرًا؛ بلا قيود ولا قواعد..
اليوم أرغب أن أحلق بكِ في السماء واتركك تختبرين الحُرية كما النجم يُضيء وهو صاعد، ولو لم يكن العالم حليفًا لكِ، أنا ضد العالم معكِ أنتِ، فقط عودي وعانقي بكفك كفي، فأني خشيت الحياة دونك…
<“لم تكن مجرد ذكرى عابرة، وإنما هي ذكرى مستوطنة”>
كل الذكريات يومًا لم تفل وتترك صاحبها..
وإنما هي كما الاحتلال تسكنه وتستوطنه وتظل بداخله، ولأن الاحتلال له القوانين الخاصة به فهو بين الحين والآخر يداهم من احتله بضرباتٍ غير متوقعة تباغته فجأةً..
فلم تكن أبدًا الذكرى ذات يومٍ عادلة، وإنما هي مُجحفة تأتيك في أكثر الأوقات ضعفًا كي تستسلم لها، ولأن الذكريات لا تأتِ إلا مُداهمةً كما الأمواج، فاليوم لن نغرق في المحيط خُفافًا، وإنما سنثقل أرواحنا بقدر ما يُثبتها..
أوقفت الفتاة الصغيرة تستفسر منها وقبل أن تجاوبها الفتاة صاحبة العشر أعوام شهقت بفزعٍ ما إن ولج “هـاني” الرواق مهرولًا وطالع الفتاتين بنظراتٍ نارية جعلت الركض هو جل ما يصدر منهما، بينما “فُـلة” فتوسعت عيناها وجف حلقها، وفجأةً سحبها “هـاني” من خصلاتها ثم هدر من بين أسنانه المتلاحمة:
_جاية تشتغليني أنا يا روح أمك؟ جاية تدوري ورايا؟ طب تعالي بقى يا بنت عمي أعرفك أنا بعمل فيهم إيه هنا، دا أنتِ حتى حلوة وييجي منك أوي يا حتة.
أنهى حديثه ثم قام بجرها خلفه وهي تحاول أن تخلص نفسها لكن السيف قد سبق العزل وهي تساق لمصيرها حيث غُرفة مظلمة ألقيت بها ثم تلقت صفعة فوق وجهها أسقطتها أرضًا، والقادم أقرب في وصفه لعاصفةٍ هوجاء تقتلع كل شيءٍ ثابتٍ، فكانت تتلوى في قبضته كي تنزع نفسها منه بعدما قبض فوق خصلاتها مُجددًا لكنه كان الأقوى حينما ثبتها في الأرض ثم هدر بعنفٍ:
_وغلاوة أمك وأبوكِ ما هتخرجي فيكِ نفس حتى.
أنهى حديثه ثم صفعها الصفعة الأولى ثم الثانية، ثم الثالثة حتى نزفت الدماء من وجهها وكأن وصل هو للخامسة فسقطت هي أرضًا بنصف جسدها المستقيم وهي تأنِ بوجعٍ بينما هو فزفر بقوةٍ ثم لفظ سبة نابية من بين شفتيه تخلصها هي ثم وقف يتنفس بعنفٍ وهو يفكر هل يأخذ بثأره منه الآن، أم يتم تأجيل عقابها لحين إشعارٍ آخر؟ قبل أن يأخذ رد فعل تابع جسدها بعينيه المُلتهمتين وهنا دقت بالفعل نواقيس الخطر فوق رأسه كما الشيطان..
في الخارج ركضت فتاة من الفتاتيْن بأنفاسٍ متقطعة حتى ولجت خارج المبنى نهائيًا وإذ بها تصدم في قدم أحدهم الذي كان يوليها ظهره فانتبه لها والتفت بكامل جسده يطالعها بعينين مستفسرتين فوجدها تقول بأنفاسٍ لاهثة:
_عمو…الحقها بسرعة..
ضيق جفنيه ووجه بصره حيث إشارة الفتاة نحو المبنى البعيد الأقرب في وصفه للمهجور ثم عاد يسألها بتريثٍ وهدوءٍ:
_هي مين اللي ألحقها؟ ومالك خايفة كدا ليه؟.
حاولت أن تتنفس وهي تقول بنبرةٍ متلعثمة:
_”هاني” بيضرب البنت اللي كانت بتتكلم معانا جوة، خدها ومش عارفة هيعمل فيها إيه بس هو جوة معاها، أنا خايفة علشان هو شافني بكملها، عمو والنبي متمشيش..
توسعت عيناه بهلعٍ وفرغ فاهه وهو يجد الفتاة تتمسك بكفه وتتوسله ألا يرحل بينما أتاه الصوت من خلفه يسأله بحيرةٍ عن موضع الآخر الذي لم يجده أيًا منهما منذ أن وطأت أقدامهم هنا:
_ملقتهوش برضه يا “أيـوب” وكله بيقولي كان واقف برة، معرفش الزفت دا بيقف في أنهي داهية تاخده وسايب الدنيا تضرب تقلب فوق دماغ الكل كدا.
التفت “أيـوب” لـ “باسم” الذي يتحدث معه من الخلف ثم بحث بعينيه في المكان يجد ما ينفعه لكنه لم يجد، فتذكر الفتاة وحديثها فجلس على عاقبيه أمامها ثم سألها بهدوءٍ أقرب لهدوء ما قبل العاصفة:
_أنتِ عارفة مكانه فين طيب؟.
أومأت له بلهفةٍ ثم التفتت وهرولت أمامه تسبقه فإذ به هو يلحقها وخلفهما هرول “باسم” دون أن يفهم أي شيءٍ لكنه تابع سير خطوات “أيـوب” الراكض الذي لم يعرف حتى الآن هوية تلك التي يهرول لها كي يقوم بإغاثتها، وصل خلف الفتاة التي أشارت نحو الغرفة فاندفع هو يكسر الباب بجسده ومعه “بـاسم” أيضًا ولم يتطلب الأمر منهما كثيرًا، فهي ضربة واحدة تلاها أخريتان وفجأةً انكشف ما تم ستره بداخل الغرفة..
كان “هـاني” يلتقط صورًا لابنة عمه عارية فوق الارض بعد محاولته في الاقتراب منها لكنه قرر أن يؤيد كل شيءٍ بدليلٍ ملموسٍ في يده، وما إن فُتِح عليه الباب ارتد للخلف وسقط منه الهاتف، بينما “أيـوب” بعد نظرةٍ واحدة في وجه “بـاسم” انقض فوق “هاني” وبدأ معه الملحمة الحربية التي لن يوقفها إلا الثأر حتى وإن كان الآخر يُكافيء قوته بنفس القوة ذاتها..
بينما “باسم” فاقترب من الفتاة المُلقاة فوق الأرض وقد تعرف عليها على الفور وعرف أن هي نفسها زوجة رفيقه فمال بجسده عليها يتبين هويتها وما إن فتح حقيبتها وتأكد من اسمها هدر موجهًا حديثه لـ “أيـوب” بصراخٍ:
_دي “فُـلة” مرات “مُـنذر” يا “أيـوب” وشكلها قاطع النفس.
توسعت عيناه ثم شدد قبضته فوق عنق “هـاني” الذي ظهرت عليه علامات تلقين “أيـوب” الدرس له وقد أقسم له “أيـوب” بغلٍ دفينٍ أتى من صميم فؤاده:
_وربي اللي عمري ما حلفت بيه كدب لأخليك تعفن في السجن ومش هسيبك تفلت بعمايلك دي، يا أنا يا أنتَ..
أنهى حديثه ثم ضربه في الحائط خلفه حتى ظهرت الدماء من خلف رأسه وترنح بجسده حتى سقط أرضًا، بينما “أيـوب” فخلع سترته الشتوية ثم أخفى جسد “فُـلة” بها ودثرها جيدًا بها كي يسترها عن الأعين ويخفي جسدها الواضح بينما “بـاسم” فاقترب من “هاني” ثم نزع منه مفاتيحه وهاتفه وكل شيءٍ يخصه أو يدينه ثم انتبه لـ “أيـوب” الذي حملها فوق ذراعيه وهرول بها نحو الخارج فلحقه “بـاسم” بعدما تمم على بعض الأشياء التي حتمًا ستنفعه بكل تأكيدٍ…
خرج “أيـوب” المُصاب في يده ووجهه إثر اشتباكه مع الآخر بها ركضًا وكل أمله أن يلحقها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة فوق يديه، لذا خطواته كانت سريعة ونبضاته متعثرة بكل قلقٍ وخلفه “بـاسم” يخشى على رفيقه من معرفة كارثةٍ مثل هذه حتمًا ستُصدع قلبه لنصفين وجرحه أبدًا لن يبرأ..
____________________________________
<“لو كان القانون رادعًا، فلما القتل لم ينتهِ؟”>
هل سألت نفسك ذات يومٍ عن الحياة؟…
بالطبع فعلت لكنك لم تجد الجواب الفصيح، والآن سأخبرك أنها لم تكن حياة وفقط، وإنما هي الحياة الدُنيا، لن ترتق أبدًا للبشر المثاليين وإنما هي تحتاج لذا الذي ينتهج كل الطرقات الملتوية كي يسلك مساره وحده دون أن يراعي غيره من الناس، حياة تحتاج لمن يقسو ويُحيد عن كل قانونٍ كي ينصر قانونه هو وفقط ولأن القانون لم يكن رادعًا، فبالطبع العدل لن يسود..
“بـنـفس الـتوقـيت”
كانت تلك هي صدمته الكُبرى في حياته وتكاد تكون الأكبر من بعد معرفته بأصل نسبه ولمن يعود دمه ولمن يُنسب بيلوجيًا، كان يجلس أمام الطبيب المثالي الذي أخبره بصدمة عمره حتى شُل أمامه وفقد كل جوابٍ أو رد يكاد ينفعه أو ينصفه، وقد زايد الآخر على الحديث بقوله الذي لم يقبل تشكيكًا فيه:
_يمكن دي تكون صدمة ليك، بس صدقني محدش معصوم من الغلط فوق الدنيا دي، وأنا مكانش عندي حلول تانية تخليني ألحق أختي غير دا، واحد بيهددني بسمعة أختي ومش بس كدا دا كمان ناوي يفضحها بصوت وصور، كنت هسكتله؟ لأ طبعًا، علشان أختي تقدر تعيش من غير خوف كان لازم أموت سبب خوفها دا، وخوفها كان من عمها مش من حد غيره، علشان كدا اتخليت عن مبادئي وروحت حطيت أيدي في أيد واحد من الناس اللي كانوا ليهم عداوة معاه وخليته حطيله سم في الأكل، وساعتها اللي لبسها رجال الأعمال اللي كانوا معاه…
فرغ فاه “مُـنذر” بقوةٍ أكبر وظل يرمش ويُرفرف بجفنيه كثيرًا وكأنه يجلس فوق مقعدٍ فقط لتلقي الصدمات وليس إلا، وهذا ما لاحظه عليه “جـواد” الذي تقدم منه بجذعه مُشبكًا كفيه معًا ثم قال بسخريةٍ تشمل باطن الأمر:
_متستغربش، أنا ممكن أبان ليك مثالي بزيادة، بس أنا مقدرتش أشوف حد بييجي على عرضي وشرفي كراجل ويتاجر بلحمي واسكتله، كدا أنا اللي هبقى مش راجل، علشان كدا خلصت منه وارتاحت وريحتها هي كمان معايا من اللي كانت فيه، “فُـلة” تعبت كتير أوي، شافت حاجات صعبة وعلشان تقدر تقف من تاني على رجليها، وعلى فكرة “فُـلة” معاشتش طفولتها أبدًا، بالعكس عاشت نص عمرها طفلة بتتعرض لانتهاك، والنص التاني بتتعافى فيه من اللي حصل في النص الأول…
سكت هُنيهة ما إن تذكر حياة شقيقته التي عانت فيها كثيرًا في حياتها وكادت أن تلفظ الأنفاس الأخيرة في رحلة عمرها، وفي هاته اللحظة كان “مُـنذر” يشعر أنها نصفه، هي نصفه الآخر بكل تأكيدٍ وبلا ذرة شكٍ واحدة، كلاهما بالتقريب لاقى نفس المصير وكلاهما حتمًا لم يتعافَ من ندوب حياته التي ظلت عالقة في الفؤاد وصداها يتردد في عمق الفؤاد كأنها صوتٌ يتردد بغير توقف..
في تلك اللحظة تمنى لو يخفيها بين ذراعيه ويُعيد معها ربيع الطفولة المغدورة على كفوف أقرب الأقربين لهم، لتوهِ فتش عنها بعينيه وتمنى أن يراها أمامه فيحتضنها ويخبرها بما وصل لقلبه من حديثٍ، وقبل أن يغوص أكثر صدح صوت هاتفه برقم “بـاسم” فأخرجه كي يجاوب عليه وما إن فعل وصلته استغاثة الآخر به وهو يقول:
_مراتك في مستشفى ***** تعالى بسرعة يا “مُـنذر” علشان ابن عمها حاول يتهجم عليها وهي معايا أنا و “أيـوب”.
وهُنا حقًا انقسمت الروح لنصفين وكليهما أكثر ظُلمةً من الأخرى، شعر بالأرض تميد به أسفله وكأنه يلفظ آخر أنفاسه هو وليست هي من تفعل، شعر أنه يود الطير لها وبالأخص حينما قال قلبه له كي يوصل لها كلامه وكلماته التي يعتمل بها صدره حيث قال القلب مُناديًا عزيزه:
_أنا معك وهُنا كي اسمعك..
أنا معك حينما يعود الماضي ويُداهمك
وحينما تقسو عليك الطُرقات وتحكم عليك بالتيه،
أنا معك حينما قلبك يستثقل العالم ولا يستسغيه،
أنا معك ووجدت لأجلك كي اسمعك،
أتيتُ لك بكتفي ومعي في قلبي كل الحنين،
وهُنا أنا معكِ كي أحمل عنك الحِمل الثقيل..
استفاق من غفوته على تقريع العقل له وهو يلفت نظره كي يتحرك من موضعه ويقوم بالركض نحو زوجته وما أن هب منتفضًا طالعه “جـواد” بحيرةٍ وعجبٍ في الأمر فأخبره بإيجازٍ فقط وهو يتحرك للهرولةِ للخارج:
_”فُـلة” في المستشفى..
وبعد تلك الجُملة هرولا سويًا دون أن يكترثا بأية معايير أخرى أو حتى هيئة تختصهما وهما يركضان بتلك الطريقة وبالأخص وشقيقها يحاول أن يستفسر عن أي شيءٍ يخصها ويخص حالتها وما آلت إليه حتى وصل بها الأمر إلى المشفى، لكن الآخر ظل تائهًا مع رأسه التي عصفت به في تلك الدقائق فمرت عليه أعوامًا..
____________________________________
<“ماذا نفعل في عالمٍ حتى والدينا كرها تواجدنا فيه؟”>
يُقال أن الحب هو أكبر الأشياء الداعمة للبقاء..
لكن ما العمل في عالمٍ لا تجد فيه الحب حتى من ذويك بأنفسهم؟ ما العمل في حياةٍ تعيش فيها بمفردك حتى وأنتَ مع الأحبةِ؟ لعل حديثي سوف يكون قاسيًا لكني دعني أخبرك بشيءٍ..
أنتَ اليوم تعيش مهزومًا من كل شيءٍ احببته،
ويؤسفني أخبرك أن كل شيءٍ وضعت
به أمالك سوف يهزمك أكثر، تمامًا كما ظننت في الأقارب والأصدقاء وكل الأحباب ولم يلاحقك منهم سوى الخذلان،
وهكذا ستفعل بك الأحلام أيضًا..
كانت وحدها بين جدران البيت الكبير الواسع عليها وحدها، كانت تعيش في لوحة سوداء لم تلمح منها لونًا واحدًا قط، فقط لوحة يُحيطها السواد الحالك وتماثله في ذلك الهالات السوداء التي استقرت أسفل الجفنين، كانت تشعر بالجوع لكن جوعها لن يسد فجواته الطعام فحسب، وإنما جوعها يحتاج لعناقٍ دافيءٍ، مواساة لطيفة تمسح فوق قلبها، ربتة رقيقة فوق موضع نبضها، بيت عائلة يضمها ويحميها في كنفه، كانت تحتاج لأساسيات وليست الرفاهيات…لكن يبدو أن عائلتها كانت لها الرأي الآخر..
كانت تلك هي حياة “نـورهان” التي عاشت وترعرعت في الوحدة منذ أن كانت فتاة في ربيع العمر وتحتاج لمن يمسك بيدها لكنها تُرِكَت وحدها في الطريق ومع أول خطوةٍ تعثرت بها لم تجد من يلتقط كفها ويُساندها كي تستقيم الخُطى، والآن حتى في لحظات مرضها هي وحيدة وضعيفة وجائعة أيضًا ولم تجد من يعاونها في أبسط الأشياء..
بعد مرور ساعة أو ما يزيد عن ذلك شعرت بأمها بجوارها تهزها برفقٍ كي تستفيق وتنتبه لها، في باديء الأمر ظنته حُلمًا من ضمن الكثير، لكنه كان واقعًا، فكانت أمها حقًا هي من تقف فوق رأسها فانتبهت هي لها وجلست فوق الفراش تُطالعها بغرابةٍ في الأمر وحيرةٍ فقالت أمها برفقٍ رأفةً بحالها الذي عكس ما في نفسها:
_بابا كلمني وقالي إنك تعبانة بس هو مشغول شوية، علشان كدا جيتلك علطول، أخبارك إيه؟ تحبي ننزل للدكتور نكشف طيب ونتطمن عليكِ؟ بس الحمدلله شكلها نزلة برد وهتعدي على خير.
ابتسمت “نورهان” بسخريةٍ ثم قالت بصوتٍ مختنقٍ إثر الإعياء الذي أصاب جسدها وهدمها على أثره التعب:
_متشغيليش بالك أنتِ، دا مجرد دور برد واخدة عليه علشان تغيير الفصول، بلاش تعطلي نفسك أنتِ في حاجة مفروغ منها ليكِ وهتقلبلك حياتك.
لاحظت أمها صيغة كلماتها والسُخرية المُبطنة في كلامها، لكنها لم تقدر على تكذيب تلك الحقائق فحمحمت بصوتٍ ثم بدلت الحديث بقولها الذي بدأ متوترًا للغاية:
_طب نيجي ننزل نجيب شوية هدوم وحاجات ونعمل شوبينج مع بعض يمكن دا يخليكِ تفوقي شوية وتتحمسي بدل الكآبة بتاعتك دى وحرام برضه أنتِ لسه صغيرة ليه مكبرة نفسك كدا؟
ابتسمت بتهكمٍ وعلقت مرارة الخذلان في حلقها لكن قلبها تحمس لذلك وبشدة، تمنت أن تحظى مع أمها بلحظات قليلة تقبلها كهدنة سلامٍ من الحياة ثم تعود من جديد للخصومة بعد أن ينتهي الأمر، كادت أن توافق بثباتٍ وثُقلٍ كي تخفي حماسها وفرحتها لكن صوت الهاتف الذي صدح فجأةً أخرجها من دوامة حِسبتها وانتبهت لصوت أمها وهي تهتف بتقهقرٍ وتراجع:
_جاية خلاص، نص ساعة بالكتير واتحرك قولتلك خلاص.
فهمت وأدركت أن والدتها تتحدث مع زوجها فشعرت بصوت الهشيم يصدر في عمق قلبها، كأنه تكسر وتصدع فورما أدركت أن مثلها لن تحصل على الحب حتى من والديها بذاتهم، أغمضت عينيها كي لا يفيض منهما الدمع، لكنها لم تدرك أن شلالات المُحيط انفجرت فيها فأغرقت قلبها في بحارٍ من الأحزان، وهكذا تقوقرت في نفسها حتى عادت لها أمها تسألها باهتمامٍ:
_ها تحبي ننزل ونروح فين بقى ؟ المكان اللي تختاريه نروحه.
وهُنا فقط خرجت الوحوش الغير مهذبة منها فثارت ثورتها وطاف العمى في عينيها يعمي الرؤية لديها حيث قالت بصراخٍ هادرٍ في وجه أمها وهي ترى نفسها تُستبدل بغيرها من الناس لم يكونوا ذات يومٍ على صلة قرابة من أمها:
_أنتِ بتضحكي على مين أنا مش فاهمة؟ عليا ولا على نفسك ولا على جوزك؟ مش برضه كلمك يسألك أنتِ فين وأنتِ كالعادة خوفتي تجاوبيه وسكتي خالص، وبعدها قولتي إنك نص ساعة وهتتحركي، صح ولا أنا بكدب؟ قومي أمشى وروحي لجوزك وعيالك وسيبك مني، وقولي للي كان جوزك ملهوش دعوة بيا ويخليه مع مراته وعياله هو كمان وخلوني في حالي، سيبوني لوحدي ومحدش يفكر يجيلي غير لما أموت بس دا لو افتكرتوا يعني إن كان ليكم بنت…
وفي تلك اللحظة كانت تنفجر فيها كانت لحظة حملت انفجار الحاضر بأثر الماضي منذ أن تم تركها وحدها من قبل والديها بعد أن تخليا عنها لأجل حياة كليهما، لم يُخيل لها يومًا أن تشحذ الحُب من والديها وتحلم بعناقٍ من أيًا منهما، كانت ترغب في أبسط الأشياء لكن الحياة دومًا ترى القليل كثيرًا لمن يحتاجه، كادت أمها أن ترد وتُجادل لكن ما أن أتتها المكالمة الثانية، انسحبت من أمامها بقولٍ مهتريءٍ لن يجدي الأمر نفعًا بشيءٍ:
_طب أنا يدوب هتحرك علشان للأسف أختك عندها حفلة تكريم بكرة في المدرسة ولسه محضرتش أي حاجة وباباها واقف مستنيني، بس وعد هجيلك تاني وفكري لو تحبي نروح لدكتور يطمنا أنا معاكِ أي وقت طبعًا، باي يا روحي..
ألقت لها العُذر وكما هو المتعارف عليه أن العُذر أقبح من الذنب، وهي عُذرها كان أقبح من ذنبها، فهي دون أن تعلم تخبرها بكل قسوةٍ أن الأخرى تفوز عليها في المكانة لديها، تُعلمها بكل أنانية أن الابنة الثانية المتفوقة هي الأحق بوقتها من تلك الفاشلة، حياة لن ترأف وترحم أي فردٍ فيها وهي وحدها تُعاني من كل الجهات وتتحمل بكل ضعفٍ وهوانٍ تلقي الضربات…
انتظرت رحيل أمها ثم انفجرت باكيةً بعدما وارت ضعفها عنها كي لا تُثير شفقتها وتضطر أن تكون بمظهر الفتاة الضعيفة التي تحتاج لحنانها عليها، فظلت صامدة حتى فرغ البيت عليها ثم راقصت حزنها وداعبت بأناملها أوتار الأنغام الحزينة وهي ترقص عليها كما الفراشة المهزومة التي انتظرت الربيع ولم تجد إلا خريفًا أسقط الأوراق وتسببت عواصفه في كسر جناحيها..
____________________________________
<“ولأن الفرحة أكثر من له أعداءٌ، وجدنا لهم العدو الأكبر”>
لكل فرحةٍ يتواجد عدوٌ يقف بالمرصاد..
لكن في بعض الأحايين هذا العدو لا يكون عدوًا للفرحةِ إنما هو عدو صاحب الفرحة بذاتها، تجده كارهًا لمن أتته الفرحة وطرقت بابه كي تدخل حياته، وفي تلك اللحظات عليك أن تكون قويًا، فقبل أن تُباشر العدو بخبر فرحتك، صوب هدفك نحو حزنه، وإن لم تكن تعلم فهذا هو العدو الأكبر…
فعل كل شيءٍ كي يبدو الأمر غير مبالغٍ فيه، لقد انتظر تلك اللحظة بمشاعر متأججة كي يخبر الجميع بهذا الخبر الذي ما إن أتاه وهو يشعر أن الفرحة اكتمل الضلع الناقص فيها، واليوم هو لأول مرة يفعل هذا الشيء ويتنازل ويتواضع ويقرر أن يختلط بغيره من الناس؛ فقط لأجل إسعاد زوجته، واليوم “أيـهم” في بيت حماه برفقة أسرته كاملةً وقد أتى حاملًا الحلوى بشتى أنواعها وبأسعارٍ عالية تليق بابن “العطار” الذي لن يقبل أن يوضع بتلك الصورة المُشينة التي تصورها لها أختها عنه..
جلس مع حماه ينتظر قدوم بقية الأفراد تباعًا وقد رأى بأم عينيه القلق ينهش فيهم بسبب مكالمته التي أتت لهم فجأةً يخبرهم عن ضرورة اجتماعهم لهنا بتلك الطريقة، وقد جلس والدها فوق مرجلٍ من نارٍ كأنه يخشى على ابنته من أي فعلٍ قد يعود بها خاوية الوفاض في ملتقى نقطة الصفر، لذا لاحظه “أيـهم” فقال بصدقٍ له كأنه قرأ تعابيره وخوفه:
_بنتك معايا في أمان، زي ما بالظبط هي مخلياني أنا وابني في أمان ومتطمنين على نفسنا، وأنا جاي النهاردة علشان أفرحكم معانا، مش نفسك تفرح بيها برضه؟.
حرك “شلبي” عينيه نحو ابنته التي تجلس بجوار “إيـاد” الضاحك بسعادةٍ تجعلها ترد الضحكة بأخرى تماثلها كأنه كتابٌ وهي تقتبس عبارات الفرحة منه هو، ابتسم بعينيه لها حتى دون أن يعلم سبب فرحتها، لكنه تأكد لتوه أن ابنته نالت الفرح أخيرًا من بعد انقطاع السُبل بينهما، وقد اكتملت العائلة حينما التفوا حول بعضهم وأتت “نـهاد” برفقة “حيتانها” كما يزعم “مهدي” ويؤكد ذلك “إيـاد”…
بعد ترحيبٍ وجلسةٍ ودية بين أفراد العائلة وبين التساؤلات التي نطقت بها الأعين وهي تحاول التحكم في فضول صاحبها كي لا تفصح عن شيءٍ ما في قرارة النفس، لكن “أيـهم” انتظر جلوسهم حول مائدة الطعام ثم بادر بقوله الذي خرج رتيبًا ومنمقًا:
_قبل بس ما نبدأ ناكل خلوني أفتح لكم نفسكم وأفرحكم معايا علشان تعرفوا تاكلوا، “نِـهال” بعد كرم ربنا علينا الحمدلله حصل وحملت وحاليًا في الشهر الأول وكلها ٩ شهور وربنا يكرمنا مع بعض بدرية صالحة وأخ أو أخت لـ “إيـاد” من أمــه.
تعمد أن يقوم بمط كلماته وتركها مفتوحة كي تصلهم الكلمة بتريثٍ ويلقى هو صداها على ملامح وجوههم، كان يراقب النظرات وإذ فجأةً تقفز “نـوال” على شقيقتها وتحتضنها صارخةً بحماسٍ وفرحٍ ثم بكت في عناق شقيقتها وهي تُخبرها بصوتٍ باكٍ:
_يا روح قلب أختك، يا حبيبتي، بجد يا “نِـهال” ولا أنتِ بتهزري؟ أنتِ فعلًا حامل؟ يعني اتأكدتي طيب؟ حصل أخيرًا؟.
أومأت لها موافقةً بعينين باكيتين وهي تؤكد هذا الشيء لكن بسبب مشاعرها فرت الكلمات منها وهربت، ارتمت في عناق شقيقتها المفضلة فضمتها الأخرى بقوةٍ أمام العائلة بأكملها وقد ضحك “مـهدي” وهو يُطالع زوجته في عناق شقيقتها، بينما أمهما فركضت تضم ابنتها لعناقها وأطلقت زغرودة عالية ثم قالت ببكاءٍ أتى من فرحتها بابنتها:
_الحمدلله يا رب على كرمك وفضلك، الحمدلله يا كريم…
ياما أنتَ كريم يا رب، الحمدلله يا رب، الحمدلله يا كريم..
مشاعر الأمومة لديها تفاقمت ما إن تحقق حلم ابنتها التي شارفت على عناق اليأس في أحضانٍ أبدية لن تنفك، لكن اليوم يبدو أن العناق تفرق وللأبد والآن يعانقها الفرح بدلًا عنه، وقد تحرك والدها أيضًا يبارك لها ويحتضنها هو الآخر، ومن ثم حرك “أيـهم” عينيه نحو “نـهاد” وسألها بسخريةٍ مصطبغة بالمرح:
_إيه يا مدام “نـهاد” مش هتباركيلنا؟.
ابعدت عينيها عن شقيقتها وانتبهت له وهو يسألها بعينيه وبحاجبين مرفوعين، فقالت هي بتهكمٍ بإشارةٍ من رأسها تزامنًا مع إنطلاق الحديث بقولها:
_والله لما هي والأستاذة ياخدوا بالهم إني قاعدة أبقى أبارك ليها، بس واضح إن هما كعادتهم مش واخدين بالهم مني، طول عمري خارج حسبتهم هما الاتنين، بس مبروك يا “نِـهال” يا حبيبتي ربنا يسعدك ويقومك بالسلامة، أهم حاجة خلي بالك الشهور الأولى دي علشان الحمل يثبت، دي أول مرة ليكِ بعد شوقة ربنا يكملها بخير.
الحديث قد يبدو طبيعيًا لكن من يعلم هو الذي يرى الكلمات المصبوغة بالكره وشيءٍ في النفس لم يكن مُريحًا، وهذا ما شعرت به “نِـهال” من وصول الكلمات لها، حقًا القلوب ترى وتُبصر أكثر من العين، فإن كذبت العين النظرات وتداعت ما لم يكن في حديث المُقل، فالقلوب لن تفعلها، وهي رأت بقلبها قلب شقيقتها وشعرت بالغِصة في قلبها، وقبل أن ترد عليها رد “أيـهم” بدلًا عنها حينما ناوب نفسه بديلًا لها:
_هيكملها بإذن الواحد الأحد، أهم حاجة النية تكون خير، وهي نيتها خير أوي وأم مفيش منها اتنين، وبشهادة الكل، وأنا كراجل لو هضمن راحتها وهي فوق راسي طول العمر هعمل كدا، بس أي حاجة هتحصل هتبقى نصيب ومكتوب وأنا هكون راضي بحكمة ربنا، بس إحنا أملنا في ربنا كبير وإن شاء الله فرحتها تكمل على خير وبعد الشر لو حصل حاجة، “إيـاد” ابنها موجود بس هو مستني أخوه..
أغلق في وجهها بكلماته كل الطُرق كي لا تسلك أخرًا بكلماتها، أعطاها كل الأجوبة التي قد يخطر ببالها الأسئلة لها فضيق عليها الخناق بقوله وكلماته وهي التي أغصبت شفتيها على بسمةٍ كردٍ على كلماته، لكن ملامح وجهها كانت تُناقض كل ذلك، فهي حتمًا ساورها الضيق ما إن وصلها خبر حمل شقيقتها وكأنها ترى الفرحة كثيرة عليها، كانت تظن نفسها الأفضل وهي معها كل شيءٍ، لكن شقيقتها أتت وتفوقت عليها في كل شيءٍ حتى ذاك الأمر الذي كانت تظنها محرومةً منه، اليوم أصبحت تملكه كما غيرها من النساء…
وفي المُتعارف عليه هؤلاء هم مرضى القلوب..
إن وجدوا معك شيئًا تمنوه لأنفسهم،
ويوم أن يكون معهم يرونه كثيرًا على الآخرين،
هؤلاء هم بذاتهم الذين إن حصلوا على الشيء
بعد غيابٍ استكثروه على غيرهم وظنوا
أنهم الأحق به، لكن المسألة تعود للوقت
ومن ثم يعود كل شيءٍ لطبيعته كما تعود
المياه لمجراها، وكذلك تستقر الأمور عند مرساها..
____________________________________
<“لكن أنفاسي هي التي هربت مني عند غيابك”>
تلك اللحظات الراهنة التي تمر في الانتظار..
هي اللحظات القاتلة بلا شكٍ، فطوال أيام عمرك لن تجد شيئًا أبشع من الانتظار لشيءٍ إما يكون بمثابة الحياة، وإما يكون هو الموت بعينيه، وهذا هو الشيء الذي القاتل بذاته، أن حياتك القادمة بأكملها تتوقف على لحظة واحدة يتوقف خلالها الزمن..
في رواق المشفى كان يقف وعيناه لم تترك الباب الذي أخفاها خلفه، جسده يقف متصلبًا وقلبه معها في الداخل، يقف وكل الخيالات تعصف به وكلهم أكثر سوءًا مما سلفهم، لكن الأكثر سوءًا لديه هو أمر فقدانها من بعد أن أصبحا سويًا أخيرًا، كان “مُـنذر” على شفا حُفرةٍ من نيرانٍ تلهب مشاعرها وتلتهمها..
ولحسن حظه أنه لم يكن بمفرده وإنما كان أولًا برفقة “أيـوب” الذي أصيب بجرحٍ في جبهته وكف يد إثر الشجار الذي وقع بينه وبين “هـاني” حينما كان يُكبله، وقد احتدم وقتها الشجار بينهما حتى اسقطه “أيـوب” أرضًا وحملها ورحل بها، وقد أتى “نَـعيم” برفقة “إيـهاب” و “تَـيام” و “إسماعيل” كي يكونوا مع أخيهم..
كان “مُـنذر” حقًا في حاجتهم جميعًا، كان ضعيفًا وهاشًا كما ورقة خريف في مهب الريح ويحتاج لمن يرسخ جذوره بالأغصان وبمجيء عمه له كان كمن وجد الشجرة التي تأويه تحت ظلها كي تحميه من آشعة الشمس الحارقة، فضمه عمه لعناقه ثم شدد أزره بقوله:
_وحد الله ومتزعلش نفسك، هتطلع بخير وكويسة، خلي أملك في ربنا كبير يا واد بقى دا أنتَ ياما شوفت في حياتك مش هتيجي على حاجة زي دي هتعدي وتوقعك، أنا ابني راجل وقد الشدة، صح يا “مُـنذر” برضه؟ مش أنا ابني راجل وقدها وقدود؟.
كان يعامله بمبدأ المُسايسة والمهادنة والآخر أومأ له موافقًا في عناقه ثم همس بنبرةٍ خافتة لم تصل لغير عمه بعد نفسه:
_يا رب خرجهالي بالسلامة، مش عاوز غيرها بس معايا.
مسح عمه فوق ظهره ثم شدد ضمته له وتركه في عناقه، بينما البقية فوقفوا حول “أيـوب” الذي ضمد جراحه البائنة وظل معهم حتى يطمئن على تلك المسكينة التي يبدو أنها تعرضت لصدمة نفسية حادة لن تخرج منها إلا بشق الأنفس، فهي شارفت على إتمام الثلاث ساعات في الداخل ولم يخرج حتى تلك اللحظة طبيبٌ يُطمئنهم، لكن “تَـيام” تأهبت حواسه وهو يسأل رفيقه بقوله:
_وأنتَ مين عمل فيك كدا؟ وأيه اللي حصل يخليك تكون هنا؟.
استغفر ربه سرًا ثم نبس بنبرةٍ خافتة:
_يا صبر “أيـوب”..
هو يعلم أن التساؤلات سوف تُحيط به من كل حدبٍ وصوبٍ لكنه حقًا لن يُجيد شرح أي شيءٍ، فلجأ للإيجاز بكلماته قائلًا:
_اللي حصل طويل وشرحه كتير أوي وبدون دخول في تفاصيل كانت حاجة هساعد فيها “مُـنذر” يرجع بيها حقوق الغلابة، بس للأسف مش كل حاجة بتكمل زي ما الإنسان بيحسب ليها، ساعات كل حاجة بتتبدل وتتغير في لمح البصر وإحنا في النهاية بنحمد ربنا على كل حال، لعله صرف عنا شرًا كنا نحسبه لأنفسنا خيرًا، الحمدلله وربنا يطمننا على المدام وتخرج بخير من جوة..
طالعه كلًا من “إسماعيل” و “إيـهاب” بحيرةٍ بينما الثاني فلمح وقوف “جـواد” منزويًا ومستندًا على باب الغرفة، فاقترب منه “إيـهاب” وربت فوق كتفه وقال بصوتٍ هاديء:
_أنا حاسس بيك ومقدر خوفك فوق ما تتخيل، خصوصًا لو بتعتبرها بنتك الكبيرة وهي نصك التاني، وحد الله وهتخرج متقلقش عليها، دي تربيتك برضه وأكيد قوية وعنيدة زيك، مش هتستسلم بسهولة.
ابتسم “جـواد” بسخريةٍ موجعة ثم رد عليه بتهكمٍ مرير في باطنه كان يسكن الوجع:
_ماهي المشكلة فعلًا إنها قوية وعنيدة، بتحب الحياة أوي وطول عمرها تحب تقف بعد ما تقع وتكون أشطر من الأول ويمكن دا اللي محسسني بالعجز ناحيتها، إن هي قوية وبتحب الحياة، بس للأسف الحياة مبتحبهاش، كل ما تكون فرحانة بحاجة تيجي حاجة تانية وتزعلها، بس أنا أملي في ربنا كبير إنها ترجع بخير وتقف تاني على رجليها، وأتمنى منرجعش تاني لنقطة الصفر.
في تلك اللحظة أتاه رجاؤه على هيئة الطبيب الذي وقف بجواره وقال ببسمةٍ هادئة وكأن تلك هي طبيعة ملامحه البشوشة حينما عند تحدثه:
_الحمدلله الآنسة فاقت وهي حاليًا أفضل بكتير، ياريت بس بلاش نضغط عليها لأن واضح هي اتعرضت لضغط عصبي ونفسي شديد، وكمان ياريت اتعرضت للتعنيف ودا باين من أثار الضرب على جسمها وفي كدمات وأثار محاولة اقتراب منها، وفي الوضع دا لازم نبلغ علشان نخلي أي مسئولية علينا.
اندفع “جـواد” بلهفةٍ يوقفه ويردع فعله بقول:
_لأ بعد إذنك يا دكتور، بلاش لو سمحت علشان مفيش حاجة هتتحل، هي كانت في مشوار وحد حاول ياخد منها الشنطة والفلوس وياريت زي ما حضرتك بتقول بلاش بلاغ لأن التحقيق هيضغط على أعصابها أكتر وأنا أخوها الكبير والأستاذ جوزها، الأمور اتحلت خلاص.
طاف الطبيب بعينيه بينهما بتساوٍ ثم انتبه لـ “أيـوب” الذي ظهرت عليه بعض الإصابات ثم قال بتريثٍ وهو يتكيء على كلماته:
_طب والأستاذ؟ مين اللي معوره كدا؟.
جاوب “مُـنذر” بدلًا عنه قائلًا:
_ماهو دا الأستاذ اللي لحقها، بس حصل اشتباك بينه وبين الحرامي، وصدقني ملهوش لازمة ومفيش حاجة هتتغير غير إنها بس هي اللي هتتعب نفسيًا أكتر، ولو متعرفش فأنا وأخوها وهي دكاترة نفسيين وفاهمين الموقف هيكون أثره عليها إيه.
وجد الطبيب أن حديثهم صحيحًا، فحتى التقرير الطبي لن يضر الآخر بشيءٍ سوى مجرد اشتباكٍ بين فردين ويكاد ينتهي بين طرفة العين وفتحها، أومأ لهم موافقًا مع دوام الصحة والحال الأصلح لها ولهم ثم تحرك من المكان وتركهم معًا وأول من ولج لها كان “جـواد” الذي طالع “مُـنذر” بطرف عينه ففهم الآخر وأومأ له موافقًا بتفهمٍ وتركه يطمئن على تلك التي فعل لأجلها كل شيءٍ حتى الغير متوقع منه..
ولج لها بقلبٍ ينبض بعنفٍ خشيةً من رؤيتها، كان يؤخر قدمًا ويؤخر الأخرى كي لا يراها بهذا الوضع، لكن لهفته عليها دفعته كي يُكمل الخطى فاقترب منها ليجدها تطالع النافذة بوجهٍ متورمٍ وأثار الصفعات مستقرة فوق وجهها، رأى كدمة نتج عنها جرحًا بجانب فمها، المتورم فتألم قلبه وهو يجلس عند طرف الفراش في مُقابلها ثم ناداها كي تنتبه له…
لم يأتيه الرد منها بعد أن ناداها وكأنها تتعمد الهروب منه، فكرر هو فعله مرة أخرى ومسح فوق وجنتها برفقٍ فأجفل جسدها عند لمسته وتذكرت الماضي عند محاولة اغتصابها على يد عمها وصوت صرخاتها تعلو وتشق البيت الفارغ ولم يأتيها يومها غير الشقيق الذي يُناصف الروح ويُشاطر القلب ويُقاسمها الأوجاع ويؤثرها على نفسه في الأفراح، وما إن فهم ما تمر هي به، همس باسمها برقةٍ حانية مسحت على فؤادها المكلوم بقول:
_”فُـلة”…بصيلي طيب هتخبي نفسك عني أنا؟.
هرعت العبرات من عينيها وشهقت باكيةً بعدما حاولت أن تكتم بكائها لكن ما إن فشلت في ذلك أتى نحيبها مُتعاليًا فضمها شقيقها لعناقه يحميها فيه من وحش الماضي بذكرياته الأليمة؛ فحاولت هي أن تتمسك به برغم قوتها الواهنة، ولأنه يعلم ويطلع على مافي قلبها قال بحنوٍ:
_بلاش عياط وبلاش تفكري في حاجة تزعلك، عدت على خير خلاص ورجعتي لحضني تاني وبقيتي معايا، أي حاجة تانية هتزعلك بلاش منها، اتفقنا؟.
أومأت له موافقةً دون أن تجد الرد المُناسب عليه أو قد تكون وجدته لكنها لم تستطع أن تجاوبه فكفت عن الجواب وتوقفت لأنها لم تجد صوتها كي تجاوبه، بينما هو فابتسم لها ثم مسح فوق وجنتها وقال بنفس الطريقة الحانية:
_حقك هيرجع زي كل مرة حد حاول فيها يقرب منك، متزعليش نفسك أنتِ بس وياريت اللي حصل دا ميتكررش منك تاني، قبل أي خطوة تعرفيني ناوية على إيه، مفهوم ولا هنعيده تاني؟.
أومأت له موافقةً بخزيٍ اتضح في عينيها، ولم تتعجب من عدم إعادته لفتح الموضوع مُجددًا، وهذه هي طبيعته، فهو لم يكن يومًا متسرعًا أو حتى فوضويًا، هو دومًا يتعامل برتابةٍ في كل شيءٍ، طبعه دومًا يميل إلى اللين، حكمته هي دومًا المُتحكم في الأمر حتى في المصائب الكُبرى مثل تلك التي أوقعت نفسها بها..
ولج في تلك اللحظة “مُـنذر” يقطع لحظتهما سويًا فكانت هي أول من انتبه إليه، تعلقت المُقل ببعضها في وصالٍ لم يود أحدهما له أن ينقطع، فغاصت هي في عينيه بينما هو فرؤيته لها أمام عينيه جعلته يشعر أن هناك بعض المُسميات الأخرى في تلك الحياة ترتبط بذات المعنى، أقترب منها ووقف بجوار الفراش بصمتٍ أطبق على كليهما، وقد وقف “جـواد” وهمس له وهو ينسحب من المكان:
_خليك معاها شوية وأنا هخرج أخلص الحسابات علشان نمشي، بس ياريت متفتحتش معاها الموضوع، على الأقل دلوقتي خلاص.
أومأ له بشرودٍ حيث صب كامل نظراته عليها هي وما إن خرج شقيقها جلس مقابلًا لها فوق الفراش ثم رفع كفه يسمح عبراتها المُنسابة فوجدها تُغمض عينيها ثم تنفست بتشنجٍ أخرج زفيرها مُتقطعًا، فتنهد هو بثقلٍ ثم مسح برفقٍ وجهها موضع تلطخ العَبرات لها ولوجهها، ثم سألها برفقٍ ولينٍ كأنه يشكوها لنفسها:
_هُنت عليكِ علشان تعملي كدا في نفسك؟ طب بلاش هان عليكِ نفسك علشان تخليني أتمنى الموت ١٠٠٠ مرة قبل ما أجيلك وألاقيكِ مش هنا؟ أنا أول مرة في حياتي أحس إني خايف كدا، ليه بس تخليني أحس بالعجز، أنا بقيت أخاف اللي عملته يتردلي فيكِ أنتِ، فمتسكتيش على الأقل وعرفيني أنتِ فيكِ إيه؟.
من جديد هرع الدمع من عينيها وانتحبت باكيةً أمامه، أما هو فرغمًا عنه ضعف أمامها كلما تذكر الخطر الذي حاوطها، بينما هي اختصرت حالها واحتياجها في جملة واحدة خرجت منها تمتزج بالبكاء والخوف معًا:
_ينفع تحضني؟.
توسعت عيناه بغير تصديقٍ وفرغ فاهه أمامها فوجدها تُضيف من جديد بتأكيدٍ لحديثها السابق بإصرارٍ أكبر:
_احضني يا “مُـنذر” وطمني..
بعد تلك الجُملة خطفها في عناقه يضمها بذراعيه بقوةٍ وهي تبكي معه كأنها حقًا كانت تُطمئن نفسها أن أخيرًا وبعد كل شيءٍ أصابها وحدث معها وجدت من يقف ندًا أمام خوفها فيقهره ويرجعه، أما هو فكان حائرًا ومُشتتًا وهي في عناقه للمرة الأولى، جمعهما العناق الأول بعد معاناةٍ وألمٍ وفقدٍ وياليت كل العالم كان أمانًا كما كان الأمان في هذا العناق..
_كان كلاهما عظيمًا في المواساةِ..
على الرغم من أنهما عانيا من نفس الشيء
نفسها الحياة القاسية التي قامت بالضغط عليهما،
ونفسها الطفولة البريئة المُغتصبة، واليوم كلاهما
كان مداويًا لجراح الآخر وياليت الجراح تطيب..
____________________________________
<“كنا نحسبه شرًا، ولم نكن ندرك أنه أخطر مما ظننا”>
في موقفٍ ما قد يكون عابرًا..
لن تدرك قيمة الشيء إلا بعد لحظتين؛ إما أن تفقده تمامًا ويترك غيابه في نفسك أثرًا سلبيًا وإما تحاوطه المخاطر وتمنع بينك وبين الوصول له الطُرقات بأكملها، لذا قبل أن تُهمل تذكر أن ذاك الشيء قد يكون معك وفي طرفة عينٍ لن تراه مُجددًا..
كانت تجلس بضيقٍ وضجرٍ منه وكلما تذكرت ما فعله كانت ترغب في الصراخ منه، ولم تكن هذه إلا “قـمر” التي حاولت أن تتواصل مع زوجها لكنه أهملها طوال اليوم وآخر شيءٍ قام بفعله أغلق الهاتف في وجهها وقطع عليها الاتصال به، وهُنا شعرت بالحزن منه وبغير مبالغةٍ كانت خيبة الأمل أيضًا هي ما شعرت به من موقفه..
وقد نزلت لها “عـهد” وولجت الشقة تجلس بجوارها ثم سألتها بمزاحٍ وكأن قصدها كان السخرية منها وعليها بسبب موقف “أيـوب” معها:
_واضح إنك طارفة عينه، شكله ارتاح منك وما صدق يخلص، قولتلك اتقلي ومتتصليش بيه وهو اللي هيكلمك، بس عارفة؟ حتى لو كلمك هتجري تردي عليه زي الهبلة وما هتصدقي.
ضيقت “قـمر” جفونها وهي تُرشقها بنظرات نارية حادة ثم تجاهلتها وهي تنظر أمامها فصدح صوت هاتف “عـهد” بنفسها النغمة المعتادة لهاتفها هي الأخرى فلمحت اسم “حبيب عيوني” وفي تلك اللحظة خطفت “عـهد” الهاتف ثم حركت كتفيها وهي تقول بدلالٍ مفتعلٍ قاصدةً به إغاظة الأخرى:
_هقوم أرد على جوزي، ميقدرش يقعد من غيري…
وقبل أن تُكمل حديثها تلقت الوسادة في وجهها بضربةٍ من “قـمر” التي كادت أن تصرخ من غيظها أو ربما كانت تحاول الهرب من ذاك الصوت الذي يخبرها أن هناك مكروهٌ أصابه وهو لم يكن بخيرٍ، في تلك اللحظة مسحت فوق قلبها روحةً وجيئة ثم همست لنفسها أن كل شيءٍ بخيرٍ وأن تلك الظنون هي مجرد خبالٍ وليس إلا..
في الداخل كانت “عـهد” تتحدث مع زوجها وتستمع له عن سرده عن أحواله لكنها لاحظت أن صوته مضطربًا فسألته باهتمامٍ عن أحواله وقد بدت نبرتها قلقة للغاية:
_أنتَ فيه حاجة مزعلاك؟.
زفر بقوةٍ وأخرج هواء سيجاره ثم قال بتيهٍ:
_آه فيه، مخنوق وعلى أخري هنا، وبعد الوقت بس علشان أرجع تاني ليكم، والله لولا إني مش ناقص بهدلة أكتر من كدا كان زماني سايبها تضرب تقلب فوق دماغ الكل ومشيت، بس حرام العمال دي تتبهدل بسببي أنا.
شعرت هي بتيه كلماته فتنفست بعمقٍ ثم قالت بهدوءٍ:
_طب ما أنتَ ابن حلال أهو وهمك على الناس عامل قلق ليه؟ وحد ربك كدا واستعذ بالله من الشيطان علشان تقدر تكمل شغلك، ولو زعلان أوي كدا افتكر إنك قبل كدا ماكنتش لاقي حد يعبرك حتى وحاليًا في عيلة كاملة بتحبك ومستنياك..
_طب وأنتِ؟.
سألها بهمسٍ ناعم بعدما ابتسم رغمًا عنه بسبب حديثها، وما إن قاطعها بتلك الطريقة تنهدت هي بقوةٍ ثم قالت بيأسٍ كأنها لم تجد مفرًا من الجواب عليه:
_أنا أولهم كلهم هنا مستنياك.
حصل على الجواب المراد منها فابتسم باطمئنانٍ ثم تابع حديثه معها وهي تُطمئنه بحديثها ومن قبله هدوئها، بينما في الخارج فحاولت “قـمر” أن تهاتفه من جديد لكنها لم تصل له، كل شيءٍ كان يدعوها للقلق فزفرت بقوةٍ ثم ألقت الهاتف ورددت بخفوتٍ:
_يا رب أنا راضية يكون بيتجوز عليا مثلًا بس ميحصلوش مصيبة، دا غلبان ومش ناقص بهدلة، يارب يرجعلي كويس وبخير.
كانت تتضرع وتتمنى أن يكون بخيرٍ قبل أي شيءٍ، بينما في الأسفل أوقف “أيـوب” سيارته وهاتفه كان بين كفه وأذنه وهو يسأل بانفعالٍ جليًا رغمًا عنه بعد معرفته بما حدث من “هـاني” بعدما صار اليوم؛ فكان حديثه مُقرعًا للآخر بقوله:
_يعني إيه هرب يا “باسم” أومال الحاجات اللي قولت إنك مأمن نفسك بيها فين؟ بعد كل دا تقولي هرب وخلع ومش لاقيه؟ وحق الغلابة دول هيروح فين، أومال لو إحنا في مكان حق الغلبان بيرجع فيه كان حصل إيه؟ حاول تاني الله يكرمك يا “باسم” وشوف هتوصله إزاي وأبقى عرفني.
هكذا أنهى الحديث معه ثم ترجل من السيارة وما إن نزل منها ورفع رأسه حيث موضع شرفة زوجته شهقت “عـهد” بتلقائيةٍ ثم قالت بقلقٍ أتى من رؤيتها له بتلك الإصابات:
_يلهوي !! دا “أيـوب” متعور.
كان زوجها يحدثها في الهاتف وما إن وصله حديثها سألها بلهفةٍ:
_”أيـوب” مين دا اللي متعور؟ جوز أختي؟.
_أيوة هو، إحنا نعرف حد غيره؟.
هكذا جاوبته هي بتأكيدٍ لقولها حتى ساوره القلق فاندفع من جديد يسألها بقلقٍ تفاقم عن ذي قبل وكأن بجملتها تلك أوقدت نيرانه على صديقه المقرب:
_ودا حصله إيه وإيه اللي خلاه يتعور أصلًا؟ هبب إيه دا في غيابي أصلًا، هو ناقص قلق فوق قلقي يعني علشان اتوتر كدا؟.
لاحظت هي حالته وتبدله فحاولت أن تُهديء من روعه بقولها:
_أهدا شوية بس ومتقلقش، هو ممكن يكون أتعور في الورشة هو بقاله يومين هناك أو أكتر كمان، بص هشوف الدنيا وأطمنك، دي “قـمر” هتعمل فيلم لما تعرف اللي حصل علشان هي كانت فكراه مطنشها، سلام دلوقتي وهكلمك تاني، متقلقش تمام؟.
سكت وكأنه لا يملك إلا السكوت فقط، أوقف الحديث والكلمات ثم رد عليها بإيجازٍ وأغلق المكالمة، بينما هي خرجت ووقفت بجوار “قـمر” تحاول أن تُباشرها بالحديث لكنها في كل مرةٍ كانت تفشل حتى طُرِق الباب فتنهدت “عـهد” بقوةٍ ثم قالت بهدوءٍ صبغته بالثبات:
_ما تقومي تفتحي الباب مش يمكن جوزك جه؟.
توسعت عيناها بقوةٍ ثم قالت بتقهقرٍ وتراجع عن السابق:
_لأ هو مش هييجي قالي إنه بيروح متأخر فبيطلع على الجامع وبعد الفجر يروح البيت، تلاقيها “ضُـحى” روحي افتحي ليها.
لم ترد “عـهد” أن تجعل القلق يقترب منها لذا ارتدت حجابها ثم تحركت نحو الباب تفتحه وقد وجدته يغض بصره كما عادته وقال التحية الإسلامية بطريقته المعتادة ثم سألها باهتمامٍ:
_هي “قـمر” صاحية ؟.
استمعت هي لصوته من الداخل فهبت من موضعها واستعدت جيدًا لدرسٍ تلقنه له لكنها ما إن اقتربت منه ورأته شهقت بقوةٍ ثم خطت نحوه تقف في مواجهته مباشرةً ثم سألته بلهفةٍ أقرب للبكاء وهي تتجول بعينيها في ملامحه:
_إيه اللي حصلك؟ أنتَ كويس طيب؟…طب مالك؟.
كانت تسأله بضياعٍ بينما هو ابتسم مُرغمًا ثم حرك كتفيه ببساطةٍ كأنه حقًا لا يملك جوابًا؛ بينما هي فسألته حينما تذكرت غيابه عنها:
_علشان كدا ماكنتش بترد عليا خالص؟.
_خوفت أرد يبان على صوتي فتقلقي واضطر أكدب عليكِ، علشان كدا مرديتش أصلًا، ها هتعملي فيها مقموصة ولا هترحبي بيا بعد المدعكة دي؟.
حينما رد عليها بذاك الجواب جل ما فعلته أنها ألقت نفسها بين ذراعيه وطوقته كأنها تحميه من خطرٍ مهولٍ ثم قالت بنبرةٍ صداها بدا باكيًا بقولها:
_قلقتني عليك والمصيبة إن أحساسي كان صح، عمري ما حسيت بحاجة كدب بس عرفت إنك في ضيقة ومش بخير وطلبت من ربنا يردك تاني ليا، حرام عليك هلاقيها منك ولا من “يـوسف” وقلقي عليه هو كمان، حصلك إيه؟.
مسح فوق ذراعها برفقٍ ثم لثم جبينها وجاوبها بصوتٍ بدا فيه اللين جليًا حينما قال ماسحًا فوق خصلاتها:
_الحمدلله بقيت كويس علشان شوفتك، ينفع أجاوبك لما أرتاح شوية؟ أنا عرفت بابا إني هبات هنا علشان لو روحت كدا هيبقى فيها عقاب جامد دي، مكتوبالك يا آخرة صبري.
ضحكت من بين عبراتها المُنسابة فوق وجهها وهي تُشدد مسكتها له وقد تحركت “عـهد” تتركهما سويًا وتُطمئن زوجها على رفيقه كما وعدته، وبالرغم من ذلك لم يكن “يـوسف” مُرتاحًا، وإنما كان القلق ينهش فيه بسبب تفكيره فيما حدث لـ “أيـوب” وما زايد الخطر في قلبه هو كثرة عدد أعدائهم الذين لن يتوانوا في تلك الفرصة التي توقع أحدهما، والأمر الصعب لديه أن أحدهما هو “أيـوب”…
جلس “أيـوب” على طرف الفراش بجوار زوجته وهي تطمئن على جراحه وتُضمد تلك الجراح المُلتهبة بينما هو فكان يبتسم لها بهدوءٍ وهي تُحرك بنان أناملها برفقٍ كي لا تُزيد ألمه، بينما هو فضمها له أكثر ثم همس لها بمراوغةٍ عبثية:
_كنت سمعت قبل كدا إن الجروح دي بتخلي الإنسان نفسه مفتوحة للرومانسية أكتر، مش عاوزة تقولي حاجة حلوة كدا ترطب الطبخة اللي في وشي دي؟.
رمقته بطرف عينها وضحكت رغمًا عنها ثم رمت القطعة القطنية من يدها وهي تقول بيأسٍ منه:
_دا أنتَ فايق ورايق أوي والله، حرام عليك دا أنا دمي نشف من قلقي وخوفي عليك وأنتَ مش هاين عليك تطمني، ودلوقتي عمال تتوه علشان مسألكش عن حاجة، بس هسيبك براحتك علشان حفظتك خلاص، طالما مالكش مزاج يبقى مش هتقول، كفاية إنك بخير قدامي.
من جديد عجز عن الحديث وضم رأسها لصدره ثم مسح فوق وجنتها برفقٍ ولثم عينها اليُمنى برفقٍ وكرر فعلته مع عينها اليُسرىٰ وقبل أن يتحدث صدح صوت هاتفه فسحب هاتفه يجاوب على المتُصل دون أن يتبين هويته، فأتته الزعقة العالية بقولٍ حاد:
_حصلك إيه وعملت إيه وأنا مش موجود؟.
علم من الطريقة فقط أن هذا هو “يـوسف” لذا حرك عينيه يمنةً ويُسرى ثم قال بهدوءٍ لا يتناسب مع صياح الآخر وانفعاله:
_ولا أي حاجة، دا عمل خيري بس واضح كدا إن خيري أيده كانت عليا بشوية، متقلقش نفسك وخليك في شغلك أنتَ، مش عاوزين نقلق القمر على اللي برة واللي جوة كمان، دا شغل عيال بصراحة بقى مش رجالة كبار أبدًا..
ومن طريقته بدا كأنه يتحدث نيابةً عن الآخر قبل أن يُقرعه فرد عليه الآخر قائلًا بتهكمٍ لاذعٍ أقرب للتقريع الفعلي:
_تصدق إنك بارد بجد؟ على العموم أنا مش فايقلك، فيه مدير هنا شكله عاوز يتربى هشوف كدا صرفة معاه وأربيه قبل ما يغور واجيلك تاني، وياريت تخلي عندك دم وتخلي بالك من نفسك مش هفضل قلقان عليك كتير كدا يا غالي، وخلي بالك على اللي معاك، ولا أرجع بقى طالما البيه مستبيع؟.
أبتلع “أيـوب” غيظه بداخله وبدل حديثه بآخرٍ أكثر استفزازًا:
_والله لو عاوز تيجي تعالى هو أنا هقولك لأ يعني؟.
ضحك الآخر رغمًا عنه ثم أغلق المكالمة معه بعد أن أعاد وصاياه بجديةٍ تتناسب مع الحديث الآخير الذي كان:
_بجد خلي بالك من نفسك، أنا متطمن علشان أنتَ موجود.
_وأنتَ كمان يا “يوسف” ركز في شغلك وخلي بالك من نفسك، وعلى فكرة أنا حاسس إن تايه هنا من غيرك، خلص وتعالى علشان مش عاوز أكمل المشوار من غيرك كتير، عاوزك معايا.
وهنا أنتهى الحديث بينهما..
هذا الحديث الذي يخرج من القلب
متوجهًا للقلب ولم يكن الآخر أي قلبٍ،
وإنما هو قلب الصديق، أو في روايةٍ أخرى
هو بالتحديد لم يكن مجرد قلبٍ، وإنما هو المدينة
الأأمن في حياةٍ لم نجد بها إلا الخوف،
فهذا هو صديقي كُلما واجهت به ضياع
نفسي وتيه سُبلي، تراجع بسببه خوفي
للخلف..
____________________________________
<“فأين العدل في بلادٍ كان الحُر فيها طيرًا مبتور الأجنحة؟”>
أين العدل أمام النفس الظالمة؟..
وأين العدل والعِلة تسكن فينا نحن بسبب أيادٍ فعلت بنا كل سوءٍ ثم رحلت وتركت النفس معطوبة؟ أين العدل وأبسط الحقوق حتى لم نمارسها؟ فلو كان بكاءً كُنا بكينا بدلًا من الدمع دمًا، ولو كانت شكوى لكنا شكونا وأفصحنا عن تلك الحكايا التي تتعلق في جدار القلب وكُلما سرنا نحو الحاضر شعرنا بالثقل تجاه ما نحمله فينا، لم يكن الأمرسهلًا وإنما هو ذكرى عالقة فينا وأثرها لازال باقيًا لم يزل أثره بزوال الوقت وإنما هو كما النيران كلما مر عليها الزمان هلكت الأغصان حتى وإن كانت فارغة من أوراقٍ…
تم الانتقال من المشفى إلى البيت أخيرًا بعد الاطمئنان على صحة “فُـلة” التي كانت في أوج الحاجة للراحة قبل أي شيءٍ وقد رافقها في الإياب “مُـنذر” الذي جاورها في السيارة فوجدها تغفو وتميل برأسها فوق كتفه بغير قصدٍ منها، بينما هو فشعر بالمسؤولية تتفاقم عليه بمجرد وقوع رأسها فوق كتفه بهذا الشكل..
كان يشعر بها فوق كتفه ويقسم أن رأسها التي تستقر فوق كتفه لم تكن إلا بخفة نسمة هواءٍ صيفية هبت من حرارةٍ مرتفعة لتُلطف الحياة في وجه من يعيشها، كان رأسها أكثر الأشياء خُفافًا والثُقل بذاته هو حينما تبعد رأسها عنه وقد استمع لحديث قلبه الذي وجه الحديث لقلبها مباشرةً قائلًا:
_أنا هُنا معك والكتف لرأسك حينما يميل
وحين تخونك الطُرقات بناسها وتشعر أن حملك ثقيل،
أنا هنا لكَ شفاءٌ حينما تكون أنتَ المُتعب وفؤادك هو العليل..
بعد مرور بعض الوقت توقفت السيارة فحملها منها زوجها وتوجه بها لغرفتها ثم وضعها فوق الفراش برفقٍ ولثم جبينها قبل أن يبتعد عنها، وما إن خرج وجد شقيقها أمامه يزفر براحةٍ ثم قال بنبرةٍ متعبة:
_الحمدلله ماما مش هنا ولا مراتي كمان، كدا ممكن يباتوا في بيت أمي وكدا أفضل علشان ميقلقوش وهي كمان ترتاح شوية، بس معلش أنا عاوز أطلب منك طلب، دلوقتي بالذات مش هينفع إنك تسيب أيد “فُـلة” لازم تكون معاها أكتر..
كاد أن يرد عليه ويبريء نفسه لكن صوت هاتفه قاطعه فسحبه سريعًا يجاوب المكالمة التي انتظرها بنيرانٍ موقدة فوق مراجل ملتهبة تصاعدت ألسنتها لعنان الرأس حتى كاد أن يفقد عقله ولم ينقذه إلا صوت المتصل حينما قال:
_عرفت هو فين، قاعد في بيت جده في السيدة زينب، هبعتلك العنوان وأنا هحصلك على هناك وهعرف “أيـوب” برضه علشان موصيني وحقه يقلق بعد كل دا، اتفقنا؟ بس خلي بالك.
أغلق معه المكالمة بغير ردٍ وطالع الرسالة وما إن قرأها انقسم لنصفين، أحدهما استقر واستكان وهو يشعر بقرب نصره والآخر شعر بالغِلِ الدفين تجاه غريمه وود لو التهبت فيه النيران كي يسترح من عنائه، لذا استعد للرحيل وقد أوقفه “جـواد” بسؤاله:
_مقولتليش ردك على كلامي، ناوى على إيه؟.
كان تحرك بالفعل وأولاه ظهره لكنه توقف وجاوبه بصدقٍ كأنه لا يعرف إلا هذا الجواب الذي أتى من صميم قلبه ومركز فؤاده:
_مفيش حد بيحب حد يخليه يجرب الحاجة اللي عاش عمره كله يتمنى يخلص منها، وأنا من غيرها عيشت عمري كله بتمنى حد يمد أيده ليا، وهي عملتها كتير قبل كدا ومسابتش أيدي…
أعطاه الجواب الأكيد ثم رحل من المكان ركضًا بغضبٍ أعمى كف عقله عن العمل وأوقد فيه كل نار شرٍ مضرمٍ، لم يعقل فعله ولا حتى يفكر بأي مبدأٍ، وإنما تكرر حديثها له حينما كان معها في المشفى وسألها عن حالها وطلب منها أن تفصح له عن ماضيها، فقالت هي بصراخٍ كونها تحمل ما لم تتحمله طاقتها الهُلامية:
_لو كان بالعياط طنت هعيط العمر كله دم، ولو بالشكوى كنت شكيت لطوب الأرض نفسه علشان أرتاح، إنما دي حياة كاملة مبنية على جرح مفتوح ومع أقل خبطة بيفتح وينزف، عاوزني أقول إيه وأنا كل ما افتكر نفسي بتتكسر وبيصعب عليا نفسي وأنا عيلة صغيرة بيحصل فيها كدا؟ مش بالكلام للأسف، دي حاجات جوانا لا الكلام فيها بيريح، ولا حبسها جوانا بيطفي نارنا..
ولأنه من هؤلاء الذين اشتعلت فيهم النيران واحترقوا في وسط الأحطاب دون أن يروا ربيعًا واحدًا في العمر كان يود أن يثأر للقبيلة بأكملها من بطش حاكمٍ طاغٍ في البلاد سرق حتى الضحكة من الوجوه، كان يرى الفساد لوحة وهو لن يتركها قبل أن يضع عليها بصمته ليعرف العالم بأكمله أن من رسم تلك اللوحة لم يكن إلا سارقًا…
أوقف دراجته التي طارت به فوق الأسفلت واصطاد المكان بعينيه الثاقبتين ثم بدأ فعليًا في التحرك لما انتوى فعله، ولج البناية ومنها للشقة كما كان يفعل قديمًا، ولج بـ “مُـنذر” القديم ذاته الذي لم يأخذ بعين الاعتبار أي شيءٍ سوى الثأر، ولج الشقة ووجد “هاني” يتكيء فوق الأريكة بأريحية شديدة كأنه لم يفعل أي شيءٍ، لكن ما تلى ذلك كانت انتفاضة من “هـاني” وثورة من “مُـنذر” وانتهى الأمر بتكبيل الأول فوق المقعد وعقد الوثاق حوله بوصائد من حديدٍ…
هنا وأتت المواجهة الثقيلة بينهما، القوي الذي يقف بشموخٍ رغم أثامه في مواجهة الجبان الذي دهس كل قوانين الإنسانية بقدمه، مواجهة ليست عادلة وإنما مُستحقة، وقد مال “مُـنذر” بجسده للأمام يهمس بنبرةٍ أقرب لبث الرعب في الجسد بقوله:
_كان نفسي أتكلم معاك بس اللي ورايا أهم بكتير منك..
أنهى حديثه ثم سحب زجاجة الكُحل الموجودة في الشقة وقام بسكبها حول مقعد “هاني” الذي توسعت عيناه بهلعٍ ما إن أدرك المقصد، بينما الثاني فأكمل سكب الزجاجات الأخرى حوله ثم أغلق النوافذ بأكملها ووقف أمامه يخرج علبة سجائره وقداحته وقال قبل أن يشعل النيران:
_أنا سيبتلك بدل الفرصة اتنين، يا النار تاكلك هي الأول وتكون دي موتتك ومكتوبالك، يا البوليس ييجي ويلحقك ويقبض عليك وتبقى خدت اللي فيه نصيب، يا تفلت من الاتنين وصدقني ليك موتة تالتة مش هتيجي في بالك مهما فكرت وسرحت بخيالك..
ارتجف قلب “هـاني” وهز المقعد بعنفٍ وقبل أن يصرخ كان “مُـنذر” كمم فاهه وقطع عليه السبيل لذلك ثم شمله بنظرة حاقدة يتذكر الفتيات الصغيرات ويتذكر زوجته وهي تخبره عن بشاعة ما كانت تُعاني منه، فعزم على فعل ما انتوى وقام باشعال سيجاره ثم سحب دخانها لداخل صدره وقبل أن يرميها قال بتهكمٍ:
_إن عيشت وبقى فيك النفس…
قطع حديثه يستعد لرمي السيجارة ثم أضاف وهو يتحرك نحو موضع باب الشقة كي يرحل كما أتى ووقف يرمي سيجاره المشتعل تزامنًا مع قوله:
_أبقى قول كلام غير دا..
وهنا قضي الأمر، حيث رمى سيجاره لتتصاعد ألهبة النيران ونظرة العين وحدها تسرد ما تعجز الألسنة عن وصفه، حيث نظرة الهلع والنيران تلمع في زجاج المُقل وهي ترى النيران تزحف لها بجسد حية سريعة تركض لفريستها، وفي المقابل نظرة الغضب الأسود عند لحظة تحقق الثأر وتشفي القلب المكلوم بالطُغاةِ الفاسدين، كان النظرات متناقضة لكن رجفة القلوب متفقة، أتعلمون تلك القرية التي حرقوا فيها الفتى الصغير ثم قاموا بأخذ الرمال وبنوا بها بيوتهم، هذا هو الشيء بذاته، قاموا بإحراق الفتى الصغير لكنه اليوم عاد وأشعل القبيلة بأكملها، واليوم وبعد عمرٍ كاملٍ تلك النيران تُدفيء قلبه، بدلًا من أن تنهش في جسده…
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)