روايات

رواية الصمت المعذب الفصل الثالث 3 بقلم نورهان ناصر

موقع كتابك في سطور

رواية الصمت المعذب الفصل الثالث 3 بقلم نورهان ناصر

رواية الصمت المعذب الجزء الثالث

رواية الصمت المعذب البارت الثالث

الصمت المعذب
الصمت المعذب

رواية الصمت المعذب الحلقة الثالثة

‏اللهم اجعل كل مادعيناه لك سرًا وجهرًا تكتبه لنا واقعًا ،تُفرح به قلوبنا إنك أنت الكريم الرحيم.
♥ صلوا على الحبيب المصطفى ♥
_________________________
كانت تجلس على الأريكة تضم وسادة متوسطة الحجم إلى صدرها وهي منهمرة في البكاء ، وكأن ما عاد بإمكانها فعل أي شيء سوى البكاء والبكاء والبكاء ليلًا ونهارًا ، تعالت أصوات شهقاتها وهي تقول ببسمة موجوعه وجراح قلب دائم الحسراتِ :
_ واحشني كتير ، مش قادره أنساه ، مش عارفه أخرجه من قلبي .
أخفضت نعمه رأسها للأرض وهي تغمض عينيها تجاهد دموعها ، ما تفعله ملك خطأ كبير وبدلًا من أن تشاركها البكاء عليها نُصحها ، لذا بعد أن أخذت عدة أنفاس رفعت رأسها ونظرت لها بملامح غاضبه وهي تقول بينما تقبض على يدها:
_ كفاية بجد ، حرام يا ملك اللي بتعمليه ده حرام ، أنتِ ست متزوجة ، وقولتلك بدل المرة ألف مش هتقدري ، أنتِ حِمل الإثم ده ؟؟ أنتِ كدا ناشز والملايكة بتلعنك ومش عايزه اقولك الكلمة التانية لشعورك ده .
طالعتها ملك بشفاه مرتجفه وجسدها كله ينتفض تردف بنبرة ضعيفه :
_ أنا فعلا مش هقدر ، أحمد هايفضل جوايا واقف بيني وبين حسان ، أنا بشوفه في كل مكان ، عارفه كل ده مش محتاجه تقولي ، حاولت وفشلت كتير ، مش طايقه لمسته ولا طايقه أشوفه ، أنا من غير أحمد ولا حاجه .
صمتت لثواني تتنفس بصوت مرتفع قبل أن تقول بحزن شديد وهي تشير جهة قلبها :
_أنا بعشقه افهموني بقى ، ده بيحبه بيحبه بيحبه ، أنا بموت فيه ، حبه في قلبي بيزيد مش بيقل وأنا مش عايزه غيره ….
صفعتها نعمه بقوة على وجهها وهي تحدقها بعيون يملأها الغضب رغم الدموع فيها الحزينة عليها ، ابتسمت ملك بقهر وهي تقول بينما تنظر لها بعينين لامعتين من الدموع :
_ اضربيني زيه مش هتخرجوه من جوايا ، أنا بتخيله مكانه متخيله أنا وصلت لإيه ؟؟ أنا عايشه في وهم ، أنا خاينه أنا واحدة حقيرة ومحدش حاسس بالنار اللي جوايا ، أنا كل مرة قربت فيها من حسان لأني مش بشوفه حسان أنا بشوفه أحمد ، أحمد وبس عمري ما اعتبرت حسان زوج أبدًا ، أنا قلبي وعقلي وكلي ملك لشخص واحد بس هو أحمد فاهمه و ……
ومنعها عن التكملة كف آخر التحم في خدها لتنفجر ملك بالبكاء بصوت مرتفع وهي تضع يدها على خدها ، بينما نعمه تقبض على يدها بحزن ، وهنا سمحت لدموعها بالخروج ، وانفلتت شهقاتها التي جاهدت لحبسها حتى لا تضعف من حديث ملك ولكن حالتها يلين لها الحجر ، بكت نعمه بصوت مرتفع وهي تنهض من جوارها توليها ظهرها ، بينما ملك استلقت على الأريكة تبكي بهذيان .
أخيرًا استطاعت نعمه النطق فاستدارت لها تقول وهي تمسح دموعها:
_ أنتِ هتفوقي من اللي أنتِ فيه ده ، أحمد خلاص مبقاش موجود ، كفايه ذنوب ضميرك مش بيأنبك على حسان المسكين ، ذنبه إيه ؟؟ ليه كملتي ؟ ميت مرة قولتلك مش هتقدري يا ملك ، مرضتيش تسمعيني قولتلك هتظلميه معاك بردو كملتي.
صرخت ملك بحرقة ودموعها على خدها لم تنضب :
_ أنا بموت في كل دقيقه وأنا عارفه إني مذنبه في حقه ، ولأنه بيحبني قولت هدي لنفسي وليه فرصة يمكن أحبه ، وهو وافق بس أنا فشلت فشل ذريع ، مقدرتش مجرد إني مقدرتش ارحموني بقى .
خفت صوتها مع آخر كلمة ، أطلقت زفيرًا قويًا وهي تنتفض بشهقات عالية تردد بقهر :
_كلكم عايزين تخرجوه وهو ساكن في قلبي ، مش هيخرج حتى بموتي ، أنا طلبت الطلاق بس سيادته رافض أنا مش عايزه أكون خاينه ولا عايزه ذنوب ولا أنا حمل ذنب زي النشوز بس لكل إنسان مقدره وأنا مش قادره ، حتى لو سلمته نفسي قلبي وعقلي مش معاه كياني كله مع أحمد إيه الفرق ؟؟ كدا مش هابقى في نظر نفسي خاينه مثلا ؟؟ أنا تعبت ، بحاول أكفر عن ذنوبي وادعي كل يوم ربنا يغفر لي ويعجل بموتي علشان ارتاح واريحكم كلكم.
ختمت حديثها وهي تركض إلى غرفة الأطفال ، أغلقت الباب خلفها بالمفتاح ، وجلست على الأرض تتابع البكاء بحرقة شديدة ، حتى ما عاد يخرج صوتها من شدة البكاء ، وبخارج الغرفة تقف نعمه بعينيها المليئة بالدموع ، عاجزة تمامًا عن فعل أي شيء .
أجبرت قدميها على السير باتجاه غرفة ملك وجلست على الأرض تضع يدها على الباب وهي تقول بدموع شديدة وخوف لما اختفى صوتها :
_ ملك ؟ ملك أنتِ كويسه ؟؟ .
وأيضًا ما من رد ، ظلت نعمه تطرق على الباب بقوة وهي تبكي بهيسترية:
_ ملك افتحي الباب ، ملك اوعي تعملي في نفسك حاجه ، ملك افتحي لي وهاقعد ساكته مش هانطق مش هلومك مش هقولك حاجه تزعلك بس أبوس ايدك افتحي الباب.
ومجددًا لم تتلقى نعمه أي رد على ندائها ، نهضت مثل المجنونة تضغط على مقبض الباب تحاول فتح باب الغرفة وعبثًا فعلت ، خرجت من باب الشقة تهرول إلى شقة حماة ملك التي قابلتها عند السلالم حيث خرجت على أصواتهم العالية ، تقول بدموع شديدة وخوف كسى ملامح وجهها:
_ ابني حسان فيه حاجه ؟؟ ملك ..ملك عرفت حاجه عنه ؟؟.
توقفت نعمه ودموعها على وجهها تقول بصوت خرج من داخلها مرتجفًا وهي تبتلع لعابها الذي جف :
_ ها لا ..لا حسان كويس يا خالتي ، ده ملك بس مفتقداه وكانت بتفضفض معايا ودلوقت دخلت أوضة الاطفال وقفلت عليها الباب ومش راضيه تفتح خايفه تعمل في نفسها حاجه .
ضربت السيدة والدة حسان على صدرها تقول بفزع:
_ يا مصيبتي ، استر يا رب ، حسان كان عاطيني النسخة الثانية من المفاتيح علشان أبقى اطلع اطمن عليها لو نايمه أو حاجه ومفتحتليش.
تحدثت نعمه بلهفة شديدة وهي تحثها على جلب تلك المفاتيح :
_ طيب بسرعه يا خالتي هاتي المفاتيح .
نزلت السيدة السلالم واتجهت إلى شقتها تحضر نسخة المفاتيح وما إن أحضرتها حتى انتشلتها نعمه من يدها وأسرعت إلى شقة ملك وهي تكاد تقع أكثر من مرة نتيجة رؤيتها المشوشة من الدموع في عينيها .
دلفت أخيرًا إلى الشقة واتجهت بسرعة صوب غرفة الأطفال ، بأيدي ترتجف كانت تضع المفاتيح بشكل عشوائي حتى انفتح الباب ، شهقت بقوة وهي تركض صوب ملك المسطحة على الأرض فاقدة للوعي ، انحنت تجلس على مقدمة ركبتيها وهي ترفع رأسها تضعها على حجرها وهي تربت على وجنتيها بضربات خفيفه ، أثناء مناداتها لها بدموع شديدة تتساقط على وجهها :
_ ملك …ملك ردي عليا.
وضعت نعمه يدها بتوتر على رقبتها لتجحظ عينيها وهي تستشعر ضعف نبضها يكاد يكون معدومًا ، أتت في تلك الأثناء والدة حسان التي كانت تنهج بقوة تقول بخوف :
_ مالها يا بنتي ؟؟.
همست نعمه بعينين جاحظتين من الصدمه:
_ ملك ..ملك …بتموت …نبضها ضعيف أوي.
شهقت السيدة والدة حسان وهي تضرب على صدرها بجزع :
_ يا لهوي أقول إيه لابني لما يرجع ؟.
نظرت لها نعمه بسخط ونظرتها تقول” أهذا كل ما يشغل بالك أيتها المرأة ؟؟ “.
أخرجت نعمه هاتفها تهاتف زوجها مرت ثواني حتى استمعت لصوته وقبل أن يكمل أخبرته بدموع شديدة أن يأتي لشقة أخته بصحبة رجال الإسعاف .
أغلقت نعمه معه ثم سطحت ملك أرضًا وبدأت بعمل إنعاش لها وضعت يديها فوق بعضهما على موضع قلبها ثم بدأت تضغط عليه بقوة وهي تناديها بدموع شديدة وبلا فائدة ، أسندت رأسها على قلبها وهي تصرخ ببكاء مفجع تهمس بجانب أذنها بصوت منخفض حتى لا يصل حديثها إلى حماة ملك :
_ ملك ..ملك أحمد هنا قومي وفتحي عيونك هساعدك تتطلقي هاجبهولك لحد عندك بس قومي أبوس ايدك .
مرت عدة دقائق أخرى كانوا كالجحيم على رأس نعمه التي ما انضبت دموعها حتى استمعت لصوت سيارة الإسعاف ، وتلاه صوت هادي المرتجف بالخوف الشديد على أخته ، رفعت نعمه رأسها تقول :
_ بسرعه يا هادي يالا شيلها .
أومأ هادي بدون كلمه وانحنى يحمل أخته متجهًا إلى سيارة الإسعاف وهو يلعن المصعد الكهربائي الذي تعطل على سوء حظهم ، كان يقفز على درجات السلم وهو يتنفس بصوت مرتفع ودموعه لمعت في عينيه ، يرى وجه أخته الشاحب شحوب الأموات ، حتى وصل أخيرًا إلى سيارة الإسعاف والتقطها منه المسعفين صعد معها ، تشبثت نعمه بذراعه والتي تبكي بقوة لرفض المسعفين وجودها معللين بأنه يسمح بمرافق واحد فقط ، نظر لها هادي قائلًا :
_ نعمه هاتي خالتي أم حسان والحقونا مفيش وقت هانطلع على المستشفى اللي على أول الطريق يالا .
*****
نظر لهم لحظات ثم عاد ببصره صوب الأوراق التي بيده وبعد قراءتها ، وضعها بهدوء على سطح مكتبه وشبك يديه ببعضهما يقول بنبرة هادئة:
_ أنتم متأكدين من قراركم ده يا أحمد ؟؟
تبادل أحمد وحسان النظرات ، رأى حسان التردد في عيني أحمد من ذهابه برفقته ، ليتجاهل نظراته تلك ثم عاد ببصره صوب الوزير يقول بنبرة جادة:
_ متأكدين معاليك .
تحدث الوزير وهو يرمق حسان بقلق :
_ يا ابني أنت لسه عريس جديد وسمعت إنك مستني ابنك.
عبست ملامح وجه حسان ثم اغتصب ابتسامه صفراء يقول بنبرة هادئة في ظاهرها :
_ شغلنا مفهوش عواطف وأنا عايز اتطوع واقدملهم الدعم وإن مُت فابني هايكون فخور بأبوه.
تنهد الوزير ثم نظر صوب أحمد الذي يلتزم الصمت:
_ وأنت يا أحمد ؟؟.
ضحك أحمد بخفوت يقول مبتسمًا:
_ وأنا ايه يا فندم ؟ لا زوجه ولا أولاد ولا أي حاجه أنا واثق من قراري ، بس ياريت تمنع ..
ضغط حسان على ذراعه بغضب شديد فأكمل أحمد بلا اكتراث بنظراته :
_ تمنع حسان من السفر ، لأنه عنده بيته ومراته ، أما أنا فـ زي ما بيقولوا على الله حكايتي وكفايه اللي عيشته لانهارده أنا عايز الشهاده يا فندم .
مط الوزير شفتيه يردد بصوت هادئ مشتحًا بقلق عليهما فهما من أكفأ ضباط الجيش لديه وخسارتهم فادحة كبيرة :
_ والله إن جيت للحق أنا رافض إنكم تروحوا لوحدكم كدا وأنتم وراكم مسؤوليات كبيرة وأهل بلاش توجعوا قلوبهم عليكم ، أنت يا أحمد عندك أم نفسها تفرج بيك وحياة قدامك لسه ، وأنت يا حسان فأنت مصيبتك أكبر زوجه وابن وام وأهل هتحرق قلوبهم ، وعلشان كدا مرواحكم انتم الاتنين مرفوض .
ختم حديثه وهو يحمل شيء ما في يده ومال بجزعه العلوي ليطبع الرفض على ذهابهم في الأوراق التي قدموها وقبل أن يلامس الختم للأوراق انتزعها حسان يقول بنبرة جادة وبإصرار غريب ملأ عينيه :
_مع احترامي لقرارك يا سيادة الوزير بس أنا مُصر .
_ حسان اللي بتعمله ده غلط ، دي عملية انتحارية ومش هشارك فيها ودلوقت رجع الورق مكانه وعلى شغلك .
أنهى الوزير حديثه ثم نظر لأحمد يقول بجدية:
_ عقل صاحبك يا أحمد.
وقبل أن يفتح أحمد فمه للحديث ، قال حسان بثبات وهدوء غريب:
_ يا فندم الأعمار بيد الله ودي طبيعة شغلنا أصلًا ، ما جايز ما اروحش واموت بردو الله عز وجل يقول في كتابه العزيز بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ۗ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ وأنا عايز ثواب الآخرة وما أراده الله كان .
صمت الوزير متنهدًا بصوت مرتفع ، ابتسم حسان بسمة واسعه ثم تقدم منه ووضع الأوراق على مكتبه يقول بمرح :
_ هاعتبر إن سكوتك هو علامة الرضا زي ما بيقولوا ، شرفنا بتوقيعك يا باشا وادعي لنا نقدر نعمل حاجه ليهم ده دورنا أصلًا نقف معاهم ونساعدهم.
وافقه أحمد في الرأي وهذا ما كان يسعى إليه إلا أنه داخله خوف مبهم على صديق عمره ، آفاق من أفكاره على حسان يسحب الأوراق من أمام الوزير بعد أن حصل على توقيعه .
وبعد مُضي بعد الوقت كانوا يسيرون متجاورين أحمد يضع يده في جيب بنطاله ، وحسان يحمل الأوراق وينظر إلى تلاميذه بفخر واعتزاز وهم يتدربون بكل قوة ، أتى إليهم محمد يقول وهو ينظر لهما بغضب :
_ عايزين تروحوا لوحدكم طب وأنا هاتسبوني لمين يا اندال ؟؟.
ابتسم أحمد مرددًا بنبرة هادئة وهو يربت على كتفه :
_ أنت لسه قدامك مشوار طويل وفرح بتجهزله ، روح افرح يا محمد ومتوجعش قلوبهم عليك .
طالعه محمد متهكمًا وهو يقول بضيق:
_ والله شوف مين بينصحني ؟؟ الاستاذ اللي رايح برجله للموت واهلك مفكرتش فيهم وأنت يا استاذ حسان ، طب أحمد والحب لحس عقله خلاص وما دام خسر حبيبته يبقى يقتل نفسه ، وأنت يا حسان عندك زوجه بتحبك ومستني ابنك وأم وأخوات مش عارف عقلك فين ؟؟؟ .
أطلق حسان تنهيدة قوية ثم أولاهما ظهره وقال ببسمة صغيرة:
_ هقولك زي ما قولت لسيادة الوزير ، لكل إنسان أجل لا ينقص ولا يزيد ، بعدين انتوا خلاص عرفتوا إني هموت ما يمكن أرجع.
توقف فجأة واستدار لهما يقول ضاحكًا :
_ بطلوا تفولوا عليا عيال واطيه ، جرى إيه يا ببلاوي أنت وهو أنتم ماشيين مع ميت ادفنوني وريحوني كاتكم القرف عيال كئيبة .
قال حديثه وتركهم ورحل ، نظر أحمد لمحمد بيأس وهو يقول :
_ بحاول أقنع فيه مافيش فايده منشف دماغه ، وعلى رأيه يا محمد العمر لا بيزيد ولا بينقص اللي ربك رايده نافذ في آية جميلة جدًا بتمثل اللي حسان بيعمله ربنا سبحانه وتعالى بيقول ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ۗ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَـٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَـٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَـٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ سلمها لله مفيش مهرب من الموت .
نظر محمد إلى أثر حسان الذي ابتعد عنهم كثيرًا يقول ببسمة واسعه:
_ ونعم بالله.
*****
كانوا يقفون أمام باب الغرفة منذ وصولهم ولا أحد يخرج ليطمئنهم ، زفر هادي بخوف وهو يراهم منكبين على البكاء ، ليقول حانقًا:
_ خلاص عرفتوا أنها ماتت وقعدتوا تعيطوا ارحموني بقى واسكتوا شويه ، ملك قوية وعايشه ولسه فيها النبض .
صاحت والدته ببكاء وقلب أم مكلوم على ابنتها :
_ عايشه ؟؟ أختك ميته من زمان واحنا اللي مش حاسين بيها ، كفايه بقى فتحوا عيونكم بنتي ميته اللي جوه دي مش بنتي ، بنتي ماتت من زمان ، الانسانه الضعيفة دي اللي بتصارع الموت جوه مش ملك ، ملك راحت منا ، راحت بنتي ماتت ، ماتت ضحكتها ماتت أحلامها ماتت فرحتها السعادة مبقتش تعرفلها طريق خلاص ، سيبني اعيط براحتي على بنتي ، بنتي اللي مكنتش الضحكه بتفارق وشها بنتي اللي كانت شقيه وعامله دوشه في البيت إنما الساكته دي على طول اللي عيونها تايهه مش بنتي ، مش بنتي هاتولي بنتي .
أدمعت عيونهم من تأثير كلماتها حتى العاملين في المشفى ، اجهشت نعمه في البكاء هي أكثر من شاهدت موتها أمام عينيها ، ضيقت والدة حسان أعينها بضيق شديد من فحوى كلمات السيدة والدة ملك ماذا تقصد بكلماتها تلك ؟؟ أن ابنها مصدر تعاستها ؟؟ لولا الموقف الذي هم فيه لكانت صاحت في وجهها ولكنها أم وتقدر حالتها لذا التزمت الصمت غصبًا.
خرج في تلك الأثناء الطبيب يحدق في وجوههم بضيق شديد ، تسارعت دقات قلب هادي من ملامح الطبيب العابسه :
_ في إيه يا دكتور ؟؟ أختي مالها ؟؟
نزع الطبيب كمامته يقول بنبرة بها شيء من الحدة :
_ أنتم ازاي بالاهمال ده ؟؟ البنت تعرضت لنوبة قلبية مفاجئة من كتر الضغط اللي عليها ، في حاجه قوية مقصرة على نفسيتها هموم وحزن كبير ، ومبتاكلش أصلا ولا جسمها فيه أي تغذية ، ده أنتم لو بتعذبوها مش هاتبقى دي حالتها ، في جفاف في جسمها لا بتاكل ولا بتشرب مش فاهم خايفين عليها بالشكل ده وأنتم شايفينها بتموت قدامكم بالبطيء وساكتين ؟؟.
نزلت كلماته على رؤوسهم مثل الصاعقة نوبة قلبية ؟؟ جفاف وإهمال تغذية ؟؟ ما هذه الكلمات الكبيرة ؟؟ كل ذلك أخته تعانيه ولا يعلم عنه شيء ، انفجرت نعمه بالبكاء والشهقات وهي تخفي وجهها بيديها ، تقدم هادي من الطبيب يجر قدمه جرًا ، وهو يقول بنبرة ضعيفه وهو بلا وعي أمسك الطبيب من مقدمة الرداء الطبي خاصته يهزه بعنف :
_ هي كويسه صح ؟ قولي إنها كويسه ؟؟ قولي إنها هاترجع زي الأول .
حاول الطبيب ابعاد يديه عنه وهو يقول :
_ اهدى لو سمحت ، هي حاليًا كويسه وقدرنا نسيطر على النوبة بس مانضمنش المرة الجايه هتلحقوها أو لأ علشان كدا لازمها رعاية خاصة وابعدوها عن التوتر وأي شيء يسببلها الحزن .
ارتمت والدتها على الأرض فاقدة للوعي ، هرع هادي صوبها يصرخ بانفعالٍ شديد ، في حين هتفت نعمه تستعجل بعض الممرضين لأخذها إلى إحدى الغرف ، ذهب هادي معها بينما بقت نعمه هي ووالدة حسان.
قال الطبيب بهدوء شديد:
_ هي متزوجه صح ؟؟.
أكدت السيدة والدة حسان:
_ ايوه هي حزينة علشان ابني مش معاها بحكم شغله هو ظابط في الجيش وبيغبب كتير وشكل ده مأثر عليها .
_ طيب ما تكلموه يرجع ياخد إجازة وجود شخص بيحبها وبتحبه هيخليها تتمسك بالحياة وتقاوم اللي هي فيه .
بصوت ضعيف للغاية ، قالت نعمه :
_ ممكن أشوفها .
نظر الطبيب إلى ساعته يردد بصوت هادئ:
_ هي حاليًا نايمه ركبنالها محاليل علشان نعوض سوء التغذية وبعد ما تفوق تقدري تشوفيها ، بعد اذنكم وحمد لله على سلامتها بس رجاءًا اهتموا بيها أكتر من كدا .
شكرته نعمه ثم اتجهت لرؤية حماتها ، حينما أوقفتها والدة حسان بقولها الذي ليس في وقته :
_ هي ملك مش مبسوطه مع ابني ولا إيه ؟؟
_ ها لا طبعا مين قال كدا ؟ اومال حالتها دي إيه لو….
قاطعتها بحديثها الذي يعتريه الضيق ليس فقط في ملامح وجهها :
_ بلاش لف ودوران يا نعمه كلام حماتك معجبنيش زي ما يكون ابني سبب تعاستها ، ده أنا اللي على طول شايفه ابني مسهم وحزين وأنا ساكته ومتكلمتش ، لا شوفت فرحته بفرحه زي أي عريس ، وحطيته في بطني وسكت ، تيجي دلوقت حماتك وتلقح على ابني أنا لما مقدره حالتها كان هايبقى في كلام تاني .
ابتسمت نعمه بسمة صغيرة وهي تقول:
_ يا ست الكل مفيش حاجه من اللي في دماغك وهي أم بقى ومعرفتش هي بتقول إيه ؟ عن اذنك هروح اشوف حماتي .
تنهدت هي بضجر ثم جلست أمام الغرفة التي توجد بها ملك ، وهي تفكر في شيءٍ ما ، مرت من أمامها إحدى الممرضات اوقفتها من فورها تقول ببسمة صغيرة:
_ بقولك إيه يا بنتي ، مفيش هنا دكتورة نسا ؟؟.
_ في طبعًا يا حجه دكتورة منى اؤمري.
اتسعت ابتسامتها أكثر وقالت بهدوء :
_ الأمر لله يا بنتي ، طب ممكن تاخديني عندها .
رحبت الممرضة ببسمة صغيرة وهي تشير لها أن ترافقها :
_ طبعا تعالي معايا يارب بس نلحقها قبل ما تمشي .
*****
بعد مرور بعض الوقت …
فتحت ملك عينيها تنظر إلى السقف بتشوش ، دارت بعينيها في الغرفة باستغراب شديد ، جعدت جبينها بألم ثم نظرت عن يمينها رأت إحدى الممرضات تضبط لها المحلول المغذي ، تحدثت بإعياء شديد و دموعها طفت على السطح ، وهي ما بين الصحوة والغفوة :
_ أحمد …. آه أنا فين ؟؟ أنا عايزه أحمد ، حد قالي إنه هنا .
نظرت لها الممرضة مبتسمة ببشاشة تقول وهي تزيح حبات العرق عن جبينها :
_ حمد لله على سلامتك يا قمر ، ثواني وهشوف حد من أهلك برا .
عادت ملك تهمس بدموع شديدة:
_ هاتيلي أحمد لو سمحتي ، مش عايزه غيره.
أومأت الممرضة بهدوء ثم ذهبت ، وقعت عينها على السيدة أم حسان تجلس على إحدى المقاعد ، اقتربت منها تقول ببسمة صغيرة:
_ المريضة فاقت وبتقول إنها عايزه تشوف
أتت في تلك الأثناء نعمه بعد اطمئنانها على حماتها ، بينما ذهب هادي ليحضر لهم بعض الأطعمة والمشروبات ، تقطع عليها حديثها وهي تلهث لتوقعها شيء كهذا ، ابتسمت بتكلف تقول :
_ تمام أنا هدخل اشوفها الأول.
قالت الممرضة باستغراب :
_ بس هي طالبه تشوف…
ومجددًا قاطعتها نعمه وهي تقول بنزق:
_ خلاص بقى ما هو مش هنا ده مسافر مش أنتِ قصدك تشوف جوزها مش كدا يا خالتي ؟.
قالت والدة حسان بتأكيد :
_ أيوه هو مسافر .
طالعتهم الممرضة باستغراب شديد وحدسها انبأها بأن من طلبت رؤيته ليس زوجها كما يدعيان ، لكنها لم تملك سوى أن تومأ برأسها بصمت ، ثم ذهبت من أمامهم بعدما أوصتهم بألا يجهداها.
نظرت نعمه للسيدة والدة حسان :
_ طيب يا خالتي أنا هدخل اطمن عليها ولو هادي سأل عني قوليله إن ملك فاقت .
_ لا خليه يستنى شويه أما الدكتورة تمشي وقتها يبقى يدخل يشوفها .
ضيقت نعمه عينيها تقول بشك وهي من داخلها تتمنى ألا يكون ما خطر على بالها صحيحًا:
_ دكتورة إيه دي ؟؟
ابتسمت في وجهها باصفرار وهي تقول :
_ دكتورة نسا وتوليد.
أغمضت نعمه عينيها حدث ما كانت تخشاه ، رفعت يدها تحك جانب جبهتها وهي تقول ببسمة مغتاظة:
_ اممم وهو ده وقته يا خالتي .
خفت صوتها وهي تقول بدموع وغصه تشكلت في حلقها:
_ وقته ونصه ادينا في المستشفى نطمن زيادة بقوا داخلين على الشهر الخامس ومفيش حمل ، وأنا أم وعايزه اطمن على ابني ، قدري حالتي أنا هموت على حفيد يا نعمه ، حسان هايسبني أنا حاسه وعايزه أثر منه يا بنتي ، كل ليلة بدعي إنها تكون حامل كل ليلة بودعه كأنها الليلة الأخيرة وكل أملي يبقى ليه حس في الدنيا دي .
عضت نعمه على وجنتها من الداخل وهي تنظر لها بعينين دامعتين وبلا مقدمات أخذتها في حضنها لتجهش في البكاء أكثر وهي تقول :
_ شوفت له رؤية في وقت صلاة الفجر كأنه بيودعني أنا قلبي حاسسني والله ، إنها آخر مرة هشوفه.
انتفضت نعمه من شدة البكاء ، تربت على ظهرها بلطف وهي تغمض عينيها ولسان حالها يقول :
_ وآخرة الصمت ده إيه ؟؟ ايه هيحصل تاني ، قلبي بيتقطع عليكم كلكم مش عارفه ألوم مين وكلكم مظلومين .
ابتعدت عنها السيدة أم حسان تمسح دموعها وهي تقول :
_ بصي أنتِ ادخلي اطمني عليها وأنا هروح استعجل الدكتورة كانت في أيدها مريضه .
تبسمت نعمه في وجهها وهي ترفع يدها تزيل دموعها المستمرة الهطول ، ثم ذهبت إلى ملك ، فتحت الباب وقفت خلفه تستند عليه بظهرها وهي تعض على يدها لتكتم أصوات بكائها ، فتحت ملك عينيها ببطء وهي تستمع لصوت أنين باكي ، لتقع عينيها على نعمه المنفطرة من البكاء ، حاولت ملك الاعتدال وهي تقول بنفس متثاقل:
_ نعمه …نعمه أحمد هنا ؟ .
صرخت نعمه بتهكم شديد لأول مرة متجاهلة وضع ملك الصحي رامية بكلام الطبيب عُرض الحائط :
_ داهيه تاخده علشان نرتاح ، كفايه بقى هنعذب مين تاني معانا في سكوتنا ده ؟ الست الغلبانه اللي برا دي اللي أمنية حياتها يبقى ليها حفيد يعوضها عن ابنها ،ولا حسان اللي اخدتيه سلم علشان تعدي وتخرجي من هوسك ؟؟ هنظلم مين تاني بسبب حبك المريض ده ؟؟ ، أحمد مشي يا ملك ، هو محبكيش ، هو خذلك واتخلى عنك ، أحمد مات خلاص فوقي بقى وكفايه تعبتي نفسك وتعبتي اللي حواليكِ .
شهقت ملك بقوة وهي تحاول التقاط أنفاسها بينما غامت عيونها بالدموع ، تقدمت نعمه منها وهي تتابع حديثها والرؤية مشوشة في عينيها فلم تلحظ صعوبة تنفسها:
_ حماتك راحت تجيب لك دكتورة تكشف عليك تشوف ليه ما حملتيش ؟؟ هتقوليلها ايه ؟؟ انطقي ياما قولتلك ابعدي هتندمي صدقيني ، ماسمعتنيش عاندتي وشوفي نتيجة عِندك إيه ؟؟ دمرتينا يا ملك دمرتي أم مغلوبه على أمرها ، كل ثانية عايشاها في قلق وخوف واللي مصبرها تكوني حامل هتعملي إيه دلوقت ؟؟؟ ماتسكتيش سكوتك بيعذبنا لايمتى هانفضل ساكتين لايمتى هتفضلي ساكته ؟؟؟.
كانت ملك مستمرة بالشهقات وأصوات تنفسها هي الطاغية ، تنظر إلى نعمه بدموع وهي تحاول الحديث :
_ نـ …عـمـ….
تنبهت الأخيرة على حالتها لتصرخ بخوف شديد وهي تنادي على الأطباء ، دلفت الممرضة وبرفقتها الطبيب ، بينما نعمه التصقت بجدار الغرفة مصعوقة مصدومة لقد قتلتها ، وضع الطبيب جهاز الأكسجين على وجه ملك ، التي غابت عن الدنيا وصوت حاد بات هو المسيطر على الغرفة صوت انبأهم بتوقف قلبها ، ظل الطبيب يصعقها بالصدمات الكهربائية مرة تتلوها مرة ومع كل انتفاضة لجسدها تزداد نعمه بكاءًا وهي تدعي بصوت مرتفع والممرضة تحاول إخراجها من الغرفة بصعوبة .
******
بعد مرور أسبوع…….
كانت تلازم فراشها كعادتها منذ أسبوع ترعاها خير رعاية ، كل ثانية وأختها تمسك بيدها تقبلها وهي تقول ببسمة صغيرة والدموع في عينيها :
_ حبيبتي أنا آسفه آسفه كتير ، عارفه إنه مش ذنبك بس سامحيني لأني انفعلت عليك كدا ، افتحي عيونك يا ملك .
ربت هادي على كتف نعمه وقال وهو يكبت دموعه فمنذ أسبوع وهي تستيقظ تتطلع لهم بشرود للحظات ثم تغيب عن الوعي :
_ كفاية يا نعمه أهلكت نفسك ، هاتبقى كويسه إن شاء الله.
طالعته نعمه بعيون حمراء من البكاء:
_ أنا كنت هموتها مراعتش حالتها الصحية انفعلت عليها أوي يا هادي أنا آسفه آسفه كتير.
تنهد هادي وهو يضمها إلى صدره :
_ اهدي الدكتور قال ممنوع التوتر هنا وإلا هيخرجنا ، أنا مش فاهم لحد دلوقتي ليه عملتي كدا ؟
بتوتر شديد قالت نعمه وهي تستغفر الله في داخلها ، باتت كاذبة محترفة :
_ كنت …كنت بعاتبها على إهمالها في نفسها وإنها محكتلناش تعبها وكدا ، أنت عارف بحبها إزاي وبعتبرها أختي الصغيرة وحصل اللي حصل .
ضمها هادي له أكثر وأردف وهو ينظر لأخته بحزن :
_ ربنا يخليكم لبعض يا حبيبتي ، أنا هروح اطمن على أمي واجيلك.
أومأت نعمه وابتعدت عنه ، خرج هادي وهو يمسح على وجهه حينما وقعت عينه على والدة حسان تجلس على إحدى المقاعد وهي تبكي بصمت ، رق قلبه لحالها ووجد نفسه يسير باتجاهها قال بعد أن جلس بجانبها :
_ مالك يا ست الكل ؟ هاتبقى كويسه وزي القط معلش بقى الحب وسنينه وهي جوزها واحشها ، أنا حاولت كتير أتواصل معاه مش عارف تلفونه خارج التغطية .
بدموع وصوت ضعيف قالت :
_ ابني راح يا هادي ، راح للموت برجله .
ضيق هادي عينيه يقول باستغراب :
_ مش فاهم يعني إيه ؟؟ .
_ سافر بقاله أكتر من اسبوع هناك عند اللي ما يتسموا دول ، علشان يساعد أهل غزة اتطوع هو وواحد صاحبه وراحوا والأخبار ما تطمنش شغالين قصف فيهم .
أغمض هادي عينيه وهو لا يدري ما يقول ؟ إن سمعت أخته بهكذا خبر فلن تنهض بعده ، فكما يرى هو من وجهة نظر أن ما تعانيه أخته بسبب تلك الزيجة وسفر حسان المقارب على الشهرين.
لدرجة أنه فكر بمجرد أن تتعافى يطلقها منه ، يكفيها توترًا وخوفًا فليذهب هذا الحب المهم أن تبقى معه وتعود لها ابتسامتها .
*****
بعد مرور شهر ……
وهناك حيث الأصوات المكلومة والجثث المنتشرة في كل مكان والمنازل المحطمة ، كانوا يتخفون أسفل الركام ملابسهم كساها التراب والدماء ، أدمعت أعينهم من تلك المجازر التي يرتكبها الكيان الملعون في كل أرض وكل سماء ، وكل كتاب أنزله الله عز وجل ، تساقطت دموع أحمد بقوة وهو يرى أصدقائه أو الباقي منهم حيث تنتشر أشلائهم في كل مكان ، ردد بصوت مرتفع يناشد الرحمن .
_ لطفك يا رب .
خرج من مكان تخفيه يحاول التغطية على زملائه ريثما يعبرون للجهة الأخرى حيث من المفترض مهمتهم إخراج النساء المخطوفات والأطفال.
كان يعرج بقوة وهو يسير أمامهم بلا خوف يحمل سلاحه في يده يطلق عليهم ودموعه على خده ، نفذت الذخيرة منه وقام أحد الجنود الإسرائيليين بضربه بشدة على قدمه فوقع على الأرض يرفض الصراخ وإظهار ضعفه لهم ، لم يجعله يرى منه سوى ابتسامه واسعه حينما رأى ملاكه تبتسم له وبيدها الناعمة تمسح له دموعه ، همس هو لها بعد أن تلا الشهادة بصوت مرتفع :
_ بحبك يا ملك سامحيني .
ثم أغمض عينيه مُرحبًا بالموت ، ثانية ثانيتين ولم يشعر بشيء فتح عينيه مصعوقًا وهو يرى حسان يقف أمامه متلقيًا تلك الطلقات بنفسٍ راضية بعد أن قتل ذلك الصهيوني النجس .
نهض أحمد يصرخ بانفعالٍ صرخة شقت جدران المنازل ودموعه تهبط بقوة ، يلتقط جسده بين أحضانه وهو يفتح فمه على آخره يصرخ صرخات متتالية وهو يجر جسده صوب أحد المنازل المهشمة يردد باستنكار:
_ ليه عملت كدا ؟؟ كنت بأمنلك المخرج رجعت ليه ؟؟ اخدت الشهادة مني يا حسان ؟؟؟ ليه ؟؟ .
سعل حسان بقوة وقال وهو يبتسم بسمة واسعه :
_ كنت عايزني اسيبك يا أحمد أنا أول ما خرجت الجنود ووصلنا للسجن وخرجناهم وملقتكش عرفت إنك رايحلهم وأول ما لقيت النجس ده هيقتلك ، كنت عايزني أغمض عيني وامشي ، لو أنا مكانك كنت هاتسيبني يا أحمد ؟؟ شايفني ندل للدرجة دي ؟؟ .
مسح أحمد على وجه حسان وهو يبكي بقوة يقول :
_ ايوه كنت خليك ندل وامشي ، امشي أنا قولتلك أنا ميت من زمان يا حسان ، لكن أنت…..
قاطعه حسان وهو يسعل قائلًا بنفس متثاقل :
_ وأنا بردو طلعت ميت محدش أحسن من حد ، متزعلش ده عمري يا أحمد والحمد لله إني هموت هنا وهموت موته شريفه هدخل الجنه من غير حساب …
صمت لثواني ثم أكمل وهو يحاول الضحك :
_ ده أنا كنت عامل بلاوي يالا ربك ستر واديني هدخل الجنة شهيد ، مفيش أفضل من كدا ، ولا أحسن من دي خاتمه ، ما تخلكش حقود ياض أنت وافرح لي من قلبك .
أسند أحمد رأسه على رأس حسان يبكي بقوة وهو يضم جسده إليه ويده تضغط على مكان الطلقة :
_ لا لا أنت مش هتموت أنت هتعيش يا حسان هنروح الجنه سوا أنا مش هاسيبك تسبقني .
رفع حسان رأسه للسماء يردد ببسمة واسعه:
_ الحمد لله يارب الحمد لله ، قول لأمي متزعلش وتفتخر بيا ، سلام يا صاحبي .
صمت لثواني وهو يشعر بثقل في لسانه :
_ ماتـ..الوصية يا أحمد …الوصية كاميـر …..
صرخ أحمد بأعلى صوته وهو يراه يردد الشهاده يشهق بقوة :
_ أشهد أن …. لا إله ….إلا الله ….وحده لا شريك له … واشهد أن محمد …… عبده ….. ورسوله .
تزامن ذلك مع دخول قوة عسكرية كبيرة أغلبهم من الضباط المصريين الذين أرسلهم الوزير لمساعدتهم ليبكي أحمد بكل طاقته وهو ينظر لوجه حسان الذي أغمض عينيه للأبد وعلى محياه ابتسامة عريضة :
_ في الجنة ونعيمها يا صاحبي ، ربنا يرحمك يا حسان .
*****
في مصر …بعد مرور يومين
وتحديدًا في شقة حسان _ رحمه الله _
كانوا يجلسون في الصالة الرئيسية وملك تجلس معهم جسد بلا روح استأذنت منهم ودخلت إلى غرفتها هي وحسان ، ثواني ولحقت بها نعمه قالت بعد أن أغلقت الباب خلفها:
_ حماتك مصره على رأيها هنعمل إيه ؟ الفترة اللي فاتت وأنتِ كنت تعبانه فاسكتت لكن فات شهر أهو الوليه نفسها تطمن .
جلست ملك على الفراش تقول بتعب:
_ كفايه سكوت وكدب بقى أنا بعد ما يرجع حسان هطلب الطلاق مش هقدر وإحساس الخيانة ده خانقني.
تنهدت نعمه بصوت مرتفع ثم قالت باندفاع ناسية أن ملك لا تعلم أنه تطوع لمساندة الجيش الفلسطيني :
_ ملك حسان مش هيرجع دلوقت من غزة ويا عالم هيرجع أو لأ.
توسعت عيني ملك بصدمه :
_ غزة ؟ مين قالك إنه مسافر غزة ، حسان في سينا بطلي هزار بقى .
أغمضت نعمه عيونها وعضت على شفتيها تقول :
_ أنا آسفه إني مقولتلكيش بس هو بعد ما مشي من عندك سافر على غزة والأوضاع هناك مش مستقرة ربنا يستر بقى .
شهقت ملك بدموع شديدة:
_ أنتِ بتقولي إيه ؟؟
فجأة وصل إلى مسامعهم أصوات بكاء حادة ، خرجوا من الغرفة مصعوقين وهم يرون حماتها السيدة أم حسان تسجد على الأرض مرددة بصبر واحتساب:
_ ألف حمد وشكر يارب ، ابني مات شهيد يا جماعه ابني مات شهيد وهو بيدافع عن الحق .
كانت تزيد وتعيد في نفس الكلمات وهي تبكي بشدة ، في مشهد جعل الجميع يبكي بقوة حتى الوزير نفسه الذي أتى خصيصًا لتعزيتها وأخذها للمستشفى العسكري وبعدها حضور الجنازة العسكرية في اليوم التالي.
وقعت ملك على الأرض مغشي عليها من الصدمه ، هرعوا جميعًا صوبها والكل ينادي عليها بخوف شديد أن تصاب بالنوبة مجددًا ، وتحدث الوزير بقلق :
_ براحه يا جماعه عليها ابعدوا عنها خلوها تتنفس هي واللي في بطنها .
التفت الرؤوس صوبه وأول من خرج من صدمته كانت السيدة أم حسان:
_ هي حامل ؟؟؟
أكد الوزير والضابط محمد الذي يبكي بصمت يقول بنبرة ضعيفة:
_ حسان مقالش ليكم ولا إيه ؟؟؟
هزت والدته رأسها تقول :
_ لا مقالش .
نظرت صوب ملك تبتسم بسمة صغيرة وهي تبكي :
_ ولا هي قالت أصل كانت تعبانه الشهرين اللي فاتوا دول ، يالا الحمد لله ربنا كرمني باللي هيعوضني عن ابني ، ده أنا ابني مات شهيد ، انتم بتعيطوا ليه ؟ ده شهيد .
كانت تتحدث وهي منفطرة من البكاء ، بينما نعمه تنظر بعدم تصديق إلى ملك الغائبة عن الوعي بين أحضان أخيها.
******
بعد مرور عدة ساعات
في المستشفى العسكري …..
اتجه الوزير إلى المشرحة حيث أحمد الذي يحتضن جسد حسان يبكي بقوة وهو يستند برأسه عليه ، منذ أن أتوا من غزة وهو لا يفارقه ولا استطاع أحد إخراجه ، يقول له وهو يكبت دموعه :
_ أحمد امسك نفسك شوي ، ادعي له بالرحمه والمغفره وتعالى علشان تفتتح ال …
قاطعه أحمد يردف بنبرة خافته :
_ مش هقدر ، أنا مش مصدق إنه مات وسابني ، سبوني في حالي ، حسان .. قوم رد عليا يا حسان ما تسبنيش لوحدي اتخبط بدونك ، مين هايفضل جنبي ؟ وينصحني مين هيخاف عليا زيك ؟؟ مين هيحبني ويفديني بحياته ، قوم يا حسان بطل رخامه ، قوم رد عليا أبوس إيدك ، ما اتفقناش على كدا مااتفقناش تسيبني وتمشي ، خدني معاك يا حسان أنا ماليش حد هنا خدني معاك يا صاحبي .
تساقطت دموع الوزير وسحبه من ذراعه بالقوة بينما أحمد يتشبث بجسده بكل قوته وهو يبكي وصوت بكائه قطع نياط القلوب :
_ حــــــــســـــــــان لا سيبوني معاه هو مماتش ، بيهزر معايا هو بيهزر هايفتح عيونه دلوقت وهتشوفوا قوم يا صاحبي ، قوم طمني ورد عليا !.
من شدة تمسك أحمد بجسد حسان ، كشف عنه الغطاء حتى منتصف معدته لتقع عينيه على تلك الجروح مكان الطلقات ، انهار أحمد أكثر يضع رأسه على صدر حسان ، أغرقت دموعه جسده يصرخ بقوة ، وبجواره الوزير يحاول ابعاده وهو يصرخ بانفعالٍ ليفيق أحمد:
_ اهدى يا أحمد بقولك ، حرام اللي بتعمله ده ، وقوم اطلع معايا أهله عايزين يشوفوه ، صاحبك مات شهيد وبشرف متعذبوش بعمايلك دي امسك نفسك شويه .
همس أحمد بوجع شديد يرفع رأسه لينظر إلى وجه حسان المشرق بالبياض وتلك الابتسامة تزين محياه ليبتسم بألم شديد ، يقبل جبهته بدموع شديدة:
_ هاجيلك مش هتخلص مني ، استناني أنا هاجيلك على طول ، طول عمرك بتخاف من الوحدة ، هدفن معاك في نفس القبر مش هتخلص مني يا حسان ، هانشكي همومنا لبعض ونضحك على حظنا مع الحب ، هتوحشني كتير قلبي واجعني على فراقك ومش مصدق نفسي إنك سبتني ومشيت .
هنا وأخرجه الوزير بصعوبة شديدة لم يعد يقدر على سماع حديثه أكثر ، وهو يجره جرًا وما إن خرج أحمد من بوابة المشرحة ركض بكل قوته وهو لا يرى أمامه من الدموع لدرجة اصطدم بأحدهم واوقعه أرضًا لكنه لم يتوقف حتى ليرى هل هو بخير أو يساعده ؟ انحنى هادي يمسك بيد أخته المصدومه _ لم ترى أحمد بالطبع ولا هو لاحظها _ يرفعها عن الأرض وبجواره حماتها التي أخذت تقول بقلق شديد:
_ حصلك حاجه يا ملك ؟؟ حاسه بأيه ؟؟.
لتنفجر ملك في البكاء بصوت مرتفع من إحساسها بالذنب ، ضمها أخيها بقوة وهو يربت على حجابها :
_ اهدي يا ملك علشان اللي في بطنك اهدي يا حبيبتي دي آخر أمانة من حسان ولازم تحافظي عليها .
ببسمة موجوعه قالت حماتها وهي تؤكد على حديث هادي :
_ ايوه يا ملك أنتِ دلوقت معاكِ أمانة ولازم تحافظي عليها لحد ما تسلميهاني ، ودلوقت قولي لي حاسه بحاجه ؟؟.
هزت ملك رأسها بعنف وهي تخفي رأسها في صدر أخيها.
وصلوا أخيرًا إلى بوابة المشرحة دخلت والدته أولًا ، تجلدت بالصبر أمامهم ولكنها هنا مع ابنها انفجرت بالبكاء والصراخ ، أخذت تقبل كل إنش في وجهه وهي تضمه إلى صدرها تحاوط عليه وهي تقول :
_ حبيبي يا ابني ياريتني موت ولا شوفتك كدا يا حسان ، بردان يا ضي عيوني ، أمك هتدفيك ، متخافش ابنك في عيوني هيتربى معايا في حضني هو ده اللي هيعوضني عن غيابك ، في الجنة يا نور عيني في الجنة إن شاء الله ، أنا مش بعيط أنا فرحتلك من قلبي .
ضمته إلى حضنها وأخذت تشم رائحته وهي تبكي بقوة ، ظلت على هذه الحال بضع دقائق أخرى ، تارة تقبله وتضمه وتارة تبكي على صدره ، وهي تردد ببحه صوت ضعيفه:
_ قتلوك الانجاس دول ، ربك مش هايسيبهم هاينتقم منهم أنا واثقه ، هتوحشني كتير يا قلب أمك ، مش هنساك أبدًا ، هاجيلك على طول ، مع السلامه يا حبيبي سلملي على أبوك لحد ما اجيلكم.
دخل في تلك الأثناء أخوات حسان منفطرين من البكاء خرجت والدتهم واستندت على الحائط وهي تكبت دموعها .
وعلى مقربة منهم كانت ملك تجلس على الأرض منفطرة بالبكاء كيف ستقابله بأي وجه ؟
بعد مدة خرج أخواته وجلسوا بقرب والدتهم التي أخذتهم في حضنها وتابعوا بكائهم ، وقفت ملك توليهم ظهرها وهي تقول بدموع :
_ لا مش هقدر أشوفه.
أتى إليها هادي حيث ذهب ليحضر لها بعض العصير فوجدها تتجه له وهي تبكي وتهز برأسها تقول :
_ مش هقدر أشوفه مش هقدر آه يا قلبي .
مسح هادي على وجهه بلطف يقول :
_ معلش يا ملك ادخلي ودعيه عارف الموضوع صعب عليك بس دي آخر مرة هتشوفيه فيها راجعي نفسك .
حركت ملك رأسها برفض وهي تبكي بقوة:
_ لا مش عايزه مش عايزه .
كانت خائفة من الدخول ورؤيته شعور الذنب يقتلها.
وبعد خمس دقائق ….
نجدها تقف أمامه ترتعش وتبكي بصوت مرتفع ، وهي تتمسك بيد أخيها هادي ، اتجهت صوبه تقول بنبرة ضعيفه وهي تهمس بأذنه كلمات غير مترابطه:
_ حسان أنا آسفه آسفه كتير سامحني ، الله يخليك سامحني ، أنا حبيتك على فكره يمكن مش زي ما أنت بتحبني بس مكنتش بكرهك ، أتمنى تسامحني ، عارفه إني زعلتك كتير وموت وأنت مضايق مني ويمكن بقيت تكرهني ، سامحني أبوس إيدك ، اغفر لي غلطي في حقك وسامحني آه يا وجع قلبي عليك .
ختمت حديثها وهي تقبل جبهته بدموع ثم اتجهت إلى حضن أخيها منهارة في البكاء .
******
اليوم التالي …….
تم عمل جنازة عسكرية تليق بالشهيد حسان _ رحمه الله _ وحضر الجنازة جميع الضباط والجنود الذين تولى تدريبهم والقيادات العليا في البلد ، تقدم الوزير
يلقي كلمته وهو يتحدث عن إنجازات حسان ونزاهته وتفانيه في العمل وعن تضحيته النبيلة لإنقاذ زميل له من بين براثن العدو ، مظهرًا بسالة وشرف وشجاعة قوية وتمكنه من قتله في النهاية حتى وإن خسر حياته في المقابل .
ختم حديثه وهو يقول :
_ ادعوا له بالرحمه والمغفره.
تم تقديم وسام الشرف للسيدة أم حسان بحضور رئيس الجمهورية ، وحينما أرادوا تقديم وسام لزوجته رفضت ملك الحصول عليه فهي لا تستحقه حتى الآن لا تصدق بأنه مات نزلت دموعها بقوة وشعور بالذنب يقتلها ، مات حسان وتركها مع كذبة وأمل زائف لا تدري كيف تخرج منه ؟؟.
لعلكم تتسألون عن أحمد ، كان يجلس بجوار التابوت الموضوع فيه حسان يتحدث معه وكأنه ما زال على قيد الحياة ، وبجواره محمد ذا العيون الحمراء وضع يده على كتفه :
_ اهدى يا أحمد وأمسك نفسك صاحبك مات بطل ، اعتقد خلصوا يالا علشان صلاة الجنازة .
*******
بعد مرور شهرين على وفاة حسان ……
كان أحمد يجلس في المسجد وأمامه إمام المسجد الذي ينتظر ما سيقوله ؟ ولما طال الصمت قال هو وهو ينظر إلى ساعة يده :
_ ها يا ابني هتفضل ساكت كدا؟ ورايا كتب كتاب ، ومناقشة في المؤتمر .
ابتلع أحمد ريقه يقول بنبرة هادئة:
_ هي وصية الميت حكمها إيه ؟؟.
_ واجبة التنفيذ طبعًا .

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية الصمت المعذب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى