روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل التاسع عشر 19 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل التاسع عشر 19 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء التاسع عشر

رواية ماسة وشيطان البارت التاسع عشر

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة التاسعة عشر

_الحقير!!!!
هتفت بها ماسة بحنق وهي تستمع من دعاء التي -زارتها في قصر الرفاعي-لتفاصيل ما حدث بينهما في آخر لقاء….
فهتفت دعاء بعجز:
_لقد أساء فهم ما سمعه…ظنني أتلاعب بالرجال حتى أضمن فرصة مناسبة…ورغم أنه يزعم أنه يثق بأخلاقي لكنه عاملني كالبغايا….لن تتخيلي بشاعة ما شعرت به في تلك اللحظات التي…
قطعت عبارتها وقد عجزت عن إكمالها فغامت عينا ماسة بذكرياتها -البغيضة- لتهمس بعد شرود قصير:
_بل أتخيل…وأدرك قسوة هذا الشعور.
ثم تنهدت بحرارة لتنفض عن رأسها التفكير في هذا الأمر وهي تلتفت نحو دعاء من جديد هاتفةً بانفعال:
_وماذا ستفعلين الآن؟!
تأوهت دعاء بقوة ثم أجابتها وهي مغمضة العينين في استسلام:
_سأمضي في طريقي معه للنهاية.
أجابتها ماسة بصيحة استنكار لكن دعاء حتى لم تفتح عينيها وهي تردف بنفس الاستسلام:
_هل تعلمين؟!!عندما غادرته بعدها كنت أفكر في مصارحة والدي بكل شئ…نعم…رغم أنني كنت أشفق عليه من خيبة أمله بعد كل تلك الفرحة التي نالها أخيراً بزواجي هذا…ورغم أنني كنت أعلم أنه قد لا يصدقني فحسام يبدو أمام الجميع شديد التهذيب واللياقة…لكنني كنت على استعداد للمجازفة فقط لأستعيد شعوري بذاتي…بقيمتي…بأنني أستحق الأفضل .
دمعت عينا ماسة وهي تربت على كتفها لتسألها بهمسٍ مشفق:
_وما الذي غيّر رأيك؟!
ابتسمت دعاء بسخرية مريرة وهي تجيبها ولازالت عاجزةً عن فتح عينيها:
_بينما كنت أصعد الدرج نحو بيتنا سمعت حوار جارتينا اللتين لم تنتبها لي…إحداهما كانت تحسد دعاء المريضة التي نالت زوجاً متميزاً لم تنله أيٌّ من بناتها كاملات الحسن والصحة…والثانية كانت تواسيها بقولها أن هذه الزيجة لن تستمر وأن “العريس المغفل” سيفيق لنفسه سريعاً وينفد بجلده من هذه الورطة.
انعقد حاجبا ماسة وهي تشعر بالغضب فهتفت بانفعال:
_هل ستتزوجينه فقط لأجل المظاهر؟!!لأجل كلام الناس؟!!
فتحت دعاء عينيها ببطء لتجيبها بشرود:
_ولمَ لا؟! إلى متى سأبقى أحتمل السخرية والانتقاص من قدري؟!!إلى متى سأظل “الدمية المعيبة” التي زهدها المشترون فبقيت مكانها على الرف؟!!العقل يقول أن حسام فرصتي الأخيرة.
أمسكت ماسة كتفيها تهزهما بعنف وهي تهتف بحدة:
_أيّ عقلٍ هذا؟!!هل تدركين ماذا ستكون عليه حياتكِ مع وغدٍ قاسٍ كهذا؟!!
عضت دعاء على شفتيها بقوة تكتم دموعها وهي ترد بصلابة زائفة:
_سأحتمل…لن أواجه أقسى مما تحملته طوال عمري….ومن يدري ربما ينصلح حاله معي مع الأيام!!!!
هزت ماسة رأسها وهي تهتف بغيظ فجره خوفه على هذه البائسة أمامها:
_وكرامتك ؟!!!
أطرقت دعاء برأسها وهي تهمس بمرارة:
_وأين ستكون كرامتي تلك لو طلقني حسام الآن؟!!لو كانت فرصي في الزواج قبله قليلة فبعده ستكون معدومة!!
خبطت ماسة أحد كفيها بالآخر وهي تهتف محاولةً إقناعها:
_الزواج ليس نهاية العالم…ليس جائزة “اليانصيب “التي ستفتح لك أبواب السعادة…على العكس …هذا الرجل قادرٌ على تحويل حياتكِ لجحيم….وربما بقاؤكِ وحيدة خيرٌ لكِ من مرافقة رجلٍ مثله في طريق حياتكِ الطويل.
صمتت دعاء للحظات ثم رفعت إليها عينيها لتقول بابتسامة شاحبة:
_هل تعلمين أنني قلتُ له يوماً هذا الكلام؟!! وكنت وقتها مقتنعةً به تماماً…لكنني الآن وبعدما سمعت بأذنيّ حديث والديّ عن حملي الثقيل عليهما …وخدشت نميمة الجيران أذني والتي لن تكون أول ولا آخر مرة…اقتنعت أنني محظوظةٌ حقاً بحسام…هو نعمة القدر التي لن أكفر بها!
همت ماسة بالاعتراض ورأسها يكاد ينفجر غيظاً عندما رن هاتف دعاء لتجدها والدة حسام…
فتحت الاتصال لتجيب المرأة الطيبة بودٍ لا تدعيه فهي حقاً تحبها بصرف النظر عن تصرفات ابنها المريضة…
ثم أنهت الاتصال معها بعد قليل لتقوم من مكانها قائلةً لماسة بابتسامة مصطنعة وقد عاد إليها قناع مرحها الواقي:
_حماتي تريدني في أمرٍ هام الآن…سأذهب لأرى ماذا تريد.
تنهدت ماسة بحرارة ثم ضمتها إليها بقوة وهي تغمغم بحزمٍ حانٍ:
_اعتني بنفسكِ يا دعاء…أنتِ لستِ منقوصة القدر بل هم منقوصو العقل والإيمان…المرض ابتلاءٌ من الله ليس لنا ذنبٌ فيه…حتى لو اخترتِ أن تكملي طريقكِ مع حسام هذا فكوني قوية….لا تجعليه يكسرك…بل رممي أنتِ شروخ روحه التي جعلت منه ذاك الصنم القاسي…أنا واثقةٌ أنكِ قادرةٌ على فعلها…فقط ثقي بنفسكِ أكثر!!
رفعت إليها دعاء رأسها بابتسامة امتنان…
ثم أومأت برأسها إيجاباً وهي تخفي دموعها خلف ابتسامتها المكسورة قبل أن تغادر غرفة ماسة التي أوصلتها للخارج…
ثم عادت تتوجه نحو غرفة عاصي فقد كان ينتظرها على الغداء كعادته…
طرقت الباب برفق تنتظر أمره بالدخول…
لكنها فوجئت به يفتحه بنفسه فابتسمت تلقائياً وهي تقول بعفويتها – المستحدثة – معه:
_يبدو أنني تأخرت.
تألقت عيناه بوهجٍ دافئ وهو يمد ذراعه ليجذبها برفقٍ من كتفها قائلاً بعتاب حنون:
_جداً!
قالها ثم أغلق الباب خلفها برفق فتقدمت لتجلس مكانها على المائدة الصغيرة في زاوية الغرفة…
قبل أن يجلس هو جوارها فالتفتت نحوه لتهمس باعتذارٍ رقيق:
_آسفة…دعاء واقعة في ورطة…الحديث بيننا طال ولم أنتبه للوقت.
انعقد حاجباه بضيق ثم سألها بحذر:
_هل يمكنني المساعدة؟!
ابتسمت بامتنان وهي تهز رأسها لتهمس بهديلها الذي داعب أذنيه :
_عفواً…أسرار شخصية ولا يمكنني البوح بها.
ازداد تألق عينيه بإعجابٍ صارخ رغم هدوء عبارته بعدها:
_غريب!! ما أعرفه أن النساء ثرثاراتٌ جداً في العادة.
اتسعت ابتسامتها التي نثرت الدرّ في أمواج فضتها لتزداد فتنة وهي تغمغم ببعض المرح:
_يمكنك إذن استثنائي من صنف النساء في هذا الشأن.
فتوهجت شموسه الزيتونية بألَقٍ دافئ وهو يقترب بجسده منها أكثر ليهمس أمام عينيها:
_ليس في هذا الشأن فقط…أنتِ دوماً بين كل النساء…استثناء!!
تجمدت ابتسامتها على شفتيها مع تلك الرعدة التي سرت في أوصالها …
وذاك الارتباك اللذيذ الذي غزا روحها الآن….!!
فأطرقت برأسها بسرعة هاربةً من مشاعرها الغريبة التي صارت تخيفها حقاً مؤخراً…
وهي تجاهد نفسها لتفكر في شئٍ آخر بعيد عن هذا الرجل وما يثيره بداخلها من فوضى حقيقية…
فجذبت عقلها قهراً لمشكلة دعاء محاولةً البحث لها عن حل…
المسكينة واقعةٌ بين ضغط أهلها وضغط المجتمع…
تخاف العنوسة أكثر مما تخاف الظلم الذي ستلقاه على يد رجلٍ غريب كحسام…
وتقنع نفسها كما تفعل الكثيرات مثلها بأنه سيتغير مع الأيام…
وأن” المرأة العاقلة قادرةٌ على احتواء عيوب زوجها”..
تلك المقولة التي داست بين قدميها أحلام الكثيرات ممن تجاهلن نداء العقل ولهثن فقط خلف حلم الزواج الوردي وبريقه الآسر!!!
لكن …من يدري؟!!!
ربما كان حسام حقاً معذوراً فيما فهمه….!!!
أيّ رجلٍ مكانه- خاصة في مجتمع منغلق كهذا -كان سينتفض غضباً وغيرة عندما يرى خطيبته التي هي في مقام زوجته تجالس رجلاً آخر ويعترفان لبعضهما بالحب !!!!
ربما جاءت ردة فعل حسام متطرفةً بعض الشئ…
لكن….لعلها طبيعة عمله التي جعلته أكثر ميلاً للعنف والتسلط!!!
وعند هذه الفكرة وجدت نفسها تتعجب تفكيرها بشدة…
لماذا الآن تدافع عن حسام هكذا؟!!!
ولماذا تشعر ببعض الميل لبقاء دعاء معه رغم تحفظها الشديد على قسوته ورغم أنها منذ دقائق فقط كانت تحاول إقناع دعاء نفسها بالعكس؟!!
ألأنه…يذكرها بعاصي مثلاً؟!!!
نعم…!!!
بل …لا!!!!!
عادت الحيرة تتلقفها بين ذراعيها القاسيين وهي لا تدري حقاً…
هل يكون حسام بحنان عاصي رغم قسوة واجهته الصلبة؟!!
أم أن عاصي الرفاعي حالةٌ خاصه وحده بين الرجال…
نسيجٌ مختلف من قوة تضافرت مع حنان عجيب ليصنعا معاً ثوب أمانٍ تشتهيه أي امرأة…!!
ترنيمة سحرية من لحن صعب يشاكس روحها فلا يمكنها التغني به مع أنها تعشق سماعه!!!
هذا الذي يحدثها أنها بين النساء استثناء ولا يدري أنه هو الذي صار بعينيها كل الرجال!!!
وجوارها كان هو يتأمل ارتباكها -اللذيذ-برضا خفيّ…
وهو يكاد يستقرئ حديث روحها بشفافية تامة…
غريبةٌ هذه المرأة التي تتبدل وجوهها الساحرة …
فتارةٌ هي طفلةٌ تائهةٌ تمد له كفها -ضعفاً-على استحياء…
وتارةً هي امرأةٌ قوية تكاد تمسك الشمس بنفس الكف!!!
نعم…هي المزيج الآسر بين القوة والضعف…
بين صلابة الصخر ورقة الندى…
هي المذاق الفريد للحُلو بعد المالح…والمالح بعد الحُلو!!!
وبهذا الشعور تناول كفها ليحتضنه بأنامله هامساً:
_طال شرودكِ يا ماسة.
رفعت إليه عينيها برسائلها الفضية الصادقة فغمغم ببعض الأسف:
_تبدين حزينة لأجل صديقتك.
تزينت شفتاها بابتسامة باهتة وهي ترد بامتنان:
_لا تشغل بالك.
تركت أنامله كفها لتعرف طريقها إلى شفتيها حيث تحسست ابتسامتها الشاحبة برقة مقاوماً شعوره الجارف بها الآن بجهاد كبير…
قبل أن يعتقل نظراتها بسجونه الزيتونية هامساً بشرود:
_لم أرَ ضحكتكِ مرة واحدة منذ التقينا!
أغمضت عينيها ببعض الألم وعبارته تهيج جروح روحها القديمة…
قبل أن تهمس برضا:
_على الأقل أنا الآن أبتسم…يوماً ما ظننتني لن أفعلها أبداً!
ثم فتحت عينيها لتعاود التعلق بشموسه الزيتونية وهي تردف بحنانها الفطري:
_أنت أيضاً…لم أركَ يوماً تضحك …لكن ابتسامتك …تغيرت.
داعبت أنامله وجنتها بحنان قبل أن تتخلل خصلات شعرها لتجذب وجهها برفق نحوه أكثر…
ثم همس بترقب:
_كيف تغيرت؟!
توردت وجنتاها بخجلها -الآسر- وهي تهمس بصدق مس قلبه:
_كانت جانبية مختنقةً بقسوة سوداء…ثم تلونت بالحنان شيئاً فشيئاً حتى صارت حقيقية كمرآة صادقة لقلبك…لكنها للأسف تصطبغ أحياناً بمرارة رمادية تجعلها بعيني أقسى من الدموع.
كان وجهه الآن يكاد يلاصق وجهها…
حتى ما عاد يفصل بينهما سوى أنفاسهما وهو يبحر بنظراته العميقة وسط أمواج فضتها التي كانت تهدر الآن بمشاعرها المضطربة…
للحظات طويلة بسط فيها الصمت سلطانه…
حتى قطعه هو بهمسه الحاني:
_تجيدين قراءة ابتسامتي…كما أجدتِ قراءة عينيّ من قبل.
ازدردت ريقها بتوتر وهي تبتعد بوجهها في ارتباك لم يخفَ عليه…
فربت على رأسها برفق …ثم قبل جبينها هامساً بصوته الذي احتكر قوة العالم وحنانه معاً:
_ستعود ضحكتكِ تدوي قريباً في أذني كأجمل لحن…هذا وعد!!
ابتسمت وهي ترفع عينيها إليه لتهمس بترقب:
_وأنت؟!
أشاح بوجهه وهو يتنهد بحرارة ثم صمت قليلاً ليهمس بشرود:
_وهل تظنين الشياطين تضحك؟!
مدت أناملها بتردد لتدير وجهه إليها من جديد فتهولها تلك المرارة التي التهمت بريق عينيه فرأتهما باهتتين كعهده مؤخراً…
قبل أن تهمس بقوتها الرفيقة وسهامها الفضية تغزوه برقة مسيطرة:
_لست شيطاناً يا عاصي…أنت فقط تلبست قناعه لسببٍ لا أعلمه….لكن روحك تجاهد للخلاص من كل هذا…فلماذا لا تطلق سراحها وتنزع عنك هذا القناع؟!
تناول أناملها المتعلقة بوجنته ليقبل باطن كفها برقة دغدغت مشاعرها…
قبل أن يعاود التقاط رسائلها الفضية الرائقة هامساً بشرود:
_الذنب بعد الذنب قيدٌ فوق قيد…وأنا أعلم الناس بذنوبي وقيودي…فلا تسرفي بحسن ظنك فيّ …دعي الأيام تصدر حكمها بشأني.
============================
_كيف حالك يا ابنتي؟!
قالتها والدة حسام بطيبتها الشديدة أمام دعاء التي كانت تجلس معها في صالون بيتها …
فردت دعاء بفتور:
_الحمد لله .
ربتت المرأة على كتفها وهي تقول برفق:
_وما هي أخبارك مع حسام؟!
أطرقت دعاء برأسها ونفسها تسول لها الكذب بأنهما بخير لكنها عجزت حتى عن الكذب…
فاكتفت بصمتها العاجز الذي قرأته المرأة بخبرتها فتنهدت بحرارة…
ثم قامت لتحضر “ألبوم” صورٍ كبير ناولته لدعاء وهي تقول بحزنٍ غلف نبرات صوتها :
_تفحصي الصور وأخبريني هل هو نفسه حسام الذي تعرفينه الآن!!
فتحت دعاء “الألبوم” بتردد لتطالعها صور كثيرة له منذ كان طفلاً صغيراً بحركات بريئة…
ومروراً بصورٍ أخرى له في مراهقته التي بدا فيها أكثر تحرراً وانطلاقاً مع أصدقائه…
لتأسر عيناها صورته بعدها في “بدلة” التخرج الأنيقة …
لا…لم تأسرها وسامته ولا أناقته …بل تلك النظرة الغريبة على ما اعتادته هي في عينيه الصقريتين…
نظرة رضا!!!
نعم…نظرةٌ مشعة بالسكينة والسعادة والاطمئنان…
بعيدةٌ تماماً عن نظراته الحالية المشبعة بقسوتها وسخطها!!!
ورغماً عنها شعرت بقلبها يخفق في صدرها بقوة وهذه الصورة -بالذات-تستفز حنانها نحوه…
لا…لم تعد تراه ذاك الوغد السادي المريض الذي أذاقها ويلات إهاناته …
بل تراه شاباً عادياً تنطق ملامحه بالحيوية والأمل…
قبل أن تعاود أناملها التقليب في صوره لتستشعر بقلبها بداية التغير التدريجي…
لقد بدأ الحزن يسكن العينين الصقريتين بهيمنة مسيطرة…
حتى تملكها تماماً في الصور التالية كلها…
ليزداد يقينها هي أن وراء كل هذا سراً ما…
لكن أناملها تجمدت تماماً مع نظراتها وهي تقلب الصور لتصطدم بهذه الصورة…
صورة زفاف!!!
نعم…حسام ببدلة العرس جوار امرأة فاتنة يبدو على هيئتها عظيم الثراء!!!
شهقت بدهشة وهي ترفع عينيها نحو والدته لتهتف بعدها باستنكار:
_حسام متزوج؟!!
أومأت والدته برأسها وهي تغمغم بإشفاق ممتزج باعتذارها:
_ألم يخبركِ والدكِ؟!! لقد كان يعلم!!
ارتجف جسد دعاء بمشاعرها وهي تشعر بمزيج من الغضب والخزي…
زوجة ثانية؟!!!
والدها كان يعلم لكنه لم يخبرها بالطبع!!!
لم يخبرها أحد!!!!
ولماذا يفعلون؟!!!
الكل تعامل معها -كما العادة- على أنها دميةٌ معيبة لا يحق لها الاعتراض…
فقط عليها أن ترضى ب”كرم الشاري” الذي دفع الثمن المناسب وكفاها خزي “البور” على رفوف الانتظار!!!
لكن والدته قرأت مشاعر الخيبة على وجهها فأردفت بنفس النبرة المشفقة:
_لقد طلقها يا ابنتي منذ فترة.
ارتسمت ابتسامة مريرة على شفتيها وهي تفكر بيأسٍ تخلل كيانها كله…
حسناً…لا بأس…
هذا أفضل من أن تكون زوجة ثانية!!!
وحتى لو كانت زوجة ثانية…هو أفضل من أن تحمل وزر “العنوسة” الثقيل!!!
أي شئٍ صار في عينيها أهون من نظرات الاستخفاف في عيون الناس…و “همّ الخزي” في عيون والديها!!!
لهذا تمتمت بلامبالاة حقيقية وسط شرودها الغائم:
_لا يهمّ…!!!
فتنهدت المرأة بحرارة وهي تشعر بألمها الحقيقي لتقول بحنان آسف:
_أكملي تفحص الصور.
انتزعت دعاء نفسها من شرودها لتعاود تقليب الصور بفتور…
لتنتبه وقتها فقط لتحول نظراته من حزنٍ إلى قسوة…
نعم…هاتان عيناه اللتان تعرفهما بصورتهما الحالية…
بتسلطهما القاسي وبرودهما القاتل…
هل هذه هي القصة إذن؟!!
زواجٌ فاشل غيّر طباعه!!!!
والمفترض بها الآن أن تحتوي ألمه وتعيده لسابق عهده إن استطاعت…
أو تحتمل عقده النفسية المريضة إن لم تستطع!!!
حسناً..في الحالتين هي سلمت أن لا خيار لها …
وستجلس على مقاعد الانتظار تشاهد -كما الجميع- كيف ستنتهي هذه القصة وكأنها لا تقوم فيها بدور بطولة!!!
لهذا أغلقت “الألبوم” باستسلام وهي تضعه جوارها على المنضدة…
عندما بدأت والدته في سرد الحكاية :
_كما رأيتِ بنفسك…حسام تغير كثيراً منذ تزوج تلك المرأة…بل..منذ فكر في الزواج منها من الأصل.
رفعت إليها دعاء عينيها بتساؤل وقد بدأ الاهتمام يتملكها…
عندما أردفت المرأة بشرود:
_كان يحب فتاةً قبلها من مدينتنا هنا…بسيطةً في كل شئ…توفيت والدتها ولم يكن لها سواها…فأوصاني أحدهم عليها …أتيتُ بها إلى هنا فقد كنت أقيم وحدي في سنوات دراسة حسام …والفتاة بحق كانت طيبة الخلق والمعدن…كانت تعاونني في شئون المنزل لكنني لم أشعر يوماً أنها مجرد خادمة…عقلها كان متفتحاً جداً رغم أنها لم تكمل تعليمها لكنها كانت تحب القراءة والكتب…وقد منحها هذا عمراً يفوق عمرها الصغير وقتها …فتعلق بها قلبي جداً واعتبرتها ابنتي وصديقتي…لكنني لاحظت تعلق حسام بها في الأيام القليلة التي كان يأتي فيها إلى هنا ولم أشأ المجازفة بوضع “البنزين” جوار “النار” كما يقولون…فأوجدت لها عملاً مناسباً ومكان إقامةٍ آخر في مدينة مجاورة لتبتعد عن هنا…
ثم تنهدت بحرارة قبل أن تقول بحزن:
_يشهد الله أنني بذلت ما في وسعي لحمايتها وتأدية أمانتها …وأن ما حدث لم يكن ذنبي أنا!!
ازدردت دعاء ريقها بصعوبة وقد بدأ قلبها ينقبض بشعور القلق لتهمس بتوجس:
_وماذا حدث؟!
زفرت المرأة بقوة ثم استغفرت الله بصوت مسموع قبل أن تقول بأسف:
_حسام تغير بعدها كثيراً…وابتعد عني بعدما كان يصارحني بكل شئ..لم أفهم وقتها أنه كان واقعاً في حبها بالفعل….حتى فاجأني برغبته في الزواج من ابنة رئيسه في العمل…يومها كنت في غاية الفرح فالفتاة التي اختارها كانت مثالية…ورغم أن زواجه منها كان سيبعده عني أكثر لأنه كان سيقيم معها في مدينتها هناك…لكنني كنت أشعر بالفخر وهذه الزيجة ترضي طموح أي أم لابنها…
عقدت دعاء حاجبيها وقد بدأت بعض الخيوط تتضح في ذهنها…
إذن…سيادة الرائد باع حبه للفتاة الفقيرة لأجل تلك “صاحبة المعالي” ابنة رئيسه في العمل…
لتومض الآن في ذهنها عبارته يوم قال لها :
_تظنين نفسكِ مقاتلة شريفة في معركة الحياة؟!!! لا يا صغيرة…ستستسلمين كما استسلم غيرك…وستبيعين وتقبضين المقابل كما الجميع.
إذن فهو يظنها الآن مثله…؟!!!
باعت حبها لأجل “الفرصة الأفضل”؟!!!
وهذا يفسر لها تصرفاته السادية المريضة!!!
هو يعاقبها هي بذنبه لأنه يرى فيها صورته هو!!!!
لكن بعض التفاصيل لازالت ناقصة!!!!
لماذا طلق تلك المرأة ؟!!!
ولماذا لم يعد لحبيبته بعدما طلقها؟!!!
ألم يكن من الأولى -لو كان حقاً شعر بالندم- أن يصحح خطأه؟!!!!
لتأتيها إجابة والدته مجيبةً على تساؤلها الصامت عندما قالت بحزنٍ كبير وبنبرات مرتعشة:
_لم أعرف وقتها أن هذه الزيجة ستكون وبالاً على الجميع…فقد انتحرت تلك الفتاة عقب زفافه … ليبقى ذنبها في رقبته أبد الدهر.
صرخت دعاء بارتياع قبل أن تهتف بانفعال:
_انتحار؟!!إلى هذه الدرجة؟!!
دمعت عينا المرأة وهي تشعر بألم “حقيقي” في صدرها جعلها تتأوه بخفوت قبل أن تردف بأسى:
_الظلم يا ابنتي!!! الإحساس بالظلم صعب…لقد أخبرتني هذه الفتاة يوماً أن والدها رجلٌ ميسور الحال لكنه رفض الاعتراف بها…فاضطرت والدتها للهرب بها بعيداً عن هنا كي لا تواجه الناس بفضيحتها…لكن الفتاة عادت إلى هنا بعدما كبرت لعلها تتمكن من استعادة حقها..ومع الأسف كان والدها قد توفي وخشيت من بطش أهله فاضطرت للرضوخ للأمر الواقع…ويبدو أن تخلي حسام عنها ليتزوج من فتاة ذات حسب ونسب قد هيج جرحها القديم…فاستسلمت ليأسها وانتهى الأمر.
أخفت دعاء وجهها بين كفيها وهي تشعر بالاستنزاف…
ما كل هذا الظلم؟!!!
وما الذي يدفع فتاةً كهذه لكي تخسر كل شئ؟!!!
دنياها وآخرتها؟!!!
لكنها…لم تخسر وحدها…
نعم….حسام مثلها قد خسر!!!
خسر آدميته واحترامه لنفسه….قبل أن يخسر قلبه!!!
ذنبها سيبقى لعنةً تطارده طوال عمره!!!!
لقد اختار بعقله الزوجة المناسبة…وأهمل صراخ القلب بعشق فتاة “لا تليق”!!!!!
فخسر الاثنتين معاً!!!!
وبهذه المشاعر الصارخة أزاحت أناملها عن وجهها لتسأل المرأة بصوتٍ باكٍ:
_ألهذا طلق زوجته؟!!!
تغيرت ملامح والدته لارتباكٍ شديد جعلها تصمت قليلاً…
قبل أن تضع كفها على صدرها وهي تشعر بألم صدرها يزداد بقوة حتى بدا على ملامحها لتهمس بصوتها المتقطع:
_لا…طلقها لسببٍ آخر…لكنني أفضل أن تعرفيه منه هو!!!
نظرت إليها دعاء بتفحص لتلاحظ لهاث أنفاسها التي بدأت في التسارع…
مع قطرات العرق التي نبتت على جبينها بغزارة…
فقامت من مكانها مذعورة حيث كانت تعلم أن المرأة مريضةٌ ب”القلب”…
وقد صدق حدسها عندما تأوهت والدته بقوة قبل أن تهتف بألم:
_كلمي حسام ليأتي بالطبيب بسرعة ….الألم لا يحتمل!!!
======================
صفيرٌ طويل عقبته صيحة إعجاب جعلها تلتفت نحوه مجفلةً…قبل أن تهتف بخجل ممتزج بعتبها:
_فهد!!!أفزعتني!!!
ضحك بانطلاق وهو يتأملها بنظراتٍ متفحصة حارة زادتها خجلاً…!!!
كان قد عاد للبيت الآن في غير موعده دون أن يخبرها…
ليفاجأ بها واقفةً في المطبخ ترتدي أحد أثوابها القصيرة التي تخجل من ارتدائها عندما يكون معها…
نعم…رغم كل ما كان بينهما…لازالت تشعر بالخجل منه…!!!
لكن خجلها لا يضايقه…على العكس…
بل إنه يزيدها في عينيه جاذبية مشعةً بإحساس خاص لم يعرفه إلا معها هي..!!!!
لهذا تقدم منها بنظراتٍ عاشقة ليلتقطها بين ذراعيه مشاكساً:
_هذا إذن ما ترتديه “الأستاذة” في غياب زوجها الموقر!!!!
ثم تناول كفها ليرفع ذراعها فيديرها حول نفسها قسراً مع صفيره المشاكس قبل أن يغمزها هامساً بمكر:
_من زعم أن الأحمر لون الفتنة لم يركِ ترتدين الأزرق!!
ثم احتضن خصرها بكفيه مردفاً بحرارة:
_تذهبين العقل بسحرك يا “أستاذة”!!
احمرت وجنتاها بقوة وهي تخفي وجهها في كتفه خجلاً…
فضحك ضحكة عالية قبل أن يربت على ظهرها هامساً بجدية هذه المرة:
_ حقاً يليق بكِ الأزرق…الآن أدرك لماذا تعشقينه…لأنه لون الراحة…لون السكينة…لون السحر الغامض المسيطر الذي يتملك القلوب دون استئذان…
رفعت إليه عينيها بوهج البندق الذي ازداد بريقاً بعشقها الذائب فيه….
فأردف بنبرة أكثر حرارة:
_هل تصدقينني لو أخبرتك أنك تشبهين كل شئ جميل في هذه الدنيا؟!!تشبهين زقزقة العصافير وقت الفجر…سحر الشمس عند الغروب…موج البحر عندما يسكن بعد هياج…لمعة الرمال في لهيب الشمس…تمام القمر في ليلة بلا نجوم!!!
دمعت عيناها بتأثر وهي تشعر بصدق حديثه الذي لم يكن في أذنيها مجرد كلمات…
بل قطرات مطر نقية عرفت طريقها لجديب روحها فأحيته بعد عدم…
نسمات باردة داعبت قلبها بعدما كاد يهلكه دخان ماضيه فانتعش بعد اختناق…
ثياباً ناعمة احتضنت جسدها بعد طول عُريٍ وبرد لتمنحه دفئاً لا ينقطع….!!!
لهذا ارتفعت بقدميها لتقبله على وجنته بقوة شعورها الآن ….
ثم دفعته برفق لتهتف بحزم ممتزج بدلالها :
_كفاك مغازلة يا سيد عاشق …اذهب إلى غرفتك وبدل ملابسك حتى أعد الطعام!!
لكنه تشبث بها أكثر وهو يمطرها بقبلاته على وجهها قبل أن يهمس بما يشبه الاعتذار:
_لن أستطيع البقاء طويلاً…أنا جئت فقط لأبدل ملابسي قبل الحفل.
عقدت حاجبيها بتساؤل …فتنحنح ليقول بحرج:
_أبي يقيم الليلة حفلاً بمناسبة تخرجي…أعرف أن النتيجة ظهرت منذ أكثر من شهر لكنه يريدها الآن خدمة لدعايته الانتخابية…الحفل سيحضره نخبة من رجال المجتمع البارزين في الاقتصاد والسياسة…وهو ما سيفيده كثيراً!
أومأت برأسها في تفهم ثم أطرقت به صامتة…
وهذا الموقف ينكأ جرحها معه ويذكرها بحقيقة وضعها في حياته…
مجرد زوجة سرية خلف حجب الظلام لا يحق لها الظهور !!
لا يحق لها مرافقته أو الاحتفال معه في مناسبة كهذه…
بل لا يحق لها حتى الحلم بهذا!!
لكنه رفع ذقنها إليه هامساً بأسف:
_أنا أعرف فيمَ تفكرين…أنا أتمنى هذا أكثر منكِ…أتمنى لو لا تفارقيني لحظة واحدة …لو أعلنها أمام الجميع أنك زوجتي الوحيدة…لكن الظروف أقوى مني.
فأشاحت بوجهها لتغتصب ابتسامة باهتة وهي تقول باقتضاب:
_هذا ليس وقتاً مناسباً للكلام…تعال لنرى ماذا سترتدي !
قالتها وهي تنفلت من بين ذراعيه لتجذبه من كفه خلفها حتى وصلت إلى خزانة ملابسه…
ثم تظاهرت بالانشغال في محاولة اختيار “بدلة” مناسبة…
لكنه كان يشعر بألمها في هذه اللحظة…
والذي كان يشاركها مثله لكنه للأسف لم يكن لديه ما يفعله الآن سوى الصبر لعله يجد حلاً مناسباً عن قريب…!!
بينما قطعت هي أفكاره عندما ناولته “بدلة”أنيقة تليق بالمناسبة…
فالتقطها منها ليقول بلهجة حاول صبغها ببعض المرح:
_سأرتدي رابطة عنق زرقاء.
ابتسمت وهي تهز رأسها لتعاود التقليب في الخزانة حتى استخرجت له رابطة عنق زرقاء …
تناولها منها برفق ونظراته تحمل ألف اعتذار…
لكنها وأدت نحيب قلبها كالعادة وهي تقول بحنانها المعتاد:
_ما دمت لن أحضر الحفل…فعلى الأقل دعني أساعدك في ارتداء ملابسك.
أغمض عينيه في انفعال وهو يلعن سراً هذه الظروف التي اضطرتهما لهذا الوضع…
حيث تبقى هي هنا حبيسة الظلال…بينما هي الأحق بأن تكون جواره ملكةً في النور!!!
لكنه استجاب لرغبتها حتى انتهى من ارتداء ملابسه بمساعدتها…
ثم استسلم لأناملها وهي تلف له رابطة عنقه بمهارة جعلته يسألها بدهشة:
_تجيدين هذا أيضاً؟!
رفعت إليه عينين غائمتين وهي تهمس بشرود:
_لم أكن أجيدها…لكنني تعلمتها لأجلك.
تنهد بحرارة ثم جذبها لصدره بقوة وهو يدفن وجهه بين خصلات شعرها الثرية…
هو الآن يدرك أنها تقصد -بعبارتها-أكثر بكثير من لف رابطة العنق!!!
جنة تغيرت كثيراً حقاً منذ عرفته…
واحتملت أشياء -هو أكثر من يعلم – أنها لم تكن لتحتملها لولا حبها له!!!
وهو سيبقى أسير صنيعها هذا طوال عمره….
بل سيفديها بعمره كله لو لزم الأمر!!!
لهذا قبل رأسها بعمق امتنانه قبل أن يهمس بحرارة:
_وأنا أيضاً…سأفعل أي شئٍ لأجل رضاكِ.
منحته ابتسامة شاحبة وهي تبتعد قليلاً لتحضر فرشاة شعره…
ثم بدأت في تمشيطه بنفسها ….
قبل أن تتناول زجاجة عطره لترش منها على ثيابه ببذخ….
ثم تأملته بعدها بتفحص وهي تحتضن كتفيه بكفيها هامسةً بإعجاب غلفه حنانها:
_هكذا ستكون بحق نجم الليلة!
انعقد حاجباه بضيق وهو يشعر أنها تتكلف كل هذا كي تداري إحساس مرارتها…
فزفر بقوة ثم هتف بانفعال:
_جنة…أنا…
وضعت أناملها على شفتيها تقاطع حديثه وقد فهمت كلام عينيه …
ثم همست وهي تتأمله بعاطفتها المشتعلة:
_مبارك يا حبيبي…أنا فخورة بك حقاً!
نزع أناملها من على شفتيه ليقبلها برقة قبل أن يهمس بضيق مكتوم:
_ليس بعد يا جنة…يوماً ما ستكونين حقاً فخورةً بي.
أغمضت عينيها تداري عنه لوعتهما فقبلهما بقوة عاطفته…
قبل أن يردف بثقة:
_وأعدكِ أن يكون قريباً!!
=====================
دخلت حديقة قصر جاسم الصاوي حيث أقيم الحفل الكبير بمناسبة تخرج ابنه الوحيد…
والذي يعده ليكون خليفته في امبراطوريته العظيمة…
تباطأت مشيتها بغنج مثير وثوبها الأحمر يتآمر مع فتنتها الطبيعية على عيون رجال الحفل…
وشعرها الأصفر المتموج ينافس عينيها الذهبيتين في بريقهما الأخاذ…
ليرسم مع وجهها المرسوم بإتقان صورة صارخة بالإغراء لم تخذلها نظرات الحضور!!!
لكنها لم تكن تكترث إلا به هو…
هو نجم الحفل…من يعنيها…
نعم…فهد الصاوي …ومن سواه؟!!
رفعت ذقنها بكبريائها المعهود عندما تقدم نحوها جاسم الصاوي مرحباً بحفاوة :
_أهلاً يسرا…أين السيد رفعت؟!! لماذا لم يشرفنا بالحضور؟!!
ابتسمت يسرا وهي تمد له يدها مصافحةً لترد بغرور:
_أبي مشغول…أنت تعلم أنه يستعد لصلاحيات منصبه الجديد.
ضحك جاسم ضحكة بادية الافتعال وهو يقول مجاملاً:
_كان الله في عونه !!
اتسعت ابتسامتها المتعالية وهي تدور بعينيها في الحضور منتشيةً بنظراتهم المخترقة لجسدها لتقول بتكلف :
_مباركٌ نجاح فهد…ولو أن ابن جاسم الصاوي لم يكن محتاجاً لشهادة!
عاد جاسم يضحك وهو يسير معها ليصطحبها نحو فهد الذي كان واقفاً وحده بمعزل عن الجميع في أحد أركان الحديقة…
عندما التفت فهد نحوهما لتتغير ملامحه الجامدة عندما لمحها لضيقٍ خفيّ…
قبل أن يصافحها بفتور مغمغماً :
_أهلاً يسرا…شرفتِ الحفل.
ابتسمت يسرا بغنج وهي تهز رأسها بحركة بدت عفوية ليتناثر شعرها على كتفه قبل أن تقول بدلال:
_مباركٌ نجاحك…لا تجعل عمي يتهاون في هديتك.
ابتعد فهد بنفور واضح عنها ثم اغتصب ابتسامة سخيفة على شفتيه بينما ضحك والده قائلاً:
_مادمتِ توسطتِ له…فله ما يريد !
ضحكت هي بدلال مثير وهي ترمق فهد بنظرات جريئة متفحصة بينما أشاح هو بوجهه وهو يكاد يختنق من ثقل الحوار…!!!
حتى انسحبت هي بلباقة لتلحق بإحدى صديقاتها…
فانسحب جاسم بدوره ليرحب ببقية الضيوف…
بينما بقي فهد وحده متطلعاً للسماء بشرود…
وبصره معلقٌ بالنجوم كعهده مؤخراً ليبتسم بحنين وهو يتذكر جنة…
فتحسس رابطة عنقه الزرقاء بحنان شغوف وهو يتخيلها مكانها على صدره!!!
كل هذا الحفل بحضوره لا يثير انتباهه…
بل كل الوجود لا يعنيه مادامت هي ليست معه!!
هي أول ناسه وآخرهم…
هي ملكته وقصره وشعبه…
وتاج شرف الحب على رأسه!!
لهذا تنهد بحرارة قبل أن يتناول هاتفه وهو ينظر حوله بترقب ليتصل بها…
وما إن سمع صوتها حتى همس بحرارة:
_جنة…لا تعلمين كم افتقدتك.
لم يصله ردها للحظات فأدرك أنها عاجزةٌ عن الكلام مختنقةٌ بمشاعرها الآن….
وهو أيضاً مثلها…
لو كان الأمر بيده لأعلنها أمام الجميع الليلة زوجته وحبيبته…
لكنه مثلها مقيدٌ بخوفه عليها…
لو علم جاسم الصاوي عما بينهما فلن يعتبر جنة مجرد زوجة سرية أو حتى خطأ يمكن إصلاحه…
بل سيراها عدواً يريد هدم هذا البناء الذي أفنى فيه عمره…
وجاسم الصاوي ليس متسامحاً مع أعدائه…
بل ليس متسامحاً على الإطلاق!!!
ولما طال صمتها على الهاتف دون رد…عاد يهمس برجاء:
_قولي أي شئ…لا تسكتي هكذا!!
سمع تنهيدتها الحارة على الجانب الآخر من الاتصال تلاها همسها المختنق:
_أنا بخير يا فهد…عد لضيوفك.
زفر بقوة وهو ينهي الاتصال بعنف…
ثم غرس أنامله في شعره وهو يرفع رأسه للسماء من جديد محاولاً الصبر حتى نهاية الحفل…
لكنه لم يحتمل البقاء أكثر فاستجاب لجنونه مغادراً الحفل خلسةً غافلاً عن عينيها اللتين كانتا تراقبانه بتفحص حتى سمعت همس صديقتها المحذر في أذنها:
_لا تتماديْ في النظر إليه يا يسرا…العيون الآن كلها عليكِ.
التفتت نحو صديقتها وهي تقول بغرور:
_وما الجديد؟!!العيون دوماً عليّ!!
هزت صديقتها رأسها وهي تسألها بحذر:
_ماذا يدور برأسك نحو فهد الصاوي؟!
تألقت عينا يسرا ببريق عابث ثم عضت على شفتها وهي تقول بجرأة:
_يعجبني!
كتفت صديقتها ساعديها وهي تضحك بميوعة قبل أن تعاود سؤالها بخبث:
_وماذا بعد؟!
عادت يسرا برأسها إلى الوراء مداعبةً رقبتها بأناملها في حركة مغوية وعيناها تشتعلان ببريق خاطف…
قبل أن تهمس بحسم:
_سيكون لي!!
اقتربت منها صديقتها وهي تقول بلهجة تحذير:
_هو يصغركِ سناً…كما أنه لم يسبق له الزواج …بينما أنتِ…
تنمرت ملامحها بقسوة متملكة وهي تقاطعها بحزم مشبع بالغرور:
_كلامكِ صحيح لو كنت أناامرأة عادية…
ثم رفعت رأسها لتدير عينيها في الوجوه المحيطة المحدقة بها بإعجاب لتردف بلهجة أكثر غروراً:
_لكنني أنا يسرا الصباحي ….وكَفَى!!!
==========
_جنة!
هتف بها فهد وهو يفتح باب شقتهما ليجدها متكومةً على الأريكة تحتضن ركبتيها بذراعيها…
فاندفع نحوها ليجذبها بين ذراعيه وهو يشعر بألمها المكتوم فهمس بحرارة:
_أنا آسف..آسفٌ حقاً…أنتِ تعلمين أن كل هذا ليس بيدي.
أخفت وجهها في صدره للحظات تخفي عنه دموع عينيها…
قبل أن تهمس بضعف:
_لا بأس يا حبيبي…أنا بخير.
رفع ذقنها إليه ليلتقط نظراتها بلهفة وهو يهمس بحنان:
_أنا تركت الحفل كله لأجلك.
ابتسمت بشحوب مع دموعها التي ملأت عينيها وهي تهمس بخفوت :
_وأنا تركت عالمي كله لأجلك!!
أغمض عينيه بتأثر وهو يضمها إليه أكثر حتى كاد يعتصرها بين ذراعيه…
ليهمس بتردد:
_ماذا بكِ يا جنة؟!!لم تكوني هكذا عندما تركتك!!!
تعلقت بعنقه لتتشبث به أكثر وهي تهمس بأسى:
_شقيقتي اتصلت بي منذ قليل…بعد كل هذه القطيعة اتصلت فقط لتخبرني أنها في طريقها للهجرة إلى كندا مع شقيقتي الأخرى بعد أيام.
ربت على ظهرها برفق وهو يسألها بإشفاق:
_هل اتصلت تريد وداعك قبل سفرها؟!!
رفعت عينيها إليه صامتةً للحظات…ثم ضغطت شفتيها قبل أن تهمس بتهكم مرير:
_كنت أظن هكذا مثلك…لكنها فقط تريد موافقتي على بيع حصتي من قطعة أرض نمتلكها لتضمن سرعة التنفيذ.
قالتها ثم انهارت مقاومتها فجأة ليرتجف جسدها بالبكاء بين ذراعيه وهي تهمس بصوت مرتعش:
_الآن لم يعد لي أحدٌ بحق…لقد صرتُ وحيدة تماماً !!
ظل يربت على ظهرها برفق للحظات وقلبه يشاطرها حزنها …
ثم احتضن وجهها بين كفيه ليمسح دموعها بأنامله هامساً بحرارة:
_لا تقوليها هكذا…بل قولي أنكِ صرتِ لي وحدي كما أنا لكِ لوحدك!
نظرت إليه وعيناها تحملان رجاءً خفياً أجابته نظراته بقَسَم وفاءٍ غير منطوق…
فأومأت برأسها في موافقة ليقبل هو جبينها هامساً أمام عينيها:
_الآن أدرك كم نحن متشابهان…كلانا وحيد ناقص…لا يكتمل إلا بالآخر!!
أغمضت عينيها بقوة ثم همست بألم:
_آه لو تعلم!! حبك وجعي وشفائي…خطيئتي وثوابي.
تنهد بحرارة وهو يضمها إليه من جديد هامساً بعتاب:
_لازلتِ تشعرين أنكِ نادمة؟!
مرغت وجهها في صدره للحظات تستمد منه شعوراً لم تعد تدري هو كمالٌ أم انتقاص!!
لترفع وجهها إليه بعد صمت طويل هامسة بصوت مرتعش:
_بل…سارقة!!
انعقد حاجباه في تساؤل فيما أردفت هي بحسرة:
_نعم…سارقة…أنا أشعر أن كل لحظة سعادة أقضيها معك مسروقة…ليست من حقي…أنا التي لم تخف الثورة على الطغيان في وضح الشمس أجدني الآن هاربة مستترة في الظلام؟!!أنا التي لم أتخاذل يوماً عن جلب حقٍ لصاحبه أعجز الآن عن انتزاع حق نفسي؟!!
زفر بقوة ثم ربت بعدها على ظهرها وهو لا يجد ما يسعفه من كلمات….
قبل أن يوخزه همسها المذبوح قهراً:
_الأيام تمر ولا شئ يتغير…لم أعد أحتمل هذا الوضع يا فهد!!!
أغمض عينيه بانفعال وهو يرفع رأسه لأعلى قبل أن يعاود التعلق ببندقيتيه الكسيرتين يبثهما شعوره الصادق…
من قال أنه لا يعاني مثلها؟!!!
كل يوم يمر له معها يزيده بها تعلقاً…وعليها خوفاً..!!!
كل ثانية يقضيها في رحاب أنفاسها تجعله يندم على ما ضاع من أيامه قبلها!!!
هو يعلم أن طريقهما لا يزال طويلاً…وهو مستعد فيه لأي تضحية إلا أن يفقدها هي!!!
لهذا احتضن وجنتيها بكفيه هامساً بعتاب ممتزج برجائه:
_أنتِ قلتِ أنكِ ستدافعين عن حقك فيّ بكل قوتك!!!
هزت رأسها وهي تغمغم بيأس:
_قوتي؟!! أين هي قوتي هذه؟!!
جذبها برفق ليجلس على الأريكة ويجلسها في حضنه هامساً بحرارة:
_قوة كلينا في حضن صاحبه…أعدك أن أبذل كل ما في وسعي لتغيير هذا الوضع…أبي يفكر في توسيع نشاطه بالخارج…لو تمكنت من إقناعه بأن أسافر فستكون هذه فرصتنا لنبدأ حياة جديدة بعيداً عن هنا…ساعتها سنكون أكثر حرية بعيداً عن عيونه ونفوذه.
هزت رأسها في عدم اقتناع لكنها لم تدرِ بماذا ترد…
طريقها مع فهد صار مسدوداً تماماً…
ربما لو لم تكن علمت بأمر -أخته المفقودة- لرأت بعض الأمل في مصارحة جاسم الصاوي بعلاقتهما…
لكنها وبعد ما عرفته أدركت أن هذا الرجل لا يعاني فساداً أخلاقياً فحسب…
بل عطباً دائماً بقلبه!!!
نعم…فهد لم يكن مبالغاً في خوفه -المرضي-عليها من والده…
ذاك رجلٌ رمى ابنته الرضيعة في العراء دون أن يرمش له جفن…لأن وجودها كان يهدد طموحه!!!!
فماذا عساه سيفعل بها هي لو علم عن زواجها بابنه الوحيد؟!!!
خائفة؟!!!
نعم…للأسف!!!
هي التي لم تكن يوماً تخاف بدعوى أنها امرأةٌ لم يعد لديها ما تخسره…
الآن عاد الخوف يسكنها كشبح استباح حرمة بيت مهجور…!!!!
وكيف لا؟!!!
والآن هي لديها ما ستبكي دماً لو خسرته…
لديها حبٌ بحجم الكون…
وآمالٌ بعمق البحر…
وأحلامٌ بسعة السماء!!!
لهذا رفعت إليه عينيها بمزيج من الخوف والرجاء هامسة بصوت مرتعش:
_خائفة يا فهد…خائفة جداً!!
ضمها إليه أكثر وشفتاه تنسابان على وجهها بشغف حنون…
لتزرع قبلاته الأمان على بشرتها أينما حلت…
قبل أن يصلها همسه الصادق:
_لا تفكري في شئ الآن…فقط…احلمي…
رمقته بنظرة طويلة غلبت حيرتها عشقها …فلامس شفتيها بشفتيه بخفة قبل أن يردف بحنان:
_احلمي حتى تجعلي لحياتي أنا قيمة…نعم…أنا لن أعيش بعد الآن إلا كي أحقق لك أحلامك!!
هنا…
ولدت ابتسامةٌ ضعيفة على شفتيها دللها هو بطريقته للحظات…
قبل أن تسند رأسها على صدره لتهمس بشرود:
_أحلم بطفلة لي منك !!
داعبت أنامله شعرها وهو يهمس بدفء:
_نسميها “ملك” حتى تليق بجنتي!!
فابتسمت برقة وهي ترد:
_نعم…وتكون حنونةً مثلك!!
أسند ذقنه على رأسها المستند على صدره وهو يهمس بهيام:
_وتأخذ منكِ وهج البندق في عينيها حتى تهيم بها كل العيون!!
فرفعت رأسها إليه لترد بعاطفتها الحارة:
_بل تشبهكَ كثيراً حتى تؤنسني في غيابكِ وأرى صورتك على وجهها فأشبعها تدليلاً حتى تعود فتكمل أنت المهمة.
ضحك ضحكة قصيرة ثم تلاعبت أنامله بحمالة ثوبها الأزرق وهو يكمل همسه الحالم:
_وتعشق الأزرق مثلك فتنتقي به كل ثيابها.
تأوهت بخفوت وهي تكاد ترى صورة طفلتها منه الآن بعين خيالها لتهمس بنفس النبرة الهائمة:
_نعم…وأصمم لها ثياباً تشبه ثيابي تماماً حتى تبدو وكأنها نسختي المصغرة.
تألقت عيناه ببريق عاطفته وهو يتمنى بحق لو يحقق لها هذا الحلم…
لو تمنحه الأقدار صورة من جنته يشبعها حباً وتدليلاً…
لو يمتلئ عالمه الذي طالما عانى وحدته ووحشته بأطياف الحب!!
لهذا ربت على وجنتها برفق ثم همس بحنان:
_وأنا ألتقط لكما الصور …كل يوم صورة…حتى تكبر هي فيكون لديها ألبوم صور بعدد أيام حياتها…سنحتفظ دوماً بذكرياتنا في الصور حتى تكون كنز عمرنا فيما بعد.
كان الحوار ينساب بين شفتيهما رقراقاً وقد بدا الأمر وكأن روحيهما قد امتزجتا ليتحد الخيال وينفرد الحلم…!!!
كل منهما كان يرى الآن بنفس العين…
يسمع بنفس الأذن…
وكأن دقات قلب كل منهما تنبض في صدر الآخر!!!
وكأنهما روحٌ واحدة كتب عليها القدر أن تنفصل في جسدين…
والآن عاد كل شقٍّ للآخر فالتأم شرخ الروح واكتملت الصورة!!!
لهذا ظللهما صمتٌ صاخبٌ بالمشاعر للحظات…
وكلاهما يتشبث بالآخر تشبثه بالحياة نفسها…!!
حتى كانت هي أول من قطعه عندما امتدت أناملها برفق تتحسس ندبة ذقنه التي تسببت بها هي يوماً…
لتهمس ببعض الخجل:
_لماذا لم تعالجها بعد؟!الأمر يبدو بسيطاً!!
تألقت نجوم عينيه بليلها الساحر كعادته وهو يتناول أناملها ليقبلها برقة هامساً:
_لا أريد أن أمحو أي شئٍ يذكرني بكِ.
التمعت عيناها بتأثر ثم ابتسمت لتهمس ببعض المكر:
_لكنها تشوه وسامة ابن الصاوي ساحر النساء!!
فاقترب بوجهه منها أكثر ليهمس بصدق:
_ومالي أنا وابن الصاوي ووسامته؟!!أنا فهد الذي لا تهمه سوى صورته في عينيكِ أنت!!
أغمضت عينيها وهي تشعر بهمسه الصادق يتخلل روحها برفق…
ليذيب هواجسها رويداً رويداً…
فألصقت جبينها بجبينه وهي تضع كفها على صدره هامسةً برجاء:
_أريدك أن تعدني ألا تعود لطريقك القديم…حتى لو لم أكن معك…فهد لم يتغير لأجلي بل لأجل نفسه…أنا لست ماستك…ماستك الحقيقية هنا…في قلبك…ماستك هي ضميرك الذي عاد يلتمع الآن ببريقه فلا تجعلها تبهت أبداً!!
شعر بغصة في حلقه وكلامها يوخز قلبه وقد بدا وكأنه وصية وداع….!!!
فابتعد بوجهه عنها ليهمس بقلق:
_لماذا تقولين هذا الآن؟!
أطرقت برأسها دون رد…
فجذب رأسها لصدره بقوة هاتفاً :
_دوماً سنكون معاً!!!لا تفكري بشئ سوى هذا!!
استسلمت لدفء ذراعيه للحظات لعله يدحض صقيع خوفها…
ثم رفعت إليه رأسها لتسأله وقد تذكرت :
_هل هناك جديدٌ بشأن أختك؟!!
هز رأسه نفياً وهو يقول بأسف:
_ليس بعد…لكنني أعرف حسام جيداً…رغم أنه ليس معنا في نفس المدينة لكنه طالما وضع الأمر في رأسه فلن يهدأ حتى يجد ذاك الرجل!!!
أومأت برأسها في استحسان وهي تبتعد عنه لتبتسم قائلةً بحنان:
_هل تناولت عشاءك بالحفل؟!
قرص وجنتها برفق وهو يقوم واقفاً قبل أن يجذبها لتقف معه قائلاً بعتاب :
_أنتِ تعلمين أنني لم أعد أتناول عشائي إلا معك.
ضحكت أخيراً بسعادة صادقة وهي تتأبط ذراعه لتصطحبه نحو المطبخ قائلة بمرح:
_بدل ملابسك أولاً حتى لا تتسخ بدلتك الأنيقة.
ضحك بدوره وهو يقبل وجنتها بخفة قائلاً :
_البدلة وصاحبها فداكِ !
ثم أردف بخبث وهو يلتقط نظراتها المغرمة:
_لكنني أريد تعويضاً…أنا تركت حفلاً وأريد حفلاً مثله!!
وقفت مكانها لتضحك بدورها قبل أن تضع كفها علي خصرها هاتفةً باستنكار:
_مثله؟!!!لا أبداً…بل أفضل بكثير…!!!!
ثم تشبثت بقميصه بقبضتيها لتردف بدلال:
_أنت لا تعرف جنة عندما تقرر أن تدلل حبيبها!!
توهجت ملامحه بشموس عشقه وعيناه تدوران على ملامحها بشغف مجنون…
قبل أن يضمها إليه أكثر هامساً جوار أذنها بحرارة:
_بل أعرفها…تلك الساحرة التي أسرتني وأسرتها!!
انتهت كلماته بإعصار عاطفته الذي غابا في دوامته كالمعتاد…
قبل أن ينقطع سحر هذه الدقائق برنين جرس الباب…
فانتفضت بين ذراعيه وهي تهمس بقلق:
_من الذي سيطرق الباب الآن؟!!
تمالك أنفاسه اللاهثة بصعوبة وهو يعدل ملابسه ليقول لها بتوتر:
_ابقي أنتِ هنا…لعله البواب يريد شيئاً!!
قالها وهو يغادر المطبخ ليتوجه بخطوات وجلة نحو الباب فيفتحه…
قبل أن تتسع عيناه بارتياع وهو يهمس بصدمة:
_أبي!!
_سلمت يداكِ يا بنتي!
قالتها عفاف بحنان فوضعت رؤى الصينية أمامها على المائدة وهي تغمغم برقة:
_ليتها تعجبك!
ابتسمت عفاف وهي تتناول فنجانها لترتشف منه رشفة قبل أن تقول بابتسامة صافية:
_جميلة مثلك…أرضاكِ الله يا ابنتي.
ابتسمت رؤى بسعادة وهي تجلس جوارها على الأريكة …
منذ عادت مع راغب للإقامة هنا في بيت والدته وقد تغيرت معاملة عفاف لها تماماً….
فقد صارت أكثر حنواً وعطفاً معها …
ربما لأنها أدركت أنها ظلمتها بتحريضٍ من هيام…
وربما لأنها كانت تخشى أن يتركهم راغب من جديد لو شعر أنها غير راضية هنا…
وربما لأنها كانت تحمد لها عودتها هنا بعد كل ما كانت تلاقيه وهو ما جعل عفاف تدرك بحق أنها فتاة طيبة القلب…
وربما هو كل هذا…!!!
هيام أيضاً تحسنت معاملتها لرؤى كذلك…
ليس فقط لأن رؤى اكتسبت بعض القوة لمواجهتها بصمود بعد دعم راغب لها…
لكن لأن عزة شقيقة هيام -والتي كانت ترغب في تزويجها له- قد تمت خطبتها بالفعل لأحد شباب الحي الأثرياء ولم يعد هناك ما يدعو للعداوة…
باستثناء بعض المشاكل الطفيفة التي تنتج كالعادة بفعل الغيرة…
لكن رؤى كانت تتجاوز الأمور بمزيج من الشدة واللين كما علمها راغب…
فتحسنت أمورها هنا كثيراً وصارت تشعر أنه حقاً صار بيتها وأن لها مكانتها فيه…
قطعت عفاف شرودها وهي تضع فنجانها جوارها لتضمها لصدرها قائلةً بحنان:
_لماذا أنتِ شاردة يا ابنتي؟!! هل هناك ما يضايقك؟!
رفعت إليها رؤى عينيها بوداعتها المعتادة وهي تغمغم برضا:
_أبداً يا عمتي…الحمد لله.
قبلت عفاف وجنتها بحب ثم أبعدتها برفق لتخلع عن عنقها تلك القلادة الذهبية الضخمة …
ثم ألبستها لرؤى تحت نظرات – الأخيرة – المندهشة وهي تقول بود:
_لو دققتِ النظر ستلاحظين أن هيام ترتدي مثلها تماماً…نعم…كنت أمتلك منها اثنتين اشتراهما لي والد راغب رحمه الله منذ سنوات طويلة…..أهديت هيام واحدة وادخرت الأخرى لزوجة راغب …لكن لم تسنح الفرصة لأعطيها لكِ من قبل.
ابتسمت رؤى في امتنان ثم قبلت جبينها بحنان…
فغمغمت عفاف بشرود:
_هذه القلادة بالذات لم أخلعها من عنقي منذ زمن طويل ولها ذكرياتها الغالية عندي…لهذا ادخرتها لزوجة راغب بالذات…لا أخفيكِ قولاً…راغب هو أحبُّ ولديّ لقلبي.
اتسعت ابتسامة رؤى وهي تقول بصدق:
_هو أيضاً طالما يخبرني أنكِ أعز الناس عنده …بارك الله لكِ فيه يا عمتي…ونعم الابن!
ربتت عفاف على كفها وهي تقول ببعض الندم:
_لا تؤاخذيني يا ابنتي على ما كان من قبل…كنت فقط…
لكن رؤى قاطعتها وهي تقول بتسامحها المعهود:
_لقد نسيتُ ما كان كله يا عمتي…أدام الله علينا رضاكِ.
تأملتها عفاف بتفحص للحظات ثم قالت بحنان:
_إذن ناديني “أمي”…كم تمنيتُ من الله ابنةً جميلةً مثلك.
ضحكت رؤى ضحكة صافية ثم أمسكت كف عفاف تقبله باحترام قبل أن تقول بطيبتها الفطرية:
_حسناً يا أمي.
ضمتها عفاف لصدرها بقوة حانية وهي تضحك بدورها….
عندما دخل راغب في هذه اللحظة ليرتجف قلبه بشعوره وهو يراها هكذا في حضن والدته…
وإعصارٌ كاسحٌ من مشاعره يضرب صدره بقوة…!!!
عيناه متشبثتان بملامحها التي كساها الرضا واحتضنتها الطمأنينة مؤخراً فما عادت ذابلةً شاحبة بل عادت لتوردها وجمالها القديم…
وشفتاه مطبقتان على ارتعاشتهما التي تحكم فيها بصعوبة وهو يتمنى لو تكون الآن بين ذراعيه هو…
وأنامله مضمومةٌ بقوة جوار جسده يخاف أن يبسطها فتخونه لتسبقه إليها فتضمها إليه شارحةً ما عجز عنه لسانه…
وأذنه صماء عن كل ما حوله سوى عن دقات قلبه الهادرة الآن باشتياق ما عاد يقوى على تحمله…
عذابٌ…عذاب…!!!!
نعم…هواها كأس عذابٍ يرتشفه صاغراً قطرة…قطرة..
لحنٌ مشبعٌ بالألم تعزفه روحه -قسراً- دون توقف…
تعويذةٌ سحرِ عشقٍ أسود تُليت على أعتاب قلبه فتملكته بوعْدٍ….ووعيد…!!!!!
_راغب!!لماذا تقف هكذا؟!!
كانت هذه والدته التي انتبهت إليه أخيراً فتقدم نحوهما ببطء متجاوزاً مشاعره كعادته…
ليقبل جبين والدته باحترام…قبل أن يلتفت نحو -معذبته البريئة- قائلاً باقتضاب :
_مساء الخير…كيف حالكما؟!
ابتسمت رؤى بسعادة حقيقية وهي تشعر أن مجرد وجوده يكمل هذه الصورة الرائعة…
هذا هو البيت الذي تمنت دوماً العيش فيه…
بيتٌ بسيط بأمٍ حانية…ورجلٍ حقيقي هو الأب والأخ والصديق…
حتى وإن كانت خطيئتها القديمة قد حرمته عليها كزوج!!!
لكنها راضية…
نعم…
هذا رجلٌ يكفيها منه القليل…والقليل منه عظيمٌ لو يدري!!!
هذا رجلٌ تحتاج مثله أي امرأة كي تضفي على حياتها نكهة الأمان…
هذا رجلٌ عرف من أين تبدأ الرجولة…وأين تنتهي…
ب”الاحتواء”!!
لهذا تطلعت إليه بمزيج مشاعرها هذا لتهمس برقة:
_الحمد لله…كيف حالك أنت؟!
انتزع نظراته منها بصعوبة ليناول والدته الكيس الذي كان يحمله قائلاً بحنانه الفريد:
_كل عام وأنتِ بخير يا “ست الكل”…غداً عيد ميلادك.
ابتسمت عفاف وهي تربت على كتفه هاتفةً :
_لا تنساني أبداً يا راغب!!
قالتها ثم انساب لسانها بالدعوات الصادقة له…
فأحنى رأسه ببعض الخجل لترمقه رؤى بنظراتٍ عجيبة وقلبها يخفق بين جنباتها بقوة…
كيف يمكنه أن يكون هكذا؟!!
من يراه الآن ورأسه منكسٌ مع احمرار أذنيه خجلاً أمام ثناء والدته …
لا يصدق أنه هو نفسه الذي كانت ترتعد أوصالها هي رعباً من قوته !!!!
كيف استطاع هكذا احتواء كل هذه التناقضات؟!!!
حنانه وقوته…عطاؤه ومنعه…رقته وبطشه…
حقاً…لقد جمع وحده كل الصفات!!!
لكن والدته قطعت عليها شرودها الحالم به عندما قالت له بحنان:
_إياك أن تكون قد نسيت هدية رؤى!!
تنحنحت رؤى في حرج وهي تقول بارتباك:
_هدية لي أنا؟! لماذا؟!!
أشاح راغب بوجهه بينما التفتت نحوها عفاف لتقول مفسرة:
_والد راغب رحمه الله عودني على هذا كلما كان يحضر هدية لوالدته رحمها الله كان يحضر لي مثلها….وفهمي شقيق راغب أيضاً يحافظ على هذه العادة.
رمقتها رؤى بنظرة إعجاب واضحة وهي تستشعر غرابة الموقف…
حماتها لا تريد أن تغار منها زوجة ابنها لو خصها هي بهدية !!!!
ونعم النساء!!!
لكن عفاف ربتت على كتفها لتقول بحزم حانٍ:
_هيا يا ابنتي…اصعدي مع زوجكِ فلا ريب أنه جائع ومتعَب!!
أومأت برأسها وهي تقوم لتغادر معه شقة والدته صاعدين نحو شقتهما…
وبعدها بقليل كانت تجاوره على مائدة الطعام …
حيث ابتدرها هو بقوله الحاني رغم خشونة لهجته:
_ستأكلين معي حتى لو كنتِ تناولتِ طعامك من قبل.
ابتسمت برقة وهي تومئ برأسها في طاعة…
ليشرعا معاً في تناول طعامهما صامتين لدقائق…
قبل أن يختلس نظرة لعينيها…
فعاد يستسلم لأسرها -الأزليّ- للحظات…
وعيناه تسعيان لريّ ظمأ اشتياقه الملهوف لها بطواف سريعٍ على ملامحها بهيامٍ لم يتعمده…
حتي تجمدتا على تلك القلادة التي استقرت على جيدها…
فانعقد حاجباه فجأة قبل أن يشير بإصبعه عليها هاتفاً بضيق:
_من أعطاكِ هذه؟!
شعرت بذبذبات التوتر التي ملأت الهواء بينهما فجأة وهي ترى الغضب المتنامي في نظراته…
غضب وازاه خوفٌ اكتسح عينيها وهي تهمس بوداعتها المعهودة:
_والدتك منحتها لي…قالت..أنها كانت تدخرها لمن ستكون زوجتك!
زفر بقوة وهو يشيح بوجهه وقد عجز عن الرد…
هذه القلادة لم تخلعها والدته من عنقها منذ سنوات…
وطالما أخبرته أنها تدخرها لعروسه هو بالذات…
وبعدما تعلق قلبه برؤى منذ أول لقاءٍ له بها كان يرى صورتها دوماً على هذه القلادة …
وكم حلم باليوم الذي سيراها فيها على جيدها في بيته…
في غرفته…في فراشه…وعلى صدره…
لكنه كان قد تناسى هذا الحلم مع ما تناساه من أحلام..
فلماذا يذكرونه به الآن..؟!!!
لماذا يصرون على نبش هذا القبر الذي يحاول دفن حبه فيه حياً…
وقد يأس من أن يموت!!!
وجواره كانت هي تتأمل ملامحه بخوف ممتزج بالخزي…وقد أساءت فهم سبب غضبه…
فخلعت القلادة برفق لتضعها أمامه قبل أن تهمس باعتذارٍ ذبحه برقته وحزنه:
_أنا آسفة…أعرف أنني لا أستحقها….لكنني لم أستطع رفضها من والدتك.
لكنه لم يعرف بماذا يجيبها الآن فظل مشيحاً بوجهه للحظاتٍ أخرى أذابتها ترقباً…
فأردفت وهي تظن أنها بحديثها تواسيه:
_أرجوك لا تحزن…يوماً ما ستجد من هي أفضل مني لترتديها…أنا أثق بعدالة القدر وما فعلته أنت معي لن يكون له إلا خير جزاء…أنا..
_اسكتي!!
هتف بها بحرقة مقاطعاً عبارتها ثم أعقبها بزفرة حارة…
فدمعت عيناها بتأثر وهي تشعر لأول مرة كم ظلمته ولازالت تظلمه…
هو رجلٌ كان يسعى للزواج كي يستقر ويبني أسرة…
لتورطه هي في علاقة -بلا مسمى- ودون أي ذنب منه سوى عظيم أخلاقه!!!
نعم…أخلاقه التي منعته من فضيحتها بل ودفعته بعدها لاحتوائها بحنان لم تعرفه من قبل …
أخلاقه التي تجعله يعاملها كابنته المدللة …
والتي تعلم أنها هي نفسها التي تقف بينه وبين قبولها كزوجة!!!
نعم…طباعه الأصيلة ك”ابن بلد” حقيقي سيفٌ ذو نصلين…
أحدهما أحياها…والثاني قد يقتلها!!!
وهي ستتقبل منه أي شئ فهي لا خيار لها معه…
لا خيار!!!
وهي لا تملك الآن إلا أن تطرق برأسها صامتةً تنتظر أمره التالي…
لهذا تجمدت مكانها وهي تشعر به يعاود وقوفه جوارها قبل أن يلتقط القلادة ليلبسها لها بنفسه هذه المرة!!!
رفعت عينيها إليه بدهشة غارقة في حيرتها!!!
فأغمض عينيه يداري عنها شعوره وهو يقول بخشونة:
_أمي ستغضب لو علمت أنكِ خلعتِها…وربما تسيئ فهمكِ ونعود للمشاكل من جديد.
وقفت بدورها قبالته لتهز رأسها بطاعة وهي تتحاشى النظر لعينيه ثم همست برقتها الحزينة:
_سأعيدها لك يوماً…عندما…نفترق!
غُصّ حلقها بكلمتها الأخيرة لكنها لم تشعر بهذه الغصة مع ضمته العنيفة المفاجئة لها…
والتي حرمتها حتى مجرد شهقة دهشة…!!!!
فقد ذابت كلياً بين ذراعيه وهي تشعر أنها اختفت تماماً في ربوع صدره العامرة بحنانها…
لا.. لم تكن هي فقط من اختفت…
كل الوجود حولها تلاشى فما عادت تميز سوى صوت دقات قلبه الصارخة بجنون…
والتي تمنت وقتها لو تجاورها للأبد….لو تكون سجينةً ضلوعه ما بقي لها من عمر!!!
ورغم أنها لم تكن أول مرة يحتضنها فيها هكذا…
لكن هذه المرة كانت هي الأكثر دفئاً !!!
لماذا؟!!
هي لا تفهم…ولم يعد يعنيها أن تفهم…
بل إنها تعتقد أنه ليس من حقها حتى أن تفعل!!!
كل عطاياه لها – كما تراها هي- منعدمة الأسباب لكنها فخمة القدر عظيمة القيمة ولا تنتظر المقابل..
فكيف تردها وهي أفقر ما تكون إليها؟!!!
وأمامها كان هو -مثلها- غائباً عن شعوره بكل شئ …إلا بها!!
الغافلة تظنه قد يسمح لأخرى أن ترتدي هذه القلادة بعدها !!!!!
ولا تدري أنه حتى لو تركها كما اتفقا فهو لن يستطيع منح أي امرأة سواها ما كان لها -هي – يوماً!!!
هدير نبضات القلب…
وزفير اشتعال الروح…
وصك ملكية باسم الحب…
ولمعة ذهبية لقلادة ما تمنى يوماً رؤيتها إلا على جيدها هي!!!
ظلا على هذا الوضع لدقائق كان كلاهما فيها غارقاً في أفكاره…
حتى رفعت هي عينيها إليه لتهمس بوجل:
_ماذا بك؟!تبدو الليلة مختلفاً!!
أبعدها عنه برفق وقد روعه أن يستجيب هكذا لمشاعره نحوها…
فربت على رأسها متجاهلاً سؤالها قبل أن يتنحنح مستعيداً خشونة صوته:
_لا شئ!
قالها ثم سحبها من كفها خلفه نحو منضدة قريبة حيث لمحت هذه الأكياس العديدة عليها…
فالتفتت نحوه بنظرة متسائلة ليقول هو ببعض الرفق:
_لقد اشتريتُ لكِ بعض الثياب الجديدة …حتى تكوني مستعدة للعودة للجامعة .
ابتسمت بسعادة غارقة في امتنانها وهي تقول برقة:
_لماذا أتعبت نفسك؟! أنا لديّ الكثير!
ربت على كتفها برفق قائلاً:
_لم يكن الأمر متعباً…كنت أشتري لأمي هديتها على أي حال…أرجو أن يناسبكِ ذوقي…أما المقاس فلا تقلقي أنا أحفظه جيداً منذ اشترينا ثوب الزفاف.
اتسعت ابتسامتها مع بعض الخجل الذي انتابها و هي تتوجه نحو الأكياس لتفضها بلهفة طفولية زادته جنوناً بها…
قبل أن تلتمع عيناه بعاطفة طاغية وهي تحتضن أحد الأثواب هاتفةً بانبهار:
_رباه!!!! هذا هو الثوب الذي توقفت أمامه يوم خرجنا معاً!
ابتسم بحنان غلّف كلماته بعدها:
_لقد لاحظتُ يومها أنكِ تعلقتِ به…يبدو أنكِ أيضاً تحبين هذا اللون كثيراً!
ضحكت ببراءة مهلكة وهي تقول بخجل:
_أنا مجنونة بعشق “الأصفر”!!
رقص قلبه بفرح على إيقاع ضحكتها لكنه أغمض عينيه بقوة ليتمالك مشاعره الآن…
عندما عاودت هي اقترابها منه لتهمس بحرارة وقد منحها إغماضه لعينيه بعض الشجاعة:
_راغب! كيف أشكرك؟!ليس على الهدايا فحسب بل على كل شئ.
ضم أنامله بقوة للحظات وهو يفتح عينيه ببطء ليواجه عينيها ببركان عاطفته الثائر …
قبل أن يخمده قسراً لتعود لكلماته طبيعتها المتحفظة وهو يتجاهل عبارتها:
_الحمد لله أنها أعجبتك.
ابتسمت برقة ثم عادت تتأمل الثوب وهي ترفعه بين يديها مغمغةً بأسف:
_لن أستطيع الخروج به لأنه مكشوف الصدر والذراعين…كما أنه ثوب للحفلات…أين سأرتديه؟!
عادت لشفتيه ابتسامتهما الخاصة بها وهو يقول بحنان غلب خشونة نبراته:
_بسيطة…نقيم الآن حفلة!
رمقته بنظرة متسائلة فاتسعت ابتسامته وهو يردف بحزم:
_نحن لم نحتفل بنجاحك عندما ظهرت نتيجتك…وعيد ميلاد أمي سيكون غداً …ما رأيك لو ندمج المناسبتين معاً ونقيم احتفالاً لجميع العائلة الليلة؟!!
ضحكت بفرحة بريئة وهي تومئ برأسها موافقة…
ثم تركته بخطواتٍ سريعة وهي تتوجه نحو غرفتها لترتدي الثوب باندفاعٍ طفولي…
ولهفة قلب اشتاق للفرحة بعد كل ما عاناه من ألم وخوف…!!!
لتخرج إليه بعد دقائق وقد ارتدت الثوب وصففت شعرها بعناية لتسدله كله على أحد جانبي وجهها …
واكتفت من زينتها بطلاء شفاه ورديّ جعل من شفتيها مع “طابع حسنها” الآسر كارثةً مزدوجة!!!
تقدمت نحوه بتردد مكسوٍّ ببعض الخجل وهي تهمس ببراءتها المعهودة:
_ما رأيك؟!مناسب؟!
أطرق برأسه وهو لا يدري بماذا يرد…
مناسب؟!!!
هل تسأله هي عن كونه…مناسباً؟!!!
نعم…مناسبٌ لامرأة تريد أن تملك فتنة الدنيا كلها بين كفيها!!!
مناسبٌ لسحرٍ بدأ وانتهى في مقلتيها…
مناسبٌ لقلبٍ -كقلبه- يراها الآن ملكة نساء الأرض…
ومناسبٌ كي يفقده عقله جنوناً بها!!!
لهذا صمت قليلاً قبل أن يرفع رأسه لينظر في اتجاهٍ آخر متجاهلاً الحديث الذي تفيض به نفسه ….
وهو يتحاشى النظر إليها باستماتة ليقول بحزم:
_ارتدي عليه السترة القصيرة التي اشتريتها معه.
ارتبكت قليلاً وهي تقول بتردد:
_أخوك مسافر…لن يكون هناك سوى والدتك وهيام.
اشتعلت ملامحه بغضب لم تفهمه وهو يقول ببرود عاصف:
_لا أحب أن تظهر امرأتي هكذا لأحد ولو أمام النساء.
ورغم -استنكارها الخفي- لما يقول لم تملك سوى أن تومئ برأسها في طاعة…
فأعطاها ظهره ليقول قبل أن يغادر:
_سأذهب لشراء ما يلزم.
راقبت ظهره المنصرف بحيرة ثم ذهبت إلى المرآة تطالع صورتها بتفحص…
لتشعر بمزيج من الرضا والامتنان نحو هذا الرجل الذي أسعدها القدر بوضعه في طريقها…
عندما انتابها خاطرٌ جعلها تبتئس أكثر…
لماذا لا يراها هو كأنثى؟!!
لماذا يحرمها على نفسه؟!!
بل إنها تشعر بغضب مكتوم في عينيه كلما اقتربت منه عفوياً!!!!
لتومض في ذهنها تلك الذكرى ليلة زفافهما البغيضة على نفسها وهو يصرخ بها أنه لا ينظر لفضلات غيره…
انقبض قلبها بقسوة وشعورها بالدونية يزداد …
نعم…هي بالنسبة إليه مجرد نفاية!!!
خرقة بالية مزقها أحدهم وألقاها في طريقه فالتقطها لكنه…أبداً لن يرتديها!!!
ثمرةٌ معطوبة سقطت على رأسه فأمسكها لكنه …أبداً لن يشتهيها!!!
دمعت عيناها بقهر وهي تشعر أنها برغم كل شئٍ لا تلومه…
هي فرطت …وهو تغاضى وستر…لكنه أبداً لن يغفر!!!
وبهذا الشعور الحارق توجهت نحو غرفتها لترتدي السترة القصيرة على الثوب كما أمرها…
وهي تشعر أنها صارت تكره جسدها…
بل تكره نفسها التي أوردتها هذا المصير!!!
مرت بها الدقائق ثقيلة قاسية…
حتى سمعت صوت الجلبة بالخارج فعلمت أنهم جميعاً قد وصلوا…
ساعتها تمالكت مشاعرها المضطربة لتخرج إليهم باستسلام…
عندما شهقت حماتها بانبهار وهي تتمتم بإعجاب:
_ماشاء الله لا قوة إلا بالله…قمر يا ابنتي…قمر!!!
بينما رمقتها هيام بنظرة حاسدة قبل أن تشيح بوجهها في ضيق…
لكن راغب وضع ذراعه على كتفها ليقول بإكبار:
_رؤى أرادت أن نحتفل بعيد ميلاد أمي هنا الليلة…لكنني وجدتها فرصة لنحتفل بنجاحها أيضاً!
ابتسمت عفاف برضا بينما غمغمت هيام بسخط:
_وهل ستدعها تكمل تعليمها؟!!بماذا سيفيدها هذا؟!هل ستحتاج لعملها أم لراتبها!!
انتفضت رؤى بقلق وهي تخشى أن يؤثر حديثها على راغب …
لكنه ربت على كتفها برفق قبل أن يقول لهيام بصرامة:
_أنا اتفقت معها على ذلك قبل الزواج… ومادامت تريده فلتفعله!
ابتلعت هيام لسانها قسراً…
بينما ابتعد راغب قليلاً ليرص الأطباق على المائدة مع رؤى ثم بدآ بوضع الحلوى والطعام…
فالتف أطفال هيام حول المائدة يتراقصون بمرح…
ويغنون أغنية عيد الميلاد الشهيرة …
ساعتها ابتسمت رؤى ابتسامة صادقة وهي تشعر بدفء هذه العائلة يطوقها…
هذا الدفء الذي افتقدته منذ وفاة والديها…
والذي عاد إليها من جديد..
لكن ابتسامتها تجمدت على شفتيها عندما هتفت عفاف بحنان:
_عسى أن يكون احتفالنا المرة القادمة بولدك أنت يا راغب!
سقط قلبها بين قدميها وهي تختلس نظرة ملتاعة نحوه…
لتروعها تلك المرارة التي اكتست بها عيناه للحظة خاطفة ذبحتها..
قبل أن يعاود تظاهره المتقن بالرضا وهو يقول باقتضاب:
_كل شئ بأوان!!
===================
_هل فعلتها حقاً؟!!
هتفت بها ماسة باستنكار وهي تدخل عليه غرفة مكتبه فأجاب ببرود دون أن ينظر إليها وهو يدرك جيداً ما تعنيه:
_نعم!
هزت رأسها بقنوط وهي تتقدم منه ببطء…
إذن فقد خذلها هذه المرة…
استجاب لشيطان قسوته كالعادة!!!
المدينة كلها تتحدث عما فعله عاصي الرفاعي بنسبائه القدامى…
لقد نفاهم -حرفياً- من المدينة كلها …
نعم…أصدر أوامره إليهم بترك المدينة كلها وإلا فالمصير …معروف!!!
وهم امتثلوا صاغرين!!!
وليس هذا فحسب..
بل إنه وضع يده على أملاك والد حورية بالذات وانتزع منه أرضه قوةً وعدواناً!!!
والمصيبة أن الجميع ينظرون إليها هي نظرة سوء…
يظنونها هي من دفعته لهذا الانتقام بعد الصفعة التي نالتها!!!
لهذا جلست أمامه على مكتبه لتهمس برجاء:
_أنت لم ترفض لي طلباً أردته…أرجوك…تراجع عن…
رفع رأسه إليها مقاطعاً حديثها وهو يهتف بقسوة عاودت احتلال نبراته:
_كم مرةٍ قلت لكِ ألا تتدخلي فيما لا يعنيكِ!!
هبت واقفةً لتهتف بلهجة مدافعة:
_هذا الأمر يعنيني…ألم تفعلها لأجلي؟!!
اشتعلت عيناه بغضب صارخ وهو يقول بحسم:
_أنتِ أسقطتِ حقكِ ورفضتِ رد صفعتها…لكنني أنا لا أسقط حقي أبداً!
دمعت عيناها بعجز وهي تطارد سراب الحنان الذي اختفى وسط اشتعال غابات زيتونه…
لتهمس بعتابٍ:
_لماذا يا عاصي؟!!لماذا تصر على نصر شيطانك؟!!إلى متى ستظل هائماً في هذا الطريق الذي أخذ منك أكثر مما أعطاك؟!!
أشاح بوجهه لدقائق وملامحه تحكي سطوراً من ألم…
حتى عاود فتح عينيه ليقول بحزم:
_هذا طريقٌ لا يعود سالكه…إما أن يكمله أو يموت مكانه!!
هزت رأسها بعدم اقتناع …فأردف بشرود:
_لازلتِ صغيرةً يا ماسة…لا تعلمين أنه حتى الحق يحتاج لقوة تحميه…لو لم أكن أنا صاحب الضربة الأولى فستكون التالية على رأسي…هذا قانونٌ لم يتغير هنا…وأنا فقط ألتزم به!!
ازدردت ريقها بتوتر وهي تهمس برجاء:
_فقط…فكر مرة أخرى…صورتي بين الناس …
قطع عبارتها بتهكم غاضب:
_صورتك؟!
أغمضت عينيها بألم وقد وصلتها عبارته كإهانة!
فأشاح بوجهه في ضيق وهو مستاءٌ من كل هذا الحوار الذي يراه بلا طائل…
وقد أدرك أنها أساءت تأويل كلمته التي لم يقصدها…!!
فخبط على المكتب بكفه خبطةً أجفلتها وهو يقوم من مكانه ليهتف بحدة:
_عودي لغرفتك الآن ولا تجعليني أعيد الكلام مرتين!!
أغمضت عينيها بقوة وكأنها تحمي قلبها من أن يراه في هذه الصورة المنفرة…
قبل أن تعطيه ظهرها لتغادر مكتبه بخطواتٍ مندفعة ثائرة عائدة لغرفتها كما أمر “السيد”!!!
وفي غرفتها استلقت على سريرها وهي تطالع السقف بشرود بائس…
يبدو أنها تمادت كثيراً في حسن ظنها فيه كما زعم…
وها هو ذا يثبت لها في أول صدام بينهما أن شيئاً ما لن يتغير…
هو سيبقى السيد عاصي الرفاعي الذي يفتخر بلقبه ك-شيطان – ترتجف أمامه القلوب…
وهي ستبقى ماسة اللقيطة التي ينهش الناس في سيرتها بكل باطل دون رادع!!!
تلك الممرضة اللعوب التي تلاعبت برأس سيدهم لتختطفه من امرأته فتدفعها للانتحار كمداً قبل أن تحرضه للنيل من نسبائه كذلك ونفيهم خارج المدينة!!!
ومع كل هذا هي لا تملك حق الاعتراض…
لقد كان محقاً في سخريته من اهتمامها بصورتها…
من مثلها يجب أن تقنع بأي صورة !!!!
وبهذا اليأس المظلم استسلمت لجحيم أفكارها لساعات…
حتى سمعت طرقاته التي صارت تميزها علي باب غرفتها …
فنهضت بتثاقل لتتوجه نحو الباب فتفتحه ببطء…
قبل أن تطالعها عيناه تتفحصانها بعاطفة لم تعد تنكرها وقد عادت شموسه الزيتونية تتألق بوهجها الدافئ الخافق بشعوره والمناقض للهجته المتسلطة بعدها:
_أنا ذاهب إلي المركب…تعاليْ معي!
كادت تشير برأسها نفياً وتخبره أنها لا تريد منه شيئاً!!
لكن اقتراحه في الحقيقة كان أقصى ما تحلم به الآن…
هي تريد الذهاب…
تريد معانقة سماء الليل الرحبة لعلها تخفف ضيق صدرها في هذه اللحظة…
تريد اختزان كل نسمات الهواء بين ضلوعها لعلها تعوض ضياع أنفاسها…
وتريد اعتلاء حلمها وسط القمر ونجومه لعلها تنسى هوانها على أهل الأرض!!!
لهذا أومأت برأسها إيجاباً بعد لحظات من التردد ثم جذبت وشاحها لتغطي رأسها بإهمال يعكس مشاعرها الخانقة…
فجذبها من كفها لتخرج معه نحو وجهتهما…
كانت شاردة طوال الطريق تشعر أن صدرها صار خالياً بلا قلب…
أعماقها تنبض بخواء كأنها مجرد هيكل فارغ!!!
وكأن كل مشاعرها التي تملكتها نحوه طوال تلك الأيام توارت خلف سدود خذلانه لها !!!
فتركت عقلها فريسةً لشروده الهائم يعبث فيه كيفما شاء حتى وجدت نفسها معه علي سطح المركب كالمرة السابقة…
تجاهلت النظر إليه وهي ترفع رأسها للسماء تعانقها بعينيها بنَهَمٍ شديد…
لكن السماء هذه المرة كانت مختلفة…
بخلت عليها بقمرها ونجومه!!!
نعم…السماء كانت صافية لكنها مظلمة…
وكأنها مثلها افتقدت كل سبيل للنور…!!!
وأمامها هو كان يتأمل صفحة وجهها بشوق ما عاد يرتوي منه أبداً…
لقد افتقد هذه النظرة في عينيها…نظرة الانبهار التي تعد بابتسامة وشيكة…!!
ورغم أن عينيها تعلقتا بالسماء غافلتين عنه…
لكن أمواجهما الماسية لم تكن عنه بغافلة…!!!!
بل كانت تناديه بجاذبيتها نداءً لا يملك إلا أن يجيبه…!!!
نداءً يجد صداه في قلبه وروحه مهما كابر عقله وتشبث بأسوار ماضيه…!!!
وعندها خفضت هي بصرها نحوه أخيراً لتلحظ تأمله المتفحص لها بتلك النظرة الغريبة على عينيها…
والتي حملت شيئاً جديداً يعرف طريقه لأول مرة بينهما!!!
شيئاً لا يمكنها وصفه…يجعلها لا تدري هل تريد الاقتراب منه أكثر…
أم تريد الابتعاد؟!!
وهل هذه اللذة التي تستشعرها حقيقية ؟!!!
أم أنها مرادفٌ خفيٌ للخوف الذي يسكنها تجاهه؟!!
ازداد ارتباكها وهي تشعر بقلبها يكاد يختنق بدقاته التي بدت لها وكأنها إشارات استغاثة!!
فتحركت خطوة للخلف لكنها تعثرت بطرف عباءتها لتترنح مكانها…
عندما جذبها هو إليه بقوة ليحيط خصرها بساعده هامساً بلهجة غريبةعلي أذنها:
_عيناكِ خطيرتان جداً في ليلة كهذه.
تجمد جسدها وهي تشعر بسيطرته القاهرة عليها…
إن لم يكن بساعده المحكم علي خصرها…
فبغابات زيتونه التي كانت تنبض الآن بوميض لم تره من قبل…
وميض أغشى عينيها ليأسرهما بقوة لا تقبل الاعتراض…
لكنها وجدت بعضاً من قوة لتهمس بصوت مرتعش:
_ماذا تقصد؟!
اقترب بوجهه من وجهها ليهمس بنفس النبرة الغريبة التي تشعر وكأنها تقيد روحها بأغلال غير مرئية:
_عندما يغيب القمر فكأنه يستودع فيهما فقط كل نوره وسحره.
اتسعت عيناها بدهشة للحظة ثم ارتعشت حدقتاها وهي عاجزة عن الرد…
قبل أن يحتل العتاب حدقتيها لتصيب سهامها الفضية أهدافها لديه كالعادة…
فمال على أذنها هامساً بحنانه الذي يبدو وكأنه خُلق لها وحدها:
_ماسة غاضبة وتحتاج إلى ترضية ؟!!أم أنها صارت تدرك قيمتها عندي؟!
اختنقت الكلمات في حلقها وهي تشعر أنها الآن في حلم غريب…
وقد بدا لها عاصي في هذه اللحظة شخصاً آخر…
ليس كما عرفته في البداية بتسلطه وقسوته …
ولا حتى كما صار بعدها بحنانه -الأبويّ -واحتوائه…
كل ما فيه مختلف…
إحساسها -هي -به مختلف…كأنه ملكٌ أسطوريٌ مزق حجب الحلم ليسقط على أرض واقعها فيختطفها أسيرةً في مملكته…
لا…ليست أسيرة…بل ملكة ترى تاجها يتلألأ بوضوح بين كفيه ينتظر منها موافقةً ليضعه بنفسه على رأسها!!!
كما أنها تشعر أن إحساسه -هو -بها الآن مختلف…
كيف تتجاهل نظراته بأمطار مشاعر تتملكها حتى ولو لم تكن تفهمها!!!
كيف تغض الطرف عن ربيعٍ لم يولد إلا بين حدقتيه بزهور تعدها ألا تكون لسواها؟!!
بل كيف تقهر نبض قلبها الذي يتراقص الآن بلحنٍ بدا وكأنه لن يولد ولن يموت إلا بين ذراعيه؟!!
لهذا اختنقت أنفاسها الملتهبة بشعورها واحمرت وجنتاها بشدة وهي تشعر بسخونتهما تكاد تذيبها…
فتفحص ملامحها باشتهاء قبل أن يمد أنامله الحرة ببطء يتحسسهما هامساً بنفس النبرة:
_وجنتاك دافئتان شديدتا الإغراء لرجل مثلي …قد سأم برودة أيامه!!!
ازدردت ريقها بصعوبة ثم أغمضت عينيها لعلها تهرب من سجن عينيه القسري…
عندما شعرت بشفتيه علي وجنتيها تمطرانها حناناً بلا حدود…
قبلاته؟؟!!!!!!
هل هذه….. قبلاته؟؟؟؟!!!
لا لالا…!!!!
لم تكن تتخيل أن قبلات هذا الرجل ستكون هكذا شديدة النعومة علي عكس طبعه القاسي…
لقد بدا وكأنه فقط يلامس بشفتيه بشرة وجهها…
وكأنه يربت عليها برفق …
ليمنحها شعوراً لم تعرفه من قبل…
فغابت معه في عالمٍ تخطوه قدماها لأول مرة بهذه الصورة!!
ثم لم تدرِ بالضبط كم مضى على غزوه الناعم هذا..
لكنها انتفضت بقوة عندما وصل إلى شفتيها…!!!
فشهقت بعنف وهي تفتح عينيها محاولةً الابتعاد…
وذهنها يستعيد تلقائياً أحداث تلك الدقائق الشنيعة التي عاشتها تلك الليلة البعيدة على يد وحوش بلا ضمير…!!!
لكنه بدا وكأنه يقرأ أفكارها كعادته فأحكم ساعده على خصرها أكثر كي لا يسمح لها بالابتعاد…
ثم امتدت أنامله تحت حجابها المتهاوي تداعب منابت شعرها بحركته المميزة التي لا تنكر تأثيرها عليها…
لتشعر هي بالسكينة تعود إليها ببطء…
وبهذا الأمان الغريب الذي لا تعرفه إلا معه يغلف عقلها قبل قلبها ليدفع عنها كل هواجسها…
فأغمضت عينيها باستسلام لم تملك سواه في هذه اللحظات…
ليتحول غزوه الناعم لآخر يشبهه قوي متملك ومسيطر…
غرقت فيه بكامل كيانها دون تفكير…!!!!
حتى أفاقت لنفسها بعد بضع دقائق…
فابتعدت بوجهها عن وجهه لتدفنه في صدره وهي تتشبث بقميصه …
وكأنها لا تهرب منه…. بل تستغيث به- هو -من هذه المشاعر التي لا خبرة لها بها ..
والتي تجتاحها لأول مرة!!!!
وأمامها كان هو -مثلها للعجب-يجرب هذا الشعور الفريد لأول مرة…!!!
وكأن القدر ادخرها لها طوال سنوات عمره التي قاربت الأربعين ليعيش معها هي بالذات سحر هذا الإحساس!!!!
نعم…بعد كل سنوات زواجه السابقة يجد نفسه لأول مرة يجرب لذة الأخذ عن رضا لا عن غصب…
لذة امتزاج الروح بتوأمها لينصهرا معاً حتى تمام الذوبان!!!
لذة خفقان القلب بدقاتٍ يجد كلاهما صداها في صدر الآخر!!!
لذةٌ جعلته يندم حقاً على كل ثانية من عمره ضاعت قبل أن يعرفها!!!
لهذا ضمها إلى صدره بقوة وهو يكاد يستقرئ ما بداخلها قبل أن يهمس بصوته المسيطر الذي كسته الآن نبرة خاصة :
_الجو صار شديد البرودة…سنعود إلي القصر.
لم تستطع رفع عينيها إليه خجلاً…
لكنها ابتعدت ببطء وهي تطرق برأسها…
ليجذب كفها من جديد فيعودا معاً إلي القصر…
وأفكارها التائهة وسط فوضى مشاعرها تلتهم ما بقي لها من تركيز…!!!
لم تدرِ كيف صار الطريق فجأة قصيراً هكذا…
أم أن شرودها هو الذي غيبها عن حساب الوقت…؟!!!
لا تدري…
لقد وجدت نفسها -فجأة -في الرواق الذي يضم غرفتيهما…
فوقفت لتتجه نحو غرفتها لكنه تشبث بكفها هامساً بحزمٍ رفيق:
_من الليلة ستنامين معي في غرفتي كما السابق.
اتسعت عيناها في ارتياع وهي تشعر بالارتباك…
بعدما حدث بينهما منذ قليل لا تعرف كيف سيكون الأمر معه…
حدسها يخبرها أن شيئاً ما بعلاقتهما قد تغير وأنها اتخذت منحنيً جديداً لن يعود بعدها لما كان عليه…
لكنه لم يسمح لها بالتفكير وهو يجذبها من كفها حتى صارا أمام باب غرفته…
وهنا…
رفعت هي عينيها إليها برجاء حملته أمواجها الفضية وعجز لسانها عن البوح به…
رجاء ذبيح بهواجس ماضٍ لازالت تؤرقها رغم عزمها على تجاوزها…
رجاء ممتزج بخوف لا حيلة لها فيه ….
لكنه عرف طريقه إلى قلبه بيسر كعادتها معه..!!!
فزفر زفرة مشتعلة ثم أغمض عينيه بقوة وكأنه يقاوم انفعاله بكل طاقته وهو يتفهم شعورها…
ليقول بحزم دون أن يفتح عينيه:
_أمامكِ دقيقة واحدة…تعودين فيها إلى غرفتك…لو لم تكوني راغبة.
ارتجف كفها في يده وهي تنظر إليه بتشتت…
فبرغم كل ما كان بينهما هي لم تتوقعه سيكون بهذا التفهم…
هذا الرجل بئر عميق من التناقضات…
لوحة تصارع فيها الأبيض والأسود بجدارة فلم ينتصر أحدهما واحتفظ كل منهما بمساحته بالعدل!!!
لكنها وللعجب تجد أمانها معه….!!!!
قلبها يخبرها أن مكانها دوماً سيكون في الرقعة البيضاء من هذه اللوحة…
ومن يدري؟!!!
ربما يجيئ هذا اليوم الذي ينتصر فيه الأبيض ليحتل اللوحة كلها فيرد سوادها مدحوراً!!!
لكنه فتح عينيه فجأة ليلتقط التردد الذي اكتسح أمواج عينيها بين مد وجزر…
تردداً وليس…. رفضاً!!!
والرفض في قانونه- الذي ابتدعه لها هي بالذات -يختلف عن التردد…
فالرفض يمنعه لكن التردد…هو كفيلٌ به!!!
لهذا انحنى ليحملها فجأة بين ذراعيه وهو يميل بوجهه على وجهها هامساً جوار أذنها بصوته الآسر:
_غيرت رأيي…ولا ثانية واحدة!!!
شهقت بعنف وهي تتعلق بذراعيها في عنقه بحركة تلقائية…
ليدخل الغرفة مغلقاً الباب خلفه بقدمه…
ثم سار بها مطوقاً عينيها بسحر غابات زيتونه التي اشتعلت الآن ببريق خاص…
انعكس على بحار فضتها فزادها تألقاً وفتنة….
حتى وضعها برفق علي الفراش…
قبل أن ينحني بوجهه علي وجهها هامساً بلهجته المسيطرة:
_هل وفّى عاصي الرفاعي بكل وعوده معك؟!!
سيطرت على نفسها بصعوبة مع ارتجافة جسدها في هذه اللحظة …
وهي تدرك ما يقصده…
لقد وعدها ألا يمسها قبل أن ينتزع جذور حب عزيز من قلبها فلا تخون أحدهما…
وحقاً فعلها…!!!
بل إنها الآن عندما تتذكر ما كان بينهما يبدو لها وكأنه كان حلماً بعيداً….
بل وهماً من خيوط عنكبوت تمزقت فكانت هباءً منثوراً!!!
لهذا دمعت عيناها وهي تومئ برأسها في إجابة واضحة على سؤاله…
فاقترب بوجهه أكثر ليعاود سؤالها بنفس اللهجة:
_هل غادرتكِ كوابيسكِ كلها؟!!
ضغطت شفتيها بقوة تتمالك ارتجافتهما ثم عادت تومئ برأسها إيجاباً…
فمد كفه ببطء يزيح حجابها لتعرف أنامله طريقها لمنابت شعرها بحركته الأثيرة لديها…
ثم اقترب بوجهه أكثر حتى لم تعد ترى سوى صورتها في مراياه الزيتونية ليهمس أمام عينيها بصوت متهدج هذه المرة:
_هل تذكرين المقابل؟!!
تاهت عيناها بعينيه لتمتزج أمواج فضتها بغابات زيتونه في مزيج ساحر…
وهي تهمس بتشتت:
_المقابل؟!!!!
وعندها ألصق هو جبينه بجبينها ليهمس أخيراً بحرارة أذابتهما معاً:
_ماسة!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى