روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الثاني عشر 12 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل الثاني عشر 12 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء الثاني عشر

رواية ماسة وشيطان البارت الثاني عشر

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الثانية عشر

_أيّ سنٍ ترغبين في التدريس له؟!!
قالها أنس بتهذيب وهو يغض بصرها عنه كعادته…
كانت تجلس أمامه على مكتبه في مدرسته الخاصة والتي تضم جميع الأعمار…من سن الروضة وحتى المرحلة الثانوية…
مبنيً ضخم يضم العديد من الأبنية الأنيقة…
وقد نجح أنس -خاصةً مع تفرغه دون زواج- في جعله أشهر مجمع تعليمي في المدينة كلها!!!
ابتسمت صفا برقتها المعهودة وهي تقول بصوت خرج متهدجاً رغماً عنها:
_أصغر سن يا أنس…أصغر سن!!
ابتسم في حنان مصبوغ بالشفقة وهو يرفع عينيه إلىها للحظة…
لتتألقا ببريق خاطف من عاطفة واضحة كالشمس…
قبل أن يتمالك نفسه فيخفض بصره عنها من جديد وهو يغمغم بلهجته المهذبة:
_كما تشائين يا صافي…المدرسة كلها تحت أمرك…متى تحبين أن تبدئي حتى نكتب العقد؟!!!
اتسعت ابتسامتها وهي تقوم من مكانها هاتفة بلهفة:
_اليوم….بل الآن!!!
قام واقفاً بدوره قبالتها وهو يتحاشي النظر لعينيها مغمغاً بشرود وسط نبرته الحانية:
_لم تتغيري يا صافي…دوماً عجولة…ما أشبه لهفتكِ الآن بلهفتكِ على المثلجات التي كنا نشتريها من العم (……)في صغرنا!!!!
ضحكت ضحكة صافية وهي تتذكر ما يحكي عنه …
ثم أردفت وهي تشرد بماضيها هي الأخري:
_و”عصير القصب” الذي كان عمي يصطحبنا لشرائه سوياً من المحل في آخر المدينة زاعماً أنه أفضل من يبيعه.
ضحك بدوره وتيار الحنين يجرفه عندما أردفت هي بصوت حالم:
_و”غزل البنات” الذي كنت أتحايل عليك كي آخذ نصيبك مع نصيبي.
تنهد في حرارة وهو يطرق برأسه هامساً بصوتٍ خانه ليفضح حزناً لا يحب إظهاره:
_لم يكن تحايلاً منكِ…أنا كنتُ أشتريه كل مرة وأنا أعلم أنني سأمنحكِ نصيبي حتى ولو لم تطلبيه!!!!
لكنّ عينيها هي كانتا غافلتين عن كل هذا الحزن الذي غلف صوته…
وقلبها يتأرجح كالصغير بين- الحنين لماضيها -عندما كانت طفلة لا تحمل هماً ولا تعرف يأساً…
وبين- غدها- الذي لا تعرف حتى الآن كيف سيكون…!!!
وبالرغم من أن عبد الله شديد التفهم والمراعاة لها هذه الأيام لكنها لازالت متوجسة…
فقط لو تمنحها الأقدار نعمة الولد!!!
ربما ساعتها يطمئن قلبها ويرتاح من عذاب أفكاره!!!!
وأمامها كان العاشق الصامت يقاتل نبض قلبه كعادته كي لا يفضحه…
وأيّ قتالٍ أصعب على المرء من قتال نفسه التي بين جنبيه…؟!!!
صفا لم تكن معشوقة عادية…
بل كانت رفيقة الطفولة والصبا…
والتي حرّمت عليه عندما كبرا …
فليتهما بقيا صغاراً!!!
قلبه الذي تفتحت براعمه على أشعة شمسها الدافئة أبى أن يكون لسواها….
روحه التي تعلقت بها منذ كان طفلاً مبهوراً بجديلتها الطويلة على ظهرها لم تجد لها وطناً غيرها!!!
هي حليلة قلبه الأزلية…
ولو حرمتها عليه كل القوانين والأعراف!!!!
صمتٌ ثقيلٌ ساد بينهما كانت هي أول من قطعته عندما التفتت إلىه من شرودها هامسة بصوتٍ متشح بالحنين:
_كانت أجمل أيام!!
رفع رأسه إلىها للحظة ثم عاد يشيح بوجهه عنها -آسفاً- وهو يغمغم بدعوة صادقة:
_جمّل الله أيامكِ كلها يا صافي…أنتِ تستحقين كل الخير.
ابتسمت ابتسامتها الملائكية وهي تهتف بمرح متألق نابع من قلبها الذي يكاد يطير فرحاً الآن:
_هيا إذن يا عبد الله …أريد أن أري أطفالي!!!!
ظهر الألم في عينيه واضحاً وقد عجز عن كتمانه…ليرد عليها مغمغماً بصوت متهدج:
_أنا أنس يا صافي!!
اتسعت عيناها للحظة ثم قالت باعتذار بسيط :
_عفواً يا أنس…حكم العادة .
أومأ برأسه بلا معني ثم سار أمامها يتقدمها نحو الفصل الذي ستقوم بالتدريس فيه….
وما إن فتح هو باب الفصل حتى شعرت هي وكأنه باب فُتح للجنة…!!!!
دمعت عيناها رغماً عنها وهي ترى كل هؤلاء الأطفال أمامها…
تقدمت نحوهم -كالمسحورة-وهي تود لو كان حضنها الآن بسِعَةِ السماء ..حتى تضمهم جميعاً في نفس الوقت!!
وخلفها كان هو يدرك شعورها جيداً…
وعزاؤه أن القدر جعله سبباً في هذه السعادة الظاهرة على محياها الآن…
ابتسم في مرارة حقيقية وهو يرمقها بنظرة أخيرة قبل أن يخرج مغلقاً الباب خلفه!!!
التفتت للحظة نحو الباب الذي أُغلق -لتوه-بدهشة….
لكن بصرها عاد يتعلق ب”قُرّة عينيها” الجديدة…
كان الصغار يتأملونها بمزيج من الترقب والبراءة الطفولية….عندما رفع أحدهم يده مستأذناً بالحديث…
فأومأت له برأسها وعلى شفتيها ابتسامة بحجم كل سعادة الكون…
وقف الصغير يسألها ببراءة:
_ما اسمكِ يا “ميس”؟!!!
لم تملك ساعتها دموعها التي سالت على خديها وعيناها الظمآنتان تتشربان نظرات الصغار حولها بنهم…
ثم قالت بصوتها الملائكيّ:
_”ماما صفا”…أريدكم جميعاً أن تدعونني كذلك!!!
سادت الفوضى في الفصل بعدها وارتفع صوت ضجيجهم الذي كانت تراه هي منتهي اللذة…
وكيف لا؟!!!
وهي التي طالما أرّقها صقيع الصمت والوحدة!!!!
وخفق قلبها بسعادة حقيقية …فتناولت هاتفها من حقيبتها لتسمع صوته وتشاركه فرحتها كما اعتادت…
لهذا لم يكد يفتح الاتصال حتى سمع هتافها الراقص من فرط السعادة:
_هل تسمع الضجيج يا عبدالله؟!! أنا صرتُ أمّاً…الآن…لديّ …أطفال!!!!!
==========
_عبد الله!!
هتفت بها صفا وهي تستقبله بصالة المنزل كعادتها بعدما أدّى صلاة العشاء…
فاندفع نحوها بابتسامة واسعة لتلقي بنفسها بين ذراعيه وهي تضمه بكل قوتها هامسةً باشتياق:
_افتقدتك جداً…جداً.
ضمها إلىه أكثر وهو يربت على ظهرها بحنان هامساً برضا:
_تبدين سعيدة يا صفا روحي!!
رفعت وجهها إلىه لتدهشه خيوط النور التي أضاءت ملامحها وهي تقول بفرحة غامرة:
_وأيّ سعادة؟!!!! لن أستطيع أن أصف لكِ شعوري اليوم…جنة يا عبد الله….جنة….!!
اتسعت ابتسامته وهو يداعب أنفها بأنفه هامساً بمشاكسة:
_لم أعد ابن قلبكِ الوحيد إذن…هل ينبغي علىّ الآن أن أغار؟!!!
احتضنت عينيه بعينيها وهي تهمس بعشقها اللا محدود:
_أنت ابن قلبي الأول…ولو رزقني الله ألف طفل!
قبّل شفتيها بخفة ثم قال بنبرة مازحة:
_هل وجدتِ وقتاً لإعداد الطعام أم أهيئ نفسي ل”أكل المطاعم”؟!!!
هزت رأسها نفياً وهي تقول بحنان:
_لا شئ يشغلني أبداً عن راحة الشيخ عبد الله ومطالبه.
قبل رأسها بامتنان فدفعته برفق وهي تتقدمه نحو المائدة هاتفةً بمرح:
_طعام اليوم استثنائيّ احتفالاً بعملي.
ضحك وهو يجلس أمامها على كرسيه متأملاً صنوف الطعام المتعددة على المائدة ليقول بمرح:
_لو كان الطريق إلى قلب الرجل معدته…فأنتِ امتلكتِ قلبي كاملاً منذ زمن!!!
ضحكت بدورها وهي تناوله طبقاً فارغاً لتهتف ببساطة:
_لا تحكم قبل أن تتذوق يا أنس…الوصفات كلها جديدة…لقد نقلتها من…
قطعت عبارتها عندما روعتها نظرة الغضب التي اشتعلت فجأة في عينيه…
وقد بدا على وجهه أنه يكز على أسنانه بقوة كعادته عندما يتملكه وحش انفعاله…
فانتبهت لخطئها في اسمه باسم “أنس” وهي تعرف أنه لن يمررها لها بسهولة…
ازدردت ريقها بتوتر ثم غمغمت باعتذار حاولت صبغه ببعض المرح:
_أنا آسفة يا عبدالله…يبدو أن هذا العمل سيؤثر على عقلي…صباحاً أخطأت وناديتُ “أنس” باسمك…والآن…
قاطع عبارتها وهو يهتف ببرود مشتعل:
_عندما تخطئين في اسمه فهذا طبيعي…لكن خطأكِ في اسم زوجك ليس كذلك…صحيح؟!!!
ضغطت شفتيها بقوة…
ثم قامت من مكانها لتتوجه نحوه قبل أن تجثو على ركبتيها جواره مربتةً على ركبته …
ثم رفعت عينيها إلىه هامسة برجاء:
_لا تغضب يا حبيبي…بالله عليك لا تفسد علىّ فرحتى اليوم بأمور لا قيمة لها.
وكأنما أخمدت كل حرائق الغضب بعينيه بشلالات عاطفتها الجارفة….
ساحرةٌ هذه المرأة في تأثيرها عليه…
وفي قدرتها على امتصاص ثورته لتبدلها بحبها برداً وسلاماً…!!
لهذا أشاح بوجهه عنها للحظة…ثم عاد يلتقط نظراتها الراجية بعتاب هامساً:
_كم مرةً أخبرتكِ أنني لا أحب جلوسكِ هكذا!!
قالها وهو يرفعها من كتفيها حتى أجلسها على ساقيه …
ثم طوق خصرها بذراعيه فتعلقت بعنقه وهي تهمس أمام عينيه بعاطفتها الصادقة:
_أنا أحب جلوسي عند قدميك…لعلك تشعر وقتها أنك -وحدك- سيد قلبي.
شدد إحكام ساعديه حولها وقد مسته عبارتها في الصميم…
خاصةً منها هي التي يدرك كم تعتز بنفسها!!!
ربما لأنها بهذا تضمد -دون قصد-جرحه العتيق معها…وشعوره -الذي يخنق روحه-بالنقص أمامها…
ذكيةٌ أنتِ يا صافية الروح والقلب…!!
تعرفين كيف تلعبين دوماً على وتر قلبي الصحيح…
لتنبعث منه النغمة التي تريدينها…
وهذا سرّ تميزكِ!!!
ابتسم أخيراً بعد لحظات صمتٍ طويلة تبادلت فيها العيون حديثاً لا يليق بكلام الحروف…
ثم اقترب بوجهه منها هامساً بنبرة دافئة:
_تري…أيهما ألذ …أنتِ أم طعامك؟!!!
ضحكت ضحكة صافية وهي تسند رأسها على كتفه وغرامها يشعل همسها الذائب:
_كلانا لك يا حبيبي…كلانا لك.
===========
استيقظ من نومه على الأريكة كعادته ليجد الفراش خالياً منها مثل كل يوم…
تستيقظ بعد ما تصلي الفجر لتبدأ عملها في شقتهما…ثم تعد له الإفطار حتى تنزل معه إلى شقة والدته…
فيذهب هو إلى ورشته وتبقي هي هناك حتى يعود بها إلى شقتهما بعد رجوعه من عمله!!!
زوجة مثالية!!!لولا إجراء واحد بسيط…
أنها ليست زوجته بعد …ولن تكون…!!
حتى لو أقرّ زواجهما الشرع والقانون…فهو لن يقرّ به…!!!
هي مجرد ضيفة في بيته ستغادره عندما تحين الفرصة المناسبة!!!!
وفي المطبخ كانت هي واقفة تعد الإفطار وهي تشعر بالدوار…
هذا المجهود صار عنيفاً حقاً…تنظف شقتها هي صباحا…
ثم تنزل لشقة والدته تنظفها وتبدأ عملها في طهو الطعام للعائلة كلها…
وبعدها تجبرها هيام على تنظيف السطح ومسح السلم كله مرة على الأقل…
مجهود كبير على بنيتها الضعيفة….والمشكلة أنها لم تعتد عليه…
لقد كانت مدللة جداً بهذا الشأن في منزل عبدالله…
صفا كانت تستعين بخادمة لمساعدتها…وتتكفل هي بباقي شئون المنزل…
لهذا تشعر بنفسها الآن وكأنها في سجن مع أشغال شاقة مؤبدة!!!
لم تعد تحسب عدد الأيام التي قضتها هنا…
كلها متشابهات…!!!
غير مسموح لها بالخروج ولا حتى لزيارة عبدالله…
عبد الله وصفا هما من يزورانها من وقتٍ لآخر….وبالطبع هي لم تروِ لصفا أي تفاصيل عن هذه الزيجة البائسة!!!
لكن ما يؤرقها حقاً هو أن الدراسة على الأبواب…
فماذا سيفعل راغب معها؟!!!
هل سيمنعها من الذهاب للجامعة؟!!!
بالطبع سيفعل!!!!
وهي لن يمكنها طلب مساعدة من عبدالله في إقناعه…
فهي لازالت تخشى أن يعترف له بالحقيقة…
ستتقبل قدرها على أي حال…فهي لم تعد طامعة في شئ…
لقد فقدت رغبتها في التعليم والعمل…
وحتى في الحياة نفسها!!!!
ترنحت مكانها وهي تشعر بالدوار يلف رأسها أكثر…
فتشبثت بطاولة المطبخ لتشعر بكفيه يسندان كتفيها وهو يقول بلهجته الخشنة:
_ماذا بكِ؟!
شهقت بقوة عندما التفتت إليه لتتمالك نفسها وهي تهمس بخوف:
_لا شئ..!!
عقد حاجبيه وقد راوده هاجس مزعج فسألها بغضب:
_هذا الدوار ما قصته؟!!! هل من الممكن أن تكوني….؟!!
قطع عبارته- التي رأتها هي تهديدية -دون أن يكملها…فهزت رأسها نفياً بقوة وهي تهمس بخوف أكبر:
_لا لا…ليس كما تظن…أنا واثقة.
أشاح بوجهه عنها ثم تناول صينية الطعام التي أعدتها ليضعها على المائدة…
تبعته في استسلام حتى جلست جواره صامتةً دون أن تشاركه الطعام …لينتبه ساعتها أنه لم يرها تأكل منذ تزوجا…
هي لا تشاركه الإفطار…وعندما تعد له الغداء آخر اليوم تعود لغرفتها دون أن تتناوله معه….
تفحصها ببصره ليلاحظ نحول جسدها الشديد …لقد فقدت الكثير من وزنها في هذه الأيام ….
وتبدلت نضارتها لشحوب شديد!!!!
وبعيداً عن أفكاره كانت هي شاردة في وادٍ آخر…
هي مُتعبة اليوم حقاً…لن تستطيع القيام بشئون المنزل…
لكنها تخشى بطش هيام التي تذيقها الويل كل اليوم…بلسانها القاسي وتصرفاتها السليطة…
بل إن الأمر تطور إلى “مد الأيدي”!!!
نعم…لقد دفعتها بقبضتها دفعة قوية بالأمس …
وعندما تأوهت بقوة زعمت هيام أنها كانت تمزح معها!!!!
قطع أفكارها عندما قام من مكانه بعدما أنهى طعامه…فقامت بدورها لتصطحبه للأسفل…
وهي عاجزة عن الاعتراض أو الشكوي!!
وفي منتصف اليوم شعرت بدوارها يزداد …فاستأذنت “الحاجة” في الصعود لشقتها…لكن هيام قالت لها بتسلط:
_امسحي السلم أولاً!
نظرت عفاف إلى هيام نظرة ساخطة لكن هيام مالت على أذنها هامسة:
_لا تنخدعي بهذا الدلال…لو سكتنا لها هذه المرة فستتمادى.
هنا أطرقت عفاف برأسها وهي حائرة بينهما…
فاضطرت رؤى لحمل الأدوات والصعود إلى السطح لتمسح السلم من أوله…
لحقت بها هيام وهي ترقبها بتفحص هاتفة بسخريتها المقيتة:
_لماذا قبلتِ بالزواج مادمتِ عاجزة عن احتمال مسئولياته؟!!!
صمتت رؤى كعادتها تتقبل إهاناتها…فشعرت هيام بالغيظ أكثر وهي تهتف بحقد واضح:
_السيد راغب رفض الزواج من شقيقتي….ليتزوج واحدة مثلك لا تساوي شيئاً في سوق النساء!!!!
شعرت رؤى بدوارها يزداد فقالت بضيق:
_اسكتي من فضلك…أنا مُتعبة ولا ينقصني حديثكِ هذا!
وكأنما كانت هيام تنتظر منها أي رد فعل…
فاندفعت نحوها لتلكمها لكمة قوية في ذراعها هاتفة بغلّ:
_ها قد سمعنا صوتكِ العالي يا من كنتِ تدّعين الأدب!
تأوهت رؤى بقوة من عنف الضربة التي شلّت ذراعها كله…
ثم تراجعت خطوة بظهرها للخلف لتتعثر بدلو الماء الذي أحضرته معها…
صرخت بقوة وجسدها يسقط متدحرجاً على درجات السلم حتى استقرت على قاعدته…
=======
عاد راغب من ورشته ليجد والدته متجهمة على غير عادتها…
قبل يدها باحترام كعادته ثم جلس جوارها يسألها باهتمام:
_ما الأمر يا أمي؟!
اندفعت هيام تقول بحزن مصطنع:
_نحن نصبر على سوء خلق زوجتك منذ فترة طويلة…لكنها اليوم تجاوزت كل الحدود…لقد ادعت أنها مريضة وعندما صعدت إليها أعرض علىها مساعدتها لتستريح هي من العمل اليوم فاجأتني بسيل من السباب والشتائم…لم أرد عليها لكنني قلت لها أنني سأشكو ل”الحاجة” فقالت أنها لا يهمها أحد هنا!!
عقد حاجبيه بغضب وهو يقول بحدة:
_ألن ننتهي من حركات النساء هذه؟!!! هل أتعب في عملي طوال النهار حتى أعود لأتفرغ لتفاهاتكنّ؟!!!
التفتت نحوه عفاف لتقول بعتاب :
_كرامة والدتك صارت تفاهات يا راغب؟!!!
زفر بقوة ثم قام من مكانه قائلاً بنفاد صبر:
_حسناً يا أمي….سأطلقها حتى نستريح جميعاً!!!
شهقت عفاف بعنف بينما امتلأت عينا هيام بالتشفي وهي تراه يصعد غاضباً نحو شقته….
فالتفتت إلىها عفاف قائلة بشك:
_هل أنتِ واثقة أنها قالت هذا؟!! الفتاة مهذبة لا تنطق بكلمة عندما تكون هنا!!
تصنعت هيام المسكنة وهي تقول:
_أنا أيضاً تعجبت مثلك لكن يبدو أنها تجيد التمثيل…لهذا أخشى على راغب من سحرها.
كانت تعلم أنها تلعب على الوتر الصحيح…!!
راغب هو نقطة ضعف عفاف الكبري..وهي تغار على قلبه من أن تتملكه زوجته كاملاً…
وراغب أيضاً لا يحتمل أن يمسّ أحدهم والدته بكلمة….
وصعوده الغاضب الآن سينتهي بكارثة على رأس تلك الباردة التي تزوجها!!!!
وحتى لو أخبرته رؤى أنها هي من دفعتها للسقوط من على السلم فستنكر هذا وتقول أنها تعثرت وحدها…
كلمة رؤى أمام كلمتها هي !! ….ولم يكن أحد معهما كي يؤيد واحدة دون الأخري…
لكن عفاف ستقف في صفها هي ضد رؤى…
ليس لأنها تكرهها لكنها فقط تخشي تأثيرها عليه …!!!!
لهذا كانت واثقة أن الأمور ستؤول لصالحها…
بينما صعد هو ليفتح باب غرفتهما بعنف هاتفاً بخشونته المعهودة:
_كيف جرؤتِ على هذا؟!!
ارتعد قلبها خوفاً من قسوة نظراته…لتهمس برعب وسط دموعها التي سالت على وجهها:
_لم أفعل شيئاً…صدقني…لم أفعل شيئاً.
اقترب منها ببطء وشياطين غضبه كلها تتراقص على وجهه…
فتراجعت بظهرها تلقائياً حتى التصقت بالحائط خلفها وعيناها معلقتان بعينيه اللتين فضحتا وعيده…
حتى صار قبالتها تماماً فلوى ذراعها خلف ظهرها وهو يهتف بحدة:
_لقد حذرتكِ من قبل!
لم تكن حركته بهذه القوة لكنها تأوهت بشدة فوقع بصره على كدمة بشعة أعلى ذراعها…!!
فانعقد حاجباه وهو يسألها:
_من فعل بكِ هذا؟!!
ازداد انهمار الدموع من عينيها وجسدها كله ينتفض انهياراً…لا تستطيع أن تخبره…
هو لن يصدقها…!!!!
لكنه ترك ذراعها ببطء وهو يشهد انهيارها هذا….
ثم أشاح بوجهه عنها للحظة يحاول مقاومة مشاعره نحوها….
لكنه فشل!!
فعاد ينظر إليها بأسف…
ثم ضمها إليه برفق للحظات كاد قلبه فيها يذوب اشتياقاً إليها….
رائحة شعرها الليمونية تداعب أنفه بسحرٍ لاذع يشبهها…
نعم…هذه امرأة بنكهة الليمون…
حارقة…لاذعة…لكنها جذابة منعشة!!!!
كان قلبه يتوسله أن يدفن أنفه في شعرها…
أو ترقد شفتاه على رمال بشرتها الناعمة تتلمس دفء شمسها…
أو حتى يبقيها كما هي هكذا أسيرة ذراعيه للأبد…!!!
لكنه ردع تمرد عواطفه الثائرة بقوته المعتادة ليقول بخشونة:
_أخبريني من فعل هذا؟!
بينما كانت هي عاجزة عن الكلام…بل عن التنفس…!!!
أنفاسها كانت مختنقة مذعورة تأبى مغادرة صدرها!
فتنهد بقوة ثم حاول أن يضمها إليه أكثر لعلها تهدأ قليلاً…
لكنه ما كاد يربت على ظهرها حتى تأوهت بعنف وجسدها ينتفض تحت لمسته!
عقد حاجبيه بشك وهو يدير ظهرها نحوه ثم رفع قميص منامتها ليفاجأ بهذه الكدمات المنتشرة على ظهرها كله…
كز على أسنانه بغضب حاول التحكم فيه…
ثم عاد يدير وجهها الباكي نحوه ليقول بغضب مكتوم:
_من فعلها؟!!!
وضعت كفها على شفتيها تحاول التقاط أنفاسها لتهمس بصوت متقطع:
_لن أستطيع…لن تصدقني.
زفر زفرة حارقة ثم ربت على كتفها قائلاً بانفعال مكتوم:
_اهدئي الآن فقط.
قالها وهو يسحبها من كفها لتجلس على السرير…
لكنها ما إن جلست حتى تأوهت بقوة وهي تضع يدها على ظهرها بألم…
فازدرد ريقه بتوتر ثم سألها باقتضاب:
_هيام؟!!
نظرت إليه بخوف ما عاد يفارق نظراتها وهي تهمس بتوسل:
_لا أريد المزيد من المشاكل أرجوك…أنا هنا وحدي معها طوال النهار ولا أضمن ماذا ستفعل بي.
انتفض واقفاً مكانه وهو يسألها بحدة :
_هل فعلتها من قبل؟!!
تأوهت بقوة وهي تقوم لتقف أمامه قائلة وسط دموع عجزها :
_لا يهم…أنا سأستريح اليوم وسأكون بخير غداً…لكن لا داعي للمشاكل.
نظر إليها نظرة طويلة لم تفهمها…
ثم توجه نحو خزانة الملابس ليحضر حقيبة سفر ضخمة…
عضت على شفتها بألم ما عادت تحتمله …ثم همست بخزي:
_هل ستعيدني إلى عبد الله؟!!
لم يرد عليها وهو يضع ثيابها في الحقيبة….
فأغمضت عينيها مستسلمة لدموع قهرها التي ما عادت تملك غيرها…!!!
ظلت مغمضة عينيها لدقائق حتى انتهي مما يفعله…فوقف أمامها ليهتف بخشونته المعهودة:
_هيا بنا!
فتحت عينيها أخيراً لتهمس برجاء:
_أنا لم أخطئ في شئ…أنا حتى لم أكن أشكو طوال هذه الأيام…فلا تخبر عبد الله عن سري أرجوك.
أغمض عينيه دون أن يرد علىها فعاودت همسها الذليل:
_لو كنت تريد تطليقي فاذكر له أي سبب آخر….أنا لن أعترض.
لم يستطع البقاء معها أكثر…
فغادر الغرفة حاملاً حقيبة السفر وهو يقول دون أن ينظر إليها:
_انتظريني هنا!
وضعت كفها على صدرها وهي تشعر بأنها ما عادت قادرة على الاحتمال…
آلام جسدها مع شدتها لا تساوي شيئاً أمام ما مرت به طوال الأيام السابقة…
من ذل وإهانة وخوف وتوتر…
لكنه عاد إليها بعد دقائق فسارت جواره بصعوبة وهي تئنّ بخفوت رغماً عنها…
فأسند كتفيها بذراعيه قائلاً برفق غريب:
_لا بأس…تحملي فقط حتى نركب السيارة!!!
ظل يسندها حتى نزلت السلم بصعوبة وهي تبكي من فرط آلام ظهرها…
حتى قابلتهما هيام ووالدته على السلم…
فنظرت إليهما عفاف بدهشة وهي تسأله بتوجس:
_إلى أين ستذهب بها يا راغب؟!!! هل ستطلقها حقاً؟!!!
التمعت عينا هيام بشماتة لكنها بدت كمن سقط علىه دلو ماء بارد عندما قال هو بخشونة لا تخلو من عتاب:
_بل سآخذ زوجتي ونرحل من هذا المنزل…البيت الذي تُهان فيه زوجتي وتمتد عليها فيه يد ليس ببيتي!!!!
شهقت عفاف بقوة …ثم نادته عدة مرات محاولة منعه….
لكنه تركهما خلفه وهو يعاود هبوط السلم معها حتى ساعدها في ركوب السيارة….
ثم ركب مكانه بدوره وشغل السيارة منطلقاً بها بسرعة خفيضة حتى لا يزيد ألمها…
فأطرقت برأسها تهمس بخفوت دون أن تجرؤ على النظر إليه:
_أنا آسفة.
اختلس نظرة جانبية إليها لكنه لم يرد …
حتى وصل بها إلى بناية ضخمة توقف تحتها بسيارته ثم قال لها برفقه الغريب عليها:
_هيا بنا…سنصعد الآن إلى الطبيب ليتفحصك.
فتحت الباب لكنه قال بحزم :
_انتظري حتى أسندك.
قالها ثم ترجل من السيارة حتى دار ليقف جوارها …
ثم انحنى مسنداً كتفيها لتتمكن هي من الوقوف بعد عدة أنّات خفيضة لم تستطع التحكم فيها…
وعند الطبيب كان راغب يراقب وجهها المتألم أثناء فحصه لها وهو يكاد يحترق…
بعيداً عن غيرته الآن من انكشاف جسدها ولو أمام طبيب!!
لكنه كان يتعذب بآهاتها…
لا يصدق أنها كانت ستحتمل ألماً كهذا حتى الصباح فقط لأنها تخشاه وتخاف أن تخبره…!!
حتى انتهي الطبيب من فحصه لها ليقول له بأسف:
_لن أستطيع الجزم بشئ قبل إجراء أشعة على ظهرها…لكنها على أي حال تحتاج للراحة الكاملة دون أي مجهود لأسبوعين على الأقل….مع هذه الأدوية والمراهم.
ثم أردف بتعاطف:
_ووجهها يبدو شديد الشحوب…يفضل إجراء تحاليل كاملة.
خرج بها من عند الطبيب ليركبا سيارته وينطلق بها من جديد…
ثم سألها دون أن ينظر إلىها :
_كيف حدث هذا؟!!
ترددت للحظات…ثم روت له ما حدث بشئ من التوجس فهي لم تكن تعلم نيته بعد….
لينعقد حاجباه بشدة وهو يعقل حديثها…
هي ليست كاذبة فما أدراها أن هيام كانت ترغب بتزويجه من شقيقتها؟!!!
لولا هذه التفصيلة ربما ما كان صدق هذا الوجه البشع لزوجة أخيه!
كز على أسنانه وهو يعيد سؤالها :
_وماذا كان يحدث أيضاً طوال الأيام الماضية؟!!
ازدردت ريقها بتوتر ثم همست بخوف :
_لماذا تسألني عن هذا؟! هل تصدقني حقاً؟!!! أم أنك توقع بي لتسخر مني؟!
أوقف السيارة لينظر إليها أخيراً قائلاً بضيق :
_لماذا افترضتِ أنني لن أصدقك؟!!! ولماذا لم تخبريني بكل ما كان يحدث؟!!!
أطرقت برأسها وقد عادت إلىها دموع القهر من جديد ….
فرقّ صوته أكثر وهو يعيد سؤالها:
_إلى متى كنتِ ستحتملين ؟!!!
انتفض جسدها بعنف وهي تهتف بانهيار تام:
_إلى النهاية…أي نهاية…أنا كنت متقبلة لأي عقاب…حتى أكفر عن ذنبي…كل ما كنت أخشاه هو أن يعرف عبد الله…ليس لأنني كنت أخاف عقابه بقدر ما كنت أخشي رؤية الخزي في عينيه…هو الشيخ عبد الله الذي يعلم الجميع عن تقواه والتزامه والذي لم يقصر في تربيتي طوال هذه السنوات…لا يستحق أن أمرغ وجهه في التراب …أو أن يضيع مستقبله لو قتلني….وهو كان سيفعلها لو عرف…أنا واثقة من هذا…أنا أنهيتُ حياتي بخطإ …وسأرضى بقسمة الله لي …هو وحده يعلم أنني…
عجزت عن إتمام عبارتها عندما انهارت تماماً في بكاء هستيري…
فدمعت عيناه هو الآخر ثم اقترب ببطء ليضمها لصدره بذراعه دون أن يجد كلاماً يقال….
ظلت تبكي على كتفه لعدة دقائق حتى تمالكت نفسها…
ثم رفعت وجهها إليه أخيراً لتهمس بامتنان لم يغادره خوفها بعد:
_شكراً…أنت رجل طيب…تستحق من هي أفضل مني بكثير.
تنهد في حرارة وهو يشيح بوجهه عن ملامحها البريئة التي لا يصدق حتى الآن كيف ارتكبت هذه الخطيئة…
ثم فك حصار ذراعه حولها ليعيد تشغيل السيارة منطلقاً بها من جديد…
تلفتت حولها في دهشة ثم نظرت إلى جانب وجهه تسأله بتوجس:
_هذا ليس الطريق لمنزل عبد الله…أين سنذهب؟!!
ظل مركزاً بصره على الطريق أمامه قائلاً دون أن ينظر إلىها:
_عندما نصل سأخبرك!!
==========
_سأعرف كيف أصالحها…فلا يليق أن تبقى غاضبة ونحن سنعقد قراننا غداً!!!!
أصابتها عبارته بما يشبه الشلل وهي تنظر إليه مصدومة!!!
عقد قران؟!!!!
غداً؟!!!
يا إلهي!!!
ألم تنتهِ من هذه المصيبة بعد؟!!!!
انفرجت شفتاها وهي تهمّ بالرد عليه بحدة لكن والدها رمقها بنظرة زاجرة أخري…قبل أن يتركهما ويخرج !!!
رفعت عينيها إلى عينيه الصقريتين وهي تحاول التحكم في نبرات صوتها:
_لماذا جئت اليوم؟!!
استخرج دبلتها التي كانت قد خلعتها في لقائهما السابق من جيب قميصه ليرفعها أمام وجهها قائلاً بلهجته الصارمة:
_جئتُ أعيد لكِ هذه!!
ابتسمت ابتسامة هازئة وهي تعقد ساعديها أمام صدرها قائلةً بنبرة متحدية:
_لم تعد لي يا سيادة الرائد…لو كنتُ أريدها لما خلعتُها !!
ابتسم ابتسامة جانبية يخالطها بعض الإعجاب وهو يرمقها بتفحص أثار ارتباكها للحظات…
قبل أن يقول بحزم واثق:
_اجلسي لنتفاهم.
زفرت بقوة ثم أشاحت بوجهها للحظة قبل أن تجلس على كرسي “الصالون” المجاور له مطرقةً برأسها تنتظر أن يقطع صمتهما…
لكنه ظل يتأملها بتفحص للحظات قبل أن يسألها ببطء حذر:
_ما الذي أغضبكِ مني بالضبط ؟!!!
رفعت رأسها إليه بحدة وهي تهتف بانفعال:
_بل اسألني عمّا لم يغضبني…سيادة الرائد يظنني بضاعة راكدة تفضّل هو على أهلي بشرائها…وللأسف أنا التي منحتك هذه الفرصة باستسلامي لأسلوبك المتعجرف…لكنني تعلمت درسي…أن أسير طريقي وحيدة وأكمله خيرٌ لي من أسيره مع من يعرقل خطواتي.
ابتسم ابتسامة حقيقية وهو يقترب بجذعه منها هامساً ببعض الرفق:
_كل هذا لأنني كدتُ أقبّلك؟!!! ألم تفكري للحظة أنه كان اختباراً مني لكِ؟!!!
ابتسمت بسخرية وهي تشبك كفيها قائلةً بتهكم مرير:
_واستهزاؤك بي دوماً ؟!! وتهميشك لرأيي؟!! وأسلوبك المزدوج في التعامل عندما نكون وحدنا وعندما يرانا الآخرون؟!!! كل هذه اختبارات أيضاً؟!!!
عقد حاجبيه بضيق وهو يراها تواجهه بعيوبه هكذا ليكابر ويسألها بانفعال مكتوم:
_ماذا تريدين الآن؟!!! اعتذاراً؟!!!
قامت واقفة وهي تقول بحدة بعيدة عن طبعها المرح:
_لا يا سيادة الرائد…أنا أعرف أنك لن تعتذر مهما كان خطؤك…كما أنني زاهدةٌ في اعتذاركِ هذا…لا أريده…ولا أريدك.
وقف بدوره وهو يكز على أسنانه هاتفاً بسخط :
_كيف تجرؤين على التحدث معي هكذا؟!!! هل تعلمين مع من تتكلمين؟!!!
ازدادت حدة انفعالها حتى احمر وجهها وصوتها يقارب الصراخ:
_لا تظنني غبية ..أنت لن تقبلني على عيبي ما لم تكن تحمل عيباً أكبر!
ارتفع كفه رغماً عنه يهمّ بصفعها دون شعور…
لكنه تجمد مكانه عندما فوجئ بها بعد عبارتها تسقط أمامه وجسدها كله يتشنج بقوة…
اتسعت عيناه بصدمة وهو يري جسدها المتشنج على الأرض ينتفض بجنون وهي تصدر صوتاً غريباً…
وازدادت صدمته عندما وجدها تعض -بلا وعيٍ- على لسانها بقوة حتى سال منه الدم…
ظلت على تشنجها للحظات حتى هدأ جسدها لتفقد وعيها بعدها…
لقد أصابتها نوبة الصرع من جديد ليشهد بعينيه ما ينتظره معها لو كان يرغب حقاً في إكمال عرضه- السخيّ – على دميته “المعيبة”!!!!!
========
أفاقت من إغماءتها لتجد نفسها على فراشها في غرفتها…
فتحت عينيها ببطء وهي تشعر بجسدها كله يئنّ ألماً كعادتها بعد نوبات صرعها هذه…
تأوهت بضعف وهي تدور بعينيها في الغرفة فسمعت صوت والدتها جوارها تغمغم بارتباك جزع:
_هل أفقتِ يا ابنتي؟!!!
التفتت نحوها ببطء ثم اتسعت عيناها بارتياع وهي تجده واقفاً جوار والدها يرمقها بنظراتٍ غريبة…
شهقت بخفوت وهي تهرب من عينيه لتتشبث بكف والدتها وهي تسألها بخوف متمنيةً ألا يكون ما في بالها صحيحاً:
_ماذا …حدث…؟!!!
خرج صوتها ضعيفاً مهتزاً لأن لسانها كان مجروحاً بعد ما حدث….
عندما اختلست والدتها نظرةً محرجة نحو حسام ثم غمغمت باستسلام لم تملك غيره:
_لقد أصابتكِ النوبة منذ قليل.
أغمضت عينيها بألم وهي تحاول تذكر ما حدث…
آخر ما وعاه عقلها هو مشادّتها الكلامية مع حسام وهو يهمّ بصفعها!!!!
دمعت عيناها بخزي ممتزج بالقهر وهي تود لو تنشق الأرض وتبتلعها الآن!!!
لماذا هو بالذات يحدث لها هذا أمامه؟!!!
أما كفاها سخريته واستهزاءه بها؟!!!
هل كانت تنقصها هذه الحادثة كي يزداد لها تحقيراً؟!!!
لكن…لا بأس!!!
لعله خير!!!
من يدري ربما كان هذا ترتيباً قدرياً حتى تتخلص منه…
فلا تظنه سيستمر معها بعدما رآه بعينيه!!!!
قُطعت أفكارها عندما سمعت صوته يسأل والدها بتهذيبه المبالغ فيه:
_عذراً يا عمي…هل ستمنعها هذه النوبة من عقد القران غداً أم أنها مجرد عَرَضٍ طارئ؟!!!
لم يكد يتفوه بعبارته حتى التفتت إليه ثلاثة أزواجٍ من العيون بصدمة…
نعم…هي التي كانت مذهولة بتمسكه -العجيب-بها خاصةً بعدما حدث…
ولم يكن والداها أقلّ منها ذهولاً…!!!
لكن ذهولهما كان ممتزجاً بالكثير من الامتنان…
والأسباب -بالطبع-معروفة!!!!
لهذا هتف والدها بسرعة :
_لا يا ابني لا تقلق…غداً ستكون بألف خير…إنها حالة مؤقتة تزول سريعاً.
ثم استدرك بتساؤل قلق:
_لكن هل أنت واثقٌ من رغبتك في إتمام الأمر؟!!! لقد كان صوتكما عالياً عندما…
قطع عبارته بعجز…
لكن حسام احتوى ارتباكه بابتسامته الودود وهو يقول بنفس اللهجة :
_دعاء تتدلل يا عمي …والدلال يحق للعروس.
ثم أردف بتهذيبه الذي لا يُردّ من يتحدث به:
_أستأذنك أن أكمل معها حديثنا وحدنا كي أراضيها.
اتسعت عينا دعاء مصدومةً من طلبه الجرئ…!
كيف يطلب من والدها أن يبقي معها وحدهما في غرفة نومها وهي نائمةٌ هكذا….؟!!!
لابد أن والدها سيرفض!!!!
لكن والدها تردد قليلاً وبدا عليه بعض الارتباك وهو يرمق زوجته بنظرة استشارة…
فقامت والدتها من جوارها وهي تقول بلهفة أم تريد الخير لابنتها:
_بالطبع يا ابني ….هي في حكم زوجتك…عقد قرانكما غداً.
أغمضت دعاء عينيها تخفي دموع عجزها وألمها وهي ترى والديها يتعاملان معه بهذا الخنوع..
لو كانت هي فتاةً طبيعية لما سمح والداها بهذا التجاوز…
لكنهما يغضان الطرف ويتنازلان حتى تتم الصفقة الرابحة…
بل إنها تتوقع أنهما الآن سيسجدان لله شكراً لأنه سيتمّ الزيجة بعدما رآه!!!!
ثم راودها خاطر مزعجٌ جعلها تشعر بالخزي أكثر…
من الذي حملها حتى أرقدها على فراشها…؟!!!
في كل مرة تنتابها هذه النوبة ينتظر والداها حتى تفيق مكانها على الأرض…
فلا أحد منهما قادرٌ على حملها…
ووجودها الآن على فراشها يعني أنه هو من فعلها!!!!!
والدها تركه يحمل جسدها بين ذراعيه وكأن هذا من حقه!!!!
تنازلٌ تلو تنازل!!!!
وخزيٌ يعقبه خزيٌ!!!
وكل شئٍ يهون فداءً لسيادة الرائد العظيم الذي بعثته الأقدار هديةً لابنتهم المريضة زهيدة القيمة!!!!
ظلت مغمضةً عينيها باستسلام وقد خانتها دموع خزيها وقهرها…
عندما جلس هو أمامها على طرف فراشها قائلاً بنبرة محايدة خالية من أي انفعال:
_حمداً لله على سلامتك.
ظلت على حالها من البكاء الصامت وهي عاجزةٌ حتى عن فتح عينيها…
كيف يمكنها رفع عينيها في عينيه بعد ما رآه…؟!!!!
لقد رآها في أسوأ حالاتها…وأشدها خزياً!!!!
هل تراه الآن مشفقاً أم شامتاً بعدما ناله من إهاناتها؟!!!
وكأنما قرأ أفكارها فقد اقترب بجذعه منها ليمسح دموعها قائلاً بنفس اللهجة المحايدة:
_لا تبكي…لا أحب أن أراكِ ضعيفةً هكذا.
ابتعدت برأسها عنه وهي تتحاشي النظر إلىه هامسةً بصوتها الضعيف:
_ابتعد … لا تلمسني!
قبض أنامله مبتعداً عنها قبل أن يقول بلهجة غريبة :
_غداً تكونين لي!!
هزت رأسها نفياً لتعاود همسها القويّ رغم ضعفه:
_لا…لن أكون لك…أنا لا أوافق.
ابتسم ابتسامة جانبية وهو يقترب أكثر ليكبل ذراعيها بكفيه بقوة وهو يميل بجذعه فوقها مقترباً بوجهه من وجهها قبل أن يهمس بنبرة متملكة:
_هل تراهنين؟!!!
ارتعد جسدها بخوف حقيقي وعيناه الصقريتان تعتقلان نظراتها باقتدار….
وخفقات قلبها تتراقص بجنون مع ثقل جسده الجاثم فوقها…
للحظات مرت قبل أن تهمس بصوت متقطع:
_ابتعد ..ابتعد.
لكنه بدا وكأنه لم يسمعها فقط عيناه التمعتا بقسوة وهو يهمس أمام عينيها بغضب لم تفهمه:
_تظنين نفسكِ مقاتلة شريفة في معركة الحياة؟!!! لا يا صغيرة…ستستسلمين كما استسلم غيرك…وستبيعين وتقبضين المقابل كما الجميع.
التفتت برأسها المستلقي على وسادتها نحو الباب وهي تهمّ بنداء والديها…
لكنه قام بسرعة مغلقاً الباب بالمفتاح ثم اقترب منها ليرفع عنها غطاءها هامساً بنبرة تهديد:
_والآن ماذا؟!!! هل تفضلين فضيحة قبل أن يتوسلني والداكِ لإتمام الزواج؟!!!
انقبض قلبها رعباً من تهديده فنهضت من فراشها بصعوبة تحاول الصراخ لكن صوتها اختنق بحلقها ….
عندما وجدته يضع كفه على شفتيها وهو يقول بصرامة:
_من تنادين يا صغيرة؟!!! والداكِ في صفي أنا وأظنكِ تعرفين السبب.
انهمر سيل دموعها المقهورة على وجنتيها حتى أغرقت أنامله على شفتيها…
فرفع كفه ببطء عنها وهو يهمس بصوته المسيطر:
_الآن نتفاهم إذن بعدما أدركتِ قوة موقفي.
أومأت برأسها في خوف وهي تهمس وسط دموعها:
_افتح الباب أرجوك.
رمقها بنظرة صارمة أخيرة قبل أن يقوم ويفتح الباب من جديد بمنتهي البساطة …
ثم عاد يجلس جوارها وهو يحاصرها بنظراته القاسية…
حتى وجدت بعضاً من قوة لتسأله برهبة وقد أدركت أنها وقعت تحت قبضة شيطان حقيقي:
_لماذا أنا بالذات؟!!لماذا تتمسك بالزواج بي؟!
لوح بسبابته في وجهها وهو يقول بصرامته المتغطرسة:
_حسام القاضي يَسأل ولا يُسأَل!!
أغمضت عينيها عن صورته وهي تتمنى لو يكون كل هذا مجرد كابوس…
لكن صوته القاسي وصلها وكأنه فهم ما يدور برأسها وهو يهمس بلهجة مهيمنة:
_افتحي عينيكِ أو أغلقيهما …لا فارق هناك…أنا في حقيقتك وفي أحلامك.
فتحت عينيها ببطء وهي تهمس بخفوت:
_ماذا تريد مني بالضبط؟!
ظلت ملامحه على جمودها وهو يجيبها ببرود:
_أريد الزواج منك….وسأفعل!
قالها ثم قام من مكانه ليربت على وجنتها برفق هامساً أمام عينيها:
_نامي جيداً واستعدي لعقد قراننا غداً.
ازدردت ريقها ببطء تتابع خطواته المنصرفة باضطراب….
لكنه توقف عند باب الغرفة ليلتفت نحوها من جديد قائلاً بحزم:
_ولا تبكي كثيراً حتى لا تفسدي رونق عينيكِ في الحفل غداً.
===========
استيقظت من نومها على حركة أنامله -الفريدة-التي تداعب شعرها برفق غريب على طبعه الذي تعرفه…
لكنها لا تنكر تأثيرها عليها رغم كل شئ…
وكأنه يبثها عبرها المزيد من قوته هو… مع وعود بالأمان الذي تحتاجه الآن أكثر من أي وقت…
لا تدري سرّ حركته هذه…!!!
لقد جعلتها تبوح له بما لم تبح به لأحد…
لكن…ربما ليس السرّ في حركة أنامله المداعبة لشعرها…
وإنما فيما تحمله لها من شعور!!!
شعور بالدفء..
بالأمان…
بالاحتواء!!
فتحت عينيها ببطء لتتطلع لملامحه الشاردة….
وقد بدا لها في هذه اللحظة كأغرب مرة تراه فيها…
هذا الرجل لغزٌ محير…
لقد فعل لأجلها ما لم تتصور أن يفعله أحد…
لقد ثأر لها من هؤلاء المجرمين…
وليس هذا فحسب…
بل أحضرهم تحت قدميها لتشعر بمدى قوتها -الجديدة-!
ورغم أنه كان يريد قتلهم …
لكنه تراجع فقط استجابة لرجائها هي!!!!
لقد شعرت بالأمس -ولأول مرة في حياتها-أنها قوية…
وأن لها سنداً داعماً في هذه الحياة….
حتى أن كوابيسها لم تهاجمها في ليلتها السابقة أيضاً….
رغم أن نومها كان قلقاً تتخلله نوباتٌ من استيقاظها الملهوف على صوت أناتها المتألمة…
لكنها كانت تجده مستيقظاً في كل مرة تفتح فيها عينيها فيربت على وجنتها برفق وهو يداعب شعرها بحركته -الفريدة-
مع همسه بجملته التي كانت تتخلل وعيها بين صحوها ومنامها…
_لا تخافي…ولا تحزني.
فتعود لنومها مطمئنة وقلبها يستكين -رغماً عنها-لشعوره الجديد بالاحتواء!!!!
التفت إليها من شروده لتتسع عيناه للحظة تألقت فيها شموسه الزيتونية وهو يهمس باهتمام:
_هل استيقظتِ ؟!!!
أومأت برأسها وهي تقوم من رقدتها لتشيح بوجهها في خجل…
هامسة بارتباك:
_هل تأخرت في الاستيقاظ؟!!
ابتسم في رفق وهو يقول بهدوء ممزوج بالإشفاق:
_لا عليكِ…لقد كانت ليلة صعبة.
تحاشت النظر لعينيه وهي تنهض لتجلس على طرف الفراش فتتلاعب أناملها بطرف غطائها هامسة بشرود:
_لم تنتابني كوابيسي الليلة الماضية أيضاً.
ربت على كفها برفق وهو يهمس بنبرته المسيطرة:
_ألم أخبركِ أن كوابيسكِ لن تطاردكِ هنا في غرفتي؟!!!
رفعت إليه وجهها بحذر…
فتنهد بحرارة ثم أردف بحزم:
_لكن الأمر لم ينتهِ بعد…أنتِ تحتاجين لعلاج.
عقدت حاجبيها بشدة وظهر الاستنكار في عينيها واضحاً…
فضغط كفها في راحته وهو يهمس بنفس الحزم:
_شعوركِ المؤقت بالأمان لا يعني أنكِ شُفيتِ تماماً…أنتِ تحتاجين لعلاج متخصص.
عضت على شفتها بارتباك مع ارتعاشة خفيفة سرت في جسدها وهي تهمس بترقب:
_هل ستدعني أذهب إلى طبيب نفسي؟!!
ابتسم ابتسامته الجانبية وهو يجيبها بحسم:
_أولاً ليس طبيباً بل طبيبة…أنا لا أتسم بالمرونة في هذه الأمور!
خفضت بصرها عنه في حياء وهي تشعر بشعور غريب…
رغم ما توحي به كلماته من سيطرة وتملك…
لكنها -للعجب-لم تكن منفرة بالنسبة إلىها…
بل زادت من شعورها -المستحدث-معه بالحماية…
بالأمان!!!
قطع أفكارها وهو يردف بنفس النبرة :
_وثانياً…أنتِ لن تغادري هذا القصر…ستأتي الطبيبة إلىكِ في مواعيدها الدورية …إنها أفضل طبيبة نفسية في مصر …وعيادتها في القاهرة تحظى بسمعة ممتازة.
ارتفع حاجباها بدهشة وهي تغمغم:
_وهل ستأتي من القاهرة إلى هنا لأجلي؟!!!
امتزجت ابتسامته ببعض المرارة وهو يجيبها:
_إنه سحر المال يا صغيرة!
تعلقت بشموسه الزيتونية المتألقة والتي غمرتها بدفء أشعتها للحظات….
قبل أن تهمس بحيرة :
_ولماذا تفعل أنت هذا لأجلي؟!!
أشاح بوجهه دون أن يرد…
فعادت تهمس بترقب:
_نفس الدين القديم؟!!!
التفت نحوها لينثر بعض الأمان وسط أمواج فضتها الهادرة متجاهلاً سؤالها -المفخخ-وهو يقول برفق:
_ألم يكن هذا وعدي لكِ؟!!!
أومأت برأسها إيجاباً….ثم قالت بصوت مهزوز:
_هل تظن أنني قد أتخلص من كوابيسي كلها يوماً ما؟!!
أومأ برأسه في إجابة قاطعة ونظرته الواثقة تذيب مخاوفها كما الملح في الماء…
ثم ربت على كفها برفق قائلاً بنبرة حازمة:
_اغسلي وجهكِ والحقي بي في غرفة الحديقة الخارجية…سنتناول إفطارنا هناك.
أنهت إفطارها معه في الحديقة ثم تركها ليخرج لقضاء بعض أعماله…
عادت إلى غرفته وهي تشعر بالفراغ…
وحدتها هي أقسى ما يمكن أن تعانيه الآن…
لأنها تترك عقلها فريسة لذكرياتها السوداء كلها…
وليس عقلها فحسب…
بل قلبها الذي يكاد يذوب اشتياقاً لماضيه…!!!
تنهدت في حرارة وهي تحاول جاهدة صرف أفكارها هذه عن رأسها…
ولمّا فشلت خرجت من الغرفة لتجد نفسها أمام غرفة حورية…
مدت كفها نحو الباب بتردد ممتزج بالخشية…
لكنها حسمت أمرها سريعاً وطرقت الباب برفق…
حتى سمعت إذنها بالدخول…
دخلت الغرفة بخطوات بطيئة مترددة لكن ابتسامة حورية المشفقة نسفت كل هذا وهي تغمغم بحسرة:
_فشلتِ في الهربِ يا ماسة!
ازدردت ماسة ريقها بتوتر وهي تشعر بغرابة موقفهما…
حورية لا تبدو غاضبة منها…
ولا يبدو على وجهها أي مظهر للغيرة …
بل على العكس…
إنها تبدو وكأنها تشعر بالشفقة نحوها…
وهي التي كانت تخاف أن تكون ناقمة عليها!!!!
ويبدو أن حورية قد فهمت ما يجول بذهنها فقد قالت لها بأسي:
_لا تتعجبي يا ماسة…لن تجدي امرأة في هذه الدنيا أكثر زهداً في زوجها منّي!!!
هزت ماسة رأسها بتساؤل حقيقي يشغل رأسها منذ فترة…
لماذا يعاملها عاصي بهذا الرفق والتفهم…
في الوقت الذي رأت فيه بنفسها قسوته وتسلطه مع حورية؟!!!!
بينما ابتسمت حورية بمرارة وهي تقول بشرود:
_قصتي مع عاصي الرفاعي بدأت منذ سنوات طويلة…أنا وابن عمي عدنان كنا متحابيْن منذ صغرنا…وعاصي كان يعلم هذا…لكن المصالح المشتركة بين عائلة الرفاعي وعائلتي اقتضت أن أتزوج به…ورغم أنني ذهبت لعاصي قبل الزواج ورجوته ألا يتمّ هذا الأمر لأنني لا أريده…إلا أنه استسلم لعناده ودعوة المصالح …وعندما علم عدنان بزواجي خرج من المدينة كلها إلى مدينة أخري بعيدة…ولم يعد سوى منذ بضعة أشهر فقط….
اتسعت عينا ماسة وهي تسألها بترقب:
_هذا يعني أن عودته تزامنت مع حملك…لهذا يشك السيد عاصي في نسب الطفل؟!!!
أومأت حورية برأسها إيجاباً وهي تردف بنفس الشرود:
_لا أقول أن هذه السنوات مع عاصي الرفاعي كانت نعيماً…بل على العكس …لقد كانت سجناً قاسياً…لكن كل هذا لا يساوي شيئاً أمام فعلته الأخيرة…إنه لم يقتل عدنان فقط…بل قتلني معه.
ارتعش صوتها في عبارتها الأخيرة ثم انخرطت في بكاء عنيف وهي تهتف وسط دموعها:
_هل تتصورين شعوري وأنا أراني سبباً في موت الرجل الوحيد الذي أحببته؟!!
دمعت عينا ماسة وهي تندفع نحوها لتحتضنها بقوة جالسةً جوارها على طرف الفراش…
عندما أردفت حورية وسط نشيجها المتألم:
_لماذا قتله وتركني أنا؟!كي يعذبني بذنبه؟!!!
سالت دموع ماسة على خديها وهي عاجزة عن استيعاب كل هذا الظلم…
وكل هذا الألم…
لا تصدق أن عاصي الرفاعي الذي منحها أماناً لم يمنحه لها أحد….
له هذا الوجه الشيطانيّ!!!!
لهذا صمتت لدقائق حتى هدأت حورية نوعاً ثم سألتها برفق متردد:
_ألا يحتمل أن ابن عمكِ قد أخطأ في شئٍ آخر؟!!هل يُعقل أن يقتله السيد عاصي لمجرد شك؟!!
ابتسمت حورية ببعض الإشفاق وهي تتطلع لملامح ماسة البريئة ثم همست بشرود:
_هو ابن أبيه يا ماسة…حماد الرفاعي هو الذي زرع بذوره الشيطانية في ابنه الوحيد ليعلمه كيف يملك الدنيا بقبضة يده منذ صغره .
ازدردت ماسة ريقها ببطء وهي تتصور القصة التقليدية…
الأب القاسي الذي يسرق زهور طفولة ابنه ليمنحه بدلاً منها سيف طغيان!!!
فتكون النتيجة رجلاً بلا قلب…
لكن …هل هكذا عاصي حقاً؟!!!
لا…هي لا تراه كذلك…
وبالذات بعدما حدث بينهما منذ زواجها -الغريب-به…
على العكس…
هذا الرجل يعرف متى يفيض حنانه كشلالٍ جارف….
ومتى يوقفه خلف سدود سيطرته!!!
يا لحيرتي معك يا سيد عاصي!!
ويالظلمةَ مصيري معك!
تنهدت في حرارة وهي تربت على رأس حورية المستقر في حضنها…
فرفعت حورية عينيها إليها وهي تقول بحسرة :
_لازلتُ أسأل نفسي لماذا اختاركِ أنتِ!!
ثم التمعت عيناها فجأة وهي تسألها بجزع:
_هل يعلم أنكِ كنتِ تحبين رجلاً آخر؟!!
شهقت ماسة بقوة وعقلها يقارن تلقائياً بين وضعها ووضع حورية…
لترى بعين خيالها عزيز مكان….عدنان!!!!
معقول؟!!!
هل كان هذا ما يقصده عندما وعدها أن ينتزعه من روحها قبل أن تكون كاملةً له؟!!!!
هل ينتوي…قتله؟!!!
لا….مستحيل…
والد عزيز يرتبط معه بعلاقة عمل كما أخبرها وهو لن يُقدم على إيذاء ابنه….
لا…لا…لن يقتله….
لكن…ربما يؤذيه!!!
وقد أكملت لها حورية أفكارها -السوداء-وهي تردف بانفعالٍ شديد:
_بالتأكيد يعلم…وهذا هو سبب إصراره على هذه الزيجة…عاصي الرفاعي مهووس بالسرقة وحب الامتلاك…عندما أعجبتُه أنا سرقني من عدنان…وهاهو ذا يكرر فعلته معكِ.
اتسعت عينا ماسة بإدراك ومشهدٌ واحد يتملك عقلها مُهيمناً…
مشهد عاصي وهو ينتزع سلسلة عزيز من عنقها بقوةٍ جرحتها ثم يلقيها في نار المدفأة!!!
قشعريرة باردة سرت في جسدها وهي تفهم الآن فقط سبب زواجه منها…
السيد العظيم أعجبته الفتاة الفقيرة وأثارت لديه غريزة التملك عندما علم عن عشقها لغيره…
فأراد فقط أن يثبت سيطرته ويرضي غروره…
غرور شيطانٍ وجد ماسةً في طريقه فسرقها لتكون له قبل غيره!!!
============
سمعت صوت طرقاته مساءً على باب غرفته التي تقيم فيها حسب أوامره…
فانتفضت مكانها بخوف لم يغادر نظراتها حتى دخل ليتقدم نحوها قائلاً برفق:
_كيف حالكِ الآن؟!!!
أشاحت بوجهها رغماً عنها في نفور لم تستطع التحكم فيه وحديث حورية يحتل أفكارها عنوة…
لتجد نفسها رغماً عنها تتخيل عزيز مكان عدنان…!!!!
ارتجف جسدها للفكرة فأحاطته بذراعيها وهي تهمس بصوت متهدج:
_الحمد لله.
تفحصها ببصره للحظات…ثم سألها بنفس النبرة الرفيقة:
_لماذا عاد الخوف لملامحك؟!! كنتِ أفضل حالاً في الصباح!!!
ازدردت ريقها ببطء وهي تتحاشى النظر إليه….
فاقترب منها خطوة لكنها تراجعت -تلقائياً-للخلف وهي تهرب بعينيها منه…
عقد حاجبيه وهو يشعر بأن ثمة شيئاً ما خطأ!!!
لقد اختفت نسائم الأمان التي كان يراها محتضنة لنظراتها نحوه…
لتحل محلها رياح عاصفة من خوفها القديم….
وهذا لن يكون له إلا سبب واحد…!!
لهذا ابتسم ابتسامته الجانبية وهو يسألها بيقين:
_هل تحدثتِ إلى السيدة حورية؟!!!
كانت عبارته للجواب أقرب منها للسؤال…
لكنها تجاهلتها وهي لا تزال تتجنب الضلال من جديد في غابات زيتونه….
عندما سمعته يردف بلهجة غامضة تمزج اللوم بالأسف:
_ظننتُ أن ماسةً عانت من كثرة خدوشها لن تنخدع بصور المرايا المكسورة!!!!
رفعت عينيها إليه بوجل…
وهي تحاول استقراء ما يخفيه خلف كلماته …
إنه يقايضها بشعورها بالظلم الذي لازمها طيلة حياتها على وجوب أن تحسن الظن فيه هو…!!!!
لكنها حقاً حائرة…
لقد رأت منه وجهين في غاية التناقض…
جزء منها يرتاح إليه بلا حواجز ولا حدود…
نعم …لا يمكنها نكران شعورها بالأمان معه…!!!!!
لكن جزءاً آخر يخافه بجنون…
ويود لو يهرب منه هروبها من الموت نفسه!!!!
وبهذه الحيرة التي تملؤها وجدت نفسها تتجاهل عبارته ثانية لتقول له بصلابة :
_لقد صرتُ أفضل حالاً…أفضل النوم في غرفتي الليلة.
اتسعت ابتسامته الجانبية وهو يرمقها بنظرات غامضة للحظات…
قبل أن يفرد لها ذراعه على طوله بإشارة موحية…!!
أطرقت برأسها وهي تشعر بالكثير من الارتياح لأنه لم يستبقِها قهراً….
لكن شعوراً آخر -بالخيبة – تسلل إليها رغماً عنها و هي تتجه نحو باب الغرفة بخطواتٍ متثاقلة …
وعندما وضعت كفها على مقبض الباب سمعته خلفها يقول بلهجته المسيطرة:
_عودي عندما تريدين دون خجل.
ارتجفت أناملها على المقبض وهي تشعر بأنها ستودع أمانها -المؤقت-لو تركت هذه الغرفة…
لكنها استجابت لنداء أعماقها التي كانت تناشدها بالهرب من كل هذا الفيض من المشاعر المتناقضة…
ففتحت الباب وخرجت لتغلقه خلفها في تصميم…
ثم توجهت إلى غرفتها بخطوات سريعة تنتحل القوة…
حتى أغلقت بابها خلفها فعاد إليها شعورها بالخوف من جديد…
فتحت أنوار الغرفة كلها وتمددت على فراشها تتشبث بغطائها وهي تحدق للسقف بشرود…
حاولت النوم لساعات طويلة مرت بعدها…
لكنها لم تستطع…
أفكارها كانت تلتهم رأسها كوحوش ضارية…
ذكرياتها السوداء تحالفت مع قلقها أسوأ تحالف لتجد نفسها رغماً عنها ممزقة بينهما!!!
سمعت أذان الفجر فقامت تصلي وهي تدعو الله بتضرع…
لكن ذهنها كان مشتتاً ضائعاً بين متاهات أفكارها ومخاوفها!!!
عادت إلى فراشها تحاول النوم من جديد…
لكنها عجزت بالطبع…
كلما أغمضت عينيها يتنازعها خوفها على عزيز مع خوفها -المرضي-من هواجسها…
فتعود تفتحهما بقوة مغالبةً تعبها وكأنها بهذا تهرب من شعورها!!!
حتى بدأ نور الصبح يغازل السماء بتمهل…
فتنهدت في حرارة…
ثم قامت من نومتها لترتدي عباءتها وتخرج إلى مكانها المفضل في غرفة الحديقة…
جلست في مكانها المعتاد وهي تشعر بنور الصبح مع زقزقة العصافير يحارب مخاوف ليلها المظلمة…
فحمدت الله سراً…
ثم ابتسمت ابتسامة باهتة…
وهي تلمح هناك على الأرض بعضاً من الأوراق وقطعة صغيرة من الغاب مع بكرة خيط …
وكأن أحداً ما كان يحاول صنع طائرة ورقية هنا!!!!
قامت من مكانها بلهفة لتجلس على الأرض متناولة أشياءها -الثمينة-كما كانت تراها…
وأصابعها -كأنها ذات إرادة مستقلة -تعمل وحدها في صنع طائرتها الورقية…
بينما كانت أفكارها بعيدة تماماً ….
مأسورة بأقوى وأقسى شعور…
الحنين!!!!
هذا الوحش الضاري الذي يخدعنا بلون ذكرياته الوردي ورائحة ماضيه الساحرة…
بينما تلتهمنا أنيابه بقسوة الشوق ومرارة الحرمان!!!!
ثم ارتفع صوتها نوعاً وهي تدندن بهذه الغنوة التي طالما كانت تعشقها…
وتغنيها مع رحمة وهي صغيرة…
طيري يا طيارة طيري يا ورق وخيطان
بدي ارجع بنت صغيره ع سطح الجيران
وينساني الزمان على سطح الجيران
علّي فوق سطوح بعاد ع النسمه الخجولة
أخذونى معهم الولاد وردّوا لي الطفولة
ضحكات الصبيان وغنانى زمان
ردّتلى كتبى ومدرستى والعمر اللي كان
وينساني الزمان على سطح الجيران
لو فينا نهرب ونطير مع ها الورق الطاير
تنكبر بعد بكير شو صاير شو صاير
يا زهر الرمان ميل بهالبستان
يتسلو صغار الأرض ويحلو الزمان!!!
طيري يا طيارة طيري…
يا ورق وخيطان…
بدي أرجع بنت صغيرة …
ع سطح الجيران…!!!
وخلفها ببضع خطوات كان هو واقفاً يستمع إليها مأخوذاً…
وشعوره بها -كطفلة يتيمة-يزداد رسوخاً بداخله….!!
صوتها المشبع بنغماتها القديمة ذات الشجن كان له تأثير السحر عليه…
وبراءتها المنقوشة على ملامحها تشع نوراً ينافس نور الصبح حوله…
ماسة…
إنها حقاً ماسة!!!
تخطف القلب والبصر!!!!
أما هي فقد كانت غافلة عن كل هذا ….
تتلقفها أمواج الحنين بين ذكريات غنوتها الأثيرة…
حتى انتهت من صنع طائرتها الورقية…
فقامت من مكانها وهي تتأملها بفخر وابتسامتها تتحول لضحكة مشرقة….
حتى حانت منها التفاتة نحوه فتجمدت ضحكتها على شفتيها…
وهي تنظر إلىه بترقب…
اقترب منها بخطوات بطيئة معتقلاً نظراتها جبرياً كعادته…..ثم قال بلهجته المميزة:
_صوتك يشبهك!!
احمرت وجنتاها بخجل وهي تنتبه أنه قد استمع إلى غنائها…
فأطرقت برأسها وقلبها يخفق بجنون…عندما أردف هو بنفس اللهجة:
_برئ…قوي…ساحر…لكنه كسير!!
رفعت عينيها إليه بحذر…
فتناول كفها بطريقته المسيطرة وهو يسير بها نحو القصر دون أن يتحدث إليها…
اختلست نظرة جانبية إليه وهي تود لو تسأله عن وجهتهما…
لكن صوتها ضاع منها تماماً…
كان مختنقاً بتأثير مشاعرها الصاخبة التي تتأرجح مع هذا الرجل بين أقصي اليمين وأقصي اليسار….!!
حتى فوجئت به يصعد معها الدرج نحو سطح القصر الذي كانت تراه لأول مرة بطبيعة الحال…
اتسعت عيناها بانبهار وهي ترى هذه المساحة الشاسعة أمامها…
والتي كانت خالية تماماً …
رفعت عينيها للسماء التي سيطر علىها ضوء الشمس في تملك…
لتشعر براحة غريبة …
مع نسائم الهواء الباردة التي داعبت وجهها لتمنحها شعوراً خاصاً بالاسترخاء….
التفتت نحوه بعد لحظات ليغمرها دفء شموسه الزيتونية وهي تسأله بتماسك هش:
_لماذا جئنا إلى هنا؟!
أشار بعينيه إلى طائرتها -الورقية- المستقرة بين أناملها وهو يقول ب-شِبه- ابتسامة:
_وينساكِ الزمان على سطح الجيران!
ابتسمت رغماً عنها بخجل…
لكن صوته قد عادت له جديته وهو يردف بحزم يخالطه بعض الرفق:
_يمكنكِ اللهو والغناء هنا كما تريدين…لكن لا تفعليها ثانية في الحديقة…قد يسمعكِ أحد…والخدم هنا لا يكتمون سراً.
تضاعف خجلها وهي تطرق برأسها دون أن تجد رداً…
فأردف بنفس النبرة:
_سأنتظركِ في غرفتي عندما تنتهين من “صديقتك الطائرة”…. حتى تنامي!
رفعت عينيها إليه بتردد وهي لا تعرف بماذا تجيب…
لهجته توحي أنه يعلم أنها لم تنم ليلتها!
ثم أتتها كلماته مصبوغة باهتمامه الذي لا تنكر احتياجها إليه الآن:
_أنا أعرف أنكِ لم تنامي ليلة الأمس…لقد ظل نور غرفتكِ مضاءً طوال الليل!!!
أغمضت عينيها المرهقتين وهي تشعر بالدوار…
نعم…
دوار مشاعرها الذي كان يدوخها الآن بلا رحمة…
كيف يمكنها التغافل عن كل هذا الحنان الذي يعاملها به؟!!!!
وكيف يمكنها تجاهل ما عرفته عن قسوة ماضيه…؟!!!
خائفة منه لأقصي حد…
ومع هذا تشعر أنها لا أمان لها الآن إلا معه….
فماذا عساها تصنع؟!!!!
وكأنما قرأ هو أفكارها…
فقد أمسك كتفيها بقوة ليلتقط سحر كنوزها الفضية وهو يهمس بنبرته المسيطرة:
_يبدو أنك لن تتمكني من النوم بعد الآن إلا في غرفة عاصي الرفاعي!!
==========
سارت على شاطئ البحر الذي خلا إلا منها تقريباً في هذا الوقت من العام…
ورغم الرياح الشديدة التي كانت تعاند خطواتها…
لكنها لم تكن تشعر بالبرد مع الحرارة التي كانت تشعر بها في قلبها…
تنهدت في حرارة وهي تتذكر كيف تركت كل شئ خلفها وهربت…
وكيف لا تفعل…؟!!!
وقد أحست بنفسها خائنة……
نعم…لقد خانت كل شئ…!!!!
خانت مبادئها وماضيها …
خانت عهدها مع نفسها…
وخانت حسن…!!!
وليتها خانته بجسدها فقط…
ربما كانت وجدت لنفسها مبرراً من ضعف بشريّ…
لكنها خانته بقلبها كذلك…!!!!
هي وحدها التي تستطيع الجزم في هذه القضية…
نعم …هي شاهد الإثبات الوحيد في قضية خيانتها القلبية هذه…
والتي تستوجب في عرفها أقصي عقوبة!!!
هزت رأسها وهي تشعر بثقل على صدرها…
كيف يمكنها وصف ما شعرت به تلك الليلة…
عندما أفاقت من سحر عاطفتها معه لتجد نفسها موصومة بخطيئتها…
خطيئة لن يعاقبها عليها شرع ولا قانون…
لكنها تعلم أنها ستبقى تجلد نفسها بها طوال عمرها…!!!!
فهد الصاوي حقق انتقامه الذي توعدها به منذ أول يوم…
عرف كيف يلعب على أوتار ضعفها كلها حتى تسلل لقلبها بخفة تليق بلص قلوبٍ ماهر مثله…
حنانه المشبع بسيطرته الرجولية كان يرضي ظمأ أنوثتها…
ظمأ امرأة عاشت سنوات من الوحدة والحرمان متشحة بالماضي محتجبةً خلف جدارٍ من الذكريات…!!!
لقد أجاد اختيار الطُعم المناسب وسحب سنّارته في أشد أوقاتها احتياجاً إليه!!!
أسبوع كامل مر بها هنا لا تدري ماذا ستفعل بعدها…؟!!!!
لقد سلمت قضايا المكتب لمحامٍ آخر…
وسافرت إلى هنا حيث لا أحد يأتي لهذا المصيف في هذا الوقت البارد من الشتاء…
كما أغلقت هاتفها لتكون في منفاها الاختياري هنا كما تشاء…
وكأن أحداً سينتبه لغيابها…!!!!
شقيقتاها غافلتان عنها…
ورؤى منشغلة في حياتها الجديدة مع راغب وانقطعت عنها أخبارها فهاتفها دوماً مغلق لكنها تطمئن عليها من صفا…
وفهد …
آه من فهد!!!
تراه عاد لمغامراته بعدما أحرز نصره الأخير…؟!!!!
أم تراه ينتظرها ليتشفى في قوة “الأستاذة” التي خذلتها أخيراً…؟!!!!
أغمضت عينيها بقوة وهي تتذكر نظراته في ليلتهما الأخيرة…
هل من الممكن أن يكون كل ما رأته في عينيه وهماً…
أم أنها هي التي فقدت إحساسها بالصدق والكذب؟!!!
هل كان يحتاجها حقاً كما كان يهمس في أذنها مع قبلتيه كل صباح…؟!!
أم أن هذا كله كان من مسوغات دوره التمثيلي المتقن…؟!!!
ياللخسارة يا أستاذة!!!
لقد فقدتِ قدرتكِ على التمييز بين الحق والباطل…
وكأن روحك النقية التي كانت ترشدكِ دوماً للصواب قد تلوثت منذ دخلتِ إلى عالم هذا الرجل..!!!
افتقَدَته؟؟!!!!
نعم…للأسف…!
افتقدت نور الصباح يداعب عينيها وأول ما تراه صورته أمام النافذة بعدما يفتحها لها قائلاً بصوته الرخيم…”صباح الخير يا أستاذة”..
وافتقدت قبلتيه على وجنتيها تذكرانها بحاجة كل منهما لصاحبه…
وافتقدت مشاكساته وتحديه السافر لقوتها المزعومة…
تماماً كما افتقدت حنانه واهتمامه …
وافتقدت أقراص دوائها بنكهة أنامله على شفتيها …!!!!
افتقدته…
افتقدته…
كاذبة لو ادعت غير ذلك!!!!
هنا شعرت بكفه يحتضن كفها فالتفتت جوارها بعنف…ثم شهقت هاتفة:
_فهد!!
لم ينظر إليها نظرة واحدة….
بل سار جوارها مشبكاً أنامله في أناملها هامساً بحزم:
_اسكتي حتى نصل إلى المنزل.
لم تكن في حاجة لأمره هذا فهي كانت عاجزة حقاً عن الكلام…
وجوده الآن معها مفاجأة…
ليس لأنه كان سيعجز عن معرفة مكانها…
فهي لم تنسَ -بعد-أنه فهد الصاوي ابن جاسم الصاوي بنفوذه وعلاقاته!!!!
لكن …ل-سبب- وجوده هذا…
لماذا جاء خلفها؟!!!
ألم يكتفِ بما كان؟!!!
كانا قد وصلا للشقة الصغيرة التي كانت تستأجرها منذ جاءت إلى هنا…
ففتحت باب الشقة بوجل وهي تختلس نظرات مترقبة إلى وجهه …
حتى دخلا…
أطرقت برأسها للحظات تستعيد تماسكها لتجده قد أحاط خصرها بكفيه في تملك هامساً :
_انظري إلىّ.
رفعت عينيها إليه بخشية فشعر بنفسه وكأنه يسافر على قوارب البندق في بحار حدقتيها شرقاً وغرباً…
ليهمس بعدها بحرارة:
_منذ رأيتكِ على الشاطئ وأنا أقاوم النظر لعينيكِ…لأنني كنت أعلم أنني لن أحتمل ألا أعانقهما بعد كل هذا الفراق.
اضطربت أنفاسها في صدرها …
فأغمضت عينيها تهرب من لقاء عينيه المفخخ هذا…
لتشعر بشفتيه على عينيها تقبلانهما بعمق وهو يهمس:
_اشتقتكِ يا ساحرتي البندقية!!
حاولت دفعه برفق وهي تهمس باعتراض:
_فهد…دعنا أولاً…
لكنه وضع سبابته على شفتيها مقاطعاً همسها المعترض بهمسه المسيطر:
_دعينا أولاً نصفي حساباتنا…قبل أن نبدأ الجديد.
عقدت حاجبيها هامسة بتساؤل مستنكر:
_حساباتنا؟!!!
مال على أذنها هامساً بدفء كاد يذيبها:
_سبعة أيام تساوي أربع عشرة قبلة متأخرة.
دق قلبها بقوة وهي تغمض عينيها باستسلام لم تعد تملك غيره…
وهي تسمعه قد بدأ العد بصوت مسموع- متزامناً- مع قبلاته على وجنتيها…
لتشعر بنفسها قد غابت عن هذا العالم ……
لترتقي إحدى الغيمات الناعمة في سماء خيالها المزدانة بنجومه…
حتى سمعت همسته الأخيرة بعدما أنهي عدّه -المهلك-:
_أربعة عشر.
ثم مال على أذنها هامساً بجملته التي اشتاقتها كما اشتاقته:
_تحتاجينني…وأحتاجكِ أكثر.
فتحت عينيها أخيراً لتبتعد بنفسها قليلاً…
لكنه جذبها نحوه أكثر هامساً باشتياق جرفها معه في تياره:
_لا تبتعدي…لم ينطفئ شوقي إليكِ بعد…حسابنا لم ينتهِ…بقيت ضريبة التأخير يا أستاذة.
ابتسمت رغماً عنها بخجل فالتقط ابتسامتها بشفتيه يتذوقها هامساً بعاطفة لم يعد يمكنها إنكارها:
_جنة…أنتِ حقاً جنة…نعم…أنتِ جنتي وجحيمي!!
قالها وهو يزيح حجابها عن رأسها برفق لتتوه أنامله في خيوط شعرها الثريّ…
ويتوه هو معها في عالم من عاطفتهما الخاصة…
لمساته التي كانت تنافس قبلاته في دفئها وحرارتها كانت تفضح لها طول اشتياقه…
واستسلامها البعيد عن طبيعتها -النارية العنيدة- كان يفضح له اشتياقها كذلك!!!!
حتى شعر بدموعها تبلل شفتيه أخيراً مع ارتجاف جسدها كله…
رفع وجهه إليها بدهشة للحظة…
ثم أطرق برأسه في إدراك وهو يستوعب الآن سبب دموعها…
الآن هو يفهمها جيداً…
هي تخاف ضعفها معه لأنها لازالت لا تثق فيه…
حتى مع شعوره أنها افتقدته كما رأى هذا في عينيها…
لكنه لازال يعلم أن الطريق معها سيكون طويلاً…
وهو مستعد …!
نعم…هي جنته وجحيمه كما أخبرها…وهو أبداً لن يضيعها من يده!!!
لهذا رفع وجهها إليه بعد لحظات يمسح دموعها بأنامله هامساً:
_لن أسألكِ عن سبب دموعكِ لأنني أعلم…لكنني فقط أريدكِ أن تمنحينا بعض الوقت.
هربت بعينيها من عينيه وهي تهمس بصوت باكٍ مدعية التماسك:
_الوقت لماذا؟!!أنت تخدع نفسك أم تخدعني؟!! أنت جعلتني أخون كل مبادئي…وأخون قلبي قبلها.
ضم رأسها لصدره هامساً جوار أذنها:
_أنتِ لم تخوني قلبكِ يا أستاذة…أنتِ فقط استمعتِ إلىه عندما دقّ لمالكه الجديد.
ابتعدت برأسها عنه وقد عادت إليها حدتها لتهتف بانفعال:
_مالكه الجديد؟!!!! من هذا المالك الجديد؟!!!
ثم راودتها نفسها بالكذب لتردف بصوت متهدج:
_لو كنت تظن هذا فأنت واهم…استسلامي لك تلك الليلة كان مخططاً حتى تملّ وتتركني لحياتي بعدما منحتك ما كنت تريده.
نظر إليها طويلاً بعد عبارتها الكاذبة…
فأشاحت بوجهها وهي تكتم انفعالها بصعوبة…
لكنه أعاد وجهها إليه ليهمس بحزم واثق:
_كاذبة!!
أغمضت عينيها بقوة تخفي عنه فيض مشاعرها…
لكن همسه وصلها بنفس الحزم ممزوجاً بعاطفته هذه المرة:
_إذا كنتِ أنتِ تشكين في مشاعرك نحوي…ومشاعري نحوك…..فأنا لستُ كذلك…أنا واثق من كليهما!
فتحت عينيها ببطء ليعاود تعلقه بخيوطها البندقية مردفاً:
_استسلامكِ لم يكن مخططاً…على العكس…لقد كان الشئ الوحيد الذي فعلتِه معي برغبة قلبك فحسب دون أي تأثير لعقلك.
عادت تغمض عينيها هاربة لتهمس في ألم وقد عجزت عن الإنكار:
_لماذا التقينا؟!!!لقد كنتُ راضية بحياتي.
فلامس وجنتها بأناملها برفق وهو يهمس بعتاب:
_وهل كانت هذه حياة؟!!
أشاحت بوجهها وهي تزفر بقوة…
فأمسك ذقنها يعيد التقاط أشعتها البندقية هامساً بحزم حنون:
_لقد كنت أتعمد أن أذكّركِ في كل يوم أنك تحتاجينني كما أحتاجك…ربما كنت أنا أحتاجكِ لتطهري لي حياتي من كل ذنوبي…لكنكِ تحتاجينني لأعيد لكِ الإحساس بالحياة نفسها.
ارتعشت حدقتاها وهي تتعلق بليل عينيه الساحر…
فعلم أنه قد بدأ يلمس جانباً من روحها شجعه لأن يردف بنفس الحزم:
_جنة الرشيدي صنعت لنفسها قبراً من ذكريات الماضي…والآن تستكثر عليّ نبشه؟!!! لا يا جنة …أنا الذي سأخرجكِ ولو قسراً من هذا القبر وأنفض عنكِ غباره…حتى تستعيدي عمركِ الضائع وحياتكِ المفقودة.
أسندت جبهتها على كتفه تهرب من نظراته الآسرة…
ثم همست بضعف وكأنها تحاول محاولة أخري يائسة لإقناع نفسها:
_أنا لا أصدقكِ…ولن أصدقك!
لكنه ابتعد برأسه قليلاً ليرفع وجهها نحوه ملتقطاً عينيها من جديد …
ثم همس بابتسامة ماكرة:
_لا تقولي هذا وأنتِ مختبئة بين ذراعيّ …تجرئي وقوليها في عيني.
تخلصت من حصار ذراعيه برفق لتبتعد عدة خطوات معطيةً له ظهرها…
وكأنها ما عادت قادرة على مواجهته…..
بل على اتخاذ أي قرار…
فتركها احتراماً لصمتها لبضع دقائق..
ثم توجه نحوها ممسكاً كتفيها ليديرها نحوه قائلاً بنفس النبرة المسيطرة:
_إذا كنتِ هربتِ مني لأجل الذي حدث بيننا تلك الليلة فأعدكِ ألا يتكرر .
انعقد حاجباها بشك فضحك وهو يشيح بوجهه للحظة قبل أن يعود ليقول بجدية هذه المرة:
_نعم…لن أمسكِ ثانية حتى أزيل من قلبكِ كل هذه الهواجس والظنون…حتى أشعر أن روحكِ تفتح ذراعيها لي دون قيود…فهل يكفيكِ هذا الوعد؟!!
تنهدت في حرارة وهي تطرق برأسها…فاحتضن وجنتها براحته هامساً بحزم:
_وإياكِ أن تهربي مني ثانية…وإلا حبستكِ في غرفة مغلقة مفتاحها الوحيد معي…وأنتِ تعلمين أنني قادر على ذلك.
رمقته بنظرة عاتبة ظللت أشعتها البندقية فأحاط وجنتها الأخرى بكفه هامساً بنبرة أرق:
_أنتِ لا تعلمين كيف كان حالي طوال الأيام السابقة.
نظرت إليه بتساؤل تريد المزيد من الوصف!!!
لكنه مال على أذنها هامساً بمكر:
_لن أخبركِ حتى لا تشمتى بي يا أستاذة!
ابتسمت أخيراً رغماً عنهاوهي تطرق برأسها فضمها إليه من جديد مع آهة حارة…
ثم قبل رأسها هامساً بدفء أمام مليكتيه البندقيتين:
_انزعي الأسود من ألواني…وامنحيني لوناً يشبهكِ ..في نقائه وطهره….شيطانٌ أنا …جاءكِ ليتوب على يديكِ …فتكونين له جنة…ألا تقبلين؟!!
============
_نوّرتِ بيتك يا أستاذة!!
همس بها بمرح جوار أذنها وهو يدخل معها باب شقته …
ثم وضع حقيبة ملابسها على الأرض مغلقاً الباب خلفه بالمفتاح …
قبل أن يواجهها ببصره من جديد ملوحاً بالمفتاح في وجهها وهو يهمس بحزم عاتب:
_تعلمين كم تراودني نفسي الآن بأن ألقي هذا المفتاح من النافذة فلا يخرج أحدنا من هنا!!!!
أشاحت بوجهها هاربةً من فيوض عاطفته الملتمعة بليل عينيه الأسود…
ثم جالت ببصرها في المكان وهي تشعر باشتياق غريب…
رغم أنها لم تبتعد سوى بضعة أيام…
لكنها تشعر بحنين جارف لكل ركنٍ في هذا البيت!!!
وضع المفتاح في جيبه بخفة ثم تقدم منها ليحتضن وجهها بكفيه هامساً أمام عينيها:
_عيناكِ تحكيان سطوراً من اشتياق …للبيتِ أم لصاحبه؟!!!!
أغمضت عينيها بقوة وكأنها تكتم عنه حديثهما…
عندما شعرت به يقترب أكثر ليهمس جوار أذنها بمكر:
_قلبي يخبرني أنه….للاثنين؟!!
خفق قلبها بعنف وهي تدفعه برفق متجاهلةً الرد على عبارته…
لتهمس بخفوت:
_أريد أن أبدل ملابسي وأنام ..فأنا متعبة من السفر.
ابتسم في حنان وهو يربت على كتفها قائلاً:
_لا نوم قبل تناول طعامكِ ودوائك.
ثم قرص وجنتها مداعباً وهو يقول بعتاب:
_أكاد أقسم أنكِ كنتِ تهملينهما طوال تلك الفترة.
رفعت عينيها إليه بابتسامة امتنان لم تظهر سوى في مراياها البندقية…
بينما ظل وجهها على جموده وهي تهمس بفتور:
_حسناً…سأبدل ملابسي وأعدّ الطعام.
فاتسعت ابتسامته الحنون وهو يداعب وجنتها بأنامله قائلاً:
_الأستاذة ستستريح على فراشها حتى أعد أنا الطعام.
ظهر الاعتراض على ملامحها وهمّت شفتاها بالرفض لكنه عاجلها بقبلة خفيفة عليهما قبل أن يهمس بحزم:
_هذا أمر وليس اقتراحاً يا أستاذة.
تنهدت بحرارة وهي تبتعد بوجهها عنه لتتوجه بخطواتٍ سريعة نحو غرفتها وكأنها تهرب منه…
والحق…أنها فعلاً كانت كذلك!!!
بدلت ملابسها بإرهاق واضح….
ثم تمددت على فراشها لدقائق لم تدرِ عددها…
قبل أن تتناول وسادتها لتدفن وجهها فيها….
كم اشتاقتها!!!!
كما اشتاقت كل شئٍ في هذا المنزل…
لكنها لم تكد تفعلها حتى وجدت عطره -المميز-علىها…
رباه!!!!
هل كان…؟!!!
قطعت فكرتها عندما سمعت صوت طرقاته على الباب…
فقامت من فراشها ولازالت تحتضن وسادتها حتى فتحت له الباب ليقول هو بحنان وعيناه تلمعان بمرح:
_الطعام جاهز يا أستاذة!
لكنها رمقته بنظرة مرتبكة لم يفهمها ثم سألته بترقب:
_هل كنت…تنام..هنا ..على فراشي؟!!!
ظهرت الدهشة في عينيه للحظة قبل أن ينتبه لوسادتها التي تحتضنها…
فابتسم في إدراك وهو يهمس بعاطفة صادقة:
_نعم يا جنتي…كنت أتلمس بقايا عطركِ على وسادتك…لعلها تطفئ بعضاً من شوقي إليكِ.
ثم تهدج صوته أكثر مردفاً:
_كل ليلة.
ارتجف جسدها تأثراً وهي تردد خلفه كالمسحورة:
_كل ليلة؟!!!
فأومأ برأسه مؤكداً وهو يكرر قوله:
_كل ليلة!
أغمضت عينيها بقوة تحاول تمالك هذا الطوفان من المشاعر الذي اجتاحها في هذه اللحظة…
قلبها كان يرقص ثملاً وكلماته المسكرة تدوخه….
وتتخلل مسام روحها بتملّكٍ قدير حتى تحتلها كلها…
أسوأ احتلال…
وأجمل احتلال!!!!
لكنه قطع عليها هدير عواطفها الصاخب عندما اقترب منها مقبّلاً ساحرتيه البندقيتين…
قبل أن ينتزع منها وسادتها برفق فيلقيها جانباً ويسحبها من كفها نحو صالة الشقة حيث كان النور مطفئاً إلا من شمعة واحدة على مائدة الطعام التي رصت علىها أنواع كثيرة مختلفة…
لا يُعقل أنه أعدها كلها الآن…!!!!
ومن هناك انبعثت أنغامٌ هادئة ذابت فيها روحها وهي تشعر باسترخاء غريب…
خاصة عندما احتضن خصرها بكفيه وهو يهمس بصوته الآسر:
_احتفالٌ صغير بمناسبة عودتك إلىّ…نفتتحه برقصة…تسمحين؟!!
تعلقت عيناها بنجوم عينيه الملتمعة وسط ليله الأسود…
وذراعاها يلتفان حول عنقه ببطء قبل أن تجد كلماتها أخيراً لتهمس بخفوت:
_يبدو أنك كنتَ مستعداً لهذا…هل كنتَ واثقاً من عودتي معك إلى هذه الدرجة؟!!
ضمها إليه أكثر وهو يغوص تماماً في بحار عينيها هامساً بيقين:
_لم أكن لأعود دونك….مهما حدث!!
دمعت عيناها تأثراً وهي عاجزة عن استيعاب كل هذا الغرام الذائب بعينيه…
خاصةً عندما اقترب منها بوجهه أكثر هامساً بصوتٍ يكاد يذوب عشقاً:
_أخبريني الآن بماذا كنتِ تشعرين وأنتِ بعيدة عني؟!!!
أغمضت عينيها بقوة وهي تدفن وجهها في صدره هاربةً من جحيم نظراته…
أو -بالأدق- من نعيمها!!!!!
لكنه أكمل همسه المصبوغ بعشقه يكاد يسكبه نهراً من عسلٍ في أذنها:
_كنتِ تشعرين بكل دقيقة تمرّ عليك وكأنها ألف عام من ألم…كنتِ ترين صورتي على جميع الوجوه وتسمعين صوتي على كل الألسنة…كنتِ تستعيدين ذكرياتنا القصيرة دون سواها وكأنها صارت فجأة عمركِ كله!!!!
رفعت عينيها إليه برجاء صارخ أن يكفّ عن هذا الحديث الذي يوجع روحها بصدقه…
الأمر يبدو وكأنه يتحدث عنها هي…
مع أنها توقن من أنه يقصد نفسه!!!!
وما الفارق ها هنا؟!!!
هو أو هي….؟!!!
ما الفارق؟!!!
كلاهما كان غارقاً بنفس الشعور…ولو اختلفت الضمائر!!!!
لهذا وجدت نفسها دون وعي تتشبث به أكثر عندما ألصق جبينه بجبينها وهو يردف:
_كنتِ كالجسد الذي عُلّقت روحه بين سماء العشق وأرض الحرمان.
ابتعدت برأسها عنه وهي تهمس برجاء مصبوغ بالألم:
_اسكت يا فهد…اسكت.
التقت نظراتهما للحظات تألق فيها وهج بندقها في سواد ليل عينيه الحالك…
قبل أن يهمس ببطء:
_ولماذا أسكت؟!!
هزت رأسها بعجز وهي تحاول الهرب من سهام عينيه قائلةً بصوت مرتعش:
_أنت تحاصرني بعاطفةٍ لا قِبَلَ لي بها…تُشوّش على تفكيري بكل هذه المشاعر التي لا أستطيع مواجهتها…وفي نفس الوقت …لا أستطيع تجاهلها.
ثم تهدج صوتها أكثر وهي تردف:
_لو كان هذا حباً فأمهلني…ولو كان انتقاماً فارحمني.
رفع كفها إليه يقبل باطنه وهو يحاصر نظراتها من جديد هامساً بصدقٍ زلزل روحها:
_بل حياة!!…نعم…ما بينك وبيني ليس حباً ولا انتقاماً ولا عقد زواج…ما بيني وبينك حياةٌ دونها الموت.
ازدردت ريقها بصعوبة وهي تشعر برأسها يكاد ينفجر من كثرة الضغوط…
ما أشقاها من امرأة ممزقةٍ بين قلبها وعقلها…
بين ماضيها وحاضرها…
بين -ما تعتقده -و-ما تشعر حقاً -به!!!!
لكن كل هذا لم يُساوِ شيئاً عندما وجدته يفك حصار ذراعه حولها أخيراً…
ليلتقط خاتماً ماسياً من جيب قميصه ثم يرفع كفها الذي يمسكه ليهمّ بوضعه في إصبعها…
مكان دبلة حسن!!!!
فشهقت بعنف وهي تسحب كفها منه بقوة لتقبضه على صدرها هاتفة :
_لا!
انعقد حاجباه بغضبه الأسود فارتجف جسدها كله ودموعها تتحرر من سجونها البندقية أخيراً وهي تهتف بانفعال:
_ليس هذا الإصبع بالذات…حرامٌ عليك يا فهد…حرامٌ عليك…!!!
_حرامٌ علىّ أنا؟!!!
هتف بها بانفعال وهو يمسك مرفقها ليهزها بعنف…
فدفنت وجهها في صدره وقد بدا لها أكثر الأماكن الآن أماناً من غضبته الهادرة مادامت قد عجزت عن الشرح والتفسير…
بل عن الكلام!!!!
ماذا عساها تقول وهي تشعر كمن يُسلَخ من جلده؟!!!!
من تكون جنة الرشيدي دون مبادئها و عقائدها…
ودون حسن؟!!!!
والآن يأتي فهد ليسحبها بقوة قاهرة بعيداً عن كل هذا!!!!
ليحملها خارج وطنها الذي ألفته كي يبقيها معه على جزيرة منعزلة بعيداً عن كل العالم!!!!
ليأخذ منها كل حروف أبجديتها التي تعرفها ويمنحها حروفاً جديدة لازالت تتعثر في نطقها!!!!
هل يظن هذا سهلاً؟!!!!!
إنها تشعر بنفسها الآن وهي بين ذراعيه مجرد خائنة…
نعم…خائنةٌ لشعاراتها وأخلاقياتها وحبها القديم الذي أقسمت ألا يمحوه الدهر…
خائنة…
خائنة!!!!
_لستِ خائنة يا جنة!
هتف بها بعد زفرة قصيرة وكأنما قد قرأ أفكارها الصامتة…
ثم ضمها إليه بساعده الذي أحكمه على خصرها ولازال متشبثاً بخاتمه في كفه الحر…
وهتافه الحار يشعل قلبها وروحها قبل أذنيها:
_حكمك ظالم يا أستاذة…يحتاج لاستئناف سريع قبل أن تنفذي العقوبة فيّ أنا وفي نفسك قبلي.
رفعت إليه عينيها ببطء ليذوب غضبه تدريجياً في ينابيع عينيها التي فاضت بالحيرة والعجز…
لدقائق مرت بينهما ثقيلة كدهور…
وهي تبدو كمن تعلق على مشنقته متأرجحاً بين ثلجٍ ونار….
كل ما فيها يصرخ…
إن لم يكن ألماً…
فعجزاً واحتىاجاً….!!!!!
غرامه الصادق بالنسبة إليها بعثٌ بعد العدم….
لكنها تخشى الموت من جديد…
وما أقسى أن يموت المرء مرتين!!!!
لكنه قطع عليها طريقها بحسم عندما أعاد رفع كفها وعيناه مثبتتان في عينيها تأبيان إطلاق أسرهما…
ثم وضع خاتمه في إصبعها ببطء قويّ مسيطر حتى استقر مكانه أخيراً…
أمام عينيها المستسلمتين – أخيراً- باستكانة بعدما استنزفتها حرب المشاعر هذه….
والتي انتهت بقبلته لإصبعها المزدان بخاتمه وهو يهمس بعاطفة مشتعلة:
_أنتِ لي …لا تصدقي حقيقةً سوى هذه!
ثم ضمها إليه أكثر وهو يردف بنبرة أقوي:
_أنتِ لي!
أطرقت برأسها دون أن تجد رداً….
فسحبها من كفها نحو المائدة حيث جلس جوارها كالعادة…
ثم قال بلهجة حازمة لا تخلو من مرح:
_انتظري حتى أعطيكِ دواءكِ!
أومأت برأسها دون أن ترفعه فاقترب هامساً جوار أذنها:
_اشتقتُ لضمّة شفتيكِ على أناملي كل يوم.
رفعت عينيها إليه تفضحان شوقها هي الأخري …
فغمزها غمزة ماكرة ابتسمت على إثرها ابتسامة حقيقية لم تعرفها منذ زمن بعيد….
ابتسامة شعر هو بها وكأنها جائزته الحقيقية بعد حرمان تلك الأيام…!!!!!
فتنهد بحرارة ثم أعطاها دواءها قبل أن يبدآ في تناول الطعام…
وبعدما أنهيا طعامهما قالت له بصوت شاحب:
_سأذهب الآن للنوم.
رمقها بنظرة راجية أن تبقى معه لوقت أطول…
لكنها تجاهلتها وهي تتوجه نحو غرفتها ثم أغلقت بابها لتتمدد على فراشها تطالع السقف بشرود…
رغم ما تشعر به من إرهاق يهد جسدها هداً…
لكن عقلها- الذي يعلن الحرب على كل ما يحدث هذا – منعها النوم لما يقرب من ساعة….
حتى سمعت طرقاته -الخافتة جداً -على باب غرفتها….
وكأنه لا يريد إيقاظها لو كانت قد نامت…!!
ابتسمت رغماً عنها وكأن جزءاً منها كان ينتظره…!!
ثم قامت من فراشها لتفتح الباب فيطالعها ليل عينيه الملتمع الآن ببريقٍ أخاذ وهو يهمس بعاطفةٍ لم تستطع تجاهلها:
_لم تنامي كما توقعت…سأحافظ على وعدي لكِ …لكن…هذه الليلة فقط أريدكِ أن تنامي بين ذراعيّ حتى أصدق أنكِ عُدتِ إلىّ من جديد.
لم تدرِ كيف أومأت برأسها إيجاباً…
ولا كيف سارت جواره حتى تمدد جسدها المرهق على الفراش…
هي لم تشعر سوي بضمّة الأمان العذبة بين ذراعيه…
ومذاقها المسكر يخدر آلام روحها كلها…
ورائحة عطره تتسلل إلى خلاياها كلها رافعةً أعلامه على أرض قلبها المحتلة!!!!
كل هذا كان متزامناً مع دقات قلبه التي كانت تكاد تصرخ تحت أذنها بصوتٍ مدوٍ…
لا يعلوه سوى صوت دقاتها هي…
أخيراً تسلل الفهد بقوته وخفته ليعبر أسوار جنته العالية…
ليكتب قصة جديدة في دفتر العاشقين…
قصة جنة وفهد….
ماسة وشيطان…

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى