رواية يناديها عائش الفصل التاسع والأربعون 49 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش الجزء التاسع والأربعون
رواية يناديها عائش البارت التاسع والأربعون
رواية يناديها عائش الحلقة التاسعة والأربعون
إن استقامت علاقتك مع الله…
سيستقيم لك كل هدف 🌸
********
أغمض كريم عينيه وهو يردد الشهادة ببسالة، و انطلقت الرصاصة بسرعة البرق .. لحظات مرت عليه مرّ الساعات ليفتح عينيه ببطء.. تفاجئ بوقوع ذلك الارهابي جثة هامدة أمامه رفع بصره لأعلى قليلا، فوجد صديقه قد أسرع بإطلاق النار عليه قبل أن يصيبه.
حمد كريم ربه في صمت و شكر صديقه، ثم انطلقت باقي الكتيبة لالقاء القبض على باقي العناصر بعد أن استطاعوا محاوطتهم و جعلهم يضعون آلاتهم أرضًا.
مرّت تلك المهمة الصعبة على ضباط الشرطة بسلام، رغم اصابة البعض منهم و ثلاثة لقوا حتفهم، ولكن النصر الحقيقي هو الموت ببسالة في سبيل الوطن.
بالنسبة للكابوس المزعج الذي رواد رُميساء و تزامن مع مشهد محاصرة كريم من قبل الارهابي، لم تتعجب كثيرًا فهي في أيام الامتحانات دائمًا ما تراودها تلك الكوابيس، لم تستطيع تذكر ما رأت فقط بعض التشويش مثل وقوفها في مكان واسع لا يوجد به سكان سوى بعض الرجال يتقاتلون بالأسلحة، لا تدرِ لماذا كانت خائفة كثيرًا وهي تشاهدهم رغم عدم معرفتها لأي شخص منهم، ولكن خوفها الشديد أشبه بالمرأة التي ودعها زوجها للحرب.
نفضت تلك الافكار عن رأسها وهي تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ثم نظرت في ساعة الهاتف.. وجدت أن آذان الفجر أوشك فقامت لتتوضأ، بعد أن هاتفت روان توقظها للصلاة.
لم تكن روان قد نامت بعد، ظلت تذاكر طيلة الليل وهي تشرب كوب من القهوة يليها الآخر.. كادت أم تقوم بالاتصال على رُميساء لأنهما تعاهدان على ذلك، فوجدت هاتفها يرن باسم خصصته لصديقتها ” My sunshine شمسي المشرقة”
طمأنتها بأن نهضت لتتوضأ هي الأخرى.
و هكذا مرّت الأيام على الجميع، أيام عادية ليس بها أي مفاجآت.
طلب أُبي بأدب من والده أن ينتظر عدة أيام لينهي أعماله الشاقة بالشركة قبل أن يذهب و يتقدم للفتاة التي أخبره والده عنها.
أما قصي نشأت بينه و بين كارمن علاقة أصدقاء قوية، فكانوا يخرجون سويًا بعد الامتحانات للتنزه أو الذهاب لمقهى أو تناول الغداء في مطعم راقي معًا، استطاعت كارمن بأنوثتها الساحرة و دلالها عليه أن تحرك مشاعره تجاهها و تسلب قلبه، لقد و قع الأحمق في حُبها !
بالنسبة لسيف كان يواظب على الصلوات في وقتها و يقرأه ورده اليومي، و يجتهد في المذاكرة، فترة الامتحانات هذه ابعدت سيف عن قصي قليلا و لكنهما كانا يتقابلان بين يوم و آخر يمرحان أو يلعبان البلاي ستيشن سويًا.
جاهدت نورا في التوبة و أصبحت أفضل بكثير عن ذي قبل، فكانت تتصدق بمبلغ من مصروفها الشخصي للفقراء و تكسب الكثير من الدعوات الجميلة التي تسعدها كثيرًا.. لقد تقدم لخطبتها منذ يومان شاب متواضع الحال خلوق، ولكنها رفضت دون أن تراه معللة أنها لا تفكر في الزواج أو الارتباط الآن.
أما هاجر كانت والدتها تحضر لها وصفات تسمين و ترغمها على أكلها كلها، حتى أصبح جسد هاجر فيه زيادة ملحوظة، و لم تغفل والدتها عن احضار الفيتامينات و الزيوت التي تغذي الشعر لتستعيد هاجر شعرها الذي تساقط و الذي بدأ ينبت بكثرة عن ذي قبل.. استعدادًا للزواج.
في يوم ما أحضرت مفيدة الطعام الخاص بهاجر والذي به وصفات التسمين و لكن هاجر أبت أن تأكله فقالت والدتها باصرار
” هتاكلي و لا اكتفك و أكلك بالعافية زي ما كنت بعمل فيكِ و أنتِ صغيرة ؟ ”
تأففت هاجر لتقول
” يا ماما بالله عليكِ.. أنا زهقت من الأكل ده كده هتخن أوي ”
“هو أنتِ زيدتي غير تلاتة كيلو بس.. أنا عاوزاكِ تكون بطاية كده على ميعاد فرحك.. هياخدك نشفة يعمل بيكِ ايه.. كلي يا بت متغلبنيش ”
خجلت من حديث والدتها لتهتف بتذمر
” علفكرة بقى زياد حاببني كده.. و بعدين أنا هتخن بعد الجواز.. طب اعرف حتى البس الفستان و ابقى مرتاحة فيه ”
” شوفي.. أنتِ بنتي اهو.. بس و الله زياد صعبان عليا.. اتغذي كويس عشان تدلعي الراجل ”
نهضت هاجر باحراج لتقول هاربة من والدتها
“لأ بقى.. أنا مبحبش الكلام ده.. أنا شبعت.
بالله عليكِ سيبني اذاكر شوية.. عشان اعرف اتهنى حتى بشهر العسل من غير ملاحق ”
تركتها والدتها بقلة حيلة و انتقلت لتؤكل سيف فاستدار بكرسيه هاربًا هو الآخر
” أنا جسمي حلو مش محتاج اتخن.. ”
قالت مفيدة و هي تزفر بضيق
” هتنقطوني يا عيال بطني ”
.. كان زياد يعد الدقائق و الساعات متشوق بشدة لليوم الذي سيجتمع مع حبيبته في بيت دافئ بمشاعرهما الصادقة يحتويهما.
بالنسبة للجميع كانت أيامهم تمرّ لطيفة عليهم و عادية، و بالنسبة لعائشة و بدر مرّت الأيام عليهما بدون أن تحمل نفحة سعادة واحدة.
اختفت المشاعر الرقيقة بينهما و حل محلها الجفاء، فكان يعاملها بدر بلامبالاة و إذا تحدث معها تحدث بلهجة حادة ابكتها، حاولت عائشة بشتى الطرق ارضائه، و لكن لأول مرة يصعب عليها مراضاته.. إذا حاولت التقرب منه دفعها بعيدًا بنظرة ساخطة لا يدرِ ما هذا الجنان الذي يفعله و لماذا اصبح قلبه قاسيًا هكذا، لم يتوقع أبدًا أن يعاملها بتلك الطريقة المحطمة للقلوب.. أصبح مزاجه متقلب على مدار الساعة يشعر بأنه لا يستطيع العيش بدونها و بنفس الوقت لا يريدها أمامه، مشاعر مختلطة و مزعجة جدًا تراوده باستمرار، حتى أن الانتكاس ازداد عليه و بدلًا من عدم انتظامه في الفروض أصبح لا يصلي أساسًا و يجد سماع القرآن و قراءته ثقيلا على قلبه كأنه الجان تلبسه، كان يذهب للورشة يوميا ولا يعود إلا في وقت متأخر من الليل، يظل يعمل بجهد جهيد لافراغ كل شحنات غضبه في أي شيء يجده أمامه.
الشيء الذي يعتبر جيدًا نوعا ما في تلك العلاقة التي أصبحت سامة و غير نافعة بالمرة، أنه كان يساعد عائش في المذاكرة و لكن بمشاعر جافة، وأيضا يطمئن إذا أكلت أم لا.. كانت تكذب و تدعي أنها لا يفرق معها معاملته الجافة لتحافظ على كبريائها أمامه، ولكنه لم يكن بذلك الغباء ليصدقها، فقد خسرت وزنها الذي اكتسبته مؤخرًا في أول الزواج و أصبحت تحت عينيها هالات سوداء من كثرة البكاء و التفكير.
يأتِ بدر آخر الليل ليتسطح بجانبها على الفراش موليًا ظهره لها دون أن يلقي عليها التحية حتى، كم اشتاقت لحنانه و رقته معها اشتاقت كثيرًا لاحتوائه لها و تغزله بها، اشتاقت لكل شيء جميل كان يفعله لها أو يقوله.. سألته أكثر من مرة ما الذي غيرك تجاهي هكذا ؟ لماذا أصبحت تكرهني لتلك الدرجة ؟ ماذا فعلت لك ؟
و كعادتها يقابل أسئلتها بملامح جامدة دون رد، أو يقول أنه لم يعد مرتاح في تلك العلاقة، لا تنكر عائشة لنفسها أنها لم تعد مرتاحة أيضا ولكنها لم تكف عن محاولة استرجاعه بكل ما استطاعت.
استمرت الأفكار السوداوية تلاحق بدر أينما ذهب، أحيانًا يشعر أنه وجوده في الحياة لم يعد له فائدة و يريد الموت فيفكر بالانتحار، و أحيانًا يود الذهاب للمسجد ليشكى حالته لله، فيأتِ صوت في رأسه يخبره أن الله لم يعد يُحب لقائه.
لقد ترك نفسه لشيطانه؛ فأصابه تبلد في المشاعر تجاه الجميع و اكتئاب لازمه طوال الوقت، لم يعد يستطيع السيطرة على أفكاره و لهجته القاسية مع الناس، لم يعد يستطيع السيطرة على مرضه النفسي، لقد أفتك به الاضطراب و انتهز ابليس الفرصة ليقنعه أن حياته لا تهم أي حد و عليه التخلص من نفسه أو الابتعاد عن التوبة نهائيًا،
و الويل لمن يترك عقله للشيطان يعبث به و يحركه كالدمى متى يشاء.
وبحسب هيئة الصحة الوطنية البريطانية، تتلخص أعراض اضطراب الشخصية الحدية في: عدم الاستقرار العاطفي، الدخول في علاقات غير متوازنة، القلق من الهجر والتخلي، تبني سلوك مؤذ للذات، فضلا عن الاندفاعّ والتهور، والشعور الدائم بالاكتئاب و القلق والغضب، والمرور بتقلبات مزاجية حادة دون سبب واضح.
و كل تلك الأعراض تنطبق على شخصية بدر، كما ذكرت سابقًا، وإذا كنت تجد مشكلة في أنني لم أشخص الحالة جيدًا، فعليك الرجوع للحلقات السابقة و ستعرف أن الاعراض تنطبق انطباق تام على بـدر.
ذات يوم عاد باكرًا من الورشة، فقد شعر بالتعب من العمل الشاق، و دلف للبيت دون القاء التحية.. كانت عائشة حينئذ جالسة تذاكر على الأريكة بالصالة و أضاءت التلفاز على صوت القرآن يؤنس وحشتها.. انتبهت له فنهضت على الفور لتقول باسمة
” أنا حضرت الغدا.. اجبلك تاكل ؟ ”
” كلت برا ”
قالها بفتور وهو يتجه للمرحاض ليستحم، بينما هي عادت للجلوس بحزن فقد تعلمت صنع بعض الاكلات التي يحبها خصيصا لاسعاده، ولكنه لم يأبه البته بذلك.
انتهى من حمامه و ذهب للغرفة ليقف أمام المرآة يمشط شعره.. انتبه لملامحه التي تغيرت و تحولت و بدت قاسية للغاية بدون مشاعر و كأنه شخص آخر.. ترك المشط من يده وهو يحدق في نفسه بالمرآة، و بدأت الذكريات السوداء تظهر أمامه كشريط عرض.. تذكر كل كلمة قاسية قالها لعائشة مهجة فؤاده كما يناديها، مهجة الفؤاد أصبحت الآن شيء عاديًا بالنسبة له، رغم أن قلبه ما زال متعلق بها و لكن عقله يرفض ذلك.
تذكر أول مرة بدأت اعراض المرض تعود له ثانية بعد غياب دام ثلاث سنوات، حين جاءه رجل يشتكي من عدم اصلاح محرك سيارته جيدًا فرد بدر عليه ببرود و غلظة.
تذكر عندما علم بأمر ذهاب عائشة للمرة الثانية لأمير.
” تساءل بدر بإنفعال شديد، فأخبرته هاجر برسالة أمير وما جاء فيها.. مما جعل بـدر يجن جنونه ويظل يهذي وهو يقوم بتكسير أي شيء يراه أمـامه في حالة من الجنون والإنهيـار انتابته جعلت هاجر تهرب لغرفتها وتغلق الباب وهي تبكي مرتجفة من الخوف ومن مظهر أخيها الذي يجعل كل من يراه يبتعد فورًا حتى لا يتأذى من جنونه وغضبـه.. أخـذ يصيح في تشنج وعصبيـة بالغـة.
أخذت المشاهد تمر أمامه كأنها عرض سينمائي وهو ينظر لنفسه في المرآة بكره و بغض.. تذكر كل قول غليظ و قاسِي قاله لعائشة
“ما إنتِ لو اتربيتِ كويس مكنتيش عملتِ فينا كده.. إنتِ لعنة يا عائـشة.. وجودك لعنة معانا”
“داري لحمك الرخيص يارخيصة”
” أقسم بالله متستاهلي حُبي ليكِ.. لو أعرف انك هتطلعي واطيه كده مكنتش فكرت فيكِ لحظة”
بدأت انفاسه تعلو و بدأ الغضب يستبد به وهو لا زال يحدق في صورة هذا الشخص البغيض الواقف أمامه كأنه عدو، و الكلمات و المشاهد لا زالت تُعرض أمامه .
“– ياريتك كُنتِ مُتِ قبل ما تيجي.. مكنش حصلي كل ده.. وجودك وراني السواد اللي في الدنيا.. دي مش غلطتك لوحدك.. أنا اللي دلعتك زيادة عن اللزوم لحد ما ركبتِ ودلدلتِ رجلك.. لكن والله العظيم من هنا ورايح لأعلمك الأدب.. أنا هربيكِ من أول وجديد.. بدر الطيب الأهبل مات.. انتِ خرجتيني عن شعوري.. خلتيني مش طبيعي.. مجنون.. بس مش مشكلة.. أنا هطلع كل اللي عملتيه فيا عليكِ.. في خلال يومين.
حاول السيطرة على عصبيته، فلم يقدر.. أغمض عينيه يسترد أنفاسه بصعوبة متذكرًا حين كانت تبكي من نظراته المخيفة و تترجاه ألا يؤذيها و كان رده عليها..
“قسمـًا باللي خلقني وخلقك لو مبتطلتيش عياط لأموتك واخلـص من قرفك ”
” خسارة فيكِ الحُب والمعاملـة الكويسـة ”
نطق آخيرًا محدثًا نفسه في المرآة
“هي وثقت فيك و حبيتك.. ليه بتعاملها كده.. متستاهلش منك المعاملة دي.. هي دي الوصية اللي عمك وصهالك ؟”
ادار ظهره للمرآة يمسح على وجهه بنرفزة ثم استدار ثانيةً ليرى مشهد آخر مش المشاهد السوداء التي تسبح في مخيلته، ولكن تلك المرة يرى الجزء الثاني من شخصيته.. الشخصية الضعيفة و المهزوزة خوفا من الفراق
” .إنتِ عشان عارفة إن حبي ليكِ هو نقطة ضعفي بتعذبيني يا عائش ؟
“”أنتِ قلبي يا عائش.. مينفعش أقسى عليكِ..وجودك جنبي بيخليني أطمن.. مش عايزك تحبيني بس سيبيني أحبك.. سيبيني أعشقك يا عائشة.. فكرة إن أبطل أحبك إلغيها من قاموس حياتك.. متحاوليش تكرهيني فيكِ عشان أنا عشقت وانتهى”
ضحك ساخرًا من نفسه و هو يتذكر وقاحتها معه و معايرتها له باستمرار
“أبسط حقوقي مش عارف تعملهالي ؟ .. تمام.. تمام يا بدر.. أنا رجعت في كلامي.. مش عاوزه حاجه.. بس بشرط تسيبني في حالي.. كلامك ميمشيش عليا.. إنت جوزي قدام الناس وعلى الورق وبس.. لكن هنعيش زي الأخوات.. بمعنى أصح هتفضل ابن عمي اللي أفضالك مغرقاني لكن تعتبرني مراتك.. لأ”
“بكرهك قلت بكرهك.. وبكرهكم كلكم ونفسي أهرب من الحارة دي.. لو بس الاقي فرصة تساعدني على الهرب والله ماهتشوفوا وشي تاني”
“و أنت مالك أنت و مال أمير.. و بعدين أنت تيجي ايه جنبه..ده متعلم و هيبقى معاه شهادة تضربك بالجزمة..مش زيك أخره يصلح عربيات”
تحولت حالته من التعصب للتوتر فبدأ يحك جبهته بإِضْطِراب وهو يقول لنفسه بلوم
” ايه اللي حصلنا.. هي خلاص حبتني و بقت شيفاني أحسن واحد.. ليه بتفكر في اللي فات ؟ ”
رد على نفسه بنبرة ساخرة
” أنت مصدق أنها حبيتك ! أنت أصلًا متتحبش”
تذكر كلام لها لامس قلبه
“–عُمري ما شوفتك وحش.. أنا اللي كُنت عامية.. كنت وحشة معاك… مكنتش شايفه الحقيقة فين.. تعرف يا بدر.. أنا بطمن لما بشوفك..أحيـانـًا ببقى حزينة وتيجي على بالي فببتسم رغم حُزني”
ابتسم للشخص الواقف في المرآة يطالعه باستهزاء و لم يكن ذلك الشخص غيره.. ليحادثه بهدوء قليلا
” أنت مش عارف حاجة.. هي اتغيرت عن الأول بكتير.. أنا واثق من حبها ليا ”
رد على نفسه بخشونة
” و أنت ! واثق من حبك ليها ؟ ”
“طبعًا.. دي البنت الوحيدة اللي حبيتها ”
” فاكر نورا بنت عمك قالتلك ايه ؟ ”
تذكر بدر ما قالته نورا
” ولما أنت بتحبها أوي كده معملتلهاش فرح زي البني آدمين ليه ؟؟.. عارف ليه.. عشان متستاهلش وأنا وأنت والعيلة كلها عارفين ليه ”
_ بس.. بس اسكـت.. اسكت كفــــــاية
صاح بها، وهو يأخذ ذلك المفك على الكومود ليقذفه على صورته بقوة في المرآة مما تهشمت و تلاشت الصورة.. جاءت عائشة على الفور عند سماعها لذلك الصوت، ثم توقفت بخوف عند مدخل الغرفة عند رؤيته بتلك الهيئة المزرية.
قالت بنبرة مهزوزة
” أنت كويس ؟ ”
صرخ فيها
” أنتِ شايفه ايــه ؟؟ ”
لم تعلم ماذا تفعل، وجدت نفسها تذهب اليه و تمسك يده بحنان لتقول
“ريحني و قولي في ايه.. مالك يا بدر !”
سحب يده منها وهو يقول بسخرية
” أنتِ متاكده إن اللي واقف قدامك ده بدر ؟ ”
أومأت بعفوية وهي تنظر له بترقب و خوف
” ايوه.. أنت بدر حبيبي ”
طالعها للحظات بنظرات خالية من أي مشاعر ثم قال
“اللي واقف قدامك ده واحد تاني.. واحد لا أنا اعرفه ولا أنتِ تعرفيه.. أنا معرفش أنا مين.. أنا خسرت نفسي يا عائشة”
مدت يدها تمسد على ذراعه بلطف قائلة
“قولي بس ايه اللي تاعبك.. أكيد حاجة حصلت خليتك كده ”
” حاجة واحدة بس !.. حجات كتير خلتني سيء لدرجة لا تطاق.. أنا كرهت نفسي.. مبقتش عارفة أنا عايز ايه و بعمل ايه و ليه حياتي بايظة كده ”
ردت بصوت حنون و هادئ تحاول امتصاص غضبه
“أنت ليه مبقتش بتصلي ؟”
ابتعد عنها بضع خطوات ليقول ساخرًا
” عشان ربنا مش هيقبلني بكل القرف اللي أنا فيه ده ”
” مين اللي قالك كده.. جرالك ايه يا بدر.. ربك رحيم بعباده بيحبهم مرحب بيهم في أي وقت حتى لو غطيتك الذنوب و الهموم و قولت يارب بيفرج همك و يغفرلك.. اسمه الغفور الرحيم.. ازاي مش هيقبلك ! ”
تنهد طويلًا قبل أن يقول بنبرة يائسة
” أنا مش مرتاح في حياتي يا عائشة.. صمت لثوانِ ثم تابع بصوت منكسر ” مش مرتاح في العلاقة دي.. اللي احنا فيه ده مش جواز ”
اقتربت منه لتناظره بضعف و بعيون دامعة قالت
” زهقت مني ! من عائش ! ”
ولى ظهره لها قائلا بجمود
“دي المشكلة.. إني بحاول اهرب بس مش عارف.. مش عارف عشان قلبي متعلق بيكِ.. بس مش قادر أكمل في علاقتنا.. أنا تايهه و محتار و مش عارف ايه القرار المناسب لينا ولا عارف اعمل ايه و اتصرف ازاي ”
نظرت عائشة له بقلة حيلة دون أن تتفوه بشيء، و كأن لسانها ثقل عن الكلام، لقد انطفأ كل شيء، قصة الحب العظيمة التي تناقلتها الألسن عن هذين العاشقان باتت الآن رماد، لا تساوي شيء، بهت الحُب بينهما و اختفى الشغف في قلوبهما و السبب ما زال مجهولًا لعائشة، أما بدر كان يرى أنه أخطأ خطأ فادح عندما علقها به و تزوجها دون أن يكمل علاجه النفسي، ما ذنبها فيما يحدث له من اضطرابات تشبه السفينة بدون قبطان في بحر هائج !
تحررت من لسانها المكبل لتقول ببرود مماثل
” أنا كمان شايفه كده.. مش هنكر إني اتعلقت بيك.. بس عندك حق.. العلاقة دي متنفعش.. اللي احنا فيه ده مش جواز.. دي ملحمة و دوامة احنا تهنا فيها و مش عارفين نخرج ازاي ”
أومأ بتجاوب مع كلامها وهو يعيد النظر اليها
“من يوم ما بقينا مع بعض و المشاكل بتكتر زي ما يكون ربنا مش مبارك في العلاقة دي.. نفسيتي بتسوء يوم عن التاني و مش عارف أعمل ايه.. شايفك بتتعذبي بسببي و مش قادر أداويكِ زي الأول ”
” بدر.. أنت بتفكر في الفراق ! ”
ابتلع ريقه ليخيم عليه الحزن قائلا بصعوبة
” يمكن يكون هو ده الحل.. يمكن يكون الفراق هو اللي هيرجعنا أحسن و يشفي أوجاعنا.. الفراق صعب على اتنين بيحبوا بعض بس أحيانًا بيكون هو الحل الأنسب.. الحُب مش كل حاجة ”
هزت رأسها بإيماء و بداخلها تعتصر من الألم
“عندك حق.. الحُب مش كل حاجة”
لمح في عينيها الدامعة نظرة انكسار فقال بمواساة
“أنتِ متستاهليش العيشة دي.. أنتِ تستاهلي كل حاجة حلوة.. و أنا مش هقدر اقدملك السعادة تاني.. مش هقدر اسعدك و أنا ضايع كده يا عائشة.. محتاج ابعد عشان أفوق و اطلع من المتاهة دي.. تستاهلي حد كويس زيك يسعدك و يعيشك اللي أنا مقدرتش اعيشهولك ”
رغمًا عنها انسابت الدموع من عينيها، و ارتمت في احضانه تتشبث فيه بقوة قائلة
” أرجوك متبعدش.. مش هقدر أكمل حياتي من غيرك.. أنا بحبك يا بدر.. و الله بحبك ”
” و أنا كمان بحبك.. بس من غيري حياتك هتبقى أحسن بكتير.. أنا يهمني سعادتك و سعادتك مش مع بدر يا عائشة ”
قالها وهو يبعدها عنه برفق؛ حتى لا يضعف أمامها، ثم تركها في حالة من التشتت و الضياع و خرج.
و تمرّ الأيام القاسية عليهما يوم يليه الآخر ينتظر كل طرف أن يبدأ الآخر بأخذ القرار، ألا وهو الفراق الأبدي.. بالمختصر البسيط ” الطلاق ”
انقضى شهر الامتحانات سريعا و انهى جميع الطلاب بمختلف المراحل التعليمية امتحاناتهم.. و آتى الأسبوع السعيد على عائلة الخياط.. الجميع يستعدون لحفل زفاف فتاة العائلة الرقيقة و الرجل العاشق البشوش.
اليوم هو أول يوم في أسبوع العرس و الزفاف سيتم في نهاية الأسبوع.. جاء باقي أفراد العائلة ليحتشد الفتيات في بيت هاجر و أهاليهم في بيت زياد، في تلك الأيام التي مضت حاولت عائشة بكل قوتها ألا تدع شيء يؤثر على ملامحها أمام الجميع و يجعلها تبكي فتفسد فرحتهم.. لم تترك هاجر ساعة واحدة كانت تذهب معها لكل مكان لشراء اللوازم و الاغراض المتبقية، وجدت في مرافقة هاجر الهروب من المشاعر المؤلمة التي تداهمها.
في احدى الامسيات التي تجتمع فيها الفتيات يتراقصن بفرح مع بعضهن.. دخلت مفيدة قائلة لهاجر بنبرة سعيدة للغاية
” أنا كلمتلك واحدة بتعرف ترسم حنة.. جاية كمان شوية ”
رمقتها هاجر بدهشة هاتفة
” أنا لا يمكن أكشف جسمي على حد ! ”
ردت الأم بعفوية
” دي واحدة زيك ”
” لأ يا ماما.. مينفعش.. حرام.. أنا اصلا مبحبش الحنة ”
تدخلت عائشة لتقول بسرور
” خلاص مش لازم تكشفي جسمك.. ممكن ترسمي على ايدك.. او رجلك أو على رقبتك ”
فكرت لثوانِ فقاطع تفكيرها صوت والدتها تقول بحسرة
” عيني عليك يا زياد.. ربنا يعينك يابني ”
ضحكت عائشة و هاجر لتقول الأخيرة
” أنا معرفش هي أمي و لا أمه.. و الله يابنتي بقالها شهر على الحال ده كل شوية تقول عيني عليك يا زياد.. هو كان زياد اشتكالها ! ”
تبسمت عائشة مردفة
” مامتك عايزاكِ تكوني أحسن واحدة.. هي أكيد عارفة إن زياد بيحبك و مش فارق معاه حنة ولا غيره بس هي فرحانة مش مصدقة انك خلاص هتجوزي و تسبيها ”
“هو أنا يعني ههاجر.. البيت جنب البيت.. و أنا هجيلها كل يوم اقعد معاها شوية ”
سمعتها والدتها فصاحت باعتراض و بنبرة ضاحكة
” هو أنا بجوزك عشان تيجيلي كل يوم !.. و بعدين أنتِ عايزة زياد يطلعني من الحارة و لا ايه.. ده مش بعيد يحبسك في الشقة منشوفكيش غير كل سنة مرة ”
” اه والله يا ماما.. أنتِ بتقولي فيها ”
قالتها هاجر وهو تبتسم بخفوت، بينما عائشة كانت تطالعها بسعادة، و لأول مرة لم تشعر بالحقد تجاهها لما تتلقاه هاجر من اهتمام بالغ من العائلة و فرحة الجميع بها.. شعرت عائشة أنها أخت لها و تستحق كل تلك السعادة، دعت لها في نفسها أن يدم الله سعادتها مع زياد و يعطيها اشارة واحدة لتعرف هل أصبح الطريق مسدود في علاقتها مع بدر أم تحاول محاولة أخيرة ؟
*******
اتفق سيف و قُصي على الخروج سويًا للحديقة؛ لقضاء بعض الوقت الترفيهي بعد شهر الامتحانات المتعب..
و في نفس اليوم اتفق كل من أسرة روان الصغيرة و كذلك رُميساء على أن يلتقون في الحديقة الواسعة بالمنصورة و التي يقصدها جميع العائلات في الاجازة للتنزه.
قد جاء والد رُميساء من سفره منذ أسبوع، و حكت له ابنته عن صديقتها روان التي أصبحت فرد من العائلة، و كذلك حكت روان لوالدها عن أسرة رُميساء الطيبة.. لم يكن حافظ يعرف مصطفى شخصيًا ولكنه سمع عنه و عن عائلته من روان، فوافق على تلك المقابلة.
أعدت العائلتين اللازم للجلوس في الحديقة، من مفرش كبير يتسع لهم و حافظ للشاي و الطعام و بعض التسالي.
ارتدى سيف و قصي أجمل الملابس عندهما فرحين بانتهاء العام الدراسي ثم توجهوا نحو الحديقة بعد أن استأذن قصي والده في أخذ السيارة ووافق بشرط أن يقود بتمهل.
وصلت أسرة رُميساء و روان للحديقة، و بعد أن رحبوا ببعضهم بحثوا عن شجرة كبيرة ظلها ممتد ليجلسوا تحتها، وبعد لحظات لمحت رُميساء شجرة ظلها يسع لهم، و توجهوا جميعا اليها لتفرش الفتيات المفرش الكبير، ثم جلسوا في جو يسوده الألفة و البهجة، يتبادلون فيما بينهما أطراف الحديث.
سألت والدة رُميساء زوجة والد روان بابتسامة بشوشة
“دلوقتي بقيتي في الشهر الكام ؟”
” داخله على شهرين اهو ”
” ربنا يتمملك على خير و يرزقك باللي نفسك فيه ”
” نفسي في ولد ”
رمقتها روان بدهشة، فهي تعلم جيدًا أنها تعشق البنات.. قالت الزوجة وهي تبتسم لروان بحنان
” أنا ربنا رزقني بأجمل بنت في الدنيا.. عايزه بقى الولد ”
بادلتها روان الابتسامة بسعادة، و عيناها تشكرها بامتنان في صمت على معاملتها كإبنة لها.
استأذنت رُميساء من أبيها و من والد روان أن يذهبا للتمشي قليلا فوافقا الوالدان.
كانتا تأكلان الترمس و تتسامران و تضحكان بصوت منخفض..
في الجهة المقابلة لهن عن قُرب، كان قصي يدفع الكرسي المتحرك بسيف وهما يلعقان الأيس كريم..
أمره سيف بالتوقف فورًا عند رؤيته لروان، فتوقف قصي وهو لا يفهم أي شيء.
سال الأيس كريم على يد سيف وهو يصوب نظره لها بدهشة وما هي الا لحظات و تلاشت معالم الدهشة لتتحول لنظرات حُب و اشتياق و سعادة من رؤيتها بعد كل تلك المدة.
كانت تضحك بخفة مع صديقتها حتى توقف بها الزمن للحظات حين لمحت عيناها وجود سيف على مقربة منها يُحدق فيها باسمًا.
اضطربت انفاسها و اكتسى الخجل وجهها وهي تسحب رُميساء من يدها وتذهب في صمت تام.
تابعها سيف بعينيه المشتاقة لها حتى اختفت من أمامه، بينما روان حاولت التكلم و لكن من فرط الخجل و الصدمة من رؤيته، تخرج الحروف متقطعة.
قالت رُميساء بشك
” ده سيف.. صح ؟ ”
أومأت روان لتقول بعد أن انتظمت انفاسها
” هو.. هو يا رُميساء.. بس مش ده سيف اللي عرفته من سنتين.. ده واحد تاني.. واحد تحسيه كده بقى هادي زيادة عن اللزوم.. أنا السبب في عجزه ”
قالت آخر جملة بندم، فأردفت رُميساء تهدئها في الحال
“احنا مش اتكلمنا في الموضوع ده كذا مرة و قولتلك هو غلط و ده جزاءه !”
” ايوه.. بس صعبان عليا ”
“خلاص ادعيله ربنا يشفيه.. لكن اوعي تسمحي لنفسك تضعفي تاني و ترجعي تفكري فيه ”
هزت رأسها بنفي لتقول بابتسامة بسيطة
” هو أصلا مبقاش في دماغي عشان أفكر فيه ”
أما سيف ظلت تلك الابتسامة الجميلة تملأ وجهه.. تساءل قصي بعدم فهم
” مين دول ! ”
ثم هتف سريعا.. ” هي دي بقى روان !! ”
أومأ سيف ليقول بهدوء
” المختمرة تبقى روان ”
رد قصي بتعجب
” بس دي شكلها محترم أوي.. ازاي كنتم تعرفوا بعض وهي أول ما شافتك خدت صحبتها وفص ملح وداب ! ”
” ما هو ده حال اللي يتوب ويقرب من ربنا.. بيبقى خايف يعمل أي حاجة تغضبه.. وروان تابت توبة نصوحة وهي السبب في إني افوق لنفسي و ارجع لربنا ”
صمت للحظات ثم تابع بابتسامة صافية
“أنا فرحان ليها أوي.. فرحان على الحالة اللي هي وصلتلها.. فرحان إنها قدرت تتغلب على فتن الدنيا و تبعد عن أصحاب السوء.. فرحان إنها فاقت لنفسها.. رغم انها وحشتني أوي و نفسي اسمع صوتها بس كفاية إني شفتها سعيدة و الرضا باين على ملامحها.. ده كفيل يخليني مرتاح و في منتهى السعادة.. ربنا يرزقها باللي يسعدها يارب”
نظر له قصي بدهشة قائلا
” أنت بتدعيلها تبقى لغيرك ! ”
” اللي بيحب حد بيبقى عاوزه مبسوط.. سواء كان معاه أو مع حد تاني.. وهي مش من نصيبي فليه مدعيش انها تلاقي الشخص المناسب اللي يعوضها عن كل حاجة وحشة شافتها ! ”
” ومين قالك انها مش هتبقى من نصيبك ؟ ”
نظره له قصي ليقول ساخرًا
” و أنا هلاقي فين واحدة ترضى بحالتي دي ! حتى لو واحدة وافقت عليا و أنا بالشكل ده مش هرضالها تتحمل فوق طاقتها و تتجوز واحد عاجز مش عارف يمارس أبسط حقوقه وهي إنه يغير هدومه.. أنا أصلا مش هتجوز.. الفكرة دي لغيتها من دماغي.. أنا راضي بقضاء ربنا.. هعيش اعبده و اركز في دراستي و خلاص ”
اخرج قصي منديل من جيبه ليمسح له يده من أثر الايس كريم وهو يقول
” بطل تشاؤم.. أنت نسيت أنت مين ولا ايه.. يا بني أنت لو قولت بس يا جواز هتلاقي ميت واحدة بتقولك اتجوزني.. كفاية عنيك الحلوة دي بس مش أحلى من عيني طبعا ”
ضحك سيف قائلا
” طب يلا يا ظريف.. طلعنا من الحديقة دي و تعالى نقعد في كافيه ”
***
مرّ يومان و اقترب ميعاد الزفاف أكثر، تم الانتهاء من افتراش شقة هاجر و زياد لتصبح رقيقة وجميلة جدًا، فهذا ذوق الوردة كيف سيكون مثلًا ؟
استأذنت عائشة لتذهب و تنظف بيتها؛ حتى إذا أراد أحد المبيت ولم يجد مكان عند بيت العروسين.
بعد ساعتين انتهت من تنظيف الصالة و المرحاض و المطبخ ولم يتبقى غير الغرف.. بدأت بغرفتها و التي يشاركها بدر فيها.. بدلت مفارش الفراش و اتجهت لترتب خزانة الملابس الفوضوية، و أثناء الترتيب لمحت بنطال أسود لبدر موضوع بطريقة مختلفة عن باقي السَرَاوِيْل الأخرى.. أخذته بعفوية لترى إذا كان متسخ فتغسله و إذا كان نظيف تتركه.. فتشت جيوبه لتجد ورقة بداخله.. أخرجتها و بدأت بالقراءة..
” تلك الورقة هي وصية والدها ”
كانت تقرأ و الدموع تتقطر من عينيها، حتى وصلت لجملة ” وأرض الكباريه اتبرعوا بيها و اعملوا مسجد ”
” عائشة أمانة في رقبتك يا بدر خلي بالك منها ”
دار شريط الذكريات في ذهنها سريعا لتتذكر كل شيء بالعرض البطيء..
في ذلك اليوم عندما جاء زياد للبيت و أخبر والدها أن أرض الكباريه يريد أحد شرائها، وعندما ارادت الاستفسار من بدر توتر و ارتبك، متهربًا من الإجابة.
ما قصة تلك الأرض التي يتحدثون عنها ؟
و هل تزوجها بدر من أجل تنفيذ وصية عمه فقط ؟
تردد هذا السؤال في رأسها، فظلت تفكر كثيرًا كيف تجد الإجابة، لن يهدأ لها بال إلا إذا عرفت بأمر الكباريه و الأرض الخاصة به.
ذهبت لغرفة والدها على أمل أن تجد الإجابة هناك.. أخذت تفتش في أدراج الكومود فلم تجد شيء.. فتحت دولابه وبعد البحث لمحت صندوق صغير مغلق بقفل حديد وموضوع أسفل الفراش و عليه بعض الأقمشة تخفيه عن الأعين، لم يكن والدها ذكيًا كفاية ليخفي الصندوق في مكان آخر لا تسطيع ابنته الوصول اليه.
كسرت عائشة القفل بآلة حديدية بعد الضرب عليه عدة مرات، و أخرجت عدة أوراق بالية و هاتف بأزرار، والذي جذب انتباهها هي تلك الأجندة الصغيرة و التي تبدو كأجندة المذاكرت.
فتحت عائشة الأجندة و بدأت تقرأ.. كان والدها مثل بعض الأشخاص الشغوفين بكتابة كل شيء يحدث معهم و الاحتفاظ بأسرارهم في مذكرات، ولم تكن عائشة على علم بذلك الشيء.
بدأ التوجس يختمر بداخلها وهي تكمل القراءة بوجه متلون من الصدمة، كتب والدها كل صغيرة و كبيرة في تلك الأجندة منذ أول يوم التقى بالراقصة ” ناهد و المعروفة بـ ناني ” سحرته بجمالها و رقتها و رقصها المثير فوقع في حبها و حملت منه دون زواج وعندما خاف محمود من الفضيحة كتب عليها و جاء بها للعيش وسط أهله و اخبارهم أنه تزوج في القاهرة بفتاة أحبها و هي الآن حامل في أول مولود لهم.
ظلت ملامح عائشة مشدوهة للدقائق مصعوقة مما قرأت و هي تتمتم بصدمة
” رقاصة ! ماما كانت رقاصة !! و أنا.. أنا بنت حرام !! يعني أنا كنت جريمة و فضيحة بالنسبالهم فاتجوزوا عشان يداروا على فضيحتهم ! يعني أنا جيت غلطة !! ”
ضحكت بسخرية و بدأت بالبكاء هاتفة ، بعد أن بات كل شيء واضح أمامها
“عشان كده كلهم كانوا بيعاملوني وحش.. عشان أنا غلطة.. و لما بابا مات بدأوا يعاملوني حلو.. بدأوا يشفقوا عليا عشان اتيتمت !!
يعني محدش حبني عشان أنا عائشة ! محدش حب عائشة.. كلهم بيشفقوا عليا.. و بدر زيهم ولما زهق اخترع قصة الفراق و اننا معدناش ننفع لبعض.. أنا كده فهمت كل حاجة ”
عاودت قراءة الباقي وهي تحاول منع نفسها من البكاء، فلا أحد يستحق الآن أن تبكي لأجله عليها أن تكون قوية لتسند نفسها دون مساعدة من أحد ثانيةً..
اتضح من باقي المذكرات أن محمود و ناهد اشتروا أرض و قاموا ببناء كباريه عليها دون ترخيص، فعرفت الحكومة بالأمر و هدمته و بقيت الأرض فقط..
عرفت عائشة أيضًا أن والدتها ماتت في حادثة وهي عائدة للبيت بعد أن رقصت لبعض الاكابر لساعات و محمود يرافقها في كل شيء غير ممانع ما تفعله، قبل أن يتوب إلى الله كان ديوث لا يهتم لأمر رقص زوجته بنصف جسدها العاري أمام الغرباء.
جلست في مكانها مصعوقة من اعترافات والدها في تلك المذكرات اللعينة، ثم القتها من يدها و هي تنتحب ببكاء لم تستطيع منعه، لقد دفنوا الحقيقة عنها لطيلة عشرون عام !
بعد أن هدأت قررت ألا تمكث في تلك الحارة دقيقة واحدة، لم تعد بحاجة للمكوث معهم، الرجل الذي أحبته بصدق يطلب منها أن يفترقا و أساسا العائلة لا تهتم لأمرها كثيرًا، فلماذا ستبقى !
هل ستبقى سجينة هذه الحارة للأبد، الجميع ينظرون إليها نظرات مليئة بالشفقة و أحيانًا بالامتعاض و البُغض تشعر كما أنها جسد بلا روح بينهم، بعد أن باحت تلك المذاكرات بكل الأسرار لن تستطيع النظر في عينهم ثانيةً مثل باقي بنات عمها، بعد أن عرفت الحقيقة المُرة كاملة لم تعد ترغب إلا في شيء واحد، وهو مغادرة تلك الحارة فورًا.
الأمر الجيد الذي راق لها من تلك الاعترافات، أن جدها و جدتها ما زالا على قيد الحياة ولم يموتان مثلما أخبرها والدها؛ خوفًا من أن يخبروها بشيء تخص والديها..
عائلة والدتها عائلة طيبة و خلوقة و ناهد هي الضلع الأعوج فيهم، أحبت الفن من صغرها و أصرت أن تصبح راقصة فتبرأت منها عائلتها.. و لكن هل سيقبلوا بإبنتها وسطهم أم سبرفضونها هي أيضًا ؟
دار هذا السؤال رأس عائشة فقالت لنفسها
” أنا مش وحشة زي ماما و لا عمري هبقى زيها.. أنا دوقت حلاوة القرب من ربنا ولا يمكن اسمح لنفسه أرجع لنقطة الصفر تاني ”
اتخذت القرار وهو الذهاب لعائلة والدتها التي لم يروها ولم تراهم اطلاقًا، و لكن عليها أولا البقاء لحين انتهاء زفاف زياد و هاجر؛ حتى لا تضيع و تفسد سعادتهم، ودت أن ترحل تاركة ذكرى جيدة لهم عنها، أن ترحل بهدوء دون افتعال المشاكل.
أخذت الصندوق و قامت باخفائه ولم تخبر بدر بأي شيء.
***
اليوم هو حفل الزفاف.. الجميع في قمة سعادتهم
ارتدت هاجر حجاب فضفاض على فستانها الرقيق و كانت جميلة للغاية تلفت الأنظار برقتها وحيائها، ولم يكن زياد أقل وسامة منها بتلك البدلة الأنيقة التي زادته جاذبية.
ابتسامة جميلة زينت ثغره وهو يسحبها من يدها برقة و يدلفان لقاعة الزفاف الاسلامية، كان عُرسًا متواضعًا للغاية.. أوصلها زياد لمكان جلوسها ثم قبْلها برقة من جبينها، و اتجه ليجلس في المكان المخصص للرجال.. انفصل الرجال عن النساء و بدأت الفتيات بجذب هاجر للرقص وسطهن و هنّ يتمايلن على الدف الاسلامي و الاناشيد الرائعة للعروسين.
لم يلاحظ أي حد حزن عائشة؛ لأنها اصطنعت باحترافية السعادة و كذلك بدر.
انتهى الزفاف، و اتجه زياد و بيده هاجر لبيتهما بمرافقة زفة متواضعة وسعيدة من عائلته.
وقفت هاجر خلفه تفرك يديها بتوتر و خجل شديد بينما هو يفتح باب شقته متمتمًا بسعادة طغت على ملامحه
” بسم الله الرحمن الرحيم “و بدأ يردد الأدعية التي تجمع لهما البركة في حياتهما الجديدة.
استدار ليطالعها بنظرات عاشقة، فأشاحت بوجهها في الحال و ازداد خجلها.. قال برقة وهو يسحبها بلُطف من يدها للداخل
” آهلًا بأجمل حاجة حصلتلي في حياتي.. آهلًا بوردتي الجميلة في بيتي.. اللي هو بيتك ”
ابتسمت برقة و هي لا زالت تشيح بعينيها عنه، لم يتردد زياد لحظة و انحنى ليحملها، فأوقفته فجأة وهي على وشك البكاء كالأطفال
” لا بالله عليك.. ترضى حد يشيل اختك ؟.. بص أنا مبحبش اتشال.. أنا مرتاحة كده والله ”
حاول كتم الضحك على شكلها و لكنه لم يستطيع.. غمز قائلا
” حاضر.. زي ما تحبي ”
حملت ذيل فستانها على ذراعها وهي تتوجه للغرفة و تقول بصوت مرتبك
” أنا هغير الفستان و ألبس اسدال الصلاة عشان نصلي.. ممكن توعدني متدخلش و أنا بغير ؟ ”
أومأ ببراءة
” بس كده.. من عنيا حاضر ”
صدقته المسكينة، و دلفت لتخلع فستانها.. لحظات و فوجئت به يدخل وهو يخلع جاكيت بدلته قائلا بنبرة مرح
“أنا محترم و مش هبص.. أنا جاي أغير بس والله”
كانت قد نزعت الحجاب ولم تكن قد خلعت الفستان بعد.. فأردفت بغيظ
” طيب.. دقيقة و تكون برا ”
تأمل شعرها للحظات فلمح رسمة حناء على شكل فراشة أسفل أذنها و واصله لرقبتها.. قال منبهرًا من جمالها
” أمي دعتلي نفس الدعوة اللي أم محمد صلاح دعتهاله ”
استطاع اضحاكها، فاتجهت على مضض لخزانة الملابس و أخرجت له تي شيرت و بنطال بيتي قائلة
” خد لبسك و اتفضل اطلع يلا ”
” دلوقتي بتطرديني.. بكره هتمنعيني أروح الشغل ”
قالها بغرور مزيف وهو يخرج ليبدل ملابسه في غرفة أخرى.
توضأت هاجر رغم أنها على وضوء منذ ذهابها لمركز تزيين العرائس، ثم ارتدت اسدالها و كذلك بدل زياد ملابسه و توضأ ليقيم بها الصلاة.. دعيا الله أن يبارك في حياتهما و يرزقهما الذرية الصالحة.
سلم زياد عن يمينه و شماله ثم استدار ليبتسم لهاجر فبادلته الابتسامة بحُب و سعادة ثم أخفضت رأسها خجلًا من نظراته.
لاحظت اقترابه منها فتراجعت للوراء وهي تفكر في الهروب، نهضت هاربة سريعا للغرفة.. آتاها صوته المرح يقول
” أنتِ مفكراني غبي ! ده أنا وكيل النيابة زياد بيه الخياط اللي عمري ما حققت في قضية و خسرتها.. فاكرة إني هسيب المفاتيح في البيبان !
كنت عارف إنك هتهربي مني.. المفاتيح كلها شيلتها في مكان مش هقولك عليه ”
رغمًا عنها ضحكت باستسلام.. لتخرج بعد لحظات بعد أن ارتدت بيچامة عليها سبونج بوب و في رأسها خطة جديدة.
طالع زياد البيچامة ضاحكًا بسخرية
” يعني أنا أصوم لحد ما يبقى عندي ٣٢ سنة و افطر على سبونج بوب !! ”
هتفت بحماس لتعيق تفكيره
” في فيلم حلو أوي هيجي دلوقت.. تعالى نتفرج عليه ”
تلك المرة قبل أن تهرب منه لحق بها و حملها رغمًا عنه ليقول بسعادة
” متحاوليش تهربي.. عشان مش هتعرفي ”
كانت تلك الليلة واحدة من أجمل الليالي على عائلة الخياط، التي بات الجميع فيها سعداء إلا اثنين فقط.
مرّ أول أسبوع في حياة هاجر و زياد بسرعة دون أن يشعران؛ لبهجته و لسعادتهما التي لم تفارق قلبيهما طوال الأسبوع.. و جاء اليوم لزيارة بيت الله و أطهر بقاع الأرض.
أوصلهما بدر و أُبي للمطار بعد أن ودعوا الجميع.
و حان الوقت لتنفيذ القرار و انتهاز عائشة فرصة انقضاء العُرس.
قررت المواجهة و اخبار بدر بمذكرات والدها.. ذهبت اليه وهو يشاهد التلفاز بملل و اغلقته ثم وقفت أمامه بفتور قائلة
” ليه مصارحتنيش بالحقيقة من الأول. ليه سبتني عاميه كل ده.. عايشه معاكم زي المغفلة ؟ ”
لم يفهم بدر المغزى من حديثها، فوضعت عائشة المذكرات أمامه بتعصب مردفة
” بابا كان بيكتب كل حاجة بتحصله.. و أنا عرفت كل حاجة يا بدر.. و قرأت الوصية.. عرفت أنت اتجوزتني ليه.. و ليه الكل كان بيعاملني بالقساوة دي و بيتجاهلوا بابا ”
لم يكن رده عليها هو الرد المتوقع، قال ببرود
” كويس أنك عرفتي بنفسك.. لأني كنت شايل حمل اعرفك ازاي ”
ضحكت غير مصدقة
” يعني أنت فعلا اتجوزتني عشان تنفذ وصية بابا !! و حُبك ليا حُب شفقة ؟؟ ”
صمت للحظات ثم قال متنهدًا
” لأ.. اتجوزتك عشان بحبك ”
هزت رأسها بعدم تصديق، فهي لم تعد تبالي بأي شيء.. تريد أن ترحل فقط من هنا للأبد
” أنت كان عندك حق لما قولت إن الفراق هو الحل.. علاقتنا دي مش نافعة…أنا بطلب الطلاق يا بدر ”
” و أنا موافق ”
رمقته بصدمة، فنهض ليقف قبالتها ثم انحنى عليها يطبع قُبلة عميقة على جبينها تحت نظرات الدهشة منها ليقول
” أنا محبتش غيرك و لا هحب.. كنت أتمنى نفضل مع بعض دايما.. بس للأسف النصيب مش عاوز.. كان لازم أسيطر على مشاعري عشانك.. أنتِ فعلا تستاهلي حياة جديدة.. أحسن من دي بكتير ”
لم تستطيع منع نفسها من الانهيار و البكاء في صمت.. تابع بنبرة منكسرة
“المأذون على أول الشارع.. اجهزي على ما اتصل عليه يجي”
” بس أنا مش هعيش هنا ”
” يعني ايه ؟ ”
قالت و هي تمسح دموعها
“هعيش مع جدي و جدتي”
أومأ دون تفكير، فهذا الأمر في صالحه ليجعله يستعيد نفسه بسهولة، لأن وجودها سيسبب له الارهاق و الاشتياق لها بين الحين و الآخر.
أخبر العائلة بالأمر ولم يخبر زياد ولا هاجر.. بالطبع صعق الجميع كيف لهما أن ينفصلان و يبتعدان عن بعضهما و لا أحد يطيق فيهما العيش دون الآخر !
حاولوا التدخل لاصلاح الأمر وجدوا أن الاثنين قد عزما الطلاق و الأمر منتهى..
قبل أن تدخل عائشة للمأذون..آتاها بدر يتأملها بملامح حزينة منطفئة، كانت تحاول جاهدة ألا تبكي.. بادلته النظرات بانكسار و ضعف، فجذبها اليه يعانقها بقوة آخر عناق سيختم علاقتهما.. عانقته عائشة بقوة مماثلة ثم بكت بين ذراعيه.. مسح لها دموعها ليقول بابتسامة مزيفة
” خلي الذكريات دي تقويكِ مش تضعفك.. خليكِ قوية يا عائشة.. أرجوكِ بلاش تبكي ”
أومأت في صمت ثم قالت
“هتوحشني أوي يا بدر”
” مش أكتر مني و الله.. بس غصب عني ”
قالها وهو يعود لمعانقتها ثانيةً، و بعد لحظات دلفا للمأذون و قبل أن يقول بدر يمين الطلاق.. نظر لها نظرة أخيرة هامسًا بصوت سمعته هي فقط
” خلي بالك من نفسك.. متفكريش غير في نفسك”
ثم أخذ نفسًا عميق و قال بحزن
” أنتِ طالق يا عائشة ”
لم تنتهي قصة عائشة و بدر بعد، القصة لم تبدأ بعد يا عزيزي .
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)