روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الأربعون 40 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل الأربعون 40 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان البارت الأربعون

رواية ماسة وشيطان الجزء الأربعون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الأربعون

الطيف الثالث =الجزء الاول = ج1/
======
*بنفسجي*
=====
_قتلته ! قتلته !
تهتف بها ديمة بصوت عالٍ ينخفض رويداً رويداٌ وهي تحدق في ملامحه الشاحبة ..
تنظر للمرآة البعيدة ..حيث وجهها الذي شوهته آثار طغيانه ..
حيث شعرها الذي اضطرت لقص أطرافه حتى كاد يلامس عنقها على استحياء كي تصلح ما أفسده ..
حيث عيناها اللتان فضحتا انطفاء روحها ..
هذه..!
هذه كيف تصلحها ؟!
تعيد النظر إليه برهبة ..
ثم تحل أزرار عباءتها ببطء وأناملها ترتعد ..
تنظر لجسدها الذي انكشف لتوه ..
لهذه العلامات متفاوتة الألوان التي لطخت بياضه الناصع ..
هنا فقط ..ترتفع أناملها ببطء شديد نحو وجهه ..
لتصفعه !
تشهق بخوف وهي تعيد كفها جوارها بسرعة كأنها تخشى أن يفيق فيبطش بها ..لكنه يبقى على حاله !
فترفع كفها من جديد بصفعة أقوى ..ثم أخريات أقوى وأقوى ..
دموعها تغرق وجهها وهي تكتم صرخاتها القصيرة لكنها تعجز تماماً عن السيطرة على حركة يديها وهي تكيل له صفعاتها ..
حتى تشعر بتنميل يديها ..
وأخيراٌ تجد نفسها تسقط على صدره ..
تتشبث بخاصرته وهي تكاد تدفن وجهها بين ضلوعه ..
_لا ترحل ..لا ترحل ..ليس لي أحد سواك ..أنا أحببتك ..لم أكذب يوم قلتها يوماّ ..هل تذكر ؟!
تهمس بها بما بدا كالهذيان وهي تمرغ وجهها في صدره ..
رائحته النفاذة طالما كانت تدوخها بهذا العبق الكريه الذي طالما أثار نفورها ..
لكنها الآن لا تشم سوى رائحة هذا المزيج المعهود الذي يتخلل كل ذرة في كيانها ..
البحر ..والدم !
_تذكر عندما رأيتك أول مرة ؟! يومها كنت أجلس مع هالة في حديقة بيت أبيها ..تعلقت نظراتك بوجهي..وتعلقت نظراتي بهذه الشعيرات البيضاء وسط سواد شعرك ..رأيتَ فيّ فتنة امرأة ورأيت فيك أمان أب ..هالة حذرتني منك ..أخبرتني أنك متزوج وأنهم يتندرون ببخلك ..لكنني كنت زاهدة في كل شيء وأي شيء إلا شعوري بأن لي بيتاً ورجلاً ..بيتاً يخصني ولا أقيم فيه كمتسولة ..ورجلاً يحميني طمع
الأنذال ..
هنا ترفع رأسها لتعيد النظر لملامحه الجامدة فتضحك وسط دموعها لتبدو كالمخابيل ..
_وهاقد صار لي بيت ورجل ..بيت أعيش فيه كجارية ورجل يستحل جسدي كحيوان لا يعرف إلا لغة الضرب ..أنا كرهتك يا غازي ..كرهتك بقدر ما أحببتك يوما ..وبقدر ما زهدت عمري بعدك ..كرهتك ..كرهتك !
تكرر صرختها الأخيرة بصوت أعلى فكأنما تلفظها بروحها لا بلسانها ..
أناملها المرتجفة تتشبث بقميصه تشده بكل قوتها لتصرخ بالمزيد من الجنون:
_قم ..قم ولا تتصنع الموت ..مثلك لا يرحل بهذه الطريقة السهلة ..ليس قبل أن تتعذب كما عذبتني ..ليس قبل أن أجعلك تصرخ كما صرخت ..ليس قبل أن أوجعك ..أحرق قلبك كما حرقت قلبي ..قم ..قم ..قم ولا تضيع ما بقي من عمري كما ضيعت ما سبقه !
صراخها ينتهي ببكائها المذبوح وقد بح صوتها ..
لكن عينيها تتسعان فجأة وهي تنظر برعب لملامحه ..
فتفلت قميصه من بين أناملها لتعيد غلق عباءتها بسرعة ثم تحيط جسدها الضئيل بذراعيها في وضع حمائي هامسة بخوف هستيري:
_لا! إياك أن تعود ..ارحل ودعني لشأني ..لن أُعدَم بذنبك ..سأعيش ..لن يعلم أحد ..سيظنونك متّ ميتة طبيعية ..لن يعلم أحد ..لن يعلم أحد ..الله سيسترني ..سيسترني ..سيسترني وهو يعلم عن عذابي معك ..سيسترني ..أليس كذلك يا هالة ؟!
أناملها تتلمس موضع قرط أذنها بفردته الواحدة ..
الحجرة حولها تختفي معالمها فلا تكاد تتبين سوى ثلاثة أشباح ..
شبح غازي منزوياٌ أسود اللون بسواد قلبه ..
شبح هالة يقترب منها مواسياً نورانياً يشع ببياض يشبه بياض قلبها ..
وشبحها هي بلونه الأرجواني بين حمرة دم الفقد ..وزرقة بحر الضياع !
شبح هالة يقترب أكثر فتشعر بهذه القشعريرة تدب في أوصالها ..
لا قشعريرة برد ولا قشعريرة خوف ..
بل قشعريرة من ذاق الدفء لأول لحظة ويخشى فقده !
نفس الشعور الذي ملأها عندما رأت هالة أول مرة !
متى كانت ؟!
منذ سنوات …
حبات عقد الذكريات تنفرط واحدة تلو
الأخرى ..
ترى نفسها تعدو خلف أمها لذاك القارب ..يطاردها الخوف والقلق من المجهول ..أمها تسقط ..تخطفها يد الموت كما فعلت بأبيها قبلها ..
القارب ينتظرها ..يفتح لها ذراعين غريبين واعداٌ بجنة بعيدة في بلد غريب ..رائحة البحر تملأها بالوحشة وهي تجد نفسها وحدها وسط عيون مذعورة تهرب من مخالب الموت ..
القارب يرسو لكنها هي لا تفعل!
البر يبدو بعيداً !
بعيداٌ وهي تركض هاربة لا تحمل من أوراقها سوى هويتها الشخصية ..
مطاردة بدعوى “هجرة غير شرعية” ..
كأنما هذا فقط هو غير الشرعي في هذا العالم!!
تركض وتختبئ ..
وتختبئ وتركض ..
فلا تعود تذكر من هذه الأيام سوى سقوطها أمام السيارة التي تركبها هالة !
_أنا لست من أهل الاسكندرية ..أنا من الصعيد ..لكنني جئت هنا مع أهلي لبعض مصالحنا كأنما شاء الله أن تلتقي أقدارنا!
والتقت أقدارهما حقاً!
هالة التي كانت قد فقدت زوجها وتعيش لتربي ابنها وجدت فيها رفيقة روح خاصة وقد تعلق بها الولد تعلقاً شديداً فما كاد
ثلاثتهم يفترقون ..
شهور من السعادة اختلستها من الزمن هنا في هذه البلدة قبل أن تتزوج هالة من عاصي الرفاعي ..
وتتزوج هي من غازي!
غازي الذي بدا لها وقتها كطوق نجاة وهو يظهر لها بدور المنقذ الذي دبر لها أمر أوراق إقامتها هنا في مصر بعد أن طلبها للزواج!
_لا تبتئسي هكذا ..نحن سنتزوج في نفس البلدة ..يمكننا التزاور متى شئنا .
تتذكر قولها لهالة بأمل قبل زواج كلتيهما ..أمل يبدو لها الآن ساخراً ..
لتردّ الأخيرة بأسى:
_لست مرتاحة لزيجتي ولا زيجتك ..
_لا تشغلي بالكِ بي ..أنا أحببت غازي ..أحببت قوته التي تحميني وعاطفته التي تعوضني عن غياب أهلي ..وأنتِ أيضاً ستحبين عاصي يوماً ما !
_قلبي ليس ملكي كما تعلمين .
_لكنه تزوج من تلك الفتاة الجميلة بعدما طلق زوجته الأولى ..تذكرين عندما رأيناهما بالأمس في الطريق ؟! كان يبدو هائماً بها ..أعلم أنني أصغركِ سناً بكثير من
الأعوام ..لكن هذه النصيحة لا تحتاج لخبرة ..لا تعلقي قلبك بمن ليس له !
_ربما تكونين على حق ..عاصي الرفاعي لم يعد خياراً بل قدراً ..كل أبناء عمومتنا يسعون لهذه الزيجة ..هل تصدقين أن يتشابه قدرنا إلى هذا الحد فتكون كل منا زوجة ثانية ؟!
تتوقف ذكرياتها عند هذا الحد فتبتسم بمرارة وهي ترفع عينيها نحو شبح هالة
الأبيض الذي لايزال يقترب ..لكنه لا يمسها أبداً ..
_تشابه قدرنا كثيراً لكنه انتهى بكِ مقتولة ..وانتهى بي قاتلة !
هنا يختفي شبح هالة فجأة فتصرخ باسمها وهي تشعر بالخوف يعاود مراودتها ..
شبح غازي الأسود ينهض من مكانه ليقترب منها فتصرخ ..
_أفيقي يا ديمة ..غازي مات ..مات ..لن يؤذيكِ بعد اليوم ..تماسكي ولا تدعي أحداً يشك في أمرك ..انعمي بما بقي من حياتك ..هو نال ما يستحقه !
تغمغم بها لصورة مرآتها وهي تهز رأسها بعنف بينما تتحرك بجسدها مبتعدة عن الجسد المسجى على الفراش ..
_لو سألوكِ قولي لا أعلم ..لا أحد سيكتشف أمرك ..أنتِ بريئة ..هو المجرم ..هي فرصتك لتعيشي ..أنتِ انتقمتِ لنفسك وبقي أن تنتقمي لهالة ..افتحي النافذة ..اصرخي وأعلني الخبر ..
تركض نحو النافذة لتفتحها فيتلقفها نسيم بارد لكنها تشعر به كعاصفة ..
رائحة الفجر تحمل لها عبير الخلاص فتتنشقها لكن “عطن الإثم” يزكم أنفها ..
تنفرج شفتاها لتصرخ مدعيةً البراءة لكنها وجدت نفسها بدلاً من هذا تصرخ دون وعي ..كأنما تنتقم لكل لحظة صمت مقهور ذاقتها :
_قتلته ! قتلت غازي ! صرت حرة ! صرت حرة !
======
*نيلي*
=====
_أسميتك “الرفيق” رغم طول “الفراق” ..وبين “رفقة” و”فرقة” تظل أنت أجمل قدر !
تكتبها له زهرة في رسالتها ليصلها رده :
_أما أنا فأسميتك “السُكنى” ..وليس أغلى على الشريد من سكناه !
تتنهد بهيام وهي تضم الهاتف لصدرها لكن رسالته التالية تخز صدرها :
_سأصل مصر غداً ! هل أخبرتِ عائلتك ؟!
تدمع عيناها بعجز وهي تنظر نحو باب غرفتها المغلق لكنها تكتب له بسرعة :
_لم تواتني فرصة مناسبة بعد !
_هل تخفين عني شيئاً؟!
يعز عليها هذا الخوف الذي يلفحها بين حروف رسالته ..خاصة وهو في هذه اللحظة يتجاهل طلبها بألا يهاتفها فيصدح هاتفها برنة فيروز الخاصة به :
_ما الأمر يا زهرة ؟! أقسمي لي أنك بخير !
تزداد كثافة الدموع في عينيها لكنها تبتلع غصة حلقها وهي تدرك أن “فوبيا الفقد” خاصته لاتزال تنشب مخالبها في صدره ..
فترد هامسة بعاطفة هادرة لا تدعيها :
_كيف أقسم أنني بخير وأنا بعيدة عنك؟! لا تقلق ..كل الأمور ستكون كما خططنا لها ..امنحني فقط بعض الوقت .
_لكِ العمر كله !
يقولها بهذه النبرة التي أذابتها مكانها لتتنهد بحرارة هامسة :
_ولك العمر وما بعد العمر .
_دوماً تغلبينني يا نيلية !
يهمس بها ضاحكاً فتطوقها ضحكته كغلالة من أمان تنسيها ما يؤرقها مؤقتاً لتهمس له بخفوت :
_أين ستقيم ؟!
_صديقي “عزيز” عندكم في مصر يلح عليّ في البقاء معه ليومين على الأقل قبل أن أتدبر أمري .
قبسٌ من الغيرة يمسها وهي تذكر صلة ماسة بعزيز وإعجاب جهاد القديم بها ..
لكنها تعود لتذكر أن ماسة صارت تقيم مع زوجها في مدينة ساحلية بعيدة ..كما أنها لم تكن لجهاد سوى طيف من هوسه المعهود ببلده ..
صوت طرقات على غرفتها يجعلها تشهق بعنف لتهمس له بسرعة :
_آسفة ..سأغلق الاتصال الآن !
تغلق الاتصال مجبورة دون انتظار رده
ليُفتح الباب وتدخل منه أمها حاملة صينية من الطعام ..
_لم تتناولي غداءك يا ابنتي!
_ليست لدي شهية !
تقولها بحزن حقيقي سمحت له أخيراً
بالطفو على سطح مشاعرها وهي تتأمل
ملامح غرفتها الخانقة ..
سريرها الخشبي قديم الطراز الذي طالما احتضنت دموعها وسادته..
نافذتها الضيقة التي طالما كانت رفيقتها في الحلم للخروج من هذا البيت ..
البلاط القديم للأرض والذي لاتزال تذكر برودة ليال طويلة قضتها فوقه ..
وأخيراً دولاب ملابسها الذي انخلع بابه فلم يهتم أحدهم أن يصلحه لتبدو ملابسها فيه مكشوفة ..تماماً كما تشعر بنفسها الآن !
تضع أمها صينية الطعام جانباً ثم تربت على كتفها مواسية بنبرتها التي لا تقل عنها حزناً :
_ما الجديد هذه المرة يا ابنتي ؟! تعلمين أن أباكِ لا يوافق على أي عريس يأتيكِ !
_لكن هذا ليس أي أحد ..أنا أحبه يا أمي ..أحبه وأنتظره منذ سنوات .
تهتف بها زهرة بحرقة لتتسع عينا أمها بارتياع وقد ساءها هاجس ما :
_أصدقيني يا ابنتي ..هل كان بينكما …؟!
تقطع سؤالها بما بدا مفهوماً لتشهق زهرة باستنكار هاتفة :
_بماذا تفكرين يا أمي؟! بالطبع لا! ابنتك عصمت نفسها طوال هذه السنوات وهي تعيش وحدها في الغربة ..وليس عدلاً بعدها أن يرفض أبي الرجل الوحيد الذي أريده !
تدمع عينا المرأة بالمزيد من العجز وهي تبسط راحتيها باستسلام لتقول بنبرة مهتزة :
_أبوكِ معه حق ..هو فلسطيني ..ماذا يجبرنا على رجل لا نعرف له أهلا ولا بلداً ؟!
هنا تصرخ زهرة بقهر وهي تنتفض واقفة مكانها :
_تعلمين أن هذا ليس السبب ! ولو كان غير فلسطيني لرفضه كما رفض من قبله ..هو لايريد تزويجي كي لا يفقد الدجاجة التي تبيض له البيضة الذهبية ..نقود عملي التي أرسلها له أولاً بأول!
_ماذا تقولين يا (….)؟!
تشهق زهرة بذعر وهي تلتفت لمصدر الصوت حيث الرجل الذي ظهر لتوه فجأة والذي لم يحمل من الأبوة سوى اللقب!!
_بالله عليك لا تؤذها! هي لا تقصد!!
تهتف بها أمها وهي تندفع نحو الرجل الذي بدا مترنحاً في غير تمام وعيه بفعل الخمر الذي لعب برأسه والذي دفع أمها بقوة ليسقطها أرضاً فيتعالى صوت صرخاتها وهي تحاول الوقوف من جديد كي تذود عن ابنتها التي اندفع نحوها الرجل ليشدها من شعرها صارخاً بغضب مجنون:
_نقودك هذه حقي! حقي وليست منّة منك! أنا الذي تعبت وربيت وكبّرت ..أنا الذي سمحت لك بالسفر ..كلمة واحدة زائدة وسأحبسك في غرفة خالتك السفلية لعنها الله مكان ما راحت حتى تتعفني حية ..تفهمين؟!
تكتم زهرة صرختها بقهر وهي تومئ برأسها في طاعة قسرية لتحاول أمها أن تبعده عنها لكنه يدفع كلتيهما معاً لتسقطا فوق الفراش فيما يتناول هو حقيبة زهرة ليستخرج منها حافظتها ويفرغها من نقودها ثم يلقيها في وجهها هاتفاً بازدراء:
_أجازة وسفر وإنفاق نقود في كلام فارغ!
لأجل عرض زواج فاشل كهذا ؟! بنات قليلة الحياء ! أي زواج هذا الذي تتعجلينه ؟! لا تزالين صغيرة لماذا تريدين حمل الهم باكراً؟!
ترمقه بنظرة مقهورة وهي تحتضن حافظتها ليهتف هو بنفس النبرة المترنحة مخاطباً أمها :
_حضّري لي “لقمة” ..
يقطع عبارته وهو يرى صينية الطعام التي كانت قد أحضرتها لزهرة فيتناولها ليخرج بها هاتفاً :
_”السنيورة” لم تأكل ..”نفسها مسدودة” ..لتبقَ مسدودة أكثر وأكثر!!
تنقطع عباراته التي تفهم كلماتها بصعوبة من أثر الخمر وهو يختفي من أمام ناظريهما فتحتضنها أمها بقوة لتهمس لها بخفوت بين دموعها :
_لماذا عدتِ يا زهرة ؟! أنا أحمد الله ليل نهار أن وجدتِ عملك ذاك بعيداً عنا !! تظنين غربتك سهلة عليّ؟! لا والله ! يعلم ربي كم يمزقني غيابك ..لكن ما يصبرني أنك بعيدة عن بطشه .
_عدت لأني تعبت من العيش وحدي ..لأني ظننت أنه من حقي أن أتزوج رجلاً أحبه ويحبني ككل البنات!
تهمس بها زهرة بين دموعها لتهمس أمها محاولة تخفيف الأمر عنها :
_لا تهولي الأمور ! لو كان هذا الرجل يحبك فاطلبي منه أن ينتظر .
_ماذا سينتظر ؟! وإلى متى؟! تعلمين أن أبي لن يوافق ..لقد ظننت أنني عندما أعرض عليه أن أبقى أرسل له راتبي بعد زواجي سيوافق على الزيجة ..لكنه رفض ..كأنه يخاف أن أجد ظهراً يسندني وينصرني عليه !
تهز أمها رأسها بمزيج من عجز وخيبة ولاتزال تحاول التخفيف عنها :
_أبوكِ كبر ويحتاجك..ليس عيباً أن تساعديه بمالك!
_وأين أثر مالي عليكم هذا يا أمي؟! البيت لا يزال على حاله بل زاد سوءاٌ !
تعض المرأة شفتها بخزي فتهمس زهرة بارتياع:
_عاد للعب القمار؟!
تشيح أمها بوجهها في جواب غير منطوق لتهمس زهرة بالمزيد من القهر:
_والله حرام! أنا أشقى وأتعب في الغربة كي أرسل المال الذي ينفقه فوق طاولات القمار.. وعندما أطلب أبسط حقوقي في الزواج من رجل أحبه يهددني بإيذائك .
_لا تحملي همي ..أنا تعودت على طبعه ..المهم أن تأمني أنتِ أذاه ..لو ..
تقطع عبارتها بشهقة ذعر وهي تسمعه يناديها بصوته الكريه من الخارج فتنتفض مكانها لتهرع إليه بخطوات راكضة ..
فيما ترمقها زهرة بنظرة قهر طويلة ثم تفتح حافظتها لتستخرج منها دبلتها بألوان علم فلسطين وعبارتها التي حفرتها عليها من الداخل:
(أنت بدربك في جهاد ..وأنا بحبك في جهاد)
فتنهمر دموعها صامتة ..
سيصل غداً !
لا تدري بماذا ترد عليه ولا كيف تشرح له ظروفها ..
هل تطلب منه ألا يأتي ؟! أم تخبره الحقيقة وتتقبل قراره ؟!
لقد ظنت أنها يمكنها ترقيق قلب أبيها أو حتى إشباع طمعه بترك راتبها له مستقبلاً لكنه يصر أن يسمم حياتها للأبد !
تتسلل من الغرفة وهي تشعر بالاختناق لتغادر البيت نحو الغرفة السفلية التي طالما يهددها بها ..
تدفع بابها المغلق لتجلس على طرف فراش الغالية الراحلة والتي لم تكن
خالتها فحسب ..بل أمها الثانية !
أمها الثانية التي عاشت لحظات ذبولها بذاك المرض اللعين لحظة بلحظة حتى رحمتها يد الموت .
كان هذا أول طرقة لشبح الفقد على بابها ولهذا تعذر جهاد في خوفه المعهود من هذا ..
جهاد؟! جهاد!!
ماذا بعد ؟!
وماذا سيحمل لها القدر من فصول لقصتهما ؟!
تشعر بوخزة حقيقية في صدرها فتتأوه بخفوت وهي تمسد موضع الألم بأحد كفيها ..بينما تتلمس أناملها الحرة طرف الفراش ..
والسؤال الحائر يخنق كل أمل تحاول به مواساة نفسها ..
ماذا بعد ؟!
=====
*أصفر*
======
_كنت تضحك لها !
تهتف بها رؤى بانفعال وهي تلوح بذراعيها فيكتم ابتسامته وهو يحاول احتواءها بين ذراعيه لكنها تتملص منه مردفة بصوتٍ أعلى:
_أنا رأيتكما بعيني في الورشة ! ماذا أعجبك فيها ؟! طولها الفارع كنخلة معوجة ؟! شعرها المصبوغ كأسلاك نحاس صدئة؟! صوتها الذي يشبه أنين فأر يحتضر؟!
هنا يعجز عن كتم ضحكته وهو يراها بهذه الحالة الجنونية من غيرتها الغريبة على طبيعتها الهادئة ..
فتستفزه ضحكتها لتهتف بالمزيد من
الانفعال:
_لا تضحك وإلا أقسم بالله ..
تقطع عبارتها دامعة العينين وهي تبحث عن وعيد مناسب ..
لكنه ما كاد يلمح هذه اللمعة الحقيقية في عينيها حتى ضمها بقوة لصدره ليغمرها بين ذراعيه بهذا الفيض الذي يكفيها لتغرس قدمها فوق أرض ثابتة ..
يشعر بتشنج جسدها المنفعل فتنساب
قبلاته نهراً من عسل فوق وجنتها وجانب عنقها بينما يشدد ضمته لها أكثر ..
_تغارين يا ليمونية ؟!
يهمس بها بخشونة صوته المحببة التي تمزج سحر رجولته بدفء حنانه فيهدأ جسدها بين ذراعيه رويداّ رويداّ ..
يرفع وجهها نحوه فتستقر شفتيه فوق مرفإها الأثير عند “شق ذقنها” الحبيب للحظات ..قبل أن يشبك أنامله بأناملها ليرفع كفيهما معاً نحو شفتيه ..
يقبل باطن كفها ليهمس أخيراً بعتاب:
_العين التي لم ترَ من النساء قبلك لن تفعلها بعدك ..
ترتجف شفتاها بانفعال وهي تسبل جفنيها ليردف بنفس النبرة المتأرجحة بين عشق وعتاب:
_سلّم الله قلبك من نار الغيرة يا “ست الحسن”!أشفق عليكِ منها وأنا المكتوي بها !
حروفه تنزل برداً وسلاماً على نيرانها فتطفئها لتسأله بدلالها العاتب:
_من كانت تلك المرأة؟!
_زبونة!
_ولماذا كنت تضحك لها؟!
_كنت أبتسم لها كما أبتسم لأي ذكر ذي شارب ولحية !
_لا! كنت تضحك ! ولولا أنني جئت قدراً
لأراكما لما …
تقطع عبارتها الانفعالية بآهة تأوه خافتة وهي تراه يشد أذنها برفق هاتفاً ببعض الغلظة :
_دعكِ من كل هذا الكلام الفارغ ودعينا نتناقش في “قدراً” هذه!! منذ متى تخرجين دون إذني؟!
ترفع إليه عينين معتذرتين وهي لاتزال تتأوه بدلال قائلة:
_كنت أحضر لك مفاجأة!
_ولماذا لم تخبريني؟!
_وكيف تكون مفاجأة لو أخبرتك؟!
تهتف بها باستنكار فيشدد من ضغطه على أذنها وهو يقترب بوجهه منها هامساً بضيق حقيقي:
_أعرف أن عيد ميلادي غداٌ ..وأعرف أنكِ خرجتِ لتشتري لي هدية ..تماماً كما تعرفين أنتِ أنني لا أكترث بكل هذا الهراء! لا أحب أن أبدو كطفل صغير يحضرون له الهدايا ويضعون له “الطرطور” فوق رأسه !
_شجار كل عام !
تقولها بدلالها العاتب فيزفر زفرة خافتة وهو يفلت أذنها لتبسط هي راحتيها فوق صدره مردفة بحب:
_منذ عرفتك وأنت تطوقني بهذا الحب الذي يجعلني لا أسير على الأرض بل أحلق فوق غيوم السماء ..تحيط بكل تفاصيلي الصغيرة ..تحقق لي كل أمانيّ قبل حتى أن أفكر في طلبها ..لهذا أحتاج أنا الأخرى أن أشعر أنني أسعدك بصورة استثنائية ولو مرة في العام!
_تعلمين أنكِ كي تسعديني لا تحتاجين سوى لأن تكوني جواري..جواري فحسب!
يهمس بها صادقاً بهذه العاطفة التي لاتزال تزلزلها رغم مرور هذه السنوات ..
فتبتسم وهي ترفع كفه لتقبل ظاهره ثم تبسطه على وجنتها هامسة :
_أعلم..لكن لا تحرمني لذة الشعور بأنني أمنحك القليل مما يستحق رجل عظيم مثلك !
_رجل عظيم! سبحان الله! منذ دقائق فقط كنت وغداً يضاحك النساء!
يمط بها شفتيه مستنكراً وهو يعطيها ظهره ..
فينعقد حاجباها فجأة كأنما تذكرت لتدير ظهره نحوها فتواجهه بقولها المنفعل:
_لا تظنني قد نسيت! أو أن سابق كلامنا قد شفع لك! إياك أن تضحك بهذه الطريقة ثانيةً مع أي زبونة !
_وماذا لو فعلت؟!
يقولها وهو يرفع أحد حاجبيه بمكر فتنفرج شفتاها وهي تبحث عن عقاب مناسب ..
ليهز رأسه بالمزيد من المكر وهو يحرك سبابته في وضع دائري كأنه يحثها على
الكلام ..
لكنها تبتسم وهي تقرب وجهها منه حد انصهار أنفاسهما لتهمس بغنج:
_قلبي سيشعر ..وسيحزن ..يهون عليك قلبي؟!
يضحك ضحكة عالية وهو يضمها إليه بشدة هامساً بخشونة صوته العذبة :
_صرتِ خطيرة يا ليمونية ! لكن ماذا عساي أفعل فيكِ ؟! بل في قلبي الذي أنصفكِ عليّ منذ وقعت عيني عليكِ!
_سلِم لي قلبك وعينك !
تهمس بها ذائبة بفيض غرامها وهي تقبل موضع قلبه أمامها لترفع رأسها مردفة بنبرة أكثر مرحاً:
_لا تريد أن ترى هديتي؟!
يبسط لها راحتيه باستسلام فتضحك ضحكة طفولية وهي تركض نحو درج الكومود المجاور لتستخرج منه هذه العلبة التي فتحتها أمامه ..
تتسع عيناه قليلاً وهو يستخرج منها هذه الميدالية الفضية التي كانت تحمل صورة
ثلاثية لهم مع ربى ..
_أنتِ تركتِ صورتك مع رجل كي يصنع لنا هذه؟!
يهتف بها بغضب لكنها تدرك الموقف هاتفة بسرعة:
_امرأة! أرسلت لها الصورة عبر الانترنت ولم أرها إلا اليوم عندما خرجت .
_وما يدريكِ أنها امرأة حقاً وليست رجلاً متنكراً؟! وحتى لو كانت امرأة ما يدريكِ أن الصورة لن تقع في يد رجل غريب؟!
يهتف بها بغضبه الذي صارت تتفهمه لتبتسم له مهدئة بقولها:
_إنها صديقة صديقتي ..أعرفها منذ سنوات!
_أي صديقة ؟! منذ تزوجنا لم أعرف لكِ إلا صديقة واحدة كانت تدعى جنة !
كلماته تجذبها نحو ماضٍ بعيد يبدو لها الآن وكأنه قد كان لأخرى!!
أجل ..لا تصدق أن الحياة التي ظنتها انتهت بعد خطيئتها مع فهد الصاوي ستبدأ من جديد أروع بداية!
أن القدر الذي أغلق لها باباً ضيقاً قد فتح لها الباب الأوسع!
صحيحٌ أنها قد خسرت صديقة رائعة كجنة بعدما كان بطبيعة الحال وقد صارت علاقتهما متباعدة بمجرد عبارات قصيرة عبر مواقع التواصل ..لكنها تعلم أن أياً منهما لو احتاجت الأخرى فلن تفرقهما حدود .
والواقع أن المرأة التي كانت تعمل بهذه
الأشغال اليدوية كانت صديقة جنة حقاٌ لهذا وثقت بها!
_هي صديقة جنة فعلاً! وهذا يكفيني
لأمنحها ثقتي! ولو كان عندي ذرة واحدة من شك لما فعلتها!
تزأر ملامحه بعدم الاقتناع لكنها تعاود تبسمها له وهي تعقد حاجبيها بمشاكسة مصطنعة هاتفة:
_هل هذه “شكراً يا ليمونية” التي أنتظرها؟! ألم تعجبك الفكرة؟!
_لا!
يقولها بعبوس مصطنع فتهتف مستنكرة:
_لماذا؟!
_حمقاء أنتِ؟! تظنين أنني سأحمل ميدالية عليها صورتك يراها كل من هب ودب؟!
يهتف بها باستنكار وهو يخبط جبينه بجبينها بخفة فتتأوه وهي تمسد جبينها
بدلال هامسة :
_الصورة مغطاة بحاجز سهل الحركة ..لن يراه إلا من يزيحه !
_ولو!
يقولها بعناد مردفاً :
_هأنتذا قلتِها! سهل الحركة !
_إذن لم تعجبك؟!
تقولها بخيبة فيبتسم وهو يربت على وجنتها قائلاً:
_أعجبتني وهي منكِ ..وأعجبتني وهي تحمل صورتك مع رُبَى..لكنها لن تغادر هذا البيت ..سأحتفظ بها هنا لنسخة مفاتيحي الاحتياطية !
يقولها ثم يقبل جبينها بعمق فتتنهد
باستسلام لطبيعته التي يعرفها ..
قبل أن يعاود هو القول بنبرة أكثر حزماً :
_لا تكرري الخروج دون علمي .
تهز له رأسها موافقة فيبتسم وهو يعانق عينيها الحبيبتين بنظراته متسائلاً :
_أين ربى؟!
_تلعب مع أولاد عمها كالعادة .
_إذن هي فرصة لعشاء مميز!
يقولها وهو يقرص خصرها بهذه الحركة التي تجعلها تنتفض مكانها فتهتف ضاحكة :
_أفكر في حرمانك من العشاء والتحلية أيضاّ بسبب ضحكك مع تلك المرأة ..لكن لا بأس ..قلبي طيب!
_سنعد العشاء سوياً هذه الليلة ..سأصالحك بطعام تحبينه !
يقولها بحنان دافق وهو يقبل وجنتها مردفاً:
_البلح المحشو بالشيكولاتة !
_لاتزال تذكر!
تهمس بها بتأثر وهي تتذكر عندما أخبرته يوماً أنها لم تكن تحب البلح وهي صغيرة فكان أبوها الراحل يحشوه لها بالشيكولاتة كي يرغبها فيه ..
_كل تفاصيلكِ عشقي يا ليمونية ..كلها!
يهمس بها وشفتاه تدللان شفتيها في لقاء قصير ..
فيتشبث ذراعاها بخصره بكل قوتها وهي تشعر معه كعهدها أنها تعانق معه أمان العمر كله ..
يتحركان بعدها سوياً نحو المطبخ القريب كي يعدا العشاء معاً ..
ولم يكادا يرصان الأطباق فوق المائدة حتى فوجئا برنين جرس الباب ..
_لماذا تبكين؟!
يهتف بها راغب بجزع بعدما فتح الباب وهو ينحني ليحمل ابنته التي كانت تهتف بغضب طفولي:
_انشغلوا عني عندما أتت تلك الضيفة
لأمهم ..لن ألعب معهم ثانية .
فيضحك وهو يقبل وجنتيها تباعاً بينما يغلق الباب بقدمه ليدخل بها نحو رؤى هاتفاً بمشاكسة:
_لا تكوني غيور كأمك.
_أمها الغيور ؟!!
تهتف بها باستنكار وهي تحمل الصغيرة منه لتضمها إليها فيضحك وهو يربت على ظهريهما معاٌ ..
بينما تحاول رؤى تهدئة الصغيرة الباكية بقولها :
_لا تبكي ..سيأتون حالاً لمصالحتك .
لكن الصغيرة تهتف بغضب طفولي:
_لن يفعلوا ..إنهم مشغولون بتلك الضيفة التي حضرت ..الجميلة التي تطبخ في التلفاز ..
ينعقد حاجبا رؤى ببعض الدهشة لتتبادل مع راغب نظرة ذات مغزى ..قبل أن تعاود سؤال الصغيرة باهتمام:
_من هذه ؟!
لتجيب ابنتها مؤكدة استنتاجهما :
_خالتهما ..تلك ال”عزة”!
=======
*أخضر*
========
_خطوة عزيزة! ما الذي ذكرك بنا اليوم؟!
تهتف بها هيام شقيقتها بتهكمها الفظ كعهدها فتطرق عزة برأسها دون رد ..
لتقوم هيام من مكانها فتجلس جوارها وهي تبسط ذراعها على كتفيها مردفة بأمل:
_قولي أن الأمر يخص عريساً منتظراٌ ..فرّحي قلبي كي نكيد
الأعادي!
ترمقها عزة بنظرة طويلة وهي لا تدري بماذا ترد ..
هل تخبرها حقاً لماذا جاءت إلى هذا البيت
بالذات بعد طول هذه الشهور التي تجنبت فيها زيارتها؟!
هل تخبرها أنها جاءت اليوم لهذا المكان كي لا تنسى!
كي لا تضعف!!
الوهن الذي يتخلل روحها بعد عرض إيهاب
الأخير للزواج منها يكاد يفقدها صوابها ..
يكاد ينسيها ما الذي عاشته في حياتها قبله ..
تنازل تلو تنازل ..
تنازلها الأول كان في قبولها لذاك البلطجي الذي قبلت خطبته فقط كي تنال لقب زوجة ..
ثم تنازلها وهي تتقبل معاملته السيئة لها خوفاً من أن يتركها ..
وحتى عندما تجرأت لتفسخ الخطبة عادت للتنازل وهي تقبل عرض راغب كزوجة ثانية ..
زوجة ثانية استنكف زوجها أن يمسها وفاء
للأولى لكنها بقيت تقبل التنازل لترضى بتلك العيشة خوفاً من العودة للعيش وحيدة ..
ماذا تنسى؟!
بل ماذا تذكر؟!
تحرشات خطيبها الأول التي كانت تصدها بخوف وهي ترى نفسها ضعيفة أمامه ؟!
نظرات راغب التي كانت تصرخ بها -دون صوت- أنها مجرد وزر ثقيل على كتف شهامته ؟!
نظرات هيام شقيقتها التي كانت تغرس فيها المزيد من الخوف والرغبة في التنازل؟!
لن تنسى قط تلك الليلة التي تهجم فيها عليها خطيبها الأول ليعتدي عليها هنا في هذا البيت ولولا شجاعة رؤى لكان قد نال منها …
تماماً كما لن تنسى تلك الليلة التي ظهرت فيها لأول مرة على شاشة التلفاز ..
بإحساس الأولى بين وهن وذل ..وإحساس الثانية بين فخر وعِوَض!
وعلى حافة المنتصف السخيفة بينهما لا تزال هي تقف ..
تخشى أول خطوة تنازل تدفعها للخلف لتسقط من فوق قمتها !!
_قولي يا “بنت” ..ماذا بك؟!
تهتف بها هيام بحنانها الفظ لتردف بالمزيد من الاستنكار:
_لا تظنين العمر سيتوقف بك أمام هذا السن ..ستسرقك الأيام لتجدي نفسك فجأة وحدك ..لا تغتري بشهرتك الآن ..لن تدوم ..فرصك ليست جيدة كما تظنين ..أنت يتيمة ومطلقة و…
_كفى!
تهتف بها عزة في وجهها بحدة وهي تنتفض واقفة لتجفل هيام مكانها فيما تستطرد
الأولى بانفعال احمر له وجهها:
_تسألين لماذا جئت؟! جئت لأسمع منك هذا الكلام ! لأذكر نفسي بكل لحظة ذل رأيتها في حياتي ! لأجل ألا أقبل التنازل من جديد ! أنا أستحق الأفضل بعد صبر كل هذه السنوات ! أستحق رجلاً يشار له كما يشار لي ..رجل يرفعني جواره لا يهبط بي لتلك المنزلة من جديد ..عزة الأنصاري التي خرجت من هذا البيت شبه جارية لن …
تنقطع عبارتها وعيناها تصطدمان بعيني رؤى التي دخلت تحمل ربى لتوها وقد سمعت رغماً عنها جانباً من هذا الحوار ..
لتبتلع عزة بقية كلماتها وهي تشعر أنها تفقد توازنها من جديد ..
_هل يعجبك هذا ؟! أختي أصابتها عقدة من الزواج بسببك!! لكن الله سيعوضها !
تهتف بها هيام بغلّ مخاطبة رؤئ وحقدها يتسرب بين حروفها لكن عزة تهرع نحو رؤى لتصافحها بود ..
ترتجف حروفها وهي تغتصب ضحكة مفتعلة قائلة :
_لا تعتبري لكلماتها ..لا أصدق أنها لا تزال تذكر هذا بعد هذه السنوات ..لو كان هناك ما أذكره فهو مساعدتك لي كي أصل لما أنا فيه الآن ..أنتِ وراغب بالطبع !
تغمغم هيام بكلمات ساخطة وهي تغادرهما نحو الداخل فيما تترك رؤى صغيرتها لتلعب مع الأولاد بالداخل ..
قبل أن تقترب من عزة لتتفحص ملامحها باهتمام قائلة برقتها المعهودة :
_كنت أظننا نطمئن عليكِ من هذه الصورة المتألقة لكِ على شاشة التلفاز ..لكن الآن أشعر حقاً بالقلق ..هل تضايقك هيام ؟! لهذا ما عدتِ تزوريننا ؟! ألازلتِ تشعرين بالحرج من الوضع القديم؟!
ورغم يقينها من سلامة نية رؤى تماماً لكن شعورها الخانق جعلها تتحسس “بطحة رأسها” وهي ترفع أنفها لتقول بفخر مصطنع:
_لم يعد أحد بقادر على مضايقتي ..تعلمين ماذا صار إليه حالي .
ترمقها رؤى بنظرة مشفقة وهي تشعر أن قناع الغرور الذي ترسمه هذا يداري حزناً ما لا تفهم سببه ..
لهذا تهم بسؤالها عن المزيد لكن عزة تغتصب ضحكة انفعالية أخرى وهي تربت على كتف رؤى هاتفة بنفس النبرة المصطنعة :
_أنتِ طيبة القلب حقاً ..من يرانا هكذا لا يصدق أنني كنت يوماً ما ضرتك !
تغمض رؤى عينيها بقوة وهي تحاول نفض ذكرى تلك الأيام الثقيلة عن خاطرها ..
لكنها تعاود فتحهما بدهشة وهي تسمع عزة تودع هيام دون انتظار رد الأخيرة التي كانت قد اختفت بالداخل:
_أنا راحلة ..تريدين شيئاً ؟!
_أريدك عاقلة ! هدى الله رأسك الغبي!
تهتف بها هيام بفظاظتها المعهودة من الداخل دون أن تخرج إليهما ..فتبتسم عزة لرؤى ابتسامة مرتجفة قبل أن تغادر بدورها تكاد تركض فوق درجات السلم ..
تتلاحق أنفاسها بسرعة وهي تصل لمدخل البيت ..
تدور ببصرها في المكان حولها ..تستعيد كل ذكرى خيباتها هاهنا ..
ملامحها تتلون ب”خضرة” مشاعرها المعهود بين “أزرق” الخوف و”أصفر” الانطلاق!
تغلق الباب أخيراً خلفها وهي تشعر أن هذه الزيارة قد آتت ثمارها حقاٌ ..فتهمس من بين أسنانها :
_تذكري ! تذكري جيداً! عزة الأنصاري ولدت يوم خرجت من هذا المكان ..فلا تعيديها بتنازلك لسجن يشبهه !
تتحرك نحو سيارتها التي تجمع حولها بعض الأطفال يلعبون فتنهرهم بحدة غريبة على طيبتها المعهودة ..
تستقل السيارة وهي تشعر بنظرات أهل الحي تطوقها بين فضول وحسد ..
هذه النظرات التي تتجاهلها في العادة لكنها الآن كانت تتعمد مطاردتها في عيونهم ..
_لا تنسي ..لا تنسي ..كم دفعتِ ثمناً لهذه النظرات !
تقود سيارتها بسرعة عالية وهي تغادر الحي كأنها تهرب من صورة ماضيها التي تكاد تخنقها ..
هاتفها يرن برقم مخرج برنامجها فتتنهد بارتياح وهي تشعر بعودتها لهذا العالم تنسيها كآبة الساعات السابقة ..
ترد بعفويتها المعهودة لكنها تلاحظ أن نبرته معها مؤخراً صارت أكثر عاطفية ..أو ربما هي التي صارت أكثر هشاشة ..
لكن المكالمة حقاٌ لم يكن لها سبب منطقي ..
_اعتني بنفسك ..أراكِ شاحبة هذه الأيام .
يقولها بصوته الرجولي الرخيم فتشعر بهذه الوخزة في قلبها ..
لهذا تغلق الاتصال بسرعة متذرعة بحجة وهمية ثم تخبط رأسها في مسند السيارة الخلفي بعنف!
منذ تلك الليلة التي عرض عليها فيها إيهاب الزواج لتطلب منه مهلة للتفكير في الأمر وهي غارقة في هذا الحال من الفوضى ..
الفوضى التي يزيدها شعورها بافتقاده !
هو الذي احترم رغبتها في هذه المهلة وقد فضّل أن يبتعد كي لا يؤثر على قرارها ..
لكنه فقط يذكرها برسالة على هاتفها كل ليلة ..
رسالة كهذه التي وصلتها الآن :
_أنتِ بخير؟!
تدمع عيناها بعجز وهي تضم الهاتف لصدرها ..
ماذا لو اتصلت به الآن ؟! لو أخبرته أنها توافق!
أنها حقاً تأنس لصحبته ..تشعر بالأمان في وجوده ..
لكن هل هذا يكفي لتدخل بقدميها سجناً جديداً لا تدري عواقبه ؟!
لتقبل رجلاً لا ترتضي شكله ؟!
لتضع رهانها الأخير على جواد أعرج لا تدري كيف سيمكنه عبور كل هذه الحواجز التي يبنيها لها خوفها ؟!
ماذا لو أخبرته أنها لا توافق؟!
لو رحل عنها للأبد تاركاً لها هذا الفراغ الذي ما عاد يملأه غيره ؟!
تنقطع أفكارها وهي تسمع صوت وصول رسالة ..
أغنية عاطفية مسجلة ؟!
ينعقد حاجباها وهي تجدها من مخرج برنامجها !
ماذا يعني بها ؟! ولماذا يخرج الآن عن حدود علاقته المهنية بها ؟!
هل يريد التسلية ؟! أم عساه ..؟!
تنقطع أفكارها وهي تتذكر إحدى زميلاتها في القناة وقد تزوجت ثرياً عربياً ..وأخرى اقترنت بلاعب كرة شهير ..والأخيرة التي خطبها أكبر رجل أعمال في مصر !
فتتخيل المخرج الوسيم بطلّته الجاذبة للعيون يسير جوارها ..لترتسم على شفتيها ابتسامة راضية !
ابتسامة تقتلها هي في مهدها وهي تنفض الخاطر عن رأسها ..
ما كل هذه الفوضى؟!
ألن ترسو على بر؟!
تتنهد بتعب حقيقي وهي توقف السيارة أمام بيتها ..
لا تريد الصعود ..لا تريد العودة للتفكير وحدها ..
_لا تسيري وحدك ..الشارع خطير لامرأة ضعيفة مثلك .
تشحب ملامحها بخوف وهي تقرأ الرسالة على هاتفها ..
لم تكن المرة الأولى التي تصلها فيها رسالة كهذه ..لكن شعورها الداخلي الآن يجعلها ترتعد حقاً هذه المرة وهي تشعر بالوحدة ..
تنظر لمدخل البناية حيث رجل الأمن فتشعر ببعض الأمان ..
تغادر السيارة بسرعة لتهرول نحو الداخل ..
الخوف الأسود يغلف خفقاتها حتى تصل لشقتها فتغلق بابها خلفها بسرعة ثم تستند عليه لاهثة !
لو كانت الأمور تسير بطبيعتها لاتصلت بإيهاب الآن ..لقصت عليه تفاصيل زيارتها لهيام ..شكها في نوايا المخرج ..تخبط مشاعرها هذا ..بل وخوفها المستحدث هذا من تلك الرسائل الغريبة ..
لكنها الآن لا تملك سوى أن ترفع الهاتف أمام وجهها ..
عيناها تتسمران أمام رسالته الأخيرة بصيغتها الوحيدة التي تتكرر كل يوم ..
وبصورته التي تجاورها والتي تعمدت فيها قص وجهه عن بقية جسده ..
لتهمس له كأنه يسمعها ..
_لماذا كشفت عن مشاعرك ؟! لماذا أفسدت ما بيننا؟! لماذا ؟!
======= 3=الثالث-الجزء الثانى = ج 2/

_حمداً لله على سلامتك يا “حاجة”! أقلقتِني ككل مرة !
يهتف بها إيهاب بمزيج من حنانه وخوفه بعد نوبة من ارتفاع ضغط أمه لترد الأخيرة المستلقية على فراشها بمرح مصطنع:
_لا تخف! لن أموت قبل أن أزوجك وأرى
أولادك!
عيناه تتلونان بالأمل وهو يستحضر صورة عزة في خياله ..
_تفهمين في تفسير الأحلام يا “خوخة”؟!
يسألها مداعباً بلفظته التحببية فتضحك المرأة وهي تربت على كفه هاتفة :
_قل يا قلب “خوخة”! خيراً بإذن الله !
_حلمت أنني أطارد حورية خضراء ..ظللت أعدو خلفها حتى سقطت بين ذراعيّ !
_فقط؟!
تقولها أمه بخبث فيقهقه ضاحكاً ثم يقرص وجنتها مداعباً بقوله :
_”شقاوتك يا خوخة”! اعتبري أن الرقابة حذفت بقية الحلم!
تضحك المرأة بدورها ثم تتنهد بعمق لتسأله :
_حوريتك الخضراء هذه ستتعبك ..قلبي ليس مرتاحاً لهذه الزيجة ! ما الذي يجبرك أن تتزوج امرأة مطلقة ؟! كما أنها تعمل بهذا الوسط الذي نسمع الكثير عن إشاعاته !
_تقولين هذا لأنكِ لم تقابليها ! اجلسي معها ربع ساعة فقط وستقسمين أنكِ لا تتمنين لي خيراً منها !
تمط المرأة شفتيها بعدم اقتناع لتسأله ساخرة:
_ومتى سننال شرف هذه المقابلة ؟! لازالت الحورية تفكر!
_لا داعي للهجة الحموات هذه يا خوخة !
يقولها مازحاً وهو يميل على وجنتها بقبلة حنون ثم يستقيم بجسده مردفاً بجدية :
_ أنا أعذرها في خوفها من الزواج ..التجارب التي مرت بها ليست هينة .
_وما الذي يجبرك على الزواج بواحدة تجاربها ليست هينة ..هل عدمت الفتيات
اللاتي هن بلا تجارب؟!
تهتف بها بنفس النبرة المستنكرة فتغيم عيناه الدافئتان بنظرة حالمة وهو يرد :
_أحببتها!
هنا تصمت أمه قليلاً وهي ترمقه بنظرة متفحصة وقد ظهر بعض التردد على وجهها ..
فيعود ببصره نحوها ليسألها بمزيج حنانه ومرحه :
_أعرف هذه النظرة يا “ست الناظرة”! ما الذي تترددين في قوله ؟!
ترتجف ابتسامة الأم وقد بدا على محياها حزن غامض بينما تمد ذراعيها لتضم رأسه لصدرها قائلة بشرود :
_”أحببتها” ! يوماً ما ظننت أنك لن تقول هذه الكلمة ثانية أبداً ! ربما لهذا يجب أن أنظر بعين أخرى لعزة هذه !
يتخشب جسده بين ذراعيها وكلماتها تسحبه لذكرى بعيدة ظن أنه قد نسيها ..
صدمة باردة تجتاحه لتقذفه على شاطئ وجع لا يظنه سيبرأ أبداً!
بعض الماضي نصالٌ لا تقتل ..يبقى ألمها العمر كله قابعاً بين الضلوع!
يتعرق جبينه قليلاً بمزيج من شعور الألم والذنب وهو يزدرد ريقه محاولاً تجاوز هذه الغصة في حلقه ..
ليرفع وجهه نحوها أخيراً قائلاً بمرح مصطنع:
_عين الرضا يا “خوخة”! انظري لها بعين الرضا لأجل خاطر ابنك المسكين !
تبتسم ببعض الأسى وهي تدرك ما يختفي حول مرحه المصطنع هذا ..
لكنها تتجاهل الذكرى كما يتجاهلها هو قائلة :
_تبدو واثقاٌ من موافقتها !
يهز رأسه واثقاً ثم يتناول مفكرتها من على الكومود ..تلك التي تستعين بها في ضبط مواعيدها فيفتحها ليضع إصبعه على التاريخ قائلاً :
_سجلي هنا ..أسبوع واحد وتبلغني بموافقتها ..بعدها بشهر ..نقيم حفل الزفاف ..واحسبي بعدها تسعة أشهر
بالضبط واستعدي لتلقف وليّ عهد ب”خدود” ممتلئة يشبهني!
كان يتحدث بمرح وهو يقلب الأوراق بسرعة محركاً أصابعه فوق التواريخ المذكورة بثقة ..لتضحك المرأة هاتفة :
_”مغسّل وضامن جنة”!
_بل بصيرة المؤمن يا حاجة ! ادعي لي فقط وستتيسر الأمور !
يقولها وهو يضع ما بيده جانباً ليرفع كفيه في وضع الدعاء فتتنهد وهي تربت على صدره قائلة:
_أسعد الله قلبك يا ابني ونال قلبك ما يتمناه !
_تبدين ناعسة !
يقولها وهو ينهض من جوارها فتضحك قائلة :
_العب غيرها ! أنا “ست الناظرة” ياولد! تريد تركي لتتحدث إلى حوريتك!
_بريئ يا “بيه”! حوريتي تضعني موضع الحظر حالياً حتى تمنحني قرارها!
يقولها باسطاً راحتيه باستسلام فتضحك لتقول مطمئنة :
_ستوافق!
_ستوافق!
يقولها هو الآخر بيقين وهو ينحني ليقبل جبين المرأة التي هتفت به :
_افتح التلفاز وهات “الريموت” جواري واذهب لتتناول عشاءك لاريب أنك جائع !
_جداً !
_كالعادة !
تهتف بها مازحة وهي تتناول نظارتها من الجوار لترتديها فيهتف مشاكساً بدوره:
_شكراً يا “أمومة”! راح زمان الأم التي كانت تترك ما بيديها لتطعم ابنها عندما يجوع .
_ساعتها لن أغادر المطبخ !
يقهقه ضاحكاٌ من عبارتها ليهتف مغيظاً إياها وهو يتحرك ليغادر:
_سأطعم نفسي بنفسي ..غداً أتزوج عزة وتحضر لي كل الطعام الذي أحب وقتما أحب .
فتطلق ضحكة مكتومة مستهزئة وهي تضبط التلفاز على قناة المسلسل الذي تنتظره :
_بمستوى لهفتك هذا أظنك أنت من ستحضر الطعام لكليكما!
_لا بأس ! سيكون على قلبي كالعسل!
يقولها بنفس النبرة المغيظة وهو يمسد صدره براحته المفرودة فتمط شفتيها باستياء مصطنع هاتفة :
_امشِ ولا ترفع ضغطي من جديد ! رجال آخر الزمان!
يعود ليقبل رأسها وهو يلقي بنفسه فوقها ليعانقها بقوة فيرتج السرير تحت ثقل جسده ..
_السرير سينكسر يا ولد !
تهتف بها مازحة لتمتزج ضحكاتهما للحظات قبل أن يستقيم بجسده ليلوح لها بيده مبتعداً وهو يتحرك نحو الخارج ..
_إيهاب!
تستوقفه بندائها فجأة عند الباب فيلتفت نحوها لتتردد قليلاً ثم تعض شفتها السفلى وهي تسأله :
_لا أخبار عن إياد ؟!
تتجمد ملامحه فجأة وعيناه تغيمان بنظرة ألم ثم يهز رأسه نفياً فتدمع عيناها وهي تقول بشرود عبر ملامحها الموجوعة :
_في كل مرة تصيبني نوبة كهذه لا أكاد أفكر إلا فيه ..تظنني سأموت قبل أن أراه من جديد ؟!
يختلج قلبه بعنف لمجرد الخاطر فيهتف بها بجزع:
_لا تعيديها ثانية يا أمي بالله عليكِ !
_حاول معه من جديد ..اعثر عليه يا ابني .
تقولها وهي تغمض عينيها بقوة بينما تغلق التلفاز فيهتف بها بقلق وهو يعاود الاقتراب منها:
_أنتِ بخير؟!
_لا تقلق..أنا فقط غيرت رأيي ..سأنام ..أطفئ النور !
تقولها وهي تندس تحت غطائها فيمتثل لرغبتها ثم يقف مكانه صامتاً وهو يراقب اهتزاز جسدها تحت الغطاء واشياً ببكائها الصامت ..
يكاد يمد أنامله نحوها مواسياً لكنه يعود ليقبض كفه جواره وهو يشعر أن يده -الملوثة بإثمه هذه- لن تواسي!
يغادر الغرفة بخطوات يثقلها الخاطر الأخير ليتوجه نحو غرفته هو ..
يتناول هاتفه ليبحث عن رسالة من عزة
فلا يجد ..
ينقبض قلبه بخوف يناقض كل الثقة التي كان يتحدث بها منذ قليل مع أمه ..
ليكتسحه طوفان من ذكريات الماضي ..
فيقف أمام مرآته والسؤال الخانق يعتصر قلبه ..
هل يستحق السعادة التي ينتظرها مع عزة حقاً؟!
======
*برتقالي*
======
_طيف الصالح تسحق عدو المرأة في الندوة التي أقيمت وتجبره على اعتزال الكتابة .
_طيف الصالح تكتسح قائمة عشر نساء مبدعات في الوطن العربي بعد تصريحاتها
الأخيرة عن قصة حياتها .
_هل تتحول قصة حياة طيف الصالح لفيلم سينمائي؟! من الممثلة المرشحة للبطولة ؟!
_هل تنفذ طيف الصالح وعدها برواية قادمة خالية من الحبكات العاطفية المعتادة ؟!
_ما سر الصمت المفاجئ ليحيى العراقي وابتعاده عن مواقع التواصل؟!
ينعقد حاجباها وهي تتابع هذه الأخبار -التي انتشرت على مواقع التواصل- على شاشة هاتفها حيث تجلس في هذا المقهى القريب المجاور لبنايتها ..
تتمنى لو تستجيب لهذا الزهو المزيف بهذا
الانتصار الذي يحكون عنه ..
لكن هذه الغصة في حلقها تمنعها!
هو الذي هزمها!
لن تنكر هذه الحقيقة التي تبزغ كالشمس بين ضلوعها وهي لا تكاد تذكره سوى بمشهده يقف مغلقاً زر سترته ومعلناً المغادرة وترك كل هذا خلفه كأنه عبث لا يهتم به !
تماماً كما لا يمكنها إغفال هذه ال”خفقة الغادرة” لقلبها مع نظرته التي أصابتها كصاعقة !
ماذا دهاكِ يا طيف؟!
أي جرح أيقظه فيكِ هذا الرجل ؟!
بل ..أي إحساس؟!!
يزداد انعقاد حاجبيها بانفعال وهي تتلفت حولها كأنها تتأكد ألا أحد يراها قبل أن تنساب أناملها فوق شاشة هاتفها تبحث عن حسابه ..لكنه كان قد أغلقه !
تزفر بخيبة وهي تعاود التلفت حولها كلصّة قبل أن تواتيها فكرة ما ..
_لا لا لا! “شغل المراهقات” هذا انسيه !! لن أفعلها !!
تهمس بها لنفسها زاجرة لكن أناملها بدت وكأنها تتحرك بإرادة مستقلة لتنفذ فكرتها المجنونة ..
وها هي ذي تنشئ لنفسها حساباً الكترونياً مزيفاً تراسله به على بريده الالكتروني الذي زعم في الندوة أنه سيبقيه مفتوحاً للرد على استفساراتهم ..
سترسل رسالة تعلم أنها قد تتوه في زحام البريد الذي يصله ..
لكنها كانت تريد أن تقتص منه !
ستتسلى كثيراً برؤية هذا ال”يحيى” الغامض كيف يكون عندما يختلي بامرأة خلف شاشة !
هل سيحتفظ وقتها بأفكاره ؟!
ستكون متعتها في الأيام القادمة أن تضحك من حماقته وهي تلاعبه من خلف الستار ..
تتردد قليلاً فيما ستكتبه لكنها تتخيله مشهداً في إحدى رواياتها ..
سيكون هو “البطل” الذي ستختار له مصيره كما اعتادت !
تفكر قليلاً في معطيات شخصيته كما تعرفها ..ثم تبتسم وذكاؤها يلهمها الرسالة المناسبة لاختراق رجل مثله :
_كتاباتك مميزة حقاً حتى أنها أقنعتني رغم ظاهر مهاجمتها للمرأة ..لكن ينقصها شيء ما ..كلعبة “بازل “تنتظر القطعة الأخيرة لتكتمل!
تعاود التلفت حولها خلسة من جديد ثم تبتسم بخبث وهي تضغط زر الإرسال ..
تعلم أن رجلاً مغروراً مثله لن يطيق صبراً على السؤال عن ماهية هذا الذي ينقصه !
لو صدق ظنها فسيكون رده على رسالتها هو ..
_وبرأيك ما هي القطعة الأخيرة التي ستكملها هذه ؟!
تتسع ابتسامتها والرد يصلها بأسرع مما توقعت ..وكما توقعت !
تقف مكانها بنظرات ظافرة وهي تغلق هاتفها لتتناول حقيبتها وترحل ..
لا! لن ترد الآن بالطبع!
ستتركه يحترق بفضوله !
تشعر بمتعة خفية تكسب أيامها الباهتة بعض البريق لهذا كانت خطواتها منتعشة وهي تعبر الطريق نحو بنايتها المقابلة ..
تشتري بضعة أشياء من متجر قريب ثم تتجه نحو مدخل البناية حيث يستقبلها ناطور العمارة “البواب” ليحمل منها الأكياس ثم يضغط زر المصعد الذي توقف لتوه لتفاجأ به داخله ..
يحيى!
_أستاذ يحيى هل ستخرج ؟!
يسأله الناطور بنبرة مهذبة وهو يلاحظ توقفه مكانه ليرد يحيى بنبرته المحايدة :
_بل سأصعد ثانية ..نسيت شيئاً !
يضع الرجل الأكياس بالداخل فتشكره طيف بعبارات مبهمة وهي تصرفه بورقة نقدية تعمدت جعلها عالية القيمة !
يغلق عليهما باب المصعد فتتحفز خلاياها بشعور غريب وهي تعجز عن السيطرة على خفقات قلبها ..
تتذكر ذاك المشهد التخيلي الذي تمنته يوماً أن تختلي به في مكان كهذا ثم تكيل له شتائمها وضرباتها ..
لكنها الآن تشعر أنها عاجزة حتى عن رفع رأسها نحوه !
تشيح بوجهها عنه فيما يبدو كاحتقار لكنها وحدها كانت تعلم أنه هروب!
غريبٌ أثر هذا الرجل عليها !!
كل ذرة من تعقلها تناشدها الابتعاد عن كل ما يخصه ..
لكن مغناطيساً خفياً يجذب كل أقفال روحها نحوه ..بل ويهدد بفتحها !!
هل يشبه حسام القاضي إلى هذا الحد ؟!
لا ..كلاهما وسيم إنما بطريقته ..
كلاهما مغرور إنما بطريقته ..
كلاهما مستفز إنما بطريقته ..
وكلاهما ترك هذه البصمة النادرة في قلبها ..إنما بطريقته !
تحاول السيطرة على خفقاتها وهي تتذكر انتصارها المعلن بفوزها في الندوة ..
وانتصارها الخفي بسرداب الظلام الذي فتحته بينهما عبر حسابها السري ..
لكنها تعجز عن هذا وهي تشعر برائحة عطره التي تملأ المكان حولها تشبهه ..
قوية..مستفزة ..وآسرة !
_أنا آسف!
هل قالها حقاً ؟!
بهذه النبرة الرخيمة التي تضفي على صوته الرجولي سحراً خاصاٌ ؟!
تغمض عينيها بقوة وهي تشعر بالمزيد من صوته يخترق دفاعاتها ..
_ما قلته في لقاء المرة السابقة لم يكن لائقاً !
تكز على أسنانها بقوة وهي تشعر بهذا الوهن الذي يثيره صوته فيها يشعل براكين غضبها ..
فتلتفت نحوه أخيراً لتهتف بحدة :
_ومن أخبرك أني سأقبل اعتذار وغد مثلك ..لا تحاول ..
تقطع عبارتها وهي تشعر أن دلو ماء مثلج سقط على رأسها !
فقد اصطدمت عيناها لتوها بهذا الهاتف الذي يمسكه في يده !!
لم يكن يتحدث إليها إذن!!
ابتسامة ساخرة تطوف فوق شفتيه وهو يكمل حديثه مع الطرف الآخر للاتصال قائلاً :
_سأحدثك في وقت
لاحق ..الشبكة هنا ..مختلة !
يقول كلمته الأخيرة بنبرة ذات مغزى فيزداد احتقان وجهها حتى تشعر أن الدم سينبثق منه !
ينقذها وصول المصعد فتتحرر أنفاسها التي انحبست في حلقها ..
تخفض بصرها عنه بمزيج من حرج وغيظ لتفاجأ به ينحني ليحمل أكياسها دون انتظار إذنها ليتحرك بها نحو باب شقتها فيضعها هناك ثم يعود لشقته ليدخلها صافقاً بابها في وجهها!!
_لم أطلب منك شيئاً ..وفرّ تظاهرك السخيف هذا بالذوق وأنت مجرد وغد مغرور ..كيف كنت أعلم أنك لم تكن تحدثني ؟! أنت تتعمد جعلي أبدو كالبلهاء كل مرة لتبدو أنت
الأذكى ! لكنك غبي ..غبي وساذج وإلا لما خدعتك إحداهن لتجعلك بهذه العدائية نحو النساء كلهن !
تهتف بها أمام مرآتها بعدما أغلقت باب شقتها خلفها لتفرغ فيها شحناتها المكبوتة ثم تحاول التقاط أنفاسها وهي تشعر أن ضغط دمها ارتفع حقاً ..
تزفر أخيراً زفرة ساخطة وهي تدخل
الأكياس للمطبخ ..
ترفع أناملها نحو أنفها لتشم رائحة عطره تفوح منها !!
_الكلور!! أين الكلور؟!
تهتف بها بغيظ وهي تتجه نحو الحمام القريب ..تفرك أناملها بقوة وهي تشعر بعينيها تدمعان غيظاً و …!
شعور آخر تأبى الاعتراف به !!
تبدل ملابسها بمشاعر مضطربة وهي تتجه نحو مرآتها لتمشط شعرها ..
ترى كيف يراها المغرور هذا ؟!
تعلم أنها ليست جميلة بالمواصفات المعروفة لكنها كذلك تعلم أن ملامحها تحوي سحراً خاصاٌ ..
قالها لها بعض الرجال بطرق عدة ..
وقالها لها حسام قبلهم !
تبتسم شاردة ببعض الحنين وهي تنجذب رغماً عنها لذكرى بعيدة ..بعيدة ..
تبدو لها الآن وكأنها لأخرى غيرها ..
_أحبك .
بصوته الذي كان يحملها فوق أعالي آفاق الحلم ..وبضغطة أنامله على كفها تنبض لها بلحن أمان بكر لم تسمعه أذنها قبله ..وبهذه النظرة الواعدة في عينيه والتي تشهد الآن ..كم كانت كاذبة !!
الغريب أنها في هذه اللحظة لم تكن تستحضر ملامح حسام ..بل إنها تبدلت في عينيها فجأة إلى ملامح ..يحيى!
_”خرب بيتك !”
تهتف بها بسخط وهي تخبط صدغها براحتها المفرودة مردفة بالمزيد من الغيظ :
_اخرج من رأسي ! اخرج!!
تزفر بالمزيد من السخط وهي تتحرك نحو منضدتها الأثيرة التي وضعت عليها حاسوبها المحمول ..
تصب لنفسها كأساً من المياه الغازية السوداء الغنية بالكافيين ..
تتناول قطعة من شيكولاتة أجنبية لا تحب طعمها بقدر ما تحب شعورها وهي تتناول شيئاً ما بهذا الثمن !
تجلس أخيراً فوق مقعدها المقابل للنافذة التي ترى من خلالها غرفة مجد وقد أسدلت هي ستارها قاطعة على نفسها سكة انشغالها بهذا الأمر !!
_أنت لا تستحق الحب ..مثلك لا يعترف سوى بلغة واحدة لغة المصلحة ..لكنني سألقنك درساً لن تنساه ..لن تنساه في عمرك القصير !
تكتبها على لسان إحدى بطلاتها لتجد نفسها تكمل المشهد بأن تطعن البطلة البطل في عنقه في تحول مفاجئ وصادم لخط حبكتها الدرامية !!
_لا بأس! هكذا أفضل! النهايات غير المتوقعة مثيرة للجدل وتضمن نجاحاً سريعاٌ !
تقولها لنفسها رافضة الاعتراف أن دواخلها النفسية تتحكم في ما تكتبه ..
تشعل سيجارة لتنفث دخانها بقوة مستمتعة برائحة التبغ ..
لتكتب ..
_بعض السقوط نهاية ..وبعض السقوط بداية ..والعبرة دوماً بأي أرض تتلقفك !
تتنهد ببعض الرضا وهي تكمل كتابة بعض المشاهد الإضافية ..
ستكون هذه روايتها الأولى التي تتخلى فيها عن الحبكات العاطفية المعروفة !
تمر بها الدقائق سريعة في عدوها فتتثاءب بإرهاق وهي تشعر برغبتها في النوم ..
تضع حاسوبها جانباً ثم تتأهب للعودة إلى غرفتها لكن خاطراً ما يجعلها تعاود فتحه لتنظر لحسابها الالكتروني المزيف حيث رسالة يحيى الأخيرة ..
وقد ترك لها رسالة خالية إلا من بضع علامات استفهام كأنه يحثها على الرد ..
تبتسم ببعض العبث وهي تفكر في الرد لكنها تقرر تركه للغد ..
_مت بغيظك !
تهتف بها بشماتة وهي تصفع الشاشة صفعة قوية نسبية تكاد تسقط الجهاز فتشهق وهي تعدل وضعه هاتفة :
_خرِب بيتُك ! أذى !! أذى!! كلك أذى!!
تتمتم ببعض السباب وهي تتحرك مبتعدة لكن حدساً بداخلها يجعلها تتحرك نحو النافذة المقابلة ..
تشد الستار ببطء لتنظر خلفه لغرفة مجد التي بدت وكأن النوم قد غلبها فوق كرسيها !
تبتسم بحنان صادق وهي ترى الصغيرة تحتضن ذاك الكتاب فوق صدرها ..
ومن جديد تذكرها بنفسها!!
ترى ما علاقتها بيحيى هذا مادام ليس أباها ؟!
غداً ستسأل “الناطور”!
أجل..المال يفك ارتباط الألسنة ولابد أن الرجل يعرف عن تفاصيله الكثير مما ..
تنقطع أفكارها بشهقة مذعورة وهي تميز ستار غرفة الصغيرة الذي كان يحترق بفعل هذه الشمعة المعطرة التي وضعت تحته !!
_مجد !! مجد!! استيقظي!!
تصرخ بها بخوف عبر النافذة وهي تحاول إيقاظ الصغيرة التي بدت مستغرقة تماماً في النوم بينما يشتعل القماش أكثر وأكثر ..
فلم تجد بداً من ارتداء مئزرها بسرعة لتركض للخارج ثم تطرق باب شقته بعنف صارخة:
_افتح!! هناك حريق!!
=======
_أي حريق ؟! ألن ترحمينا من جنونك هذا؟!
يهتف بها يحيى بحدة لكنها تدفعه بقوة وهي تركض نحو الداخل باندفاع فيعدو خلفها هاتفاً بلهجته العراقية :
_”وين موليّه؟! محد تارس عينج”؟!
كانت تفهم قليلاً ما يعنيه بقوله الفظ الذي يوازي “أين تذهبين ؟! لا أحد يملأ عينك!”
لكنها لم تبالِ وهي مستمرة في طريقها ..
يدركها عند الباب فيجذب ساعدها بقوة وقد بدأ يشك في قواها العقلية لكنه يسمع صوت صرخة مجد من الداخل فيندفع ليفتح باب الغرفة ..
_نزاااار ..نزاااار!!
يصرخ بها بعنف وهو يحاول إطفاء الحريق الصغير ليظهر نزار وقد بدا على وجهه أنه قد استيقظ لتوه !
ينهمكان سوياً في السيطرة على الحريق فيما لا تشعر طيف بنفسها وهي تركض نحو مجد لتضمها بين ذراعيها بقوة محاولة تهدئة صرخاتها ..
قلبها يخفق بجنون ومشهد النار يذكرها بأعظم خطاياها ..
تلك الليلة التي أوهمت فيها حسام أنها أحرقت بيتها كي يعيش عمره معذباً بذنبها !!
ليلتها شعرت وكأنها حقاً احترقت!!
قلبها احترق ..روحها احترقت ..ضميرها احترق..
كلها صارت مسخاً مشوهاً لا يسعى سوى خلف انتقامه !!
لهذا ملأت الدموع عينيها وهي تعانق الصغيرة بقوة فلا تدري من فيهما تحتاج
الآن هذا العناق!!
متى كانت آخر مرة استمتعت بعناق كهذا أو سمحت لأحدهم أن يقترب منها إلى هذا الحد ؟!
يالله!!
ربما منذ ما يقارب أربع سنوات ..
عندما منحها عاصي الرفاعي أول عناق أخوي بينهما ..
أول ..وآخر!!
_ابتعدي ..ابنتي تخاف من الغرباء .
صوت يحيى الفظ خلفها ينتشلها من طغيان عاطفتها الهادر فتنتفض واقفة مكانها لتحدجه بنظرة مشتعلة ..
الوغد!
لقد أنقذته وعائلته من حريق للتو ! والآن يحدثها بهذه الطريقة !
تندفع لتخرج من الغرفة وهي تلعنه وتلعن نفسها وتلعن اليوم الذي سكنت فيه هذا البيت ليكون هو جارها ..
ستنتقل من هذا البيت ..ستتركه لهذا المستفز الذي ..
_انتظري!
لم تكن لتتوقف أبداً سوى لأن الصوت خلفها كان ل”مجد”!
ينعقد حاجباها بقوة وهي تكتف جسدها بساعديها كأنما تقاوم انفعالاً عارماً ..
مالها وكل هذا ؟! فلتعد لبيتها وتغلق بابها خلفها !!
هي فعلت الواجب وانتهى الأمر!!
_انتظري .
تلتفت ببطء نحو الصغيرة التي كررت رجاءها وقد بدت هي الأخرى وكأنها تقاوم صراعاً بداخلها ..
لو كانت تخاف الغرباء حقاً كما يزعم فحالها الآن ليس بالهين!!
ترفع لها مجد كفيها ببطء حذر فتزدرد طيف ريقها بتوتر وهي لا تدري كيف تتصرف ..
لو استجابت لنداء كبريائها الآن فالأولى أن تغادر دون رجعة !
لكنها بدلاً من هذا وجدت قدماها تقودانها دون وعي لتجلس على ركبتيها أمام كرسي الصغيرة التي رمقت ملامحها بنظرة متفحصة ..
قبل أن تمتد أناملها الصغيرة لتحتضن خصلة من شعر طيف الطويل ..
ثم خصلة من شعرها هي ..فتقربهما من بعضهما لتغمغم أخيراً بشرود :
_شعرك أسود كشعري ..لكنه ليس قصيراٌ مثله ..”بابا” لا يحب الشعر الطويل ..”ماما” كان شعرها طويلاً !
يختلج قلب طيف بعاطفة دافقة تحاول دوماً وأدها فترفع عينيها بنظرة مختلسة نحو يحيى الذي بدا وكأن شياطين الدنيا كلها تتصارع فوق وجهه الآن !
يبسط كفيه فوق كتفي مجد بوضع حمائي لتهتف الأخيرة بعفوية طفولية مخاطبة طيف:
_أنا أعرفك ..أراكِ أحياناً من هنا ..
تشير بذراعها نحو نافذة غرفتها لتعود ببصرها نحو طيف مردفة بنفس العفوية :
_تنفثين الدخان من فمك كالقطار !
_قليلة الأدب كأبيكِ!
تتمتم بها طيف- سراً- وهي تكتم غيظها لتقول من بين أسنانها:
_من هذه النافذة رأيت اشتعال النار في الستار .
لكن ابتسامة الصغيرة الملائكية تبدد كل هذا وهي تقول بامتنان:
_إذن أنتِ أنقذتني اليوم!
ثم ترفع وجهها نحو يحيى متسائلة :
_هل أقبّلها يا بابا؟!
يحتقن وجه طيف بحرج ..و..شعور آخر قلما يصيبها وكادت تنساه من فرط ضمور خلاياه فيها ..شعور بالخجل!!
فيما لم يكن يحيى أحسن منها حالاً وهو يود لو يحملها بين ذراعيه و…
يلقيها خارج الشقة !!
ضحكة نزار العالية تقطع الجو الغريب وهو يرمق كليهما بنظرة خبيرة ليهتف مخاطباً الصغيرة :
_قبليها يا “ميجو”! واشكريها لإنقاذها حياتك.
يحدجه يحيى بنظرة صاعقة يتجاهلها وهو يكتم ضحكته فيما تنحني مجد بجذعها لتقبل وجنة طيف التي انتفضت مكانها لتقف بسرعة وهي تتحسس وجنتها حيث موضع قبلة الصغيرة ..
هل تبالغ لو زعمت أنها -مثل مجد- تخاف اقتراب الغرباء إلى هذا الحد ؟!
سنوات مرت من عمرها وهي تتواصل مع الناس خلف شاشة أو سطور كتاب ..
حتى تلك الندوات القليلة التي تحضرها لا تسمح لأحدهم فيها أن يخترق حاجزها ويقترب ..
لا علاقة بالجيران ..لا صداقات ..
حتى تلك الرفقة التي جمعتها منذ سنوات بمصادفة قدرية غريبة مع ماسة ودعاء وزهرة وحسناء وجنة تنصلت منها بسرعة بمجرد أن عرفت حقيقتهن !
بل إنها ترفض السفر لعاصي ولم ترَ طفليه
إلا في الصور!
والآن يأتي هذا المستفز وابنته ليخرقا كل قواعدها !!
_حمداً لله على سلامتك .
كان هو الرد الأقرب للمنطقية هاهنا لكنها وجدت نفسها بدلا من قوله تهتف بفظاظتها المعهودة مخاطبة مجد ومتجاهلة الرجلين تماماٌ:
_من الغباء أن تنامي وفي الغرفة شمعة مشتعلة ..لو كان أهلك لا يملكون الذكاء الكافي لاستخدام معطر جو بدلاً من شمعة في غرفة طفلة قعيدة وحدها فكوني أنتِ حريصة ولا تفعليها إلا لو أردتِ أن تموتي محترقة !
_أعوذ بالله من ملافظك ! هل هذا كلام يقال لطفلة ؟!
يهتف بها يحيى باستنكار وهو يربت على كتف مجد التي امتقعت ملامحها لتهتف طيف بنفس الفظاظة وهي تلوح بذراعيها في وجهه :
_وهل حسبت أنت حساب طفلة وقد كدت تؤذيها بإهمالك ؟! ماذا كنت تفعل ساعتها لتنشغل عنها وتتركها وحدها لهذا المصير؟! تكتب هذا الهراء عن عداء المرأة ؟!
_وما شأنكِ أنتِ بما كنت أفعله ؟! ما شأنكِ أنتِ؟!
يصرخ بها بغيظ وهو يلوح بذراعه في وجهها كذلك لتصرخ بحدة مشابهة :
_صحيح ! ما شأني ؟! كنت لتركت بيتك يحترق بمن فيه ! هذا هو الجزاء المناسب
لأمثالك!
_أمثالي؟! أمثالي؟! أنت تشتمينني في بيتي؟!
_بيتك؟! ما بيتك ؟! بيت الأمة مثلاً؟!
_وحدوا الله يا جماعة الخير! الموضوع لا يستحق!
يهتف بها نزار مهدئاً وهو بالكاد يكتم ضحكاته بينما يبعد يحيى مربتاً على كتفيه لتهتف طيف بنفس الانفعال الساخر وهي تعطيهم ظهرها لتنصرف:
_تركنا لك بيتك يا سمو الملك!
_أرجوكِ ابقي قليلاً !
تهتف بها مجد بحرارة وهي تمد كفها الصغير لتحتضن راحة طيف فيما يكاد يحيى يجن مكانه وهو يرى صغيرته التي تخاف الغرباء قد انسجمت معها بهذه السهولة ..
خاصة والصغيرة ترفع وجهها نحوه هو هاتفة برجاء:
_كن لطيفاً معها ..هي لن تؤذيني ..قيمر!
يرتفع حاجباه بدهشة وهو يرى كلمة السر الخاصة بينهما تستخدمها الصغيرة لأول مرة كي تمنحه هو الشعور بالأمان بدلاً من العكس!!!
_أرجوكِ يا سيدتي ..اجلسي وتناولي كوباً من العصير على الأقل كواجب ضيافة ..تعلمين يا مجد ؟! جارتنا اللطيفة هذه تكتب الحكايات ..دعيها تقص لكِ حكاية !
يهتف بها نزار بمرحه المعهود فيكز يحيى على أسنانه وهو يرمقه بنظرة صاعقة يردها له نزار بضحكة مكتومة ..لكن يحيى يتحكم في نبرته ليقول وهو يشيح بوجهه :
_لقد تأخر الوقت ولا يصح أن تبقى هنا في شقة رجلين أعزبين ..لو كانت تريد البقاء مع مجد فلتأتِ صباحاً ونحن بالخارج !
_لا بالخارج ولا بالداخل ..أنا لن أخطو هنا مرة أخرى !
تهتف بها طيف وهي تلاحظ أنه يتعمد أن يخاطبها بضمير الغائب فتنتزع كفها من كف الصغيرة كارهة لتركض خارج الغرفة بل والشقة كلها ..
تدخل شقتها لتغلق بابها خلفها وتستند عليه شاعرةً أن خفقاتها تتجاوز حد الجنون !!
ماذا جرى لها ؟!
لماذا سمحت لنفسها بهذا الوهن ؟!
ستعود لصومعتها الحامية ولن تسمح
لأحدهم أن يخترقها من جديد !!
تقضي ليلتها مؤرقة شاعرة بالخطر!
هي التي لم تخشَ يوماً البيت وحيدة ..السفر وحيدة ..بل والعيش وحيدة !
الآن تشعر أنها مطارَدة ..
وليس أقسى من أن يكون مطاردها قابعاً داخل ضلوعها!
ماذا كانت تعني مجد بحديثها عن أمها صاحبة الشعر الطويل؟!
كيف حرمت منها ؟!
وما سلطة يحيى عليها إن لم يكن أباها ؟!
تراه أخوها ؟؟!
ما قصتهما؟!
ونزار المتظارف هذا ما علاقته بهما؟!
تتلوى على جمر أفكارها حتى الصباح الذي ما كاد يشرق حتى استدعت “الناطور” لتنقده ورقة مالية كبيرة كانت كافية لمنحها بعض التفاصيل ..
مجد ليست أخته ولا ابنته ..لكنه يعاملها كذلك ..ونزار صديقه المقرب الذي يعيش معهما ولا يكاد يفارقهما ..يدير شركة تأمين هنا كمشروع استثماري رابح ويبدو ميسور الحال كثيراً !
هذه هي المعلومات التي تمكنت من جمعها لكنها لم تشبع فضولها ..
_وما شأنك أنتِ ؟! ما شأنك أنتِ؟!
تقولها لنفسها مقلدة صوته وهي تمط شفتيها بحركات سخيفة قبل أن تشعر بصداع السهر يكاد يفتك برأسها :
_خرب بيتك!! غمة وابتليت بها!
تهتف بها بسخط وهي تهم بالدخول للمطبخ لإعداد قهوتها لكنها تفاجأ بجرس الباب يرن فتتحرك لتفتحه ..
وتجده أمامها!
احمرار عينيه القوي يفضح سهره هو الآخر!!
_خيراً؟!
تهتف بها بفظاظة رغم مفاجأتها بحضوره ليشيح بوجهه عنها كعهده ثم يقولها وكأنه يغتصبها اغتصاباٌ فوق شفتيه:
_آسف!
_غريب! لا أرى هاتفاً هذه المرة ! الشبكة لم تعد مختلة ؟!
تهتف بها متخصرة بتهكم فظ فيعود ليحدجها بهذه النظرة الغريبة التي لا تفهمها ..
نفس النظرة الموصدة التي تعجز عن قراءتها لكنها تخترقها كسهم نافذ !
_اسمعي! آخر ما يمكنني فعله هو أن أجاملك بدعوى أي رغبة مني في القرب منك أو حتى في رؤيتك ..لكنني قد أقلب الدنيا كلها لأجل رغبة ابنتي ..ابنتي التي تطلب رؤيتك من جديد منذ ما حدث
بالأمس ..فتفضلي واطلبي ما تشائين لأجل أن تنفذي رغبتها !
تتسع عيناها بدهشة وهي لا تستطيع فهم حديثه لأول وهلة!!
النبرة التي كان يتحدث بها كانت تتراقص تراقصاٌ غريباً بين وقاحة ورجاء !!
مزيج متناقض عجيب لا يليق إلا برجل مثله !!
لكنها تفيق من دهشتها لتستعيد طبيعتها الحادة وهي تهتف بغلظة :
_اقلب الدنيا بعيداً عني! ابنتك هذه لم أنجبها وأنسَها!
تقولها وهي تكاد تغلق الباب في وجهه لكنه يمسكه بقوة ليمنعها في آخر لحظة ..
عيناه النافذتان تكتسحانها بنظرته الآسرة وهو يكز على أسنانه بقوة ..
لكنها لم تكن تشعر بالخوف ..بل بالحسد!!
أو بالأدق ..الغبطة !!
الآن ! في هذه اللحظة بالذات تغبط مجد على أب كهذا ينظر لأحدهم هذه النظرة فقط لأنه يريد شيئاً لابنته !
هذا حاله وهو ليس أباها الحقيقي ..فماذا لو كان؟!
تدمع عيناها رغماً عنها بقهر وهي تذكر المرة الوحيدة التي رأت فيها حماد الرفاعي أباها وهو يطردها وأمها خارج البيت!
_اسمعي! المرتان اللتان اقتحمتِ فيهما بيتي بتلك الصورة المندفعة كانتا لأجل مجد ..وهذا يدل على أنه داخلك نقطة ضعف تجاه الأطفال ..وربما تجاهها هي
لأجل ظروفها الخاصة ..ولو صدقت نظرتي فيكِ بعيداٌ عن أي تحفظات بيننا فأنا أوقن أنكِ لن ترفضي طلبها .
يقولها بنبرته المهيمنة التي تذكرها بجبروت عاصي الرفاعي ..لكنها كانت تمتزج بنفحة رجاء فواحة تنشقتها بحدسها ..
لهذا أشاحت بوجهها وهي تهتف ببرود فظ :
_سأفكر .
هنا يخفض هو يده عن الباب ليتراجع خطوة قائلاً باقتضاب:
_حقك .
يقولها ثم يرمقها بهذه النظرة الغامضة لكنها تصفق الباب هذه المرة في وجهه كما فعلها من قبل ..
فترتسم على شفتيه ابتسامة متسلية دون أن يبرح مكانه !
هذه الابتسامة التي رأتها هي عبر العين السحرية من خلف الباب ليخفق قلبها بجنون وهي تراه يمد سبابته ليسد بها العين السحرية من الخارج كأنما يعلم أنها تراقبه خلفها!!
تكتم شهقتها وهي تعطي ظهرها للباب كأنما ضبطها متلبسة بجرم لتلتمع عيناها بوميض افتقدته منذ عهد بعيد ..
وميض مغامرة !
هل قالت له أنها ستفكر؟!
حسناً !
لقد اتخذت قرارها!!
=======
*…….(الكوبرا)!
======
سكون الليل في المكان يبدو خادعاً قبل أن ينشق سطح الماء في حوض السباحة البالغ الضخامة عن ذراعي الرجل ..
ذراعه الأيمن لم يكن مميزاٌ سوى بكثافة شعر جلده ..
بينما ذراعه الأيسر بدا قابضاً بهذا الوشم الذي ارتسم على طوله ..
وشم بصورة كوبرا تأهبت برأسها وقد فتحت فمها ليبدو منه ناباها برائحة الموت!
الذراع القوي يضرب الماء بقوة وقد بقي صاحبه برأسه تحت الماء لتبدو وكأن الكوبرا هي من تشق طريقها نحو حافة الحوض !
يصل أخيراً للحافة فيرفع رأسه ليأخذ نفساً عميقاً ثم يزفره ببطء ..
عيناه تلتمعان ببريق قاسٍ وهو يميز اقتراب أحد رجاله ..
_أرجو أن يكون الخبر الذي تحمله يستحق مقاطعتي في وقت استجمامي ..وإلا ..
يقولها بصوته البارد الذي يثير الرجفة في القلوب ليمتقع وجه الرجل الذي ثبت مكانه ليقول بصوت متحشرج :
_غازي خضر مات .
يرتفع حاجباه ببعض الرضا وهو يطلق همهمة خافتة ليصعد مغادراً حوض السباحة ..
يجفف جسده ببطء وعيناه تلتمعان بهذا البريق الغامض ..
ثم يستلقي ممدداً قدميه على ذاك الكرسي الطويل ليشعل سيجاراً ضخماٌ ..
ثم يلوح بكفه ليصرف الرجل الذي هرول بسرعة نحو الخارج كأنه يهرب ش..
فيما يبتسم “الكوبرا” ابتسامة قاسية وهو ينفث دخان سيجاره في الهواء ..
لاتزال خيوط اللعبة كلها في يده ..
ولن يسمح لأحدها أن ينفلت منه أبداً ..
هو الذي يجيد نفث سمه في عيون الجميع فلا يستمتع بالقتل قدر ما يتلذذ بأن يصيب عدوه بالعمى ..
“الكوبرا” سيد اللعبة ..هذا هو القانون الذي وضعه لنفسه ..
ولن يسمح لأحد أن يخرقه ..أبداً !
======

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى