روايات

رواية رد شرف الفصل الخامس 5 بقلم وسام الأشقر

موقع كتابك في سطور

رواية رد شرف الفصل الخامس 5 بقلم وسام الأشقر

رواية رد شرف البارت الخامس

رواية رد شرف الجزء الخامس

رد شرف
رد شرف

رواية رد شرف الحلقة الخامسة

جلس فوق أحد المقاعد الجلدية مربعة الشكل، ينظر لساعة معصمه الجلدية بين الحين والآخر، تاركا أمر مساعدتها لعاملة المحل بعد أن هبّت لخدمته صاحبة المكان والتي بدورها رشحت له أفضل العاملات لديها لتقدم فروض الولاء والطاعة لمعرفتها المسبقة لهويته الشهيرة زمن لا يعرف باسم “طاهر عُمران شافي” التي تملأ تصاميمه أشهر تلك المحلات، رفع رأسه عندما استشعر أخيرا أنه ليس بمفرده، ليجد العاملة بزيها الرسمي تشير له لغرفة استبدال الملابس بالداخل تخبره بأنها لقد ساعدتها بقياس كل القطع المختارة من قِبلك، ولكنها ترفض الخروج من الداخل، يبدو أنها خجلة منه، دقق في كلمات العاملة بدون رد فعلٍ يحلل كلماتها فكل ذلك الوقت كان في انتظارها ليقيّم الملابس فوق جسدها، جسدها الـــ…! لا لا يجب أن ينخرط في تلك الأفكار الآن، تحرك بهدوءٍ حتى وصل لغرفة الملابس بعد أن أمر إياها بالانصراف لتكمل عملها، أجلى صوته ببعض الحرج بسؤاله:
-هتفضلي جوا كتير؟ المكان هيقفل علينا إحنا الاتنين، ووقتها ماتلوميش إلا نفسك.
كانت مداعبة لم يستسغها هو نفسه، كان فقط يحاول إجبارها للخروج، وصله الصمت منها، فظن أنها لم تسمعه كاد أن يحاول التحدث بجدية لتظهر، إلا أنه سمع همهماته غير مفهومة دفعته لتضيق عينيه مستفهما، ليسألها بريبة:
-في مشكلة عندك؟
اندفعت تجيبه ربما يساعدها:
-لأ! قصدي أيوا، مش عارفة؟
نظر جانبه ليلاحظ خلو المكان وانشغال العاملات مع الزبائن، فسأل بحرصٍ حتى لا يفزعها منه:
-طيب ينفع أفتح الباب، إنت لابسة مش كدا؟
وصله جوابها بالموافقة بحرج بائن، سحب سريعا الباب المتحرك جهته، يقف للحظة بثباتٍ يمرر عينيه فوقها انفصل فيها عن عالمه الخارجي وهو يمسح بعينيه فوق جسدها الممشوق الملتف بتلك البذلة الرسمية التي كانت من اختياره؛ لتعطيها طابع رسمي أثناء عملها الجديد، ابتلع ريقه وعيناه تلتقط قميصها الوردي الحريري أسفل سترة بذلتها القصير متناثر حولها خصلات شعرها القصير بشكلٍ بدا غير مرتبا إلا أنه لم يفقدها سحرها، سألها يتدارك نفسه عندما شاهد يدها تحاول حل عقدة ما بسترتها:
-مش فاهم فين المشكلة؟
-شعري، شعري شبك في زرار البدلة، مش عارفة أقلعها.
بنظرة تفقدية لاحظ أحد الأزرار المعدنية بلياقة سترتها يلتف حوله إحدى خصلاتها، يبدو أنه أصر ألا يحررها منه، لم يمهلها الخيار عندما امتدت يده تسحبها من ذراعها فجأة للخارج بجرأة وكاد أن يتلامسا لولا تداركها السريع بالتوقف، استقرت أمامه مجفلة من تصرفه الغريب وبدأت أنامله تتفحص ذلك الزر الكبير متعجبا من التفاف خصلتها حوله بذلك الشكل العجيب لمجرد ارتدائها لبعض الدقائق قرب وجهه يميل عليها لفرق الطول بينهما، ونطق بحيرة وهو يقرب وجهه يتفحص عقدة خصلاتها بروية حتى لا يُدفع لقص تلك الخصلة في نهاية الأمر، تاركا لأمر أنفاسه تمتزج بأنفاسها لأول مرة:
-شكل الجاكيت حبك أوي، عشان كدا مش عايز يسيب شعرك.
كانت لأول مرة تجبر أن ترتدي مثلها، لتخبره رافضة:
-مش حباها، مش عاوزة ألبس اللبس دا.
أجابها بجدية، يفرض سطوته:
-مش بمزاجك، مالكيش خيار.
لم تفهم مقصده بأنها ليست مخيرة في الأمر وقد غاظها تحكمه بالغ، ولكن شعورها المفاجئ بتحرر خصلاتها مع زوال ألم رأسها، دفعها للنسيان اللحظي عما كانت مقدمة عليه من تذمر، مسحت فوق خصلاتها تغمر أصابعها الرفيعة بهم محاولة تمشيطه وترتيبه ليعود مرتبا كما كانت قبل لحظات، تفاجأ هو بمحاولتها للتحرر من أزرار سترتها لنزعها عن كتفيها، ليوقفها بسؤاله الجدي يدفن يديه بسرواله:
-هتعملي إيه؟
-قولتلك مش لايقة عليا.
قارعة بجدية:
-أولا إنت ماقولتيش كدا، قولتي إنك مش حباها، ثانيا أنا إللي أقول وأحكم على لبسِك؛ أنا المسئول كليّا عن دا، إنتِ مش مخيرة معايا.
-يعني إيه؟
شدد في حديثه:
-يعني إللي يشتغل مع “طاهر عمران شافي” لازم يكون على قد المستوى المطلوب للشغل مش معقول تكون المساعدة بتاعتي أزياءها أكنها بتشتغل في جيم رياضي، ودا إللي أنا عاوزه ومش هتلبسي إلا دا.
فرغ فاهها بصدمة من عجرفته المبالغة، لتلاحظ خفضه لنظارته الشمسية على وجهه والتي كانت طيلة الوقت مستقرة أعلى رأسه تاركا إياها خلفه، قائلا بصوتٍ مسموع يأمرها:
-شيلي شُنط لبسك، وتعالي ورايا!
شاهدته يبتعد من أمامها بذهولٍ وهو يسير بالمكان بكل ثقة كطاووس يضرب الأرض ملقيا سحره، متجها لمكان المحاسبة، نكست رأسها تنظر لحذائها الرياضي برعبٍ فأي ورطة أوقعتها في طريق ذلك المريب، كارثة أن يطلب منها ارتداء أحذية مدببة فهذا ما كان ينقصها.
****
أمسك بكعب السكر الماسي يضيفه لسائل القهوة السوداء محركا ملعقته المعدنية بهدوء بسائلها ليمتزج معها ويضيفٍ طعم حلاوة يقاوم مرارته، أمام عينيها المتفحصة المستريبة في شخصه، دفع بالقدح فوق الطاولة المصقولة بينهما ليستقر أمامها متأرجح سطحه بهدوء، يدعوها لارتشافه بصمتٍ كعادته، رفعت عينيها تمسح بهما المكان الهادئ كروّاده من الطبقة المخملية الناعمة، وقد ضربتها برودة سريعا لشعورها المفاجئ بضآلتها بينهم بملابسها البسيطة، انتبهت لصوته الجدّي يأمرها:
-إشربي القهوة قبل ما تبرد.
-ممكن أعرف إحنا هنا ليه؟
رفع قدح قهوته يرتشف منه بضع رشفاته، ينظر للمشهد الخارجي للبحر من خلف جدار زجاجي، يخبرها ببعض المراوغة:
-ما حبتش أروح بيكِ للمطعم إللي كنتي شغاله فيه، وكمان حابب أتناقش معاك في بعض الأمور إللي خدت بالي منها الأسبوع إللي فات.
ضيقت عليه الخناق بسؤالها:
-وهو كل ما حضرتك تحب تناقش موظفينك بتجيبهم هنا؟ ولا دا شيء استثنائي ليا؟
ثبات نظراتها على وجهه ألجم كلماته للرد اللاذع ومواجهته الحادة على سخريتها، هو نفسه لا يعلم لم اهتم أن يقتني لها ملابسها بنفسه وليته اكتفى بالأمر إلا أنه قام بابتياع ست أزواج من الأحذية العالية ذات الكعوب الدببة التي تلائم مظهرها الجديد، أراح جزعه بأريحية أكبر ولم يظهر عليه أي توتر ليجد نفسه يجيبها بصدقٍ اعتبرته وقاحة:
-شيء استثنائي ليكِ.
تشككت في نواياه، بل تأكدت منها، لتستفسر بحدة:
-نعم!
تأهبت لعراكه عندما لمحت تلك النظرة من عينيه يمسح بها جسدها يعريها بوقاحة، فألجمها إضافته الهادئة وأربكها:
-استثنائي زي كل الامتيازات اللي قدمتها ليكي في الأسبوع إللي فات، تنكري؟
-أنا ما طالبتش امتيازات، أنا طلبت شغل وبس.
أراح مرفقيه فوق الطاولة ليجذب تركيزها أكثر، يوضح لها:
-في حالتك لازم بعض الاستثناءات وإلا مش هتشتغلي، زي مثلا مين المكان إللي هيقبل يشغل واحدة بدون أوراق رسمية، أقل شيء هيطالب ببطاقتِك الشخصية إللي أنا ماطالبتش بيها لحد اللحظة دي، دا غير بياتِك في مكتبي وأنا عمري ما سمحت لحد يخترق حدودها.
أضافت بوجع حقيقي:
-نسيت شراك للبسي وجِزمي.
ابتسم بخفة على إضافتها الجديّة يصله ذبذبات توترها، منتظرا سؤالها التالي الذي يحتمه الوضع بينهما، نطقت بريبة من الهدف من خلف كل تلك العطايا والهبات، من المستحيل أن تكون مجانية:
-ممكن أعرف إيه المقابل لكل دا؟ حضرتك مش هتقدم استثناء إلا ولازم قدّامه ثمن، مش هيبقى إحسان!
بشكلٍ تمثيلي ساخر نظر لأعلى يفكر في جوابها، مغمغما:
-إيه السبب يا ترى؟ إنتِ واحدة ذكية جدا بعيدا عن توترك الزايد وخوفك من حاجات تافهة، بس ذكية عنيكي بتقول كدا، يا ترى إيه السبب؟
-دا مش جواب!
انفعالها جعل للأمر متعة، وحبا في مراوغتها ليستكشف ما يخبئه عقلها:
-أحب أسمع إللي بيدور في راسك؟
-أنا مش للشرا ولا للبيع “طاهر” باشا، بتهيألي غلطت في العنوان، ودا غلطي مش غلطك لأني أهملت كل الإشاعات إللي بتتقال عنك.
كادت أن تتحرك ساحبة حقيبة يدها، إلا أنه فزعها بنبرته الحادة:
-أقعدي، أنا مسمحتش بإنك تمشي.
تصلب جسدها ولم تعاونها ساقيها للتحرك مبتعدة عنه، لتسمعه يضيف ببعض الجدية سؤاله المترقب:
-مصدقة إللي بيتقال عني يا “نور”؟
اندفعت بغيظ غير مبرر تجلس مكانها، تسأل ساخرة:
-عاوز تقول إنها كلها إشاعات وإنت غير مذنب، وإنّك ما عملتش إللي بيقولوه؟ مافيش دخان من غير نار.
-أنا ما أنكرتش ولا قولت لا، تفتكري لو أنكرت حد هيصدقني؟ إنتِ مثلا هتصدقيني؟
-أنا أنا…!
-(التعلم والخبرة لا ينتجا إلا مع اختراق التَجربة)، و.. وإنتِ عليكِ تتأكدي بنفسك إن كنت مذنب ولا بريء.
نفضت رأسها تشيح بوجهها عنه رافضة أسلوبه الملتوي، تخبره صدقا:
-دا مايهمنيش، ومش مجبرة إن أخوض التجربة عشان أعرف الحقيقة.
-أنا موافق إنه مايهمكيش، بس إنت مجبرة تخوضي التجربة لأن ببساطة إنتِ محتاجة الشغل عندي، وقتها هسيبك تختاري تكملي معايا أو تسيبي الشغل وتشوفي غيره.
صمتت تزن الأمر بعقلها فربما هو بريء براءة الذئب كما يحاول أن يظهر، ولكنه لم يحاول تبرئة نفسه أو دَفع التُهم عنه، نظر إليها يتمعن في تقاسيم ملامحها يلاحظ لمحة الحيرة واضحة تحيطها، أضاف سريعا يهدئ قلقها:
-عشان تكوني مطمنة أنا مش عاوز منك أي متعة جسدية زي ما عقلك بيحاول يشكك ويوهمك ولا دلوقت ولا بعدين، أنا هدفي أسما من كدا.
احتقن وجهها بالحمرة من تصريحه الوقح بأنه لا يفكر بها بتلك الطريقة، لم غاظها الأمر؟ هل اعتبرته إهانة مباشرة لأنثى تشع فتنة مثلها، فاجأها بنبرة مغايرة وهو ينظر لشاشة هاتفه بإهمال:
-ممكن أطلب بقى الأكل ونعتبره عشاء عمل، وأطلب منك بطاقتك إن أمكن؟
شحبت ملامحها لطلبه الأخير، لتجد نفسها تغمغم بصدمة:
-بطاقتي!
همست بربكة من طلبه:
-بطاقتي؟
***
يوم جديد يضاف لعمرها كان له مذاقه الخاص المميز عن باقي أيامها قبله، حتى الآن لا تصدق أنه مر عليهما ثلاثة أسابيع معه، يلتزم فيها هو بجديته وعمليته وتحرص هي على التفاني في عملها لتثبت له قدرتها على الإلمام بتفاصيل عمل، يعمل فتعمل، يأكل فتأكل، حتى وقت الراحة لا تمتلكها إلا بعد أن يأمرها هو بأخذ قسطا منها لترخي عضلاتها المتيبسة، أجفلت عندما قرب ذلك الرجل الكهل القدح منها يقطع شرودها، لتقول بامتنانٍ بالغ:
-شكرا عم “حسني”، فعلا كنت محتاجة القهوة دي، راسي هتنفجر من الصداع.
-إنتِ تؤمري يا بنتي.
تذكرت أمرا فتلهفت بسؤاله:
-“طاهر” بيه وصل ولا لسه؟
حرك رأسه ببسمة بشوشة يخبرها:
-وصل هو والأستاذ “أنس”، هجهز لهم القهوة دلوقت.
اتخذت نفسا عميقا بالراحة لوصوله مكانه، تخبره ببشاشة تنوب عنه:
-كويس، هشرب قهوتي هنا، لحد ما تخلص قهوتهم وأخدها وأنا رايحة لمكتبه.
***
طرقت الباب بخفة يليها دفعه بكتفها بحرصٍ حتى ألا تسكب أقداح القهوة من فوق حامل التقديم وتفسد الأمر، قاطعة أمر جدالهما الواضح لأمر أرجعته بضرورته إلى ذلك المهرجان المنتظر الذي سيطيح بآخر ذرات تعقله إن فشل في المشاركة به بعد أيام معدودة، توقفا عن الحديث وشعرت بضآلتها وأنها كادت أن تختفى عندما التقطت زوج عينيهما معلقتان بها، أربكها صفيرٍ صدر من بين شفتي “أنس” معلقا بتواقح كعادته التي اعتادتها معه:
-عم “حسني” بنفسه إيه الجمال دا؟
ابتسم “طاهر” على دعابة صديقه الثقيلة، محركا رأسه بيأسٍ من تصرفاته الصبيانية، يعلم أن لن يمر اليوم إلا وأطلق سخافته عليها كعادته اليومية منذ عملها بالمكان معهم ليزيد حنقها، لاحظ سريعا احمرار وجنتيها غيظا من تصرفه، تخبرهما تكبح غيظها:
-عم “حسني” كنت عنده وعرفت أنه بيعملكم القهوة، غلطانة أنا إن عاوزه أريحه شوية.
أضاف “أنس” بوقاحة:
-أنا شايف إن شغل البوفيه لايق أكتر عليكِ.
زمجرت بحنجرتها، تدفع الحامل فوق المكتب، تحذره:
-مستر “أنس”!
نظر “طاهر” لوجه القهوة المفسد بعدم رضا، وهو يعلم إن أشعل فتيلها “أنس” فلن تهدأ إلا بعد أن تقدم كلماتها اللاذعة له وتصيبه، نبهه بضيقٍ:
-“أنس” خِف من رخامتك شوية، حتى سيب لها ذكرى كويسه تفتكرك بيها بعد ما تسافر.
كتفت ذراعيها بتهكم، تضيف:
-دا لو حد افتكره من الأساس، إللي زيه يرموه وينسوه.
احتقن من ردها، فصاح معترضا:
-شايف بعينك هي إللي بتطول لسانها.
أخرجت له لسانها بشكلٍ طفولي تزيد غيظه عندما أمرها “طاهر”:
-أقعدي يا نور، كلامنا كان عنك كويس إنّك جيتي.
-عنّي أنا؟
أضاف “أنس” عندما لاحظ شحوب وجهها:
-ماتخافيش مش هيمشيك من الشركة، إطمني إنت حيزبون قعدتي ولزقتي.
نهره “طاهر”:
-“أنس” خلينا نتكلم بعقل شوية أنا مش فاضي.
مرر عينيه على وجهها عندما ضمن صمته، يخبرها بعملية:
-أيوا عنك إنتِ، إنت عارفة إن “أنس” هيسافر لمراته وهيريحنا من سخافته، وهيسيب شقته هو كان مأجرها بشكل سنوي وفاضل في الإيجار ست شهور.
-أيوا عارفة بس إيه علاقتي بالموضوع؟
حك ذقنه الحليق، يخبرها:
-اقترح “أنس” إن يسيب الشقة ليكِي المدة دي لحد ما ندبر مكان سكنك، ولو ارتحتي فيها ممكن نجددلك العقد.
ارتجفت من فكرة مكوثها في شقة ذلك المتلاعب، وهي قد ارتاحت في مكوثها بالشركة:
-ليه؟ هو في مشكلة في إني ببات في المكتب؟
عبس كلاهما لتفكيرها، كان يظنا أنها ستطير بأجنحتها فرحة، فسأل “أنس” بعدم رضا:
-إيه الغباء دا؟ بيقولك هيكون ليكي مكان خاص بيك تقوليله المكتب، مش قولتلك مجنونة ومش طبيعية ما صدقتنيش، بتهيألي طموحها أكبر من الشقة وطمعانة في فيلتك يا “طاهر”.
لم يبتسم “طاهر” على دعابته، ليجدها تنفي اتهامه بحرصٍ:
-أبدا والله ما أقصدش، بس..!
أخبرها “طاهر” يطمئنها رغم غرابة الأمر:
-لو خايفة من الإيجار، إيجارها مدفوع.
قطع نظراتهما العميقة التي احتار فيها “طاهر”، يشعر أنها تخفي شيئا غير واضحا، رنين “أنس” الذي أسرع في تلقي مكالمته، ليجده ينفعل قائلا:
-إيه؟ إيه المصيبة دي؟
عقد “طاهر” حاجبيه، متسائلا:
-في إيه؟
ابتأس يخبره:
-“جاكلين” بتكلمني من المستشفى، بتقول رجليها اتكسرت.
شاهدته يزم شفتيه بيأسٍ تملك منه وكأن دلو من المياه البارد سقط فوق رأسه، كادت أن تسألهما عن تأزم الأمر، فأضاف “أنس” يوضح:
-كدا بدل ما هندور على واحدة محتاجينها، هندور على اتنين يا “طاهر”!، إيه النحس دا؟
***
لا يصدق أن مرّ عليه شهرا لا يعلم فيه مكانها ولم يأتيه أي خبرٍ عنها، وأكثر ما سيصيبه بالجنون حالة الا مبالة التي تتلبس عمه الكبير، كيف يظهر ذلك الهدوء وابنته الوحيدة مفقودة منذ آخر شجار بينهما، ليته يومها قدر على إرغامها للعودة وترك ذلك الطريق المخيف التي لا تعلم نهايته.
مسح فوق خصلاته وهو يلتقط جلسته حول مائدة الغداء يتناول لقيماته بتمهلٍ كأن لا ينتظره مصائب جمّة، اقترب ينبهه بصوته:
-صباح الخير يا عمّي.
-قول مساء الخير.
جلس بجواره يتأفف من نبرة صوته اللائمة، معتذرا عن تأخره في الاستيقاظ، يسأله بتردد:
-ما فيش أخبار عنها؟
رمقه عمّه بنظرة تحذيرية بأن يتجرأ ويتجاوز بسؤاله مرة أخرى بعد آخر مواجهة بينهما، فأجلى صوته، يخبره مبررا:
-حابب أطمن بس، بابا مش بيبطل سؤال عنها ومش لاقي جواب.
-سيب موضوع “حمزة” عليا، وماتشغلش بالك، أنا عارف بعمل إيه؟
أضاف وهو يري نظرة التمرد بعينيه:
-قولي يا “مازن” عن خططك المستقبلية بعيدا عن حربك للجواز من “نيرفانا”.
أبتلع “مازن” تلك القطعة البسيطة من الخبز قد فاجأه سؤال عمه المباشر الذي لم يفكر فيه مطلقا، فقدم مبررا:
-مش مخطط حاليا، واخد فترة راحة بعد التخرج، يمكن أرجع ألمانيا تاني أو أستقر هنا.
حرك “شاكر” رأسه بتفهمٍ رغم عدم اقتناعه، يصرح مقتضبا:
-كويس، لو اخترت إنك تكون هنا مش هتلاقي أفضل أفضل من عمك تشتغل معاه.
بسمة حلت على وجه الأخير برضا بالغ من حديثه وكأنه كان في انتظار منحه بعض الثقة التي يفتقدها منذ وصوله، صوت رنين الباب قطع حديثهما صوت الخادمة “آمال” التي تبلغ عقدها الثالث، تبلغه بعد برهة من الوقت، تبلغه برسمية:
-في واحدة بتسأل على حضرتك “شاكر” بيه!
تفاجأ “مازن” من تلك العاملة الجديدة، أين ذهبت “سناء” الذي تربّى على وجودها وكانت بالأمس معهم، وقبل أن يسأله عنها انتبه لما قالته عن وجود ضيفة لعمه، تعجب “مازن” من قولها وعبس بحاجبيه، واندفعت الظنون برأسه أن يكون عمّه الصارم المتشدد ليس كما هو عليه، وربما يميل إلى بعض التلاعب والشقاوة الصبيانية، أكد حديثه صوت رنان اخترق محيطهم جميعا مزامنا تفصح عن هويتها مع دقات كعب حذائها العالي، لتفرغ فاهه لرؤيته لتلك الكتلة الأنثوية صارخة الإغواء مسح ببطءٍ جسدها الفارع شديد المنحنيات، مطلقا صفيرا بشفتيه مبديا إعجابه بجمالها، انتقلت نظراته بتجهم لوجه عمه الذي أفصح بمعرفته المسبقة بها، قائلا برضا:
-جيتي في ميعادك.
داخل مكتبه جلست أمامه واضعة ساق فوق الأخرى بغنجٍ مقصود تتخذه مع جميع الرجال أصحاب الجيوب المكتظة بالأموال، تلاعبت بخصلاتها الصفراء المصبوغة وتعمدت الميل بجزعها تظهر مفاتنها من فتحة قميصها الحريري وهي تتلقى من يده ذلك الظرف الأبيض المكتظ بالأموال المتفق عليه بينهما، تخبره بعينيها المسبلتين خلف أهدابها الصناعية:
-أنا مش جايه عشان الفلوس يا “شاكر” بيه، جاية أطمن عليك وأبلغك الأخبار الجديدة.
سحب المظروف من يدها لتجفل من حركته غير المتوقعة، يخبرها بتلاعب:
-أفهم من كدا إنك مش عاوزه الفلوس؟
انتشلت الظرف بلهفة تدسه بحقيبتها:
-لأ محدش يقول للفلوس لأ، دا ميغنيش إني محتاجة كرمك، هدية مقبول “شاكر” بيه.
ضحك بمكرٍ يدور بكرسيه المتحرك، يخبرها منتظرا أخبارها بشأن ذلك الخسيس:
-سمعيني يا “صافي”، إيه الجديد؟
***
وقف خارج الفيلا بانتظار تلك الكتلة الأنثوية صارخة الإغواء بفضولٍ يدفعه لاصطيادها، رغم عدم استيعابه لعلاقة تلك الأنثى بعمه الذي يشهد له بالصلاح والاستقامة إلا أن الأمر لم يشغله كثيرا أكثر منها، ألقى سيجارته أسفل نعل حذائه الرياضي يتأهب لتعارف جديد بينهما فارضًا عليها سحره وأناقته الشبابية الملفتة، سارت بغنجٍ بكعب حذائها رامية إياها بنظرة جانبية عندما لمحته بانتظارها لتزداد ثقة، فكانت هي أكبر خبيرة بجنس الرجال عندما يسيل لعابهم على أمثالها يفقدون ارتكازهم، تجاهلت وقفته وتنحت جانبا تكمل طريقها بدلالٍ، فاندفع بخطوتين متلهفتين يوقف سيرها فجأة، فتعمدت ادعاء تعثرها تلامس صدره بكفها الناعم مظهرة أظافرها الطويلة الملونة بالأحمر القاني كلون حمرة شفتيها، تأوهت بنعومة ليسندها بدوره ممسك ذراعيها وكأن واتته الفرصة لذلك، مصرحا بزيف:
-حاسبي!
تأوهت بنعومة، تخبره:
-شكرا، كانت رجلي هتنكسر.
أجابها وعيناه تمسح جسدها بجوعٍ، يخبرها يعرف نفسه:
-أعرفك بنفسي، “مازن أبو جبل” عمي يبقى “شاكر” بيه!
مدت أطراف كفها، تكمل تعارفهما بعد أن ضبطت خصلاتها المتطايرة:
-أنا “صافي”!
تعجب من اقتضابها في التعريف عن اسمها:
-بس!
-أيوا، “صافي” بس، يهمك حاجة غير اسمي؟
-الحقيقة لأ، يا ترى محتاجة توصيلة مجانية آنسة “صافي” أنا في الخدمة.
ضحكت ضحكة رقيعة على تلقيبها الأخير، تخفي شفتيها بأناملها بدلالٍ دفع الدماء لأذنيه دفعة واحدة مستشعرا سخونة تنذر بانفجارٍ وشيك إن لم يطفئ ناره بها، فسمعها تخبره بدلالٍ:
-الحقيقة أيوا، محتاجة بس دا يتوقف على شيء واحد.
-إيه هو؟
طرقت بأناملها بظفرها المدبب شفتيها بخبثٍ، تخبره:
-إنك تقعد بأدبك وماتحاولش تعاكسني، عينك بتقول إنك ديب كبير وأنا بخاف من الديابة.
ضحك على وصفها له منتشيا لذلك، تجرأ لمحاصرة خصرها يدفعها بخطواتها جهة سيارته لتلبي رغبته ولم تمانع، يفتح لها باب سيارته المجاور له، مصححا لها:
-لازم تصاحبي الديابة عشان ياكلوكِ بمزاج وتستمتعي يا “صافي”.
-هنشوف!
***
تعلم أنها ليست وظيفتها وليس موكّل لها أمور التنظيم والتنظيف، ولكنها دفعت نفسها لتلك الأمور تخفيفا لأعباء ذلك العامل الشاب الذي أنهكه الترتيب من خلف المصممين وتنظيف مخلفات الأقمشة الملقاة هنا وهناك لأيام متواصلة، لقد وجدت في الأمر ونيسا يساعدها على ضياع بعض الوقت من الليل الطويل التي تقضيه وحيدة حتى بزوغ اليوم التالي في ذلك المكان الخالي من الموظفين والعاملين.
حملت أوراقها واللوح الذكي الذي سلمّه لها “أنس” كجزء من مهامها الحالية بعد تمكنها واطلاعها على كل الأمور الخاصة برئيسها، رفعت يدها تحك عنقها بإرهاقٍ تتفحص جوانب الغرفة الشاسعة بعد أن أعادت كل مبعثرٍ لمكانه، استعدادا ليوم جديد من العمل المرهِق الذي زاد تلك الأيام لاقتراب موسم المهرجان الربيعي ككل عام.
توجهت بخطوات متعجلة متخذة الدرج بديلا للمصعد بكعب حذائها العالي حتى لا تحاصر داخله وحيدة، تُمني حالها ببعض الراحة بعد التخلص من كعب حذائها المؤلم لقدميها، زفرت براحة وهي تمر داخل الممر الخالي وآخر عاملٍ ينهي تنظيف الأرضيات استعدادا للرحيل، حيته بتحية مقتضبة قبل أن تدلف لغرفة مكتبه الخاص تغلق الباب خلفها ملتقطة أنفاسها براحة لوجودها وحيدة، خلعت عن قدميها حذائها بحركة سريعا ليستقر بعيدا عنها بإهمالٍ فوق الأرض المغطاة ببساطٍ كريمي، محررة سترة بذلتها الثقيلة غير المحببة لها والتي تقيد حركتها خلال عملها، تلقيها فوق أحد الأرائك الجلدية فلا بأس من بعض الفوضى التي لن يشهدها إلاها وبعدها تقوم بالترتيب في وقت لاحق بالصباح، كانت بحاجة لدفع كمية لا بأس بها من المياه الساخنة تغمر بها جسدها وتدفئها في ذلك الطقس البارد، وإنما اكتفت مؤقتا بغسل وجهها ويديها مع نفض خصلاتها القصيرة تحررهم وترحمهم من قيدهم بخفة، تنهدت بإرهاقٍ وعقلها يدور كطاحونة هواء تتعرض لإعصارٍ موسمي عنيف لا يكتب له التوقف، وقعت عيناها على وجبة غدائها المغلّفة فوق الطاولة الصغيرة، تتذكر كيف يصر يوميا أن يطلب لها وجباتها قبل انصرافه، فيبدو أنه فعلها رغم انسحابه المفاجئ اليوم، ألقت بهاتفها القديم بجوار وجبتها، وحكت عنقها بتألم بسبب تيبسه الدائم متجهة بدورها لتلك الغرفة الداخلية الصغيرة التي لا يتعد حجمها سوى مترين فتكاد تكفي فراش صغير وخزانة نفس الحجم، دفعت الباب المغلق نسبيا لتثبتها الصدمة تلجم لسانها حتى عن الصراخ، توقفت شهقتها ببلعومها تمسح بعينيها تلك الكتلة الجسدية المفترشة فوق الفراش، ابتلعت ريقها بتوترٍ تقترب خطوة ليتبين لها سريعا سقوط ذلك الجسد في غفوة اضطرارية مكانه وما دلّ على صدق حدسها ذلك الحذاء الذي لم يُحرر من قدميه، وسترة بذلته الأنيقة التي يحتفظ بها فوق بدنه، فتسطحه فوق ظهره مع انفراج شفتيه أشبه بجثة لفظت أنفاسها منذ زمن لولا حركة صدره الرتيبة لظنت موته حتما، لاحظت سريعا ساقه المتدلية أرضا مما أكد لها سقوطه في تلك الحالة رغما عنه منهكا، تركت لنفسها حرية تفحص ملامح وجهه الهادئة بخلاف ذلك العبوس البائن من بين حاجبيه كأنه يصارع شيء ما، أجبرت نفسها للاقتراب منه وبتردد مدت أناملها تسدد له وكزة سريعة بصدره لعله يعود لوعيه، تناديه بتردد:
-“طاهر” بيه! فُوق.
عقدت حاجبيها لعدم استجابته أو إظهار أي رد فعلٍ يدل على وعيه بها، فيجب عليها إيقاظه ليترك لها فرصة الراحة قليلا قبل انغماسها في عمل يوم جديد مرهق، زادت من قوة وكزتها، وبصوت مرتفع نسبيا:
-“طاهر” إصحى!، “طاهررر…”
أجفلت صارخة برعبٍ وقد تملك البرودة من جسدها عندما انقض كوحشِ ضارٍ يقبض على عنقها يضغط بقوته الغاشمة مانعا الهواء عنها، عيناه كانت أشبه بهوة سوداء تكشف عن شخصية إجرامية بطبعها خالية من أي روحٍ ورحمة، شهقت في محاولة التنفس وقد احقنت أوداجها اختناقٍ، حاولت تحرير عنقها من يده الصلبة برعبٍ من هيئته الشرسة وتعرق جبينه الواضح، شهقت تتلعثم مستنجدة:
-سيبني سيبني، هموت، هموووو..!
للحظة ظنت أن تلك نهايتها، فهي الملامة للعبها بالنيران والاقتراب من حيزها لتعتقد أنها لن تصاب بلهيبها يوما، هل ستكون تلك هي النهاية؟ نهاية حزينة بائسة، رفت عينه اليسرى بتشنجٍ لتتحول ملامحه الشرسة للتجهم، لم تصدق ما شعرت به من ارتخاء أنامله تدريجيا عن عنقها مما أعطاها مساحة كافية لتلتقط أنفاسها بشهقات متتابعة ممتزجا بسعالٍ شق حلقها ألما، ألقت بجسدها أرضا على ركبتيها تواليه ظهرها، تمسح عنقها المتألم تحاول تنظيم تنفسها مرة أخرى، اندفعت في سعالٍ حادٍ سال على أثره لعباها رغما عنها، ليلحق بها بعد أن أدرك ما كان مقدما عليه بغياب عقلي، انتفض على عقبيها خلفها يمسح فوق ظهرها بلطفٍ ويناديها بربكة يحاول إدراك خطئه:
-“نننور”، “نور” إنت كويسة؟
سعلت بشدة تنفض يديه عنها، تصيح بحدة:
-ابعد عني، ماتلمسنيش.
رفع يده عنها يشاهد انحنائها فعاق رؤيته لوجهها تلك الخصلات المنثورة حولها، أخبرها مستسلما ليبث بها الأمان:
-حاضر حاضر مش هقرب ولا هلمسك، بس طمنيني في حاجة حصلتلِك؟
زحفت على ركبتيها محاولة الابتعاد عنه وذكرى محاولة خنقها تسيطر على عقلها، لقد كادت تلفظ أنفاسها الأخيرة منذ ثواني ببساطة دون وعي منه، لضيق المكان لم تكمل خطوتين حتى استقرت بظهرها لجدار الغرفة الضيقة تضع كفها فوق صدرها المرتجف خوفا من سطوة الموقف، جذبت أطراف تنورتها المنحسرة أعلى ركبتيها تلتقط ثبات جسده المحنى منكسا الرأس كتمثال فاقدا معالم الحياة، لولا حركة ظهره العنيفة الدالة على تصارع أنفاسه العنيفة، انكمشت تلملم مقدمة قميصها الحريري، ترمقه بنظرات حادة من عينيها السوداوية شديدة الاتساع، مترقبة لخوض حرب جديدة إن فكّر وهجم عليها مرة أخرى، انتفضت صارخة بعنفٍ تلتصق بالجدار كأنها تتمنى زحزحته للخلف ليبتعد بها عنه؛ عندما لمحته يحاول الاقتراب مادا يده لها:
-ابعد ابعد، هكون بخير طول ما أنت بعيد ماتفكرش تقرب، دا غلطي غلطي أنا إني وافقت أكون قريبة من واحد مجرم زيك.
بسط يديه لأعلى يتحرك خطوة مقتربا منها حتى لا يثير فزعها أكثر وقد وجعته كلماتها، يخبرها بنبرة مذبذبة:
-أرجوك سامحيني، كنت في كابوس بشع، وجودك في الوقت دا من سوء حظك، أنا آسف بجد.
ابتلعت ريقها بربكة ولم تكن تتوقع اعتذاره بتلك الطريقة وبدأت تتفحص ملامحه الهادئة إلا من نظرة الندم التي تنبثق من عينيه الذابلتين، فربما كان صادقا في قوله واندفعت تعنفه دون تروٍّ منها، بدون إدراكٍ رفعت يدها تحك عنقها المحترق من قبضته الشرسة، فالتقطت عيناه أثار أنامله بجانب عنقها، اقترب زاحفا على ركبتيه حتى استقر أمامها، بتردد مد يده يزيح خصلات شعرها للجانب الأيسر كاشفا عن عنقها، شعر بندمٍ واضح لفعلته عندما رأى آثار أنامله محفورة بوضوح عليها، سألها باهتمامٍ وهو يمرر إبهامه يمسد فوق كدمتها:
-رقبتك بتوجعك؟ بجد آسف.
انكمشت لفعلته الفطرية محاولة مداوتها، وتلاقت عيناهما في حديث صامت بين نظرة لومٍ منها تقابلها نظرة توسلٍ أن تقدر موقفه منه، ولكنها كيف تفهم وهي لا تعلم عن معاناته شيئا؟ نطق برجفة وعطرها الأخاذ يتسرب لرئتيه يغمرهما فذلك الشعور ليس بجديد عليه، ذلك العطر الذي كان سببا في الالتفات لها من أول مرة في المطعم، عطر يشعر بؤلفته وعبيره العبق يرجعه دوما للماضي العتيق الذي يرفض عقله عودته، ويتوسل له قلبه للبقاء دوما دون رحيل، تسارعت أنفاسه باضطرابٍ ولأول مرة يكون بذلك القرب الخطر يستوضح رائحتها، انخفض عيناه لشفتيها المرتجفتين وقد عذر شعورها الناقم اتجاهه، سحب يده بهدوء عن عنقها كأنه أدرك خطورة وجوده بجوارها وحيدين بذلك الشكل، يخبرها مرتبكا قبل أن ينسحب هاربا تتطارده أشباح ماضيه:
-هتبقي بخير بكرا، آسف مرة تانية، تصبحي على خير!
نظرت لهروبه كالملدوغ من سم عقربٍ بعينين مشدوهتين من كلماته وسلوكه المنافي لتلك الصورة التي رسمتها له دوما في مخيلتها الفترة السابقة، تلك الصورة التي ظلت سنين طويلة تشحذ بها عقلها لتضمن كرهها له أمد الحياة.
تحركت بتألم جهة حقيبة ملابسها اليدوية تجلس فوق فراشها تبحث عن حافظة نقودها الجلدية، تفتش بين طياتها عن شيء رغبت في إخفائه دوما، أمسكت تلك الصورة الفوتوغرافية القديمة ذات الألوان الباهتة لفتاتين يحتضنا كلا منها الآخر بقوة، ولمحة السعادة تغمر ملامحهما، لم يكن الغريب بتلك الصورة فارق السن المتفاوت بينهما أو حتى الصفات الوراثية المتباينة بينهما حد التنافر، فقد كانت تملك هي بشرة أقل بياضا شديدة الحمرة تنافي بشرة أختها الأكثر بياضا، مع خصلات سوداء مستقيمة تلائم عينيها السوداوين شديدة الاتساع بعكس أختها صاحبة الخصلات المتموجة المائلة للشقرة وعينين شديدة الخضار كحبتي زيتون، لقد كان الأغرب بهما تماثل نفس خط الابتسام اللتان تميزتا بهما.
ابتلعت ريقها بصعوبة تمنع تلك الرجفة أن تتحكم بها مرة أخرى بجسدها لن تقبل أن يعود الماضي يؤذيها، ليس بعد أن انتهى بها الأمر حبيسة مرات عدة بفضل والدها داخل خزانتها المظلمة كعقاب ُمتبع؛ حتى تمتنع عن بكائها وتمردها ويكسر شوكتها، سنوات استطاعت فيها هي قمع نقمتها على أختها، لقد رحلت براحة تنعم بموتها، تاركة خلفها من يتحملون عواقب أخطائها بدلا عنها.
طوت جوانب صورتهما بإحكامٍ تدفنها داخل حافظتها الجلدية في مكانٍ سري كما كانت تصحبها دوما تعيدها داخل حقيبة ملابسها، شهقت برعبٍ عندما انطفأت الأضواء لانعدام التيار الكهربائي من حولها فجأة فلم تتمكن حتى أن ترى كف يدها عن قربٍ، تحسست برجفة خوفٍ مكان هاتفها الصغير ناسية مكان وضعه، تغمغم برعشة بانت بنبرتها:
-مش وقته يا “نور”، مش وقته!
***

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية رد شرف)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى