روايات

رواية بأمر الحب الفصل العاشر 10 بقلم تميمة نبيل

رواية بأمر الحب الفصل العاشر 10 بقلم تميمة نبيل

رواية بأمر الحب البارت العاشر

رواية بأمر الحب الجزء العاشر

بأمر الحب
بأمر الحب

رواية بأمر الحب الحلقة العاشرة

ظلت الثلاثة أزواج من العيون تحدق بها متربصة و الشر ظاهرا فيها ظهور الشمس، تلك اللحظات التي تتجمد فيها الفريسة و يتجمد الصياد في نفس الوقت، حيث تتلاقى الأعين في لحظاتٍ من الوعي و إدراك النهاية المحتومة…
حين أفاقت من الصدمة، لم تضيع وقتها في الصراخ أو العويل، بل اندفع الأدرنالين في عروقها لتصعد السلالم جريا حيث أن أولهم هجم في نفس لحظة هروبها و كان طريقها الى الباب مستحيلا…
صعدت السلالم جريا وهي تلهث بعنف غير قادرة على الصراخ بينما انتابها الرعب لأول مرة…
سمعت من خلفها صوت خطواتٍ تجري على السلالم و كأنها ثيرانٍ هائجة، وصلت الى غرفتها وهي الأقرب، تمكنت بأعجوبةٍ من إغلاق الباب بالمفتاح في اللحظة الأخيرة و بعدها سمعت ضربة ضخمة على الباب ارتج لها بعد أن ارتطم به أحد تلك الثيران وهو يطلق صرخة وحشية…
ابتعدت عن الباب جريا وهي تلهث و تشهق، واخذت تعبث بين الأغطية عن هاتفها الى أن وجدتها وهي تنتفض مع كل ضربةٍ مرعبةٍ على باب غرفتها، لن يصمد الباب طويلا تحت وطأة أكتاف ذلك الحيوان المتوحش…
أخذت أصابعها ترتجف وهي تطلب رقم الشرطة حتى أنها أخطأته مرتين، دمعت عيناها و أطرافها ترتجف من الرعب، صرخت قبل ان تتمكن من طلب الرقم حيث انكسر الباب و تحطم شر تحطيم تحت ضرب تلك الماكينة البشرية الصارخة.
صرخت صبا بعنف مع صرخاته الوحشية، ثم اندفعت لا تلوي على شيء وهي تتجه الى الشرفة حيث أن لا وجود لمهربٍ غيرها
لكنه أدركها قبل حتى أن تدخلها وهو يمسك بها من شعرها بوحشية ٍ فصرخت بصوت أعلى و أعلى…
انتزع منها هاتفها ليلقيه أرضا و يسحقه بحذائه الذي يشبه الدبابة و تركه عبارة عن مسحوقا غير ظاهرة معالمه، ثم رفع نظره الى وجهها المرفوع بفعل قبضته الشرسة على مؤخرة شعرها بعنف، ثم رفع يده عاليا وهوى بها على وجهها في صفعةٍ قوية أدمت زاوية شفتيها، لم تستطع سوى أن تئن بفعل الصدمة…
في تلك اللحظة دخل الغرفة الاثنان الآخران، لكنها نقلت عينيها المهتزتين منهما إلى الممسك بها حين سألها دون مقدمات (أين باقي الأوراق؟).
ابتلعت ريقها وهي تقول بصلابة (لا أعلم عما تتكلم)
رفع يده ليضربها مرة أخرى بعنفٍ أكبر وهو يقول بصوتٍ أعلى (أين باقي الأوراق؟)
انساب خيط الدم من فمها لكنها تحاملت و نظرت اليه وهي تبتسم لاهثة ثم همست (عند شخصا آخر، سيسلمها للشرطة عند حدوث أي مكروهٍ لي)
شدد من قبضته على شعرها حتى كاد أن يقتلعه من جذوره وهو يقول مبتسما بوحشية (لا بأس، الأوامر لدينا، مجرد معاقبتك على العبث مع من هم أعلى منكِ).
ثم صفعها مرة أخرى لكن اقرب الى لكمةٍ هذه المرة فسقطت على الأرض تتأوه، ليقترب احد الاثنين الواقفين عند الباب و انحنى جاذبا إياها من شعرها مرة أخرى لتقف و ليلكم فكها بقوة فسقطت تجاه زميله الذي تلاقاها بين ذراعيه ليرفع ركبته و يضربها في بطنها
فتأوهت بصوتٍ مكتوم لتسقط على ركبتيها أمامه، لكن صفعة أخرى رمتها أرضا بقوة…
شعرت صبا حينها أن السماء أصبحت ذهبية تحت جفنيها المطبقين، وعلمت أنها النهاية…
ومن بين أمواج الغياب عن الوعي، شعرت بأحدهم يحملها بقسوةٍ ليلقي بها على السرير و أنفاسٍ بغيضةٍ وعطرٍ فج يزكم أنفاسها حيث اقترب منها وهو يهمس في اذنها، (لم يكن عليك السكن في بيتٍ بمفردك، فالحياة أصبحت غير آمنة)
صوت ضحكاتٍ جاءت من البعيد لكنها لم ستطع تحديد الواقع من الكابوس الآن، الى أن شعرت بقبضتين أعلى صدرها تمزقان قميصها القطني من أوله لآخره…
صرخت صباا بعنفٍ وهي تتلوى بشراسة، الا أن لكمة بعد أخرى جعلتها تسكن تماما، لكن الوعي أبى أن يرحمها و يغادرها حتى تلك اللحظة وهي تسمع تمزق ملابسها، صرخت بقوةٍ وهي لا تعلم إن كانت تصرخ في الحقيقة، أم في لا وعيها فقط…
أصابع عديدة امتدت اليها تنهشها وهي تئن و تتلوى، ليست يدا ولا اثنتين، غير الثالثة التي قبضت على معصميها أعلى رأسها، بكت، بكت طويلا وهي تنادي والدها، اخذت تناديه لينقذها فهو من كان موجودا دائما حين تحتاجه…
فجأة سمعت أصوات صراخٍ شرس من خلف جفنيها المطبقين، أصبحت الغرفة من حولها كحربٍ شعواء…
أصوات أحزمةٍ و سلاسل تطوح في الهواء، نصل سكين يقطع الهواء لتسمع بعده صرخة وحشية، ثم صوتِ رصاص، هل هذا رصاصٍ حقا؟، وتأوه مكتوم و سقوطٍ على الأرض…
صرخ عاصم بوحشيةٍ حين دخل ورجاله اللذين وصلو في نفس اللحظة معا، وما أن رأى المشهد أمامه حتى أطلق صرخته وهو يهجم عليهم شاهرا مديته، بينما الآخرين احدهم يحمل السلسلة السميكة الحديدية، و الآخر يحمل مديتين كالتي يمسكها عاصم.
و دارت حربا طاحنة مدتها لا تزيد عن دقائق الى أن تمكن كلا من الثلاثة من اخراج سلاحه، ليضرب أحدهم أحد رجال عاصم فأسقطه أرضا، و رصاصة الآخر أخطأت هدفها وضربت الحائط أما الثالث، فأصابت رصاصته جانب عاصم أسفل صدره
وضع عاصم يده على الجرح النازف و نظر الى يده ليجدها مغطاة بالدم الا أن ذلك لم أهم من أن يغطي صبا نفسها…
صرخ عاصم بوحشيةٍ وهو يضرب بسلسلته الطويلة في لحظةٍ خاطفةٍ فأصاب بها وجه الرجل فأسقط سلاحه أرضا ليتناوله عاصم وهو يقع أرضا، ليشهره في وجه الرجل أمامه ضاربا رصاصة في ساقه و آخر في كتفه، بينما تكفل رجليه السليمين بالاثنين الآخرين
قبل أن يسمع صوت صفارة سيارة الشرطة وهي تقترب…
زحف عاصم الى صبا ليلفها بغطاء الفراش وهو يصرخ، (أريد الاسعاف، اريد الاسعاف حالا).
نظر اليها وهو يتأوه من منظر وجهها الذي تاهت معالمه من شدة الكدمات، و ناداها بصعوبةٍ (صبا، صبا اجيبيني، أرجوكِ)
بعد فترةٍ طويلة من وصول الإسعاف وقبل أن يسمح لهم باصطحابهم جميعهم، أخرج من جيب بنطاله الماشاء الله و قد تغطت بالدم من يده تماما، لكنه تمكن بصعوبةٍ من أحكام غلقها حول عنقها، ثم ضمها إلى صدره بقوةٍ وهو يهمس في اذنها (اصمدي حبيبتي، حبا بالله اصمدي)
وضاعت الرؤية من بعدها من كليهما…
كان مستلقيا في فراشه ينظر اليها مبتسما، مكتفا ذراعيه أسفل رأسه، وعلى الرغم من ظلام الغرفة الا أنه يراها بمنتهى الوضوح.
يمتع نظره بطلتها الملائكية و ثوبها الأبيض وهي تجلس على الكرسي المتأرجح بجوار النافذة، حيث تغطيها أشعة القمر لتنير وجهها المحبب
هي الأخرى كانت تنظر اليه مبتسمة برقة و خصلات شعرها النحاسي الاحمر منسابة في لفائف رائعة على كتفيها.
تتأرجح بالكرسي وهي تحتضن الدمية التي جلبها لها و كأنها لا تريد أن تفارقها أبدا…
ابتسم لها أكثر، فاتسعت ابتسامتها و أطرقت برأسها، نهضت من مكانها بعد فترةٍ ليظل الكرسي يتأرجح خلفها
فقال بلهفة (ابقي قليلا)
ابتسمت بأسف لكنها لم ترد…
فجأة تغيرت الغرفة و اختفى سقفها، لتطالعه السماء السوداء المظلمة.
لا زال مستلقيا في فراشه لكن ياللغرابة و قد اختفت جدران الغرفة كذلك ليحل محلها سور متهالك قديم يفصله عن فضاء واسع أسود يوشك أن يبتلعه…
وها هي ككل مرة تعود لتقف فوق السور، كم مرة عليه أن ينهاها عن ذلك، حاول النهوض من الفراش الا أن ذراعيه و ساقيه كانت مقيدة في الفراش بلا قيود ملموسة…
حاول وحاول، دون جدوى.
اخذ صدره يعلو و يهبط و قد التمع بالعرق اثناء صراعه العنيف مع قيوده التي لا يراها، وهي تقف على أطراف أصابعها، فاردة ذراعيها الى السماء السوداء…
حاول أن يصرخ، حاول وحاول الا ان الصوت وقف كحجرٍ مسنن في حنجرته وهو ينظر اليها مذعورا يهز رأسه علام النفي بقوة
لكنها ككل مرة قفزت لبتلعها الظلام تحت أنظاره المرعوبة…
لحظتها فقط تمكن من الصراخ (نواااااار).
نهض منتفضا جالسا في فراشه و هو يلهث بشدة، ليجد أنه في غرفته، حيث السقف و الجدران لا تزال موجودة مكانها، و الكرسي المتأرجح موجودا في مكانه بجوار النافذة…
نظر الى الكرسي الفارغ وهو يشعر بذلك الألم المعتاد لديه، ذلك الالم حين يفيق الانسان من نومه و يجد ان من كان يتمنى رؤيته هو مجرد وهم صوره له خياله…
والم منظر فقدها و الذي يتكرر مرة بعد مرة وكأن مرة واحدة ليست كافية…
رفع كفيه ليمسح الوجهه بقوة، أي ألمٍ هذا الذي يأبى أن يتركه بعد كل تلك السنين…
تمدد مبتسما على الكرسي الطويل المريح نصف جالسا وهو يقذف كرة مطاطية الى اعلى السقف ثم يتلقفها بين يديه مباشرة دون أن يتحرك من مكانه…
تنحنح الرجل الذي يجلس خلف مكتبه وهو ينظر اليه معدلا من نظارته فوق عينيه، ليقول متذمرا (كفى لعبا يا مالك، المفترض انها جلسة علاجية).
اتسعت ابتسامة مالك دون ان ينظر اليه وهو يتابع قذف الكرة الى السقف ثم يعود ليتلقفها، ليقول سعيدا (جلسة علاجية؟، حقا يا مراد يصعب على النظر اليك كطبيب محتمل)
عقد مراد حاجبيه وهو يقول (مالك أنت تدفع لقاء هذه الجلسة، لذا لابد أن تأخذ شيئا يرضي ضميري مقابل ما تدفعه).
ضحك مالك وهو ينهض من مكانه ليذهب و يجلس على الكرسي أمام المكتب وهو يقول (هل هناك طبيب محترم يقول لمريضه، لا بد أن تأخذ شيئا مقابل ما تدفع، ما هذا؟ اطبيب انت ام بائع لبن؟)
تأفف مراد وهو يخلع نظارته ليلقيها على سطح المكتب ثم يقول بغضب (هذا لن يفلح يا مالك، هذا الوقت الذي تضيعه هناك من هو أحق به منك).
لا يزال مالك مبتسما ابتسامته الوديعه الا أنها بدت باهتة قليلا ليقول بعد فترة (ماذا؟، هل ستعتذر عن المتابعة؟ كنت أظن أننا أصبحنا أصدقاء)
قال مراد وهو يشعر بنفسه يضعف من جديد (و بصفتنا أصدقاء أنصحك بمحاولة التقدم معي في العلاج)
رد مالك و قد اتسعت ابتسامته من جديد (هل تراني صدقا احتاج الى علاج؟، انظر الي، ماذا ينقصني؟).
اسند مراد رأسه الى كفه وهو ينظر الى مالك بتركيز، ثم قال بهدوء (اذن لماذا تأتي الى هنا؟)
هز مالك كتفيه بعد فترة صمت ليقول بعدها بهدوء (أشعر بالراحة حين آتي الى هنا، تعجبني الجلسة الظريفة مع شخص ظريف مثلك، اليس هذا سببا كافيا؟)
قال مراد بوضوح دون أن يتحرك (لا، ليس كافيا، أنت متعب جدا مؤخرا لكنك لا تحاول التكلم عن الأمر).
امسك نادر باللعبة الكريستالية الموضوعة على سطح المكتب ليقلبها بين يديه فمال مراد ليلتقطها منه بسرعةٍ ثم يضعها بحذر بعيدا عن متناول مالك…
ثم أخذ نفسا عميقا وهو يحاول أن يهدىء نفسه، ليقول بعدها بإتزان (مالك، أنت متعب و تريد أن ترتاح، لكنك لا تريد أن تزيل سبب تعبك).
ارجع مالك ظهره الى ظهر الكرسي لينظر الى السقف بملل وهو يدمدم (ها قد بدأنا في الطلاسم، انت مصر أن تحلل ما تتقاضاه و الذي يؤرق ضميرك، طبعا فأنت تمتص دم المرضى ككل الأطباء النفسيين)
هتف مراد وقد انعقد حاجباه و فقد السيطرة على غضبه للحظة (ماذا؟، أنا لست)
ثم سكت وهو يزفر حنقا من مالك الذي أخذ يضحك و قد نجح في استفزازه ككل مرة، لا مريض لديه من قبل نجح في اغضابه على هذا النحو…
اخذ نفسا أعمق هذه المرة و بصوتٍ عالٍ ليقول بعد أن هدأ (تريد أن نتكلم بوضوح؟، حسنا فليكن، أنت متعب، لكنك لا تريد أن تنساها، تخشى إن ارتحت و ابعدتها عن تفكيرك بعد العلاج فإنك ستعود لتشتاق اليها في حياتك مرة أخرى)
لم ينظر اليه مالك، ظل ناظرا أمامه دون تعبير وقد اختفت ابتسامته، ليتابع مراد كلامه بصوتٍ أكثر هدوءا (أنت تريد أن ترتاح، لكنك لا تريد أن تنساها).
(تريد أن تنسى المنظر الذي رأيته و الذي عشته، لكن دون أن تفقد وجودها في حياتك من جديد)
(تريد أن تحلم بها كل ليلة، تأتي اليك كل ليلة لتطمئن الى وجودها آمنة بجوارك، لكن دون أن ترى باقي الحلم حيث تسقط ككل مرة)
لم يرد مالك وقد تحولت ملامحه الى ملامحٍ صخرية، فأكمل مراد بحزم (متى كانت آخر مرةٍ تراها؟).
نظر مالك أرضا بتململ دون أن يجيب، فأكمل مراد (أنا سأخبرك، رأيتها ليلة أمس، فأنت لا تأتي الا حين ترى نفس الكابوس)
التفت مالك اليه بسرعة ليقول دون تردد (هذا ليس كابوس، انه حلم، مجرد حلم)
نظر مراد ال عينيه بتركيز ليقول (حتى الجزء الخاص بسقوطها؟)
قال مالك بصوتٍ خافت دون أن ينظر اليه (ومن قال أنني رأيت سقوطها من جديد؟).
قال مراد بوضوح و بلهجةٍ لا تقبل الشك (بل رأيته بكل تفاصيله ككل مرة، و انت كل ما تريده هو الا ترى هذا الجزء فقط، لكنها تريد أن تظل مسؤلا عنها الى مالانهاية)
نظر اليه مالك بوجهٍ جامد وهو يقول بوجوم (انت تجعلني ابدو مجنونا، نوار ماتت يا مراد، كانت مجرد طفلة تلعب فوق سطح بيتنا و سقطت)
لم يجب مراد بل ظل ينظر إلى عينيه بتحدٍ ثم قال مباشرة (لماذا لم ترتبط بأي فتاةٍ الى الآن؟).
ابتسم مالك دون مرح وهو يقول (هل هذا له علاقة بجلسة العلاج الطريفة تلك؟ لما لا تطلب لنا كوبين من الشاي لتطلعني على بعض العرائس المقترحات لديك؟)
قال مراد دون أن يبتسم (ظريف جدا، جاوب على السؤال، لماذا لا تجد الرغبة في الارتباط حتى الآن؟)
قال مالك بلا تعبير (من قال أن لا رغبة لدي في الارتباط؟، الأمر كله أنني أنتظر الفتاة المناسبة).
فتح مراد فمه يريد ان يكمل الا ان مالك كان قد نهض من كرسيه ليقول مقاطعا بمرح وهو يتمطع باريحية (انتهى وقت الجلسة، ياه أشعر بالفعل انني أصبحت انسانا جديدا)
حاول مراد الاعتراض الا ان مالك كان قد اتجه الى الباب و قبل ان يخرج استدار وهو يأشر له بتحيةٍ عسكرية مرحة ثم خرج
لا يعلم مالذي يفعله هنا؟، حقا؟، هذا المكان أثار اشمئزازه بما يكفي المرة السابقة، ليأتي اليه مرة أخرى.
أول مرة يشعر بالغضب من جلسة مراد الى هذا الحد، منذ بدأ يلجأ اليه بعد أن ضاق صدره طويلا، شعر بأنه يرتاح الى تلك الجلسات الطريفة، لكنه بالطبع ليس مختلا أو حتى معقدا، انه فقط يحتاج لصديق
في الواقع حياته الاجتماعية ليست مثالية ابدا، بل هي على الأرجح فاشلة تماما، وعلى الرغم من أنه يحاول جاهد الابتسام و الضحك الا أنه يعيش ملجما وكأنه يهوى الابتعاد عن البشر…
حتى انه قد وصل الى هذه السن دون الارتباط بفتاة ولو لمرة واحدة، ولا صديق مقربا اليه على نحو الخصوص…
فقط حنين هي المقربة له، وهي منذ فترةٍ تبدو وكأنها قد كبرت و خرجت من تحت رعايته، يبدو أنها لم تعد في حاجة اليه بعد الآن و كان في حاجة للشعور أن هناك شخصا ما تحت رعايته، كان هذا الشعور هاما جدا في حياته…
ركل حصوة بغضب و هو ينظر الى ذلك المكان المقزز عبر الطريق، ثم بعد تردد عبر الطريق متجها الى، اليها، ليطمئن عليها من باب المجاملة…
ما أن عبر الطريق و اقترب، حتى رآها خارجه، شعر بالغضب رغما عنه وهو يرى أنها على الأرجح ذات الدور في المشي أمام الباب برقةٍ تختلف عن ميوعة الأخريات كطريقةٍ جذب للزبائن…
وقف مكانه متسمرا وهو يراها تمشي كفراشةٍ، قدماها الصغيرتان تتناقضانِ في رقتهما مع الأسفلت الخشن للرصيف أمام مدخل المكان…
شعرها النحاسي يتطاير مع نسماتِ الهواء، أما ملامحها البريئة فقد ازدادت بزينةٍ لم يرها عليها المرة السابقة…
تسير و تبتسم للذاهب و الآتي و تدعوهم بنظرةٍ منها الى دخول المكان، اقترب مالك اكثر الى أن صار في مواجهتها وهي لم تره بعد وقد حملها شرود مفاجىء للبعيد، الى أن التقت عيناهما في لحظةٍ خاطفةٍ فاتسعت عيناها اندهاشا وهمست (سيد مالك؟)
ابتسم بجفاء. واضعا يديه في جيبي بنطاله وهو ينظر اليها ليقول بهدوء (كيف حالك يا)
همست تكمل بضعف ؛ (أثير)
أومأ مالك وهو يقول بصوتٍ خافت ؛ (نعم نعم، كيف حالك يا أثير؟).
همست و بدت وكأنها ترتجف قليلا على الرغم من لطف الجو من حولهما (بخير الحمد لله، كيف، كيف حالك؟)
اومأ برأسه دون أن يجيبها، ظلا صامتين قليلا الى أن أطرقت برأسها و هي تنظر الى الأرض، ثم همست ما أن وجدت صوتها (يبدو أنك، أنك هنا من أجل موضوع اخلاء البيت، اليس كذلك؟)
قال بنفس هدوؤه (على ما يبدو)
لم تستطع أن ترفع رأسها اليه وقد تأكدت مما كانت تخشاه، ولم تجد ما تقوله كذلك، فانتظرت مصيرها المحتوم.
لكنها لم تتوقع ما سمعته في اللحظة التالية حين قال مالك بحزم (أتيت على أمل أن أجدك قد تركتِ هذا المكان)
رفعت رأسها اليه بسرعةٍ وهي تنظر اليه بعينين زرقاوين مدهوشتين وشفتين مفتوحتين، فلم يستطع مالك مقاومة طيف ابتسامة ظهرت على شفتيه وهو يقول (الم تتخلي بعد عن عادة نسيان فمك مفتوحا هكذا؟).
