روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الحادي والأربعون 41 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل الحادي والأربعون 41 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان البارت الحادي والأربعون

رواية ماسة وشيطان الجزء الحادي والأربعون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الحادية والأربعون

4=(الطيف الرابع)
======الجزء الاول = ج 1/
للجميع@
_يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ..أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين .
يتمتم بها إبراهيم بخشوع وهو ينهي
تلاوة أذكار الصباح في المسجد .
كعهده يمكث في مصلاه بعد الفجر حتى الشروق تالياً وِرده وأذكاره قبل أن يصلي ركعتي الضحى ..
لكنه يزيدههما هذا اليوم بركعتين لقضاء الحاجة وهو يشعر بانقباض صدره دون أن يدري ما السبب ..
أو لعله يدري ولا يريد الاعتراف!
هذه “الكارثة” البشرية التي وقع هاتفها في سيارته والتي تريد أن تلقاه كي يعيده لها !
أمر بسيط لا يستوجب كل هذا القلق فلماذا يشعر قلبه إذن أنه مشرفٌ على مصيبة ؟!
يعلم أن المرأة فاتنة ..لكن أيدعو هذا لكل هذا الخوف من لقائها؟!
ليس شكلها فحسب ..
صوتها الذي سمعه على الهاتف ليلتها كان أشد فتكاً من صورتها ..
لكن منذ متى يبالي “الدرويش” بفتن الدنيا ؟!
هو زهدها كلها منذ زمن!
_اللهم اعصمني من الزلل ..واكفني شر نفسي يا عزيز يا حكيم .
يرددها بخشوع وهو ساجد حتى يقع في قلبه أن دعاءه قد قُبِل فيتم صلاته ثم يغادر المسجد ليعانق ضوء الصباح الذي يعشقه في هذا الوقت من كل يوم .
يسير في الطريق المعهود نحو البيت ليرمق قطعة الأرض إياها باسم “المستشار الشهير” بنظرة متحسرة ثم يحوقل سراً وهو يمضي في طريقه نحو البيت ..
“مستر ربيع” سبقه بعدما أدى صلاة الفجر وقد شعر بألم في ظهره منعه من إتمام طقوسهما اليومية سوياً كعهدهما ..
_صباح الخير يا إبراهيم ..طبق فول “اكسترا” لعيون “مستر ربيع” ..لماذا أغلقتم الفرن بالأمس؟! اضطررت لشراء ذاك الخبز المغلف والزبائن لا يحبونه .
يقولها العجوز الذي وقف على عربة “الفول” على جانب الطريق ليبتسم له إبراهيم مجيباً بأسف:
_أحد الرجلين اللذين يعملان مع أبي مرِض واضطر لأخذ إجازة ..والآخر ترك العمل ..وأنت تعلم أن صحة أبي لم تعد
كالسابق ..لكن لا بأس ..سأقف معه في الفرن مؤقتاٌ حتى نوفر عمالاً آخرين .
ينساب لسان الرجل بدعوات صادقة له ولأبيه ثم يناوله طبق الفول فيأخذه إبراهيم شاكراً ثم يستمر في طريقه ..
والده يحتاجه هذه الأيام ..
ربما هذه إحدى ميزات العمل كسائق في خدمة “أوبر” ولهذا اختاره راغباً كي لا يلتزم بمواقيت عمل محددة ..
لكنها ليست الميزة الوحيدة ..
هو يحب اختلاطه بأهل هذا البلد ..يحب هذه الأحاديث العفوية التي تدور بينه وبينهم ..
يوماً ما عندما رحل من مصر عقب موت حسن ظن أنه لن يعود لهذا البلد أبداٌ ..
ربما لهذا يريد الآن أن يمرغ وجهه في صدر هذه الأرض ..
أن يملأ عينيه من كل هذه الوجوه التي تشبهه ..
دوماً تشبهه ..مهما تختلف الملامح !
يصعد الدرج نحو البيت الذي فتح بابه ليجد أباه واقفاً في المطبخ فيبتسم بارتياح وهو يتوجه نحوه هاتفاً :
_لماذا تقف عندك؟! مادمتَ متعَباً سأعد أنا الإفطار!
_صرتُ بخير ..أعددت لك “الباذنجان المقلي” الذي تحبه !
_سلمت يداك ..وأنا أحضرت الفول ..بقيت البطاطس المقلية ..سأعدها أنا !
_أنا سأقشرها ! أنت تنتزع نصفها مع القشر ! رحم الله والدتك ..لو كانت رأت هذا المنظر لماتت كمداً!
يهتف بها العجوز بمرح وهو يتناول ثمرة بطاطس كبيرة يقشرها بحرص فيبتسم إبراهيم ابتسامته المنقوصة وهو يتذكر
الأيام الخوالي التي كانت تجمع العائلة كلها هنا ..
_ولو رأت أنك ترمي الزيت بعد القلي كل مرة ..ماذا كانت ستفعل؟!
يخاطب بها أباه مازحاّ ليردف وهو ينحني ليفتح باب الفرن :
_رحم الله “المقلاة العتيقة” المليئة بزيتها والتي كانت مستقرة دوماً هاهنا !
يضحك ربيع بانطلاق ثم تدمع عيناه بحنين يقاومه بدوره مع هتافه المرح وهو منهمك فيما يفعله :
_هذه نقرة وتلك نقرة أخرى ..قلي الزيت أكثر من مرة مضرّ ..لكن قشر البطاطس الذي يذهب بنصفها هذا إسراف ..أفكر في شراء مقلاة كهربية ..تستخدم القليل من الزيت ..موفرة وصحية .
_كما تريد يا “مستر ربيع” ..يا فاهم كل المواضيع!
يقولها بمرح شارد وهو يشعل الموقد ليضع فوقه المقلاة مع الزيت ..
_تعلم ماذا وجدت “أم علي” وهي تنظف المكتبة القديمة بالأمس؟!
يهتف بها ربيع بحماس فيلتفت نحوه إبراهيم بنظرة متسائلة ليرد أبوه بمرح :
_تذكر “بأي حرف تبدئين؟”؟!
يرتفع حاجبا إبراهيم بدهشة للحظات لتتسع ابتسامته المنقوصة بحنين وهو يتذكر ما يحكي أبوه عنه ..
_وضعتها لك فوق مكتبك ..اذهب وتفقدها لعلها تكون كاملة ..اذهب..هيا .. لا أحب وقوفك معي في المطبخ ..تعيق حركتي!
يهتف بها الرجل زاجراً بحنانه المعهود فيتقدم إبراهيم نحوه ليقبل رأسه قبلة عميقة قبل أن يغادر المطبخ نحو غرفته ..
فوق مكتبه كانت هناك ..
بضعة أوراق قديمة كان قد قام بشبكها معاٌ بطريقة يدوية ..وقد رسم لها غلافاً لتبدو ككتاب حقيقي كتب له شقيقه حسن عنوانه بخطه الزخرفي المميز :
“بأي حرف تبدئين؟”!
وحش الحنين ينشب مخالبه في صدره وهو يمد أنامله نحو الأوراق التي كتبها منذ سنوات طويلة ..
وبالتحديد في بداية مراهقته ..
مجرد رسائل قصيرة لحبيبة “وهمية” لا يعرف اسمها فاختار لكل حرف رسالة ..
حبيبتي ألف ..
أميرة أنتِ ..صنعتُ لها تاجها من أيام العمر ونسجْت لها ثوبها من خيوط العشق ..فما بقي إلا أن تختارني أميرها .
حبيبتي باء ..
بدرٌ بعينيكِ بدد ظلمتي ..بابٌ من النور حرامٌ على من فتحه أن يغلقه .
حبيبتي تاء ..
ترنيمة العشق في قلبي تتلوها خفقاته ..فترفقي بمن نسي فيكِ حروف الكلام .
حبيبتي ثاء ..
ثوبٌ من الفتنة نسجه لكِ القدر وأبى ألا ترتديه سواكِ .
حبيبتي جيم ..
جمرة خلف جمرة تشعلين بها الروح ولعاٌ ..فأدعو الله ألا تنطفئ.
حبيبتي حاء ..
حوريةٌ سقطت من أعالي الفردوس فحار في وصف جمالها البشر .
حبيبتي خاء..
خمرٌ حلال سكرته ..وفريضةٌ على شاربه الغرام ..
حبيبتي دال..
درّةٌ تشتهيها تيجان الغرام ..ويسجد لفتنتها موج البحر والشطآن ..
حبيبتي ذال ..
ذهبيّة عينيكِ طاغيةٌ لا يردُ له حكم ..فلا تلومي من تعثّر بنظراتك !
حبيبتي راء ..
رسالة أحسن القلب تأويلها فرددت خفقاته : لبيكِ مولاتي حباً!
حبيبتي زاي:
زمانٌ بعد الزمان ..تهدين لمن أضاع العمر ألف عمر ..وليتهم جميعاً يكفونكِ عشقاً !
حبيبتي سين ..
ساحرةٌ ألقت عليّ تعاويذ عشقها ..أنا المأسور بها فنعم الأسر والآسر!
تزيغ عيناه بشرود عند الرسالة الأخيرة فيتوقف عن إكمال القراءة ..
حرف السين يحمله لاسمها كما عرفه ..
“سمرا”!
شعورٌ غريب يكتنفه وملامحها الفاتنة تفرض سطوتها على تفكيره ..
لم يكن يتذكرها كاملة بدقّة لكنه علق بهذه النظرة في عينيها ..
نظرة “وجع فاقد”تشبه خاصتها في عينيه !!
_الفطور جاهز!
يهتف بها أبوه وهو يبسط راحته على ظهره من الخلف فيلتفت نحوه شاعراً ببعض الإثم ..
نفس الشعور الذي كان يجتاحه صغيراً عندما يفعل ما يشين!!
لكن الرجل لم يبدُ منتبهاً لكل هذا وهو يشير بإصبعه نحو الأوراق قائلاً بمرح:
_أخفِ هذه فلو رآها “الحرافيش”
لأشبعوك سخرية ! لا أعلم أين اختفى ابني العاطفي الذي كان يكتب هذا الكلام ..عندما وجدتها المرأة صدفة قلت لعلها “بشرى خير” ..عسى الله أن يقسم لك
ب”بنت الحلال” التي تستحق
كلاماً كهذا ..
يطرق إبراهيم برأسه دون رد ليردف الرجل بنفس المرح:
_عساها فقط تقتنع أنك لم تعشق فتيات بعدد حروف الأبجدية ..وأن ابني الخلوق ادخر الحب في قلبه لمن ستملكه
بالحلال!
يرفع عينيه لأبيه بهذه الابتسامة المنقوصة التي تبدو وكأنها لن تكتمل أبداً ..
فيسأله أبوه باهتمام وهو يقلب أوراقه
ملاحظاً أنه قد توقف برسائله عند حرف الواو ولم يكتب الياء :
_لا يزال حرف الياء ناقصاً من وقتها ؟! ظننتك أكملته !
_حرف ثقيل جداً لم أجد له ما يصلح للكتابة !
يهتف بها إبراهيم مغالباً خجله من ظهور هذه الأوراق الآن ليضحك أبوه وهو يسحبه معه للخارج هاتفاً :
_ادعُ الله إذن ألا تكون صاحبة النصيب بحرف الياء ! ومن يدري؟! ربما عندما تظهر تصبح الياء “الثقيلة هذه” كالعسل على قلبك !
_تعلم أنني لا أفكر في هذا الأمر الآن .
يقولها إبراهيم بتثاقل ليخبطه أبوه على مؤخرة رأسه بخفة هاتفاٌ باستنكار :
_ولماذا لا تفكر فيه ؟! شقتك جاهزة ..وأمورنا ميسورة ولله الحمد .
_أرجوك يا أبي ..دعنا لا نتحدث في هذا الأمر ..
يمط أبوه شفتيه باستياء وهو يتخذ مجلسه على مائدة الطعام ليناوله إبراهيم رغيفاً من جواره قائلاً :
_سأذهب معك للفرن اليوم حتى ندبر أمرنا .
_وعملك؟!
_سآخذ اليوم إجازة ..لكنني سأذهب مساء لمشوار بسيط ..زبونة نسيت هاتفها المحمول في سيارتي سأرده لها وأعود بسرعة .
يقولها ببساطة يتمنى لو تكون بمثل حجم شعوره الخفي بالخطر الذي لا يفهمه ..لكنه يهابه !
======
*أحمر*
======
_أنا أنتظرك خارج المحل ..هل يمكنك أن تقلّني للبيت بعدها ؟!
تهتف بها يسرا عبر الهاتف الذي يمسكه هو في يده فيرد بتحفظ :
_سأعطيكِ الهاتف فحسب ..عفواّ..لا أملك الوقت لمشاوير أخرى.
يقولها ثم يغلق الاتصال قاطعاٌ على نفسه طريق التراجع ..
يبعد الهاتف قليلاً فيوسوس له شيطانه أن يتفحص الصور كي يعلم المزيد عنها ..
أو حتى يسجل رقمها فربما يحتاجه ..
لكنه يستعيذ بالله من هذا الخاطر ثم يضع الهاتف جواره بحزم ليتخذ طريقه إليها متجاهلاً ذبذبة هذا الحدس بداخله أنها لن تكون آخر مرة يراها فيها !
وفي مكانها خارج المحل وقفت هي تراقب الطريق بلمعة عين حماسية ..
اللعبة على وشك البدء ..والأروع أنها بلا قواعد !!
ارتجاليتها سر شغفها بها !!
هي فقط ستلقي النرد لأول مرة ..
وبعدها ستترك نفسها لنشوة المقامرة !!
تستخرج مرآتها من حقيبتها تطمئن
لحسن مظهرها ..
تحرك وشاح رأسها كي ينحسر عن
خصلات شعرها الذهبية أكثر ..
طلاء شفتيها بحمرته المغوية ..
كحل عينيها الذي تعمدته مفرطاً ليظهر لونهما ..
رائحة عطرها الآسرة التي تعمدتها فواحة ..
كل هذا تضيف إليه اللمسة الأخيرة وهي تشمر كمّي قميصها حتى مرفقيها كي يبدو بياض بشرتها الناصع !
ترى سيارته تقترب من بعيد فتشعر بدفقة الأدرينالين في عروقها تمنحها أثراً يشبه ذاك المخدر الذي كانت تتعاطاه قديماً!!
تمتلئ عيناها بدموع حقيقية مع الخاطر الأخير لكنها تستغلها لصالح “اللعبة”..
لهذا ما كاد يتوقف بسيارته أمامها حتى استقلتها قائلة بصوت تعمدته واهناً مرتجفاً :
_أرجوك اقلني للبيت ..أنا أشعر بالدوار وأخشى أن أسقط في الطريق!
يعقد حاجبيه بضيق من مظهرها الذي بدا شديد التبرج حد الاشمئزاز بالنسبة لرجل مثله ..
حتى أنه أشاح بوجهه يهم بالرفض لكن حميته الرجولية جعلته يسألها دون أن ينظر إليها :
_تحبين الذهاب لأي مشفى أفضل؟!
تهز رأسها نفياً متظاهرة بالمزيد من الوهن لترد بخفوت:
_بيتي ..فقط بيتي هو ما أحتاجه ..أنت تعرف العنوان !
يزداد انعقاد حاجبيه وحدسه الداخلي ينبئه بالمزيد من الخطر ..
لقد ظن أنه سيسلمها هاتفها ويرحل فحسب ..
لكن لا بأس !!
دقائق إضافية لن تضر !!
يشغل سيارته ليمضي بها وشعور الخطر داخله يزداد ضراوة ..
إنما يتخلله الآن شعورٌ آخر منافس وهو يسمع أنّاتها الخفيضة جواره ..
شعور بالشفقة !!
_بماذا تشعرين؟!
يسألها بتحفظ متحاشياً النظر نحوها فتتظاهر بكتمان توجعها هامسة بخفوت:
_لا تشغل بالك ! سأكون بخير ..
تقطع عبارتها بآهة مصطنعة أخرى فيختلج قلبه بالمزيد من التعاطف نحوها بينما تردف هي بصوت متقطع:
_أعلم أنك مشغول ولم تكن تريد توصيلي ..آسفة ..لم أستطع ..
_لا بأس ..خيراً إن شاء الله .
يقاطعها بتحفظ ظاهره الخشونة وباطنه هذا الإشفاق الغريزي نحوها ..
فتتفحص جانب وجهه المعرض عنها ببعض الغرابة ..
إنه مع طغيان زينتها القاهر هذا لم يلتفت نحوها ..
بل إنه يبدو مجبوراً على صحبتها !!
هل يعشق جنة الرشيدي إلى هذا الحد ؟!
حد أنه حتى لا يبصر امرأة غيرها ولو في غيابها؟!
لماذا؟!
أي امرأة تلك؟! بل أي رجل هذا؟!
غضبها يدفعها للمزيد من التظاهر الناجح بالألم وهي تتلوى مكانها ..
فيختلس نظرة واحدة مشفقة نحوها لكن فتنتها التي يزيدها تبرجها إغواءً تدفعه للمزيد من النفور ..
يزيد من سرعة السيارة دون وعي كأنه فقط يريد التخلص منها ومن كل ما تثيره داخله من فوضى..
لكنها تكاد تشعر بهذا النفور فيزداد عزمها على مواصلة اللعبة ..
يبدو لها شارعها من بعيد فتتوقد عيناها بحماسة وهي تستعد للخطوة التالية ..
لأن تلقي هي النرد من جديد إنما بيد أخرى هذه المرة !!
_لا داعي لأن تدخل الشارع ..سأنزل ..
تقطع عبارتها بصرخة قصيرة مصطنعة فيزدرد ريقه بارتباك وهو يقول بنفس التحفظ الظاهر:
_سأدخل الشارع ..أخبريني فقط أي بيت.
_لا ..لا ..الشارع ضيق وغير ممهد ..كفاك هذا !
تقولها ثم تمنحه أجرته فيوقف السيارة ليناولها هاتفها بسرعة كأنما يريد أن ينتهي كل هذا على عجل!!
يختلس نظرة أخرى نحوها وهي تغادر السيارة بإعياء لتترنح مكانها فتتحفز
خلاياه وهو يقاوم المزيد من شعوره
بالشفقة نحوها ..
لكنه يراها تتماسك وهي تسير بضع خطوات مبتعدة ..
يشغل السيارة وهو يهم بالرحيل لكن حميته الرجولية تجعله ينتظر قليلاً مراقباً إياها خاصةً وقد خلا الشارع المظلم من المارة ..
تتسع عيناه قليلاً بتفحص وهو يرى من بعيد ذاك الرجل الضخم يقترب منها بنظرات قميئة تفضح سوء نواياه ..فلا يفكر للحظة وهو يغادر السيارة ليتوجه بسرعة نحوهما ..
وفي مكانها كانت هي ترقب الرجل الذي يتقدم نحوها بعينين زائغتين ..
تتذكر كيف حكت لها سمرا أنه بلطجي يتحرش بها هنا مستغلاً وحدتها بلا أهل يردون عنها بطشه ..
وتتذكر كيف التقت هي به بالأمس ها هنا لتغويه متظاهرةً بقبول عرضه الرخيص ..
وكيف طلبت منه أن يلتقيها عقب عودتها من العمل لتنفذ له كل ما يريد !!
وهاهي ذي خطتها تسير كما أرادت ..
تتوقف مكانها وهي ترى عيني الرجل الجائعتين تتمهلان فوقها بشراسة وهو يغمزها متمتماً بوقاحة :
_الليلة ليلتك يا حلوة .
فيرتعد جسدها بخوف للحظة لكنها تعود لتذكر ..
هي لعبة !!
وليس عليها سوى إلقاء النرد من جديد !!
ترى ذاك الظل قادماً من بعيد فتشتعل
خلاياها بالمزيد من الإثارة..
المواجهة قادمة ..
لكن لمَ لا تجعلها أكثر سخونة ؟!
تنتظر أن يقترب منها الرجل حتى يكاد
يلاصقها فتصرخ به هاتفة:
_ابتعد أيها الحقير!
تتبع قولها بصفعة قوية له تعلم أنها تستفزه بها أكثر ..
بينما ترى الظل المنقذ يقترب أكثر وأكثر ..
فيشتعل جسدها بالمزيد من نشوة المغامرة لكنها تلمح لمعان ذاك النصل في الهواء قبل أن تسمع سبة الرجل البذيئة التي قذفها في وجهها وهو يطوقها بين ذراعيه هامساً في أذنيها بما بدا كالفحيح:
_تلعبين بي أيتها ال(…)؟! سأعلمكِ إذن كيف يكون اللعب!
تصرخ صرخة حقيقية هذه المرة وهي تحاول دفعه بينما يصلها صوت إبراهيم هادراً بعنف :
_ابتعد عنها .
تشعر بالمزيد من متعة المغامرة وهي تحاول إلقاء النرد مرة أخرى..
تدفع الرجل بأقصى قوتها وهي تصرخ من جديد لكنها تفاجأ بالنصل الحاد يقترب منها بسرعة خاطفة ..ليشق بطنها!
======
_يسرا!
تهتف بها أمها وهي تنتفض من نومتها فجأة لتمسد صدرها وهي تدور بعينيها في المكان حولها ..
_ابنتي! ابنتي!
تصرخ بها بفزع وهي لا تكاد تذكر أي شيء مما حولها ..
ليفتح باب الغرفة فتدخل منه سمرا التي تهرع إليها هاتفة بقلق:
_”ماما” ..أنتِ بخير؟!
_ماما؟!
ترددها المرأة بحيرة وهي لا تزال تدور بعينيها في المكان حولها لتزدرد سمرا ريقها بتوتر ..تربت على كتفها لتضمها إليها قائلة :
_أنا هنا ..أنا جوارك ولن أتركك !
_من أنتِ؟!
تسألها المرأة بنفس الحيرة وعيناها الزائغتان تطوفان فوق ملامحها بتشتت لترد سمرا بارتباك:
_أنا يسرا ..ابنتك !
_يسرا ..ابنتي! ابنتي ليست بخير !
تتمتم بها المرأة بذعر وهي تقبض بكفها على قميصها فوق موضع خافقها لتشتعل ملامح سمرا بالقلق وهي تحاول تهدئتها هاتفة :
_أنا بخير أمامك ..لا تخافي ..لا ..
تنقطع عبارتها والمرأة تدفعها بقوة هاتفة بالمزيد من الذعر:
_ابتعدي ..أريد ابنتي ..أريد ابنتي ..
تحاول سمرا السيطرة على حالتها الغريبة هذه والتي تراها لأول مرة منذ دخلت هذا البيت ..
صحيحٌ أن المرأة هي الوحيدة التي لم تخدع فيها كالباقين ..
لكن نفورها منها كان دوماً صامتاً متحفظاً وليس بحدة هذه المرة !!
_عفواً يا يسرا “هانم” ! أظنها تحتاج حقنة مهدئة !
تهتف بها الخادمة وهي تدخل عليهما الغرفة مع الممرضة الخاصة بالمرأة والتي تطورت حالة هياجها لما يقارب العدوانية ..وتلعثمت منها الحروف..
تتراجع سمرا للخلف سامحة لهما
بالسيطرة عليها ..
تدمع عيناها بانفعال وهي تسمع صراخ المرأة باسم ابنتها والذي تسمعه هكذا
لأول مرة بعدما أفقدها المرض قدرتها على تذكر الناس والأشياء !!
تعض شفتها بالمزيد من التوتر وهي تحيط جسدها بذراعيها حتى تشعر بأن جسد المرأة يسكن أخيراً لتعود لنومتها..
فتعود هي لغرفتها لتغلق بابها خلفها ..
تتأمل صورتها في المرآة فلا تجد سوى دمية سمحت لغيرها أن يحركها بأنامله كيف يشاء ..بل وسلمته الخيوط !
لكن ..كيف كانت تملك أن ترفض فرصة كهذه ؟!
وبظروف كظروفها!!
يكفيها أنها تخلصت مؤخراً من مطاردات ذاك الوغد الذي كان يتحرش بها ..
يكفيها أنها الآن آمنة ..لا تخشى قرصة جوع ولا بطش ظالم !
لهذا تدعو الله ليل نهار ألا تفيق يسرا هذه من نوبة جنونها فتعود لتسترد حياتها !
صوت طرقات خافتة على الباب يقاطع أفكارها فتتحرك لتفتحه ..
_يسرا “هانم” يجب أن تعلم بحالة والدتها هذه !
تهمس بها الخادمة كبيرة السن بخفوت وقد كانت الوحيدة التي تعلم حقيقة سمرا هنا ..
أجل! يسرا جعلتها عينها هنا في غيابها !!
_كما تريدين يا “أبلة كوثر”!
تهمس بها سمرا بخنوع اعتادته لتهمس كوثر بحدة أكبر :
_وهل أنتظر إذنك؟! أنا هاتفتها وهي لا ترد !!
_الوقت متأخر ..ربما هي نائمة !
تهمس بها سمرا بارتباك من لا يدري ما يفعله لتزفر كوثر بقوة وهي تتلفت حولها بعجز هامسة بنفس الخفوت:
_لست راضية عن كل هذا العبث! يعلم ربي أنني طاوعتها على جنونها لأنني كنت أعرف حالتها بعد موت ابنها و
طلاقها من “فادي بيه”..لكنني لن أسامح نفسي لو حدث لأمها مكروه دون أن تراها ..
ثم تصمت لحظة لتردف بالمزيد من السخط :
_تراها هي ..وليست صورتها
الاصطناعية !
تبسط سمرا راحتيها باستسلام حقيقي وعيناها تتوهجان بهذا الخوف من أن تفقد مكانها هنا فتعود لحظيرتها الخرِبة ليتلقفها ذاك الغراب هناك !!
_سأتصل بها مرة أخرى ..وحاولي أنتِ أيضاً ..سلّم الله العواقب!!
تهمس بها كوثر بتوتر وهي تتحرك لتفتح الباب ..
ثم تعاود الالتفات نحو سمرا وقد غلبها حنانها الأمومي لتردف :
_سأعد لكِ طعاماً ..أنتِ لم تتناولي غداءك .
_سأعده بنفسي ..فقط ..شاركيني فيه ..
لو أردتِ!
تقولها سمرا بتلعثم فترتسم ابتسامة واهنة على شفتي المرأة وهي ترقب
ملامحها بدهشة تأبى مغادرتها رغم مرور الوقت ..
لا تكاد تصدق أن نفس الملامح قد تحملها امرأة نارية كيسرا ..
وأخرى وديعة كهذه!
لكن القلق يعاود اكتساح ملامحها وهي تشعر أن اختفاء يسرا هذه الليلة وعدم ردها على هاتفها لا يعني خيراً ..
ورغم غيظها من جنون تلك النارية لكن وخزة حقيقية أصابت من قلبها وهي تدعو الله أن يخيب ظنها !
=======

4=الرابع=الجزء الثانى = ج 2/

_ماما !
تسمعها بصوت الصغير كعهدها فتبحث عنه بعينيها حولها لكنها لا تجده ..
_ماما!
الصوت يأتيها أقوى فترفع عينيها هناك لتراه ..
واقفاً فوق سور شرفة غرفتها مع فادي ..
يرفع ذراعيه حوله كأنه طائر يحلق ..
_لا ! لا!!
تصرخ بها بجنون وهي تعدو نحوه رافعة رأسها وقد فردت ذراعيها كأنها تتلقفه ..
تراه يهوي إليها فتطلق صرخة تلو أخرى ..
لكنها هي الأخرى تهوي ..
يسقط و..تسقط ..
فلا هو يصل إليها فتتلقفه ..ولا هي تكف عن السقوط كأنه ليس هناك قاع !!
_أفاقت ! أنت قريبها؟!
تسمع الصوت الغريب جوارها ينتزعها من كابوسها فتفتح عينيها لتميز حضوره ..
هو ..”رجل المغامرة”!!
إلى أين عساها سارت اللعبة ؟! ومن سيلقي النرد هذه المرة ؟!
_أنا سأتكفل بكل شيء ..أخبريني فقط هل هي بخير؟! ستعيش؟!
تسمع صوته يتحشرج ببحة ألم من عاش رهبة الموت ويخشى أن يتكرر هذا الشعور ..
عيناها تميزان هذا الدم الذي لوث قميصه فتدرك أنه دمها هي !
آثار الضرب على وجهه خفيفة ..
عجباً ..هل هزم ذاك الديناصور وحده ؟!
_بالطبع ستعيش! تبدو قليل الخبرة !
الإصابة سطحية لحسن الحظ ..لكنها ستبقى معنا هنا بضعة أيام ..كي نطمئن !
تقولها الطبيبة بنبرتها العملية وهي تغادرهما فيلتفت هو نحوها لتتسع عيناه وهو يحدق في عينيها المفتوحتين !
عيناه اللتان تغافلانه وهما تتلكآن فوق
ملامحها التي بدت له خالية من تبرجها السابق أكثر براءة ..وفتكاً !!
بين أهدابها تغتسل ألف نجمة ..
وعلى ثغرها ينادي منادٍ أن هنيئاً بليل هي فيه القمر ..
أخاديد ألمٍ حُفرت على وجنتيها ..
وفوق غصن عينيها يصدح عندليب ..
عندليبٌ أخرس!
حلقه يجف وهو يشعر أنه يفقد سيطرته المعهودة على نفسه لكنه يسألها بنفس الصوت المتحشرج:
_أنتِ بخير؟!
_ماذا حدث؟!
تهمس بها بوهن لا تدعيه هذه المرة فيسحب كرسياً ليجلس جوار فراشها وقد عاد يغض بصره عنها مع جوابه :
_رأيت ذاك الوغد يتربص بكِ ..لكنني لم أستطع الوصول قبل أن يفعل فعلته .
_هل ضربك؟!
يتحسس موضع اللكمة جوار عينه تلقائياً ليرد بنبرته المتحفظة :
_من حسن الحظ أن طبيعة عملي تجعلني دوماً أحتفظ بما أدافع به عن نفسي ..هو الآن في قبضة الشرطة ..لا تخافي ..حقك لن يضيع ..
يقولها ثم تتلون شفتاه بشبه ابتسامة ليردف بخفوت أكبر:
_ولو أن شيئاً كهذا ليس مضموناً في هذا البلد !
_عجباً!
تهمس بها بوهن يجعله يرفع عينيه نحوها رغماً عنه من جديد فتردف بنفس الشحوب:
_عندما رأيتك ترتدي دبلتك هذه أول مرة بألوان العلَم ظننتك أكثر وطنية !
_الوطنية أن أحب الوطن ..وأكره من يسيئ إليه ..أحب أهله ..رغم استيائي من بعض أفعالهم ..أمنح روحي فداء لترابه ..لكنني أجهر بكلمة حق أراها قد تغير حاله ولو كره الظالمون !
يهتف بها بانفعال فتيٍّ تصاعدت وتيرته رويداً رويداً لتسبل جفنيها هامسة ببعض الاستهانة:
_آه! أنت منهم ؟!
_ماذا تقصدين؟!
يسألها فتغمض عينيها بقوة تتهرب من الجواب ..
هو إذن من هؤلاء دعاة الثورة والمبادئ الذين كان يحاربهم رفعت الصباحي؟!
مالها وهذا كله ؟!
هي تريد إكمال لعبتها فحسب!!
لقد دفعت ثمناً باهظاً وليس عدلاً أن يوقفوها هكذا في منتصفها؟!
_حقيبتي بها حافظة نقود ..خذ منها ما دفعته .
تهمس بها عبر عينيها المغمضتين ليصلها قوله غير مدّعٍ :
_النقود آخر مشاكلك الآن ..أخبريني بمن أتصل من أهلك كي يأتي إليكِ!
_أنا أعيش وحدي ..لا أهل ولا سند .
تهمس بها عبر جفنيها المسبلين دون حاجة لادعاء الوهن فينعقد حاجباه بقوة وهو يشعر بالمزيد من الانجذاب المشفق نحوها ..
_لا أحد ؟! لا أقارب؟! لا جيران؟! لا أصحاب؟!
يعاود سؤالها ببعض الانفعال وهو يدرك -لتوه- المأزق الذي وقع فيه لتجدها فرصتها في “إلقاء النرد” من جديد :
_لو كان لي سند لما تجرأ ذاك البلطجي عليّ!
تنهي عبارتها بخيطين من الدموع كان من السهل عليها ذرفهما الآن بصدق ولو كذبت النوايا!!
يختلج قلبه بعنف وهو يجرب هذا الشعور “البِكر” لأول مرة !!
شعور انجذاب فطري نحو امرأة !!
لا ..ليست فتنتها ولا هذا الجمال الكارثي الذي يخيفه بأكثر مما يعجبه ..
إنما هو شعوره برغبته أن يحتوي هذا الوهن الذي يغلفها حتى ولو يكن بقادر!!
ينتبه لطول تحديقه فيها فيستغفر الله سراً وهو ينهض من مكانه فجأة مقاوماً صراعه الداخلي هذا ..
ما هذا الذي يهذي به ؟!
وأي شعور هذا قد يحمله لامرأة لم يلتقِ بها سوى مرتين ولا يعرف عنها أي شيء؟!
إنها حتى بلا أهل كما تزعم!!
لا أصل ولا فصل كما يقولون!!
_سترحل؟!
تهمس بها بخفوت وهي تفتح عينيها لتوها فيكاد يجيبها بالقطع أن “نعم”!!
لكنه يجد لسانه يتلعثم وهو لا يعرف بماذا يرد ..
_أرجوك لا تتركني وحدي هنا في هذا الحال ..أنا ارتحت إليك منذ أول مرة رأيتك فيها ..وزاد يقيني في شهامتك بعدما دافعت عني ..أتمّ صنيعك
لآخره ..أرجوك .
يزم شفتيه بقوة وهو يصارع نفسه ليغض البصر عنها من جديد ..
فيصلها صوته المتحفظ أخيراً :
_لا تحملي هماً ..استريحي فحسب.
يقولها ثم يغادر الغرفة تاركاً إياها خلفه وقد التمعت عيناها المتعبتان بوهج المغامرة من جديد ..
لا تزال اللعبة مستمرة ..وهذا هو المهم !
لو بقي معها فهذا يعني أن تنتقل
ل”المستوى ” التالي ..
هذا الذي سيكون أكثر إثارة بالتأكيد!!
هنا تسمح لنفسها أخيراً بأن تغمض عينيها مستسلمة لراحة مؤقتة ..فقط لو ترحمها كوابيسها!!
وفي مكانه خلف الباب المغلق يقف هو ليأخذ نفساً عميقاً ثم يزفره ببطء شاعراً أنه قد خرج لتوه من معركة ..
بل وماضٍ في الدخول لما بعدها!!
ماذا سيفعل في هذه الورطة ؟!
يتردد قليلاً لكنه يحسم أمره ليهاتف أباه الذي بادره بهتافه القلق:
_أين أنت؟! لماذا تأخرت هكذا؟!
فيخبط براحته المفرودة على رأسه بخفة وهو يحكي له عن الأمر ..
ليهتف أبوه أخيراٌ :
_أنا قادم إليك .
_لا تتعب نفسك ..أنا..
لكن والده يغلق الاتصال بسرعة مقاطعاً عبارته فيزفر هو بقوة وهو ينظر نحو الباب المغلق بينه وبينها بتشتت هامساً لنفسه :
_أنا أضيع يا “مستر ربيع”!
======
*برتقالي*
======
_اسمك حلو ..ما معناه ؟!
تهتف بها مجد وقد جلست كعهدها فوق كرسيها المتحرك في صالة بيت طيف التي تربعت في جلستها على الأرض أمامها لتجيبها بابتسامة شاردة :
_يعني ذاك الشيء الخيالي الذي يمر
بالناس ..لا يرونه وإنما يشعرون به ..
ثم صمتت لحظة لتردف بنفس النبرة الشاردة :
_ليس دوماً ..أحياناً لا يحسون به كذلك !
_أنا أشعر بكِ ..
تقولها مجد برقتها الطفولية وهي تمد أناملها لتلمس شعر طيف الذي بدا هوسها مؤخراً ..ثم تردف بابتسامة :
_طيبة ..مثل عمي نزار وأبي ..
_وأنا؟!
تهتف بها الخادمة التي لا تكاد تفارق الصغيرة نهاراٌ فتهتف لها مجد ببعض الخجل:
_وأنتِ!
_هل أعد لكما شيئاً ؟!
تسألهما الخادمة فتلتفت نحوها طيف قائلة بأنف مرفوع:
_خادمتي بالداخل ..انضمي إليها ودعيني هنا مع مجد .
تتردد الخادمة قليلاً لكن طيف تشير نحو هذه الكاميرا بالجوار لتردف بفظاظتها المعهودة :
_والدها يتابعنا صوتاً وصورة ..لا تخافي لن آكلها !
تعتذر الخادمة بكلمات متلعثمة وهي تخطو نحو الداخل فترمق طيف الكاميرا بنظرة ساخطة تتخيله فيها أمامها ..
قبل أن تزفر محاولة تمالك أعصابها !
لقد وافقت على الجلوس مع مجد اليوم لكنها اشترطت أن يكون هذا في بيتها هي ..وأن تكون الطفلة وحدها!
فإذا به يشترط بدوره أن يكون لقاؤهما مراقباً من قِبَله فهو لن يترك لها ابنته هكذا دون أن يعلم ما الذي يدور بينهما !
لا تدري لماذا توافق على هذا العبث!!
هل هي شفقتها على مجد ؟!
أم هو فضولها الغريب نحوه هو ؟!
هو الذي بدا لها صباحاً وهو يسلمها الصغيرة كأنما يسلمها روحه !
لهذا لا تظنه سيكررها ..وهل تريده حقاً أن يكررها؟!
_هل تؤلفين القصص حقاً؟!
تنتزعها بها مجد من شرودها فتلتفت نحوها لتتحول نظرتها الساخطة لأخرى حنون دافئة وهي تتناول كف الصغيرة بين راحتيها قائلة :
_نعم..تريدين أن أحكي لك حكاية ؟!
تشرد مجد قليلاً في ملامح طيف كأنما تختبرها ..
ثم تسبل جفنيها لتهمس بصوت معذب غريب على طفلة بهذا العمر:
_بل ..أريدك ..أن تكتبي لي حكاية ..حكايتي !
تتسع عينا طيف بفضول عجزت عن إخفائه وهي تشعر أن الفرصة واتتها لتكشف الغموض حول ذاك الرجل ..
_اكتبي حكاية طفلة رحلت أمها وتركتها ..وأخذ الغرباء أباها ..ولا يمكنها أن تسير على قدميها كي تبحث عن أحدهما ..
تتكدس الدموع في عيني طيف وهي تنسى كل ما حولها إلا شعورها بهذه الطفلة ..
لم تعد تريد معرفة المزيد ..!
لم تعد تريد للصغيرة اجترار مثل هذا
الألم الذي شعرت يوماٌ بمثله !
_اكتبي لي نهاية سعيدة ..اجعلي أمي وأبي يعودان ..واجعليني أمشي على قدميّ .
تبتلع طيف غصة حلقها وهي ترفع كف الصغيرة بين راحتيها لتقبله قبلة خفيفة ثم تهمس لها وهي تغرس نظراتها في عينيها :
_سأعلمكِ شيئاً لا تنسينه…النهاية السعيدة ليست دوماً في ما نتمناه ..بل ربما كانت في هدايا بديلة تمنحها لنا
الأيام صدفة ..قد لا يعود والداكِ ..وقد لا تمشين على قدميكِ ..لكنكِ ستجدين السعادة وقتها في بديل آخر .
تطرق مجد برأسها في أسى لكن طيف تردف بنبرة أكثر قوة :
_عندما كنت في عمرك ..كنت أتخيل لنفسي قصصاً كثيرة تنتهي بالنهايات السعيدة التي كنت أتمناها .
_وتحققت؟!
تسألها الصغيرة وهي ترفع رأسها نحوها بلهفة لتبتسم طيف ابتسامة مريرة وهي ترد :
_تحقق بعضها وتاه الباقي في زحام الحياة .
_أنتِ الآن سعيدة ؟!
تهتف بها مجد بأمل فتنفرج شفتا طيف وهي على وشك نطق شيء ما لكنها تحسم أمرها لتستبدله بآخر :
_أنا الآن نجمة ..تشير إليها الأصابع فتنظر إليهم من علوّ .
تقرن قولها برفعة أنفها بغطرسة وقد تذكرت أنه -هو-الآن يراهما ..
فضحكت مجد وهي تميل رأسها لتقول برقتها الآسرة:
_إذن اكتبي لي قصة واجعليني نجمة مثلك ..
ثم عادت تضحك لتردف ببراءة:
_واجعلي شعري طويلاً ..إنه الطلب الوحيد الذي يرفضه بابا لي!
تمط طيف شفتيها باستياء وهي تعود لتواجه الكاميرا بنظرتها الساخطة بينما تداعب الصغيرة خصلات شعرها الطويل هي بافتتان قائلة :
_تدرين لماذا لم أخف منكِ كالغرباء؟!
سؤالها يجذب انتباه طيف التي تلتفت نحوها بفضول مع جواب الصغيرة العفوي:
_لأنني كنت أراكِ من النافذة ..وحيدة مثلي ..ليس مثلي تماماً ..فلديّ بابا وعمي نزار ..يمكنني أن أعيركِ أحدهما ..لكن ليس لوقت طويل!
_لا شكراً ..احتفظي بهما لنفسك !
تهتف بها بفظاظة ساخرة لكن الصغيرة تستطرد ببراءة:
_عمي نزار سيضحكك ويلاعبك..بابا سيحتضنك ويدللك ويمنحكِ كل ما تحتاجينه .
تتسع عينا طيف قليلاً وهي تشعر بهذه الوخزة في صدرها ..
تشيح بوجهها عن الكاميرا بما أرادته كاستهانة لكنها كانت توقن داخلها أنه ..خجل!!
خجل!!
خجل تتفتح له أوراق أنوثتها باشتياق البراعم للشمس وهي تتخيله يحتضنها حقاً !!
يدللها ..يدللها هي!!
_أعوذ بالله من الشيطان الرجيم !
تتمتم بها سراً وهي تهز رأسها بقوة نافضة الخاطر عن رأسها ..
ثم تلتمع عيناها بوميض المغامرة وهي تسأل الصغيرة ببراءة مصطنعة :
_لماذا لا تدعين نزار “بابا” ك ..الآخر؟!
تقولها وقد استنكفت عن ذكر اسم يحيى لكن الصغيرة تدرك ما تعنيه فتضحك لتجيب ببراءة :
_لأنه ليس يحيى العراقي ..بابا يحيى العراقي .
تهز طيف رأسها بغباء وهي لا تفهم فتهم بسؤالها عن المزيد لكن الخادمة تقاطع حديثهما وهي تدخل بكوبين من العصير فتهتف بها طيف بحدة :
_لم أطلب منكِ شيئاً ..لا تأتي دون إذني .
تجفل الخادمة فتتراجع خطوة للخلف تتعثر معها قدمها فتسقط منها الصينية بما تحمله ..
_آسفة يا سيدتي ..لم أقصد ..
تردد اعتذارها بعربيتها الكسيرة وقد بدا على وجهها الحرج لتنتفض طيف واقفة مكانها مع هتافها الحاد :
_أنت عمياء؟! تعرفين ثمن هذه الكئؤس التي كسرتِها؟! ثمن السجادة التي كدتِ تفسدينها ؟!
يحمر وجه الخادمة انفعالاً وهي تردد اعتذاراتها بينما تهرول نحو الداخل لتحضر ما تنظف به هذه الفوضى ..
فيما تتجمد طيف مكانها وهي تشعر ب..الندم!
لماذا قست عليها هكذا وهي بالذات عاشت هذا الموقف من قبل عندما كانت خادمة في البيوت؟!
هل نسيت؟!
أم تراها تتناسى الآن بالذات هذا وهي في حضرة ذاك الرجل !!
حضرته التي تهز كل جبالها الثابتة وتذرها تتخبط في وديان تيهها الشاسعة !!
حضرته التي تربكها وتجعلها تتخبط كطير أغلقوا عليه الجدران !
حضرته التي لا تحتاج لرؤية جسد ..وإنما تكفيها استحضار روحه !
_خرِب بيتك!
تهمس بها في نفسها سراً وهي تواجه الكاميرا اللعينة بسخط للحظات..
ليس عدلاً أن تشعر أنه يراها ولا تراه ..
ليس وهي تشعر أنها تحت مجهره واضحة كالشمس فيما يبقى هو ملثماً بغموضه!
في المرة القادمة لن تسمح له بوضع هذه الكاميرا أبداً !
ترى الخادمة وقد أتت لتجلس على ركبتيها ..تلم البقايا المكسورة ..وتنظف
الأرض ..
فتحسم هي أمرها أخيراً لتفعل ما يبدو
الآن غريباً وهي تجلس جوار الخادمة على الأرض و..تساعدها!
ترمقها الخادمة بنظرة مندهشة تتجاهلها هي وهي مستمرة في عملها ..
تعلم أن شكلها الآن قد يحط من قدرها في عينيه وهو يراقبها ..
لكنها لهذا السبب تفعلها!!
عناداً فيه وفي نفسها قبله!!
ما يعنيها من ظنه فيها ؟!
هو يكره النساء كلهن على أي حال!
_لا تتعبي نفسك يا سيدتي..سأ…
تهتف بها الخادمة لتقاطعها هي بفظاظتها المعهودة :
_اخرسي ونظفي !
_أنتِ متواضعة كثيراً رغم أنك تبدين عصبية !
تقولها لها مجد بعدما عادت الخادمة للداخل وعادت هي لتجلس أمام الصغيرة على الأرض ..
_لست عصبية ..هم من يستفزونني!
تقولها بنزقها المعهود لتضحك مجد ببراءة فتتنهد طيف بارتياح حقيقي وهي تشعر بضحكة الصغيرة تمطر !
أجل ..تهطل بهذا الغيث الكريم الذي تحتاجه بيداؤها منذ عهد بعيد ..
فلا تدري هل تفرح برقصة المطر أم تخاف جفاف أرضها بعده !!
_ماذا تحبين أن تلعبي؟!
تسأل الصغيرة بخشونة صوتها التي توشحت بحنان فطري لترد مجد بفخر :
_أجيد ألعاب كثيرة ..بابا يشتريها لي من كل مكان نذهب إليه .
_تعرفين “بنك الحظ”؟!
_ما هذا؟!
تسألها مجد بفضول فتشرح لها اللعبة لتهتف الصغيرة بإدراك :
_تقصدين monopoly
_نعم! نسميه في مصر بنك الحظ ..ما رأيك لو نصنعه نحن بأيدينا ؟!
تقولها طيف مبتسمة بحماس تفتقده منذ زمن بعيد وهي تقوم من جلستها هاتفة :
_جربي أن تصنعي سعادتك بنفسك هذه المرة !
تقولها وهي تتحرك نحو أحد الأدراج لتستخرج منها عدة ألواح من الورق المقوى والأقلام الملونة ..
ثم تعود لجلستها أمام الصغيرة التي كانت تراقبها بحماس مشابه بينما تشرح لها كيفية صنعه واللعب به ..
وفي مكانه في شقته كان يحيى يراقبهما بحاجبين منعقدين وهو يشعر بخفقات قلبه تتصاعد وتيرتها بانفعال يكرهه !
يكرهه كما يكره تقاربهما هذا لكنه يعجز عن رفض طلب مجد خاصة وقد بدت له شارة جيدة في حالتها ..هي التي تخشى الغرباء!
لكن ماذا لو تعلقت بها أكثر ؟!
هو لاينتوي البقاء طويلاً هنا !
السندباد الذي كتب على نفسه الشتات في الأرض لن يمنح نفسه وهم الوطن من جديد !!
تزيغ عيناه رغماً عنه بشرود وهو يتفحص ملامح طيف التي بدت له في هذه اللحظة بعفويتها وانطلاقها مع الصغيرة كأنها امرأة أخرى!
امرأة؟!
لا ..هما تبدوان الآن معاً كطفلتين لا تختلف أيهما عن الأخرى!!
هل تمثل؟!
تتظاهر بهذا الدور لتخدعه وهي تعلم أنه يراقبها ؟!
لا!
ليس أقدر منه على تمييز الخداع في العيون ..خاصة النساء!!
يبتلع غصة حلقه بمرارة عند هذا الخاطر وهو يعاود تفحص طيف أكثر ..
تصرفها عندما قست على الخادمة ووبختها ملائم تماماً ل”محدثة نعمة” كما يصنفها ..
لكنها صدمته عندما انحنت بعدها على
الأرض تساعدها !
أي امرأة هذه ؟!
تضيق عيناه بالمزيد من الحيرة وهو يرى طريقتها في اللعب مع مجد ..
في حثها على صنع سعادتها بنفسها كما تزعم ..
حنانها الغريب معها والذي لا يشبه ميوعة النساء بل هو بفظاظته الخشنة يبدو كفطرة أم همجية لم تهذبها حضارة !
يأخذ نفساً عميقاً وهو يتأمل هيئتها التي تفتقد للأنوثة !
فعدا شعرها الطويل لا يمكنه التفرقة بينها وبين نزار مثلاً!
ثيابها لا تفتقد الأناقة ولا الذوق بل إنها تبدو له باهظة القيمة لكنها لا تكفي لمنحها فتنة مثيرة !
ما سر حبها للون البرتقالي ؟!
قرطها مرة ..وشاحها مرة ..
والآن يلون حزام سروالها حول خصرها النحيف!
من جديد يذكر صدفته التي اختل لونها رغماً عنه فيبتسم ببعض السخرية !
هذه المرأة تصلح لتمثال امرأة دميمة ..خلقاً وخلقة !
فقط عيناها!
عيناها تحملان ألَقاً خاصاً يتحرش بهذا الجدار الباهت داخله !!
عيناها الضيقتان عندما تتوهجان بهذه الصورة المشعة عندما تنفعل فتبدو وكأن رموشها قد سجنت “قرص شمس”!
يزم شفتيه بتفكير عميق وهو يعود ليذكر مناظرتهما يوم الندوة ..
فيجد نفسه يتساءل أي امرأة هذه ؟!
امرأة تكره الرجال هذا الحد الذي تزعمه لكنها لم تتردد لحظة وهي تقتحم بيته كي تنقذ ابنته !
امرأة تملك كل هذا المال وكل هذه الشهرة لكنها تؤثر العيش وحدها فوق جزيرة منعزلة !
امرأة تملك من الجرأة ما يجعلها تهتف دون خوف بأصل نشأتها وسط الجموع ولا تبالي!!
امرأة ربما تملك من الشجاعة ما لا تملكه سواها من النساء ..
بل ..والرجال!!
يغمض عينيه بقوة عند الخاطر الأخير وهو يشعر بطوفان الماضي يكتسحه ..
ثلاث صور لنساء تتعاقبن في مخيلته كشريط سينمائي تالف لا يكاد يتوقف عن الدوران ..
لكنه يوقفه قسراً وهو يعود ليفتح عينيه بشراسة !
_لا بأس بها!
هتاف نزار المرح جواره ينتزعه من شروده فيلتفت نحوه ببعض الحدة وهو يراه يراقب طيف بدوره مردفاً :
_بها شيء جاذب ..لكن أنثى العنكبوت هذه لا تبدو من الطراز الملائم للعبث !
_كلهن كذلك! لا تنخدع بالمظاهر!
يقولها يحيى بخشونة وهو يعاود المراقبة بدوره محاولاً تركيز نظراته فوق مجد التي بدت شديدة الحيوية وهي تلعب معها ..
_مجد تبدو سعيدة معها ..أظنها كسرت حاجز خوفها من الغرباء ..وهذا وحده شيء جيد !
يقولها نزار وهو يرفع علبة معدنية من المياه الغازية نحو شفتيه يتجرع منها رشفة كبيرة ..
ثم يردف بنبرة عابثة وهو يشير بعينيه لخادمة طيف التي ظهرت في الصورة :
_لكن هذا ليس عدلاً! خادمتها أجمل من خادمتنا ..اعرض عليها المبادلة !
يقولها ثم يلكز يحيى في كتفه بحركة خاطفة فيبتسم الأخير وهو يغمغم بلفظه المعهود الذي يختصه به :
_زعطوط!
يضحك نزار ضحكة عالية ثم يرتشف رشفة أخرى من مشروبه وهو يبسط ذراعه فوق كتفي صاحبه لينظر نحو الشاشة التي تنقل لهما المشهد حياً ..ثم يسأل يحيى باستخفاف:
_تظنها ستقبل أن تكرر مجد الزيارة ؟
_ليتها لا تفعل ..أنا غير راضٍ عن هذا كله ! إنها امرأة معقدة ..ما يدريني أي سم ستنفثه في رأس ابنتي؟!
يهتف بها يحيى بضيق ليرد نزار بضحكة أخرى ناسبت قوله المستهجن :
_انظروا من الذي يتكلم ! هي معقدة وأنت -والشهادة لله- كعكة بسكر!
يلكمه يحيى في كتفه ببعض القوة وهو يستدير نحوه فيتأوه بمبالغة وهو يبعد علبة المشروب المعدنية هاتفاً :
_اهدأ ..اهدأ ..لا تطلق عفاريتك عليّ ..بقي من الساعة القليل وستعود مجد ويعود معها عقلك !
يزفر يحيى بسخط وهو يعود لمراقبة حديث طيف مع مجد فيسأله نزار باهتمام :
_هل حاولت هي استدراج مجد لجمع معلومات عنك ؟!
_ليس بالضبط ! هي تعلم أنني أسمعها ..كما أنني لقنت مجد الدرس جيداً ولا أظنها ستخالف تعليماتي ..لن تحكي لأحد قصتها !
يقولها يحيى بضيق تتصاعد ذروته وهو يراهما قد انسجمتا تماماٌ ..
فلا يدري هل يشعر بالرضا لأن ابنته تجاوزت حد خوفها من الناس ..
أم يشعر بالسخط وهو يراها لم تنتقِ سوى هذه “القنفذ” كي تمنحها ثقتها!!
تنقطع أفكاره وهو يرى مجد تنحني فجأة لتعانق طيف أمامها عناقاً حاراً ثم تحيط وجنتيها براحتيها هي الصغيرتين لتقبّل جبينها بهذه الطريقة القدسية التي تخص بها القريبين من حياتها فحسب!
هنا ينتفض واقفاً مكانه بما بدا كغيرة غير منطقية ليهرع نحو باب الشقة فيهتف به نزار ضاحكاً :
_إلى أين ؟! الساعة لم تنتهِ ! احذر قَرصة العنكبوت!
لكن يحيى لا يبالي وهو يندفع نحو باب شقتها هي ليطرق الباب ببعض العنف فتفتحه هي لتقول بسماجة كأنها لم تفاجأ به :
_خيراً!
_أريد ابنتي!
يقولها من بين أسنانه فتهتف مجد من خلفها :
_لا يا بابا ..دعني قليلاً .
لكن طيف تلتفت نحوها لتشير لها بكفها فتسكتها بإشارة فظة ..
ثم تلتفت نحوه هو لتقول بنفس البرود السمج:
_تظنه بيت السيد الوالد ؟! تدخل متى تشاء وتخرج متى تشاء! أنت طلبت مني خدمة وأنا امليت عليك شروطي ! عندما تنتهي الساعة يمكنك أن تطرق الباب وتأخذ ابنتك وتمشي غير مطرود ..أما
الآن ..
يكز على أسنانه بقوة وهو يراها تكمل عبارتها بأن تصفق الباب في وجهه بعنف مدوٍّ !!
يضم قبضته جواره وهو يهم بطرق الباب من جديد لكنه يعود ليتراجع في آخر لحظة ..
صوت صفير نزار الذي يستند بكتفه على باب شقتهما يصدح خلفه فيلتفت نحوه بغيظ تزايدت حدته وهو يرى نزار يحرك أصابعه بما يشبه وضع “القَرص” مشيراً لشقة طيف !
_ألم أحذرك من قرصة العنكبوت؟!
يتمتم بها نزار بخفوت وهو يجاور يحيى في وقفته أمام الباب ليعقد الأخير حاجبيه بغضب ..
فيما يبتسم نزار وهو يربت على كتفه مهدئاً ليردف بجدية أكبر:
_دعك من كل هذا كي نفيق لعملنا !أنت لم تذهب منذ يومين .. الشركة تحتاج مجهوداً أكبر مما تخيلته ..لكن الأرباح تستحق التعب !
يقولها ثم يملي عليه بعض تفاصيل العمل ليومئ يحيى برأسه بتشتت وهو يهم
بالرد عليه أخيراً لولا أن فتح الباب فجأة لتظهر منه مجد وخادمتها خلفها تدفع كرسيها ..
_انظر ماذا صنعنا! سنكمله غداٌ عندما تحضرني هنا من جديد..أحببت اسم بنك الحظ هذا أكثر من “مونوبولي”!
تهتف بها مجد بنبرة حيوية ترضي هذا الجانب الأبوي داخله وهي تشير نحو أوراق اللعب بالداخل لكنه لا يملك هذا الشعور بالضيق وهو يرى ابنته تشير لزيارة الغد !
_ستسمح لي بالعودة غداً يا “بابا”؟!
تهتف بها مجد بترقب فتنطق كل
ملامحه بالرفض لتتحفز طيف مكانها وهي الأخرى تنتظر جوابه ..
لكنه يغمض عينيه بقوة كأنه يقاوم
انفعالاً ما بداخله قبل أن يعاود فتحهما لينحني فيقبل وجنة الصغيرة قائلاً لفظته التحببية المعهودة :
_تدللي!
خمسة حروف فقط فعلت في طيف
الأفاعيل!
قشعريرة باردة تسري بين جنباتها وهي تشعر بالكلمة السحرية كعهدها تخترقها و ..تهدهدها !
مزيج غريب قاهر لكنها تقاومه بكل ما أوتيت من عنفوان !
_عودي بها لغرفتها!
يهتف بها يحيى مخاطباً الخادمة التي دفعت كرسيها نحو شقته فيما استطال نزار بقدميه محاولاً تبين خادمة طيف خلفها مع هتافه العابث:
_ونحن ..أليس لنا نصيب في اللعب؟!
لكن طيف تبدو متحكمة في انفعالاتها وهي تمط شفتيها بحركة سمجة في مواجهته متجاهلة يحيى تماماً ..
ثم تلقي الكاميرا في وجهه فيتلقفها نزار برشاقة وهو يضحك لكنها تصفق الباب في وجههما بنفس الدوي!
_عنيفة جداٌ الأخت طيف هذه !
يهتف بها نزار وحاجباه يتراقصان بمشاكسة بينما يتجاوزه يحيى بدفعة قوية نسبية وهو يعود لشقته ليصفق بابها بدوره بدويّ مرتفع!
وخلف باب شقتها المغلق كانت طيف ترمق الأوراق التي تركتها مجد خلفها للعب بنظرة غريبة ..
هي مزيج من حنين و…شِبع!!
لازالت تذكر هذه اللعبة التي كانت ترى
الأطفال في سنها يلعبونها مجتمعين ..
فيما تقف هي -منبوذة- ترقبهم من بعيد ..
لتدرك منذ تلك السن المبكرة أنها لا تصلح للعب جماعي ..أو عيش جماعي ..أنها لن تعيش عمرها إلا وحدها !
ربما لهذا حرصت أن تصنع اللعبة هذه اليوم لتلعبها مع مجد ..
تستعذب هذا الشعور بأن الصغيرة اختارتها طواعية لتمنحها ثقتها وعاطفتها !!
جائعة ..جائعة ..جائعة لهذا الشعور العفوي أن يحبها أحدهم دون شرط ..دون قيد ..دون خذلان ..
ودون أن يطلب منها ورقة هوية ليحدد هل ينظر إليها باحترام أم باحتقار!!
نفس الشعور الذي يمنحه لها قراؤها من بعيد ..لكنها الآن تستشعره بهذا القرب!!
لهذا تتحرك نحو الأوراق لتجثو على ركبتيها تجمعها ..
لم تخطئ عندما قالت للصغيرة أن متعة صنع اللعبة تفوق كثيراً الاستمتاع بها ..
ها هي ذي صنعت “لعبة حياتها”بنفسها كما تمنت ..
لكن هل تستمتع حقاً بالسعادة ؟!
تتناول هاتفها من الجوار وهي تشعر بحاجتها لتفقد صور الصغيرين ضياء ونور ..
فترتجف ابتسامة شاحبة فوق شفتيها ..لكنها تئدها في مهدها !
ماذا دهاكِ يا طيف؟!
من أي شقّ تسرب إليكِ هذا هذا الوهن ؟!
ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟!
بل لماذا هذا الرجل يشعل كل براكينك الخامدة ؟!
والجواب لا يسعفها به كبرياؤها ..
فتتجاهله بحزم وهي تدور بعينيها في المكان حولها كعهدها بنظرات لصة ..
قبل أن تفتح حسابها الاليكتروني المزيف لترسل له رسالة تهدم بها المزيد من الجدران بينهما ..
تخدع نفسها بدعواها أنها تتلذذ
بالسخرية منه خلف ستار ..
ولو صدقتها لأدركت أنها تهوي بقدميها في الفخ الذي طالما نجت منه خطواتها !
فخ الحب!
========
*بنفسجي*
=======
بعض الوجع أثقل من أن تحمله جناحات أبجدية ..الصمت به أولى!
في زنزانتها المظلمة تجلس متكورة على نفسها ..تضم ساقيها لصدرها بذراعيها وتخفي رأسها بينهم ..
ثرثرة النسوة حولها تبدو لها آتية من بعيد كأنها ترثيها الرثاء الأخير !
لماذا فعلتها؟!
لماذا فضحت نفسها واعترفت؟!
هل هو خجلها من “شبح هالة الأبيض” ؟! خشيتها من أن يهجر زيارتها ويرحل كما رحل غيره ؟!
هل هي فرحتها أنها انتقمت لنفسها كفرحة قطة ناعمة تجرب خدش مهاجمها لأول مرة ؟!
أم هي بقايا فطرتها التي دنسها غازي استصرختها أن تنقذ الرمق الأخير ؟!
لا يهم ! كل هذا لم يعد يهم !!
خطوات بسيطة تفصلها عن محطة النهاية ..
وقد آن للقطار أن يبلغ محله !
_هالة !
ترى شبحها الأبيض يقترب في مخيلتها فتضم نفسها أكثر كأنها تحبسه داخلها كي لا يخرج ..
_صرت مجرمة ..في عيون الجميع مجرمة ..رأيتِ كيف كان الناس ينظرون إليّ وأنا أصرخ أني قتلته ؟! رأيتِ كيف ضربتني زوجته الأولى فلم تخلصني منها إلا قبضة الشرطة ؟! رأيتِ كيف أقحموني في سيارتهم ذات القضبان ؟! قضبان!! قضبان!! كأنني لم أكتفِ من القضبان يا هالة ؟! ويح قلبي! متى تدركه رحابة السماء؟! ربما عندما يلفون حبل المشنقة حول عنقي محققين عدالتهم المزعومة ..ساعتها تتحرر روحي من ثقل وزرها ..ساعتها سأعانق رحمة السماء التي بخلت بها قلوب الأرض..ساعتها ألقاكِ يا شقيقة الروح ..ألقاكِ بريئة من جديد ..مثلك ..فسامحيني حتى الملتقى ..سامحيني!
الشبح الأبيض يختفي ..
فينقبض قلبها بشعور النهاية ..
هذا الذي يزداد رسوخاً وهي تسمع ثرثرة النسوة حولها تخرس فجأة مع انفتاح باب الزنزانة ..
صوتٌ غليظ ينادي باسمها فترفع رأسها ببطء وجل ..
_تعالي!
حروفه الغليظة ترسم لها حبل المشنقة يلتف حول عنقها فتزدرد ريقها الجاف بصعوبة ..
تنظر للنسوة حولها كأنها تستجدي أي عطف ..
أي نظرة تضعها على قيد الانسانية ..
تخبرها أن عمرها القصير كان يستحق ولو نظرة شفقة قبل أن ينتهي!
تنهض مكانها ببطء متثاقل فوق قدمين لا تكادان تحملان جسدها الواهن ..
تعد خطواتها عداً كأنما تحسب ما بقي من النهاية ..
أين سيذهبون بها ؟!
هل سيعدمونها الآن ؟!
بهذه السرعة ؟!
ولماذا يتباطئون مادامت قد اعترفت؟!
تشعر به يمسك مرفقها بهذا العنف الذي قد تستشعره أي امرأة سواها ..
لكنها وقد ذاقت من عذاب غازي أقساه بدت لها حركته كتربيتة كف حانية!!
تسير معه عبر رواق طويل لتزيغ نظراتها وهي لا تدري أين يأخذها ..
هل غادرا المبنى؟! هل أخذها لآخر؟!
رحلة مظلمة لا تتبين مداراتها ..لكنها توقن أنها تقربها للنهاية !
درجٌ طويل تصعده معه خطوة خطوة ..
ثم رواق آخر ينتهي هو الآخر بدرج ..
الخطوات تتشابه ..الوجوه المحدقة فيها تتشابه ..
فقط عبر نافذة جانبية كان هناك شعاع شمس يعانقها مودعاً ..
فابتسمت له ابتسامة خلاص!
تراه يتوقف بها أمام هذه الغرفة فترتعد خلاياها رغماً عن كل ما ادعته من شجاعة ..
لا! لا! لا!!
ليس عدلاً!!
ليس عدلاً أن كان يقتلها في اليوم ألف مرة فلا يعاقب ..
ويجازونها هي على قتلة واحدة !!
ليس عدلاً أن يسرق منها ماضيها وغدها ؟!
أن يكون هو المجرم خلف الستار وتكون هي المجرمة في العلن!
ليس عدلاً ..ليس عدلاً!!
تنفلت منها صرخة طويلة تبدو وكأنها تشق صدرها شقاً ..
تتشبث قدماها في الأرض باستماتة ترفض الحركة فيزجرها الرجل وهو يفتح باب الغرفة ليجرها جراٌ ..
يدخلها قسراٌ ليدفعها فيصله الهتاف الصارم من داخل الغرفة :
_لا تمد عليها يدك ..دعها واخرج !
تشعر بالرجل يخرج فتتجمد خلاياها وهي تحيط جسدها بذراعيها مثبتة عينيها في الأرض ..
هذا الصوت!!
هذا الصوت!!
ما الذي جاء به إلى هنا ؟!
_ديمة .
يهمس بها بصرامة صوته التي تعرفها إنما تتخللها الآن هذه الرقة التي تكاد تجعلها تبكي ..
ترفع عينيها إليه ببطء من يخشى التصديق ليفاجئها شكله الذي تعرفه ..
إنما بهيئة أكثر أناقة ..وهيبة !!
تتفرس ملامح وجهه شديد السمرة مصعوقة وهي تراه يقترب منها بعينيه النافذتين ..
فائضتي الحديث دوماّ..دوماً ..فائضتين بحديث لا تفقه تأويله ..!
تنفرج شفتاها بذهول وهي تدور بعينيها في المكان تتأكد مما تراه ..
من هذا المكتب الذي كان جالساّ فوقه ..
ومن هذه الهيئة الصارمة المهيبة التي تبدل إليها حاله ..
لتهمس وسط حروفها الضائعة :
_أديم!
=======

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى