روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والستون 160 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والستون 160 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والستون

رواية غوثهم البارت المائة والستون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والستون

“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الخامس وسبعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
من أجل من جاء النبيُ محمدٌ..
بالرأفةِ المُسداةِ بالغفرانِ ..
من أجلنا فاضت رسالتَهُ هُدى..
تدعو إلى التوحيدِ و إلاحسان..
للعالمين اللهُ أرسلَ أحمدًا..
ليُطهرَ الإنسانَ بالإيمانِ..
يا غافلاً.. يا غافلاً
هلا انتَهيتَ عن الهوى..
و رجعت في ندمٍ.. و رجعت في ندمٍ إلى الديانِ..
فاللهُ يقبلُ من يعودُ بتوبةِ..
ما أرحمَ الرحمنَ بالإنسانِ
_”نصر الدين طوبار”
____________________________________
لا القصة انتهت ولا الأمل فرغ…
فلازالت الصفحات مفتوحة كي تُكتَب بها النهاية التي تليق بنا،
لم تنتهِ قصصنا عند هذا الحد، فمن جديد سوف نرى ما لم يُسبق لنا أن نراه ونعهده، فنحن لم نبقَ صرعىٰ بديارنا، وإنما نحن الأحرار في أرضنا، نحن الطيور الحُرة التي وإن رفض العالم بأكمله حُريتها لن تخضع لهم هي، نحن باقون وللحلم بقية..
وحُلمي معكِ باقٍ على عهده، فلا أملي فَل ولا صبري كَل،
وإنما أنا في العالم بدونك ينقصني نفسي وكل شيء، وكأني الكل وانتظر الكُل، فلم تنتهِ القصة بعد، وإنما غدًا سوف تُكتب عنا الأقاويل وتُخلد ذكرانا للعشاق بالمراسيل، فاليوم والأمس وغدًا ستشرق شمسنا، ويُطيل القمر تأخره لأجل نهارنا..
اليوم أكتب لكِ في نصري كما اعتدت أن أكتب لكِ في هزائمي، واليوم أراكِ بعين طفلٍ تاه بطريقٍ صعبٍ وتخبط بين السائرين ثم التقى بأمهِ صُدفةً فأراح رأسه المثقل فوق كتفها وكأن الكتف هو موطن الرأس المتعب، اليوم أكتب لكِ بقلبي قبل يدي..
واليوم أروي لكِ حديث قلبي؛ ليس بلساني وإنما بعيني..
<“كأن لقاء الأحباب دواء الروح المعطوبة”>
بعض الأصدقاء كانوا دواءً وبعضهم كان شفاءً..
والبعض منهم كان درسًا قاسيًا حُفِر أثره في القلب وترك علامات يصعب إزالتها، واليوم وأنا وحدي بغير رفقة وجدت الصديق بذاتي، وجدته في نفسي القديمة، فاليوم لا أبكي أسفًا على راحلٍ وإنما سوف أبكي على نفسي التي أهملت رفقتها، لن أبقى حائرًا بيني وبين الآخرين وإنما سأنصف نفسي أنا بذاتي..
وجده كنزًا كما العاطش الذي يسير في الصحراء بحثًا عن بئر الماء، جلسا سويًا في الاستراحة على الطريق يتسامران سويًا برفقة كوبي من القهوة وقد بادر وسأل “يـوسف” صديقه بعجبٍ في أمر مجيئه:
_بس غريبة يعني إنك جيت عادي وسيبت بيتك وأهلك، أنا عارفك كويس أوي بتكره الغربة، فما بالك بقى لما بقيت أب؟ طفشوك يا عسول؟.
أنهى حديثه بسخريةٍ جعلت الآخر يحتسي قهوته ثم قال بهدوءٍ رافقته بسمة رصينة هادئة تمامًا كما لو كان يستمتع بأمر الجواب على صديقه:
_ماهو علشان بقيت أب، قالوا عاوزين مهندس ينزل الموقع ويشوف بنفسه وليه مكافأة غير المرتب، اتكلمت مع مراتي وسألتها قالتلي بنتنا أولى بكل جنيه، سافر وربنا يكرمك وأنا هنا مستنياك ومش لوحدي، فيه عيلتين معايا، قولت خلاص أهو رزق البت وهي أولى بكل حاجة، واتشجعت لما عرفت إنك هتكون جنبي، قولت أهي فرصة نرجع بيها اللي كان.
ابتسم له “يـوسف” ثم قال بنبرةٍ هادئة رافقتها بسمة هادئة:
_اللي كان مبقاش هو خلاص يا “ياسين” كل حاجة جوايا اتغيرت، مش عارف للأحسن ولا الأوحش بس وسط كل دا أنا بقيت مبسوط، يمكن اقتنعت إن الحياة طلع فيها حاجات تتعاش، زي مثلًا إني طلع عندي أخوات، وطلع ليا عيلة مستنياني وزي مثلًا إني لقيت حضن أمي، وفوق كل دا لقيت اللي شبهي ونصفاني في الدنيا دي، أنتَ مقابل واحد جديد خالص عليك.
ربت “ياسين” فوق ظهره ثم قال بنبرةٍ ضاحكة كأنما قرر أن يمازحه أو رُبما يشاكسه كي يستعيد معه جزءًا مما مر عليهما:
_قولتلك إنك مرزق مصدقتنيش، ربنا كرمك من وسع وكفاية أوي إنك صاحب “أيـوب” أنتَ متعرفش “أيـوب” بالنسبة لينا إيـه، وأختك ربنا كرمها بالراجل اللي علمنا كلنا نكون رجالة بجد وناخد قدوتنا من الإسلام، دا أنتَ ربنا عوضك عن تعب كل السنين اللي فاتت دي بشوية ناس يشفوا أي قلب تعبان.
زادت بسمة “يـوسف” توسعًا وقبل أن يرد وجد هاتفه يصدح برقم “أيـوب” فتحولت بسمته لضحكةٍ بصوتٍ وقال ساخرًا:
_ابن الحلال على سيرته طيفه يبان.
أنهى الحديث ثم جاوب على المكالمة فوجد الرفيق يقول بنبرةٍ هادئة أعطته صورة أولية عن هيئته وإن لم يكن حاضرًا معه بذات المكان:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لسه راجع من المسجد وقولت أتطمن عليك، أختك في الأمان معايا هنا متقلقش عليها، خلي بالك بس من نفسك وركز في شغلك، وجدد نواياك كلها علشان تاخد أجر عليها، هتلاقي عندك طاجن أم علي عمايل أيديا تحت علبة ورق العنب وألحق كله بألف هنا وشفا.
زادت سعادته أكثر، أصبحت الطمأنينة تسكنه كما لو كان مدينة تتعرض للقصف ومن ثم أتتها هُدنة سلام أوقفت الحرب لأيامٍ، وقد طاف بعينيه في وجه الجالس أمامه ثم عاد منصتًا لمن يحدثه وهو يقول بصوتٍ امتلأ بالراحةِ:
_أكيد “غالية” زودت شوية في الدُعا علشان كدا أنا حاسس بالراحة دي دلوقتي، عمومًا ربنا يبارك فيك وتسلم أيدك يا غالي، هاكل منه وآكل الحبايب كمان، تاخد تسلم طيب؟.
تعجب “أيـوب” من الحديث الأخير ثم سأله بنبرةٍ أظهرت حياته فأتاه الجواب من فم المقصود بالكلامِ حينما أخذ الهاتف من يد رفيقه وحياه بقوله المُرحب:
_إيه يا شيخنا؟ خلاص مبقاش ليك غير “يـوسف”؟.
وبفعلٍ مُسبقٍ قام بفتح السماعة كي يصل الصوت لكلا الطرفين وبعد رد التحيات بينهما والجواب والسؤال أتى رد “أيـوب” ضاحكًا وصاغرًا له:
_البركة فيك يا هندسة، بس أنتَ عارف إني بحبه حب غريب وبقيت بعتبره أخويا الصغير، رغم إن هو الكبير بس برضه بعتبره الصغير، دا هدية ليا دا وراضي بيها من ربنا.
دق قلب “يـوسف” بعنفٍ ورغمًا عنه ساورته الجملة بالحنين لماضٍ فاته من أيام صغره برفقة والده الحبيب، حينها أغرورقت عيناه بعبراتٍ كادت أن تعلن عن نفسها فواراها هو خلف الأهداب وتكرر ماضٍ في ذهنه ساحبًا حديث والده له في حوارٍ دار بينهما:
_بتحبني يا بابا؟.
_لو ماحبتكش أنتَ هحب مين يعني؟ دا أنتَ هدية ربنا ليا يا “يـوسف” وكل حاجة ليا وعزوتي في الدنيا دي، كلمة بحبك قليلة عليك أوي، دا أنا بعتبرك كبيري رغم إنك الصغير.
كان هذا هو رد والده عليه وقتذاك، حينها كان صغيرًا يحتضن والده فوق فراشه قبل النوم كعادته وما إن خطر بباله السؤال أخرجه من جبعته، فكان الرد وقتها كما الغيث لروحٍ جرفها الظمأ وجفف سطحها، والآن يختبر شعورًا فريدًا من نوعه كانت أساسه ذكرى عالقة في القلب وساكنة به، خرج من شروده على صوت رفيقه “ياسين” فتنهد بقوةٍ ثم جاوبه بنبرةٍ هادئة تزامنًا مع فتحه لعينيه:
_سرحت شوية معلش، بس تصدق أول مرة آخد بالي إني محظوظ كفاية علشان أنتَ وهو تكونوا في حياتي، أنا أول مرة عرفت “أيـوب” فيها ماكنتش طايقه وقولت أنا وهو مستحيل نعمر مع بعض، بس أنا حاليًا مش عاوز غير إني أفضل متحاوط بيه معايا.
ربت “ياسين” فوق كتفه ثم قال بنبرةٍ هادئة رافقتها البسمة البشوشة التي زينت الوجه وتقاسيمه الهادئة:
_ربنا يكرمكم ويبارك فيكم لبعض، صدقني والله فيه ناس ربنا بيبعتهم في حياة ناس تانية يصلحوا كل حاجة فيها من غير ما يحسوا هما نفسهم بيعملوا إيه ومن ضمن الناس دي بقى “أيـوب” اللي ياما صلح حاجات كتير خربانة ملهوش دخل فيها، ربنا يجعله في ميزان حسناته..
أومأ له “يـوسف” بصمتٍ وكأن الكلام في حق رفيقه لن يوفيه حقه، صدق وأمن على الكلام وقلبه يرى بعينيه النتائج كأنه خير دليلٍ على صلاح قلبه وأحواله من بعد فسادٍ وقرحٍ عاثوه الناس في نفسه وأولهم من هم أقرب له من نفسه..
طال الصمت وسكت الكلام..
وليس هناك في لحظات الصمت أبلغ من السلام،
فهذا هو رفيق القلب وناصفه،
هذا هو شريك الطريق وفي العمر مُنصفه،
هذا هو الذي يعرفه القلب كأنه جدارٌ يتكيء عليه؛ فيسانده ويخبر العالم أنه هُنا نصفه وناصفه ومُنصفه..
____________________________________
<“كأن لوحة الحياة الباهتة تزدهر ألوانًا بوجودك بها”>
ولو أن كل اللوحات فقدت لونها وزهوها،
لن نجد مثيلًا لكِ لونًا وزهوًا تزدهر به اللوحات، كأنك شمس الشتاء من بعد أمطارٍ وغمامٍ مُظلمة جعلت الدرب مُظلمًا في أعيننا، أنتِ بالتحديد ما لم يتواجد له تحديدٌ كي يوصفه، تمامًا كما الاقتباس الخاطف للأعين من بين صفحات كتابٍ مليءٍ بالعبارات الكثيرة لكن من بين جميع الكلمات، كنتِ أنتِ الاقتباس الوحيد الذي لامس القلب وشرح بكل تفسيرٍ ما يحتاجه القلب؛
أو رُبما أنتِ تحديدًا ما يحتاجه القلب..
أتى الصبح عليه بعد ليلةٍ طويلة من المحادثات والكلمات الكثيرة مع بعضهما كأنهما يقترحان على بعضهما عدة موضوعات كي لا يترك أيًا منهما الآخر، هي كانت تتلمس من تواجده معها الأمان وهو يجد بها الأنس من بعد الغربة، علاقة جديدة طرأت على حياة كليهما وكأنها الحياة على شكلٍ جديدٍ، ولتوهِ يفعل أكثر الأشياء غرابةً، رحل “مُـنذر” من بيته صباحًا يقود دراجته وبدلًا من التوجه بها للمشفى قام بتبديل وجهته لمكانٍ غير ذلك..
وقف أسفل بنايتها بدراجته ومعه القبعة الخاصة بالقيادة “خوذة” سوداء مماثلة لخاصته ثم أخرج هاتفه يطالع الساعة به فابتسم بزاوية فمه وارتكن بجسده فوق الدراجة حتى مرت دقائق قليلة وظهرت هي من خلف بوابة بيتها وما إن رأته نشجت بحماسٍ واقترب منه بخطى واسعة وسألته ببسمةٍ مُضيئة:
_أنتَ بتعمل إيه هنا على الصبح كدا؟ مقولتش ليه إنك جاي؟.
توسعت بسمته بشكلٍ بدا تدريجيًا ثم اقترب منها بُغتةً ولثم وجنتها بشكلٍ فاجأها حتى توسعت عيناها وشهقت تلك المرة بدهشةٍ بينما هو عاد للخلف ثم قال بنبرةٍ لعوب تخرج منه لمرته الأولى:
_أظن دي من حقي دلوقتي.
تضرج وجهها بحمرة الخجل وشعرت كأن الدماء تغلي برأسها بسبب ارتفاع درجة حرارتها، فكانت مسكينة أمام سطوته؛ وهو الآن يتصنع البراءة ببسمةٍ عذبة كما لو كان الذئب البريء من دمِ بن “يعقوب” وهي المجرمة في حضرته، تاهت أمامه فيه هو بذاته فوجدت يعتدل في وقفته ثم وضع فوق رأسه القبعة وقبل أن يغلقها قال بصوتٍ رخيمٍ:
_علشان تعرفي إني بخاف عليكِ من نسمة الهوا.
وحديثه الآن لم يزيدها إلا تيهًا فوق تيهها، فهي الآن تقسم أن نفسها لم تعد بها وإنما يبدو أنها غادرتها كي تصبح معه هو فقط، كانت كما الصغيرة أمامه وهو يجلس فوق الدراجة ثم يُجلسها خلفه آمرًا إياها بلطفٍ جعلها تنصت له وتفعل كل ما يطلبه منها حتى بدأ في القيادة وهي خلفه لا تفهم ما يصير حولها، بينما هو فالتفت لها برأسه بعدما هدأ السرعة وخطبها بلطفٍ وحنوٍ:
_أمسكي فيا جامد وركزي في الطريق علشان تحسي بمتعته.
أنهى حديثه والتفت وما تلى حديثه منها هي كانت قبضة قوية من كلا كفيها فوق جسده ثم اتكأت برأسها فوق ظهره وفي تلك اللحظة قام هو برفع السرعة لأقصاها وحينها صرخت هي بسعادةٍ وضحكت بصوتٍ عالٍ وكأنها فتاة صغيرة تحررت من قبضتي أهلها كي تخرج بالشوارع وتسهر عشية العيد وسط الصغار بالثياب الجديدة..
أما عنه هو فهو لا يكترث بالقوانين ولا يهتم بأية قواعد، وإنما هو يصنع القوانين الخاصة به التي تناسبه هو بذاته، ولأجلها هي وحدها كانت من بين كل اللوائح التي لا تنتابه حتى شائبة إكتراثٍ بها دستورًا لا يستطع حتى الاعتراض على كلمةٍ واحدة به، ولطالما طالت الخصومة بينه وبين القوانين فهو لأجلها هي قرر أن يخضع لقوانين العشق ويحني رأسه أمامها لعلها يكون الرابح بها…
أوقف الدراجة أمام المشفى أخيرًا فابتعدت عنه هي بتروٍ وظلت البسمة تتراقص فوق شفتيها بينما هو ابتعد عن الدراجة ثم التفت لها ووقف أمامها يسألها بنبرةٍ ضاحكة:
_تحبي تيجي كل يوم كدا؟.
سأل بتخمينٍ أقرب للتقرير فاندفعت هي تسأله بلهفةٍ:
_هو ينفع بجد؟.
توسعت بسمته وخلع عنها هي قبعة القيادة ثم تنهد ما إن لمح عينيها اللامعتين بضوء الشمس الذي تعامد على هاتين المُقلتين فكانا كما اللؤلؤتين، ثم قال بنبرةٍ هادئة يُجاريها بحديثها:
_ولو مينفعش هخليه ينفع علشانك أنتِ..
ومن جديد يباغتها بالقول الآسر فتقع هي صريعة في هوى عشقه الذي حتى ولو بكامل قواها العقلية لن تخرج عن حدود سطوته عليها، كان صباحًا جديدًا عليها مميزًا بكل ما فيه بدايةً من رؤيته أسفل بنايتها صباحًا وحتى تلك اللحظة وهو يقف أمامها ينتظر ردها، فقالت هي بخجلٍ فطري كأنها بدأت تدرك حجم مشاعرها:
_لو هينفع يبقى موافقة جدًا طالما معاك أنتَ.
والحُجة القوية لشخصٍ فكره عظيم أن من أتاك بحسنةٍ ردها له بعشر أمثالها، وهي دون أن تعلم تفعل هذا الشيء، ترد له معروفه بعشر أمثاله، تكافئه دون درايةٍ بهذا الشيء وهو الذي لم يعتد على هذا الشيء، لحظة صمتٍ طالت بينهما يستعدا بها للدخول نحو المشفى فتذكر هي شيئًا هامًا فسألته باندفاعٍ:
_صح، أنتَ عملت إيه في موضوع الملجأ؟.
وكأنها تتفنن في تبديل حاله كي تذكره بكل سوءٍ فأطلق هو تنهيدة قوية ثم قال بنبرةٍ جامدة كأنها خلت من الروح:
_لسه بعمل، ابن عمك حويط بزيادة ومش راضي يرد علينا، وأكيد بيدور ورا الموضوع واللي فيه، بس أنا مش هسكتله، الجواب باين من عنوانه أهو، دي قضية إتجار بالبشر بصورة تانية أصعب وأبشع، مش عاوزك تقلقي أنتِ من حاجة، كله هيكون بخير.
أنهى حديثه وهو يمد ذراعه كي يشير لها بالدخول وما إن أشار واستعدت للرحيل وأولاها هو ظهره فعلت كما يفعل هو دومًا، حيث أوقفته مناديةً عليه باسمه:
_”مُـنذر”
التفت لها برأسه يسألها عن سبب ذكرها له، فجاوبته ببسمةٍ حنونة كما كان قولها لينًا ودافئًا:
_أنا مش قلقانة على حد غيرك أنتَ.
وفقط…هكذا اختتمت الحوار وولته الدبر وولجت مكان عملها فيما ظل هو يتابع أثر رحيلها متبسمًا ثم تنهد بقوةٍ وحديث قلبه يتحدث مفصحًا عن لسان حاله قائلًا:
_كنت جالسًا في نفسي أبحث
عن حياتي، ولم أعِ يومًا أنكِ الحياة بذاتها
وكنت فقط أنتظر مجيئك لي أنا وذاتي.
____________________________________
<“لكني أردت أن أُعفيك مني لما وجدتك مني تُعاني”>
أردت أن أُخبرك يومًا عن ثقلٍ بروحي..
فوجدتني ثقيلًا عليك أنتَ بذاتك، فكيف أخبر العالم أنني أمسيت ضائعًا بيني وبين ذاتي؟ وكيف أفصح عن عالمٍ من الكآبة يسكن بداخلي وفقدت بسببه نفسي وحياتي؟ كيف عليَّ أن أسير بين الناس سجينًا ولم أجد من الرؤية شيئًا إلا مُعاناتي..
توالت عليَّ الخسائر وأكثرهم قسوةً كانت خسارة ذاتي..
كان يرتدي ثيابه على مهلٍ كي يذهب لعمله، وفي تلك اللحظة ولجت “آيـات” له وفي يدها الطعام الخاص به وقالت بنبرةٍ هادئة تحاول خلق الأحاديث معه:
_برضه لسه زعلان؟ والله كل دا هيكون بخير ويعدي كمان، عارفة إنك زعلان علشان أخوك بس لازم تساعده يكون كويس، هو الصغير وأنتَ الكبير ولازم تمسك بأيده، ومش عاوزاك تزعل نفسك، بابا و “أيـهم” دافعوا عنك وعنه كمان، بابا طول عمره بيعتبرك ابنه التالت.
أومأ “تَـيام” موافقًا لها ثم قال بحيرةٍ بعض الشيء يخالطها الحزن أو ربما قلة الحيلة:
_أنا مش فاهم هو ليه أبوها يشتكي لأبوكِ؟ طب ماشي حقه إنه يخاف على بنته بس مش يروح يشتكي لحمايا مني ومن أخويا، هو تقريبًا لسه فاكرني الواد المكسور اللي ملهوش حد ومضطر أبلع وأسكت، بس دا مش هيحصل، ولو فاكر إنه كدا بييجي عليا وعلى سكتي أنا وأخويا يبقى غلطان علشان أنا مش هسكت لحد ييجي على سكة أخويا حتى لو كان مين.
تحولت طريقته من قلة الحيلة لأخرىٰ أقوى كأنه تذكر أصبح من هو مما كان عليه سابقًا، ولأنها أكثر الناس درايةً به سكتت لوهلةٍ ثم وضعت كفها فوق كفه وقالت بلهفةٍ:
_محدش طلب منك تسكت والناس بتغلط فيك ولا تقلل منك، بكل بساطة تقدر أنتَ تقدر نفسك وتبعدها عن القلق دا كله بإنك تخرج من دايرة المعارك دي وتسيب كل حاجة تمشي بإرادة ربنا، النصيب غلاب واللي نصيب في شيء بياخده، كل ما عليك تعمله بس إنك تمسك بأيد أخوك وتكون في ضهره، يمكن كل دا حصل علشان يكون ليه فرصة يقرب من ربنا أكتر، وأنتَ وأنا عارفين كويس إن الجواز نصيب وقسمة من ربنا، على آخر لحظة كل حاجة بتتغير وبتمشي بطريقة تانية، وتاني هقولك النتيجة إني هنا في بيتك ومراتك، متزعلش نفسك أنتَ وروق بقى، كأبتني معاك.
وكأن حديثها كان هو كل ما يحتاجه كي يستهدى للسير في طرقاته خاصةً بعد أن قدم “بهجت” شكوى ضده هو وشقيقه عند حماه وصعد الموقف لأقصاه، وأمام كل ذلك ليس عليه إلا أن بكون حكيمًا، لذا تنهد وزفر بقوةٍ ثم أقترب منها يلثم جبينها وأهداها بسمة هادئة ثم قال بنبرةٍ دافئة:
_مفيش حد يسكن معاكِ وزعله يدوم، كفاية ضحكتك لوحدها بس، حقك على راسي بس أدعيلي ألحق أتصرف زي أي أخ كبير بيقدر يتصرف ويجيب حق أخوه.
أنهى حديثه ثم ضمها له ومسح فوق كتفها وبعد ذلك غادر شقته كي يذهب لعمله وفي داخله يستعد للقاءٍ يعلم أن لابد منه في تلك الأيام، ولو أن الأمر بيده لكان أعطى المساحة لوالده كي يتدخل في هذا الموقف، لكن لولا إصرار شقيقه في هذه النقطة ومراعاته للوعد من المؤكد أن الوضع كان اختلف تمامًا..
في الأسفل وبداخل غرفته كان يتحرك بآلية شديدة كي يرتدي ثيابه ويخرج من غرفته، وقف أمام المرآة يبحث عن نفسه فرأى غريبًا عنه، نعم هي ذاتها الملامح المنحوتة لكن يزيد على عمرها عُمرٌ بأكمله، وهي نفسها الأعين الرمادية لكن بدلًا من توهجها ولمعتها أصبحت الآن منطفأة كما لون الرماد المحترق الذي اختلط برمال الأسفلت فأسود لونه…
الآن يقف أمام المرآة يرى بها انعاكسًا لشخصٍ ربما كان يعرفه، وعلى الرغم أن المرآةَ لا تكذب إلا أنه يكذب تلك الملامح التي يراها الآن ويقسم أنه لا يعرفها..
فهل يعقل أن يرى المرء نفسه في المرآةِ غريبًا؟.
طُرق باب غرفته وعقب ذلك دخول والده الذي شمله بعينيه أولًا ثم أقترب منه برأسٍ مرفوعٍ ووقف أمامه يقول بصوتٍ هاديءٍ حاول إبعاد الحزن عنه:
_من ساعة ما جيتلي الجامع وأنتَ باعد نفسك عني، قولت أخليك براحتك بس وحشتني، إيه هتحط بينا مسافات تاني؟.
طالع وجه والده بشوقٍ ثم ترك ساعة معصمه ووقف في مواجهته وهو يقول بصوتٍ مضطربٍ تمامًا:
_يمكن تايه أو ضايع، يوم ما جيتلك المسجد كنت راجع من كباريه بس مدخلتوش، مقدرتش أعمل كدا تاني وأنا كل يوم بروح أصلي وأقف في بيت ربنا، بس المرة دي أنا كنت تايه وضايع بجد، ولما جيتلك كنن جايلك تلحقني من نفسي، علشان كدا أترميت في حضنك من سكات بس، أنا مش لاقي اللي أنا عارفه فيا وخايف ألاقيه أكرهه وأكره حياتي في وجوده…
علقت الغصة في حلقه فابتلع ريقه وقال بصوتٍ مختنقٍ:
_أنا مش حاببني كدا ومش راضي بيا وأنا ببدأ طريق صح بس مخنوق من اللي فات كله، صدقني لومت نفسي كتير أوي وبقيت مش طايقها، بقيت حتى كتره كل لحظة ضعف خلتني في يوم عملت حاجة غلط وصلتني للي أنا فيه دا، لومت نفسي كتير لدرجة إني مش حمل كلمة واحدة فيها قسوة من برة، دلوقتي أنا واقف قدامك وصعبان عليا نفسي أوي.
رأى والده الحزن في عينيه وصوته، استشف الكسر في روحه دون أن يُحيد بعينيه عن عيني الآخر، رآه قطعة منه تتألم فاشتكى لها سائر الجسد وجل ما فعله حينها أنه ضم ابنه في عناقٍ خاطفٍ ثم احتواه بين الضلوع، ضمه بحمايةٍ ثم مسح فوق ظهره بلا لومٍ وعتابٍ أو كلمات قاسية يقرعه بها، فقط أحتواه بلينٍ ولطفٍ وضمه في كنفه ثم قال بصوتٍ هاديءٍ:
_وأنا مش هقسى عليك، أنا دوري دلوقتي أرجعك تاني ليا، الغلط كان غلطي من الأول إني سيبتك لوحدك وقفلت على نفسي في زعلي وفسرت أفعالك غلط، بس دا مش معناه إني بعيد عنك، أنتَ حتة مني وكلك على بعضك مني، حتى في زعلك وعنادك ودماغك، نسخة مني برضه، حتى لما جيت تختار وتحب اختارت زيي اللي تتعبك وتحتاج منك نفس طويل ومعافرة علشانها، بس أنا هقولك حاجة أخيرة، لو لسه رايدها هي مش غيرها أوعى ترجع عن قرارك دا، مفيش خيل حُر بينخ قدام ضعيف، أول حاجة تعملها تكون جاهز للحرب وقد الميدان، علشان محدش يفكر يمسك عليك غلطة جوة، ولو عليا أنا في ضهرك.
تراقص قلب “مُـحي” بين جنبات صدره ثم ألقى برأسه فوق كتفه والده وقال بصوتٍ خاملٍ أقرب للكسل في الكلام:
_ربنا يبارك في وجودك ليا، أنتَ أغلى حاجة ليا.
في تلك اللحظة ولج لهما “تَـيام” الغرفة وما إن رآهما سويًا ابتسم وقرر أن يُضفي بعضًا من المرح لهما فقال بمزاحٍ:
_كدا من غيري؟ طب تمام أوي كدا أشوفكم بخير أنا بقى.
كاد أن يرحل أو تصنع الرحيل لكن والده ضحك له ثم فتح ذراعه الثاني فاقترب الكبير يجاور الصغير في عناق أبيهما الذي شدد ضمته لهما ثم تنهد بقوةٍ ودعا متضرعًا ربه أن يحفظ له ابنيه من كل سوءٍ ومكروهٍ وفي تلك اللحظة حانت منه التفاتة نحو صورة زوجته المُعلقة فوق الجارور بجانب الفراش وفي تلك اللحظة قتله الشوق..
فياليتها كانت هنا تلك التي كانت يومًا ما هي الحياة بذاتها..
____________________________________
<“كل الكاتبين كانوا سُجناءً داخل أقلامهم،
فلم تغريهم الحريات خارج بحر حبرهم”>
إن الحُر لو عاش حبيسًا داخل قفصٍ يستطع فيه أن يصرخ ويطالب بحقوقه؛ فهو يتسحق لقب الحُر عن ذاك الجبان الذي ينل حرية كاذبة تجعله خاضعًا وقابلًا لفتات الحُريات، فما العيش للأحرار بغير حُريةٍ، وما العَزة والكبر بغير كرامتهم؟ ذاك الذي فضل الحرية عن الحياة الكاذبة، هو بذاته من يُضيء اسمه من وسط نجوم الليل…
كان لازال ساعيًا ومتابعًا لكل شيءٍ يتطلب منه أن يكون حاضرًا، يتخفى كما الثعلب ويدعي المكر وهو يتحرك ويتلصص حتى أنتهى الأمر به كعامل حراسة في أحد المخازن على الطريق العام، لكن في الحقيقة هذا العمل ماهو إلا الستار الذي يتخفى خلفه كي يدرس كواليس المسرحية التي تُذاع فوق خشبة المسرح للجماهير المُغفلة، وهو أبدًا لن يكون مثلهم..
جلس “باسم” فوق قالب الطوب الحجري وفي يده سيجاره يدخنها وهو يُطالع المبنى المقابل له بعينين ثاقبتين تلتقط بنظرات صقرٍ كل ما يمر عليها، ضيق جفونه عند وصول “هاني” وجلس يدون مواعيد زيارته وكذلك يفعل عند الرحيل، اختلى بنفسه ناحية هذا الباب كي يستطلع الطريق المُفضي لدار الآيتام…
خرج من تمعنه وشروده على صوت الحارس الكبير الذي يعمل معه في نفس المكان يناوله كوب الشاي وهو يقول بلهجةٍ مغايرة لحديثه:
_ الشاي يا واد يا “باسم” واتعتع هبابة.
رفع حاجبيه له بنظرةٍ جامدة ثم التقط منه الكوب وقال بسخريةٍ:
_ولما أنا اتعتع هبابة وتريح جنبي مين هياخد باله من الباب هناك يا حج “عـوض” بعدين هو كل شوية شاي شاي شاي، مفيش عندك كوباية بيرة ساقعة ترطب علينا؟.
ضحك الآخر بسخريةٍ ثم قال راثيًا حاله:
_هو أنا لو كنت معايا حق البيرة كان زماني قاعد هنا؟ أهي كوباية شاي حلوة وفضل ونعمة بس تفضل موجودة، مش بعيد بكرة كوباية الشاي دي تكون بضريبة علينا هي كمان.
ارتسمت السخرية المؤلمة فوق ملامحه ثم بدل الحديث بغيره كأنه يهرب منه أو ربما يهرب من نضالٍ يسكن روحه:
_إلا قولي يا عم “عـوض” هو إيه المكان اللي قدامنا دا؟.
طاف “عـوض” بعينيه عند الدار وعاد له يقول بغير اكتراثٍ:
_أهي دار أيتام بتاعة بنات صغيرين ملهمش أهل، أو ليهم أهل مش عاوزينهم، بس الشهادة لله الدار دي بيجيها ناس كتيرة أوي يتبرعوا هنا للبنات ومنهم ناس خلايجة كمان، وواضح كدا إن العيال هنا مبسوطين أوي، هدايا وفلوس وفسح كمان.
بدأ الحديث يُدار بعقله وبدأ يقوم بترجمة الكلمات كي يستدرك الدلائل فيصل للنتائج المرغوبة، وعند ذكر الصفة المعنية سأله مستنكرًا تلك الكلمة فكررها مُجددًا:
_خلايجة؟ خلايجة إزاي يعني؟ بتشوفهم أنتَ؟.
ارتشف الآخر من كوبه الساكن بين أنامله ثم قال بتأكيدٍ بعدما أبتلع الشاي الساخن:
_يوه بشوفهم علطول، بييجوا كتير أوي وساعات بييجوا بليل كمان جايبين حاجات كتير للبنات هنا، حتى فيهم واحد كنت سمعت أنه مش بيخلف واتبنى بنات منهم وخدهم يربيهم ويصرف عليهم، وفيه غيره كتير، أهو خليهم يفرحوا الغلابة اللي جوة دول، هيكونوا هما والدنيا عليهم يعني؟.
وهُنا الجاهل الغارق في نعيم جهله يصعب عليك إقناعه بجحيم الوعي ومساويء الفكر، فهل يقتنع من يظن أن المعاونة أتت من باب الرحمة بأن تلك المعاونة ماهي إلا الستار الخفي لطمعٍ في القلوب يطمع في كنزٍ ثمينٍ ليس من حقه؟ هؤلاء الذين يعلمون نقاط الضعف فيضغطون عليها بكل قسوةٍ كي تسقط الكرة بملاعبهم هم بذاتهم الذين يتربصون لكل صيدٍ ثمينٍ..
عاد “بـاسم” بعينيه يُطالع الدار ثم رمى سيجاره بطول ذراعه وقال بخيبة أملٍ مستوطنة قلب كل حُرٍ كُمم فاهه:
_يلَّا ماهي كدا كدا خربانة.
اختتم حديثه بجملةٍ ساخرة أقرب للتهكمية وفي باطن الأمر كان الألم ساكنًا بين الضلوع وعلى إثر ذلك احتبست الدموع والحديث بداخل القلب الحُر للجبناء ما كان بالمسموع، وحده من كان يعلم ما في باطن الأمر والحقيقة الموجعة، وحده الحُر الذي بقى من وسط سربٍ مقتولٍ بمسمى الحُرية، فليس من العدل أن تقتل الطيور الحُرة كي تحيا عصابات الصقور الجارحة..
وبأي عينٍ تبكي الأفراد على أوطانٍ
وأوطاننا بأكملها أراضيها مسلوبة
وعلى الإيحاد عن الحق مغصوبة…؟.
وفي مكانٍ آخرٍ يحمل نفس الدنس ويضمر الفساد بداخله، كانت تجلس تلك الوضيعة في غرفتها، تلك التي باعت كل شيءٍ نظير اللاشيء، وقفت تتجول بالغرفة ذهابًا وإيابًا حتى فُتِح باب الغرفة وظهر من خلفه زوجها الذي رمقها شذرًا ثم أقترب منها بشكلٍ أقرب للالتصاق وسألها بنبرةٍ أقرب للهمس:
_مالك مكشرة في وشي ليه من الصبح؟ مش طلبتي تنزلي تشتري حاجات ليكِ وروقت عليكِ؟ ما تفكيها معايا بقى شوية، هتفضلي تتمنعي عليا كتير كدا؟ قولتي إيه يا “أمـاني” ؟.
دارت بعينيها بمللٍ ثم نظرت له بضيقٍ وقالت بنزقٍ تتشدق به:
_هو إيه قولت إيه يا “أمـين” أنتَ هتشتغلني؟ ما أنتَ مروق عليا علشان قابض من ليلة إمبارح شيء وشويات ولولا إن الراجل على آخر لحظة وافق يشرب كان زمان الليلة خربت فوق دماغنا، بقولك إيه أنا مش عاوزة هبل، آخرة الهباب دا إيه؟.
سألته بإندفاعٍ وهي تحاول دفعه بعيدًا عنها فتمسك هو بها أكثر وضغط فوق خصرها حتى تألمت هي وتأوهت من قبضتيه فوق خصرها فوجدته يتجاهل وجعها وقال بجمودٍ قاسٍ:
_بس يا حيلة أمك متفوليش في وشي على لقمة عيشنا، بعدين هو حد بيقرب منك ولا بيلمس شعراية حتى؟ أنا مش عيل صغير قدامك علشان أسيب الناس تقرب من لحمي هو يدوبك بصة صغيرة وخلصنا، بعدين أنتِ هتمثلي عليا؟ ما أنا سائل عليكِ في حارة “العطار” وعارف اللي حصل مع طليقك لما بعتي ابنك ليه وقبضتي التمن، روقي كدا وبلاش دور الشرف دا عليا، أديكِ هنا براحتك ومحدش بيقرب منك ولا بيقولك تلت التلاتة كام، خروج وأكل وشرب ولبس وفلوس، خليكِ بس أنتِ معايا وهروق عليكِ..
هوى قلبها أرضًا وهي تراه يُصر على هذا الطريق ويبدو أنها أصبحت مُجبرةً معه على نفس الطريق، كما يبدو أنها نالت على نتائجه قبل أن تسلك الطريق بذاته، فهي من سبق ووطأت بقدمها مسلكًا خاطئًا ولن يُجديها الأمر نفعًا بشيءٍ سوى أن ترضخ وتقبل بالذل قبل أن يفتضح أمرها أمام العالم أجمع، والأصعب لديها أنها امرأة بمفردها وسط الغُربة دون حامٍ أو حارسٍ ولكي تهرب مما هي فيه عليها أن تتضرع للخالق أن يرسل لها غوثًا يُغيثها مما هي فيه.
____________________________________
<ولأن الحياة تكمن في قرب الأحباب نخشى عليهم من الغياب>
الحياة المتكاملة لن تجدها أبدًا بعيدًا عن الأحباب..
وإنما ستجدها برفقة من تحب، ستجد الحياة بداخل بيتٍ دافيءٍ ما إن تعود إليه تجد جدرانه بذاتها سعيدة بعودتك إليه، بيتٌ يكون لك ملاذًا آمنًا من الحياة القاسية التي كلما خرجت بين طواحينها ستجد نفسك الفُتات، الحياة أبدًا لن تجدها في الغياب وإنما ستجدها وأنتَ وسط الأحباب…
صوت مواء الهرة الصغيرة الذي ملأ الشقة جعل أمها تدور بها وهي تحملها فوق ذراعيها تُهدهدها بنعومةٍ والأخرى لا ترغب في الصمت، وإنما علا صوتها وأحمر وجهها وهي تتشنج فكادت “سمارة” أن تصرخ هي الأخرى، اختبار جديد في أمومتها جعلها تشارك صغيرتها البكاء وهي تضمها لصدرها وتقول ببكاءٍ:
_طب أعمل إيه طيب؟ يا رب ما تكون حاجة بتوجعك، معرفش أعمل حاجة غير إني أحضنك، علشان خاطري بس عياط قلبي وجعني علشانك، بس يا حبيبة ماما بس…
ترجو صغيرتها أن تكف وهي لا تَكُف عن البكاء، كانت تبكي وهي تشعر بالخوف بعد عدة محاولات فشلت خلالها في استرضاء ابنتها الصغيرة، حركت عينيها نحو الساعة فرأتها تشير إلى الخامسة عصرًا فتمنت أن يحضر هو، وبعد مرور نصف ساعة عاد “إيـهاب” من عمله وولج على صوت الصغيرة وهرولة زوجته نحوه فحمل منها الصغيرة وسألها بلهفةٍ قلقة:
_مالك أنتِ وهي؟ مين اللي مزعلكم كدا؟.
كفكفت هي عبراتها وقالت بصوتٍ باكٍ أثناء اشارتها على الصغيرة التي لازالت تبكِ كما هي دون توقف:
_هي عمالة تعيط ومش عاوزة ترضع ولا عاوزة تغير ولا عاوزة تسكت وأنا عمالة أعيط جنبها علشان مش عارفة أتصرف ومعرفش حد اسأله، والست “تـحية” عند بنتها بتشوفها، خليها تسكت علشان خاطري…
أومأ لها موافقًا ثم ترك الحقائب من يده ثم سحب وسادة من فوق أريكة الجلوس ثم وضعها أرضًا ووضع الصغيرة فوقها بعدما سطحها على بطنها ثم قام بشد قدميها الصغيرتين للخلف ثم وضع اصبعه في أنامل قدمها وظل يمسح فيها حتى هدأ صوت بكائها أخيرًا بعد طول عناء، وحينها فرغ فاه “سمارة” وشهقت بغير تصديقٍ ثم جلست على ركبتيها بجواره تتابعه وهو يتعامل مع صغيرته…
حينها بدل حركاته ثم صعد بكفه واستقر به فوق ظهره ثم قام بهزها بقوةٍ حتى بدأت الصغيرة تصدر صوتًا أقرب لمواء القطة كأنها تتأوه بفعل حركاته فوق جسدها حتى ضحك هو بسخريةٍ ثم سأل زوجته يمازحها كي يُبعد عنها البكاء:
_البت دي بتشتغل في الفاعل ولا إيه في غيابي؟ دا مش وجع عيلة ملووحة، دا وجع بت محملة نقلة طوب يا “سمارة”.
ضحكت رغمًا عنها من وسط بكائها ثم سألته بقلقٍ تفاقم بداخلها بسبب تأوه الصغيرة وألمها:
_هي بتتوجع كدا ليه يا “إيـهاب” مالها؟.
ابتسم رغمًا عنه ثم قال بنبرةٍ ضاحكة على ابنته:
_شبعت زيادة عن اللزوم وبطنها اتنفخت، وأنتِ شايلاها على إيدك فهي مش مرتاحة، لازم تنام على بطنها كدا لحد ما ترتاح شوية بعدها تبقى زي الفل والشبع دا يكون طبيعي، بصي سكتت إزاي؟ أهي كدا ارتاحت، أي وقت دا يحصل معاها نيميها كدا وافضلي أدعكي في رجليها لحد ما ترتاح وتسكت زي كدا..
أومأت له بفهمٍ ثم أقتربت أكثر تلمح صغيرتها بعينيها وقد تنهدت وأخرجت الأنفاس المحبوسة بداخلها ما إن رأت ابنتها ساكنة وتقوم بعلق أصابعها وقد سألته بحيرةٍ من صوت الصغيرة وهي تُغمغم بما لا يُفهم من الكلام:
_هي بتتكلم؟ إيه الأصوات دي؟.
حمل حينها صغيرته فوق ذراعه ثم لثمها عدة مراتٍ ثم جاوب زوجته ضاحكًا:
_الصوت دا معناه إنها ارتاحت وبطنها بطلت توجعها، اعتبريها بتشكرنا علشان المعروف اللي عملناه معاها بعدما أتحشرت من كتر الأكل.
ضحكت له “سمارة” ثم لثمت ابنتها وحملتها منه تضمها له بين ذراعيها وتأويها في عناقها وقد ضمهما “إيـهاب” له ومسح فوق ذراع زوجته وقال بنبرةٍ هادئة:
_أنا درست كل دا في كلية تربية رياضية، عمري ما تخيلت إني ممكن أحتاج كل دا لما أكون أب، أنا هسيبها شهر كمان كدا وأبدأ أدرب فيها علشان تطلع جامدة وترفع راسنا، هخليها أحسن واحدة في كل الدنيا، هعمل اللي عيشت عمري كله بحاول أعمله ومعرفتش، هخليها تحبني..
والجملة الأخيرة كانت قاتمة تشبه قلب صاحبها، كانت أقرب وصفًا لقلبه الذي لازال يأني بوجعٍ بسبب أفعال من كان مِن المفترض أن يكون أبيه، وهي بكل حبٍ كانت تشاركه الألم ذاته، وكأن الأب الذي من المفترض أن يكون حاميًا لصغاره هو بنفسه من ألقاهم في اليم كي ينجو بنفسه ولأجل أهوائه..
ضمته هي لها وبدلت الأدوار بعدما وضعت صغيرته بين ذراعيه ثم مسحت فوق خصلاته وهي تقول بحنوٍ بالغٍ تمسح به فوق فؤاده:
_هتحبك، مينفعش متحبكش يا “إيـهاب” وأنتَ فاتحلها حضنك علطول ومش سايبه تبعد عنك، هتكرهك منين وأنتَ أحسن راجل في الدنيا كلها سواء ليا أو ليها هي، تعرف أنا ساعات بفضل أفكر كدا شوية مع نفسي يلاقيها محظوظة بيك أوي، اسألني أنا عن وجع حرقة القلب بسبب الأب وعمايله كمان، هي مش هتكبر وتلاقي “أشرف الموجي” ولا هتلاقي “تمام” أبويا، بالعكس هتلاقي “إيـهاب الموجي” أحسن راجل في الدنيا كلها.
ابتسم بسعادةٍ ثم رفع رأسه ولثم جبين زوجته ثم اعتدل واقفًا وابنته فوق ذراعيه ثم لثم جبينها هي الأخرى ووضعها فوق الوسادة وقال بنبرةٍ هادئة كما حال قلبه:
_هروح أصلي العصر علشان ملحقتش أدخل الجامع، جهزي الغدا وحطيها في سريرها تنام شوية وتكمل راحة، يلا عن إذنكم.
ترك موضعه ثم ولج غرفته وتحمم وتجهز وبدل ثيابه ثم قام بفرد سجادة الصلاة ووقف عليها ثم بدأ يُقيم الصلاة وفي داخله كان يشعر أن الحياة أصبحت أفضل مما أراد هو ذات يومٍ، كان يستشعر نعم الخالق عليه وفضله فيما آل إليه مؤخرًا وكأن الحياة تعلن المصالحة له، تضرع بقلبه في صلاته وسجوده ولم يعِ لنفسه إلا وهو يذكر عائلته في الدعاء ويختص زوجته بالسعادة ويتمنى لابنته خير المستقبل…
وهي تلك هي الحياة بذاتها؛
أن يذكر القلب غيره في الدعاء وكأن هذه هي أبلغ المحبة.
____________________________________
<“ولأن كلمة الحق لا تُقبل أصبحت ثقيلة على الألسنةِ”>
ولأن الحق دومًا يحتاج للقوي ستجد الضعيف يخشاه..
ولأن الكلام دومًا يثقل على كارهه ستجد الحُر وإن قال الحق أصبح مكروهًا، ولطالما كان رضا الناس هو الغاية التي لا تُدرك فمن الأساس لا تهم ولا يكترث بها أي فردٍ…
وصل “عبدالقادر” بيته بعدما أنهى جزءًا من عمله وبحث عن “أيـوب” في بيته فلم يجد إلا “قـمر” في المطبخ برفقة “نِـهال” فحمحم لهما من الخارج حتى لا يزعجهما بدخوله فهبتا سويًا من مجلسهما فقال هو لهما بنبرةٍ هادئة:
_عاملين إيه؟ معلش جيت مرة واحدة كدا بس هو فين “أيـوب” سبقني وقال هييجي على هنا، مشوفتيهوش يا “قـمر” أو كلمك؟.
نفت ذلك برأسها ثم قالت بهدوءٍ:
_لأ يا بابا والله، هو جه بعد صلاة الضهر كلم “يـوسف” وطمنا بعدها مشي علطول وقالي رايح الشغل، بس ممكن يكون حد أحتاجه ورجع المسجد تاني، تحب أكمله لحضرتك طيب؟.
حرك رأسه نفيًا لها ثم قال ببسمةٍ صافية:
_خليكم مع بعض هنا وأنا هطلع أقعد في الجنينة شوية.
خرج من المطبخ ثم ولج نحو الحديقة وارتكن بها فوق المقعد بهدوءٍ حتى ركض له حفيده فضحك له ثم فتح ذراعيه وضمه له بقوةٍ ثم لثم جبينه بحبٍ وظل يمسح فوق خصلاته..
في الخارج بمنتصف الحارة كان “أيـوب” جالسًا برفقة “بهجت” الذي أصر على مجالسته والآخر لا يفهم سببًا لتلك المقابلة لكن احترامًا وتقديرًا له ولمكانته وافق على تلك الجلسة فذهب إليه وجالسه وقد تحدث الآخر عن أسباب حديثه ثم باشره بقوله:
_بص يا “أيـوب” أنا طول عمري بعتبرك ابني وكذا مرة كنت بقولها ليك إني بتمناك تكون جوز بنتي وأبقى كسبتك، بس النصيب ليه أحكام، وربنا كرم “جـنة” بشاب ميتخيرش عنك في الأخلاق، اسمه “مهند” وأنتَ عارفه كويس أوي وكان بيجيلك المسجد ومتعلم على أيدك، لو أنتَ مكاني بقى تقبل إنك تخسر لبنتك شاب ملتزم زي دا وتقبل بواحد تاني صايع وبتاع بنات؟.
تعجب “أيـوب” من الحديث وضم حاجبيه نحو بعضهما وبدا الاستنكار جليًا فوق ملامحه فقال الآخر مُضيفًا فوق كلماته:
_الواد اللي اسمه “مُـحي” أخو “تَـيام” عينه كانت من بنتي وشكله كدا حاول يقرب منها أو يشاغلها، وبالأدب طلبت منه يمشي ويسيب الحارة مش راضي، و”تَـيام” فارد عضلاته عليا وعامل فيها الجامد اللي مفيش منه اتنين، قولي بقى الحل إيه علشان أنا لو أتصرفت هزعل كله مني وهحكم بطرد “تَـيام” وأخوه نفسهم من الحارة.
انفعل أثناء حديثه وبأن الغضب جليًا فوق معالمه وقد ضرب فوق الطاولة وفي تلك اللحظة هدر منفعلًا بكلماته، وقبل أن يأتيه الرد من “أيـوب” أتاه الرد من “نَـعيم” بقوله الذي خرج منفعلًا وقاسيًا:
_لا عاش ولا كان اللي يفكر يرفع عينه في عيل من عيالي يا حج “بهجت” ومش ولاد “نَـعيم الحُصري” اللي حد يفكر يدوس ليهم على طرف أنا بدوس عليه عادي من غير تفكير، ولو أنتَ فكرت بس تيجي على سكة حد من ولادي صدقني أنا مش هسكتلك ولا هقدر حتى أعديهالك.
التهبت الأجواء فجأةً ووقف “أيـوب” بينهما وقد نظرا كلاهما لبعضهما البعض وفي تلك اللحظة تحدث “بهجت” بصلدةٍ ردًا على حديث من يُخاطبه:
_تعديها ولا متعديهاش مش فارق معايا، والأولى بدل ما تيجي تبجح فينا وترفع صوتك علينا في مكاننا إنك تروح تربي ابنك وتعرفه الأدب والأخلاق، وزي ما قولت لو فكر يقرب من بنتي تاني أنا هرميه برة الحارة هو وأخوه ومترجعش تزعل يا حج.
ولأنه يعلم الأصول جيدًا لن يقبل أن يكون طرفًا ضعيفًا أمام خصمٍ سيكون معه بنفس المعركةِ ذات يومٍ؛ فأتاه بالجواب الصارم:
_مش هزعل بس مترجعش أنتَ تزعل، ولولا إني عامل حساب اللحظة اللي هحط فيها أيدي في إيدك علشان نكتب الكتاب في يوم من الأيام كنت عرفتك الرد بيكون إزاي، بس أنا بفهم في الأصول يا أبو “جنة” ومقدر موقفك كويس أوي كمان.
ولأن الطرفين يتمتعان بعنادٍ قوي بدا الصراع جليًا في عينيهما وكأن كلاهما يتربص للآخر ويضعه في خانة الضد، وقف “أيـوب” بينهما بتيهٍ يحاول أن يجد حلًا مناسبًا فوجد في تلك اللحظة قنبلة تتفجر في قدوم “مُـحي” و “تَـيام” من جهةٍ و من الجهة الأخرى أتى “وائل” ابن عمها ومعه “مهند” والكارثة في لحظته تلك حتمية لا شك في ذلك..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى