روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الرابع والثلاثون 34 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل الرابع والثلاثون 34 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان البارت الرابع والثلاثون

رواية ماسة وشيطان الجزء الرابع والثلاثون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الرابعة والثلاثون

_مساء الجمال!
قالها عزيز بمرحه الذي ما عاد يفارقه وهو يدخل عليها الشرفة الخارجية في بيت رحمة حيث جلست تراقب الشارع كعادتها…
فالتفتت نحوه بابتسامة واسعة وهي تتحسس بطنها البارز في شهر حملها الأخير لتقول بمزيج من دلال وارتياح:
_مساء الخير!
ابتسم بحنان وهو يجلس على الكرسي أمامها فسألته باهتمام:
_هل نامت أمي؟!
أومأ برأسه إيجاباً لتختفي ابتسامته تدريجياً مع قوله بأسف:
_نامت بعد ما هاتفت ماسة وأخبرتها أنها ستعود إلى مصر أخيراً بعد علمها بما حدث لعاصي الرفاعي!
هزت ميادة رأسها بتعجب وهي تقول :
_من كان يصدق أن يحدث له كل هذا؟!لقد انقلب حاله كله في غمضة عين!
فزفر عزيز بقوة ليرد بشرود:
_مسكينة ماسة…تكاد تجنّ منذ علمت عن الأمر…ورغم أنه طلقها لكنني أعرف ماسة جيداً…لن تهدأ حتى تعود إليه.
تأملته ميادة بتفحص وهي تقرأ ملامحه بقلبها قبل عينيها كما تعودت منذ زمن…
نعم “قلبها” الآن يغلب “عقلها” السديد في استكشاف بواطنه…
ليجيئ أوان اعترافها بأن قلبها صار معه “سيد الطاولة”!!!
غيرة؟!!
لا لا لا!!!
هي الآن تثق أن مشاعره نحو ماسة لا تتجاوز إحساسه بالمسئولية نحوها …
وأن “حياة عزيز” لم تعد إلا ل”ميادة” و “ميادة” كما يخبرها دوماً!!
لكنه التفت إليها أخيراً من شروده ليسألها وقد عاودته ابتسامته :
_قولي لي…لماذا تحبين الجلوس هنا؟!
تنهدت بحرارة وهي تعود ببصرها نحو الشارع الضيق المزدحم بالمارة والأطفال رغم الوقت المتأخر نسبياً من الليل لتقول بابتسامة راضية:
_تفاصيل المكان تخطف قلبي يا عزيز…جو حميمي دافئ كنت أفتقده طوال عمري…ذاك الرجل الذي يقوم بتأجير الدراجات للصبية…والآخر الذي يبيع “غزل البنات”…أصوات الساهرين في المقهى…مع صوت “أم كلثوم” المميز…ثرثرة النساء في الشرفات بصوت مسموع وصراخهن على أطفالهن في الشارع…أمان حقيقي يا عزيز…أمااااان!
ثم صمتت لحظة لتردف بشرود:
_خرجت صباحاً لأشتري بعض لوازمي…وأثناء عودتي قابلت إحدى صديقاتي على ناصية الشارع القريب…تعجبت من سكنايَ هنا…ولا أخفيك قولاً أنني شعرت ببعض الحرج لكن نظرةً واحدة لهذه الشرفة من الخارج أعادت لي سكينتي وثقتي في صحة قراري.
ومع ابتسامتها التي فاضت بالسعادة استطردت:
_أنا أحب هذا المكان يا عزيز…أحبه بحق!!
اتسعت ابتسامته وهو يتأملها بحنانه المعهود لتتسع عيناه بدهشة وهو يجدها تشير بإصبعها نحو شئ ما هناك مع تساؤلها الفضولي:
_ما هذا ؟!
التفت برأسه ليرى ما تشير إليه ثم ضحك بانطلاق وهو يرى الرجل الذي حمل قارورة الشراب الضخمة مع ذاك الصوت المميز لقطعتيه المعدنيتين عندما يخبطهما معاً …
ليقول أخيراً بمرح:
_إنه “عرقسوس” يا سيدتي…مشروب شعبي أصيل…أراهن أنكِ لم تجربيه من قبل!
التمعت عيناها كطفلة منبهرة فانطلقت منه ضحكة أخرى قبل أن يقف مكانه لينادي الرجل:
_”عمي جمال”!!احجز لي كوبين حتى أجئ إليك.
ثم تركها بسرعة ليخرج إلى الرجل حيث تناول منه “حمولته الثمينة” ليعود إليها بها …
لكنها ما كادت تمد كفها نحوه حتى تلفت حوله قبل أن يهمس لها بخفوت:
_عيب! “العرقسوس” لا يُشرَب هكذا في الشرفات!!
ورغم أن العبث كان يفوح من كلماته لكنها تصنعت تصديقه وهي تضع كفها خلف ظهرها بحركة “الحوامل” الشهيرة لتنهض من مكانها قبل أن تتبعه إلى غرفتهما …
ثم تناولت الكوب منه لتقول بدلال:
_والآن علمني كيف يشربون هذا؟!
لكنه اقترب منها ليقول مشاكساً :
_هل صدقتِ حقاً أن له طريقة خاصة؟!
ثم رفعه لشفتيها ليقول بعينين ملتمعتين:
_أنا فقط لم أحب أن تشربيه في الشرفة!
ثم امتدت أنامله لشعرها ليقول بنبرة دافئة وقد وجدها فرصة ليحدثها بأمر يشغله منذ وقت طويل:
_تعلمين أنني لم أتدخل يوماً في مظهرك كي لا أقيدك بما لا ترغبين…لكنني لا أحب أن يراكِ أحد تجلسين بشعرك المكشوف هكذا!
ورغم اعتدادها الدائم بتصرفاتها وأفعالها التي لا تحب أن يتدخل فيها أحد…
لكن رائحة الغيرة التي فاحت من كلماته أشبعت قلبها بشعور لذيذ دلل أنوثتها باقتدار…
فارتشفت رشفة من الكوب باستكشاف لتعلو “رغوته” المميزة شفتيها مع تساؤلها بنفس الدلال:
_”قلب الشاعر” يغار على “أم ابنته”!!
لكنه فاجأها بقبلته التي امتزج مذاقها بمذاق المشروب المميز مع همسه الحار:
_بل على “حبيبته”!
تجمدت ملامحها للحظات وهي تتفرس وجهه بعدم تصديق…
قبل أن تتمتم بترقب:
_حبيبته!
فدارت أنامله على وجهها ببطء مع همسه الدافئ:
_وهل من دليل على صدقها إلا أنني لم أفكر فيها قبل أن أقولها؟!كل يوم يمر علينا معاً يزداد قلبي بكِ تعلقاً …صورتكِ التي يزداد وضوح نقائها ساعة بعد ساعة تمتلكني بشعور لا يمكن أن أسميه إلا حباً!
دمعت عيناها بتأثر وهي تحلق بعاطفتها في سماواته الزمردية التي كانت تمطرها الآن عشقاً تراه لأول مرة بهذا النقاء…
لتتشبث أناملها بقميصه مع همسها الذي مزج قوتها العتيدة بضعف غريب:
_قلها ثانيةً يا عزيز…أريد أن أسمعها حتى أملّ منها ولا أظنني سأفعل…امحُ بها ما مضى من عمري كله…لا أريد أن أتذكر شيئاً سوى أنك أنت…أنت عائلتي التي لن ينتزعها مني أحد…أجلسني على ساقيك كطفلتك كما لم يفعل أحد معي من قبل…أخبرني أنني أستحق الحب…أسمعني صفاتي بعينيك كما تراني …بدّد خوف قلبي الذي ما عاد يجد أمانه إلا معك.
فابتسم وهو يريح رأسها على صدره ليهمس بحنان:
_هل تذكرين حديثنا يوماً عن مسافريْن في قطارين يسيران متعاكسيْن…تلامست أناملهما ساعة التقاء القطارين…وبعدها مضى كل منهما في طريقه؟!!
ضحكت وهي ترفع عينيها إليه لتقول بثقتها المميزة:
_يومها أخبرتك إن أحد القطارين سيغير طريقه ليلحق بالآخر…وقد صدقت!!
هنا رفع أناملها لشفتيه ليقبلها بامتنان مع همسه أخيراً:
_شكراً لأنك أجدتِ السعي خلف قلبي حتى امتلكتِه كاملاً…
ثم صمت لحظة ليردف أمام عينيها بأول عبارة حب يقصدها بها وحدها:
_أسري في فضاء عشقك…حرية!
==========
_يالله!!كم تشبهك يا عزيز!!
هتفت بها رحمة بسعادة في المشفى وهي تضم حفيدتها لأول مرة …
فتلقفها منها عزيز بلهفة ليتفحص ملامحها المنمنمة برهبة ممتلئة بشعور غريب تعرفه روحه لأول مرة…
قطعة اللحم الصغيرة هذه …ابنته!!
ورغم أنه لم يمكنه تمييز شئ من ملامحها التي تشبهه كما تزعم رحمة…
لكن ما إن فتحت الصغيرة عينيها حتى ابتسم وهو يراهما زمردتين كعينيه!!!
_عزيز…هاتها!
همست بها ميادة بضعف وهي تمد له ذراعيها فقربها منها فقط ليمكنها من رؤيتها مع قوله الحاني:
_لن تستطيعي حملها الآن …سأحملها أنا لكِ.
ابتسمت بوهن وهي تطالع ملامح الصغيرة بانبهار مع همسها الواهي:
_نسخة منك يا عزيز!
فقبلها على جبينها بعمق وهو يربت على وجنتها قائلاً بحنان:
_بعد كل هذا التعب الذي رأيتِه أنتِ في ولادتها …كان يجدر أن تشبهكِ أنت!
هنا ضحكت والدة ميادة وهي تجلس جوار ابنتها على الفراش لتربت على كتفها قائلة ك”حماة” أصيلة:
_الملامح تتبدل…يقولون في الأمثال “البنت لأمها”…غداً تكون نسخة منها!
فابتسمت رحمة بحنانها المعهود وهي تخاطب ميادة:
_المهم سلامتك ياابنتي…يشهد الله إنني لم أتوقف عن الدعاء لكِ.
اتسعت ابتسامة ميادة الواهنة وهي تنقل بصرها بين الجميع بارتياح وقد غمرت روحها سكينة هائلة…
هل يمكن أن تنال يوماً سعادة أكبر من هذه؟!!
ابنتها في حضنها …
وزوجها حبيبها جوارها…
حماتها تعاملها كابنتها…
وحتى والدتها تحسنت علاقتها بها كثيراً…
والفضل لعزيز!!!
عزيز الذي كان تميمة حظها في هذه الدنيا…
منذ دخل عالمها ليملأه لها بفراشات الحب …
حتى وإن رأى الجميع عكس ذلك!!!
أجل…هي ليست بهذه الحماقة لتتغابى عن سخرية رفيقاتها ومعارفها منها بعد موافقتها للسكنى معه في ذاك الحي الشعبي الفقير…بل وبصحبة أمه!!!
لكنها وحدها من ترى الصورة الصحيحة!
وحدها من تدرك القيمة الحقيقية!!
هي “صفقة رابحة”…بل…هي صفقة العمر كله!!!
انقطعت أفكارها عندما سمعت صوت طرقات خافتة على الباب عقبها دخول والدها مع والد عزيز!
ولم تكد رحمة ترى شاكر حتى انسحبت بهدوء خارجةً من الغرفة تلاحقها نظراته العميقة…
قبل أن يعود ببصره نحو عزيز الذي مد له يده مصافحاً ليقول بتحفظ:
_أهلاً أبي…أهلاً عمي!
صافحه والد ميادة بدوره وقد خلق وجود الصغيرة نوعاً من البهجة أزال بعضاً من الرواسب القديمة…
عندما حمل شاكر الصغيرة ليتفحصها بحنان احتل نظراته مع قوله الشارد:
_لها عيناك…وعينا والدتك!
فابتسم عزيز وهو يقول بنبرة ذات مغزى:
_نعم…وسأحرص أن تربيها أمي لتكون مثلها!
رمقه شاكر بنظرة طويلة راجية قبل أن يقول بعتاب:
_ووالدك يا عزيز؟!أليس له حقٌ عليك؟!
أشاح عزيز بوجهه للحظة ثم قال باقتضاب:
_هذا ليس وقتاً مناسباً للعتاب يا أبي.
لكن شاكر ناول الصغيرة لجدتها برفق قبل أن يعاود التفاته نحوه ليقول برفق:
_أريد التحدث معك …سأنتظرك غداً في مكتبي ..لعل ميلاد الصغيرة يكون صفحة جديدة بيننا.
أومأ عزيز برأسه إيجاباً فاستأذنهم شاكر في الانصراف ليخرج من الغرفة بحثاًعنها…
وأمام أحد النوافذ التي كانت تطل على حديقة المشفى لمحها هناك واقفة…
فاقترب منها ببطء حتى صار على بعد خطوات منها ليقول أخيراً وقد أدرك أنه قد آن أوان هذا الاعتراف:
_بعد كل هذا العمر…لم أندم على خطأ اقترفته قدر ندمي على تفريطي فيكِ!
لكنها ظلت ثابتةً مكانها دون حتى أن تلتفت نحوه وكأنها كانت كانت تتوقع مجيئه…بل واعترافه!!!
لتصمت للحظات طالت قبل أن تقول بصلابتها المعهودة:
_لا تمنح غالياً لزاهدٍ فيه!!
عقد حاجبيه بتساؤل وقد عجز عن فهم عبارتها…
فاستدارت نحوه لتقول بتسامح ليس بغريب عنها:
_ندمك غالٍ يا شاكر …لكنه ما عاد يعنيني…أنا رضيت بنصيبي والقدر عوضني بأفضل مما تمنيت…
ثم عادت تشرد ببصرها وشريط عمرها يمر أمام ناظريها مع قولها:
_عمري لم يضع هدراً…ربيت ابنة ليست لي…فردها لي القدر في كهولتي ابنتين وولداً …
ثم ابتسمت وهي تعود إليه ببصرها لتردف:
_واليوم…حفيدة!
أطرق برأسه دون رد وهو يشعر بكلماتها تكوي جرحه الحي…
هو الذي ضاع عمره كله هدراً سعياً خلف مال رماه ابنه في وجهه ليهجره!!!
والآن صار وحيداً لا يدري لحياته هدفاً ولا غاية!!!
لقد استقوى على ضعف رحمة يوماً فحرمها كل شئ…
والآن تبدلت الأدوار…وربحت رحمة…
ربحت كل شئ!!!
لهذا رفع عينيه إليها أخيراً ليقول بتردد:
_كيف أعوضك عن كل ما فات؟!
فاتسعت ابتسامتها وهي تقول بطيبتها المعهودة:
_أنا مسامحة…المهم عندي هو ابنك..
ثم صمتت لحظة لتقول ببعض الحزم:
_لا أريدك أن تخسره ولا أن يخسرك…وازن أمورك كما تراها لكن ضع ابنك في المقدمة.
قالتها ثم غادرته بخطوات ثابتة لتعود لغرفة ميادة تلاحقها نظراته الآسفة…
لقد ندم لكن بعد فوات الأوان…
لكن لعله يصلح الأمور مع عزيز عساه ينقذ ما بقي له من عمر…
===========
_ماسّة!
قالها جهاد بلكنته المميزة والتي شابها بعض الحزن الآن وهو يردف:
_هل ستتركين العمل معنا حقاً؟!
فأومأت ماسة برأسها وهي تقف أمامه في مكتبه بالمشفى …
ثم حاولت التشبث بما بقي من تماسكها لتقول بتحفظ:
_نعم…يجب أن أعود إلى مصر!
رمقها بنظرة متسائلة طويلة لكنها تجاهلتها فتنهد بحرارة ليقول بعدها مباشرة دون مواربة:
_هل للأمر علاقةٌ بطلاقك؟!
انتفضت مكانها بغضب وهي تسأله بنبرات مشتعلة:
_وكيف علمت عن طلاقي؟!
حافظت ملامحه على هدوئها الظاهر وإن شابها الكثير من التفهم مع إجابته المقتضبة:
_عزيز!
مطت ماسة شفتيها باستياء وهي تشيح بوجهها دون رد…
فلوح بكفه ليقول مهدئاً:
_هلا جلستِ كي نتفاهم!
هزت رأسها نفياً وهي تهتف بانفعال فجرته كثرة ضغوطها:
_علامَ نتفاهم؟!أنا سلمت كل ما يتعلق بعملي هنا وحجزت مكاني في أول طائرة عائدة إلى مصر…فهل أنت وصيٌّ عليّ؟!
رمقها بنظرة عاتبة طويلة دون كلمات فزفرت بقوة ثم انهارت جالسةً على الكرسي لتقول بصوت متهدج:
_أنا آسفة…لم أقصد…
انقطعت عبارتها بسيل دموعها وهي تلوح بأناملها المرتجفة بعجز…
لم تعد تدري ماذا أصابها…!!!!
هي في حالة عدم اتزان منذ علمت عما حدث لعاصي…
ورغم أن فهد قد أكد لها ما عرفته من دعاء لكنها لا تزال لا تصدق…
ولن تفعل حتى تراه بعينيها!!!
يقولون أنه فقد بصره!!
يقولون إن أعداءه تربصوا به ليوقعوه في فخ حقير لكنه نجا من الموت بأعجوبة ومع هذا لم يخلُ الأمر من إصابات بالغة عولج منها حتى تماثل للشفاء …
لكن صدمته بما حدث لابنه أمام عينيه أصابته بعمًى مؤقت!!
أو -كما أخبرها فهد- هو الذي يرفض أن يرى!!
وكأنما يعاقبه -عقله الباطن- بهذه الطريقة وقد رأى نفسه السبب فيما حدث لابنه!!!
وما يحرقها حرقاً أن كل هذا حدث له وهي هنا لا تعلم شيئاً عن أي من هذا…!!!
هي التي كانت تستغرب صمته الطويل بعد آخر لقاء بينهما ولم تدرِ أي عذابٍ كان يكابده وحده!!
لقد صدق يوم قال إنه سمح بسفرها خوفاً عليها من الخطر…وليتها بقيت!!!
ليتها استمعت لحديث رحمة وقتما نصحتها !!!
ليتها كانت درعه الأخير قبل أن يصيبه أي سوء!!!
ليتها!!!
_ابقيْ هنا!
همسه الحاني بنبرته التي حملت بعض الرجاء أخرجتها من هدير أفكارها العاصف لتلتفت نحوه بتشتت…
فيما استطرد هو بنفس النبرة:
_أنا لا أعلم لماذا تريدين العودة…لكنني أرغب حقاً في وجودكِ هنا…
ثم ازدرد ريقه ببطء لتلتمع عيناه بصفائهما مع همسه الذي ارتعش قليلاً:
_ماسّة…أنا….أنا…
_أنت سجين!
قالتها بمرارة خالطت حروفها وهي تتعمد قطع عبارته التي كادت تقسم بما ينتوي نطقه بعدها…
فعقد حاجبيه بضيق وهو يهز رأسه بتساؤل…
لتتنهد هي بحرارة قبل أن تطرق برأسها مع قولها:
_سجينٌ لفكرة الوطن الذي حُرمتَ منه…خرجت منه بجسدك لكن قلبك لايزال يرتع كالطفل بين ربوعه…
ثم رفعت عينيها إليه لتقول بانفعال:
_اخرج من سجنك…افتح عينيك…لو فتحتهما فسترى أشياء لا تراها…وأناساً خيراً مني يستحقون أن تراهم!
قالت عبارتها الأخيرة وصورة زهرة تملأ مخيلتها بفكرة ساخرة…
هل كُتب علينا أن نقابل الحب الصحيح في الوقت الخاطئ…؟!!
أن نقابل الحب الخطأ في الوقت الصحيح…؟!!
لماذا لا تقابل “قطعة البازل” مكانها المضبوط في رقعة اللوحة؟!!
حب صحيح في وقت صحيح لتكون النتيجة قلباً “غير مكسور”!!!
بينما عجز هو عن فهم عبارتها ليتفحصها ببصره للحظات قبل أن يتساءل بحيرة:
_من تقصدين؟!
فوقفت مكانها أخيراً لتقول بمواربة:
_لن أستطيع البوح بما هو أكثر…ربما لو كنت سعيد الحظ بما يكفي لأدركت ما فاتك من جوائز القدر قبل فوات الأوان!
لكنه بدا غافلاً عما تقصده عندما وقف بدوره وهو يقول برجاء أخير:
_ألن تعودي؟!
هزت رأسها نفياً وهي تقول بشرود:
_هل تذكر حديثنا يوم تكلمنا عن الوطن المسلوب؟!وطني ينتظرني لأحرره !
ورغم أنه فهم ما تعنيه بقولها لكنه عاد يسألها أخيراً بمزيج من إشفاق وترقب:
_ألن تلتقي طرقنا يوماً؟!
فالتفتت إليه من شرودها وسخرية أفكارها المريرة تعاودها…
ها قد أصبح بيدك الخيار يا “سيدة ” قرارك …
ومع هذا تصرين أن تبقيْ “أَمَة” عشقه!!
القدر يمنحكِ بيمينه رجلاً يرتضيه عقلك…
ويقبض يسراه على رجلٍ يشتهيه قلبك…
فهل فاز يوماً من عاند القدر؟!!
لا…لا يا غافلة!!!
إنها ليست منحةً بل …اختبار!!
والحب كما كل “المطالب” لا ينال ب”التمني” بل يؤخذ غلاباً!!
هي معركتك الأخيرة فاربحيها وتربعي على عرش انتصارك…
أو استشهدي في ميدانها بشرف القتال!!
وبهذا الخاطر الأخير أخذت نفساً عميقاً لتقول بحسم:
_الطرق المتوازية لا تتلاقى…أتمنى لك التوفيق يا “دكتور”.
=========
_هل علمت مفاجأة عزة لك يا راغب؟!من الجيد أنك لم تأخذها معكم للحج!
قالتها هيام بنبرتها التي عادت إليها رائحة المكيدة مؤخراً ….
بينما كان الجميع يتناولون الغداء معاً في بيت “الحاجة” كعادتهم يوم الجمعة….
فشعرت رؤى بالتوتر وهي تنقل بصرها بين عزة وراغب…
لكن راغب أمسك كفها تحت المائدة مطمئناً وهو يتجاهل هيام التي يبدو أنها عادت لحماقاتها ليسأل عزة بهدوء:
_ما الأمر يا عزة؟!
هزت عزة رأسها في إشارة لكونها لا تعلم شيئاً …فاستطردت هيام مخاطبةً عفاف بنبرة شامتة:
_يبدو أن الله استجاب لدعواتك يا أمي…أخيراً ستحملين ابن راغب بين ذراعيكِ!
شهقت عزة بقوة وقد بدت الدهشة على ملامحها….
فيما اتسعت عينا عفاف بصدمة للحظة قبل أن تنظر لرؤى نظرة طويلة ….
رؤى التي أطرقت برأسها وقد ارتجف جسدها ليزداد ضغط كف راغب على أناملها مع سؤاله لعزة بغضب مكتوم:
_هل هذا الأمر صحيح يا عزة؟!
كانت الصدمة على وجه عزة الممتقع واضحة لكن أخا راغب وقف مكانه ليصافحه بقوة مع قوله بحرارة:
_مبارك يا أخي…فرحت لك كثيراً!!
اقتضت مصافحتهما أن يترك راغب كف رؤى ولم يكد يفعلها حتى وقفت مكانها لتقول بنبرة مختنقة:
_مبارك يا عزة…مبارك يا أمي!
ثم صمتت لحظة لتردف:
_أنا أشعر بالتعب منذ الصباح…سأصعد شقتي لأستريح.
قالتها وهي تندفع لتغادر المكان بخطوات سريعة تحت نظرات راغب الملتاعة…
قبل أن يعود ببصره نحو عزة التي هزت رأسها له نفياً في إشارة خفية لكونها لا تعلم شيئاً …
فالتفت نحو هيام التي فاضت ملامحها بالانتصار وقد أدرك زيف ما يقال!!!
فأخذ نفساً عميقاً وهو يحاول ترتيب أفكاره قبل أن يقول لأمه بتهذيبه المعهود:
_عفواً يا أمي…سأصعد لرؤى.
أومأت عفاف برأسها وقد بدا على وجهها التفكيرهي الأخرى…قبل أن تربت على كتف عزة لتقول بفرحة باهتة:
_مبارك يا ابنتي!
قالتها وهي تقوم من مكانها لتتوجه بصمت نحو غرفتها التي أغلقت بابها خلفها….
فيما صعد راغب درجات السلم عدواً نحو شقتهما ليجدها واقفةً تستند على أحد المقاعد وقد أغرقت دموعها وجهها…
فأدار كتفيها نحوه ليحتضنها بقوة مع هتافه المنفعل:
_يالله!!هل صدقتِها يا رؤى؟!
صمتت دون رد وهي تخفي وجهها في صدره فضمها إليه أكثر يحتوي ارتجافة جسدها قبل أن يبعدها ليتفحص ملامحها مع همسه الذي امتزج عتابه بعاطفته:
_هل تشكّين فيّ بعد كل هذا؟!
مسحت دموعها بأناملها وهي تهز رأسها نفياً لتهمس أخيراً :
_أنا أعلم أنها كاذبة…أنا فقط حزينة لأنها أفسدت علينا فرحتنا!
رمقها بنظرة متسائلة وهو يربت على وجنتها برفق…فتحسست بطنها بأناملها لتهمس وداعتها المعهودة:
_أنا أخبرت أمي صباح اليوم عن الأمر …ويبدو أن هيام سمعتنا وتصرفت هكذا لتنصر شقيقتها من وجهة نظرها!
نقل بصره بشك بين عينيها وأناملها على بطنها قبل أن يبتسم وهو يسألها بحذر:
_أي أمر هذا الذي أخبرتِ به أمي؟!!أنتِ….؟!!
أومأت برأسها إيجاباً وهي تعاود إخفاء وجهها في صدره لكنه ابتعد عنها ليتفرس ملامحها بفرحة غامرة مع هتافه المنفعل:
_رؤى!!معقول؟!أنا …أنا….
عجز عن إكمال عبارته وهو يمطر وجهها بقبلاته الحارة وسط ضحكاتها التي امتزجت بدموعها …
قبل أن يخبط جبهتها بجبهته برفق مع هتافه العاتب:
_أي شئ يمكن أن يفسد فرحتنا هذه يا حمقاء؟!هذه فرحة يهون فداها كل شئ!
ثم احتضنها وهو يسند رأسه على رأسها ليخفيها بالكامل بين ذراعيه وهو يتأوه بقوة قبل أن يهمس بتأثر:
_تعلمين كم تمنيتها؟!كم دعوت الله بها؟!
ثم رفع ذقنها إليه ليردف بنبرة دافئة:
_قدْر ما أحببتك…وياله من قدْر!!!
ابتسمت وهي ترتفع بجسدها لتقبل جبينه مع سؤالها بنبرتها الطفولية:
_تريده ولداً أم بنتاً؟!
_المهم أنه منكِ أنتِ!!
همس بها بحرارة بين شفتيها قبل أن يتبع همسته بقبلته -الأثيرة- على شق ذقنها…
ثم جذبها برفق نحو المرآة ليحتضن ظهرها ويواجه انعكاس صورتهما بقوله الذي مزج جديته بعبثه:
_أريدكِ أن تطيلي النظر في المرآة قدر استطاعتك…وخاصةً لطابع حسنكِ هذا…كي يشبهكِ صغيرنا.
ثم عاد يديرها نحوه ليردف بتلذذ وهو يغمض عينيه يستحضر الصورة :
_أريد أن يكون هذا أول ما أميزه في ملامحه عندما أحمله بين ذراعي!
ضحكت بسعادة خالصة وهي تراقب الفرحة التي كست ملامحه بهذا العمق…
كيف يمكنها وصف سعادتها الآن بهذا الطفل؟!
رغم كل بشائر القبول التي حظيت بها من رب غفور رحيم…
ستبقى بشارة هذا الطفل هي الأجذل والأجمل!
لكنها عادت تتذكر ما حدث منذ قليل فهمست ببعض القلق:
_راغب..ماذا سنفعل مع عزة وهيام؟!
فتح عينيه أخيراً وهو يعقد حاجبيه بتفكير عميق …
عزة تغيرت كثيراً منذ بدأت مشروعها الجديد…
وكأن نجاحها أكسبها المزيد من القوة والثقة في نفسها!!
وبشخصيتها الجديدة هذه هو يتوقع أن تكون هي نفسها من يتصدى لهيام في الفترة القادمة!
لهذا قال أخيراً بتعقل:
_لو صدق ظني …نحن لن نفعل شيئاً…عزة الآن هي من ستفعل!
هزت رأسها بتساؤل فربت على وجنتها برفق مردفاً:
_لا تشغلي بالك بشئ من هذا…افرحي بطفلنا فحسب!
فابتسمت وهو تقول بشرود:
_أمي كانت في غاية السعادة عندما أخبرتها…كانت تظنني…أقصد…كما أخبرتها…
تلعثمت في عبارتها الأخيرة وهي تشيح بوجهها …
فقد شعرت بالحرج من تذكيره بكذبته عندما زعم أنها لا تنجب مبرراً زواجه من عزة!!!
لكنه أدار وجهها نحوه ليلتقط نظراتها بفيض عاطفته مع قوله بما يشبه الاعتذار:
_الآن تستعيدين مكانتك هنا كاملة…كما تستحقين!
ثم قرص وجنتها مداعباً وهو يقول بعتاب مصطنع:
_لكنني غاضبٌ منكِ!
رمقته بنظرة متسائلة فأردف لائماً:
_لماذا لم تخبريني أنا أولاً؟!
احمرت وجنتاها خجلاً كعادتها عندما تنفعل مع قولها المتلعثم:
_لم أكن متأكدة…أنت تعلم ألا خبرة لي في هذه الأمور…وسألت أمي ف…
قاطعها ضاحكاً بتلذذ وهو يرى ارتباكها وتلعثمها يزيد وضوح طلتها الطفولية ليقول بتعجب مرِح:
_لا أصدق أن صغيرتي ستكون “أماً”!!!لا يمكنني استيعابكِ أبداً في هذا الدور!!
فضحكت بدورها وهي تلقي رأسها على صدره لتهمس :
_أنا أيضاً مرعوبة من هذه الفكرة!
لكنها رفعت عينيها إليه أخيراً لتهمس بنبرة حملت من الصدق أضعاف ما حملته من الدلال:
_لكنك علمتني ألا أخاف من شئ ما دمت معك!
=======
_لماذا فعلتِ هذا يا هيام؟!
هتفت بها عزة وهي تجذبها نحو إحدى الغرف لتغلق الباب خلفها مكملةً عتابها:
_هل هذه أمورٌ يجوز فيها الكذب؟!
مطت هيام شفتيها في استياء مع قولها باستنكار:
_وهل كنت أتركها تفرح بتميزها عنكِ أيتها البلهاء؟!
زفرت عزة بقوة وهي تلوح بذراعها قائلةً بضيق:
_أي تميز هذا؟! ألن تكفي عن التفكير بهذه الطريقة؟!
عقدت هيام حاجبيها وهي تقول بغضب:
_أي طفل صغير يمكنه إدراك أن زوجك لا يعدل بينكما…يكفي هذا الموقف الأخيرعندما اصطحبها معه للحج ولم يفعل معك.
فهتفت عزة مدافعة:
_هو عرض عليّ بالفعل…وأنا رفضت لأجل مشروعي.
فأطلقت هيام زفرة غاضبة وهي تقول بضيق:
_ومشروعك هذا أيضاً!!!أين كان عقلك وأنتِ تزجين بنفسك في مجال كهذا بينما هي تتبختر في مشيتها للجامعة ؟!أي مقارنة بينكما ستكون لصالحها وأنت تساعدينها في هذا بمنتهى الحماقة!
لكن عزة تجرأت أخيراً لتقول لها بحزم:
_هيام…كفاكِ تدخلاً في شئوني…أنا لم أعد صغيرة…هذه الزيجة لم تكن تروقني منذ البداية…وأنتِ التي أجبرتني علي الموافقة!
اتسعت عينا هيام بصدمة وهي ترى عزة تحدثها بهذه الطريقة ربما لأول مرة في حياتها…
بينما استطردت عزة بنبرة اتهام:
_ألم تفكري كيف سيكون منظري أمام الجميع بعدما يثبت كذب ادعائك؟!
فلوحت هيام بكفها لتقول بتذمر:
_من يدري ربما تحملين أنتِ الأخرى من زوجكِ !!وإلا يمكننا الزعم بخطإ التحليل!!
ثم أردفت بغيظ:
_المهم ألا تشمت فيكِ تلك الفتاة وتشعر بانتصارها عليكِ الآن!
هزت عزة رأسها بيأس من مجادلتها فصمتت للحظات…
قبل أن تلقي قنبلتها المدوية:
_هيام…أنا سأطلب الطلاق من راغب!
والجواب كان صيحة استنكار عالية من تلك النارية أمامها…
لكن عزة رفعت رأسها لتقول بحزم:
_لم أعد أريد هذه الزيجة!
لطمت هيام خدّها بحسرة وقد خرس لسانها غضباً وعجزاً…فيما استطردت عزة بنفس النبرة القوية:
_إحدى السيدات اللائي يتعاملن معي جلبت لي فرصة ممتازة…فقرة كاملة في أحد قنوات الطبخ الشهيرة على التلفاز…سأترك هذا الحي بأكمله وأبدأ من جديد في مكان لا يعرفني فيه أحد ليعيّرني بماضٍ لم يكن لي ذنب فيه…وفي نفس الوقت أمارس هوايتي التي أعشقها وأبرع فيها.
_تخاريف!!ومن سيسمح لك بهذا؟!
هتفت بها هيام باستنكار ووجهها يكاد ينفجر غيظاً…
فكتفت عزة ساعديها بقولها :
_حياتي وأنا حرةٌ فيها!
نظرت إليها هيام بصدمة وهي لا تصدق جرأتها الجديدة!!
من علمها أن تقف في وجهها هكذا؟!!
لقد تعودت دوماً أن تأخذ لها قراراتها بحكم مسئوليتها عنها؟!!
فهل كبرت الصغيرة الآن وتريد التمرد؟!!!
وعند فكرتها الأخيرة لكزتها في كتفها بغيظ لتقول مهددة:
_أنتِ تفسدين حياتك …عودي لعقلك يا بلهاء…كما أن راغب لن يسمح بهذا أبداً.
فأخذت عزة نفساً عميقاً وهي تدرك نجاحها أخيراً في المواجهة والمطالبة بحقوقها…
بدأتها بهيام وستكملها في مشوار عمرها كله …
لن تسمح لأحد بعد أن يتحكم في مصيرها …
هي ستكون سيدة القرار!!!
لهذا ابتسمت رغماً عنها وهي تعطيها ظهرها لترد على عبارتها الأخيرة ببرود مصطنع:
_لا تقلقي بشأن راغب…سأكلم رؤى كي تقنعه!
==========
_مبارك يا “ست البنات”!!!
هتف بها عبد الله بفرحة حقيقية وهو يقبل جبينها بعمق بينما يزورها في بيتها كعهده مؤخراً وقد علم عن نبأ حملها…
فشعرت رؤى بالذنب وهي تتبادل مع راغب نظرات ذات مغزى لتقول بارتباك:
_سلمتَ يا أخي!
صافح عبد الله راغب بحرارة وهو يربت على كتفه ليقول مهنئاً:
_بارك الله لكما…لقد كنت أطلبها من الله لكما في كل وقت!
ثم تنهد بحرارة ليقول بأسف:
_سبحان الله…رؤى حملت بطفلٍ منك قبل الأخرى التي تزوجتها لأجل الولد!
عاد راغب ورؤى يتبادلان نظرات الذنب على- كذبتهما -القديمة…
بينما كان عبد الله غافلاً عن هذا وهو يقول بشرود:
_وَكان الإنسان عجولاً!
لكن رؤى اجتذبته من شروده وهي تقول بحنانها المعهود :
_العقبى لك يا عبد الله!
فأطرق عبد الله برأسه للحظات قبل أن يهمس بخفوت:
_سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب!
ثم عاود رفع رأسه نحوها وهو يقول بحزم حانٍ:
_انتبهي لنفسك هذه الأيام…ولو احتجتِ شيئاً أخبريني.
أومأت برأسها إيجاباً وهي تشير لراغب إشارة خفية أن ينصرف فتنحنح مستأذناً ليغادرهما بحجة واهية….
بينما سألته هي باهتمام:
_هل علمت عما حدث لصفا؟!
أومأ برأسه دون رد …فعادت تقول برجاء:
_ردّها إليك يا عبد الله…لا غنى لأحدكما عن الآخر والله لطف بكما في حكمه ومنحكما هذه الفرصة من جديد…صحيحٌ أنني حزينة على وفاة زوجها في ريعان شبابه لكنني منذ سمعت الخبر وأنا أشعر أنها قد تكون بداية جديدة لكما.
لكنه هز رأسه ليقول بأسف:
_لن أتخلى عن فتون ومحمد…لن أستطيع… لأجل محمد على الأقل…أنا ارتبطت به جداً وهو أيضاً.
فازدردت رؤى ريقها ببطء لتقول بتردد:
_ألا يمكن أن تجمعهما معاً؟!حالتكم هذه من الحالات التي لأجلها شرع التعدد…وأنت يمكنك العدل بينهما.
فابتسم ساخراً ليقول بتهكم:
_تظنين أن صفا المعموري ستقبل أن تكون زوجة ثانية؟!ومع مَن؟!من كانت خادمتها؟!
لكن رؤى هتفت معارضة:
_صفا تغيرت يا عبد الله…يوم ذهبت لتعزيتها وجدتها قد عادت لطبيعتها القديمة…ما مرت به ليس هيناً على الإطلاق!
فتنهد بحرارة مطرقاً برأسه ليقول بحسم:
_لن ترضى بهذا يا رؤى…ولو رضيت هي ما يدريني أن فتون هي الأخرى ستقبل؟!
ثم صمت لحظة ليردف بأسف:
_للأسف…أبوابنا مغلقة حتى لو ظننا العكس!
ربتت رؤى على كتفه بمواساة فرفع رأسه إليها ليوصيها أخيراً:
_كوني جوارها هذه الأيام …لو استطعتِ أن تزوريها كل يوم فافعلي…هي تحتاجك الآن!
تهدج صوته رغماً عنه في عبارته الأخيرة فاضحاً شعوره …
فابتلع غصة حلقه وهي تومئ له برأسها موافقة قبل أن يغادر شقتها بهدوء لتتقاذفه أمواج أفكاره بشرود طويل طوال طريق عودته إلى منزله…
شئ من الأمل يغزو صدره رغماً عنه بعد ما حدث…
قلبه الذي لم ينبض بحب امرأة سواها لا يمكنه نكران فرحته ولو بمجرد بصيص خافت من الضوء أن تعود إليه…
لكنه يعرف صفا جيداً…
حتى لو استطاع هو التغلب على مرارة شعوره -كرجل- بأنها كانت يوماً ما لغيره…
هي لن تفعلها!!!
كِبرها العتيد سيمنعها العودة إليه إلا لو طلّق فتون…
وفتون “لديه” تعني “محمد”…
محمد الذي لن يستطيع الآن التفريط فيه مهما حدث!!!
وهكذا فالحلقة مفرغة يدورون فيها جميعاً…
ولا حلّ!!
انقطعت أفكاره عندما وصل أخيراً لمنزله ففتح الباب بهدوء ليستقبله الصغير بعاصفة شقاوته المعهودة…
والتي بددت بعضاً من شجون روحه لبعض الوقت…
قبل أن تأخذه منه فتون لغرفتهما التي اختفيا فيه أخيراً…
ليعود عبد الله وحده إلى غرفته …
وتعود معه ذكرياته الدافئة معها لتنغص عليه صفو حياته كما العادة!!
لم يدرِ كم ظل يتقلب على الفراش وقد جافاه النوم…
حتى قام من نومته أخيراً ليستغفر الله بصوت مسموع…
صلى ركعتين من الليل بدعاء خاشع ثم خرج إلى صالة المنزل ليفاجأ بالصغير يبكي وحده في الظلام!
انعقد حاجباه بشدة وهو يندفع نحوه ليحتضنه بقوة مع همسه القلق:
_لماذا تبكي؟!
فتعلق الصغير بعنقه وهو يهمس بحزن طفولي:
_أمي…لا أدري ماذا بها!
ازداد انعقاد حاجبي عبد الله وهو يستفسر منه أكثر ليجيبه الصغير بعفويته:
_لا تكف عن البكاء ليل نهار عندما تظنني لا أراها.
التفت عبد الله برأسه نحو غرفتها المفتوحة ليسأله بحذر:
_هل هي نائمة الآن؟!
أومأ الصغير برأسه وهو يقول بذكاء سابق لسنّه:
_هي لا تعلم أنني أتظاهر بالنوم كي أرى ما ستفعله …وعندما تتوهم أنني قد نمت تعود لبكائها الصامت.
ثم اشتدت حدة بكائه وهو يتعلق بعنقه أكثر مع قوله الذي مزق قلب عبد الله:
_أخشى أن تمرض وتختفي مثل أبي!
ضمه عبد الله بقوة أكبر وهو يربت على ظهره ليقول له بحنان:
_لا تخف…أنا سأحل هذه المشكلة صباحاً لكن بشرط!
رفع الصغير رأسه إليه بتأهب فلوح بسبابته في وجهه ليقول بحزم:
_لن تخبرها أنك قلت لي شيئاً!
أومأ الصغير برأسه موافقاً …فأردف عبد الله :
_ولن تبكي أنت في الظلام وحدك بعد!
فرفع الصغير إصبعيه ليقول بذكاء:
_هذان شرطان وليس واحداً!
فابتسم عبد الله وهو يقرص وجنته مداعباً قبل أن يمد له يده مصافحاً مع قوله:
_كلام رجال يا “شيخ” محمد!
فصافحه الصغير بقوة تليق به مع قوله بحماس وقد نسي حزنه :
_كلام رجال يا “شيخ” عبد الله!
فاتسعت ابتسامة عبد الله وهو يقوم معه ليقول بحنان:
_ستنام معي الليلة…لأحكي لك بقية الحكاية.
وهكذا نام الصغير بين ذراعيه لتنتهي هذه الليلة به مسهداً مؤرقاً كسابقات الليالي وهو يفكر في حديث الصغير الذي أيّد قراره السابق…
فتون تخشى أن يتخلى عنها وعن الصغير لكنها -كعهدها- لن تطالبه بشئ…
والواجب عليه الآن أن يؤمن خوفها ويمنحها السكينة من أجلها ومن أجل الصغير…
لهذا ما كاد يلمحها صباحاً وهي تغادر غرفتها حتى بادرها بقوله:
_أريد التحدث إليكِ !
فانقبض قلبها بقوة وهي تهمس بتوجس:
_خيراً يا شيخ!أين محمد؟!
تفحص ملامحها الشاحبة بأسف ثم قال وهو يتلفت حوله:
_محمد نائم في غرفتي…تعاليْ نجلس!
سارت خلفه ودقات قلبها تكاد تتواثب ترقباً …
تدعو الله بصمت أن يخيب ظنها فيما يريدها لأجله !!
ولم تكد تجلس جواره حتى التفت نحوها ليقول بحزم رفيق:
_أنا أعلم جيداً ما تفكرين به بعد وفاة زوج صفا…وأعلم أنك لا ترجين شيئاً من زواجنا سوى الاطمئنان على محمد .
خفضت عنه بصرها بحياء وهي تخشى أن تفضحها نظراتها…
ماذا عساها تخبره؟!
أن قلبها -الأحمق- تعلق به!!
أنها تناست حبه الواضح كالشمس لصفا وسمحت لنفسها بهذا الحلم الذي ليس لها!!!
أنها لم تعد تريد من هذه الدنيا إلا أن تبقى جواره حتى ولو بقيا على حال زواجهما الغريب هذا!!
عجيب؟!!
لا…ليس عجيباً!!!
امرأة بلا خبرة مثلها لم ترَ من هذه الدنيا سوى الامتهان والاستغلال فمن الطبيعي جداً أن تهيم برجل مثل هذا …
رجل منحها دون أن تطلب!!
لتعيش في كنفه أماناً حقيقياً !!!
أماناً…يوشك الآن أن يزول!!
لكنه انتشلها من أفكارها ليقول بحسم:
_لن أتخلى عنكِ ولا عن محمد…هذه كلمتي ولن أخلفها.
رفعت عينيها إليه بلهفة لم تتعمدها لتولد على شفتيها ابتسامة حقيقية أشعت بها عاطفتها على محياها الصبوح فزادته فتنةً على فتنته…
لكنه لم ينتبه لكل هذا وهو غارق في شروده ليهمس أخيراً :
_لم يتغير شئ!!
ثم قام ليتركها وحدها تراقب ظهره المنصرف بمزيج من مشاعرها المختلطة…
فرحتها بوعده…أمام حزنها للوعته…
أمانها بقربه…أمام خوفها من فقده…
أملها فيه…أمام يأسها منه…
وأخيراً…
تعلقها به…وتعلقه هو بسواها!!
وعند خاطرتها الأخيرة لمعت في ذهنها فكرة وازت قوله الأخير..
“لم …يتغير.. شئ”!!!
أو…ربما من يدري؟!!!
قد يكون الكثير …تغير!!!
=======
_كل واحد أوسم من سابقه!
_الأول ضابط غني…والثاني سيأخذها معه إلى دبي!
_كيف يمكنها الإيقاع بهم تلك الماكرة؟!!
_كل هذا وهي بمرضها وعاهتها؟!ماذا كانت ستفعل إذن لو كانت طبيعية مثلنا؟؟!!
_غداً يزهدها ويطلقها كمن سبقه!!
_وما يدريكِ ساعتها لعل الثالث يكون أفضل من كليهما معاً!!
كانت تسمع هذه الهمزات-وما شابهها- طوال الأيام السابقة عقب عودتها لمدينتهما ومعرفة الناس بقرب زواجها من معتصم …
والآن -وفي ليلة زفافهما- تكاد تراها رأي العين في نظراتهم الحاسدة وغمزاتهم المتبادلة!!!
لكن العجيب أنها …لا تهتم!!!
كلماتهم التي كانت تصيبها كسهام مسمومة صارت الآن تضحكها!!!
وكأنها تسامت فوق الغمام لترى المشهد من أعلى بصورة أفضل!!
مساكين هم بأفكارهم لكنها لن تسمح لهم أن يسمموا حياتها بعد!!!
انقطعت أفكارها عندما دخل عليها عمها غرفتها بابتسامة واسعة ليخبرها أن المأذون وصل…
فألقت نظرة أخيرة على ثوبها الذي اختارته- بنفسها- هذه المرة…
قبل أن تبتسم بثقة وهي تتأبط ذراع الرجل ليخرج بها إلى صالة بيت والدها حيث أصرت هي أن يتم الزفاف ها هنا!!!
رفعت رأسها برضا ممزوج بالكبرياء وهي تخطو بخطوات ثابتة نحو معتصم الذي فاضت عيناه بعشق ما عاد يوقفه…
ليتلقف كفها أخيراً بقوة رفيقة وعيناه تكادان تقسمان أنه الآن قد نال نجمة من السماء!!!
جلست جواره بمزيج من سعادة وخجل كما يليق بعروس تجرب هذه الفرحة لأول مرة!!!
أجل…لأول مرة!!!
لأول مرة هي سعيدةٌ حقاً ب-زوجها- لا بمجرد “زواجها”!!!
لأول مرة لا تربط رضاها ب”الناس” بل…ب”رب الناس”!!!
لأول مرة لا تجد مكافأتها في” نظراتهم” …بل في “دفء” أمان كفها بين كفيه!!
وساعتها فقط تذكرت تلك الرؤيا التي رأتها قبل حادث مصابها!!
الآن فقط يمكنها تأويلها!!
الجنة كانت في الرضا….
والجبل كان صمودها…
والعطية من السماء كانت بقدر الصبر!!!
وهنا فقط تلفتت حولها لا لتبحث عن نظرات ترضي “نقصاً” ما عادت تستشعره…
بل تستعيد صورة والديها هنا في هذا المكان …
لتهمس في نفسها برضا:
_ابنتكما سعيدة…الآن سعيدة حقاً!
_توقيع العروس!
انتزعتها العبارة من شرودها لتمسك القلم بأنامل مرتجفة فازداد ضغط كفه على كفها في مؤازرة…
لتزداد أناملها ثباتاً وهي تمنحه التوقيع بسلاسة!
هنا تعالى صوت الزغاريد حولها وتعالى معها خفقان قلبها بدقات ترقص فرحاً…
وهمسته التي اخترقت أذنها تفوق كل هذا الضجيج :
_أحبك!
لتلتفت نحوه بخجل فيما استطرد هو بعبثه الذي عاد يسكن نبراته:
_لا رقص!أريد أن تكون الرقصة الأولى لنا ونحن وحدنا!
ثم مال على أذنها ليردف بخبث:
_أنا لا أضمن نفسي وأنتِ تعرفين جنوني!
ضحكت بخجل وهي تطرق برأسها لتتقاذفهما بعدها موجات التهاني المتعارف عليها في هذه الظروف…
كانت الوجوه تتبدل أمام ناظريهما لكن كليهما لم يكن يرى إلا صاحبه!!!
وانتهى الحفل…وبدأ الاحتفال الحقيقي!!!
أجل…ما كاد يختلي بها بعد رحيل الجميع حتى أمسك كتفيها بقوة لينظر لعمق عينيها هامساً بصدق مس قلبها:
_حلم…أنتِ حلم!
احمرت وجنتاها بخجل وهي تسمعها منه بهذه الحرارة …
فيما كان هو غارقاً في تفاصيلها تماماً كما كان يراها في أحلامه…
لتتلمسها أنامله برقة خاشعة مع همسه الذي أذابها بعاطفته:
_لا…أنتِ حقيقة أجمل من أي حلم!
ارتسمت على شفتيها ابتسامة مرتجفة انتهت بشهقة خافتة وهو يجذبها نحوه بقوة ليلصقها بصدره مع همسه في أذنها:
_أشعر وكأنني كنت في سباق طويل …والآن فقط يمكنني التقاط أنفاسي!
أفلتت منها أنّةٌ خافتة وهي ترفع عينيها إليه قبل أن تهمس بصدق:
_هل تعلم أنه هو نفس إحساسي؟!
رمقها بنظرة عميقة وهو يدرك إحساسها الذي كان يشاطرها إياه…
أجل…رغم أنه لم يفتح معها الحديث عن الماضي منذ عاد إليها…
لكن قلبه يخبره أنها لم تعشق غيره!!
وأن ذاك الرجل لم ينل منها أكثر من “حق جسد” لا يعنيه كثيراً….
صحيحٌ أنه يحترق بغيرته كلما تذكر هذا الأمر لكنه يحمل نفسه المسئولية معها…
هو خذلها…وهي استسلمت!!!
لكن ..ما عاد يجدي الندم!!!
بينما كانت هي غارقةٌ في إحساسها الجديد بهذه السعادة…
سعادة نقية لا تشوبها شائبة من حزن أو خوف أو انتقاص…
وكأن ما مضى من عمرها قبل اليوم كان” حرفاً واحداً “…
والآن “تكتمل “الكلمة…الجملة….بل الحديث كله!
لتنقطع أفكارها عندما مال على شفتيها أخيراً بقبلة ناعمة بعمق إحساسه بها قبل أن يحتضن وجنتيها ليهمس بحنان دافئ:
_الآن فقط يا حبيبتي…الآن يبدأ العمر!
======
_قصر السيد عاصي الرفاعي.
قالتها لسائق سيارة الأجرة وهي تخفي عينيها الدامعتين خلف نظارتها الشمسية …
لقد جاءت هنا خفيةً دون أن تخبر فهد الذي لا يزال معترضاً على رجوعها لعاصي…
ورغم شعورها بالذنب لأنها فعلتها دون إذنه لكن لا شئ يعلو فوق رغبتها الآن برؤية عاصي مهما كان الثمن!!!
توقف بها الرجل أمام المكان فترجلت من السيارة لتتوجه نحو القصر…
أو -بالأدق- ما تبقى منه!!!!!!!!!!
أجل …فأمام عينيها- المصدومتين -كان سور القصر لا يزال كما هو لكن ما بداخله لم يكن سوى حطام!!!
انقبض قلبها بعنف وهي تندفع نحو البوابة تكاد تتعثر في خطواتها الملهوفة وعيناها تجوبان المكان بذعر…
ما هذا الذي تراه؟!!
هل هذا قصر الرفاعي حقاً أم أنها ضلت العنوان؟!!
_ستعودين…ستعودين كما عدتِ اليوم…وكما ستعودين كل مرة تشتاقين فيها إلى هذا المكان…لكن ربما لن أكون أنا هنا في المرة القادمة!
أفلتت منها صيحة خافتة وهي تتذكر عبارته السابقة…
ليرتجف جسدها انفعالاً وعيناها تدوران في المكان بهلع تبحثان عنه…
أو عمن يدلها عليه…
حتى لمحت حارس البوابة يهرول نحوها قائلاً باحترام مشوب بالأسف:
_حمداً لله على سلامتك يا سيدتي…هل رأيتِ ما حدث؟!
بسطت كفها على صدرها محاولةً تمالك أنفاسها لتسأله ببن دموعها بصوت متحشرج:
_ماذا حدث؟!
لوح الرجل بكفه نحو الحطام خلف السور وهو يقول بحسرة :
_السيد عاصي هدم القصر!
شهقت بعنف وهي لا تكاد تصدق ما تسمعه …فيما استطرد الرجل بنبرة أكثر تعجباً:
_بعدما غادر المشفى بأيام….فوجئنا به يفعلها…وأمر ألا يُزال هذا الحطام من هنا…بل يبقى هكذا كما هو!!
فازدردت ريقها ببطء وهي تعاود التلفت حولها لتسأله بمزيج من دهشة ورهبة:
_وأين هو الآن؟!
هز الرجل رأسه أسفاً وهو يقول :
_لا أحد يعلم يا سيدتي …لكن الناس يتحدثون أن الحادث قد غيره تماماً…رد ما أمكنه رده من حقوق لأصحابها…ثم اختفى فلم يره أحد بعدها.
هزت ماسة رأسها وهي تصرخ بحدة فجرها انفعالها:
_ماذا تعني بأنه اختفى؟!!رجلٌ كعاصي الرفاعي يختفي هكذا دون أن يراه أحد أو يعلم عنه شيئاً؟!!أين حراسه؟!أين رجاله؟!
فازداد ارتباك الرجل وهو يقول مدافعاً:
_أقسم لكِ يا سيدتي إنها الحقيقة…لا أحد من رجاله يعرف عنه شيئاً…
ثم صمت للحظات قبل أن يقول بتردد:
_بعض الناس يقولون أنه فضل أن يترك المدينة بعد ما حدث …وآخرون يزعمون أنها مجرد فترة مؤقتة سيعود بعدها كما كان بعد ما يتغلب على حزنه…والبعض يرى…
قطع عبارته مشفقاً من إكمالها فعادت تحثه ليكملها بقولها المنفعل:
_يرى ماذا؟!تكلّمْ!
تراجع الرجل بظهره خطوة ثم أطرق برأسه ليقول بأسف:
_يظنونه …..انتحر!
شهقت بعنف محاولةً استيعاب الكلمة التي اخترقت سمعها….قبل أن تهتف بانفعال ملوحةً بذراعها:
_مجانين!!عاصي الرفاعي لن يفعلها أبداً…عاصي سيعود…هل تفهم؟! سيعود!!!
عاد الرجل يقترب منها ليهدئها ببضع عبارات مطمئنة وقد روّعه منظرها المثير للشفقة…
لكنها خلعت نظارتها لترفعها فوق رأسها وهي تمسح دموعها مع هتافها :
_قل لهم أن عاصي سيعود …سيعود أقوى مما كان …وسيبني قصره ثانية…
رمقها الرجل بنظرة مشفقة طويلة بينما غابت هي عن إدراكها وهي تهز رأسها لتردف بما بدا كالهذيان:
_وحتى لو لم يعد…سيكون في مكان أفضل…سيبني نفسه فيه من جديد…عاصي الرفاعي لن ينهزم…لن ينهزم!!
ظلت ترددها طويلاً بين دموعها حتى دمعت عينا الرجل هو الآخر متأثراً….
حتى أفاقت لنفسها أخيراً فعاودت مسح دموعها وهي تبتعد عن المكان بخطوات متثاقلة…
عاصي اختفى بعد ما هدم قصره!!!
لم يحتمل أن يتحدث الناس أنه فقد سطوته؟!!
أم أنه كره ماضيه بعد فقدانه لابنه فألقى كل شئ خلف ظهره؟!!
أو لعله…قرر البحث عن بداية جديدة في مكان لا يعرفه فيه أحد!!!
كاد رأسها ينفجر بأفكارها التي لم تعرف لها أولاً من آخر…
حائرةٌ بمشاعرها بين سعادتها لهزيمته شيطانه أخيراً وبين قلقها عليه!!
تود الآن لو تبتسم….لو تضحك كما لم تفعل من قبل…
لو تتقافز في مكانها لتصرخ بأعلى صوتها أنها تحبه!!!
أجل…الآن تستطيع قولها دون خجل…دون ندم..دون صراعها العتيد بين قلبها وعقلها!!!
وتود الآن لو تبكي…لو تطرق كل أبواب الناس تسألهم عنه ….
لو تجلس على قارعة الطريق لعل أحد المارة يجلب لها عنه خبراً!!!
وبين صراع مشاعرها هذه بزغت هذه الحقيقة الآن في ذهنها كالشمس!
عاصي لم يهدم القصر فحسب!
عاصي هدم جبروت عائلة الرفاعي الذي توارثته جيلاً بعد جيل…
كسر الحلقة التي داروا فيها ليتحرر بنفسه من لعنة الظلم التي حلت على رأسه…
عاصي لم يرد الحقوق لأصحابها فحسب!
بل رد لروحه “ماسة فطرتها” بعدما أجلاها بتوبته لتعود أكثر بريقاً…
عاصي لم يدهس ماضيه تحت قدميه فحسب!
بل دهس معه كل خطاياه وكأنه بهذا أخذ أولى خطواته للتحرر…
عاصي لم يكن ضعيفاً عندما فعلها…
بل كان-كما عهدته- بمنتهى القوة!!!
لكن…أين هو الآن؟!!
إلى أي مكان ذهب هكذا ليختفي دون أثر؟!!
وعند سؤالها الأخير التفتت بظهرها نحو-حطام- القصر الذي بدا لها بعيداً …بعيداً…
لتستعيد بذهنها كنز ذكرياتها الثمين هنا وقد مرت بذاكرتها تباعاً بحلوها ومرها…
ودموعها تعاود هزيمتها من جديد قبل أن تمسحها بقوة مع همسها لنفسها بحزم:
_سأجدك …سأجدك ولو ظللت أبحث عنك عمري كله.
ظلت ترددها لنفسها طوال طريق عودتها حتى استقبلها فهد في شقته أخيراً ليسألها بحدة:
_أين ذهبتِ دون أن تخبريني؟!
ورغم أن طريقته الآن كانت أبعد ما تكون عن حنانه المعهود معها لكنها لم تستطع إلا أن ترتمي بين ذراعيه وهي تقول بين دموعها بكلمات متعثرة:
_عاصي تغير…هدم القصر…و هزم شيطانه…لكنه اختفى.
زفر بقوة وهو يمسك كتفيها ليبعدها عنه برفق مع قوله المنفعل:
_أعلم كل هذا…لكن هذا لم يعد يعنينا…متى ستفيقين من جنونك هذا؟!
هزت رأسها بانفعال وهي تهمس مصدومة:
_تعلم؟!
لكنه هزها بقوة وهو يجيب بانفعال:
_نعم …أعلم…لكنني لن أسمح لكِ أن تضيعي عمرك بحثاً عنه…القدر منحكِ فرصة لبداية جديدة…فلماذا تتشبثين بماضٍ يكسركِ؟!
نفضت ذراعيه عنها وهي تهتف بانفعال مماثل:
_لأنه تغير…حاد عن طريقه الخاطئ !
_بعد ماذا؟!
هتف بها بحدة وهو يعاود اقترابه منها ليردف:
_لن تستقيم لكما حياةٌ بعد الآن…هو لن ينسى لكِ زعمكِ بخيانته…وأنتِ لن تسعدي بحياتك مع رجل بظروفه…رجوعكِ إليه حماقة ستستجلب لكِ المزيد من العذاب.
أحنت رأسها الذي أخفته بين كفيها لتعاود بكاءها بحرقة مزقت قلبه…
فعاد يزفر بقوة قبل أن يقترب ليعاود ضمها إليه برفق مع قوله بنبرة أرق:
_أنا مدركٌ أن شعوركِ نحوه الآن بالشفقة هو الذي يدفعكِ لهذا القرار…لكن…
_ليست شفقة!
هتفت بها وهي ترفع وجهها نحوه بحدة لتردف بحسم:
_لو كنت عدت ووجدته لايزال غارقاً في طغيانه ما كنت فكرت في العودة إليه…لكنني الآن وقد أدركت صدق توبته فلن يمنعني شئ عنه!
مط شفتيه ب

_لازالت مضربةً عن الطعام؟!
هتف بها فهد بضيق وهو يلقي نظرةً طويلة على باب غرفتها المغلق في شقته….
فجذبته جنة من كفه نحو غرفتهما التي أغلقت بابها خلفها لتقول بحنانها المعهود:
_اهدأ حتى نستطيع حل الموضوع!
زفر بقوة وهو يحل أزرار قميصه ليخلعه بعنف مع هتافه العصبي:
_أي حل؟!تريدينني أن أطاوعها في جنونها هذا؟!لن أسمح لها أن تضيع بقية عمرها مع رجل بدافع الشفقة!
ابتسمت بهدوء وهي تقترب منه لتربت على صدره قائلةً بتعقل:
_ماسة لن تعود إليه بدافع الشفقة…وأنت يجب أن تدرك هذا!
أشاح بوجهه دون رد فاحتضنت وجنته براحتها لتقول بنبرتها الحانية:
_أنت لا تفهم مكانة ذاك الرجل لديها…أختك تربت بلا أب ولا أخ …حياتها افتقدت حنان الرجل الممتزج بقوته…حتى عندما أحبت عزيز خذلتهما الظروف لتجد نفسها وحدها…ووسط كل هذا يظهر عاصي الرفاعي في حياتها ليمنحها كل ما افتقدته…لهذا لم يكن غريباً أن تعشقه بكل جوارحها …لكن شيطان جبروته وأنانيته سد عليهما الطريق…والآن وقد هزم شيطانه فهي لن تسمح لشئ أن يقف بينهما!
قبل جبينها برفق ثم قال مبرراً:
_أنتما تفكران بعاطفتكما…أما أنا فأحكم عقلي الذي لا يرى مستقبلاً لهذه العلاقة…ماسة تعذبت كثيراً وتستحق أن تستريح أخيراً مع رجل بظروف طبيعية.
أومأت برأسها في تفهم بينما استطرد هو بعد تنهيدة حارة:
_هل تتصورين خوفي عليها كلما تخيلت أنها كان من الممكن أن تكون مكان زوجته التي قُتلت غدراً؟!
فابتسمت وهي ترتدي “زيّ” مهنتها لتلوح بسبابتها في وجهه قائلة:
_لو فكرت بإنصاف لوجدت أن عاصي نفسه هو الذي منعها هذا المصير عندما أبعدها عن هذا الخطر!
عاد يشيح بوجهه دون رد…فاستطردت مدافعة:
_لن يفرّ أحدٌ من قدره يا فهد…والرجل ألقى ماضيه كله خلفه…كما أن أختك مدينةٌ له بالمساعدة كما فعل هو من قبل!
هنا التفت نحوها بحدة ليقول بانفعال:
_هذا بالضبط ما أعنيه…عودتها إليه لن تتجاوز امتناناً لدين قديم …إلى متى سيصمد هذا مع صعوبة حياتها مع رجلٍ بظروفه الحالية؟!
لكنها هزت رأسها نفياً مع قولها الواثق:
_ظروفه هذه مؤقتة…الأطباء قالوا أنه لا يعاني أي سبب عضوي يفقده البصر…الأمر كله نفسي مرتبطٌ بصدمته بعد ما حدث لزوجته وابنه أمام ناظريه…هو يحمل نفسه مسئولية ما حدث وكأن عقله الباطن يعاقب نفسه برفضه للإبصار…وهذا في رأيي يعني أنه حقاً قد تغير…هو فقط يحتاج لدعم نفسي جواره …وماسة ستمنحه هذا بسخاء …ليس امتناناً ولا شفقة…بل حباً يصل حد الجنون.
رفع رأسه لأعلى للحظات صامتاً يتفكر في كلماتها…
فتعلقت بذراعيها في عنقه لترمي بسهمها الأخير:
_أنت جربت حرقة القلب عندما يفقد مالكه ولن ترضى بمثلها لهما معا…بعض الأمور تحتاج أن نحكّم فيها قلوبنا قبل عقولنا.
خفض بصره نحوها بتردد فمنحته قبلةً خفيفة على شفتيه مع همستها الأخيرة:
_فكر في الأمر…وأنا أثق في قرارك الأخير.
ربت على رأسها برفق وهو يتوجه معها نحو فراشهما استعداداً للنوم…
لكنه لم يستطع أن ينام مع كل هذه الأفكار التي تملأ رأسه…
عقله يحذره من مغبة هذه العلاقة على أخته الوحيدة…
لكن شعوره يتفق مع كلمات جنة التي ألقتها على مسامعه منذ قليل!
وبينهما يقف هو حائراً يخاف أن يضيعها بأحد القرارين.
حتى اطمأن قلبه أخيراً لأحدهما!
فنفض الغطاء عنه بخفة وهو يلقي نظرةً على جنة التي استسلمت لنوم عميق…
ثم قام ليغادر غرفتهما بخطوات متثاقلة حيث توجه إلى المطبخ الذي استقرت على طاولته صينية الطعام الذي رفضته ماسة فأعاد تسخينه بشرود ثم حمل الصينية ليتوجه إلى غرفتها …
وبعد طرقات قوية فتحت هي الباب لتطالعه بملامحها الشاحبة وهي تتحاشى النظر إليه …
فابتسم ليقول بخشونة مصطنعة:
_دعيني أدخل يا “بنت”!
أطرقت برأسها لتقول بعناد:
_لا أريد تناول الطعام.
لكنه لكزها بكتفه ليزيحها من طريقه قبل أن يضع صينية الطعام على الكومود جوارها مع قوله وهو يتلفت حوله:
_هل هذه غرفة أم “مقبرة”؟!
زفرت بقوة وهي تشيح بوجهها عندما فتح هو النافذة ليقول مشاكساً:
_تُب عليّ يا رب من فتح النوافذ للنساء البائسات!
فابتسمت ابتسامة شاحبة وهي تطرق برأسها عندما عاود هو التفاته نحوها ليقول بنبرة آمرة:
_تناولي طعامك وكُفّي عن لعب الأطفال هذا!
لكنها بقيت واقفة مكانها تكتف ساعديها بعناد فابتسم وهو يقترب منها قائلاً:
_حسناً…ما دمتِ تصرين على التصرف كالأطفال فسأعاملكِ مثلهم.
ثم قرص وجنتها مداعباً ليردف :
_لو أنهيتِ طعامكِ فسأبدأ غداً السعي لأعرف مكانه!
أشرقت ملامحها فجأة وهي تتفرس ملامحه تتبين مدى جديته قبل أن تهتف بلهفة:
_حقاً؟!
أومأ برأسه إيجاباً وهو يجذبها من كفها ليجلسها جواره على الفراش…
قبل أن يشير بيده نحو الطعام دون كلام…
فابتسمت وهي تبدأ في تناوله بسرعة حتى كادت تغص به فسعلت بقوة ليناولها كوب الماء قائلاً بمرح:
_مهلاً أيتها المتعجلة!ستموتين قبل أن نجد “المجنون ” الآخر!
ارتشفت رشفة من الكوب ابتلعت معها غصتها قبل أن تخبطه في كتفه لتقول بعتاب:
_عاصي ليس مجنوناً!
مط شفتيه دون رد وهو يعاود إشارته نحو الطعام ثم راقبها بحنان وهي تتناوله بحذر مع نظراتها المترقبة نحوه…
قبل أن تسأله أخيراً برجاء:
_فهد…أنت جاد حقاً في مساعدتك لي؟!هل اقتنعت؟!
هز رأسه نفياً فعادت ملامحها تتجهم ليطلق هو ضحكة عالية مع قوله المازح:
_أفعلها فقط للتخلص منكِ كي يخلو لي البيت مع جنتي!
هنا ابتسمت وهي ترمقه بنظرة امتنان فيما تأملها هو بتفحص للحظات قبل أن يسألها بجدية تامة هذه المرة:
_لآخر مرة أسألك…واثقةٌ أنتِ من قراركِ هذه المرة؟!هل تدركين ما ينتظرك معه بعد ما حدث؟!
أومأت برأسها إيجاباً وهي تقول بشرود:
_لم أكن واثقةً في قرار أخذته كثقتي في هذا…ربما يبدو لك الوضع وكأنه هو الذي يحتاجني لكن الحقيقة أنني أنا من أحتاجه…حياتي لن تستقيم إلا به…هو وحده.
ثم أزاحت الصينية جانباً لتقترب منه أكثر مردفةً بامتنان:
_صدقني أفضل ما يمكن أن تفعله لي هو أن تعرف مكانه…أختك لن تستريح حتى تجده.
فابتسم وهو يربت على كتفها ليقول أخيراً:
_حسناً يا “حبيبة أخيكِ”…فلنجد “فارسكِ الهارب” ولنرَ كيف ستنتهي قصتكما!
==============
كان جالساً على كرسيه في غرفته التي ما عاد يفارقها…
بيته الصغير هنا صار كل ما يعنيه من هذه الدنيا…
بيتٌ بسيط في تلك المدينة الساحلية البعيدة عن العمران…
هو نفس المكان الذي اختفى فيه عقب وفاة حورية…
أجمل ما فيه أنه منعزل بخصوصية يحتاجها هو الآن أكثر من أي وقت مضى…
كما أنه يطل على البحر بمنظر مميز …
منظرٍ لازال يذكره ساحراً رغم أنه لا يراه!!
لكن كفاه أنه يسمع صوت ارتطام الأمواج بالصخور والذي يشبه هدير أفكاره العاصفة التي صارت سجنه الجديد…
فأين المفر من جحيمه إذا كانت نيرانه بين ضلوعه؟!!
ممزقٌ هو كما لم يكن من قبل…
ينتظر النهاية باستسلام أقرب منه إلى الصبر!!
حياته البسيطة هنا كانت حلماً يوماً ما….
حلماً طالما تمناه سراً فأتاه لكن…بعد النهاية…
بعد الخساره…
بعد الخلاص!!!
انقطعت أفكاره عندما سمع رنين الجرس فأرهف سمعه يتبين من الطارق…
لعل الخادم العجوز الذي يقيم معه قد بعث في طلب شئ…
الخادم الذي -للعجب- هو الوحيد الذي وقف جواره الآن في محنته…
رغم أنه طرده من قصره يوماً!!!
أجل..فالرجل- الذي كان يعتبره كابنه لأنه كان يعمل لديهم منذ عهد حماد الرفاعي -جاءه يومها ينصحه بعد وفاة والده ألا يكون مثله…
أخبره أن والدته -التي ماتت في صغره فلم يستطع حتى تذكر الكثير عنها -كانت تدعو الله ليل نهار ألا يجعل له نصيباً من طغيان أبيه!!!
ليلتها عنّفه بشدة وطرده من قصره شر طردة وقد أعماه بريق شعوره الجديد وقتها بالقوة والسلطة!!
والآن وقد فقد كل هذا يجد نفسه يتساءل…
ماذا لو كان استمع لنصيحة الرجل من البداية؟!!
لو…!!
كيف يمكنه وصف شعوره عندما أفاق بعد الحادث لتهاجمه تفاصيله في صحوته قبل منامه!!!
لازال صوت الصرخات التي سمعها ليلتها تدوي في أذنه كل ليلة …
صرخات لا يدري هل كانت حقيقية أم من نسج خياله لكنها تزلزل كيانه …
لقد ظن أنه سيتخلص منها عندما يهدم القصر …
رمز الطغيان والجبروت الذي توارثته عائلته جيلاً بعد جيل!
لكنها للأسف لازالت تؤرق مناماته ومعها صورةٌ بالدم لطفل تمناه من كل قلبه…
ومات …دون أن يراه…
بل…وبسببه!!!
انقطعت أفكاره بتنهيدة حارة وهو يغمض عينيه بألم!!!
سواءٌ فتح عينيه أو أغمضها فجحيم آخر مشهد رآه بهما لا يزال محتبساً بين حدقتيه !!
مشهد دماء ابنه المختلطة بدماء امرأة راحت حياتها غدراً بلا ذنب سوى أن عاصي الرفاعي أدخلها في دائرته الملعونة!!
وكم يحمد للقدر أن غادرتها- سواها- قبل أن يصيبها مكروه!
هنا تخللت أنفه رائحةٌ عطرية غريبة فعقد حاجبيه بشدة وهو يشعر بدخول -أحدهم- المكان…
فوقف مكانه وأنامله تتشبث بعصاه أكثر مع قوله :
_مَن؟!
وضعت أناملها على شفتيها تكتم أنفاسها بينما عجزت عن منع دموعها التي أغرقت وجهها وهي تراه بهذه الصورة…
عاصفةٌ هوجاء من مشاعر مختلطة ضربت قلاع تماسكها الذي حاولت إقناع نفسها به طوال طريقها إلى هنا…
اشتياقٌ يكاد يسحق خلاياها برجاء مشتعل أن ترتمي بين ذراعيه!!
ندمٌ على استجابتها لشيطان قسوتها يوماً وتركها له يواجه مصيره وحده!!!
حزنٌ على عجزه الذي يكسر أي رجل…فكيف الحال بمن هو مثله؟!!
وإجلالٌ لقوته التي جعلته يرجع عن ضلاله القديم ليبدأ الطريق من أوله…
فالكثير يخطئون…يضلون…
والقليل يندمون …يأسفون …
لكن أقل القليل من يستطيعون إيجاد طرف خيط البداية بقوة لن يردعها يأس !!
ومن كعاصي الرفاعي في قوته؟!!
جبارٌ كان في طغيانه…
وعظيمٌ هو في توبته!!
ورغم أن كل ذرة في كيانها كانت تستحلفها أن تقترب…
أن تلغي هذه المسافة القصيرة بينهما لتعود لوطنها الأصيل على صدره!!!
لكنها مع هذا لم تستطع سوى أن تبقى على حالها …
وكأنما شُلّت أطرافها فلم تعد تملك على جسدها إرادة!
_ماسة!
وكأنما أذابت همسته -رغم جمودها- صقيع أطرافها أخيراً….
لتبدأ حركتها نحوه ببطء مع استطراده بنفس النبرة الجامدة:
_لن يزورني أحدٌ هنا إلا أنتِ!
لم يكد يتم عبارته حتى استجابت لدعاء جوارحها بقربه…
ارتمت على صدره تطوقه بذراعيها بقوة وهي تكتم دموعها بكل ما أوتيت من عزم!!
كل دمعة منها الآن ستجرحه وهي عاهدت نفسها أن تُخضع كل مشاعرها كي لا تؤذيه !!!
نعم…به كانت قويةً يوماً…
ولأجله الآن ستكون أقوى!!
بينما حافظ هو على جموده الظاهري وهو يدفعها عنه ببعض الخشونة بذراعه الحر بينما يتشبث ذراعه الآخر بعصاه بقوة شعر معها بتنميل خفيف في ذراعه…
لا يدري هل هو بفعل ضغطتها على ضلعه المصاب…
أم بسبب انفعاله للقياها!!!
لقياها الذي كما يتمناه…يخشاه!!!
لكنه أخفى انفعاله باقتدار وهو يواصل دفعها بعيداً عنه بينما تتشبث هي به لتهمس أخيراً برجاء:
_اتركني…أرجوك…دعني فقط …ألتقط أنفاسي!
قالتها وهي حقاً تعنيها…
أنفاسها دونه كانت مختنقة وكأن ضلوعها أقسمت ألا تعانق ذرات الهواء إلا مشبعةً برائحته!!!
والآن تجد نفسها تسحب الشهيق تلو الآخر بعمق كغريق أدرك -بعد نجاته-مذاق الحياة!
لهذا تهدج صوتها في كلمتها الأخيرة وهي تدفن وجهها في صدره…
تتنشق عبيره الذي افتقدته حد الجنون!
تلامس بشرة صدره عبر فتحة قميصه بجبينها وكأنها لا تصدق أنهما أخيراً معاً…
جسداهما متلاصقان كقلبيهما!!!
لن يفرقهما بعد شئ!!!
حتى عناده …ستقهره!!
هو الآن لها مهما فعل…مهما رفض…مهما حدث!!!
لكنه انتزعها من إحساسها عندما أبعدها أخيراً عنه ليقول ببرود لم يُفقِد صوته قوته:
_لماذا جئتِ؟!
فعادت تأخذ نفساً عميقاً تستعد لمعركتها القادمة معه …قبل أن تقول بصوت لا يقل عنه قوة:
_جئت لأن مكاني هنا!
فابتسم ساخراً وهو يقول بنبرة أسد جريح:
_أنتِ ذكية بما يكفي لتدركي انني لن اقبل الشفقة.
فدمعت عيناها رغماً عنها لكنها استعادت تماسكها وهي تتناول كفه لتضعه على صدرها مع همسها الذي امتزجت قوته بعاطفته:
_وأنت تعرفني بما يكفي لتدرك الفارق عندي بين الشفقة والحب…
ثم ازدردت ريقها لتردف بنبرة أكثر حرارة:
_بين الشفقة والفخر!
_فخر؟!
غمغم بها بنفس النبرة الساخرة وهو ينزع كفه منها ببعض العنف…
فهتفت بيقين:
_نعم…فخر…فخرٌ بذاك الرجل الذي انقلب كل جبروت عصيانه إلى فيض نقي من ندم وتوبة.
ثم عادت تتشبث بأنامله أكثر وكأنها تغرس كلماتها غرساً بين ضلوعه:
_أنا لم أعد لأواسيك في مصيبتك…أنا عدت لأشاركك فرحتك بميلادك الجديد.
لكنه أشاح بوجهه دون رد…فأردفت بما يشبه الرجاء:
_أعلم أنك الآن لست بحاجتي…لكنني أنا أحتاجك…وأنت لم تخذلني في أي مرة احتجتكِ فيها!
صمت طويلاً دون رد إلا من خفقات قلب هادرة أعلنت عصيانها على بروده هذا…قبل أن ينتزع أنامله منها بقوله الجامد:
_لم يعد لديّ ما أمنحهُ لكِ.
لتجيبه بقولها الذي يقطر صدقاً :
_أنت فقط…أنت كل ما أرجوه!
ظلت ملامحه على جمودها وكأنها بلا حياة…
رغم أنه كان يتوقع عودتها في كل لحظة…
لكنه كان يدعو الله ألا تأتي!!!
أجل…لقد عرف قلبه أخيراً طريق الدعاء بعد تخففه من بعض آثامه…
وإن كان لايزال يرى طريق الغفران بعيداً!!
ومع هذا خصها هي بهذه الدعوة لأنه كان يدرك أثرها على نفسه!!!
هو الذي اعتاد موته -المُقنّع- هنا ولا يريد أن تمنحه الأمل الذي يبعثه من جديد!!!
هو يستحق أن يعيش ما بقي من عمره وحيداً منبوذاً هنا…
وهي تستحق بدايةً جديدة بلا آثام…
فقط لو يخرج قلبها من المعادلة!!!
قلبها الذي يثق -تمام الثقة- أنه لن يخفق إلا له!!!
وليس أسوأ من الشك في حبها إلا اليقين به!!
وليس أقسى من فراقها إلا عودتها بين ذراعيه!!
فأي عذابٍ هذا!!
أي عذاب!!!
لكنها وكأنها قرأت بإحساسها به ما يجيش بصدره…
فاقتربت منه لتتلمس وجنته بأناملها مع همسها :
_أنت قلت لي يوماً إنك لن تفرط فيّ إلا وأنت تثق ألا حياة بعدي.
فابتسم ساخراً وهو يلوح بذراعه على اتساعه مع همسه الذي بدأ يكتسب نوعاً من المرارة:
_وهل تريْن هنا حياة؟!!
لكنها شددت ضغط أناملها الرفيق على وجنته وهي تجيبه بحزم:
_نعم…هنا كل الحياة!
أزاح أناملها عن وجهه وهو يعطيها ظهره لكنها لم تستسلم بل أسندت راحتيها المبسوطتين على ظهره وهي تقول بنفس النبرة القوية المفعمة بعاطفتها وكأنها تعيده قسراً لذكرياتهما:
_أنت نفسك قلت انني كلي لك…قلبي لك…جسدي لك…صرخاتي واغنياتي كلها لك….لك وحدك.
لكن صوته العميق وصلها مشبعاً بما لم تدرِ هل هو استسلام قوة أم يأس:
_وانتِ قلت إن السماء لا تكافي الشياطين بالماسات….كنت محقة!
تحركت بجسدها لتعاود الوقوف قبالته مع هتافها بصدق:
_لم تعد شيطاناً يا عاصي…أنت لم تخيب ظني في قوتك …أجدتَ إدارة دفة سفينتك لتنجو بها!
وكأنما أعادته كلماتها لأقسى ذكرياته …
فاختلجت عضلة فكه مع إغماضه لعينيه وهو يقول بصوت متحشرج:
_نجوت وحدي…بعدما غرق الجميع بسببي.
سالت دموعها على وجنتيها وهي تدرك إلى أي جحيم سحبته أفكاره الآن…
لكنها أجادت السيطرة على نفسها وهي تعاود مسح دموعها بصمت …
قبل أن تتشبث أناملها بقميصه مع قولها بمزيج من قوة ورجاء:
_ألم تعلمني أنت كيف ينهض المرء من عثرته ليعاود السير دون ملل؟!الآن دورك أستاذي كي تطبق هذا الدرس!
ظل مغمضاً عينيه للحظات قبل أن يفتحهما قائلاً بحسم:
_حتى لو عاودت السير…سأقطع الطريق وحدي!
لكنها بدت وكأنها كانت تتوقع هذه الإجابة فصمتت لحظة…قبل أن تعاود تذكيره بعهدهما القديم:
_أذكر واحداً قال يوماً إن الرجل لا يترك امرأته لغيره…بل لا يتركها أبداً!
هنا عاود الابتعاد عنها بظهره وهو يزيح كفيها عن صدره قائلاً بخشونة:
_لم تعودي امرأتي!
ورغم أن عبارته أوجعت قلبها لأبعد حد…لكنها عاودت اقترابها منه مع هتافها بقوة منفعلة:
_بل امرأتك وحدك ما حييت…
ثم تشبث كفاها بعضديه بإصرار مع استطرادها:
_أخذتها أنت يوماً قسراً واليوم أمنحها لك طواعية..نعم …قلب ماسة لك…وسيبقى لك.
لكنه عاد يبتسم ساخراً وهو يتذكر عبارتها في لقائهما -الكارثي- الأخير ليقول بنبرته الجامدة:
_آخر مرة رأيتكِ فيها قلتِ إن قلب ماستي تعلق بغيري…الآن يمكنكِ…
لكنها قاطعت عبارته بأناملها التي وضعتها على شفتيه وعبارته تذكرها بذنبها الأخير…
لتفقد تماماً سيطرتها التي دموعها التي انهمرت الآن على وجهها قبل أن تهمس بين شهقاتها:
_أرجوك لا تقل إنك صدقتني وقتها….طوال الأيام السابقة وأنا أصبّرنفسي أن عاصي الذي يحفظ تفاصيلي كاملة لن يصدق مزاعمي…ربما لولا هذا لأصابني الجنون …
ثم أسندت جبينها على صدره لتردف بندم:
_سامحني يا عاصي…سامح كبريائي الذي دفعني لهذه القسوة…سامح صغيرتك المذنبة …
كانت خفقات قلبه الآن تدوي في أذنيها فاضحةً ما يداريه بهذا الجمود الساخر وتلك الخشونة المنفرة…
تخبرها بما عجز هو عن البوح به كعادته…
تطمئنها أنه لن يردها خائبة…!
لهذا أردفت بملء ما تحمله روحها من ندم:
_أما أنا فلن أسامح نفسي أبداً على كل لحظة ألم عشتها أنت وحدك دوني.
ظل صامتاً دون رد وقد تجمد بصره بلا حياة…
فرفعت وجهها إليه لتسحب أنامله ببطء فتسير بها على وجنتيها مع استطرادها:
_امسح دموعي بنفسك كما كنت دوماً تفعل…امنحني سكينتي التي لن أجدها إلا معك…أنتَ أطلقت سراحي لأنك خلصتَ روحك من سعيرها…وأنا عدتُ إليك لأنني أراك وحدك جنتي.
وكأنها كانت تريد أن تضغط بكلماتها على احتياجها هي إليه …لا العكس!!!
كانت تريد أن تكون عودتهما منةً منه عليها لا تفضلاً منها عليه!!
والواقع أن هذا كان إحساسها حقاً…لا مجرد مراعاةً لظروفه!!
أجل…هي كانت تشعر الآن أنها تحتاجه أكثر من احتياجه هو لها!!!
هو رجلٌ أراحه -يأسه- الذي استسلم له ولم يعد يطمع في المزيد…
لكنها -هي- لازالت تتنفس -أملها – بأن يعودا معاً!!!
لهذا عادت تقول بإصرار:
_لن أتركك يا عاصي…حتى لو طردتني من هنا سأبقى جالسةً على باب هذا البيت حتى تفتح لي…لن تمنعني قوة في هذه الدنيا من أن أستعيد أماني بين ذراعيك.
هنا ما عاد هو قادراً على السيطرة على مشاعره الجامحة ورغبته بها تزأر بين مد وجزر…
لتشتعل ملامحه أخيراً هاتفاً بثورة عارمة نسفت كل جبال جموده:
_بل ستخرجين …وللأبد…لا أريد رؤيتكِ هنا ثانيةً…أنا تركت ماضيّ كله خلف ظهري…وأنتِ أول من رغبت في التخلص منه!
ورغم أن صوته المرتفع كاد يحطم الجدران بحدته لكنها لم تتحرك مقدار أنملة…
ثورته العاصفة كانت برداً وسلاماً على قلبها الذي كاد يحترق بجمود -لهجته-منذ بدأ هذا اللقاء…
والآن تشعر أنها قد بدأت في إصابة هدفٍ …
ولن تبرح حتى تبلغ!!!
لهذا ظلت واقفة مكانها ثابتة للحظات وكأنها تمنحه فرصةً كي يهدأ…
قبل أن تقع عيناها على ما جعل قلبها يخفق بجنون!!!
أجل…فهناك في زاوية الغرفة كان هناك قائمٌ خشبي تستند عليه لوحةٌ بيضاء…
والعجيب أنها لم تكن خالية!!!
خطوطٌ فوضوية كانت تنتشر على أركانها وكأنه هو من رسمها!!!
اقتربت منها ببطء تجذبها قوةٌ لا مرئية لتتلمسها أصابعها بمشاعر جارفة…
فرغم أنها لم تتجاوز مجرد “شخابيط” بلا معنى…
لكنها ميزت بينها رسماً “شبه واضح” لعينين بحدقتين فضيتين!!!
عاصي عاد يرسم!!!
أنامله صالحت -فرشاة الرسم- بعدما خاصمت السلاح!!!
وأول محاولاته كانت…عيناها !!!
عيناها هي!!!
حاولت أن تبحث بين الخطوط عن شئٍ آخر يمكنها تمييزه فلم تستطع!!!
كلها كانت أشبه بهذيان روحه الجريحة التي نفثت سم آلامها عبر هذه الخطوط !!!
ورغم تشوش ما رأته لكنها كادت تجزم أنه لو عاد إليه بصره فسيبرع في هذا المجال!!!
ولما طال صمتها المتأمل للوحته سمعت صوته خلفها يهمس بحذر:
_هل رحلتِ؟!
هنا التفتت نحوه بحدة صامتة للحظات….
قبل أن تندفع لتتعلق بذراعيها في عنقه بكل قوة عاطفتها مع همسها الحار:
_أرحل؟!إلى أين أرحل بعد ما رأيته؟!!
ثم رفعت وجهها إليه رغم يقينها أنه لا يراها لتردف بمطر عشق هطل بين حروفها العاشقة:
_أنت…كنت…ترسمني…مهري الذي طلبته يوماً !
عقد حاجبيه بشدة وهو يقبض أنامله جواره غضباً من رؤيتها لخطوطه “البلهاء” كما كان يراها…
لتسقط عصاه من يده لكنه ما كاد ينحني ليلتقطها حتى تشبثت ماسة به أكثر مع همسها :
_عاصي الرفاعي لا ينحني.
ثم تشبثت بكفه لتردف بنبرة مخلصة:
_أنا عصاك يا سيد قلبي…أنا زوجتك وابنتك وصديقتك وحبيبتك…مهما أبعدني عنادك فعشقنا سيردني بين ذراعيك!
لم يدرِ ما الذي فعلته به كلماتها وهو يسمعها منها لأول مرة هكذا…
بهذه الحرارة وبهذا الإخلاص!!!
وكأنما هدمت في لحظة كل سدود تماسكه المزعوم…
حتى أنه عندما أراد رفع ذراعيه ليبعدها عنه من جديد…
فوجئ بهما يضمانها إليه أكثر!!!
ولأول مرة منذ أفاق بعد الحادث يتكلم عنه!!!
أجل…تماماً كذاك اليوم الذي باح لها فيه بمكنون صدره عقب وفاة حورية!!!!
دفن وجهه في عنقها وهو يغمض عينيه بقوة مع همسه شديد الخفوت:
_مات…ابني مات يا ماسة…مات بسببي!
ورغم أن همسه كان -بالكاد- يُسمع لكنه كان على قلبها كدويّ الرعد!!!!
همسه الذي كان يتساقط منه وجعٌ بحجم الجبال…
وندمٌ بعمق البحر…!!!
فعضت على شفتها بقوة وهي تضمه بكل عزمها تكاد تقسم أنه لم يحدث أحداً قبلها عن خبيئة صدره!!!
السيد المكابر أخفى جرحه عن العالمين…إلا عنها هي!!!
تماماً كما لم تتعر-ّ ندوب ظهره بجروح الماضي المخزي- إلا أمامها!!!
كذلك لم يُظهر ندوب- روحه – الكسيرة إلا لها!!!
لهذا لم تستطع السيطرة على نبرات صوتها المتهدجة وهي تهمس بحرارة:
_القدر سيعوضك بكرمه…أنا واثقة من عطايا ربي!!!
تركته لبعض الوقت يفرغ حزنه وألمه بين ذراعيها مكتفيةً بعناقهما الصامت…
ثم تشبثت بكتفيه لترفع وجهها نحوه قائلةً بمزيج عاطفتها المتشحة بقوتها:
_عاصي…أنا لم آتِ وحدي …فهد بالخارج ومعه المأذون!
عاد حاجباه ينعقدان بانفعال وقد انفرجت شفتاه بصدمة…
لكنها احتضنت وجهه بأناملها لتردف بمزيج من رجاء وحزم كانا يحتاجانه الآن معاً:
_ستردني إليك…لا تكابر يا عاصي…أنت تعلم أن لا حياة لأحدنا دون الآخر…
صمت طويلاً دون رد وملامحه تفضح معاناته الصامتة باقتدار…
لكنها وضعت كفها على صدره لتردف بنبرة أكثر حرارة:
_أما آن لجروح الروح أن تلتئم؟! أما آن ل”عاصي” القلب أن يطيع؟!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى