رواية فوق جبال الهوان الفصل العاشر 10 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان البارت العاشر
رواية فوق جبال الهوان الجزء العاشر
رواية فوق جبال الهوان الحلقة العاشرة
استعانت بوالدها لمساعدتها في استخراج الأوراق المطلوبة للحصول على بطاقة هوية جديدة بدلًا من تلك التي فقدتها أثناء السرقة، ثم اتجهت معه إلى أحد مراكز الاتصالات لتُعيد تشغيل خط هاتفها المحمول بعدما سُرق، وبعد ذلك عادت إلى منزلها ليقوم والدها باستدعاء أحد هؤلاء المتخصصين في تغيير أقفال الأبواب لتتمكن من الدخول إلى بيتها بأمانٍ.
استغلت انشغاله بمتابعة عمل صانع الأقفال، لتلج إلى غرفة نومها، وتتصل بزوجها بعدما وضعت الشريحة في هاتفٍ قديم لم تعد تستخدمه منذ مدة، حمدت الله أنها كانت لا تزال تحتفظ بنسخة من كافة الأرقام بذاكرة الهاتف، لذا لم تجد صعوبة في مخابرته، وكعهده معها حينما تقع في مأزق، لا يتوانى عن تقريعها، اكفهرت كامل ملامحها وهو يزيد من توبيخه لها:
-قولتلك من الأول، خروجك من غيري في قلة قيمة ليكي.
تنفست بعمقٍ لتثبط من شعورها بالاختناق الذي ينتهي دومًا ببكائها قبل أن تخبره:
-ما البيت كان ناقصه حاجات.
زاد من لومه لها بترديده الساخط:
-واستفدنا إيه دلوقت غير إنك وقعتي في مصيبة وروحتي القسم؟!
في جنبات نفسها همهمت بلا صوتٍ، وكأنها كانت تنتظر منه ذلك الأمر البسيط، لا أكثر من ذلك:
-ده بدل ما تطمن عليا!!
عادت من شرودها اللحظي لتقول في صوتٍ مختنق، وهذه الغصة الموجعة قد علقت في حلقها:
-ما أنا مكونتش لواحدي يا “راغب”…
أزاحت بطرف إصبعها دمعة نفرت من عينها، وأكملت بصوتٍ يعبر عن شعورها المتعاظم بالضيق والاستياء:
-وبعدين بابا موجود معايا، والحمد لله حل مشكلة مفاتيح البيت، وعلى حسابه كمان.
تعمدت الضغط على كلماتها الأخيرة، لتؤكد له عدم تحمله أي أعباء مادية إضافية، فلا يزيد من تسميم بدنها بعباراته السقيمة، سمعته يقول في شيءٍ من الشماتة والحقد:
-أحسن، خليه يكع من جيبه شوية، ما هو مش هيبقى مـــوت وخراب ديـــار!
كزت على أسنانها مدمدمة بصوتٍ خفيض:
-استغفر الله العظيم.
تابع كلامه إليها قائلًا بصيغة آمرة:
-بقولك إيه، اتصلي بأمي طمنيها، لأحسن كانت قلقانة عليكي.
وكأنها حقًا كذلك! تشكلت على زاوية فمها ابتسامة ساخرة، فقلما راعت حماتها مشاعرها يومًا، بل على العكس كانت النسخة الأصلية لطباع ابنها، فقد اكتسبها وشربها كاملة منها. على مضضٍ ردت باقتضابٍ:
-حاضر.
واصل تحذيره المشدد عليها:
-وإياكي تخرجي من البيت لحد ما أرجع، لو ناقصك حاجة خلي مرات البواب تجيبهالك.
حررت زفرة ثقيلة من صدرها قبل أن ترد في طاعة:
-طيب.
أنهى معها الاتصــال دون أن يضيف عبارة أخرى، لتشعر بالمزيد من الإحباط يغمرها، نظرت إلى الهاتف في حزنٍ، وحادثت نفسها بنقمٍ:
-إنه حتى ما قالي كلمة طيبة!
وأدت دموعها في مهدها، وبحثت عن رقم والدته لتهاتفها، حاولت أن تجعل رنة صوتها هادئة وهي تستطرد مستهلة حديثها معها:
-أيوه يا طنط، إزي حضرتك؟
جاء صوتها لائمًا للغاية:
-عملتي إيه يا فالحة في غياب جوزك؟
تحول حزنها لموجة من الحنق، وردت بشيءٍ من الانزعاج:
-ولا حاجة يا طنط، النصيب.
تفاجأت بها توبخها في تحيزٍ وتحامل:
-طول عمرك ماطيورة، مابتركزيش، وأنا نبهت عليكي كتير تشيلي فلوسك وموبايلك في جيوبك.
جاهدت لئلا تخرج عن طور هدوئها، وردت بحياديةٍ:
-مشيئة ربنا.
استمرت حماتها في تعنيفها بحديثها الساخط:
-عيني عليك يا ابني، هتلاحق على إيه ولا إيه؟ ده إنت آ…
قبل أن تزيد من تنغيصها بعباراتها اللاذعة، قاطعتها قائلة بقليلٍ من الانفعال:
-ربنا يخلي بابا هو اتصرف وظبط كل حاجة.
أتى ردها وقحًا:
-وماله، طالما ابني مش هيغرم حاجة.
كورت “إيمان” قبضة يدها فضغطت على أصابعها حتى ابيضت مفاصلها، وأصغت إليها وهي تخبرها بفتورٍ:
-لولا إن عمك تعبان شوية كنت جيت أعدت معاكي، بس رجلي مش قادرة تشيلني.
كالعادة كانت تدعي المرض لتتجنب زيارتها، وكانت ممتنة لذلك، فمن الأفضل ألا تتواجدا معًا، وإلا لاستأنفت وصلة الاستهزاء بها. في النهاية علقت كنوعٍ من المجاملة:
-كفاية سؤالك عليا.
دون مقدمات وجدتها تقول فجأة:
-شكل عمك بينادي، هروح أشوفه، سلام.
مثل ابنها أنهت الاتصال، وكأنها عبء ثقيل قامت بإزاحته عن كتفيها، لتردد “إيمان” مع نفسها بحزنٍ رغم سعيها لادعاء العكس:
-مافيش داعي أضايق نفسي، هي طول عمرها كده، أسلوبها مش هيتغير.
ظلت لعدة لحظات مع نفسها، حتى عادت إلى طبيعتها، فخرجت من الغرفة، وألقت نظرة مدققة على الصالة، كان والدها بمفرده، فدنت منه متسائلة:
-ها يا بابا؟ إيه الأخبار؟
أجابها وهو يختبر المفاتيح بنفسه في موضع القفل:
-الحمدلله، الراجل خلص، وخد حسابه ومشى بعد ما فورلك طبلة الباب القديمة، وركبلك الجديدة، ودي النسخ كلها للمفاتيح.
ثم مد يده بهم نحوها، فأخذتها منه قائلة في امتنانٍ شاكر:
-كتر خيرك يا بابا، دوختك معايا.
ربت على كتفها مرددًا بحنوٍ:
-المهم عندي إنك تكوني بخير وفي أحسن حال.
أدركت مدى الفارق بين مشاعر أبيها المهتمة بأحوالها، وبين زوجها الذي لم يتوقف عن لومها، بالكاد منعت نفسها من البكاء تأثرًا، وهي ترتمي في أحضانه لتقول بصوتٍ شبه مختنق:
-ربنا يخليك ليا، وما يحرمنيش منك أبدًا.
………………………………..
-عجباك الوقفة، ولا البت؟
سؤالٌ وقح ومفاجئ، استطاع أن يفهم المغزى منه دون الحاجة للمزيد من الإيضــاح، فقد كان من النادر أن يُبدي اهتمامًا بإحداهن، لهذا استرعى تحديقه انتباه شقيقه، فلم يضمر الأمر في نفسه، ووجه إليه سؤاله بشكلٍ مباشر، ليأتي الجواب عاديًا، بل فاترًا للغاية حينما استدار ناحيته، لينظر إليه بوجهٍ خالٍ من التعبيرات:
-لا دي ولا دي…
ظلت عينا “كرم” عليه، لا تبارحان وجهه، وشقيقه الأصغر قد همَّ بالتحرك ليستقل المقعد الأمامي في السيارة؛ لكن قبل أن يستقر في موضع جلوسه لمح “عصفورة” وهو يُحادث أحدهم سرًا، تنبه الأخير له، فاضطربت تعابير وجهه، وكأنه أمسك بالجرم المشهود، أبعد الهاتف عن أذنه ليضعه على الفور في جيبه، وتقدم ناحيته متسائلًا في صوت مهتز:
-أي أوامر؟
رمقه بهذه النظرة غير المريحة قبل أن يقول:
-لأ، خلي الرجالة تطلع.
رد عليه مبتسمًا بسخافة:
-على طول.
خاطب “زهير” شقيقه بعدما سمع صرخات “مروة” المكتوبة من وراء الملاءة الملفوفة بها:
-شيل البتاعة دي عنها، خليها تعرف تتنفس.
علق “كرم” في استحسانٍ، وكأن الفكرة قد استهوته:
-وماله، حتى الطلة في وشها أحسن.
أزاحها عنها، فظهر وجهها الحانق، لحظتها انتفضت ثائرة عليه؛ لكنه قضى على مقاومتها بلا عناءٍ، لتصبح مقيدة كليًا بذراعيه، ابتسم في انتشاءٍ، وأمرها مهددًا:
-اهدي، ولا أسكتك بطريقتي؟
كان “زهير” يشعر بالضجر والضيق من حضوره لمثل هذه المشاحنات الخاصة، فهتف في لهجة آمرة:
-يالا بينا من هنا، لسه ورانا مشاغل.
رد عليه “كرم” غامزًا بطرف عينه:
-أيوه، ده حتى النهاردة دخلتي، ولا إيه يا “سمارة”؟
ردت عليه في غيظٍ، وهي تتلوى بجسدها محاولة الخلاص منه:
-أنا بكرهك.
زاده نفورها منه انجذابًا أكبر تجاهها، فاشتدت قبضتاه عليها مرددًا بعبثيةٍ فظة:
-وأنا مش عايزك تحبيني، أنا عايزك تمتعيني وبس!
كلماته الجريئة كانت تشعرها بالوضاعة والحقارة، فصرت على أسنانها تنعته:
-إنت….
قبل أن تلفظ بكلمةٍ، وجدت قبضته تعتصر فكها، فصرخت متأوهة من الألم، ليتبع هذا تهديده الصريح:
-بلاش تزعليني يا “سمارة”، لأحسن زعلي بتطير فيه رقاب.
ارتجفت من أسفل قبضته، ولم تجرؤ على النطق بشيء، ليحول بصره عنها عندما خاطبه “زهير” في غموضٍ:
-عايزك في حاجة لما نكون لواحدنا يا “كوبارة”.
علق عليه بعدما عاود التحديق إليها بنظرة نهمة جائعة:
-وماله، احنا هنروح من بعض فين، ندلع شوية، ونشوف شغلنا شويتين.
………………………………
سار معه عبر الردهات المتفرقة بداخل القسم لينهي الإجراءات المتعلقة بوضعه في غرفة الاحتجاز؛ لكنه تعمد التباطؤ قبل أن يفرغ من آخر خطوة، واطلع على السجلات الرسمية لتسجيل المحاضر، ليتمكن من الحصول على رقم هاتفها المحمول، ثم انفرد بعدئذ بسجينه في الحمام، وأعطاه هاتفه المحمول ليتمكن من محادثة من تسببت في إلقاء القبض عليه خلسةٍ.
وقف المخبر خارج الحمام مراقبًا للممر، وأشار لـ “سنجة” ليتم المكالمة في عجالةٍ، وهو يأمره بقلقٍ معكوس على وجهه قبل نبرته:
-أوام يا “سِنجة”، مش عايز أتجازى.
رد عليه وهو يلصق الهاتف بأذنه بعدما ضغط على رز الاتصال بها:
-على طول أهوو.
لمح المخبر أحدهم وهو يدنو من الحمام، فهتف بامتعاضٍ زائف:
-المجاري طافحة، شوف الحمام اللي في الدور التحتاني.
انصرف الرجل، فالتفت نحو “سِنجة” يأمره:
-إدارى كده، وماتخليش حد يشوفك.
هز رأسه معقبًا بصبرٍ شبه نافد:
-بس هي ترد الأول.
انتظر على أحر من الجمر ردها عليه، ليكمل الخطة التي رتبها مع المخبر لإخراجه من هنا بأقل الخسائر.
……………………………….
في تلك الأثناء، كانت “عيشة” قد انتهت لتوها من الحديث إلى زوجها، وعلمت منه عن آخر المستجدات مع ابنتهما الكبرى، فاستراح قلبها لكون الأمور مضت على خيرٍ معها، خرجت إلى “دليلة” الجالسة باسترخاءٍ على الأريكة وهي تشاهد التلفاز لتخبرها:
-أبوكي لسه قافل معايا، هو راجل في السكة، والحمدلله كله تمام مع أختك.
علقت دون أن تبعد عينيها عن الشاشة:
-خير.
ألقت أمها بثقلها على الأريكة المجاورة لها، وحذرتها بعدما وكزتها في ذراعها:
-إياكي بعد كده تحشري نفسك في أي مشاكل، احنا مش ناقصين بلاوي.
تأوهت بصوتٍ خفيض، وردت بشكلٍ آلي:
-طيب .. طيب.
أضافت والدتها بتذمرٍ، لا يعبر سوى عن قدرٍ محدودٍ للغاية من شعورها بالانزعاج المشوب بالخوف:
-وربنا يهون بأعدتنا هنا.
تنبهت “دليلة” إلى ذلك الاتصــال المُلح من هذا الرقم الغريب الذي تجهل صاحبه، حتى مع خاصية الكشف على الأرقام المجهولة، كان يظهر لها بحروفٍ غير مفهومة، فأخرست الهاتف، وزفرت في ضيقٍ، فسألتها والدتها مستفهمة:
-مين ده اللي بيتصل؟
ردت بعدم مبالاة وهي تهز كتفيها:
-معرفش، محدش أعرفه.
ظنت “عيشة” أن ابنتها تحاول الاتصال بهما، فهتفت على الفور تستحثها على الإجابة عليها:
-شوفي كده، لأحسن تكون أختك ولا حاجة.
قطبت جبينها متعجبةٍ، فأصرت عليها بتصميمٍ:
-ردي أوام، إنتي لسه هتبصيلي.
أمسكت بالهاتف قائلة:
-ماشي.
بمجرد أن انفتح الخط بينهما، سمعت صوتًا ذكوريًا خشنًا يسألها:
-إنتي “دليلة فهيم”؟
تحفزت في جلستها، واعتدلت متسائلة بقليلٍ من القلق:
-أيوه، مين معايا؟
أجابها بصوته الخشن الذي دب الرعب في قلبها:
-أنا يا حلوة اللي بلغتي عني، ونيمتيني على البُورش!
ارتعدت فرائصها، وسألته في صوتٍ مذعور:
-مين؟
لاحظت والدتها الاضطراب الذي كسا ملامحها، فسألتها في استفهامٍ:
-مين يا “دليلة”؟
ضغطت ابنتها على زر السماعة الخارجية للهاتف، لتتمكن أمها من سماع المكالمة معها، فانقبض قلبها برعبٍ حينما عرف “سِنجة” عن نفسه:
-الحرامي يا قطة! اللي سرقك إنتي وأختك!
لطمت “عيشة” على صدرها، وبالكاد كتمت شهقة صارخة قبل أن تنفلت من جوفها، لتتساءل “دليلة” في ذعرٍ، وقد شحب لون بشرتها كثيرًا:
-إنت جبت رقمي منين؟
ضحك في استهزاءٍ، ليرد بعدها:
-دي أهيف حاجة أعرف أعملها.
رغم الخوف الكبير الذي استحوذ عليها إلا أنها تشبثت بقدرٍ من الشجاعة، وراحت تهدده:
-أنا هبلغ عنك.
استقبل تهديدها باستخفافٍ شديد:
-مايبقاش طلقك حامي، اسمعي للآخر علشان ما ترجعيش تزعلي.
مدت “عيشة” يدها لتمسك برسغ ابنتها، وأشارت لها لتصمت، فتابع “سِنجة” تهديداته الصريحة :
-أحسنلك تنكري إنك تعرفيني، وتتنازلي عن المحضر، وإلا وشك الحلو ده مش هيبانله ملامح.
قبل أن تنبس بشيءٍ أكمل على نفس النهج:
-أنا عارف أوصلك إزاي، وحتى لو كنت جوا الحبس، عندي اللي ينفذ برا…
لحظتها لطمت “عيشة” على صدغيها بهلعٍ، خاصة وهو يضيف:
-فاتقي شري، وخلصي الحوار ده أوام، وإلا ما تلوميش إلا نفسك.
لم تجرؤ على مناطحته الرأس بالرأس، فحالة والدتها المفزوعة جعلتها أكثر شعورًا بالرهبة والارتعاب، نجح في إيصال رسالته بسهولة، لذا أنهى مكالمته مودعًا إياها بما بدا أشبه بالوعد:
-سلام يا مُزة، مستني أشوفك برا اللومان.
ارتجفت يدها الممسكة بالهاتف، وسقط من بين أصابعها، لتنظر بذهولٍ مصدومٍ إلى أمها التي لم تكف عن اللطم أو العويل:
-يا نصيبتي! يا نصيبتي! يا نصيبتي!
طالعتها ابنتها بنظراتٍ ذاهلة والأخيرة لا تزال تسألها، وكأنها لا تصدق ما جرى توًا:
-اللي سمعته ده مظبوط يا بت؟!
استفاقت “دليلة” من حالة الجمود المرتعب التي كانت عليها، لتهتف فجأة وهي تهب واقفة من على الأريكة:
-أنا هبلغ البوليس، ده بيهددني عيني عينك.
أمسكت بها أمها من رسغها، وجذبتها بقسوةٍ لتجلسها قسرًا وهي تنهرها:
-اتهدي كده وأقعدي، واستني أما يجي أبوكي ونقوله على المصيبة الجديدة اللي مستنيانا.
ردت عليها بغيظٍ:
-احنا هنخاف من واحد مجرم زي ده؟
أومأت برأسها صائحة في انفعالٍ ممزوجٍ بالفزع:
-أه نخاف، ده عرف طريقك يا “دليلة”؟ مستنية إيه بعد كده؟ لما يسلط أصحابه المجرمين عليكي؟
كانت على وشك الاحتجاجِ لكنها أخرستها بقولها الحازم:
-احنا نعمل اللي قال عليه، ونفضنا منه الحوار ده.
اعترضت في تبرمٍ:
-يا ماما آ…
أسكتتها مجددًا بحسمٍ أشد:
-ولا كلمة زيادة، وأبوكي لو معملش كده أنا هولـــعلكم في البيت ده!
…………………………
غمرته موجة من الارتياح بعدما فرغ من اتصاله الهام، فإن كان حتى تهديده فارغًا، ولا جدوى منه، إلا أنه من غير المعقول أن يُستهان به، خاصة مع انتمائه لهذه النوعية من البشر معتادي الإجــــرام، حتمًا سترتعد منه، وتعاود التفكير في مسألة إخراجه من هذه الورطة العويصة. أعاد “سِنجة” الهاتف إلى المخبر، وتساءل في قليلٍ من الغرور:
-عجبتك؟
رد عليه مادحًا:
-أوي، البت كده هتكش وتجيب ورا.
قال في رجاءٍ:
-يا ريت، لأحسن ألبس أنا في الكلابوش وأضيع.
وضع المخبر القيد المعدني حول معصمه، ليخاطبه بعدها:
-بينا على الحجز، قبل ما الصول “صادق” يسأل عنك.
سحبه خارج الحمام وهو يُحادث نفسه بانتشاءٍ حالم:
-ولسه لما أقول للريس “عباس” إنها جاية، هطلع بحلاوة زيادة، وأهوو كله رزق ليا ولعيالي.
………………………………..
صارعت ذلك الصداع المؤلم الذي فتك برأسها وهي تستفيق من حالة السبات الغريبة التي سيطرت عليها، استغرقها الأمر عدة لحظات ريثما استوعبت “وِزة” أنها لم تعد في بيت “توحيدة” الكئيب، دارت بعينيها في أرجاء هذه الغرفة شبه المألوفة عليها، سرعان ما تذكرتها، إنها حجرة “عباس” الملحقة ببيت عائلة “الهجام”، كانت لا تزال على حالها القديم، سرير عريض، بعوارض ذهبية، وخزانة ملابس على الطراز القديم، تلك التي تصل من الأرضية إلى السقف.
اعتدلت في رقدتها متسائلة في توجسٍ:
-أنا إيه اللي جابني هنا؟
كانت لا تزال بثيابها، اعتصرت ذهنها عصرًا لعلها تتذكر آخر ما حدث، فقط ومضات متداخلة ومبهمة للأحداث الأخيرة، تلك التي انتهت ببكائها المرير على فراق وليدها، هجومها على “توحيدة”، ومحاولة الانتقام منها، شعرت بألمٍ يضرب وجنتيها، فتذكرت كم الصفعات اللاتي نالتها كعقابٍ منها لإخراسها قسرًا عن قول الحقيقة الموجعة. التفتت كليًا نحو باب الغرفة عندما فُتح فجأة لتطل منه عدة سيدات، تقدمت إحداهن نحوها، فسألتها في تحفزٍ مختلط بقليلٍ من الخوف:
-هو في إيه؟
أجابتها المرأة وهي تشير لها بيدها لتتحرك معها:
-يالا يا عروسة علشان نوضبك، دخلتك الليلة على المعلم “عباس”.
بدا وكأنها تفاجأت بالحقيقة الواقعة، فشهقت بصوتٍ مرتفع، وقد حلت الصدمة على تعبيراتها، لتنهال عليها بوابلٍ من الأسئلة المتواترة:
-دخلة؟ ومن مين؟ إيه الكلام ده؟
……………………………….
فعل مثلما طلب شقيقه، وأكمل زواجه بها بعقدٍ رسمي، لتصبح امرأته علنًا، وأمام الجميع، رغم عدم اقتناعه بضرورة فعل ذلك، فما يطمح فيه يحصل عليه سواء بالرضا أو القوة.
تلقى عشرات المباركات والتهاني الحارة من كل المقيمين في منطقة حكمه وسلطانه، بأعجوبةٍ أفلت من الصخب المحتفي بزواجه، ليذهب إليها والشوق المطعم بالرغبة يعصف بدواخله.
اقتحم “كرم” غرفته بلا استئذان، ليجد عروسه لا تزال بحالتها التي أحضرها بها، تتلفح بالملاءة، وتنظر إليه بخوفٍ جلي. حدق فيها بتعبيرٍ ينم عن رغبة متأججة، تقدم ناحيتها بخطواتٍ بطيئة ومدروسة وهو يكلمها بجديةٍ:
-ولو إني محبش أتربط بحُرمة، بس أخويا حكم، وحكمه عندي نافذ حتى لو كان على رقبتي.
واصلت التراجع للخلف باحثة عن مهرب لها منه؛ لكن لا مفر! حاصرها عند الزاوية، فالتصق ظهرها بالحائط البارد، رفع مرفقه للأعلى، واستند به على الجدار، ليسبل عينيه القويتين تجاهها متسائلًا:
-مش هتدلعيني بقى يا “سمارة”؟
استشاطت غضبًا من هذا اللقب القميء الذي منحه لها، وكأنه يذكرها بمدى العُهر والوضاعة التي أصبحت عليهما حينما أجبرت على الاقتران به، شحنت قواها الغاضبة، وضمت قبضتيها لتلكمه في صدره بأقصى طاقة لها صارخة به:
-أنا اسمي “مروة” مش الاسم الزفت ده.
لم تتمكن من إزاحته من موضعه، وكأنه جبلًا لا يمكن تحريكه، في حين استلذ “كرم” برؤيتها على تلك الحالة الثائرة، وقال وهو ينظر إلى موضع ضرباتها:
-ولا فارق معايا اسمك في البطاقة إيه، أنا بناديكي باللي يعجبني يا “سمارة”.
ثم خفض من ذراعه ليلفه حول خصرها قائلًا بعبثية مقززة لها:
-ما تيجي بقى.
نفرت منه، وحاولت إبعاده عنها، فما زاده هذا إلا رغبة فيها، فقالت في صوتٍ يائس:
-مش هينفع …
شدد من ضمه لها، فشعرت بذراعيه تسحقان جسدها الواهن، نظرت إليه في ذعرٍ وهو يسألها بترقبٍ:
-ليه إن شاء الله؟
حمل وجهها الخائف تضرعًا خفيًا تحت الشحوب الذي ساد فيه حينما استطردت كاذبة، وكأن ذلك أول شيء طرأ على بالها:
-عندي ظروف.
تعقدت ملامحه متسائلًا باستغرابٍ:
-ظروف؟!!
أوضحت له بحذرٍ:
-اللي بتيجي للواحدة.
لدهشتها، انطلى عليه الأمر، وصدقها، فأبعدها عنه ناعتًا بغيظٍ:
-يادي الهم!
مرر يده أعلى رأسه، وتابع في سأمٍ:
-ليلة فقر من أولها.
لم يقل أكثر من ذلك، انصرف مغادرًا الغرفة وصفق الباب بعنفٍ ورائه، فانتفضت أولًا في خوفٍ قبل أن يسكن جسدها وتشعر بالارتياح لرحيله. رددت “مروة” في لهاثٍ:
-الحمدلله يا رب، قدرت أبعده عني كام يوم…
سرعان ما امتلأت قسماتها بتعابير الخوف، وهي تتساءل مع نفسها:
-بس يا ترى بعد كده هتصرف إزاي؟
احتارت، وتحيرت في كيفية التصرف مع شخصه غير القابل للمراوغة، فما نجت منه اليوم لا يمكن الفكاك منه في الغد!
…………………………………
وكأن مصائب الدنيا كانت تنقصه لتزداد بواحدة أخرى أكثر قوة وتأثيرًا عن سابقاتها. علم “فهيم” فور عودته إلى المنزل باتصال ذلك البغيض بابنته، وتوقع حدوث الأسوأ إن رفضت تلبية مطالبة، فاضطر إلى اللجوء لمعاونة “كيشو”، عله يسعفه بالحل الناجز، فأقنعه الأخير بضرورة الاستجابة له اتقاءً لشروره غير المحمودة.
ارتدت “دليلة” ثيابها على مضضٍ، ورغم عدم اقتناعها بكل ما يجري، إلا أنها امتثلت مرغمة لأوامر أبويها، وقررت التنازل عن بلاغ السرقة الذي قدمته. سارت خلف أبيها الذي كان يصغي إلى “كيشو” وهو يعاتبه على تسرعه في اتخاذ مثل تلك الخطوة الخطيرة:
-ملاقتش إلا دول يا عم “فهيم” وتقع معاهم…
لم ينبس بكلمةٍ، وأطرق رأسه في أسفٍ، ليستمر “كيشو” في حديثه اللائم:
-و”سِنجة” كمان بالذات، ده هو اللي اشتبك مع “درويش” علشانك.
هبطت المفاجأة على رأسه كالصاعقة، فرفع عيناه إليه مرددًا بهلعٍ:
-يادي المصيبة اللي كانت لا على البال ولا على الخاطر.
تابعت “دليلة” حوارهما الغامض بفضولٍ حائر، خاصة ووالدها يقول في قلقٍ:
-وأنا هعرف منين إنه نفس الحرامي اللي سرق بنتي!!
رد عليه “كيشو” ساخرًا بتهكمٍ:
-أومال يعني فكرك هبعت للراجل ده شيخ جامع مثلًا؟!!
سأله بخوفٍ غريزي مسيطر عليه:
-طب والعمل إيه؟
توقف على مقربة من قسم الشرطة، وأعاد على مسامعه ما نصحه به في وقتٍ سابق:
-احنا نعمل زي ما قال، نتنازل عن المحضر، والمحروسة بنتك تنكر إنها تعرفه وتقول اتلخبطت، ويا رب تخلص على كده.
قال كلماته الأخيرة وهو يرمق “دليلة” بنظرة لائمة، ليحيد ببصره عنها عندما سأله “فهيم” في توترٍ:
-ليه؟ هو ممكن يحصل مشاكل أكتر من كده؟
أجابه بتعبيرٍ واجم:
-ده أقل حاجة ممكن يعملوها معاك إنهم يطلبوا منك دية ولا تعويض! ده إن مكانش يسلطوا حد عليها يرميها بمياه نــار، ولا تتعرضلها مجموعة نسوان تدغدغ عضمها!
أصابه الفزع تمامًا، وهتف مستنكرًا بشدة ما لا يخطر على البال:
-كمان؟!!
أكد له بنفس التعبير الغائم:
-أومال مفكر إيه؟ هما ناس خطرين، والتعامل معاهم بحساب، وبنتك راحت لعش الدبابير بنفسها.
لاذت “دليلة” بالصمت مجبرة، فكلامها لن يزيد الأمر إلا سوءًا، آه لو كانت تعلم بتبعات خطوتها تلك، لما فكرت أبدًا في التورط مع هؤلاء الأشـــرار، واكتفت بالتحسر على ما تم خسارته ماديًا!
دافع “فهيم” عما اعتبرها رعونة واندفاع من ابنته عديمة الخبرة:
-مكانتش تعرف، هي اتصرفت من دماغها.
زفر بثقلٍ قبل أن يدمدم:
-يا ريت يفهموا كده.
أشار له ليتحرك تجاه قسم الشرطة، فتبعه “فهيم” في خطاه مرددًا بتضرعٍ ورجاء:
-استرها علينا يا رب
بخوفٍ غريزي تعلقت “دليلة” في ذراع أبيها، وكأنها تبحث عن الملجأ والأمان في وجوده بقربها، فحاول بث هذا الشعور المفقود إليها، رغم دفقات الخوف والذعر التي تعتريه الآن.
…………………………………
بناءً على أوامره الشخصية، والمشددة، طلب “كرم” منه الانتظار خارج قسم الشرطة، لإحضـــار تلك التي تسببت في الإبلاغ عن مشاجرتهم قبل سابق، فور أن تخرج منه، ليتم التعامل معها وفق قانون عائلة “الهجـــام”، لذلك انتظر “عباس” مستندًا بظهره على سيارته المصفوفة على مسافة قريبة من بوابة القسم، وبصحبته عددًا من أتباعه الجالسين بداخل هذه الحافلة الصغيرة.
لمحه “كيشو” حينما خرج من الداخل، فتجمد في موضعه مصعوقًا، فوجوده بنفسه هنا يعني أن الموقف لا يزال متأزمًا، لذا بشكلٍ تلقائي التفت برأسه ناظرًا إلى “فهيم” ليخاطبه:
-شكل الحوار مش هيخلص.
سأله بقلقٍ واسترابة:
-ليه كده؟ ما على يدك البت قصادك سحبت البلاغ!
أخبره بشكٍ، وعيناه تحدقان في وجه “عباس” الذي كان لا يزال مصوبًا نظراته القاتمة على ثلاثتهم:
-مش عارف، بس الدراع اليمين لـ “كوبارتنا” موجود هنا.
استغرب من وصفه، وسأله مستفهمًا:
-مين ده كمان؟
ازدرد ريقه، وقال وهو يشير لهما بالتحرك:
-هقولك بعدين، إن شاء الله ما يكونش جاي لينا، بينا أوام من هنا.
لسوء حظهم اعترض “عباس” طريقهم، مرر ناظريه عليهم ببطءٍ وهو يوجه أمره غير القابل للنقاش:
-وقفوا عندكم!
اقشعر بدن “دليلة” لرؤيته، وانتصبت شعيرات جلدها فزعًا منه، التصقت بأبيها أكثر عندما خاطبها على وجه الخصوص، وهذه النظرة العدائية مثبتة عليها وحدها:
-إنتي بقى اللي عاملة فيها سبع فتوات في بعض؟
تدخل “فهيم” في الحال للذود عن ابنته متسائلًا بقليلٍ من التحفز:
-كلمني أنا يا حضرت، مالك ومال بنتي؟
ساعده “كيشو” هو الآخر في محاولة لم الأمور قبل بعثرتها قائلًا برجاءٍ طفيف:
-لا مؤاخذة يا ريس “عباس”، الجماعة دول معرفتي، في حاجة؟
دفعه “عباس” من كتفه للجانب، وحدثه في استحقارٍ:
-اتركن على جنب شوية ياض.
لم يجرؤ على معارضته، ووقف جانبًا، ليتقدم “عباس” نحو “فهيم” وابنته، ثم مد ذراعه تجاهها ليمسك بها قائلًا، وهذه الابتسامة الشيطانية تبرز على زاوية فمه:
-تعالي يا حلوة معايا.
حال “فهيم” دون وصوله إليه هاتفًا بتعصبٍ أبوي مبرر:
-إيدك عن بنتي.
ارتعبت “دليلة” للغاية مما يدور، وتشبثت بأبيها أكثر مستنجدة به:
-الحقني يا بابا، ما تسبنيش!
أولاهم “عباس” ظهره ليتطلع إلى أتباعه الأشداء الذين ترجلوا عن الحافلة الصغيرة، سار نحوهم، وصوته أمره الصارم يكاد يخرق الآذان:
-اشحنوهم كلهم …………………………… !!!
………………………………………
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية فوق جبال الهوان)