أغلقت فمها بسرعةٍ وهي ترمش بعينيها، ثم دون سابق انذار انسابت دموعتانِ رغما عنها على وجنتيها الناعمتين و قد نال منها الإرهاق مناله
أخرج من جيبه منديلا وناوله اياه، فأمسكته شاكرة باختناق، لكن قبل أن تستخدمه نظرت اليه وقالت بصوتٍ باكٍ مختنق (ما هذا؟، الازال هناك من يستخدم مناديلا قماشية؟).
ابتسم مالك وهو ينظر اليها بعطف ليمد يده و يمسك المنديل و يفرده لها قائلا باعتزاز (انه منديلي الشخصي، انظري، أمي حاكت اسمي على زاويته، بالرغم من أنها لا تستطيع القراءة أو الكتابة، الا أنها طلبت مني أن أكتب لها أسمي لى المنديل لتحيك فوقه، أي ان مجرد استخدامك له يُعد شرفا عظيما لكِ)
ترددت وهي تمسك المنديل بأصابع مرتجفة ثم رفعت عينيها الحمراوين اليه تقول بضعف (اذن يبدو لي من الظلم أن أستخدمه).
قال مالك مبتسما بهدوء (عندي منه دستتين، أمي لا تضيع وقتها)
ابتسمت من بين دموعها وهي تمسحها من على وجنتيها قبل أن تنفخ في المنديل بقوةٍ، رفع مالك احدى حاجبيه ثم قال بجديةٍ (حسنا، لقد وضعتِ بصمتك عليه الآن، أحسنتِ)
عقدت حاجبيها وهي تنظر اليه بغضب لتقول كطفلةٍ متذمرة (سأغسله ثم أعيده اليك)
قال مالك بجدية ؛ (اغسليه بيديك، إياكِ أن تضعيه في المغسلة الكهربائية).
مطت أثير شفتيها امتعاضا وهي تنظر اليه ثم قالت (اتحب أن تأخذ ضمانا عليه لحين أن أعيده اليك؟)
ابتسم مالك وهو يتطلع اليها ليقول بهدوء (أحب أن نسير معا على طريق البحر قليلا)
اتسعت عيناها دهشة وهي تنظر اليه، غير متأكدة مما سمعته للتو، ثم قالت متلعثمة (لا، لن أستطيع ترك عملي الآن).
قال مالك بهدوء دون اهتمام (استطيع أن آخذ لك الإذن لساعة من صاحب المكان بسهولة، هذا إن كنتِ مهتمة اصلا بالمحافظة على العمل في هذا المكان)
عبست أثير وهي تقول بحدةٍ ظهرت قليلا في مرارة صوتها (أنا مهتمة جدا بالمحافظة على عملي، لأني أحتاج اليه يا سيد مالك)
لم يهتز مالك لحدتها وهو يقول بهدوء (يبدو انني قد أغضبتك، فها أنتِ قد عدتِ لكلمة سيد من جديد، عموما أخبرتك أنني أستطيع أن آخذ لكِ الإذن).
عضت اثير على شفتها السفلى وهي تتسائل عن حزمها الغير قابل للتنازل في التعامل مع الرجال، أين ذهبت صلابتها في معالجة مثل هذه المواقف بمنتهى الحسم، ولماذا ترغب بشدةٍ في الموافقة، لكنها استجمعت قوتها و نهرت افكارها المتهاونة لتقول بلعثم (لن يكون ذلك، لن يكون ذلك ملائما أبدا، مجرد خروجي من هنا، برفقتك)
اتسعت ابتسامة مالك وهو ينظر الى السماء قائلا (الحمد لله، هاقد بدأت تتعقل و الا تمنح ثقتها لأيا كان).
نظر اليها وهو يضع كفه المفرودة على صدره بتحية تقدير قائلا (أنا منبهر)
كتفت ذراعيها وهي تنظر اليه بامتعاض، بينما صوتا بداخلها يصرخ، هل يمكن الأحدٍ الا يثق في شخصٍ كهذا؟..
ضحك مالك وهو ينظر الى نظرتها الممتعضة و قال بتملق (هيااا الآن يا اثير، إنكِ تريدين السير على البحر قليلا في هذا الجو الرائع، أرى ذلك في عينيكِ).
ابتسمت قليلا رغما عنها، ثم قالت بتردد (قد يعتقد صاحب المكان أنني، أنني أقبل عادة ب، الخروج).
احمرت وجنتاها ولم تجد القدرة على المتابعة، لكنه فهم ما قصدته و قال مقاطعا برقة و حسم في نفس الوقت (ليس من حقه أن يظن شيئا، فلينظر كل انسان الى نفسه أولا، أما اذا كنتِ تخشين أن يطلب منكِ، بعض التنازلات في عملك فأطمئنك أنه لن يجرؤ على ذلك بعد أن دخلت اليه المرة السابقة، هل حدث أن تعرضتِ لطلبٍ ضايقك؟، لأن بإمكاني أن أغلق هذا المكان، صدقا).
نظرت الى الصلابة الظاهرة في كلماته و شعرت برجفةٍ ناعمةٍ تهز قلبها، ما أجمل أن تحظى فتاة بحماية رجلا كهذا…
ابتسمت بشرود وهي تتطلع الى القوة في عينيه المنتظرتين لتهمس برقة (لا، لم أتعرض لشيء، وكأنني ابنة صاحب المكان).
شردت وهي تفكر في داخلها، ان لم يكن هذا يتضمن نظراتٍ تنهش جسدي ليلا ونهارا، تعليقاتٍ فجة و ابتساماتٍ وغمزاتٍ مبتذلة، مجرد سيرها جيئة و ذهابا أمام المدخل كعرضٍ رخيص على الرغم من ملابسها الرسمية الخادعة و التي هي أقرب الى الخدمة الفندقية منها الى مجرد الخدمة كنادلة…
أبعدت نظراتها الحزينة عن عينيه المحدقتين حتى لا يتمكن من قراءة أفكارها…
ظل صامتا قليلا ليقول بعد ذلك بهدوء لا يحمل المرح (اذن، هل تحبين السير قليلا؟)
رفعت نظرها اليه وهي تنتوى الرفض، الا أنها ما أن نظرت الى عينيه الحنونتين حتى أومأت برأسها باستسلام رائع، فأومأ مالك مبتسما هو الآخر ليتركها دون كلمةٍ ليتجه الى الداخل وكأنه يملك المكان…
خرج بعد فترةٍ، بنظراتٍ تحمل القليل من الإزدراء جمدت قلبها، لكنها اختفت ما أن نظر اليها ليقول مبتسما (هيا بنا).
همست بتردد وهي تتساءل ان كان صاحب المكان قد أوحى له بشيء قذر كعادته. (لا بد أن، أن ابدل ثيابي أولا، فهي)
قاطعها مالك ليقول بحزم (أمامك خمس دقائق ثم سأنصرف بعدها، ثم بالله عليكِ أزيلي طبقة الوان الزيت تلك من على وجهك)
قالت بحدة (لا دخل لك، انه وجهي و ليس وجهك)
ثم انصرفت لتتركه ضاحكا…
نظر اليها وهي تخرج اليه ببنطالها الجينز و قميص قطني بسيط بينما شعرها انسدل على كتفيها و ظهرها بلونه النحاسي الأشقر، بدت وكأنها قد صغرت في العمر حوالي عشر سنوات بوجهها البريء، و القدم الوردية المطبوعة على قميصها…
ارتفع حاجبه اندهاشا و ارتيابا وهو ينظر إلى تلك القدم، حتى حنين المسكينة لن ترتدي مثل هذا القميص ذو القدم بأصابعها المستديرة الضاحكة…
وقفت بجواره وهما يهمانِ بعبور الطريق العريض ذو الخمسِ حارات، دائما ما تخاف عبور طريق البحر، الا أنها اليوم تشعر وكأنها تطير على ظهر حصانٍ أبيض و أمامها، (هيا الآن).
قطع عليها احلامها السعيدة بصوته فنظرت اليه لتجده ينظر الى طريق البحر بتركيز. مادا يده امامها، ودون تفكيرا منها رفعت يدها وهي تظن انه يريد الامساك بها ليعبرا الطريق، الا ان تحرك ذراعه أمامها وهو يبدأ في التحرك جعلها تدرك أنه يقوم بعمل حاجز وهمي لها تعبر لحظة عبوره، أخفضت يدها وهي تشعر بالغباء الشديد لكنها لم تطل التفكير وهي تبدأ في الجري بجواره وما يجد أن الأمر يتطلب وقوفهما تقف ذراعه أمامها لتوقفها، ثم يكملا الى أن عبرو الخمس حارات الذاهبة و الخمس حارات الآتية…
وصلت إلى الطرف الآخر وهي تضحك عاليا لتقول لاهثة بعد أن تنفست الصعداء (الم تسمع عن وجود أنفاق للمرور؟)
ضحك مالك هو الآخر ليقول مستنكرا بشدة (أنفاق؟، ستكون تلك سبة في جبين أبناء البلد اللذين اعتادو عبور طريق البحر جريا منذ ولادتهم، تلك الأنفاق بنيت للمرفهين)
رفعت عينيها اليه تظللهما بيدها من الشمس لتقول مباشرة (مالك رشوان، أنت شخصا لا أمل بك إطلاقا).
سارا معا على طول البحر، لا تظن أنها قد رأت البحر أكثر جمالا يوما، و لا تظن أنها قد شعرت بمثل ذلك السلام منذ وقتٍ طويل.
قضمت الذرة المشوية التي اشتراها لها وهي تشعر بالهواء يداعب شعرها و يطيره هنا وهناك بينما لم تفعل شيء لمنعه مستمتعة بكل لحظة…
نظرت اليه من بين خصلاتِ شعرها وهو يأكل ذرته باهتمام ناظرا أمامه وكأنه لا يحمل للدنيا هما، قالت له بصوتٍ أعلى قليلا من صوتِ أمواج البحر (لماذا أتيت اليوم، يا مالك رشوان؟)
خفض رأسه لينظر اليها من طوله الفارع خاصة وأنها قد قصرت حوالي شبرا بدون حذائها العالي الكعبين، ليقول بدهشةٍ و استياء (ما بال كل الناس يسألونني نفس السؤال اليوم؟، الا مكان للمودة بعد الآن بين الناس؟).
ابتسمت وهي تقضم قضمة أخرى وهي تقول بفمها الممتلىء ذرة (من سألك نفس السؤال اليوم؟)
قال لها ضاحكا ؛ (صديقا وُجد في حياتي لكي لا نتفق و لا يفهم أيا منا الآخر)
ضحكت هي الأخرى لتقول (وماذا تستفيد من تلك الصداقة اذن؟)
سكت قليلا ثم قال ناظرا للبحر ؛ (يوقظ فيّ أشياءا لا أحب نسيانها)
لم تفهم قصده جيدا لكنها شعرت بأن هناك فتاة خلف لهجته، هل أحب من قبل؟، من تلك البائسة التي سمحت لمثله بالفرار من بين يديها…
لكن لماذا افترضت أصلا أن العلاقة قد انتهت؟، فربما يكون مرتبطا وما المانع؟، شعرت بوجومٍ قاتل في لحظةٍ هدد سعادتها الحالية فقضمت قضمة أخرى بيأس وهي تشد عليها واجمة، أفاقت من أفكارها على صوت مالك وهو يقول فجأة (اثير، لماذا لا تبحثين عن عملا آخر، من الواضح أنكِ تحملين شهادة تؤهلك لعمل أفضل من ذلك)
شعرت بالحرج البالغ وهو يعود مرة أخرى للتلميح على عملها الذي لا يشرف بأي حال من الأحوال.
اطرقت برأسها وهي تقول بصوتٍ خافت (أعمل به لأنني أحتاجه، الإكراميات في هذا العمل مرضية جدا، ودار الرعاية التي يمكث بها والدي حاليا تأخذ مبلغا باهظا.
الغريب في الأمر أنني أصبحت حاليا لا أتحمل أي مسؤليات أو أعباء فقد أصبحت وحدي تماما، لكن الواقع انني مقيدة بتكلفة دار الرعاية، لا تقدم في حالة والدي ابدا، ولا أمل في ذلك ابدا، أصعب شيء أن ترتبط بشيء تضحي من أجله بالكثير و في نفس الوقت تجد أنه لا أمل، و أن، وأن والدي لن يعود لي أبدا، لكني لن أتخلى عنه مهما حدث و لو دفعت عمري في أن يبقى مرتاحا ولو ليومٍ واحد، أنت لا تعرف كم كان والدي ينبض بالحياة، كان يشعل البيت مرحا وضحكا حتى أنه كان يصيب أمي بالجنون.
مجرد ذهابي لرؤيته تشعرني بأن حياتي لم تنتهي بعد، لازال ينظر إلى وإن كان لا يراني أصلا، لكن هذا يكفيني لأستمر في حمايته)
سكتت أثير حين لم تجد القدرة على المتابعة و قد سدت الدموع حلقها و أبت أن تنحدر على وجنتيها…
عاد الصمت بينهما وهما يسيران جنبا إلى جنب، تحتضنهما أشعة الشمس الدافئة و التي يلطف منها هواء البحر العالي…
وقف مالك فجأة، لتقف هي الأخرى وهي تنظر اليه مستفسرة، فقال مالك بحزم (أثير، أتركي العمل و سأعطيكِ ما تتقاضينه حتى تجدي عملا يناسبك، ومصاريف دار الرعاية أنا سأتكفل بها)
لم تهتز عضلة في ملامحها وهي تنظر اليه بجمود، ثم همست (لا يمكن لفتاة أن تقبل بعرض كهذا من أي شاب، لأنه إما يكون إحسان فائق عن الحد، وإما يكون مقدمة ل).
لم تكمل، لكن مالك فهم ما أرادت قوله فابتسم برقةٍ وهو يقول (ابهرتني للمرة الثانية، لكن اطمئني، فهذا العرض ليس مقدمة ل)
ابتسمت رغم احمرار وجهها الذي بدا كثمرة الطماطم لكنها همست بشجاعة (اذن ماذا يكون؟)
اجاب مالك مبتسما (احسان فائق عن الحد)
اختفت ابتسامتها و امتعضت منه وهي تعود للسير تاركة إياه يضحك من خلفها، ولم يرها وهي تبتسم بحزنٍ بينما عيناها تشعانِ بشعورٍ جديد…
أغلق الهاتف وهو يضعه أمامه على طاولة الطعام دون أن ينظر إلى الجالس أمامه و الذي يرمقه بإهتمام، لكنه نظر مهتما بطعامه يعاود أكله دون أي شعور بالشهية…
قال جاسر معلقا (تبدو مكالمة مهمة)
رفع عمر رأسه ينظر الى جاسر الذي اتكأ في مقعده للخلف وهو ينفث دخان سيجارته وهو يركز النظر الى عينيه. فلم يستطع عمر اطالة النظر لأكثر من لحظةٍ وهو يعود لخفض عينيه و يقول بهدوء (صديقا يحتاج إلى مساعدة).
صمت جاسر لحظة وهو يأخذ نفسا عميقا من السيجارة ليقول مبتسما بصوتٍ لا تعبير له (تبدو كفتاة، هل أوقعت إحداهن دون أن تخبريني؟ كنت أظننا أصدقاء)
نظر اليه عمر فترة طويلة ودون أن يحيد بعينيه تلك المرة عن عيني جاسر وهو يقول بنفس هدوؤه (نحن لسنا أصدقاء يا جاسر، نحن إخوة، يجب أن تدرك ذلك جيدا).
ابتسامة مهتزة ارتسمت على زاوية شفتي جاسر بالكاد بينما عينيه لا تحملانِ أي مرح وهو يومىء برأسه قليلا، و طالت لحظة الصمت بينهما الى أن تنحنح جاسر قائلا (اذن، من تلك التي سقطت أسيرة سحرك؟، أعرف أن الفتيات يعشقن تلك الطيبة النابضة من عينيك)
ابتسم عمر ابتسامةٍ باهتة وهو يقول (بل اعتقد أن الفتيات يعشقن جنونك و حماقتك، و قلة أدبك)
ابتسم جاسر قليلا وهو يقول بصوتٍ خافت (من الواضح أنه ليس رأي كل الفتيات).
صمت عمر و نظر إلى طبقه، وصمت جاسر هو الآخر وهو ينظر اليه من بين دخان سيجارته، الى أن رفع عمر رأسه وهو يقول بصوتٍ خافت (هل نذهب؟، لقد تأخر الوقت يا جاسر و لدي عمل منذ الصباح الباكر)
قال جاسر بصوتٍ باهت (عرضت عليك اكثر من مرة أن تترك وظيفتك لتعمل معي، لكنك ترفض، دون سببٍ واضح)
قال عمر بنفس الصوت (أخبرتك يا جاسر من قبل أنني مهندس، ولست رجل أعمال).
ابتسم جاسر بوجوم وهو يقول (نعم، كما أن عملك في تلك الشركة كان نعم العون لي، حيث أنني كنت مطمئنا أن حنين تحت، رعايتك)
عاد الصمت ليلفهما وعمر يأكل ببطء دون ردة فعل ودون شهية، ثم قال أخيرا (منذ فترةٍ طويلة و أنا أريد أن أعلم حقا يا جاسر، هل كنت تأتمني عليها أم كنت تحتاج إلى من يراقبها لك؟).
ارتسمت القسوة في عيني جاسر الذهبيتين بقوة دون أن تتغير تعابير وجهه الجامدة، ودون أن يجيب لفترةٍ طويلة الى أن قال بصوتٍ خفيض خطير (لا فارق لدي، المهم أنها كانت تحت أنظارك أنت).
وضع عمر أدواته ببطءٍ على الطبق وهو يقول (اما أنا فعندي الفارق ضخم، لم أكن لأقبل أن أكون مجرد جاسوس على فتاة ضعيفة يتيمة لم ترى سوى التعاسة في حياتها، كنت مدينا لك و في نفس الوقت أشعر بضميرك المثقل تجاهها أو بمعنى أصح تجاه طفلة لم تتعدى الرابعة عشر ظلمتموها جميعكم، لذا قبلت أن ساعدك بكل قدرتي، لكن الآن)
أخذ جاسر نفسا آخر وهو يقول ببطء (أكمل يا عمر، الآن ماذا؟).
أكمل عمر بتردد (أشعر بأنني أظلمها أنا الآخر كما فعلتم جميعا من قبل، إنها مهددة و تعيش الآن في حالة من الهلع دون أن تجد القدرة أو الشجاعة على إخبار أحد، ولم يكن هذا ما أريده لها أو ما توقعت أن تقوم به تجاهها، لما لا تتركها لحياتها يا جاسر و كفى ما فعلتموه جميعا)
تواجهت نظرتيهما طويلا الى أن قال جاسر أخيرا (تبدأ حياتها، مع إنسانٍ يقدرها أكثر ربما مما قمت به أنا).
تنهد عمر وهو يأخذ نفسا طويلا متعبا، كل ما يشعر به من احساس بالذنب تجاه حنين لا يقارن بالذنب الذي يشعر به تجاه جاسر وهو يعلم بمشاعر حنين التي تظهر في عينيها الشفافتين دون القدرة على اخفائها مهما حاولت
لم يدرك أن عيني جاسر تلاحقه كعيني صقر تتربصانِ بفريسته وهو ينفث دخان سيجارته وكأنه ينفث لهبا، ملامحه جامدة، عيناه قاسيتانِ تضمانِ انكارا يناضل للخروج…
انها فرصتها الأخيرة، فإما أن تنال حلمها و تنجو من الكابوس المتربص بها، وإما، وإما لا شيء يهم بعدها، فليعلم من يعلم، لا شيئ سيهمها إن خذلها عمر، حينها لن تتردد في اخبار مالك و حتى عاصم، وليحدث ما يحدث…
حين تخسر حبها و يتحطم قلبها فما يضيرها اذن إن تهدمت الحياة من حولها…
كانت ساهمة في افكارها الحزينة وهي تتطلع الى صورته المنعكسة على شاشة حاسوبها الشخصي المفتوح أمامها…
ككل يوم وهي جالسة في مقهى العمل وقت الراحة، تختار نفس الطاولة البعيدة عن الطاولة التي يجلس عليها، حيث تجلس لتعطيه ظهرها، بينما في الواقع تراقب كل لمحة ٍ من حركاته المنعكسة على الشاشة المظلمة اللامعة من البعيد حيث لا يراها أحد…
ابتسمت برقةٍ و شرود وهي تراه ساهما، يشرب قهوته بصمت، يبتسم لمن يلقي عليه التحية فيردها باشارةٍ عسكريةٍ من اصبعين يلامسانِ جبهته…
ضحكت ضحكة صغيرة في داخلها وهي تفكر أنها نفس تحية مالك تقريبا، الجميع هنا يحبه، لا أحد يعرفه و يستطيع أن يمنع نفسه من محبته و الإعجاب به…
هل من الممكن فعلا أن يكون من نصيبها بعد أن يخلصها من تلك الكارثة التي سقطت فوق رأسها من حيث لا تعلم؟
هل من الممكن ان يتعايش و يتقبل مع ماضيها المحبط؟..
إن كان يحبها فسيتقبل بالتأكيد، لأن هذا هو الحب، واليوم ستعلم، (مرحبا حنين).
رفعت حنين الى الصوت الأنثوي الناعم المألوف لتجد رنيم واقفة أمامها من حيث لا تعلم و هي تحمل قهوتها مبتسمة و تجلس أمامها واضعة ساقا فوق أخرى بأناقة و أنوثة…
ظلت حنين تنظر اليها وهي تتخذ مقعدها دون تكليف أمامها واضعة القهوة على الطاولة وهي تبدو مشرقة منتعشة…
همست حنين بوجوم (تفضلي)
ضحكت رنيم برقةٍ وهي تبدو جميلة جذابة بشكلٍ دافىء يبعث على التأمل فيها طويلا، قالت برقة (هل أتطفل عليكِ إن جلست معكِ؟).
?ابتسمت حنين بصعوبة، فآخر ما تحتاجه الآن هو أن تتواصل مع أي انسان، لكنها همست صاغرة نافية
و كما توقعت بدأت رنيم في الكلام بصوتها الحنون الناعم، حول كل شيءٍ ولا شيء، وكأنها كانت مفتقدة للكلام طوال اليوم.
نعم، هي تعرف أن من يعمل مع عمر لا يجد الفرصة ليتنفس…
حركات أصابعها وهي تتكلم مبتسمة، تجعلها تبدو كمايسترو يقود فرقة موسيقية، وصوتها في حد ذاته يبدو كلحنٍ حزين.
لطالما أثارت اعجابها، تبدو النموذج المثالي للرقي و الأنوثة الرقيقة، تبدو ناعمة وكأن الهواء سيخدشها…
لماذا اذن الآن تشعر بذلك الشعور المقبض تجاهها؟، هل تغار منها؟، لكنها مخطوبة وهي…
هزت حنين رأسها وهي تنفض تلك الأفكار الغبية، فلتفكر في مصيبتها بدلا من تلك الحماقات التي تدور في رأسها.
عادت لتنظر الى شاشتها السوداء، لتفاجأ أن عمر ينظر باهتمام الى ناحيتهما الآن، أخفضت نظرها بسرعةٍ وكأنه قادر على رؤيتها، هل ينتظرها الآن أن تذهب اليه؟..
منذ الصباح الباكر لم تتح لها الفرصة لتتكلم معه، لا بد وأنه ينتظرها الآن، لكن كيف؟..
لماذا لم يسألها الى الآن عن مشكلتها؟، كانت تظن أنه سيهب مسارعا لسؤالها منذ أول اليوم، هل يتهرب منها؟..
عادت لتهز رأسها رفضا للفكرة…
قالت فجأة مقاطعة رنيم وهي تتحدث دون أن تشعر بشيءٍ من حولها (عذرا رنيم، يجب أن أذهب قليلا)
أومأت رنيم بدهشةٍ وهي تتطلع الى حنين التي كانت قد ابتعدت حتى قبل أن تسمع الإجابة…
تعمدت المرور من جانبه لترمقه بنظرةٍ جانبية لم يستطع أن يتفاداها، لذا تبعها بعد فترةٍ إلى أن لحق بها في الممر الطويل، التفتت اليه وهي غير قادرة على التماسك أكثر هامسة ما أن تلاقت أعينهما (عمر، عمر أنا، أحتاجك. أنا).
قاطعها عمر بصوتٍ خافت (ليس هنا، تعالي الى مكتبي)
تبعته وهي مستعدة أن تتبعه لآخر الدنيا إن أمكنها، فتح لها الباب يدعوها الى الدخول ثم لحق بها ليغلق الباب خلفه و ينظر اليها بصمت ينتظر كلامها المحتوم…
تاهت نظراتها للحظاتٍ قليلة بين لمحاتِ وجهه الحبيبة قبل أن تهمس (عمر أنا)
قاطعها عمر مباشرة وهو يشير اليها لتجلس قائلا بحزم (تفضلي اجلسي حنين، و أخبريني ما هي مشكلتك).
أفاقت حنين، هل كانت ستعترف له بحبها؟، نعم كانت ستفعل، لوهلةٍ كانت ستفعل متناسية كل ما يحيط بها، للحظةٍ نست ماضيها و حاضرها و لخصت كل حياتها في كلمتةٍ واحدة طافت على طرفِ شفتيها الناعمتين…
اتجهت الى الكرسي لتجلس بصمت مطرقة الرأس، ترى هل قرأ أفكارها؟، هل سمع كلمتها قبل أن تهمس بها؟..
اقترب ليجلس أمامها على الكرسي المقابل لها وهو ينحني الى الأمام مستندا إلى ركبتيه ليقول برقة (ما هي مشكلتك الخطيرة يا حنين؟)
همست دون أن تجد القدرة على النظر اليه مباشرة أو أن ترفع رأسها اليه (أنت، لم تهتم أن تسألني منذ الصباح).
لم تستطع النظر اليه وهي تشعر بالغباء مما نطقت به للتو، لكن حين طال صمته تجرأت و رفعت عينيها قليلا بقلق فوجدته ينظر اليها نظرة حزينة غير مفهومة، فنظرت حينها اليه مباشرة وهي تحاول جاهدة قراءة عينيه، لكنه لم يتكلم، هل هناك ما يخفيه عنها
اقتربت قليلا منه لتهمس (عمر، أنا).
فتح الباب فجأة دون انذار، ليبتعدا قليلا وهما ينظرانِ الى الباب بدهشة، فارتعبت حنين و فقدت قدرتها على التنفس فاغرة شفتيها وهي تنظر الى القامة الضخمة المحتلة لإطار الباب…
عينان الصقر متربصة بهما وقد ظهر الشر القديم و الذي تعرفه جيدا و تعرف تبعاته جيدا، دخل جاسر الى الغرفة بصمتٍ مرعب حتى اقترب منهما فظل واقفا يطل عليهما وعيناه تتنقلانِ بينهما و يديه في جيبي بنطاله الجينز…
هيئته هي تماما تلك الهيئة التي كانت تلاحق ظلها في الطرقاتِ القديمة منذ سنين، أخذ قلبها يخفق بعنف حتى أنها ظنت أنها على وشكِ الإصابة بنوبةٍ قلبية لا محالة…
لا تعلم ما الذي جعلها تنهض بتصويرٍ بطيء وهي غير قادرة على الإشاحة بنظرها عن عينيه الشرستين…
كان عمر هو أول من تمالك نفسه وهو ينهض هو الآخر ليقول بهدوء على الرغم من التوتر المحيط بهم (مرحبا سيد جاسر، تفضل).
نظر جاسر الى عيني عمر مباشرة، و طال الصمت، كلا من ثلاثتهم يحمل الكثير تجاه الآخر…
قال جاسر أخيرا بصوتٍ غامض (مرحبا يا عمر، جئت اليوم لأقابل حنين)
صدرت عنها شهقة دون صوت وهي ترفع إحدى يديها لتلمس بها صدرها اللاهث، لقد انتهت المهلة التي منحها و ها هو سيفضحها أمام عمر دونا عن كل الناس
لم يجب عمر كذلك وهو ينظر الى جاسر بقسوة وهو يتسائل الى أين سيصل بتصرفاته الظالمة…
قرر جاسر أخيرا أن يهدىء من الوضع المضني حين قال ببشاشةٍ زائفة، (حين أخبرتني أن الآنسة حنين هي من ستتولى تصميمات الدعاية لنا لأحدد موعدا و أقابلها، فوجدت نفسي اليوم قريبا من هنا لذا قررت المجيء، أعتذر عن المجيء دون موعد).
ازدادت قسوة عيني عمر وهو ينظر من خلف حنين مهددا لجاسر الذي تجاهل نظرته وهو يقترب أكثر من حنين مادا يده قائلا (جاسر رشيد، لم تتح لنا الفرصة للتعارف المرتين السابقتين، لا أحبذ الألقاب يا، حنين)
كانت عيناها الزيتونيتان متسعتانِ بذهولٍ وكأنها تتفرج على فيلمٍ ردىء الإخراج، ولم تشعر بنفسها وهي ترفع يدها دون وعيٍ منها، لتطبق يده القوية على كفها الصغيرة التي اختفت داخل يده تماما…
شعرت بقلبها يسقط بين قدميها وهو يضغط على كفها بدفءٍ باتت تعرفه جيدا، وعيناه تأسرانِ عينيها دون أملٍ في الفرار منهما.
تنحنح عمر ليقول بجفاء قاطعا هذا الصمت الجارح بقسوته (الآنسة حنين مشغولة حاليا يا سيد جاسر، لما لا أعرفك على أحد المصممين المتفرغين و سترضيك النتيجة حتما)
لم يحرك جاسر عينيه الى عمر ولو للحظة، بل اشتدت شفتاه وهو لا يزال آسرا لعيني حنين العاجزة عن النطق أو الحراك.
ثم قال بصوتٍ خفيض خطير يحمل معالم الخطر (أنا أريد حنين، أنا مصمما عليها)
شدد على كلماته مما جعلها تجفل و ترتجف، وفي تلك الأثناء كان يضغط على كفها و قد بدأ إبهامه في التحرك ببطءٍ مغوٍ على ظاهر يدها باعثا رعشة مذهلة في أطرافها، لا تعلم إن كانت خوفا أم، أم شيئا آخر لا تستطيع تحديده.
قال عمر مشددا على حروف كلماته (الآنسة حنين لديها عملا مضغوطا يا سيد جسر).
لم ينظر اليه جاسر أيضا، بل قال لحنين مدققا الى عينيها (ما هو قرارك رأيك يا، حنين،؟)
اهتزت حدقتاها أمام عينيه الذهبيتين ثم استطاعت أن تسحب يدها من كفه بصعوبةٍ وهي تردد بهمسٍ فاتر أجوف بعد فترة صمت (أستطيع، أستطيع أن أتدبر الأمر)
قال عمر وهو ينظر الى جاسر بغضب (حنين، أن كنتِ)
قاطعه جاسر ليقول بصوتٍ أوقف كل جدالٍ (لقد ذكرت حنين أنها مستعدة يا عمر، و أنا مصمما عليها دون غيرها).
ثم تابع ليقول بحزم، (لما لا ترافقيني الى مكتبك لتريني بعض تصميماتك، و سأريكِ ما أريده تحديدا)
ابتلعت ريقها وهي تتنفس هثيثا ضعيفا لا يكاد يخرج من صدرها الا وهو ممزقا لضلوعها، أومأت برأسها ببطءٍ بينما عيناها تلمعانِ بدموعٍ تدبرت بطريقةٍ ما من الا تسمح لها بالتساقط أمام عمر، وأمامه.
التفت لتنظر إلى عمر لحظة قبل أن تهمس و في حلقها غصة مؤلمة (من، من الممكن، أن يرى السيد جاسر بعض، التصميمات ليحكم بنفسه).
لم يجب عمر، ببساطةٍ لم يجد القدرة على إيجاد ما يستطيع قوله في الوقت الحالي، شعور هائل بالغضب يحرق اعصابه، واحساس بالذنب يشعره بالإختناق…
مد جاسر يده تجاه الباب داعيا حنين الى الخروج من المكتب، فأحنت رأسها و مشت أمامه تخرج في صمت دون أن تنظر الى عمر، الذي لم ينجو بدوره من نظرة جاسر الغريبة قبل أن يخرج هو الآخر خلف حنين مغلقا الباب خلفه…
شعور فظيع انتاب عمر بالضيق و العجز من ذلك الوضع اليائس الذي وُضِع فيه، لا يستطيع أن يخسر جاسر، لا يستطيع أن يخذله أبدا، المسألة ليست مجرد واجب أو دين، لكن جاسر بالنسبة له أصبح أكثر من أخٍ…
و تلك التي يعتبرها زوجته كانت على الوشكِ بأن تبوح بحبها له الآن قبل أن يدخل جاسر، رغم كل شيء يشعر براحةٍ أنانيةٍ في أن جاسر قد خلصه من عبءِ الكلمة التي كان يحضر نفسه ليتعامل معها بصبرٍ وحكمة…
لكن نظرات جاسر!، نظرات جاسر كانت كنظراتِ شخصٍ مطعون، هل أدرك؟، هل علم؟..
وحنين التي تخلى عنها بكل سهولةٍ ليرميها الى جاسر في فكرة العمل الوهمية تلك التي نطق بها، يا الهي، أنه على وشكِ الإختناق، يشعر أن جدران المكتب على وشكِ أن تطبق على صدره فخرج بعنفٍ من المكتب يريد الذهاب الى مكان، أي مكان عله ينتهي من ذلك الحمل الذي أصبح مؤلما للغاية مؤخرا…
و أثناء سيره الغاضب، شاهدها من بعيد، كانت واقفة تستمع الى الهاتف على اذنها في صمت، مستندة الى حائط إحدى الطرقاتِ، مطرقة براسها و هي تستمع و كأنها تتلقى أوامرا أو تأنيبا كطفلةٍ صغيرة…
لا يعلم لماذا استفزه مظهرها للغاية، هل بسبب ملابسها الفجة و التي رغم أنها لا تظهر منها شيئا و لكنها تظهرها كتمثالٍ منحوت، وهذا ما يشعره بالحنق للغاية كلما نظر اليها…
أم بسبب سكونها تجاه من تتعامل معه الآن؟، هل هي سلبيةٍ مطيعةٍ هكذا مع خطيبها؟، وهل هو من تتلقى تقريعه في تلك الحظة دون حتى ابداءِ رأي…
اقترب منها بخطواتٍ حازمةٍ و قد نال منه ضغط اليوم، فما أن رأته من على بعد حتى اتسعت عيناها قليلا قبل أن تهمس ببضعِ كلماتٍ قلقةٍ لمحدثها قبل أن تغلق الهاتف…
وصل عمر اليها ليقول بصوتٍ صارم (آنسة رنيم، هل يجب أن أذكرك أن وقت الراحة قد انتهى و أنك كالعادة تضيعين من وقت العمل الكثير في المكالمات الهاتفية؟)
ازداد اتساع عينيها اللوزيتين وهي تنظر اليه بنظرةٍ أوجعت زاوية صغيرة في قلبه، الا أنه تغافل عنها وهو يشعر بالغضب من كل شيء…
همست رنيم بارتباك (نعم، نعم، أنا اعتذر جدا، كانت هناك مكالمة مهمة، وكنت متجهة فورا الى المكتب).
قاطعها عمر بفظاظة (لا أريد أي أعذار، من يعمل معي لا أقبل أن يضيع لحظة من وقت العمل، حتى وإن كان قد جاء بتوصيةٍ من أكبر رأس في الدولة، وليس مجرد عاصم رشون)
فغرت شفتيها المشقوقتين بصدمةٍ وهي لا تصدق أنها تتعرض لكل هذا الهجوم بسبب دقيقتين تأخير في الوصول الى المكتب، ظلت تنظر اليه بعدم تصديق إلى أن هتف أخيرا (الي مكتبك آنسة رنيم، هل هناك ما هو غير مفهوم في كلامي).
زمت شفتيها و قد احمرت وجنتاها الكلاسيكيتان، ثم رفعت أكتافها و ذقنها وهي تقول بصوتٍ راقي منخفض (حاضر يا سيد عمر، لكن احب أن أخبرك بأن حنين قد جاءت هنا بنفس التوصية، مجرد عاصم رشوان، وأنا لا أراك تعاقبها على ذلك، بل على العكس)
ثم أعطته ظهرها تحت نظراته المذهولة من وقاحتها، و انصرفت بإباء وهي تلامس الأرض الناعمة بكعبي حذائها الرفيعين الطويلين.
كانت جالسة أمام حاسوبها المفتوح، عيناها المضيئتانِ بضوئه تلمعانِ بدموعٍ خفية وهي تنظر الى الشاشة بقلبٍ خافقٍ خوفا، تمكنت أصابعها الصغيرة بطريقةٍ ما من الوصول الى تصميماتها من مكانٍ ما لا تتذكره في جهازها…
لم يتكلم كلمة واحدة منذ أن غادرا مكتب عمر، باعثا رعبا غير محتمل في أطرافها التي باتت متجمدة كألواح الثلج، واقفا من خلفها، تشعر بنظراته تخترق ظهرها…
الى أن انحنى فجأة عليها، واضعا يدا على سطح مكتبها أمامها، بينما الأخرى على ظهر مقعدها خلف عنقها مباشرة، حتى أصبحت محاصرة به، ووجهه لا يبتعد أكثر من بضع شعرياتٍ عن وجهها، و أنفاسه الساخنة تضرب عنقها الناعمة فتكاد تحرقه، تجمدت تماما وهي تتنفس أنفاسٍ لاهثة بصعوبةٍ، ناظرة الى شاشة جهازها دون أن تتج?

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بأمر الحب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى