روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الخامس والأربعون 45 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل الخامس والأربعون 45 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان البارت الخامس والأربعون

رواية ماسة وشيطان الجزء الخامس والأربعون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الخامسة والأربعون

*أحمر*
=====
_لا تخافي! سأكون معك خطوة بخطوة !
يقولها إبراهيم بحميته المعهودة وهو يستقل سيارته معها وقد وصل بها إلى الحي الذي كانت تسكنه ك”سمرا” ..
لم تكن تحتاج حقاً لشيء من هنا لكنها وجدتها فرصتها لتختلي به !
الفرصة التي لم تجدها بهذا الحجم وهو يصر على صمته المتحفظ طوال الطريق مهما حاولت جره للكلام ..
لهذا تطلق زفرة ضيق حقيقية وهي تغادر السيارة لتصعد نحو الأعلى حيث بيتها المفترض هاتفة :
_لن أتأخر!
تجمع بعض الملابس والأشياء التي لا تهتم لها حقاً قبل أن تتناول هاتفها لتجري اتصالاً :
_أنا قادمة الآن يا “كوثر” لرؤية أمي ..تدبري الأمر مع “سمرا” كالمعتاد !
تنهي الاتصال لتتأهب للمغادرة لكنها تلمح هذه “البلاطة المكسورة” في أرض الغرفة والتي بدا كسرها غير طبيعي فتنحني لتزيحها كي تستخرج ما تحتها …
وفي مكانه بالسيارة كان يبدو شديد القلق وهو يدور ببصره في المكان حوله ..
يود لو يمر الوقت بسرعة فيعود بها لمأمنه في حيّه هو !
يغمض عينيه بتعب وهو يشعر أن مقاومته لها تخفت يوماً بعد يوم ..
“الدرويش” وقع في فخ التعلق!!
ليته يبقى مجرد تعلق فحسب!!
يلمحها قادمة فيتنهد أخيراً بارتياح وهو يعيد تشغيل السيارة التي استقلت مقعدها الخلفي لينطلق بها ولم يكد يفعل حتى هتفت به برجاء:
_مشوار واحد فقط ..أحتاجه أيضاً!
_أي مشوار؟!
يسألها بضيق لترد كاذبة :
_إحدى معارفي تعمل في بيت أحد الأثرياء ..ستقرضني بعض المال .
_وهل بخلنا عليكِ بشيء؟!
يهتف بها بحميته المعهودة لترد بابتسامة امتنان حقيقية :
_أبداً ! لكنها مدينة لي!
_تقترضين منها أم مدينةٌ لك؟!
يسألها بشك لترد بسرعة :
_تعلم كم تتداخل هذه الأمور أحياناً فلا تدري من بدأ..أرجوك ..أحتاج زيارتها .
يتردد قليلاً لكنه يهز رأسه أخيراً بطاعة فتشيح بوجهها وهي تشعر ببعض الارتياح ..
لا تدري كيف ستتمكن من زيارة أمها في الفترة القادمة وبأي حجة تغادر الحي وقد أخبرتهم أنها لا أهل لها ولا معارف..
لكن لا بأس ..فلتستمر اللعبة ..
ألم تعلن مراراً أن ارتجاليتها سر شغفها بها؟!
تعطيه العنوان فيتوجه إليه ليتوقف بالقرب من البوابة فينعقد حاجباه وهو يميز البيت الفخم الذي بدا له كالقصر ..واللافتة التي علقت على بابه ..
_اللواء رفعت الصباحي؟!
يهتف بها وقد انعقد حاجباه بشدة لتلتفت نحوه بملامح شاحبة :
_تعرفه ؟!
يكز على أسنانه بقوة ثم يشيح بوجهه قائلاً :
_ليست معرفة شخصية ..لكنه أحد الأسماء المشبوهة والمتورطة في قتل المتظاهرين!
يزداد شحوب ملامحها وهي تسمع منه الأمر لأول مرة ..
لكنها تؤثر الهروب فتقول بسرعة :
_وما شأننا به ؟! سأرى المرأة ونغادر! لن أتأخر!
يهز رأسه دون رد قبل أن يلتفت ليراقبها وهي تدخل البيت شاعراً بالخوف عليها ..
طالما تبدو له البيوت بهذا الشكل مجرد مصيدة فاخرة المنظر ..
وبالذات لو كانت لواحد مثل رفعت الصباحي ذاك !!
يغمض عينيه بألم وهو يشعر بصورة حسن تجتاحه ..
ابتسامته السمحة ..وعيناه اللتان كانتا تشاطرانه أحلامه ..طموحاته..جنون شغفه ..
قبل ان تنطفئا فينطفئ معهما كل هذا !!
=======
_تأخرت؟!
تهتف بها وهي تعاود استقلال السيارة معه من جديد فتتعلق عيناه رغماً عنه -عبر المرآة الأمامية -بعينيها المحمرتين الواشيتين ببكائها ..قبل أن يهتف بقلق:
_ماذا حدث ؟!
_لا شيء! أعطتني المال !
تقولها بابتسامة مصطنعة ليرد بقلق أكبر:
_كنتِ تبكين؟! هل ضايقكِ أحدهم ؟!
تغمض عينيها بامتنان حقيقي لهذه الحمية التي تعلم أنه لا يدعيها ..لترد عبر جفنيها المغمضين:
_تذكرت حالي فقط وأنا أحكي للمرأة بالداخل عما حدث لي .
_لا تحملي هماً! الله الذي يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء لن يعجزه تدبير أمرك ..فقط توكلي واحتسبي!
ترمقه بنظرة غريبة كعهدها كلما سمعته يتحدث بهذه الطريقة ..
كأنه يتحدث بلغة غير التي تفهمها ..
لغة قد لا تتبين مرادفاتها إنما تمسها بصدق شعوره هو بها !!
هل هو حقاً بهذا التدين؟!
ما سر جنة الرشيدي إذن ؟!
_فلنغادر هذا المكان ..يصيبني بالغثيان !
يقولها بضيق مقاطعاً أفكارها لتحاول جره للحديث بسؤالها:
_كل هذا لأجل المتظاهرين؟! أنت من المهتمين بالسياسة ؟!
_السياسة ؟!
يقولها باستنكار مرير وهو ينطلق بالسيارة مردفاً :
_تعرفين المقولة الشهيرة (السياسيون كالقرود ..إذا تعاركوا أفسدوا الزرع وإذا تصالحوا أكلوا المحصول) ..لا ..لم أعد مهتماً بالسياسة ..لها ناسها ولست منهم ..إنما هو الوطن ..الناس ..الوجوه الكادحة التي تستحق راحة لا تجدها قبل الموت ..الدين الذي غابت حقيقته وهم يلبسون ثوبه لمن تهواه أمزجتهم ضالين ومضلين ! الدماء التي هي حرمتها عند الله أكبر من هدم الكعبة حجراً حجراً ! كل هذا لا يسمى سياسة ..اسمه حياة ! مسئولية ! أمانة سنحاسب عليها أمام خالقنا عندما يسألنا عن عمرنا فيما أفنيناه !!
لايزال يتحدث بهذه اللغة التي لا تفهمها فتغمض عينيها على دموعها الحبيسة ولايزال منظر أمها المستلقية على فراشها لا تذكرها بل ولا تذكر أي شيئ يرميها في ظلمات يأسها أكثر وأكثر ..
_كل هذا لأجل سيرة رفعت الصباحي؟! تكرهه إلى هذا الحد ؟!
_لقد أفضى إلى ما قدم ..عند الله تجتمع الخصوم !
يقولها بضيق لم يستطع كتمه لتتنهد بحرارة ثم تغير الموضوع قائلة :
_تعلمت ألا أغتر بالمظاهر ! لا تعلم كم هي قاسية أحياناً حياة هؤلاء الناس ..الأثرياء!
يختلس نظرة جديدة نحوها عبر المرآة وهو يحاول التركيز في الطريق بينما تغوص هي في مقعدها أكثر مغمضةً عينيها ..
تربت على أحد كفيها المتشابكين في حجرها بالآخر كأنما تمنح نفسها طمأنينة ..
صورة أمها التي عانقتها منذ قليل وهي لا تكاد تعرفها تسحبها للمزيد من الغرق في بحار الماضي ..
_أعرف منهم واحدة ..كان الناس يسمونها “كاملة الأوصاف”..الجمال ..المال ..النسب ..النفوذ ..لكن أباها لم يكن يتعامل معها إلا كسلعة رائجة ..اختار لها المرة الأولى الرجل المناسب الذي ظنّه سيكون خليفته في عمله ..لم تكن راضية عن هذه الزيجة لهذا لم تكد تعلم أن زوجها لا يمكنه الإنجاب حتى انتزعت حريتها منه ..المرة الثانية اختار لها أيضاً ما يتوافر مع طموحه ..الغريب أنها كانت راضية تماماً بالأمر وقد ظنت الدنيا ستضحك لها أخيراً ..لكنها فوجئت أن الزوج الثاني لا يراها لأنه يحب غيرها ..واستردت حريتها من جديد ..إنما عادت لتنغمس في ظلماتها ..ظلمة خلف ظلمة ..أسلمتها للإدمان ..
يختلس نظرة أخرى جانبية لها وهو يشعر أنها انفصلت عن العالم مع حكايتها هذه ..
والحقيقة أنها كانت كذلك !!
_حتى قتلت ابنها !
_ماذا؟!
يهتف بها باستنكار وانفعاله يكاد يجعله يصطدم بالسيارة التي أمامه لولا أن سيطر على سيارته هو في اللحظة الأخيرة ..
لكنها بدت غافلة تماماً عن كل هذا ولايزال أحد كفيها يربت بهذه الحركة الرتيبة فوق الآخر:
_ابنها من زوجها الثالث ..تركته يوماً وحده لتذهب كي تحضر ذاك المخدر ..لم تكن تميز شيئاً وقتها سوى المادة السحرية التي كانت تبقيها فوق غمام سعادة الوهم ..كان بالكاد قد تجاوز عامه الأول ..لعله افتقدها ..لعله ناداها فلم ترد ..لعله ذهب للشرفة يبحث عنها ..لعله صعد لذاك الكرسي كي يلوح لها ..لعله أسقط أحد ألعابه فرمى نفسه خلفها ..لا تعلم..ولن تعلم أبداً ..هي عادت لتجد جسده الساكن ملطخاً بدمه ..حملته لتجري به نحو المشفى القريب رغم يقينها من موته ..لكنها كانت تطارد بقايا أمل ..مات الصغير .
يستغفر الله بصوت مسموع وهو يعاود النظر نحوها متسائلاً:
_وهي؟!
تفتح عينيها المغمضتين لتلتقي عيناهما أخيراً بجوابها :
_ماتت بعده !
ينعقد حاجباه بقوة للحظة وهو يرى “العندليب الأخرس” في عينيها يكاد يصرخ وجعاً ..
بينما تشعر هي أنها نزفت المزيد من دماء جرحها التي ظنتها قد جفت ..
لماذا حكت له ؟!
لماذا تذكر نفسها؟!
ألم ترهن ما بقي من عمرها للّعب؟!
للّهو؟!
لماذا عادت “الماريونيت” تشبك خيوطها بنفسها ؟!
أما اكتفت من قيود الماضي؟!!
_تعرفينها ؟!
سؤاله المشفق ينتزعها من شرودها لترد بفتور:
_كانت صديقتي!
تقولها وهي تتمالك نفسها أخيراً لتغتصب ابتسامة مصطنعة مع قولها :
_أعتذر لو ضايقتك ..أثقلت عليك كثيراً اليوم !
_لا بأس! أدرك جيداً مرارة شعور الفقد هذا ..لكن الأشد مرارة هو محاولة تجاوزها ..أنا أيضاً فقدت شقيقي ..توأمي ..ربما استطعت تقبل حقيقة رحيله لكنني لم أتقبل بعد كيف نساه الناس بعدها ..حتى أقرب من كانوا إليه !
يهتف بها بمرارة فينعقد حاجباها لتتمتم بدهشة :
_توأمك؟! تعني أنكما متشابهان ؟!
تسأله وقد بدأت الحقيقة تسطع في ذهنها فجأة وهي تتذكر ما تعلمه عن جنة الرشيدي ..
كانت مرتبطة قبل فهد ..خطيبها قد مات !!
بينما يهز هو رأسه بإيجاب ليردف بنفس المرارة :
_خطيبته تزوجت بعده ..تزوجت واحداً ممن قامت الثورة ضد أشباهه !!
تتسع عيناها وهي تشعر بالحقيقة تصدمها!!
إذن هذه الصورة لم تكن لجنة مع إبراهيم ..
كانت مع شقيقه الراحل!!
فسدت اللعبة إذن !!
هل ستعود للمستوى الأول؟!!
الخيبة تخرسها طوال الطريق لكن الدفء الحقيقي الذي ملأ قلبها لدى دخولها للحي يمنحها بعض العوض ..
ماذا لو فسدت اللعبة ؟!!
فلتبحث عن أخرى ..هاهنا حياة بأكملها !!
_لن تشتري اليوم “النعناع” يا إبراهيم؟!
تهتف بها المرأة بسيطة الحال والتي دفعت بحزمة من النعناع الآخر عبر زجاج السيارة التي توقف بها إبراهيم أمام الحي والذي نقدها المال مضاعفاً لتدعو له بالبركة قبل أن يستمر في طريقه ..
يبتسم هو ابتسامته المنقوصة وهو يقول مفسراٌ لها :
_”مستر ربيع” لديه ارتباط شرطي بين النعناع والسعادة ..ولا يعترف به مجففاً أبداً ..عندما كنا صغاراً كان يضع لنا النعناع في الشاي كمكافأة زاعماً أن هذه الوريقات هدايا الأرض لمن صلح من أبنائها وعلامة طهرهم ..كبر وكبرنا لتبقى رائحة النعناع علامةً حقاً ..إنما لنقاء ذاك الرجل الطيب !
ابتسامته تنتقل عفوياً إليها رغم مزيج الألم والخيبة الذي يملأها:
_يبدو أنك تحبه كثيراً!
_هو أبي وصديقي وشيخي ..عمري كله فداء له !
يقولها بحرارة تخز قلبها وهي تراه لأول مرة يتحدث بعيداً عن قناع تحفظه المعهود ..
تود لو تطيل الجلوس معه أكثر لكنهما يصلان أخيراً فيترجلا من السيارة ..
_حمداً لله على السلامة !
يهتف بها ربيع بود وهو يستقبلها بينما يراقب إبراهيم الذي حمل حقيبتها التي عادت بها من بيتها القديم ليذهب بها للأعلى ..
بينما تتقدم هي لداخل الفرن وهي تشعر أنها تعود لتستقبل عزيزاً ..
الغريب أنها لم تشعر بحرارة الجو كما كان صباحاً بل شعرت أنها تريد الانغماس في العمل أكثر ..
_كيف تشربين الشاي؟!
يسألها ربيع باهتمام وهو يتناول الصينية من صبي القهوة المجاورة فتجيبه وهي تنظر للكوب ببعض التوجس:
_دون سكر .
يضحك ربيع وهو يقلب الشاي في الكوب هاتفاً ببعض المكر:
_لا تحملي هم نظافة الأكواب! “الولد” يغسلهم جيداٌ ..تحبين أن أوصيهم بكوب بلاستيكي لكِ ؟!
_سيكون هذا أفضل!
تقولها باستحسان وعيناها تقعان على سامي الصغير الذي جلس في مكانه جوار كشك سندس التي كانت تلوح لها بود ..
لتستند على الطاولة وهي ترمقهما من بعيد بنظرة فاضت بعاطفتها ..
نظرة شاردة بهذا الحزن الذي تصدعت معه جدران روحها ..
نظرة تخضبت بهذه الدمعة المذنبة المشنوقة بحبلها بين صورتين ..
أمها ..وابنها !
_ماما!
_قتلتِ ابنك يا مجرمة !
صفعة فادي من جديد كأنها تهوي فوق قلبها فينتفض جسدها بقوة لكنها تفاجأ بهذه الورقة الخضراء الصغيرة تسقط في كوبها ..
ورقة نعناع!!
ترفع عينيها نحوه ببعض الدهشة فلم تنتبه لعودته من أعلى ليصلها صوته الذي تسرب حنانه عبر أسوار تحفظه :
_هكذا تجدين المذاق أفضل..لا تبكي..
يهمس بها بخفوت ثم يغادرها بخفة ليفعل المثل بكوب أبيه الذي ابتسم بحذر وهو ينقل بصره بينهما لكن إبراهيم يتحرك ليغادر مستقلاً سيارته التي انطلق بها نحو عمله يلاحقه زوجان من العيون ..
أبوه الذي كان يشعر بمزيج من حذر ولهفة وهو يتأكد من صدق حدسه بخصوصهما ..
وهي التي رفعت الكوب لفمها متناسية ملاحظتها بشأن الكوب الزجاجي ..مذاق النعناع الطازج في فمها يجعلها تغمض عينيها باستمتاع يشبه شعورها بهمس حنانه ..
لم يكن يكذب ..هكذا حقاً تجد المذاق أفضل!
=======
*برتقالي*
======
أمام مرآتها تقف طيف تتفحص مظهرها الأنيق ..ثوبها الكريمي بهذه الزهور الرقيقة متناهية الصغر باللونين البرتقالي والأصفر على حافة صدره وكمّيه القصيرين ..مع حزام خصر عريض بلون أصفر ..قرط وعقد من الأحجار بلون برتقالي ..حذاء بكعبٍ عالٍ جداً بلونٍ كريمي وحقيبة يد صغيرة بلون برتقالي لامع ..
كعهدها لا تحب أدوات التجميل لكنها تعشق بهوس أناقة ثيابها بهذه الماركات العالمية الشهيرة ..
تمشط شعرها الناعم فترفع أحد جانبيه بحلية بسيطة ليبدو قرط أذنها أوضح ..
تعود خطوة للوراء تتفحص شكلها ثم خطوة للأمام ..
قبل أن تتنهد بحرارة ..
(أمشي في السكة أشوف نفسي
كده حلوة وروحي عاجباني
وأتمنى أقابله ولو صدفة ..
ويشوف تسريحتي وفستاني ..)
لا تدري من أين طفت كلمات هذه الغنوة اللعينة لذاكرتها !!
تطلق سبة عابرة وهي تتجاهل خواطرها بينما تتحرك لتغادر شقتها ..
لابد أن تخرج !
منذ دخول مجد في حياتها وقد صار يومها بأكمله محتلاً ب”هذا الرجل” أو بكل ما يتعلق به ..
مجد لا تكف عن الحديث عنه ..كأنها تحكي لها تقريراً مفصلاً عن يومه ..
متى جاء ..ماذا أكل ..ماذا شرب ..كيف قضى بقية يومه معها بعد انتهاء عمله ..
والغريب أنها لا تمنع الصغيرة من فعلها كل يوم ..
بل ..تبدو وكأنها تنتظر هذه التفاصيل لتكمل لوحته الغامضة في ذهنها ..
ورغم أنها لم تره منذ ذاك اليوم الذي حملها فيه للمشفى لكنها تشعر أنه حقاً صار يعيش معها ..
إن لم يكن في تفاصيل مجد اليومية ..
ففي حديثها معه عبر “حسابها المزيف” !
عندما سألها يوماً عن اسمها -كرجل- وجدت نفسها رغماً عنها تختار اسم “ضياء” !
ابن عاصي!!
ربما لأنها برغم ظاهر تمردها تتمنى بداخلها لو تنتمي ل”عائلة”!
هكذا صار يحيى صديق “ضياء”!
يتبدلان الحوارات اليومية لمدة قصيرة لا تتجاوز بضع دقائق قبل أن يعتذر أحدهما ..إما هو انشغالاً وإما هي هروباّ!
مجد أخبرتها أنه في رحلة سفر قصيرة لكنها لا تعرف تفاصيل ..
ربما لهذا تشعر ببعض الضيق كأنما فقد عالمها بعض توازنه !!
هل صارت مهووسة به حقاً إلى هذا الحد ؟!
ما الذي فعلته بنفسها ؟!
تضغط زر المصعد لتنتظره فتفاجأ به يغلق باب شقته ليتوجه نحوها ..
هل عاد ؟!
اللهفة المجنونة في عينيها تناقض حركتها وهي تشيح بوجهها بينما تتجاهل حتى إلقاء السلام ..فيردها لها بمثلها!
المصعد يبدو لها شديد الضيق ..شديد الضيق حقاً وهو يحتوي كليهما حتى أنها تشعر بتلاحق أنفاسها مع رائحة عطره التي تكتسحها كإعصار ..
لكنه كذلك يبدو لها شديد الاتساع ..شديد الاتساع حقاً وهو ينبت لها جناحين كي تحلق بهما في سماء بعيدة افتقدتها منذ زمن ..
سماء اسمها “الأمل”!
ذبذبات التوتر بينهما تملأ المكان حتى يصل المصعد أخيراً للأسفل لتشعر به يتجاوزها بخطوات سريعة حتى يختفي عن ناظريها فتعقد حاجبيها بخيبة لم تنكرها وهي تتمنى ..
ماذا ؟! ماذا تتمنى؟!
تتجاهل جواب السؤال وهي حائرة في وجهتها ..
التسوق؟! ربما قبل أن تلتقيه الآن كانت لديها شهية !!
أما الآن ..فهي تشعر أنها تود لو تعود لتختبئ في بيتها ..خلف شاشة حاسوبها ..تحيك مصائر أبطالها وتنغمس في حيواتهم لعلها تنسى حياتها هي!
إذن تمسك العصا من المنتصف كما يقولون ..
ستذهب لمقهاها المفضل بالجوار كي تشرب قهوتها ..تراقب بعض الوجوه لعلها تستلهم منها قصصاً كعهدها ..ثم تعود لصومعتها ..
لكن المفاجأة كانت من نصيبها أيضاً هذه المرة وهي تدخل المقهى الفاخر لتجده جالساً !!
ورغم أنه كان يعطيها ظهره لكنها لن تجهل تفاصيله !!
يرتعد قلبها بلهفة لم تعرفها منذ زمن “حسام القاضي” ..كأنما السنين تعاود منحها هذه اللذة المراهقة لرجفة الحب الأول ..
عقلها العصيّ يحذرها آمراً إياها بالتراجع نحو صومعتها الآمنة لكنها تسير كالمغيبة نحوه ..
تقترب بخطوات بطيئة متمهلة مستغلة غفلته عنها ..
تراه يفتح حاسوبه المحمول فتتسع عيناها بلهفة تحولت لغيرة غير منطقية وهي ترى الصورة الكبيرة التي كان يحدق فيها عبر الشاشة وقد شبك أصابعه ليستند عليها بذقنه أمامها ..
صورة امرأة فاتنة ..بل اثنتين!!
تكز على أسنانها بقوة تكاد تحطمها وهي تتجاوزه بسرعة لتتخذ مقعدها أمامه ..
أجل أمامه !! بهذه الصورة المتحدية له ولنفسها قبله !!
تستخرج من حقيبتها سيجارة لتشعلها ..
تلتقي نظراتهما وقد انتبه لها أخيراً فتنفث دخانها نحوه قبل أن تشيح بوجهها ..
اهدئي يا طيف! اهدئي!!
هو ليس من هذا النوع اللعوب وأنت تأكدتِ بنفسك!!
فكري!!
ربما هاتين هما سبب عقدته !!
رجلٌ كهذا لن يكره النساء هكذا من العدم !!
ماذا عساها قصتهما؟!
اثنتان!! اثنتان !!
تنقطع أفكارها فجأة وهي تراه يحتل الكرسي المقابل لها على مائدتها فجأة فينعقد حاجباها بغضب يناقض حمرة الخجل التي تخضبت بها وجنتاها !!
_من أذن لك بالجلوس؟!
تهتف بها بفظاظة بدت هزلية حقاً في موقفها هذا وكل خفقة من خفقاتها تكاد تجن لهفة لهذا الاقتحام “اللذيذ”!!
_أنتِ!
يقولها بنبرته الواثقة التي اصطدمت بصيحتها الاستنكارية لكنه يبتسم هذه الابتسامة المغيظة وهو يرد بنفس النبرة الواثقة :
_أنتِ رأيتني بالتأكيد عندما دخلتِ وتعمدتِ الجلوس أمامي ..كان يمكنكِ المغادرة أو الجلوس في مكان آخر لو لم تكوني راغبة في استفزازي لمجالستك!
منطقه يخرسها للحظة وهي تثق بصدق كل كلمة قالها لكنها تهتف بالمزيد من المكابرة بينما تنفث المزيد من دخانها في وجهه :
_لا شأن لي بتهيؤاتك وهلوساتك ..أنا حرة في الجلوس أينما شئت ووقتما شئت!
عيناه “ذاتا القضبان” ترمقانها بهذه النظرة النافذة التي تشعر أنها تصيبها بالقشعريرة!!
تخترق دواخلها بهذه الخبرة الواثقة لتلقيها في وادي التيه الذي يبعثر تماسكها!!
_لا أستسيغ الجلوس مع امرأة مدخنة .
يقولها ببطء كأنه لم يكترث بما قالته ..
ضاغطاً كل حرف من حروف كلماته وعيناه لا تحيدان عن عينيها مثقال ذرة ..
فتشعر بهذا الوهن الذي يدفعها للمزيد من الشراسة :
_هذه المرأة المدخنة لم تطلب منك الجلوس معها أصلاً !
_أطفئيها وسأعتبرها دعوة منكِ!
بنفس النبرة الواثقة التي تخللها الآن جذلٌ مستمتع لم يستطع إخفاء جذوته في عينيه ..
لكنها تعاود نفث دخانها في وجهه بإشارة صريحة لم يتجاهلها وهو يقف مكانه فجأة متأهباً للمغادرة ..
هنا لم تشعر هي بنفسها وهي تفاجأ -قبله- بأناملها تطفئ السيجارة !!
_خرب بيتك !! بل خرب بيتي أنا!! ما هذا الذي أصابني؟! ما الذي أصابني؟!
تهتف بها لنفسها في سخط وهي تشعر بقطرات عرق خفيفة تريق المزيد من دماء كرامتها فوق جبينها ..
حرجاً ..ارتباكاّ..وخجلاً !!
لكن ابتسامته الحقيقية -التي حملت الكثير من رضا- جزتها خير الجزاء عن كل هذا وهو يعيد الجلوس بينما عيناه “ذاتا القضبان” تعاودان غزوهما الصامت لها ..
_تقبلته !
تهتف بها وهي ترفع أنفها بكبرياء فيعقد حاجبيه بتساؤل عما تعنيه لتردف وهي تتراجع بظهرها لتضع أحد ساقيها فوق الأخرى:
_اعتذارك الذي قدمته لي في المشفى!
تتسع ابتسامته بإعجاب طفيف وهو يراها تقلب الأمور بعدما كان من حركة إطفائها السيجارة ..
كأنها تجيد التلاعب دوماً ب”المربعات الملونة” كي تضع مربعها هي في المكان الذي تريده بالضبط!!
المكان الأعلى!!
لهذا ترك لها التمتع بلعبتها وهو يرى نظراتها الظافرة تذكره باعتذاره ..
يرى النادل يتقدم ليسألهما عما يشربان ..فتطلب هي قهوتها غالية الثمن عامدة فيما يطلب هو ..مثلجات !!
_يبدو أنك أخطأت “الطلب” ! ظننت مجد هنا؟!
تقولها بتهكم تداري به تأثرها ليرد بثقة وهو يقترب بجذعه ليسند ذراعيه على المائدة وقد استند بذقنه على كفيه المتشابكين :
_لم أخطئ الطلب!
_إذن فالكاتب العظيم صاحب الكتاب الأعلى مبيعاّ ورجل الأعمال صاحب الشركة الكبيره لا يخجل من تناول المثلجات أمام العامة ؟!
تقولها بالمزيد من التهكم الظاهر لتشعر بعينيه تحتكران نظراتها أكثر وهو يرد :
_هذا هو الفارق بيننا ..أنتِ تطلبين القهوة غالية الثمن ..تنقدين البواب أمامي ورقة مالية بقيمة كبيرة ..ترتدين هذه الملابس ذات الماركات العالمية ..كل هذه الأفعال التي تفضح رغبتك في التمرد على ماضيكِ كأنما تستمدين نظرتك لنفسك من نظرات الناس ..أما أنا فلم يعد يعنيني هذا الأمر ..صرت أعيش لنفسي ولمن أحبهم ..فحسب!
لا تدري لماذا تكدست الدموع في عينيها فجأة قبل أن تشيح بوجهها عنه !
هل هو اقترابه شديد الخطورة كعهده من مقدسات ماضيها؟!
هل هو يقينها الخجول من صحة ما يقول؟!
أم هي المرارة المتوجعة التي نضحت من كلماته هو رغم ما يحاول تغليفها به من ثقة غير مبالية؟!
أجل! لأول مرة بينهما تشعر أنها ليست خجلة من ماضيها أمامه بل تشاطره نفس الألم !!
_مجد تقول إنكم كثيرو الأسفار !
تغير بها الموضوع وهي ترى النادل قد عاد بما طلباه ..
ترتشف رشفة من قهوتها ليصلها جوابه :
_لا أحب البقاء في مكان واحد لمدة طويلة ..أكبر ذنب يقترفه المرء في حق نفسه أن يقع في فخ “التعلق”!
كلماته تصيب وتراً خاصاً في نفسها وهي تشعر أنها تقترب من حدود مأساته ..ترفع عينيها نحوه لتصدم بمظهره وهو يقرب ملعقة المثلجات من فمه ..
تتخيلها وهي تذوب بين شفتيه !!
خيالاتها المهووسة تسحبها لمشهد آخر بعيد ..فتراه يجلسها فوق،ساقيه مثل مجد ..تطلب منه أن يطعمها المثلجات ..فيهمس لها بحنانه الآسر”تدللي” ..يطعمها إياها بنفسه ثم يضم رأسها لصدره فلا تدري أيهما ألذ ..مذاق المثلجات أم حنان عناقه ؟!
أفكارها الخطرة تنقطع وهي تلاحظ انتباهه لتحديقها فيه فتخفض عينيها بسرعة وهي تود الآن -رغم السعادة الخفية التي تركض في حقولها الآن- أن تهرب بعيداً لصومعتها الآمنة من جديد !!
بينما يشعر هو أنه يقرأها ككتاب مفتوح!!
حمرة خجلها هذه تناقض تحديقها الواضح فيه ..لكنه يتفهم كليهما !!
تبدو له كقطة برية متوحشة اعتادت الخمش بأظافرها لكنها تفتقد من يربت على ظهرها لتموء بنعومة بين ذراعيه !
لا ! لا تشبه أي امرأة قابلها من قبل !!
ربما لأنها لم تكتشف أسرار أنوثتها بعد !!
أجل هي فقط ترتدي عباءة امرأة متحررة لكنها تخفي تحتها طفلة منبوذة تخشى الغرباء كما يخشونها !!
_تعني أنك لن تمكثوا هنا طويلاً؟!
سؤالها يقاطع أفكاره فتلتقي نظراتهما ..
“سديم ” عينيها بفوضاه الضبابية يتمخض واعداً بألف نجمة وليدة ..
بينما تبقى عيناه “ذاتا القضبان” منطوية على ما فيها ..
يتصارع فيها أمل وألم!!
_لا أدري!!
يقولها أخيراً وهو يلوح بكفه الذي اصطدم عفوياً بكأس المثلجات فكاد يسقطه ليمتد كفاهما معاً في نفس اللحظة كي يمنعا هذا ..
تتلامس أطراف أناملهما للحظة لكنها كانت كافية لتشعل هذه الشرارة داخلهما معاً !!
تتراجع مكانها بحركة نافرة وهي تشعر بوجنتيها تكادان تحترقان ..
ليرمق هو ارتباكها بنظرة متفحصة كأنه يقرأ خباياها ..
مظهرها ..ملبسها ..أسلوبها ..كل هذا يضعها في خانة امرأة متحررة جريئة ..
فلو أضاف لهذا سكناها وحدها لجمح خياله في ربوع سوء الظن بها لا محالة ..
لكن هذا الخجل الغريب الذي يوقن أنها لا تدعيه مع فظاظتها البرية يجعله يضعها في خانة مغايرة تماماّ!!
_أبلغني فقط قبل نيتم بالسفر بمدة مناسبة ..أنا لا أحب المفاجآت ولا أنكر أني تعلقت بابنتك .
تقولها بصوت مرتجف رغم ما تحاول ادعاءه من فظاظة وهي ترتشف رشفة من قهوتها ..
ليرد ولايزال يغزو حصونها باقتدار:
_أحب عندما تدعينها “ابنتي” وليس باسمها المجرد !
_تستحقها!
تقولها مسبلة جفنيها لتردف بمرارة خفية :
_الأبوة ليست اسماً في شهادة ميلاد ..الأبوة مسئولية ..حنان ..قوة تعرف متى تتحرك لتكون تارة في ظهرك وتارة تحمي صدرك وتارة تدور حولك ..ربما لم أجرب هذا الشعور لكنني ..أقدره !
يعقد حاجبيه بقوة وقد بدت له في هذه اللحظة أشد هشاشة مما قد يدور بباله ..
أم هو الذي كذلك وهي تضرب بعفويتها على أكثر مناطق جرحه وجعاً؟!!
الأبوة ؟!
ما الذي يمكنه هو قوله عن هذه الكلمة التي ذبحت ماضيه وستبقى تذبح يومه وغده لآخر يوم في عمره ؟!
“القضبان” في عينيه تتلاشى أمام هذا الغضب الذي أشعلته الذكرى..
صوت زجاجة العطر لايزال يدوي في أذنه كيومها وهي تسقط من يده لتتحطم ..
لونها الأحمر يصبغ كل شيء حوله ..
المقبض الذي اشتدت عليه أنامله ..
الباب الذي تهاوى عليه ظهره ..
لن يبالغ لو زعم أنه إلى الآن لايزال يهوي!!
جرحٌ كهذا يبقى طوال العمر جمرة بين الضلوع!!
ترفع عينيها فجأة ليروعها هذا الغضب الأسود الذي سكنهما لتدرك بحدسها أنها أصابت حجراً في مياهه الراكدة ..
لكن “القضبان” تعود لتحتجز نظراته خلف عينين عادتا لجمودهما !!
تراه يقف فجأة كأنه يهرب من شبح يطارده ..لهجته الواثقة تهتز نوعاً مع قوله :
_بما أنكِ ذكرتِ الأمر ..فسأخبركِ كما رغبتِ ..سنسافر مع مجد غداّ.
_أين ؟!
تسأله بتوجس وهي تشعر بانقباض قلبها ليرد باقتضاب وعيناه تحيدان نحو حاسوبه الذي تركه هناك على المنضدة الأخرى:
_بغداد!
_ستعودون؟!
تلتقي عيناهما للحظة فينثر الخوف بذوره في عينيهما بالتساوي ..كأنهما يتشاطرانه بالعدل!
هي التي كانت تشعر أنها على وشك فقد جزء من نفسها لن تسترده بسهولة ..
وهو الذي كان يشعر أن سفره هذا سيفتح عليه أبواب جحيم ظن أنه قد أغلقها للأبد !
إنما ..لا مفر!!
_ثلاثة أيام فقط!
يقولها بنفس الاقتضاب فتتنهد بارتياح لم تخفِه وهي تشيح بوجهها ..بينما يصلها صوته :
_مجد ستودعك بالتأكيد قبل سفرها وأظنها سترغب أن تكون أول من تزور عند عودتنا ..شكراً لوقتك .
يقولها وهو يهم بالمغادرة لكنها تستوقفه بهتافها:
_انتظر.
يلتفت نحوها لتشيح بوجهها هاتفة بفظاظتها التي حاولت تخفيفها قليلاً:
_لا أجيد عبارات الشكر ومثل هذه الأمور ..لكن ..وقوفك جواري يوم المشفى أنت وصاحبك “فرقع لوز” ذاك حينها كان ..كان موقفاً جيداً ..يبدو أن الدنيا لاتزال بخير كما يزعمون !
تقولها ثم تعاود الالتفات نحوه بحذر كأنها تختبر وقع كلماتها عليه ليرمقها بنظرة طويلة سبقت قوله :
_لا داعي للشكر ..كما أنه لا داعي لهذه الحرب الباردة بيننا ..أعرف أن تفكيرنا مختلف وشخصياتنا متناقضة ..لكن لنحاول التكيف معاً ..لأجل مجد .
_ستسمح لها بالاتصال بي؟!
سؤالها يتأرجح بين أمر فظ ورجاء خفي لكنه يتقبل كليهما وهو يبتسم ابتسامة واهنة ليهز رأسه هزة خفيفة قبل أن يغادرها ليرحل ..
تاركاً إياها خلفه تراقب بقايا المثلجات التي انصهرت تماماً في كأسها ..
خاطر غريبٌ يجتاح رأسها وأناملها تمتد لتلامس الملعقة فتقلب بها مزيج المثلجات الذي تداخلت ألوانه ..
لو كان لهذا الكيان الكريمي أن ينطق فبما يصف شعوره وقد جرب لذة دفئه قبل أن يتركه هكذا دون أن يكمله ..ويرحل؟!
=======
بغداد !
معشوقته التي سيبقى يبكيها العمر دما بدل الدموع !!
العتيقة المتجددة ..العروس متغضنة الملامح ..
الطفلة المذعورة والأم الحنون ..
الصاخبة حد الاشتعال ..والصامتة حد الموت ..
الصابرة التي لا تزيدها ضربات الأيام إلا عزة !
كل الهواء هواء إلا هواءها …حياة!
كل التراب تراب إلا ترابها ..سكن!
كل الناس ناس إلا ناسها ..أهل!
كل البلاد بلاد إلا هي ..جنة !
جنة لُفِظ منها بخطيئة ليست خطيئته إنما بقي ثمنها في عنقه وحده !!
_هل ستبقى شارداً هكذا ؟! لهذا لم أكن راغباً في العودة إلى هنا!
يهتف بها نزار بجدية غريبة على طبعه العابث وكأنه هو الآخر يرزح تحت عبء العودة للوطن ..
ورغم كونه “نصف مصري ..نصف عراقي” لكن العراق بقي وطنه الذي عاش فيه أغلب سنوات عمره فغلب له انتماؤه .
يلتفت نحوه يحيى من شروده وهو يقف في نافذة غرفة الفندق الفخم في بغداد ..
فيقترب منه نزار أكثر ليربت على كتفه قائلاً :
_لا داعي لهذه الزيارة ! أنت رميت كل الماضي خلفك؟!
_هل تظن هذا حقاً؟!
يهتف بها بمزيج من غضب وألم ليطرق نزار برأسه بينما يردف يحيى الذي بدا كوحش سجين وهو يلوح بذراعيه بعجز:
_تعلم منذ متى انتظرت هذه اللحظة ؟! أن أقف في وجهه ..أضع عيني في عينيه ..أخبره ..أنني ..كنت أعلم..أنني لست مغفلاً كالذي ..!
يقطع عبارته قهراً وهو يشعر بهذه الغصة التي استحكمت حلقه ..
يلقي برأسه فوق كتف نزار لكن الأخير يهزه بقوة وهو يمسك بعضديه هاتفاً بقوة غريبة على طبيعته العابثة :
_إياك أن تخفض رأسك في موضع كهذا أبداّ..أبداً ..حتى ولو أمامي أنا ..ارفع رأسك يا يحيى ..ارفعه !
لكن يحيى يشيح بوجهه قليلاً مخفياً هذه الدمعة العجوز !
اجل ..عجوزٌ هرمة ولدت منذ سنوات وتزداد تجاعيدها القبيحة كلما أخفاها !
ويخشى أن يأتي هذا اليوم الذي تسقط فيه عجوزه الهرمة فيسقط معها ما بقي من كبريائه !
ولا يدري لماذا الآن في هذا الموضع بالذات تذكرها هي ..
طيف!
هل يمكنه الاعتراف أنها -وبرغم كل هشاشتها- تمنحه قبساً من قوة ؟!
_اعتنِ بمجد حتى أعود ..لن أتأخر!
يقولها أخيراً وهو يربت على كتف نزار الذي منحه نظرة مؤازرة قبل أن يلقي نظرة أخيرة على المرآة ..
هل هو هو؟!
هو يحيى العراقي الذي غادر بغداد منذ سنوات مطعوناً بخنجر غدر؟!
ومتى ؟! في اليوم الذي ظنه وقتها أسعد أيام حياته ؟!
نعم ..هو !
عاد ليرتشف أخيراً كأس انتقامه !!
خواطره لا ترحمه طوال الطريق ..
تصفعه بهذا الكف القاسي الذي عهده طوال هذه السنوات ..
الجهل رحمة ! رحمة لم تكن من نصيبه للأسف!!
تتوقف بها السيارة التي استأجرها أمام مبنى السجن الذي تعلقت عيناه بلافتته للحظات قبل أن تستمر خطواته عبر الطرق المفترضة ويده تشتد حول تصريح الزيارة الذي حصل عليه ..
هاهو ذا أخيراً يقف أمام الرجل الذي تقدم خافضاً جبينه بخزي ..
عيناهما تتشابهان شكلاً إنما تتناقضان في هذا الإحساس الذي سكن حدقتيهما ..
غضب الأول إزاء دهشة الثاني ..
تشفي الأول إزاء خزي الثاني ..
قوة الأول إزاء وهن الثاني ..
وإن تشارك كليهما في مرارة من أدرك نهاية السباق خاسراً !
أجل ..رغم كل شيئ لم يستطع يحيى منع شعوره بالخسارة ..
من الحروب ما هي مَغْنمها كمَغْرمها ..كلاهما هزيمة !!
_يحيى؟! أين كنت؟! أخيراً عدت !
يهتف بها الرجل الذي بدت على ملامحه أمارات عزيز قوم ذلّ ..
لتقسو ملامح يحيى وهو يجيبه ببرود :
_لم أعد ..ولن أفعل ..جئت فقط كي أراك !
_هل علمتَ ما حدث ؟!
يهتف بها الرجل بخزي ليرد يحيى بابتسامة تهكم مريرة :
_بل أنا …أنا دبرت ما حدث !
تتسع عينا الرجل بصدمة وهو يتراجع خطوة للخلف هاتفاً باستنكار:
_ماذا ؟!
لكن يحيى يقول بنفس النبرة التي يصطرع على أرصفتها خصمان متساويان من غضب وألم :
_أنا دبرت هذا ..أنا ابتعدت كل هذه السنوات كي أستطيع التخطيط لما فعلته ..الآن أذيقك مرارة السجن الذي ستحياه لبضع سنوات من عمرك ..قصاصٌ ليس بعادل مقابل السجن الذي وضعتني أنت فيه طوال عمري ..ما سبق وما لحق!
تشتعل ملامح الرجل بغضب أهوج وهو يهتف به بانفعال:
_بماذا تهذي أيها الأحمق؟! هل فقدت عقلك ؟! عن أي شيء تتحدث ؟!
_عن الحقيقة ! ليست حقيقة أعمالك المشبوهة التي أجدتَ إخفاءها بخبرة مجرم طوال هذه السنوات ..إنما الحقيقة الأخرى التي تخصني ..أنا !
تزيغ عينا الرجل بينما تتلاحق أنفاسه وهو يرمقه بنظرة فأر مذعور سقط لتوه في مصيدة ..
لكن يحيى يرمقه بنظرة طويلة استباحتها “دمعته العجوز” رفيقة سنواته الأخيرة ..
هذه النظرة التي لم يحتملها الرجل وهو يلوح بسبابته المرتجفة في وجهه هاتفاً بحدة :
_اخرج ..اخرج من هنا ولا تعد ..لا أريد رؤيتك من جديد أبداً ..هل عدت بعد هذه السنوات لتلقي في وجهي هذه الافتراءات والألغاز ؟!
لكن يحيى يبتلع غصة حلقه ليتفحص ملامح الرجل كأنما يريد أن يطفئ بها بعضاً من هذه النيران التي تضطرم في حناياه ..
ثم يردف أخيراً بنبرة “مهزوم منتصر”:
_بل جئت لأراك للمرة الأخيرة قبل أن أختفي ثانية ..لكن ليس قبل أن أذيقك سمّ اعترافي ..أنا من يقف خلف سجنك هنا ! أنا ..
ثم يصمت لحظة ليلقي سهم حقيقته الأخير والذي جعل ملامح الرجل تشحب حد الموت:
_أنا يا ..”أبي”!
========
(ما رأيت وحشاً أشد فتكاً من الاشتياق عندما يغرس مخالبه في صدورنا ! ألا رفقاً بنا أيها الحنين ! يبقى الورد مجرد بتلات ناعمة مهما توارى خلف قسوة أشواكه !!)
تكتبها صباحاً عقب استيقاظها من النوم على لسان إحدى بطلاتها في مشهد تبقيه “في الدرج” -كما يسمونه- مع أشباهه ينتظر أن تكتمل له حكاية ..لكنها وحدها تعلم أنه الآن “كل”الحكاية !
اليوم الثالث لرحيلهم ..تغادر فراشها لتتحرك نحو النافذة القريبة ..تراقب نافذة مجد من مكانها رغم يقينها من ظلمة غيابها !!
هل جربت مذاق هذا “الغياب” الذي يجعلك تتساءل كيف كانت الحياة قبل “الحضور”؟!
هذا المذاق الذي يفتقد المذاق!! كأن حواسك كلها تنتظر العصا السحرية التي ستعيد لها الحياة !!
هذا بالضبط ما كانت تشعر به منذ رحيلهم والذي تفاقم كثيراً هذا الصباح وهي تستعيد كل كلمة دارت بينهما في آخر لقاء ..
تقارن دون وعي بين مشاعرها معه ومشاعرها مع حسام القاضي ..
يشتركان في روعة السحر الأول ..إنما يختلفان في أثره ..
عندما أحبت حسام كانت تبدو كطفلة تتعلق بجلباب هذا العشق كي لا تتوه وسط زحام الطريق ..
لكنها مع يحيى تشعر أنها عجوز تنظر في مرآة هذا الحب لتمنحها التعويذة السحرية التي تعيد لها شبابها ..
فكم بينهما؟!
مهلاً! هل تعترف إذن أنها أحبت يحيى حقاً؟!
_ لا لا لا ! انسي! ليس قبل أن يعترف هو أولاً ..
تهمس بها لنفسها بحزم وهي تغلق ستار نافذتها ثم تتوجه نحو مرآتها لتبتسم وهي تغمغم بشرود :
_قريباً ..سيفعل ..
لا تدري من أين أتتها هذه الثقة ؟!
حدس أم أمل؟!
لا تدري! لكن ما هي واثقة منه أنها مست قفلاً عنيداً ل”قضبان عينيه”!
تتنهد بحرارة عند الخاطر الأخير وهي تتوجه نحو المطبخ ..تعد قهوتها “الرخيصة” التي تحب مذاقها متجاهلةً تلك غالية الثمن كأنما وعت درسها الأخير في آخر لقاء لها معه ..
تشم رائحتها باستمتاع وهي تضغط بأطراف أناملها على الفنجان الذي تذكرها نقوشه بنقش فنجان قديم كان لسيدة ما ممن عملت لديهن أمها وقد أعلنت الأخيرة يومها إعجابها به ..اشترته كأنما هو هديتها لها ..ولو بعد موتها !!
لكن ضغطة أناملها على الفنجان تذكرها الآن كذلك بموقف آخر ..
تماس أناملها معه هو !!
ترتشف رشفة أخرى مستمتعة وهي تعود لغرفتها نحو حاسوبها ..
منذ سفره وقد انقطع عن التحدث لها ك”ضياء”..
إنما وجدته قد شارك بهذه القصيدة ل”كريم العراقي” الشاعر المعروف :
يالروحي التي دمرتني ..تسألين وما وجدتِ جوابا..
إن تحنّي إلي الديار فابكي ..قد غُصبنا علي الرحيل اغتصابا ..
لا حبيبتي معي ولا بلادي ..ضائعٌ كم طرقت باباً فبابا ..
واحتراقي أيستمر لأني خيط شمع لطول ما ضاء ذابا ..
فرجوعي هو الدمار لنفسي ..وهروبي أشد عذابا..
كان لي فيها ذات يوم حبيب ..مثلما تذهب الطفولة غابا ..
كاذب إن نسيت أو أتناسى ..كيف ينسى سرب الحمام القبابا ..
أيها المقهورون يا أصدقائي ..كم كتبنا للزمان خطابا ..
هل لنا من بعض الأماني نصيب ..أم سنقضي هذه الحياة اغترابا
تدمع عيناها بتأثر وهي تتخيل الكلمات بصوته ..بلهجته العراقية ..
الآن فقط تدرك أن كليهما منغمسٌ في دوامة غربته ..
وإن كانت هي اختارتها بإرادتها ..فيبدو أنه قد غُصب عليها !!
تنتفض مكانها فجأة وهي تسمع رنين جرس الباب فتهرع إليه بلهفة ..
هل عادت مجد ؟!
تطلق صيحة فرحة لم تستطع إخفاءها وهي ترى الصغيرة أمامها تفتح لها ذراعيها فتنحني لتضمها إليها بقوة ..
تكتم تأوهات انفعالها وأناملها تغوص بين خصلات شعر الصغيرة القصير تغرس رأسها في صدرها هي أكثر وأكثر ..
_افتقدتكِ جداً ! وصلنا لتوّنا ! طلبت من “بابا” أن أزوركِ قبل حتى أن أعود للبيت !
تهتف بها مجد بعمق عاطفتها العفوية فيما يعجز لسان طيف عن الحديث لأول وهلة قبل أن تقبل وجنتها لتهمس أمام عينيها :
_لا بأس ..اذهبي واستريحي ..وعودي متى تشائين .
ترفع الصغيرة بصرها نحو نزار “المبتسم دوماّ” ويحيى الذي بدا متجهماً مطرق الرأس ثم تعود ببصرها نحو طيف قائلة :
_هل يمكن أن نعود كلنا لنحتفل بعيد ميلادك كما فعلتِ معي؟!
_عيد ميلادي؟! من أخبركِ عن عيد ميلادي ؟!
تهتف بها طيف بغرابة وهي تسمح لنفسها أخيراً بالنظر ليحيى لكنه بقي محافظاٌ على إطراقة وجهه بمظهر بائس غريب عن طبيعته المعهودة ..
_”أنكل نزار”!
تهتف بها مجد بعفوية فيشير نزار لصدره ببعض الفخر قبل أن يقول بخبث:
_فرقع لوز!
تزم طيف شفتيها بحرج وهي ترمق يحيى بنظرة عاتبة ..إذن فقد أخبره !!
بينما تردف مجد بنفس العفوية :
_هو تابع حسابك على “الفيسبوك” وعلم منه تاريخ مولدك ..وأنا أصررت أن نعود اليوم صباحاّ كي نحتفل معاً به .
_لا أحتفل بهذا اليوم !
تقولها طيف بفظاظة وهي تشعر بمزيج من سعادة خفية وترقب خطر ..
لكن مجد تهتف بها برجاء :
_لأجل خاطري ! أنا افتقدتكِ وأريد الاحتفال!
_لا تضغطي عليها يا مجد ! يمكنكِ زيارتها غداّ أو في أي يوم !
يقولها يحيى أخيراً وقد انفكت عقدة لسانه ..لتشعر بقلبها ينقبض مع هذه اللهجة المنهكة التي احتضنت حروفه ..
ما الذي أطفأ هذه الجذوة المشتعلة دوماً خلف “قضبان عينيه”؟!!
ما سبب سفره لبغداد؟! ولماذا عاد منها بهذه الصورة ؟!
يزداد انعقاد حاجبيها وهي ترى نظرة الخيبة التي ظللت ملامح مجد التي تحركت بكرسيها مبتعدة ليلحقها نزار ويحيى ..
فوقفت مكانها مترددة للحظات قبل أن تهتف لها أخيراً:
_حسناً ! موافقة ! استريحي فقط من تعب السفر .
======
حول المائدة في صالة بيتها يغنون أغنية عيد الميلاد الشهيرة ..
مجد وخادمتها ونزار الأكثر حماسة ..فيما أطبق يحيى شفتيه مكتفياً بنظرته الغامضة نحوها ..
بينما دمعت عيناها هي بعاطفة لم تستطع التحكم فيها ..
عيناها معلقتان بالشموع كأنها ترى فيها سنوات العمر الفائتة ..
شمعة ..ترى فيها أمها بجلباب قديم وقد انحنى ظهرها تعباّ..
شمعة ..ترى فيها زيارتها لقصر الرفاعي وصراخ حماد المرعب المدوي في أذنيها يسبق طرده لهما ..
شمعة ..ترى فيها صورتها هي وقد ورثت خطيئة أمها بل وعملها أيضاً ..
شمعة ..ترى فيها صورة حسام وقد اختطف منها كتابها فوق سطح بيته لتلتمع في عينه أول نظرة حب ..
شمعة ..ترى فيها صورتها وقد أبعدتها أمه عن العمل في بيتها بعدما شعرت به من عاطفة بينهما ..
شمعة ..ترى فيها صورته وقد تزوج ابنة الرجل العظيم ..الفاتنة ذات الحسب والنسب ..وتركها هي خلفه هباء منثوراً ..
شمعة ..ترى فيها عودة عاصي بعرضه الهزيل بنقود أبيها دون اسمه ..
شمعة ..ترى فيها تلاعبها هي بكليهما وهي تفر من مصر بالنقود تاركةً لحسام شعلة انتقامها ..
شمعة ..ثم شمعة ..ثم شمعة ..ترى فيها تباعاً صور عمرها المسكوب هنا في هذا البلد ..في غربة تدعي أنها اختارتها ..وكم من مغصوب زعم أن كان له اختيار!!
_هيا ..أطفئي الشموع!
هتاف مجد المرح ينتزعها من شرودها فتهز رأسها بما حمل معنى الرفض ..
ليتها حقاً تستطيع إطفاء كل هذه الشموع!!
_هديتك ..كل عام وأنتِ بخير!
تقولها مجد وهي تقدم لها هذه الكريستالة المربعة التي بدت لها شديدة اللمعان والتي تحتجز داخلها رسماً لطائر “فلامنجو” أبيض تلون ريشه بالبرتقالي وقد وقف رافعاً رأسه ..
_أحسكِ -مثلي- كلانا نشبه “الفلامنجو” ! بابا يقول أنه يجيد الوقوف على قدم واحدة ..وأنا قد أستطيع يوماّ الوقوف دون قدمين !
تقولها مجد ببراءتها البائسة فتزداد كثافة الدمع العصي في عيني طيف التي عادت تتأمل المربع الكريستالي بشجن ..
“فلامنجو” يقف على قدم واحدة ..وقد انثنت الأخرى ..انثنت وجعاّ و قهراً!
_وهذه هدية متواضعة لا تليق بمقامك الرفيع! كل عام وأنتِ بخير!
يقولها نزار بنبرته العابثة وهو يقدم لها علبة مغلفة تناولتها هي بعدم اكتراث لتضعها جانباً فتنحنح بحرج هاتفاّ:
_أستاذة طيف! لماذا أشعر أنكِ لا تطيقينني؟!
_تشعر؟! وماذا ينقصك كي تتأكد ؟!
تهتف بها بفظاظتها المعهودة دون أن تتكلف المجاملة ليرتفع حاجبا نزار بدهشة للحظة قبل أن يتمتم بخفوت :
_”جكمة”! والله ما كذبت!!
تقدم لها الخادمة هديتها كذلك ..باقة زهر رقيقة فتقبلها دون شكر وقد فقد لسانها كلماته مع هذه الفوضى التي تعيث فساداً بجوانبها ..
ترى الخادمة تناولهم أطباقهم من الحلوى وقد انغمست مجد في مشاهدة فيديو صاخب مع نزار ..بينما انتحى يحيى جانباً وقد بدا هو الآخر منشغلاً بمكالمة هاتفية ..
هنا شعرت بعجزها عن التحكم في المزيد من انفعالاتها فتحركت مبتعدة نحو الشرفة القريبة لتعطي ظهرها لكل هذا !!
ترقب السماء التي خلت من نجومها عدا واحداً كان يومض من بعيد ببطء متثاقل ..
فيشبه هذه الخفقة “الموجعة” في صدرها !!
الدمع العصي يوشك أن يخون فيسيل دون رادع !!
كأنها هاهنا فقط تدرك أنها كانت في سباق طويل ..طويل جداّ..يوشك أن ينتهي فلا يعنيها فوز أو خسارة ..
إنما ..هل كان المضمار حقاً لها ؟!
هل تستحق الجائزة كل هذا التعب؟!!
ولا تدري لماذا الآن تذكر عناق عاصي الرفاعي؟!!!
ربما ..ربما لأنه كان إحدى الحقائق القليلة في عالم مليئ بالضلالات !!
آآآه !
تطلقها صاخبة ساكتة!!
ومن مثلها أقدر على فعلها ؟!!!
هو ..خلفها !!
تشعر به قبل أن تشم عطره !!
قبل أن يصلها صوته الذي تستبيحه هذه المرارة المنهَكة :
_لم تحتفلي بيوم ميلادك من قبل ؟!
لا تلتفت نحوه ..بل تبقى عيناها معلقتين بالنجم البعيد ..
وفي خلفية الصورة يقف طائر فلامنجو أبيض على قدم واحدة !
ربما لهذا يأتي الجواب سريعاً كأنما يلفظه صدرها بعد طول تحمل ..
_مرة واحدة ..مع ..حبيب قديم !!
حماقة ؟!
شجاعة ؟!
أم هو فقط السد الذي انزاح فجأة لينهمر من خلفه فيض البوح ؟!!!
تلتفت نحوه مع جوابها لتلمح ما لم ترِد تصديقه !!
ضيقٌ يلتحف بغيرة ويفترش العينين ذاتي القضبان !!
_هو سبب كراهيتك للرجال؟!
نبرته لا تزال منهكة مختنقة بينما تكتسي نبرتها بقسوة حقيقية وهي تعود للشرود في النجم البعيد :
_ربما! لكن لا تضعني في إطار الضحية المظلومة ..أنت لا تدري ماذا فعلت به !
يزداد انعقاد حاجبيه مع هذا الفخر الظاهر الذي ظلل قسوتها وهي تحكي له عن ..حسام !!
القصة كاملة !!
الدهشة تصيب سهمها في قلبه وهو يراها تفضي بكل هذا دون تحفظ ..
لكنه كان يعلم أنها الآن ليست في حالتها الطبيعية ..
هذه الليلة مست شيئاً بداخلها ..
ألقت كرة الثلج الصغيرة من فوق الجبل لتكبر شيئاً فشيئاّ حتى صارت تدمر كل ما في طريقها !!
تصمت أخيراً ولاتزال تراقب النجم البعيد ..
ربما إلى الآن لا تدرك أنها تكلمت ..تكلمت بصوت عالٍ!
بينما كان هو خلفها يشعر أنه بحاجة أن يقترب أكثر ..
ورجلٌ مثله لا يبرح حتى يبلغ!!
يقترب حتى يكاد يلاصقها ..
خصلات شعرها الأسود الطويلة تتطاير مع الهواء فيشعر بها تصفع صدره ..قبل أن يستقر بعضها فوق كتفيه طالباً حق اللجوء!!
ربما لهذا يكره الشعر الطويل ..يبدو له كحبائل تجيد نصب الفخاخ ..
وهو لن يرضى لنفسه يوماً بالمزيد من الخديعة !!
إنما هذه المرأة تبدو مختلفة ..
امرأة لا تتخفى خلف قناع تبرج أو غنج ..
لا تخجل من الاعتراف بماضٍ أو خطأ ..
لا تستحي من البوح بحقيقة فتجملها ..
إنما تصعد الدرج بخطوات ثابتة رامية كل شيء خلفها كأنها لا تبصر سوى القمة !!
قسوة انتقامها الذي عرفه عن ماضيها تبدو له مخيفة ..
لكن ..ماذا عنه هو ؟!
هل كان انتقامه أقل قسوة ؟!!
الآن فقط يدرك كم كان صادقاً شعوره وهو يصفها بأنها “توأم روحه” ..
توأم الجرح ..توأم الماضي ..توأم القسوة !!
تلتفت نحوه فجأة من شرودها لتتسع عيناها بدهشة للحظة وكأنما أفاقت لتوها من حلم غريب ..
هل باحت له حقاً بكل هذا؟!
وبكل هذه الشفافية ؟!!
أي لعنة ألقاها عليها حتى تفعلها ؟!!
لكن لا بأس!!
فليبقَ رأسها مرفوعاً!!
هي لا تخجل من شيء من ماضيها ..أي شيء!!
الحمية الفائرة التي تسري الآن في عروقها تنسيها اقترابه الخطر ..
كأنه في هذه اللحظة في مكانه الطبيعي الذي وضعته روحها داخلها منذ حين ..
بهذا القرب ..وبهذه الخطورة ..فما العجب؟!!
“القضبان” في عينيه تتهاوى ببطء ..
و”السديم” في عينيها يزداد لمعاناً ..وفوضوية !!
الصمت الصاخب يشتعل في هذه السنتيمترات القليلة التي تفصل بينهما ..
الوجهان ما عادا وجهين …بل انعكاسي مرآة متطابقيْن!
أنامله تمتد ليستقر كل كف فوق جيب من جيبي سترته ..
الأيسر يحوي هذا الخاتم الماسي الفخم الذي يدرك أنه سيرضي شغفها بهذه الأشياء عالية القيمة ..
والأيمن الذي يحوي هذه الهدية الأخرى التي لا يدري بأي سخفٍ صنعها ..
الهدية الرخيصة جداّ..والغالية جداً جداً ..
أرخص -ربما- من أن تنال رضاها ..
وأغلى -ربما- من أن تستحقها ..
فماذا عساه يختار؟!
_هديتك!
يقولها أخيراً وقد حسم اختياره باقتضاب يناقض كل هذه الثرثرة الصامتة في عينين تهاوت قضبانهما ..
لتتسع عيناها المحتلتين بهذا “الدمع العصي” الذي شوش رؤيتها للحظات ..
فبين أنامله كانت سلسلة تعلقت في دلايتها صدفة ..صدفة صغيرة تشبه هذه التي ترتديها مجد دوماً وقد أخبرتها يوماً أنه هو من صنعها لها ..
صدفة مجد لم تكن ملونة كأنه تركها لجمال فطرتها ..
إنما هذه في يديه حملت اللون البرتقالي ..
تراه خمن أنه لونها المفضل ؟!
“الدمع العصي” ينذر بالمزيد من الخيانة فتسبل جفنيها وهي تنتبه أخيراً لتقاربهما هذا فتبتعد للخلف ..
_تشبه سلسلة مجد؟!
تهمس بها بصوت متحشرج وقلبها يخفق بجنون ..
ليصلها صوته بكبريائه الرصين إنما مختنقاً بهذه النبرة المنهكة :
_أن أهديكِ إياها يعني أنني أمنحكِ ما لم أمنحه لامرأة منذ عهد بعيد ..
ترفع إليه عينيها بترقب وهي تشعر بهذه الرعدة في جسدها ليردف باقتضاب:
_احترامي!
تغمض عينيها للحظة برهبة وهي تضغط شفتيها قبل أن تمتد أناملها لتسحب منه السلسلة ببعض العنف الذي تفرضه طبيعتها !
تقبض أناملها على السلسلة بقوة دون أن تنطق بكلمة شكر لتشيح بوجهها بعدها دون رد ..
فيتراجع ليعطيها ظهره قائلاً :
_سنرحل الآن ..مجد لم تسترح تماماً من تعب السفر!
تراقب ظهره المغادر للحظات بفورة عاطفتها قبل أن تهتف فجأة :
_انتظر!
يلتفت نحوها بترقب لتقترب منه هاتفة بفظاظتها المعهودة :
_كنت أريد شيئاً !
ينعقد حاجباه مع هذا التردد الذي أخرسها للحظة كأنها تخشى الرفض ..
قبل أن تقول بما بدا كرجاء لولا خشونة لهجتها الفطرية :
_دع مجد تبيت معي هذه الليلة ..افتقدتها !
صمتٌ قصير يسود بينهما ينذرها بالرفض ..
لكن الجواب الذي يأتيها يستحق الانتظار ..
والكلمة الآسرة تخصها هي هذه المرة :
_تدللي!
========

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى