روايات

رواية آصرة العزايزة الفصل الثامن 8 بقلم نهال مصطفى

رواية آصرة العزايزة الفصل الثامن 8 بقلم نهال مصطفى

رواية آصرة العزايزة الجزء الثامن

رواية آصرة العزايزة البارت الثامن

آصرة العزايزة
آصرة العزايزة

رواية آصرة العزايزة الحلقة الثامنة

🥀🥀الآصـــرة الثامنــة🥀🥀
لقـد عرف نزار معنى الهوى قائلًا :
“أن تتحكم إمراة بأقدار الرجال ..
ولكن شيئًا فيكِ سريًا !!!!”
ولكن ما هو الشيء السري الخفي الذي كان يشغل بال نزار حينها وجعله ينجذب إليها خصيصًا دونًا عن غيرها !! ما هو الشيء الفريد من نوعه الذي خُلق بالمرأة كي يصنع من رجل ذو جاه ووقار ليكون بين يديها برقة نسيم الفجـر ، يتحول صوته الرخيم لتلك النبرة الهادئة التي يخشي أن تُؤذيها .. مهما تعددت الأقاويل وتنافس الفلاسفة لن تكون بعمق تلك الحقيقة الثابتة والراسخة لهذا الترابط الروحي لانجذاب الرجل لإمراة بعينها ، تلك العاطفة التي تُضاهي عاطفة الأمومة بين الأم وصغيرها ، فالرجل مثلها تمامًا ؛
“فـ كما ينسل من أرحام النساء أجنـة ، يُنسل من أضلع الرجال أحبة . ”
#نهال_مصطفى ❤️
•••••••••
-” يسـعد صباحك يا حچ خليفـة .”
أردف هارون جملته الأخيرة وهو يشد طرف عباءته التي خلعها في حضـرة أبيه ، جلس جاره فوق الأريكة الخشبية الموجودة بجانب مدخل الباب الخلفي للمنزل ومكان أبيه المُفضل الذي اعتاد المكوث فيه ، رد عليه ذلك الرجل الذي أصابه الهرم والمستند على عُكازه :
-يجعل الخير كله بين يدك يا هارون يا ولدي .
ثم أتبع أبيه متسائلًا :
-عملت أيهِ فـ شغل مِصنع السكر ، حليت الأمور ؟
تنهد برتياح :
-والله يا حچ مش هكدب عليك ، المُصنع ديه مشاكله كترت ومبقاش چايب همـه .. بفكر أشوف له بيعـة بدال وجع الراس اللي چاي من وراه كُل يوم .
شبح ابتسامة معاتبة بدت على وجهه كأن الأمر لم يرق له ؛ فأردف واعظًا بحكمته المعهودة :
-وأنت كُل ما يوجعك ضِرس هتقِلعه ، بعد كام سنة خشمك هيفضى بالحال ديه !! ما ينفعش يا هارون يا ولدي ، اتعلم تعالچ المشاكل من چِدرهـا حتى ولو فكرت تبيع ؛ تبيع وأنتَ كسبان ومكسب غيرك .
-أنا هعيش عمري كُله اتعلم منك ومن حكمتك يابا .
فأومئ متفهمًا وجهة نظر أبيه ، فهز رأسه بالموافقة :
-أوعدك هشـوف يا حچ ، بس أنا كتت عاوزك في موضوع تاني .
-قول يا هارون يا ولدي ..
تحمحم بحيرة من أين سيبدأ حديثه مع أبيه ، حك ذقنه الخفيفة بتردد :
-بخصوص البت الصحفية اللي چايبهـا هيثم ..
ثم غمغم بسره :
-مجايبه المقندلة زي وشه ..
رمقه أبيه باهتمام :
-مالهـا يا ولدي ، باين عليهـا غلبـانة ولو محتاچة مساعدتنا نساعدوها .
-فاهم يا بوي ، بس أنت خابر هيثم ولدك ملهوش أمان ومينفعش يتساب مع البت دي لروحه يدبسنا في ورطة إحنا مش قِدها ، وفي نفس الوقت على قولك اللي محتاج مساعدة نساعدوه !
أيده أبيـه متفهمًا :
-عداك العيب يا ولدي ..
ثم أتبع هارون متجاهلًا تلك النغزة التي تُحذره من شم هواء بحرها الذي أن لفح قلبه سيغرقه بها ، وأكمل بتوجس :
-هي قالت هتقعد إهنه أسبوع بكَتيره ، فـ أنا هساعدها لحد ما تاخد مُصلحتها وتهملنا وكّمان عشان منصغرش هيثم مع ضيوفه .
-عين العقل يا ولدي ، وخير ما عملت .. هيثم أخوك مدبوب وراسه مريحاه على الآخير خلينا بعيد عنِه..
ثم استند على عكاز لينهض ، فساعده هارون في ذلك وأكمل موصيًا :
-خليك مع الضيفة لحدت ما تخلص مصالحها ، وأكرمها مش عايزين حد يمسك سيرتنا يا هارون ولا يقصر رقبتنا.. بيت خليفة العزايزي مفتوح للغرب قبل القُرب .
تابع السير مع أبيه وهو يسنده :
-على خيرة الله ، أنا قُلت أخد إذنك قبل أي شيء .
تمتم ذلك العجوز صاحب السبعين عامًا بهدوء:
-ربنا يكملك بعقلك يا ولدي .
ما خطت أقدامه أعتاب المنزل ، فأردف :
-قولت لصفية تأجل روحتنا لصالح لبكرة العشية ، يكون هاشم ريح ضهره من السفرية وقعدتوا مع بعضكم هبابة من غير خوتة .
ضرب على رأسه متذكرًا ذلك الأمر الذي تنساه :
-صفية دي ما عضيعش وقت واصل ، دي ما صدقت عاوزة تخلص مني قوام قوام .
ضحك خليفة بخفوت :
-عايزة تفرح بيـك يا هارون ، وأنا كّمان عاوز أشوف عيالك قبل ما أقابل وجه كريم يا ولدي .
-بعد الشر عنك يا أبو هارون .. حسك في الدِنيـا .
أحس بتورطه في الأمر ولا يوجد مفر حتى ولو لم يلزمه ، سواء زينة أو غيرها فهو لا يميل لأمور الزواج وزيادة حِمله في هذا التوقيت بالذات ، ولكنه عقد كلمته مع أمه ولا يمكنه التراجع عنها مهما حدث ، فـ غمغم على مضضٍ :
-اللي فيه الخير ربنا يقدمه يابا.
•••••••
-“اكـسر شمالك يا هلال ، بيتهم اللي بالأزرق ده ”
أردفت هاجر جملتها الأخيرة وهي تصف له طريق بيت رُقية ، فامتدت عينيه للطريق الضيق الذي يحاصره الخضرة من الجانبين ؛ فأوقف السيارة معترضًا :
-لو دخلت لـ چوه مش هقدر أطلع .. والعربية هتتغبر .
ثم تأفف باختناق متحدثًا بلغتـه التي لا يجد نفسه إلا عندما ينطق بها :
-يكفي بهذا القدر ، يمكنها قطع تلك المسافة القصيرة سيرًا .
وبخته هاجر رافضة قطعًا :
-هِلال !! هيثم كان يدخل ويطلع عادي ، متعقدش الموضوع .
رد بإيجاز :
-أنا أعلم بأمر الطريق وأمر سيارتي ..
فاض صبـر هاجر منه ، واكتفت بإرسال نظرة اعتذار لصديقتها ثم جاءت مقترحة :
-طيب روح وصلها الشنطة لحدت باب البيت ، طالمـا مش هتخـش لچوه .. الشنطة تقيلة ومش هتتجر في التعاتير دي .
عض على شفته بامتعاض وهي يبرق لأخته كي تصمت :
-اتقوا شر الشُبهات ، لا يجوز يمكنها حَمل حقيبتها بنفسها ..
كادت هاجر أن تحتد في نبرتها فتدخلت رُقية التي قالت مغلولة من تصرفاته العبثية الغير مفهومة :
-خلاص يا هاچر ، سيبيه على راحته .. أصل شيل شنطتي شُبهة بالنسبة له ..
ثم وضعت يدها على مقبض الباب وأكملت مندهشة بنفس النبرة المغلفة بالسخرية :
-أتتبع دينًا جديدًا يا مولانا !!
ثم هبطت من سيارتـه التي قفلت بابها بغيظ ، فحدج أخته مضطربًا لصفع باب عربيته التي لا يتحمل عليها الغُبار :
-هل هذا جزاء المعروف !! هل هذا رد الجميل !
ثم وقفت رقية أمام نافذة السيارة جهة هاجر لتلقي جُملتها الأخيرة متعمدة وصولها لأخيها صاحب الحكم والمواعظ التي لا تروق لها ؛ وأردفت بتخابث :
-على فِكرة عچلة العربية سليمة ومفيهاش حاچة يا دكتورة هاچر ، عرفي فضيلة الشيخ أنُ الكِدب كمان حرام ؛ شكله نساي .
ثم تركته مشدوهًا متسع العينين ، يتجلجل بالكلام لا يعرف ماذا سيقوله غير أنه وجه أسهم عتابه لأختهِ ، عاد للهجته الصعيدية مواصلًا بحـدة ممتزجة باللوم :
-أنا قولتلك مش هركب حريم يا ستي في عربيتي ، بدل ما تشُكرني جاية تعلمني الأدب !! وكّمان طلعتني كاذب .. أنا كاذب !!
بطش الغضب بملامحه ثم هبط من سيارته بعد ما فتح الباب الخلفي للسيارة وترك هاجر في غيبوبة ضحكها ، اتجه لعندها وهو يتجلجل موضحًا موقفه وعينيه بالأرض مشيرًا بسبابته :
-بأي حق تتهميني بالكذب يا أخت رقية !! اتعلمين ما بسيارتي أكثر مني !!
وقفت أمامه متحدية وكأن راقت لها فكرة الانتقام من تشدده بالدين وتعسره المُبالغ فيه حد التطرف :
-طبعا أعرف !! وآكيد مش هتهمك بالباطـل لان فعلا العچلة سليمة .
أحمرت وجنته من شدة الإحراج إثر كشف كذبته البيضاء ، فكيف كان عليه أن يخبرها بأن عينيها يُثيران الفتنة بقلبه المؤمن ، أن ملامحها البريئة المعكوسة بالمرآة لم يتحمل مقاومتهما وتجعله ينحرف عن طريقه .. بلل حلقـه باختناق وهو يسحب لها الحقيبة كي ينتهي ذلك الحوار المنهزم به ولأول مرة يهزمه أحد كما فعلت هي :
-استغفر الله !! زهرًا تزرع شوكًا تحصد …هذا هو طباع البشر .
ثم كادت أن تأخذ حقيبتها منه إثر نداء هاجر المعترضة :
-ما تخلصونا في أم يومكم ديه !! عاوزة أروح لأمي .
رفض أن يترك لها الحقيبة التي يحملها بل قفل باب السيارة وأسرع الخُطى صوب المنحدر الذي ينتهي ببيتهم وهو يذكر الله جهرًا متجاهلاً ندائها المتكرر خلفـه ولم يلبٍ ندائها إلا برفع صوته المهلل بالذكر حتى وصل لأعتاب بوابة بيتهم وترك الحقيبة بضيق هاتفًا بلطف خفي :
-إهانة مقبولة يا أخت رقية .. اشكرك.
لم ينتظر ردها بل هرول كي لا يستسلم لرغبة قلبه المُلحة بالنيل من ملامحها الهادئة ولو لمرة واحدة ، تجاهله لها جعلها تضرب الأرض غضبًا وهي تجُر حقيبتها نحو الباب :
-ديه شيخ ازاي ديه !! ديه يروح يتعالج .
لم تخطٌ خطوة ففوجئت بتلك اليد الملعونة التي توبخها بقسوة:
-في أيه بينك وبين هلال العزايزي يا بت عمي !!
جذب ذراعها باعتراض وهي تنهره بعنفوان :
-سيب يدي يا بكر !! أنت مچنون ولا مبلبع أيه على الصُبح !!!
ثار بركان الغضب بملامحه :
-وأنتِ لساتك شوفتي چنان !! هلال العزايزي كان يعمل أيه إهنه يا رقية!!!
صرخت بوجهه كي يكُف عن طريقها الذي يتبعه كظلها :
-وأنت مالك !! أنت مالك يا بكر ، ولآخر مرة عقولهالك بالذوق ابعد عن طريقي وإلا هروح لهارون العزايزي وهو يتصرف معاك ومن بلطجتك .
قالت جملتها الأخيـرة وهي تدفعه عن طريقها كي يبتعد عنها ، كي لا يقف بوجهها مرة آخرى ، لم تتزحزح خطوة فكان أمامها كالسد المنيع مهددًا :
-وأنا إكده هتهت وأكش ! يكون في معلومك أنا إهنه مكان المرحوم عمي .. وطول ما هو مش موجود تبقي في حمايتي وتحت طوعي ومن حقي أعرف كل حاچة عنك !
اختنقت من تحكماته الزائدة عن الحـد :
– بصفتك مين !!
تلونت ملامحه الخبيثة وهو يقف أمامها بنظراته الشرانية :
-ولد عمك الوحيد وجوزك وقدرنا مكتوب في السما قبل الأرض يا ضكتورة .. ده العُرف اللي متخلقش اللي يغيره .
-ده عشم أبليس في الجنة يا بكر يا بن عبير .
كانت نبرتها قوية ولكنها مهزوزة ، خالية من أي سند ، سندها الوحيد فارق الحياة وتركها فريسـة لبكر ولعرف العزايزة الذي يمنح الأولوية لزواج الفتاة الوحيدة لابن عمها الشقيق دون غيره ؛ هنا خرجت أمها من البيت إثر صوتهم المرتفع ، فلم يُهنئها باستقبال ابنتها التي تُعد لها أشهى المأكولات:
-خير يا بكر !! حسك عالي ليه ؟! البيوت ليها حُرمة.
كعادته قلب السحر على الساحر مرتديًا وجه الطيبة :
-يرضيكي قِلة القيمة اللي فيها رقية دي !! هِلال العزايزي موصلها لحد باب الدوار ، دي الأصول يا مراة عمي !!الخلق كلو وشنا .
وقفت أمها أمامه كالسد المنيع الذي يحمي ابنتها من أي اتهامات:
-اقطم يا بكر كلمة زيادة هقِل منك في قلب دارنا ، أنا بتي بمليون راجل ومحدش يستجرى يرميها بالباطل ، شكلك نسيت روحك ونسيت أن اللي قدامك دي تربية أبو الفضل العزايزي ..
ثم اقتربت منه رافعة سبابتها بنبرة تحذيرية :
-أبعد عن بتي يا بكر ، أنا معنديش بنات للچواز ، بتي وهقعدها چاري ليك عِندينا حاچة.
حك بكر ذقنـه وهو يخطف نظرة سريعة من تلك التي تحتمي بظهر أمها ، وقال بتخابث:
-شكلك أنتِ اللي ناسية يا مراة عم ، أن بتك بورثها بمالها كِلياتهم من نصيب العبد لله ، ده العرف والشرع لإنك مجبتيش الواد الليِ يعصبها (يمنعها ) من قدري معاها.
هتفت رقية بقوة رافضة تلميحاته السخيفة :
-ده بعينك يا بكر ، الموت عندي أهون ولا أنك تطول شعرة مني ، ونصيبك في حق أبوي لو عرفت تثبته ابقى خُده ..
ثم غادرت حِما أمها ووقفت أمها لترمي قذيفتها بوجهه بنبرتها القوية لا تخشى أحد :
-وأثبت ، أبوي كاتب كل أرضه بيع وشرا ليّ أنا وأمي ، واللي معرفش يديهولك مجلس العزايزة وريني هتاخدو كيف !! ويلا جُر عجلك من إهنه وقصاد أمي لو قطعت طريقي تاني يا بكر هقِل منك ومن اللي جابك .
بنظرات الثعلب الذي لا ينوي إلا الغدر رمقها من رأسها للكاحل وعلى محياه تلك الابتسامة الماكرة التي تعني أنه لا يستسلم ولم يتنازل عن مطامعه بهذه المسكينة التي أخدت منها الحياة كُل شيء وحتى المال استكثرته عليها …
يجلس هِلال بجوار أخته بعد ما اشعلت فتاة الكبريت النيران برأسه وهو يستغفر تارة وتمتم طورًا حتى انفجر بوجه أخته غير مصدقًا :
-أخرتها كذاب !! أول وآخر مرّة هجيبك فيها من المحطة يا هاچر .. أنتن تستاهلن هيثم وأشباهه.
رمقته هاجر الغارقة بالضحك على حاله ثم قالت :
-صراحة أنتَ زودتهم يا مولانا !! أنت قارش مِلحة البت ليه مش فاهمة !! دي غلبـانة .
رفع حاجبه مستنكرًا ومعترضًا على طيبتها فقال وكلماتها تتقاذف كحبات الفِشارة برأسه :
-لكنها سليطة اللسان .. وناكرة للمعروف .
ثم نظر إليها مبرقًا كإنه غير مصدق ما رمته بهِ :
-أنا كاذب !!!!!
تخفي الضحك خلفها كفها الموضوع على شِدقها وأعينها اللامعة وهي تسأله بتخابث :
-بالحق !! أنتَ ليه خليتها تغير مكانها وعچلة العربية مفيهاش حاچة !!
هتف مرتبكًا :
-الأمر لا يعنيكِ ..
-يعني أيه ؟!
عاد للهجته التي كُل ما يضيق به الأمر يستعين بها قائلًا بتوتر بينّ بكلماته :
-يعني أقطمي أنتِ كّمان لحدت ما نوصلوا يا هاچر .
••••••
~بمرسى علم .
-” أنا أهو قصاد بوابة النجع بالظبط ، يلا قومي نامي وبطلي غَلبـه ”
أرسل لها صورة على موقع التواصل الاجتماعي الذي يربطهم في فترة غيابه كاتبًا جُملته الأخيرة لتلك التي قضت ليلتها معـه تتابع خطواتـه ، شرعت بتسجيـل رسالتها الصوتية بصوتها العذب الذي يشدو بتنهيدات عشقها الغير متناهي وقالت :
-حمدلله على سلامتك يا حبيبي .. خلي بالك من نفسك وأول ما تعرف تكلمني كلمني في أي وقت يا هاشم ، صوتك وحشني .. اتصور كتير وابعت لي .. بحبك .
ثم قفلت هاتفها وتدلت أقدامها الحافية بالأرض لترتدي نعالها الفرو وتُجر في أقدامها لغُرفة النوم بمنزل أمها .. ما كادت أن تخطو خطوتين ففوجئت بأمها التي تتأهب للخروج ، نظرت لها بأعينها التي تحاوطها غيمة القلق السوداء وبصوت مُرهق :
-صباح الخير يا مامي.
حدجتها سامية بلوم :
-أنتِ لسه صاحية منمتيش يا رغد !! ليه يا بنتي بتعملي في نفسك كده .
رفعت جفونها النائمة بصعوبة بالغة :
-لازم اطمن على هاشم يا مامي هو وصل وبيسلم عليكِ ..
ثم تثاوبت مُعلنة عدم قُدرتها على تحمل المزيد من السهر :
-هدخل انام بقا .. خلاص مش قادرة .
لم يرق لأمها الحال فلجأت للصمت لأن أي كلام غير مُجدي معها ، فتمتمت بملل :
-طيب نامي وأنا نازلة النادي أفطر مع صُحابي .
أومأت كالسكيرة وهي تتجه لغرفتها ولكنها تذكرت شيء جعلها تعود لأمها مرة ثانية:
-مامي استنى بعد إذنك ..
عادت لغُرفة الجلوس التي كانت تقطن بها وأمسكت بعلبـة أقراص منع الحمل وعادت لها :
-ممكن بس تصوري دي على موبايلك، عشان خلصت ومكسلة أطلبها .. هاتيها وأنتِ وراجعة بليز .
تناولت سامية العُلبة من ابنتها وقرأت الاسم فغلت الدماء بعروقها وهي تلومها :
-أنتِ لسه بتاخدي الحبوب دي يا رغد !! وبعدين ، أنا بدأت اتخنق من الحال ده ..ده كلام ميرضيش حد.
غمغمت بتعب :
-حال أيه بس يا مامي !!
-حالك أنتِ وهاشم ، فات سنة وشهرين ولسه معرفش أهله ، وبيتعامل معاكي كإنك شقة مفروشة يجي يريح فيها كام ساعة ويختفي بالأسابيع .. المهزلة دي لازم تنتهي يا رغد ..كفاية .
-يا مامي والله ما متحملة اسمع كلمة زيادة ، بجد الصداع هيفجر دماغي .
لم تهتم أمها بحالتها ، بل واصلت حلقة عتابها وبنفاذ صبر :
-لا يا رغد ، الحُبوب دي أنتِ مش هتاخديها تاني !! ولو هاشم مش هيعلن جوازكم قُدام أهله بالذوق ، يبقي لازم يعلنه بالعافيـة .
تشبثت برأسها التي تصدح من قلة النوم :
-يا ربي !! مامي أنا هروح أنام وأول ما أصحى نتكلم ونتخانق على راحتنـا ، بس بليز متنسيش تجيبيها .. يلا Have a nice day …
تركت أمها التي تحمل قُفة الجزع فوق كتفيها وعدت لغرفته وارتمت على السرير ولا يشغل رأسها شيء إلا النوم .. رمت سامة علبة الدواء بحقيبتها متوعدة :
-طيب يا رغد ..
غادرت سامية منزلها وأول مكان ذهبت له صيدلية الدكتورة إيمان رفيقتها المُقربة ، دخلت لعندها بملامح وجهها الغاضبة وقالت بدون سابق إنذار :
-إيمان أنا محتاجة مساعدتك ..
تركت إيمان ما بيدها وألتفت لصديقتها :
-سامية !! مالك يا حبيبتي ..
أخرجت عُلبة الدواء من حقيبتها ووضعت على سطح المكتب :
-شايفة العلبة دي ،عايزة واحدة زيها .. وعايزة أبدل الأقراص اللي فيها بأي نوع ڤيتامين مشابه .. اتصرفي يا إيمان لو ليا خاطر عندك …
•••••••
~نجـع العزايـزة …
تعجبت نجاة على حال نغم التي انسحبت فجأة من بينهم بدون كلمة وغادرت الدار قبل استقبال صديقتها المقربة هاجر .. فتدخلت نجاة متهامسة :
-هيام ، هي نغم مالها !!
انتهت هيام من لف وشاحهها الذي يتناسق مع لون عباءتها الأنيقة مكتفية بوضع لمسات خفيفة من الكُحل كي تتأهب لاستقبال إخوتها حيث قالت بحزن وخيم وهي تدور لها :
-نغم عينها من هارون ورايداه ، أكيد لما سمعت إنه هيُخطب زينة متحملتش .
تنهدت نجاة بتلك النبرة الحارقة والتي يندس خلفها بركان من القهرة :
-ااه ، يا وچع القلب يا ربي !! الزمن بيعيد نفسـه يا هيام ، نفس الوچع كاس وداير على الكُل .. طيب وهارون أيه قوله !
جلست على طرف السرير حائرة في تلك النيران التي تلتهب القلوب :
-ماعرفاش يا نجاة ، ولا عارفة أيه في راس هارون أخوي .. عمره ما لمح أنه قلبه ميال لزينة .. لو چينا للحق ، نغم الأولى بهارون ، متعلمة ويتيمة وفي حالها وعتحب الخير للكُل ، لكن زينة عبيطة وبتلعب بالبيضة والحجر ..
استيقظ الجرح النائم بقلب نجاة وهي تربت عليه بكفها كي يهدأ لتقول متأثرة :
-قلبي عندك يا نغم يا حَبيّبتي …
الخيال يسترد شيئًا لم يعد أبدًا ؛ تخيلت للحظة أن ولو الزمان لم يسن سيوفه عليها ويبتر كُل أجنحتها الوردية لتجتمع بحبيبها ، حيث أردفت بتلك النبرة اليائسـة :
-عارفة يا هيـام أصعب حاجتين على أي ست ، أنها تشوف حبيبها مع واحدة غيرها ، وتاني حاجة تنام في حضن رچل وقلبها وعقلها مع رچل غيره .. أنا اتكتب عليّ التانية ولسه ما دُقتش مرارة الأولى .. بس مفيش مهرب من الوچع ؛ هيچي اليوم .. ونغم يا حبة عيني هتدوق مُر الاتنين ..
أيدت هيام حديث صديقتها بالمثال الشهير قائلة :
-صدق المثل اللي قال أشوف حبيبي في مقبرة ولا أشوفه في حضن مرا .
ثم تمسكت بأيدي صديقتها المُثلجة بحنو :
-نجاة ، لساتك عتفكري في رءوف حتى بعد ما اتجوزتي !!
تفوهت بنبرة بقايا الحب الذي لم يتبقى منه أي شيء ألا الكلمات والحُلم ، سالت تلك الدمعة المحبوس من طرف عينيها وقالت :
-ولا عمري نسيتـه ، اتجوزت وخلفت وقضيت سنتين مع جوزي بس عمري ما اتمنيت غير رؤوف وكنت دايمًا بدعي لربنا يسامحني بس قلبي من چادر ينسى .
ثم جففت عبراتها المنسكبة وقالت:
-تعرفي، الفرق بين الجواز بحب والجواز الخالي منـه أيه !! كيف الفـرق بين أن قُدامك طبقين من نفس الصنف واحد فيهم عادم والتاني حايق ومّبهر .. أهو الحُب ده هو رشة الملح اللي على الوكل اللي بيطعمه ويحليه على لسانك ، تخيلي تتجبري على وكلة عدمانة ، هتاكلي منها لإنك چعانة بس عمرك ما هتكوني حاسة بمتعتها ، ولو غابت عنك سنين عمرك ما هتتوحشيها .
خيم الأسى على ملامح هيام متأثرة بهموم صديقها التي ظنت أنها تنسات حب عمرها وعاشت في كنف الواقع وتحت وطأة أعرافهم ؛ فتمتمت بشفقة :
-وجعتي قلبي يا نجاة ، ليه يا حبيبتي تعملي في روحك إكده وأنتِ عارفة طريقك مع رؤوف مسدود ، لو مازن مش معاكِ كُنت هقولك من حقك تحلمي، لكن ولدك قفل باب الحلم بضبة ومفتاح..
فغمغمت بأسف مبطن بالحسـرة :
-ولو قُلت يا جواز ، هيجوزوني واحد من أخواته .. يبقى بلاها أحسن ، أنا قفلت قلبي على رؤوف وولدي مازن ..
صوت قرع الطبـول التي تُعلن مجيء هاشم ختم جُملة نجاة الأخيرة وكأنها إشارة خير بأن مهما طال سواد الليل لابد من شمس الفرح تزيحه ، نهضت هيام راكضة نحو النافذة لتزيح الستار وتعلن فارحة :
-هاشم جيه ..
ثم انخفضت نبرتها بتوجس :
-نجاة !! ده رؤوف چاي معاه .
-متهزريش يا هيام !!
لفت وشاحهها بعشوائية وهي تتوارى خلف الستار لتصدق مسامعها التي نفت الخبر ، كان واقفًا بجوار سيارته مرتدي بذلته العسكرية ويخرج أشيائه .. تلصصت النظر له بجفون مرتعشـة وأيدي متشبثـة بالستار كأنها تقبض على جمر قلبها المحترق ، فـ يشدو صوت الألم كاشفًا عن همه بأحد الأبيات الشعرية التي تربت عليها ولا تعلم بأنها يومًا ستعيشها بنفس القدر من الألمِ :
لن تستطيع سنين البُعدِ تمنعُنا
‏إنَّ القلوبَ برغمِ البُعدِ تتصِلُ
‏لا القلب ينسى حبيبًا كانَ يعشقهُ
‏ولا النجوم عنِ الأفلاكِ تنفصِلُ ..
ويبقى السؤال هُنا ؛ كيف يمكن للعقل إقناع القلب بواقعٍ لا يرغب فيه !!!
أنتفض قلبها مذعور من سطو أوجاعه وهي تعيش الحسرة بأشد أنواعها وقالت :
-هيام أنا لازم أرجع بيتي ، مش هچدر أشوفه .
تشبثت بها هيام رافضة :
-هتروحي فين !! دانتِ جاية مخصوص تقعدي معاي لحد الفرح ، تقلي قلبك وواجهي يا نجاة الهرب مش حل يا بت خالي ..
ثم تمسكت بيدها :
-خليكي چاري وأنا مش ههملك واصل .
~بالحديقة ..
-خُدي بيدي يا بتي ، هاشم جيه ولازمًا استقبله بنفسي.
طلبت السيدة ” أحلام ” التي ترتشف الشاي مع ” ليلة ” بالحديقة وما كادت أن تفتح الحوار معها قطعهم صوت قرع الطبول والصخب بالخارج ، لبت ليلة طلبها ورافقتها الخُطى وهي تقول :
-هاشم ده أصغر من هارون ، صح كده !!
تسير أحلام بخُطاها المائل إثر خشونة رُكبها ولكن إقبالها على تربية يدها كان أهم من ألف وجع يعوقها، كانت تستند على ليلة وقالت :
-الاتنين بيناتهم ١١شهر بالتمام ، كنت شايلة هارون على يدي حتة لحمة حمرة ، جات صفية تندب لي ، ألحقيني يا عمتي أنا حِبلى ..
صعدت أحلام درجات السُلم بتأوه فأكملت:
-قولتلها خير وبركة وأهو الأخوات يرعرعوا مع بعضيهم وأنتِ خلفي وأنا هربي ومتعتليش هم .. ما صدقت مسكت في الكِلمة جابت ٧ بطون ورا بعض ..
فتدخلت ليلة مستفسرة :
-هما مش المفروض٦ بس !!
حملت أحلام على مرفق ليلة التي يسندها وهي تخطو تلك الدرجة الأخيرة بالممر :
-بعد هيثم جابت هدى ، بس اتولدت ناقصة ومتحملتش وماتت الله يرحمها ..
ما طل طيفهـا من الباب فترك هاشم حقيبته التي يسحبها من السيارة وترك إقبال الجميع حوله من كُل صوب وحدب وأسرع الخُطى نحو أحلام تلك المرأة التي تربى على يدها .. مال على كفوفها و أغرقهم بالقُبل ثم ضمها لصدره متلهفًا لحضنها :
-تصدقي بالله ما حد عيوحشني قِدك في البيت ديه ، ولولاكي ما أعتبه واصل ..
تقهقرت ليلة لتبتعد عنه وتفسح لهم مجالا للحوار ، قطعت درجتي السُلم لتقف تحت ظل الشجر تُراقب فرحتهم الجميلة بحماس ، جاءت صفية من الخلف وهي تضربه بكتفه معاتبة :
– وأمك يا هاشم ! تصدق إنك واطي ما طمر فيه الـ٩ شهور ، أنا مخلفتش غير هارون ولدي وبس .
فارق حضن زوجة أبيه وأمه الثانية معاتبًا :
-وه !! دايما ملبساني في حيط يا أحلام !! أهي اتقمصت ..
ثم دار لأمه وقبل كفوفها ثم رأسها قبل أن يعانقها بحب ؛ وكأنه يقدم قُربان اعتذاره :
-وأنا ليّ بركة غيرك يا صفيـة يا عسل أنتِ ، والله وحشتيني قوي ووحشني وكلك .
ثم همس لها ليسايس أموره وهو يُقبل يدها :
-جايب لك جوز غوايش أول ما شوفته قولت دول ناقصهم يد صفيـة ، اتعملوا عشانها .
قرصته بغلٍ:
-طب سيبني ألحق ازعل منك ، دايمًا واخدني في حديتك الحلو ديه وبتاكل عقلي بكلمتين !
غمز بطرف عينه :
-مبقاش هاشم ولدك لو معملتش إكده ..
على الجهة الآخرى ؛ يقف هارون الذي فرغ أعيرته النارية بالهواء مُرحبًا بعودة أخيه حتى فرغت خزنته تولى الخفر تلك المهمة عنه ، ثم انضم لـ الحج خليفة مُرحبين برؤوف ، تعانق الرفاق وقَبل رؤوف يد عمه المنكمشة من الهِرم وقال :
-يديم حسك في الدنيا يا عمي …
جاء هٍلال بسيارته من الخلف قاطعًا دهليز البوابة حتى وصل لجمعهم وفي نفس اللحظة جاء هيثم حاملًا معداته الموسيقية معلقًا الطبلة على كتفه وشرع باستقبال أخته بالقرع الصعيدي .. سب هيثم بسره لهاجر التي تتأهب للنزول :
-أخوكِ ديه هيعقل ميتى!!!
علقت حقيبتها وقالت بنفاذ صبر :
-إحنا عاوزين نبقوا مچانين يا اخي ، فكك مننا ..
رمقها بسخط :
-علمك السفه مثله .. الله يهديكِ .
جهر هيثم مُرحبًا بأخيه وهو يدق الطبلة :
-حِما وحِمات الوطن ، حظابط ، وتاني مرة حظابط هاشم بيه العزايزي اللي رافع راسنا بره وچوه وقايد النار في قلوب عدوينا.
جاءت هاجر راكضة لترتمي بحضن هاشم الذي لم تراه منذ شهرين ، فتلقى أخته الصغيرة وتربية يده بلهفة حبيب أو أب يستقبل ابنته .. حملت يساره أخته وهو يقول :
-وحشتيني قوي يا مفعوصة ..
فانضمت لهم هيام لتملأ فراغ يمينه مناديـه باسمه :
-هاشم !! حمدلله على سلامتك ..
لحظات من الحب والألفة وعودة الغرباء لأوطانهم لحيث ما ينتمون ، تعانقت القلوب والأيدي وسكنت الأرواح المغتربة بين الأخوة الذين لم يعتادوا الفراق منذ الصِغر ..
تعلقت عيني رؤوف الواقف بجوار عمه ، بعيني تلك الجميلة التي تتوارى خلف الجدار ، تحضن صغيرها وتتحاشى النظر إليه تمامًا ، رفرف قلبها بنظرة خاطفة اختلستها منه فتعانقت الأعين بدلًا من الأجساد ، دفئت القلوب من صقيع غُربتها فسحبت نفسها وفرت لتحتمي من نظراته بجدران المطبخ التي تخفي لهب قلبها المحترق عنه ..
في ظل الاحتفالات والضحك والترحاب ، مالت هاجر نحو هيثم لتشكو من أخيها:
-أنتَ ما جيتش ليه !! هِلال طلع مرارة اللي جابوني وخلي رقبتي قد السمسمة قصاد رقية .
شهق هيثم باهتمام :
-اياك يكون زعل رقية بت عمي أبو الفضل ، دي حُب عمري القديم !!
رفعت حاجبها متعجبة وعائمة على عومه :
-أنت بقالك حب عمر جديد من غير ما تقول لي !!
انضم هاشم لعندهم في تلك اللحظة التي يتطلعون فيها لليلة التي تتجلجل من الإحراج والخجل في ظل أجوائهم العائليـة ، فدخل متسائلًا وهو يفحصها من رأسها للكاحل :
-هي دي !! مين الطلقة اللي هِناك دي يا هيثم ، محيراني من الصُبح ..
تنهد هيثم مغازلًا :
-عشان إكده قلبي من ساعة ما شافها موجوع.
هاشم مستنكرًا :
-لا يا راجل !
مسح على صدره بتوهم :
-ماهي طلقة صُح ورشقت في قلب أخوك .
فتدخلت هاجر بنفس الفضول :
-أيوة مين يعني العيار الناري الطايش ديه ! أخلص وقول .
فأتبع هاشم بفضول قــاتّل:
-أيوة مين الحلوة !! جاوب .
توسل له هيثم هائمًا :
-والنبي ابقى قول لاخوك لانه ناكر انها حلوة..
ثم تاه ببياض بشرتها الساطع كضوء الشمس :
-دي بتنور في الشمس ..
وأكمل بتنهيدة طويلة :
-وچوة قلبي كمان.
لاحظت ليلة نظراتهم المسددة لعندها فتفاقم توترها وانصب الخوف بقلبها و بعينين بريئتي كأعين أرنب مذعور أخذت تتحاشى النظر لهم ، فتحمحم هاشم متحمسًا وهو يرتب في ملابسه :
-سيبك منه ده ، أروح اتعرف عليها بنفسي ..
هتف هيثم محذرًا :
-هاشم ، ولاه .. تعالى هارون لو شافك مش هيحلك ..
فتدخلت هاجر بنبرة مُحقق قانوني:
-احكي لي دلوق مين دي وأيه قصتها !! انجز يا هيثم .
ما رأت هاشم يقترب منها فولت وجهها هاربة من سطو النظرات المربكة التي لم تتحملها ، ما خطت قدمها خطوة فنادى عليها قائلًا :
-على فين !! الكُل جيه ورحب بيّ إلا أنتِ ، قلت أما أجي أنا وأرحب بيكي بنفسي.
لملمت شتات قوتها ودارت لها والتوتر يعبث بكيانها:
-لا أبدًا ، أنتوا عيلة في بعض ، مش لطيفـة ادخل ما بينكم يعني ..
رفع حاجبه مستنكرًا وتلك الابتسامة لا تُفارقه متجردًا من لهجته الصعيدية :
-ولا لطيفة تُقفي لوحدك كده !!
ثم مد يده ليُصافحها :
-هاشم العزايزي… رائد جيش ، وأنتِ !
مدت يديها المرتعشة من هول الغُربة التي أحستها وهي تُعرفه بنفسها :
-ليلة سامح ، إعلاميـة ..
رفع حاجبه معجبًا:
-يا جامد !! ماهما لو يجيبولنا القمر ده على التلفزيون أنا مش هتحرك من قدامه .
انضم هيثم لحوارهم وهو يلكزه منفردًا بساحة الحوار معرضًا نفسه بثقة :
-ديه هاشم أخوي .
غمغمت بقلة خبرة:
-ااه هو عرفني بنفسـه ..
فتدخل هيثم واعظًا :
-زين ، ابعدي عنه عاد لاني متعلم الصياعة على يده !! فهتلاقينا فول وانقسمت نصين .
حدجه أخيه برزانة وهو يدافع عن نفسه أمامها:
-متصدقهوش ده بيبوظ سُمعتي ، أنا جاي أرحب بس بضيوفنا واتعرف عليهم .
تمتم له هيثم ناصحًا :
-خف نحنحنة هارون هيولع فينا ..
رد من خلف فكيه المنطبقين :
-اسمها مجاملة لطيفة يا بئف ..هعلم فيك لميتى !
تأرجحت عيني ليلة متحيرة لم تترجم صوت همهماتهم وقالت مستفهمة:
-هو في مشكلة !!
-متجمعين عند النبي !!
أتاهم صوت هارون متحمحمًا من الخلف وهو يغطى كتفيه بعباءته الصعيدية وبنبرتـه الحادة ثم قال :
-خير ؟!
حك هيثم رأسه مردفًا لهاشم :
-جالك الموت يا تارك الصلاة !!
ثم جهر هاشم مدافعًا عن نفسه وعن أخيه :
-أحم طبعا خير !! مش خير يا هيثم !!
ساير أخيه مؤيدًا وهو يغازل ليلة بأنظاره المهذبة في حضرة أخيه :
-خير طبعا يا هاشم ..ده خير الخير.
فحرك هاشم حاجبه مؤكدًا :
-قال لك خير أهو يا هارون..
تأرجحت عيني هارون الكاشفة لجميع تصرفاتهم العبثية وقال بـ خُبث :
-خير أنتوا يا ولاد صفية ..
هنا جاءهم صوت هِلال من الخلف الذي انشغل لجمعهم وقال متسائلًا :
-لعله خيرًا يا أبناء الخليفة..
طافت عيني ليلة حول الأربعة رجال حولها رغم تشابه ملامحهم إلا أنهم يحملون طباع مختلفة تمامًا عن بعضهم .. ابتسمت بخجل وأحمر وجهها حتى تعلقت بأعين هارون المتوعدة وهي تهز كتفيها بتحيـر ثم شبكت يديها خلف ظهرها ونظرت لهم بحماقة قبل أن تفر من سطو نظراتهم كالغزالة الهاربة من صيادها :
-خير !!
نظر كُلا من هاشم وهيثم لهِلال إثر فرار ليلة من بينهم بعتب حتى جهر هيثم ساخطًا :
-هو إن حضرت الملائكة غابت الشياطين !!
فرُسمت ضحكة مزيفة على وجه هاشم لهِلال :
-منور يا مولانا .. واحشني .
عض هارون على شفته السفلية بامتعاض مُشرًا لهاشم وهيثم بتحذير وعينيه يغازلها شعاع الشمس :
-هتلموا روحكم ولا ألمكم بمعرفتي !! ما تحضرنا يا شيخ هِلال !!
فجر هِلال واعظًا :
-وجود تلك الفتاة بالبيت فتنـة ولابد من رحيلها على الفور يا حضرة العُمدة .
حدجه هاشم مستنكرًا وهو يغادر :
-اسكت .
وبنفس الأسلوب وبخه هيثم وهو يلحق بهاشمه وقدوته :
-ياريتك ما اتكلمت .
فعاتبه هارون بمزاح :
-عقولك لك أحضرنا ، مش تصرفهم .. بالإذن يا مولانا ….
•••••••
~عصـرا .
فرغ الرجال من تناول سفرة الغداء الممتلئة بأشهى الأطعمـة اللذيذة والتي ذات طابع صعيدي الذي يميّزه بالدسامة والروائح الفجـة .. تعمدت نجاة ألا تلتقي برؤوف المتلهف لرؤيتها قبل رحيله .. جلس السيدات بالغرفة الأخرى لتناول غدائهن ، اجتمعن الكُل في أجواء عائلية يملأها الضحك والألفة فلم يعد للغربة بينهم مكانًا .. شيئًا فشيئاً تفرقت جماعتهم كُل منهما ذهب لمفترقه ، صعد كل من هاشم وهاجر لغرفتهما كي ينالان قسطًا من الراحة ، غادر رؤوف بعد ما خاب أمله في الظفر بنظرة من عيني حبيبته .. ذهب هِلال لإقامة صلاة العصر بالمسجد ، وهيثم الذي غادر ليباشر بقية مهامـه الموكل بها من أخيه ..
تجلس ليلة بجوار أحلام يتسامران في أجواء دافئة حنونـة ، تفحصت أحلام معالم وجهها بعناية وهي تقرأهما :
-وشك مبدر كيف القمر وضحكتك حلوة بس روحك دبلانة يا بتي وشايلة حِمل جِبال .. سيبك من الشُغل واحكي لي همك اللول .
عقدت حاجبيها مذهولة من تعريها أمام تلك العجوز التي أصابت كلماتها مُنتصف قلبـها :
-هو للدرجة دي باين عليـا !!
-الحزن والحب كيف النار بالعين مهما حاولتي مش هتعرفي تداري دُخانهم .
يبدو أن جلستها مع هذه السيدة التي تحاورها من كل قلبها أفيد من ألف جلسـة مع طبيبها النفسي ، حكت جدار رقبتها بتوتر فأحمر مكان أظافرها كإحمرار وجهها وقالت بحسرة :
-ساعات كتير بسأل نفسي ، ليـه بيحصل معايا كده !! ليه كُل العقد والكلاكيع دي في حياتي أنا ، تعرفي يا طنت .. أنا نسيت يعني أيه فرحة من وقت ما كان عندي ١١ سنـة .
قاطعتها تلك السيدة ذات خبرة طويلة بالحياة وقالت بحكمـة :
-هموم الخَلق مدارياها الحيطان ، محدش خالي .
ثم مسحت على رُكبتيها بلطف ؛ وأكملت :
-مش هتحكي لأحلام !! متقلقيش سرك في بير ليوم الدين يا بتي .. فضفضي يمكن لما تفضفضي ترتاحي .
تاهت في دروب ماضيها بين فراق جِدها ، وهجران أمهـا وموت أبيها ، واتهامها المتواصل بالفشـل .. بين تلك الليالي الطويلة التي عاشتها بخوف حتى اعتادت أن تكون خائفة .. بين شعور الوحدة المميت الذي يسكنها .. كُل الدروب مظلمة ولكن من أين ستشرق الشمس لتُنير عتمتها !!
كان هذا سؤالها الآخير الذي ختم القدر جوابه عندما فاقدت من شرودها على جمهرة صوته متسائلًا :
-أنا طالع ، محتاجـة حاجة يا أحلام . ؟؟
-تِسلم يا حبيبي .. هحتاجك سالم غانم من كُل شر .
لم يتطرق بالنظر إليها تعامل مع وجودها كالمقعد الجالسة فوقه مما أشعل أحساسًا بالرغبة المُلحة بداخلها لفتح أي حوار معه ، ما أن ولى ظهره مُغادرًا استأذنت من أحلام على الفور وتبعت خُطاه ركضًا وهي تُنادي عليه :
-ممكن دقيقة !
توقف فلم تنتظر ليدور لعندها بل وثبت لتكون أمامها متطلعة بملامحه المُنكمشة ، فتأرجحت عينيها بحيرة لا تعلم من أين ستبدأ .. حتى تفوهت بدون نية بالسؤال:
-أحنا هنبتدي شُغل من أمتى !!
-حبكت دِلوق !
هزت كتفيها بتوجس:
-أنتَ كده معطلني على فكرة .. وشايفة المفروض تنجز يعني ، سامعة إنك هتخطب وأكيد مش هتكون فاضي لي .. هتكون مشغول مع خطيبتك الأيام الجاية .
عقد حاجبيه ممتعضًا وتأفف :
-العشية هفوت عليكي ونشوفوا موضوعك ..خلينا نخلصوا .
-وليه مش دلوقتي !! يعني نكسب وقت ليه نستنى بالليل ..
زفر بضيق:
-وراي شُغل .
تساءلت على سجيتها :
-والشغل ده فين !!
تلقت تلك النظرة الاعتراضية التي أدركت بها حماقتها وقالت موضحة:
-يعني زي ما حضرتك خايف على شغلك أنا من حقي أخاف على شغلي ..
ثم دنت منه خطوة وأكملت بنفس النبرة المهزوزة :
-قصدي يعني لو شغلك ده هيفيدني في حاجة ممكن أجي معاك ومنضيعش وقت .. ايه رايك ؟!
حافظ على ثباته وبدون تسلحه بأي معالم توحي بمشاعره الداخلية قال بهدوء:
-خشي أقعدي چار أحلام .
فتحت ثغرها متأوهة وكمن عثر على جوابه للتو ، فأكملت باندفاعية وبحديث لا تُدرك خارطته ، بل كانت رغبة مُلحة في الحديث معه لا أكثر .
-اااه ، أنا فهمت .. شكلك كده مش عارف تساعدني أزاي وهتطلع بؤ في الأخر ومش هلقى عندك معلومة ولا غيره .. ما تخليك صريح معايا وبدل المرجحة دي فهمني وأنا هتحترمك والله .. لكن مش كده !!! اعترف اعترف يلا .
-ده حتى عيقولوا ؛ زينة المرء منطقه !!
جحظت عيناه من هول وقاحتها معـه ، فكيف تجرؤ وتتحدث مع كبير قبيلة مثله وبمكانتـه بهذا الأسلوب ، أيعاقبها مثلما يُعاقب كل من يتجاوز الحد معه أم يتفهم عفويتها و تلقائيتها الزائدة ويمنحها صك الغفران لكونها إمرأة تجهله ، تأفف بغضب وهو يوبخها فأكمل :
-وانتي معندكيش فِلتّر !! يعني الكلام ما عيعديش من إهنه_مُشيرًا بسبابته نحو رأسها_يعني أقلها ياخدله وش نضافة قبل ما تُطلقيه علينا يا بت الناس !!
تأهب أن يرحل كي لا ينفعل عليها أكثر ولكنها أدركت خطأها الفادح ولحقت بتلك الخطوة التي قطعها مُتشبثـه برسغها :
-استنى ، بليز استنى .. أكيد مش قصدي ممكن متزعلش وتتعصب عليـا ، مش قصدي خلاص والله .. أنا أسفة .. هقفل بؤي خالص .
أسلوبها الطفولي جعل ساعة قلبه تقف عند تلك البراءة التي لم يراها على إمراة من قبل ، توقف على شفا جفونها المتفتحة كزهور الربيع تتوسلـه ، دق ناقوس الشعر برأسه وهو يهمس لقلبه :
‏”عيناكِ كنجمتان تسبحان في خواء أفلاكٍ
بين جفون شواطِئها
حيث يغرق فيهما المرء قرونًا
ولا يود أن يُفارقها .”
عاد له رُشد بعد ما تأمل عينيها المتلون بزُرقة السماء فوقه رافعًا حاجبه متعمدًا أن يثير غضبها قائلًا :
-ربنا يشفيكي ..
-يعني أيه ربنا يشفيني !! أنا مش عيانة على فكرة .!
على الجهـة الأخرى جاءت زينة وبيدها كأس من العصير الذي اعدته لهارون بنفسها ، فسقطت عينيها على تلك الفتاة التي تقف بقربه يتعمقان النظر ببعضهما أن رآهم شاعرًا لكتب دواوينه من نسل تلك النظرات المبهمة والمتأرجحة بينهما ، فصاحت زينة والغيرة تأكل بقلبها:
-تعالى الحقيني يا عمة ! دي مكلبشة في يده كيف الجرادة …
••••••••
~قسم الشرطة.
-كل حتة يعدوا منها ولاد العزايزي يتحط فيها كمين يا محسن ، والله لاحبسكم واحد واحد .
كان يجوب خطاوي مكتبه بعشوائية وهو يتوهج نارًا من تصرف هارون الآخير معه ، فألقى قذيفة أوامره على مسامع معاونه حتى أردف بخزي :
-شريف بيه !! لو متعرفش هاشم العزايزي رجع النهاردة .. ولو كان هارون دماغه داهية ، فهاشم ده دماغه سم ، موجب مع رجالة الداخلية قبل الجيش ، وحبايبه كتير ، منظنش إننا هناخد منهم حق ولا باطل .
نهره شريف برفض قاطع :
-يعني ايه يا محسن !! أنتَ عايزني اسيب حقي !! اخلى واحد زي هارون العزايزي يعلم عليا !! دانا افرغ مسدسي في راسـه وافضها شُغلانة .
وثب محسن كي يرشده :
-اهدى يا شريف .. أهدى وكبر دماغك منهم وبلاش تضيع مستقبلك عشان ، صدقني العزايزة دول لا قانون ولا حد يقدر يفرض نفسه عليهم .. نابهم سم .
هتف شريف متوعدًا وينتوي الشر :
-وانا وراهم والزمن طويـل يا محسن ……
••••••••
~اسكندريـة ..
قيـل :
أن الحياة عندما تكشف أقنعة الناس تكشفها بقسوة ، لدرجة أنك تحتاج وقتاً طويلاً لتستوعب بشاعة الوجه الحقيقي الذي تقاسمت معه ذكرياتك بشتى أنواعها …
فالحياة مفاجئات ، قد تأتيك من البعيد ، وقد تأتي من أقرب الناس إليك ..
. فهناك خذلان لا يغفر ، وفي النهاية :
“ليس هناك أناس يتغيرون ، بل هناك أقنعة تسقط من فوق وجوههم المزيفـة .
فارقت ناديـة فراش الزوجية الذي يجمعها بـ رُشدي أبو العلا ، ابن عمها وأبو شريف وزوجها السري منذ عامين .. نهضت وهي تجُر ذيل روبها الحريري الذي ارتدته بملل وعقدت حزامه حول خصرها ونظرت لذلك الرجل الذي اتخذها زوجة ثانية له وقالت :
-تقدر تبات هنا ده لو عرفت تهرب من أميرة ، “ليلة” مش جاية اليومين دول .
اعتدل الآخير من نومته وهو يلجأ لسيجارته ويشعلها قائلًا :
-وبعدين ، إحنا مش هنخلص من موضوع البنت دي ، وبعدين أيه العوج اللي هي فيه مع شريف .
قهقهت نادية بإغواء وهي تتمايل صوبه وتقول :
-متقلقش ، سيبها على راحتها تعمل اللي عايزاه وفي الأخر كلامي اللي هيمشي..
ثم تبدلت نبرتها وأكملت بصوت متخابث:
-رشدي ، قول لابنك يعقل .. مش عايزين نخسر كُل حاجة .. كفاية الضربة اللي ادهانا سامح ..
ضرب رشدي على بطنه العارية بإعجاب :
-فلوس ومشاريع بالملايين كُلها في حساب واسم ليلة ، اللي هي مش بنته .. أنتِ ازاي مخدتيش بالك من كل ده !! ازاي يا نادية .
اتكأت على ظهر وسادتها وقالت بغلٍ:
-كان مفهمني إنه معندهوش غير مرتبه آخر كُل شهر ، طلع عامل بيزنس ومشتري أسهم في أكبر الشركات لا وكلهم باسم ليلة ، اللي هي مش بنته ..
ثم نظرت له والحقد يتطاير من أعينها:
-أنتَ متخيل ، البنت الغبية دي بيدخل في حسابها كل شهر ملايين .. والمصيبة ولا حاسة بقيمتهم ، ده لو قابلها حد محتاج قرشين ممكن تديله كل الفلوس اللي معاها وهي مبسوطة ..
انتبه رُشدي لها بمكر :
-سيبي شريف عليا ، وأنتِ اسحبي منها على أد ما تقدري واتحججي بالمركز والمستشفى ، البنت دي لو معرفناش نسيطر عليها ؛ هنخسر كُلنا ..
ثم قبـل كفها وأكمل بتخابث:
-حبيبتي كل الفلوس دي من حقك أنتِ ، حق انه وهمك إنك مش بتخلفي ودبسك في بنت مش بنته عشان يداري على عيوبه هو .. أنتِ صح والفلوس دي حقك وبس ..
عشش الحديث برأسها وأخذت تُقلبه على مراجل من النار حتى تفوهت بعجز :
-أنا بس لو أعرف رفعت الجوهري جابلنا البنت دي منين ومين أهلها !! الاتنين ماتوا قبل ما يقولوا السر يا رشدي …..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية آصرة العزايزة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى