روايات

رواية رد شرف الفصل الرابع 4 بقلم وسام الأشقر

موقع كتابك في سطور

رواية رد شرف الفصل الرابع 4 بقلم وسام الأشقر

رواية رد شرف البارت الرابع

رواية رد شرف الجزء الرابع

رد شرف
رد شرف

رواية رد شرف الحلقة الرابعة

***
لم يكن متاحا أي خيارٍ ولا رفاهية التفضيل؛ عندما سقطت بين يديه تعاني من حالة إغماء متوقعة عند رؤيتها لذلك الجرح المقطب ومخلفات القطن الملطخة بدماء جرحه حوله، قبل أن تتمكن مساعدة الأخير من التخلص منها، لقد كان حريصا منذ أن شعر بذلك الجرح إخفائه عن عينيها بسبب تلك النوبة التي أصابتها من قبل بعد جرح جبهتها.
جلس على بعدٍ مناسب منها فوق أريكته الجلدية بغرفة مكتبه بشركة تصميم الأزياء الذي يمتلكها، فلم يكن لديه الخيار في ذلك فإما ذلك المكان أو بيته الخاص وهذا ما يرفض التفكير به حاليا، راقب رجفة يدها أثناء تناولها كأس الليمون البارد الذي أكثر هو من كمية سكره ليضبط مستوى سكرها وضغط دمائها؛ وليعيد توازنها السابق بشكلٍ أسرع، ترك لنفسه حرية مسح عينيه لجسدها بداية من حذائها الأسود المسطح مرورا بساقيها النحيفتين الملتف بهما سروالها من خامة الجينز، يعلوه قميصا أسود بأكمامه الطويلة يلمس نهايته حافة ركبتيها، التقطت عيناه خصلاتها القصيرة المشدودة أعلى رأسها ليتدلّى منه خصلات سوداء بعشوائية كلون عينيها العميق، أجفل يعيد تركيزه إليها عندما نتج صوت ارتطامٍ بالغ على أثر وضعها لكأس مشروبها بشكلٍ متوترٍ كشفه ارتجاف كفيها، كانت تتحاشى عيناه المتفحصة من أن عادت لوعيها لتجد نفسها بسيارته ينطلق بها لوجهته التي سريعا علمت أنها إحدى شركاته الخاصة، سمعته يسألها ببرودٍ من مكانه:
-كويسة دلوقت ؟
لمحة من سوداويتها لوجهه سحبتها سريعا عنه، تجيبه بارتجافٍ مقتضب:
-الحمد لله.
بللت شفتيها بتوتر تحاول التحرك من فوق أريكتها، تخبره بقرارها:
-لازم أمشي.
أوقفها بكلمته الثقيلة المهينة:
-عَندك مكان تروحيه؟ إنتِ نسيتي إني المفروض أشوف حل لمشكلتك.
-إنت مش مجبر تعمل دا؟
أجابها بجفاف:
-فعلا مش مجبر، بس إديت كلمة ل “مجدي” ولازم أنفذها.
عندما صمتت عن مجادلته، استطرد بدوره:
-خلينا نوفر على بعض كلام كتير، أنا هعرض عليكِ نفس العرض لمرة أخيرة، تقبلي تشتغلي عندي.
-هشتغل عندك إيه؟
ظل يرمق وجهها ببعض التأمل، يتكرر سؤالها بأذنه “ماذا ستعمل لديك”؟ وقف يلتقط سترة بذلته يرتديها بصمتٍ، لتجده يملي عليها أمره متجاهلا الجواب ربما اليوم:
-أمّا أَخد موافقتك الأول هبلغك بالتفاصيل بعدها، ولحد دا مايحصل هسمح ليكِ تباتي هنا في مكتبي مجبر طبعا، لأن مافيش حل غير دا، وبكرا الصبح أخد موافقتك أو رفضك.
وقفت بدورها تحتضن نفسها بذراعيها بتخبطٍ لا تعرف ماهيته تراقب انصرافه الهادئ تاركا لها أمر تخبط أفكارها، ليتوقف فجأة يدور برأسه دون جسده عندما تذكر أمر هام، يخبرها:
-هتلاقي حمام هنا وتلاجة صغيرة، ولو فتشتي كويس هتلاقي أوضة داخلية صغيرة فيها سرير وغطا، بستخدمه وقت الطوارئ، بس خلي بالك الباب مش بيفتح إلا من برّا.
حركت رأسها بتفهمٍ بتوترٍ على أثر دفعة التعليمات التي تراشقت فوق رأسها دفعة واحدة، على الأقل هي تملك اليوم مكانا للمبيت، وهي مدينة له على ذلك.
سمعته يأمرها بجدية:
-إقفلي كويس عليكِ أول ما أمشي، تصبحي على خير يا “نور”!
***
تلك الليلة لم يمتلك القدرة على ترك عقله لذكرياته البائسة، أرغم نفسه على تناول جرعتين من دوائه الموصوف له منذ سنوات لينعم بنومٍ هادئ خالٍ من ذكرياتٍ سوداء تطارده، سريعا ضربته حرقة بالغة بجفنيه، وخدلٍ بأطرافه دفعته لتسليم روحه لنومٍ هانئ، ربما لمرة واحدة فقط لا تطارده، ليعود بعقله ليومٍ لا يرغب أبدا من برح عقله.
طرقات متتابعة فوق الكتلة الخشبية قطعت تركيزه الذي استمات في الحصول على خيوطه المتسربة منذ أيام، فاختباراته على الأبواب وهو لا يرغب في التسبب في إحباط والديه لفشله في السنة الأخيرة له بكلية الطب بعدها سيستلم وظيفته في إحدى المستشفيات بدولة الخليج كما وعده والده بالأمر ليرافقهم في مكان إقامتهم ويبدأ في بناء مستقبله.
زفر ملقيا قلمه فوق أوراقه متحركا بخفة يمسح وجهه بإرهاقٍ، ليصل جهة الباب وأفرج عنه بتكاسل ليصطدم بتلك العينين الخضراوين ينبع منهما التخبط من صدمته لوجودها، ابتلع ريقه بصدمة من تجرؤها على زيارته بشقته الخاصة والتي من المفترض أنها شقة أعزب وحيد، قطع صدمته عليه صوت حارس البناية الخشن ينبهه لوجوده خلفها:
-الآنسة سألت عن الدور إللي حضرتك فيه يا دكتور “طاهر”، تؤمر بحاجة تاني؟
توتر لتلميح الحارس وامتعاضه الواضح لزيارة إحداهن لشاب مثله بسكنه الخاص فالجميع على علم بوحدته الدائمة بسبب سفر والديه وشقيقته الصغرى لإحدى دول الخليج، وبقائه هنا لمواصلة دراسته فقط، صرفه بلطفٍ يخفي توتره:
-روح إنت يا “مرعي”، هي مش هتطول.
انصرف الحارس وعينيه أبت أن تخفض عن تلك الفتاة غريبة الهيئة بخصلاتها الغجرية المصبوغة وملابسها التي تبعد كثيرا عن التحفظ، كانت هي أول من قطع صمتهما بعد أن رمَته بنظرة لوم على غيابه المتعمد عنها:
-مش هتقولي إدخولي يا “طاهر”.
أشاح بوجهه عنها، يجيب برفضٍ:
-إنتِ عارفة إن أنا لوحدي، ومايصحش تكوني هنا.
-وإنتَ إللي أجبرتني أكون هنا، لو جاوبت على رسايلي وتليفوناتي مكُنتش جيت.
كتف ذراعيه أمام صدره يلقي ليها سؤاله بجمود غريب لم تعتاده:
-عاوزه إيه يا “نرمين” دلوقت؟
اقتربت منه خطوة تدفعها لتكون داخل إطار بابه المفتوح، تشير لنفسها باستجداء:
-عاوزاك تسمعني وتفهم الحقيقة، حقيقة! مش إللي شوفته.
نار اشتعلت بصدره على ذكرها لذلك المشهد الذي أمسكها فيه مع ذلك الخسيس خلال رحلتهما الساحلية، زم شفتيه بغضبٍ وولّها ظهره يمنعها من النظر لذلك التخبط بوجهه والألم الداخلي الذي يعيشه، يخبرها بجفاء يقتل مشاعره:
-علاقتنا انتهت يا “نرمين” ما بقناش صحاب نسمع لبعض زي زمان، طريقِك غير طريقي.
اقتربت منه بلهفة وألمها موقفه منها القاسي، فدوما كان “طاهر” صديقها الوفي الذي تركض إليه تقص عليه مصائبها الواحدة تلو الأخرى، لامت عليه موقفه منها، لم تعهده أبدا قاسيا جاف الطبع، نفت ما يقوله ترجوه:
-لا يا “طاهر” ما تقولش كدا، أنا مش ليّا غيرك، إنت مش عارف إيه إللي بعانيه والعذاب إللي شايفاه من وقت رجوع جوز ماما من برا واستقر معانا هنا، أنا ماليش سند وضهر غيرك، حتى أمي مش عارفة ألجألها.
اندفع يواجهها بجسده الفارع يستنكر عليها إلقائها دوما أخطائها على أكتاف غيرها، قائلا بغضبٍ مشتعل:
-إيه إللي مستنياه مني بعد إللي شوفته بعيني يا دكتورة، ها؟ إللي شوفته دا حاجة ماتعملهاش إلا واحدة رخيصه عديمة التربية.
بللت شفتيها تبحث عن حجة مقنعة تسكن بيها ضميرها عن ذلك الخطأ التي انزلقت قدميها فيه بدون وعي في لحظة ضعف، تخبره ربما عفا عنها وعاد قريبا مثلما كان، مانعة عنه ما تحمله من معاناةٍ ربما ستضر به:
-عشان كدا جيت ليك انهارده، جيت أقولك إن “أمجد” صارحني بحبه وإحنا هناك، بيحبني وعايز يرتبط بيا بعد مانخلص على طول.
جمدت أطرافه بصدمة قولها، هل ما تقوله صحيح؟ هل تنوي فعليا الارتباط بهذا المسخ الحقير؟ وماذا عنه؟ ألم تنتبه يوما له هو؟ ألم يلمح لها كثيرا من قريب وبعيد رغبته بها، رغبته في مجاورتها حيا كان أو ميتا لتتجاهل مشاعره، ألهذه الدرجة عميت عن مشاعره وعجز هو عن إيصالها لها؟، نطق بأنفاسٍ متهدجة بسؤاله المستنكر:
-ترتبطي بيه!، ترتبطي بيه يا عني إيه؟
جمعت أطراف شجاعتها المنثورة، تؤكد له بثقة حديثها:
-أيوا! “أمجد” قال إنه بيحبني من فترة وملقاش الفرصة إن يعترف بحبه إلا اليوم إللي شوفتنا فيه مع بعض، مش كفاية يا “طاهر” شهر كامل خصام بينا وحاظر رقمي.
أغمض عينيه بأسف يمنع تلك الحرقة المباغتة بهما أن تنبثق وتعلن ضعفه أمام تلك المتبلدة، ولكنها لم تكتفي بطعنتها بل دارت حوله تواجهه تمسح عيناها وجهه الحسن بتمهل الذي طالما انجذبت إليه، لتتلاقى عينيهما بلومٍ متبادل صامت، لومٍ منها على بُعده ولوم منه على تجحر قلبها الذي أعماها عن رؤية صدق مشاعره، ارتجفت لرؤيتها لتلك البسمة الساخرة من جانب ثغره بشكلٍ تهكمي، ليندفع يسألها بحسرة بائنة:
-إنت مابتحسيش؟ ماحستيش بيا مرة واحدة؟ قلبك ما قالش حاجة عني؟ ما سألتيش نفسك مرة واحدة في حياتك أنا ليه قريب منك؟ أنا ليه مهتم بكل تفاصيلك؟ ليه دايما واقف متحمل كل مصايبك؟ وأوعي تقولي عشان صداقة وزفت.
ارتجفت لقوله وكأن وابل أسئلته أيقظ نوم مشاعرها العميق جهته، هل كانت غبية للدرجة لتعمي عينيها عن صدق مشاعره طيلة تلك الفترة أم تعمدت التجاهل لسبب ما؟ ارتعشت شفتيها ترفع يدها تربط على نابضها المرتجف لعله يهدأ من ثورته المفاجئة، تخبره بما صدمه بالأخير:
-دايما قلبي كان بيقولي، وعقلي يحارب بالسؤال، ليه “طاهر” بالذات؟، بس دا مكنش كفاية يا “طاهر”، إيه الفايدة من السؤال ما دام مش هلاقي جواب شافي ويريّحني فترة الخمس سنين إللي عدت، كنت فيهم ليك صديقة وصاحب، إنتَ حطيتني في الدايرة دي ورفضت إنّك تتخطاها وتيجي تصرّح بمشاعرك، ماتجيش تلومني دلوقت على جُبنك.
وكزها بسبابته فوق نابضها يؤلمها، يخبرها بضيق من جوابها:
-دي أمور تتحس ماتتقالش يا “نرمين”، ولو دا إللي منعك تبادليني شعوري أديني أهو بقولهالِك يا “نرمين”، أنا بحبك من سنين طويلة ومحبتش غيرك ولا هحب، سيبيه وإبعدي عنه وخليك معايا أنا..
لمعت عيناها بوضوح بشكلٍ متسع، لا تتخيل أنه الآن في مثل تلك الظروف ينطقها، ينطق بما انتظرته منه منذ سنوات ليصحح وضعه لديها، يا ليته ما فعل! فرت عبرة سريعة من محبسها، تمنع نفسها بضراوة من الانهيار الذي يؤدي حتما بالتصريح عن مصابها التي تخفيه عنه:
-بيقولوا في الأمثال “أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتِ أبدا” ولكن في حالتي “أن تأتي متأخرا كأنك لم تأتِ أبدا يا “طاهر”!، يا ريتك كنت صارحتني من زمان، يا ريتك جاوبت على مكالمة واحدة من مكالماتي الشهر إللي فات كان وقتها.
التقطت أنفاسها لتعود لرباطة جأشها كأنها لم تُميت حبا أبيض كان على وشك الميلاد، حَملت نفسها على الانصراف يشاهدها تنسحب جهة الباب الذي لم يقدر إغلاقه منذ حضورها مستهينة باعترافه، كان دوما يعد نفسه ألا يفصح عن مشاعره إلا بعد اجتيازهما آخر اختبارٍ بكليتهما، أشعلت فتيل غضبه بعبارتها ورفضها الواضح له، هجم على ذراعها يقبض بقوة ينفضها يعيدها مكانها، لعلها تفيق مما هي عليه:
-بالسهولة دي؟ ماشية بعد ما اعترفتلِك بكل إللي جوايا من ناحيتك؟ هتختاريه وتفضّليه عليا بعد كل إللي قدمته ليكي؟ إنت غبية للدرجة دي وجاحدة، مافرقتش معاكِ؟
رفعت رأسها بأسفٍ على حالته المنهارة، تودعه نظرة وداعها الأخيرة وبعينيها سحابة من العبرات اليائسة، تخبره بأسى:
-ماليش خيار تاني، سامحني.
-إزاي؟ إزاي يا “نرمين”؟ إنطقي، طيب قولي إنك حسيتي بيا مرة واحدة، قولي إنك حبتيني زي ما حبيتك؟ إتكلمي!
فاض كيلها منه، لم لا يفهم أن الأمر خارج عن سيطرتها ويبتعد بسلام، لم لا يقتنع أن قربه يعني دماره هو وعليه أن يبتعد، دفعته من صدره تحاول التحرر منه برعبٍ من حاله المنقلب لشراسة لم تراها من قبل عليه، تصرخ به بخوفٍ من جنونه كاذبة:
-لا يا “طاهر” لا ماحبتكش إستريحت، إبعد عني بقى هيكون أحسن ليك وليا، إبعد.
قبض بكلتا يديه على عنقها قاصدا خنقها ليحتقن وجهها بالحمرة البالغة وقد غشى عقله غمامة سوداء تمنعه عن التعقل، يخبرها من بين أسنانه:
-مش هسيبك، مش هسيبك لغيري يا “نرمين”!، يا أنا يا الموت يا “نرمين”، المووووت!
شهق بقوة يلتقط أنفاسه عائدا لواقعه فيبدو أنه امتنع عن التنفس بشكلٍ طبيعي لمدة كانت كفيلة لإزهاق روحه هو، يتردد كلماتها الجارحة لمشاعره برأسه بصدى بعيد: “لا أحبك، ابتعد!”، مال برأسه ينظر لنافذته وخيط النهار بدأ بالتسرب فوق بساط سمائه باستحياء، معلنا يوما جديدا، ليتنهد بأسي فدوائه لم يمهله النوم إلا ثلاث ساعات أو أقل في تلك الليلة، ولا حيلة من مناوبة أعماله المتأخرة حاليا بدلا من جلب كوابيس جديدة تؤلمه.
***
تحرك بخفة بساحة مدخل شركته ملقيا تحية صامتة لحارس الأمن بحركة من رأسه لتأهبه بالوقوف عندما لمح مروره، مخفيا عينيه خلف نظارته الشمسية في ذلك الصباح الباكر مخفيا تورم جفنيه الناتج عن أرقه الذي أخلفه ذلك الكابوس.
تحرك يستقل المصعد مستغلا إبكار وصوله وقلة حركة الموظفين القائمين على العمل، ليصل سريعا للطابق الأول المخصص لقسم الموظفين الإداريين بخلاف الطابق الثاني الذي يشمل على أقسام لتنفيذ التصميمات وجلسات التصوير للعارضات، استرعى مع قرب خطواته صوت تهشيم زجاج متتابع مع صياح ذكوري مألوف لسمعه، جعله يتأهب لمعرفة أي كارثة في انتظاره في تلك الساعة المبكرة، سريعا حطت قدماه باب مكتبه الخاص ليجفل سريعا منحنيا بجزعه يزوم بحنجرته بضيقٍ في وقت قياسي؛ قبل أن تنال جبهته تلك الشظية المتطايرة من تحفة كريستالية خاصة بمكتبه، اعتدل سريعا صارخا بهما لتتوقف تلك المهزلة العارمة في لمح البصر بينهما:
-إيه إللي بيحصل دا؟
ثبت كلا من “أنس” وتلك المرتجفة المتحصنة بآخر تحفة مكتبية، وبمسحة سريعة بعينيه للفوضى المحدثة بفضلها، أخبرته بأنه في مأزق حتما إن لم يتماسك في تلك اللحظة، استمع لصوت “أنس” مشيرا لها والذي كان أقرب للباب عند دلوفه:
-المجنونة! كانت عاوزه تقتلني.
خطا بهدوءٍ أقلقها ليصلها صوت قرقعة شظايا الزجاج أسفل نعله حتى وصل للطاولة الخشبية أمام أريكته الجلدية، يسند إليها كوبي المشروب الساخن الورقي، وكيسا ورقيا فاح منه رائحة الخبز المحمص، رفع ذقنه باستعلاءٍ يشير بعينيه لما تحمله وحركة من حاجبيه، قاصدا كلمته الآمرة:
-بتهيألي مش محتاجة تكسري آخر تحفة ليا في المكتب دلوقت.
ابتلعت ريقها وارتجفت أناملها المحيطة بالفازة الكريستالية، لتخفضها ببطءٍ تريحها فوق سطح مكتبه خلفها، كتف ذراعيه بتحفزٍ ليستمع لأسباب تلك الفوضى التي خلفتها بجنونها الوقتي، يسألهما بجدية:
-ممكن حد فيكم يتكرم ويقول إيه إللي حصل في المكتب؟
-“طاهر” مين دي؟، المجنونة ما عملتلهاش حاجة، كل إللي عملته إني سألتها هي مين؟ وإزاي دخلت هنا؟ و…!
قطعت “نور” حديثه بتوتر وشعرت للحظة أنها بالغت في رد فعلها، فعندما أفرجت عينيها على ملمس يديه فوق وجنتها ذهب كل تعقلٍ مع تدافع وابل من الذكريات السوداء تتراقص بين أعينها فذبذباتها أيقنت لها أنه لا يحمل لها إلا كل سوء، نطقت بأنفاسٍ متخبطة:
-هو!، حضرتك بلغتني إن أقفل الباب من جوا واتفاجئت بيه فوق راسي بيحاول بيحاول…!
نفى اتهامها عندما دارت عيني “طاهر” باتهامٍ ضده:
-ماحصلش! أنا يدوب لامست وشها لما ماردتش عليا، فكرت فيها حاجه وإحنا مش ناقصين بلاوي وجثث، لقيتها زي المجنونة بتصرخ كأنها شافت عفريت، وأما حاولت أسكتها بهدلت المكتب.
سمعها توجه اتهامها له باقتحام المكان كاللصوص، قلب “طاهر” عينيه بملل وهو مستمع لشجارهما الصبياني البعيد عن أي تعقل، ليصيح بهما باسطا ذراعيه جانبه بكلمته المقتضبة:
-كفففـــاية!
صمت كلاهما يرمق كلا منهما نظرة عدائية واضحة ليتلقيا قوله بإنصاتٍ مترقب، موجها حديثه لــها:
-بالبداية أُعرفك بــ “أنس”!، صديقي ومساعدي الشخصي في العمل، وبالمناسبة هو ما اقتحمش المكتب، لأنه معاه نسخة تانية من المفتاح ونسيت أبلغك إمبارح.
وجّه حديثه لــ “أنس” التي بدأت عيناه تلمع ببريقٍ يعرفه هو، فخشى عليها منه:
-“نور” هتشتغل معنا بالشركة دا لو كانت محضرة موافقتها على الشغل دلوقت.
صاح “أنس معترضا:
-دي هتشتغل هنا؟
تجاهل معارضته وبنظرة من عينيه الحادتين وضغطه على حروف كلماته الأخيرة نبهها أنها لم تمنحه الموافقة حتى الآن، أسئلة كثيرة حامت برأسها في تلك اللحظة، فلم يهتم بأمر عملها معه لتلك الدرجة؟، وماذا إن رفضت ماذا ستفعل بعدها في أمورها؟، بللت شفتيها تمنحه جوابا على طلبه الأخير، فأنقذها رنين هاتفه الشخصي الذي اندفع يدس كفه بجيب سرواله مغمغما ببعض الكلمات المقتضبة بجدية أثارت اهتمامها، انهى مكالمته بعجالة موجها حديثه لمساعده:
-المسئول عن تنظيم المهرجان فوق، شكل كدا من زيارته المفاجأة في حاجه.
أجابه “أنس” بتشكك:
-تفتكر مش هيدينا التصريح بمشاركة الموسم دا، بالله عليك ما تقولها يا “طاهر”، أنا مستني اليوم دا بفارغ الصبر.
ربت على كتفه يهدئه يحثه على الانصراف معه، يخبره بتعقل:
-دلوقت نعرف سبب الزيارة.
توقف بعد خطوتين ناسيا أمرها، ليدور موجّها لها أمره:
-ما تتحركيش من هنا، راجع على طول.
راقبت انسحابه مع الأخير لتلتقط أنفاسها فوجوده كغمامة سوداء تميت لمعة روحها المشرقة، خطت بخطواتٍ بسيطة لتلقي بنفسها فوق الأريكة الجلدية تزفر بضيقٍ من تصرفها الأرعن الذي أدي لتهشيم الكثير من التحف النفيسة بمكتبه، تغمغم بضيقٍ تمسح وجهها:
-وبعدين؟ بعدين؟
***
بعد ساعة كاملة اجتمع فيها مع المسئول عن تنظيم المهرجان السنوي للأزياء لم يكن راضيا أبدا عن تلك النتيجة التي وصل إليها معه، ولا البنود الجديدة التي طرحها أمامه، عاد لمكتبه يدور بعقله فكرة واحدة أنه سيتخلى عن المشاركة تلك المرة مادامت شروطهم لا تتوافق مع شركته أو مع النظام الذي اتبعه منذ سنين.
عندما دلف لمكتبه ما كان يسيطر على عقله فكرة فشله في ذلك الموسم الذي يُعد إليه منذ أشهر، ألقى بجسده فوق كرسيه يصفي عقله من تزاحم أفكارها بعد أن أرسل صديقه لاستلام شحنة الأقمشة الجديدة بنفسه من الأماكن الموردة.
رفع رأسه وضيق عينيه بتدقيقٍ يمسح بهما أركان المكتب وأرضيته المتلألئة اللمعان وقد قفزت بعقله ما نساه منذ دخوله، هي..!، ليجد نفسه يقفز يدور حول نفسه وسط الغرفة برعبٍ أن تكون انسحبت بسبب فعلتها المخجلة مع “أنس” وقررت الهروب، تعجب من أمر اهتمامه بشأن وجودها أم لا، نادى بصوتٍ مسموع باسمها، مع اقترابه لباب حمامه الخاص، يطرقه بهدوءٍ:
-“نور”!، إنتِ هنا؟
لم يجبه سوى الصمت المقبض، وهذا لا يجيبه إلا بحقيقة واحدة، لقد هربت، تجرأ ليفتحه ربما تخذله ويجدها إلا أنه وجده خاليا كما هو، استمع لصوت طرقاتٍ متلهفة متتالية صادرة من تلك الغرفة الصغيرة التي يستخدمها أحيانا لتبديل ملابسه أو الراحة عندما يتزاحم العمل فوق رأسه يضطر للمبيت، مال يلصق أذنه بالكتلة الخشبية مستمعا لصوت نشيجٍ هادئ، بلل شفتيه يصيح باسمها:
-“نور”!، إنتِ هنا؟
قابله صوتها بذبذباته المرتجفة:
-أيوا! إفتح أرجوك!
للحظة تعجب من صمتها عند احتجازها بالداخل أو عدم صراخها لتجد من ينقذها بفتحه، أمرها بهدوءٍ:
-هفتح الباب، بس إرجعي بعيد عنه ما توقفيش وراه.
لم تفهم جيدا ما قصده ولكنها شاكرة لأنه عاد سريعا ولم تحجز بالمكان إلا عشر دقائق قليلة وإلا أصيبت بالهلع الهيستيري، أخبرته بأنها آمنة عندما سألها مرة أخرى، لتجفل كاتمة صرختها عندما ضرب الباب بكتفه دفعة واحدة بجسده؛ لينفرج على مصرعيه بقوة بالغة لو كانت خلفه لتهشم وجهها حتما وهنا فهمت لم أمرها بالابتعاد، وقف يمسح بعينيه فوق وجهها المنتفخ وآثار البكاء ظاهرة عليه، رغم صمتها وثباتها الغريب رغم تهدج أنفاسها، سألها باسترابة مضيقا عينيه:
-إنت كويسة؟، تقريبا نسيتي وقفلتي الباب من جوا، صح.
عندما لم يصدر عنها أي استجابة وظلت على ثباتها بجحوظ عينيها المريب غير مصدقة أنها الآن آمنة بالخارج ويمكنها التنفس بفضله، عاد خطوتين بصمتٍ يفسح لها الطريق يشجعها على الخروج بوجهه الجامد، حمدت الله أن ساقيها المرتخيتين استجابت لها لتخطو أمام عينيه الثاقبة تتقدمه.
جلس فوق مقعدٍ أمام مكتبه يشير إليها بجمودٍ للمقعد المقابل:
-أقعدي، خلينا نتكلم.
تحركت بنفس الصمت تجر ساقيها، تستقر أمامه ضامة ساقيها بشكلٍ لفت نظره، تستقيم بجزعها المشدود كوتر حاد، تخبره بهمسٍ:
– تحت أمرك.
-قوليلي الأول، ليه كنت جوا؟ وأنا منبه عليك إمبارح.
-كنت بدور على على..، كنت عاوزة أكمل تنضيف المكان بعد إللي حصل مني.
رفع حاجبيه فلم يتوقع أبدا جوابها الساذج، يجيبها متهكما:
-وكنت هتلاقي إيه يساعدك فيها؟ منظف بريحة الورد ولا سائل مطهر، دي غرفة استراحة مش تخزين.
نكست برأسها بحرجٍ من هجومه واستنكاره، تخبره معتذرة:
-بعتذر لو اقتحمت خصوصيتك، بس كنت بدور على معطر للجو، مناديل مبللة ألمع بيها المكتب.
تخيلت أنها لمحت بسمة حاول قمعها قبل أن تتحرر وتلتقطها، تسمعه يسألها باهتمامٍ:
-قولي لي يا “نور”، هو أنا حددت ليك قبل كدا نوع الوظيفة إللي هتستلميها؟
أسرعت كطلقة مخترقة الفراغ، بجوابها:
-لأ!
مال بجزعه مستندا بمرفقيه فوق ساقيه، يزيد من حصارها بعينيه العميقتين:
-طيب ليه خدتي وظيفة عامل المكتب، هو أنا لمحت ليكي إني محتاج عاملة ليا هنا؟
دارت بعينيها بأرجاء غرفته تتهرب من نظرته التي يقشعر لها بدنها كلما ألقاها عليها، هل هذا لخوفها الزائد، أم لخلفيته الإجرامية التي علمتها من زميلاتها؟، وفر عليها الجواب، يستطرد بقوله:
-أما طلبت منك تشتغلي عندي ما سألتيش نوع الوظيفة إيه، وأنا كنت منتظر سؤالِك.
أخبرته بنبرته ساخرة، سؤال يؤرقها:
-هتعمل إيه بواحدة في وضعي جاية من ملجأ بشركتك؟
قارعها بدوره:
-إللي عليكِ تسألي الأول، أنا دايما مش بحب أقدم أجوبة من غير جهد السؤال.
تململت في جلستها بعدم راحة لمراوغته وعقلها يحثها على الابتعاد عنه قدر الإمكان، وتقدم رفضها للاقتراب به وتنتهي، وجدت نفسها تعود لعقلها وتسأله بحذر:
-إيه نوع الوظيفة؟
عاد بجسده ليعود لوضعيته الأكثر ثقة وسلطة كما شاهدته أول مرة يراقب عينيها الواسعتين بوجلٍ فهما أكثر ما يجذبانه للنظر إليها بدون سبب يعرفه، يجيبها بعد أن أشاح عينيه لأوراقه يرتبها بغير هدى:
-كل إللي عليكِ تستمري معايا، عشان تعرفي بنفسك نوعها.
***
هرول بانفعالٍ صبياني يفتش عن عمّه في أرجاء المكان، لا يصدق ما يصدر منه جهة ابنته الوحيدة، اقتحم عليه غرفة مكتبه دون السماح له بالأذن، يقف وسط المكان، يطلب منه بنبرة حرص ألا يظهر فيها غضبه:
-عمي أنا محتاج أتكلم معاك شوية؟
رفع الأخير عينيه له بترقبٍ وهو على نفس صمته، ثم عاد يتحاشى النظر له، عائدا لبعض الأوراق أمامه وهو على علم ويقين من فحوى الحديث، يخبره بحقيقة الوضع متهربا:
-إنت مش شايف إني مشغول، هو دا إللي أتعلمته في “ألمانيا”؟ تتهجم على المكان بدون إذن.
اقترب “مازن” من مجال مكتبه وقد أقسم ألا يمرر اليوم، حتى يهدأ قلبه، يخبره بتردد:
-لازم نتكلم، عدّى يومين على إللي حصل وإحنا لحد دلوقت مش عارفين راحت فين، والحقيقة أنا شايف إنك مش مهتم من الأساس بغياب بنتك!
ترك بعض الأوراق القديمة مغلقا عليها أطراف ملفه، يضعه في جارورٍ خاص، يجيبه بجمود:
-ماتقلقش عليها، دي بنت “شاكر نظمي” بنت أبوها إللي ورثت طباعي، تلاقيها بتحاول تفكر بعقلها شوية وفي الآخر هترجع وأنا متأكد إنها مش هتخذلني أبدا، وهتاخد حقنا منه.
مسح “مازن” وجهه بفقدان صبر عن أي حق يتحدث عنه، ما شأنها هي من دائرة انتقامه، ولم يهتم من الأساس بكل ذلك القدر للثأر من أجل ابنة زوجته، هل بالفعل كان يعتبرها ابنة كبرى له كما يدعي دائما، سأله ساخر من ثقته في انتقامها:
-مش هتخذلك؟ إحنا مش عارفين هي بايته فين، أنا خايف يكون عملت في نفسها حاجة.
حرك “شاكر” رأسه باستهانة من حديثه، “نيرفانا” الشخص الذي يُقبل على الانتحار؟، يبدو أنه لا يعرف مع من يتعامل، لو كانت شخصا ضعيفا كانت قد أقبلت على تلك الفكرة منذ صغرها بعد ما عانته منه من عقاب وأذى نفسي، كأنه كان ينتقم من أختها فيها، أجابه بثقة لعله يهدأ:
-إنت بتبالغ أوي يا “مازن”، “نيرفانا” دايما بتحب تنفرد بنفسها ترتب أوراقها عشان تفوز بالورقة الرابحة، وهترجع لي بالبشرى.
ضرب “مازن” فخذيه بفقدان صبر وراح يدور حول نفسه غير مصدقا جنون عمه، سأله متهمكا:
-بشرى؟ أنهي بشرى وإنت عاوز توقعها في فخ إللي قتل أختها، عاوزها يكون مصيرها زي “نرمين”؟ ولا هتفرح أما تقف تتحاكم بعد ما تاخد روحه زي ماهددت قبل ماتمشي.
مل “شاكر” من إقناع ابن أخيه بأن ينفض يديه من تلك الأمور العائلية، ليبادر بحديث متعقل:
-اسمعني يا “مازن”، أنا عارف كويس “نيرفانا” بالنسبة لشاب زيك إيه، شاب داق من أصناف وألوان الستات إللي يطيروا عقل التقي، هي بالنسبة ليك فاكهة محرمة نفسك تدوقها وتستمتع بيها رغم الورقة المتعلقة فوقها “ممنوع المساس”، أنا معاك وهسهل عليك الجواز منها، لكن بشرط واحد إنك ماتدخلش في إللي هيحصل بينها وبين المجرم دا، وترجع لي بانتقام يرضيني.
صمت للحظة يفكر في كلماته التي تلاعبت على أوتار حساسة بحياته كاد أن يستنكر عليه قوله ويرفضه، ليشاهده يفتح جارور مكتبه يخرج منه مظروفا أبيض، ألقاه فوق سطح المكتب له، يخبره بنظرة شيطانية لأول مرة يلمحها بعمّه:
-وإلا بنتي هتعرف حقيقة ابن أخويا المدلل، ونسيبها وقتها تاخد هي القرار.
لم يفهم نظرته ولا كلماته المبطنة على الرغم من اعتصار قلبه لتأكده من نواياه السوداء لإلا أنه رفض الفكرة، أسرع في نشل ذلك المظروف يخرج محتوياته وكانت أول صورة فوتوغرافية كافية ليعرف محتوى البقية، ابتلع ريقه بتوتر يحاول أن يبرر كاذبا:
-دي مش صوري، دي مفبركة!
ابتسم بسمة ساخرة، يشير لما بيده يؤكد له:
-في جوا الظرف “فلاشة” متسجل عليها كل إللي كنت بتعمله مع صاحباتها في الجامعة، كل فيديو أنقح من إللي قبله دا أنت ماسبتش بنت يا راجل، حتى صاحبك معتقتش خطيبته!، للأسف “نيرفانا” طيبة وساذجة ماتعرفش إنك كنت مقضيها تفرغ شهواتك، كانت فاكراك منتظرها.
-إنت بتعمل ليه كدا؟ أنا عمري ما شوفت أب بيحب يدمر بنته؟
أجابه بجمود أسود:
أنا مش بدمرها، أنا عاوزها تسترد حقها وحقي.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية رد شرف)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى