روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الخامس 5 بقلم نرمين نحمد الله

موقع كتابك في سطور

رواية ماسة وشيطان الفصل الخامس 5 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء الخامس

رواية ماسة وشيطان البارت الخامس

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الخامسة

_جنة!!
اندفعت نحوها رؤى وهي تناديها بلهفة لترتمي في حضنها هاتفة وسط دموعها:
_أنا آسفة يا جنة …أنا السبب…سامحيني!!
ضمتها جنة بقوة وهي لا تصدق أنها هنا معها….
لتهتف بعدها بسخط:
_كيف جئتِ هنا؟! ولماذا؟!!! أنتِ مجنونة؟!!!!!
مسحت رؤى دموعها وهي تهمس بحزن:
_لقد كنت أهاتفكِ لأخبركِ بمصيبتي الجديدة…لأجد فهد هو الذي يرد عليّ ليخبرني أنه يحتجزكِ هنا…ويطلب مني الحضور…لم أستطع الصبر وجئت كما طلب.
ضغطت جنة شفتيها بتوتر وهي تسألها:
_وما هي مصيبتك الجديدة هذه؟!!!
قصت عليها رؤى باقتضاب حكاية الخاطب الجديد…
والتي تأجلت بسبب طلاق صفا وعبد الله…
ولو أنها تثق أن قصة طلاقهما هذه لن تستمر…
عبد الله لن يستطيع الاستغناء عنها…
سيردها لعصمته كما فعل من قبل….
وحينها سيعيد التفرغ لأمرها مع ذاك الخاطب الذي لا تعرف حتى اسمه!
تنهدت جنة في حرارة وهي تضع كفها على رأسها لتهمس بألم:
_ماذا فعلتِ بنفسكِ يا فتاة؟!!!!
عادت رؤى تبكي وهي تشعر بالخزي…
هي لم تورط نفسها فحسب…
لكن ها هي جنة تدفع معها ثمن فعلتها الشائنة…
ومن يدري…ما الذي ينتوي فهد الصاوي فعله بها عقاباً على فعلتها؟!!!!
لكن جنة ضمتها بقوة لتخفيها بين ذراعيها هامسة بحنان رغم ما يملؤها من حزن:
_لا تبكي يا حبيبتي….فرجٌ قريب إن شاء الله!!
بينما كان هو واقفاً يراقبهما من بعيد…
كانوا جميعاً في انتظار المأذون وشاهديه ليتم اتفاقه معها والذي وافقت عليه مكرهة.
كان يشعر الآن بشعور غريب وهو يراها تحتضن رؤى بهذا الحنان الجارف…
وهذا الاحتواء الذي لم يرَه من قبل…
ملامح وجهها التي طالما رأى فيها القسوة والسخرية والبرود تحولت تماماً لملامح تنبض بالحنان والحب…
ورغماً عنه تعلقت عيناه بذراعيها اللذين يضمان رؤى وهو يتخيل نفسه مكانها!!!
لا…
ليس الأمر مجرد رغبة رجل بامرأة…
لكنها رغبته في حضنها هي بالذات!!!
يريد أن يتذوق حنان هذه المرأة الغريبة التي سحرته قوتها…
وأسره ضعفها…
ويكاد يذوب تلهفاً ليعرف كيف سيكون عطاؤها لمن تحب!!!!
ثم طال تأمله الصامت لهما وهو يفكر…
لماذا تساعد صديقتها بهذا التفاني والإخلاص؟!
هذه المرأة إما أن تكون أكثر أهل الأرض حماقة…
أو أكثرهم طيبة!!!
وفي الحالتين هي وقعت في قبضته…
ولن يتركها حتى يفك ألغازها كاملة!!!
ربما هو لا يزال لا يعرف ماذا يريد منها بالضبط…
لكن …أمامه الوقت كله ليعرف…
بعدما يتملكها كما اعتاد في كل شئ يعجبه!!!
قطعت أفكاره عندما وصل المأذون و شاهداه…
فاقترب من جنة ورؤى ببطء ليقول ببرود:
_لقد أحضرت لكِ صديقتك لتتمّا الأمر معاً كما بدأتماه معاً!!!
قالها وهو حقاً لا يعنيها…
هو أحضر رؤى لكي يضمن تأثيرها علي جنة!!
فهو برغم كل شئ كان يخشى من رفضها…
لكنه أدرك بحدسه أن وجود رؤى بنفسها هنا سيدفع جنة للموافقة دون مماطلة…
وقد صدق حدسه!!
تجاهلت جنة عبارته وهي تشيح بوجهها….
بينما رمقته رؤى بنظرة عميقة….حملت كل عتبها وخيبتها وانكسارها….
هي لا تزال غارقة في صدمتها به…
لا تصدق كل ما حدث في هذه الأيام القليلة….
لا تصدق أنها سمحت لوغد كهذا بالدخول لحياتها فيسممها كلها بسواد خطيئتهما المشتركة…
وليتها كانت حياتها هي فقط…
لكن جنة أيضاً تشاركها عقابها دون جريرة ودون ذنب!!!
لكن فهد تجاهلها تماماً وهو يرمق جنة بنظرة متحدية ليقول ببرود:
_هيا يا عروسي!!
شهقت رؤي بعنف وهي تضع كفها علي شفتيها…
لا…لم تكن غيرة!!
فلم يكن الموقف يسمح بترف هذا الشعور الآن…
خاصة وهي تعلم علم اليقين أن فهد لن يتزوجها إلا ليكسر أنفها فحسب…
جنة القوية العنيدة التي وقفت في وجهه ويريد إذلالها….
لكن شهقتها المشفقة كانت لأنها تعلم وقع هذه الجملة بالذات-علي جنة الآن!!!
جنة التي أغمضت عينيها بقوة …
لتترنح قليلاً في مكانها بحركة خفيفة لكنها لم تخفَ عليه…
لتسندها رؤي هامسة في أذنها بإشفاق يمتزج بالحزن:
_كوني قوية يا جنة!!
لكن جنة لم تسمعها…
عبارته الباردة أيقظت ذكراها الخالدة…
والتي تعتبرها ملكة ذكرياتها بلا منازع…
_هيا يا عروسي.
بصوت حسن هذه المرة ….
وهو يتأبط ذراعها ليهمس في أذنها ليلة عقد قرانهما بصوته العذب:
_أخيراً…لن يفرقنا شئ!!!!
فتريح رأسها على كتفه وكأنها لا ترى سواه لتهمس بهيام:
_لا شئ أبداً يا حسن!!!
دمعت عيناها وهي تعود لواقعها البائس…
لتصرخ أعماقها دون صوت….
لم أكن أعلم وقتها أن الموت سيفعل يا حبيبي!!
لكنني على عهدنا…
جنتك التي كانت وستكون لك…
لم يطأها قبلك أحد…
ولن يدخلها بعدك أحد…
جنتك التي جفت أشجارها بعدك…
وهجرتها طيور العشق بلا رجعة…
تنتظرك لتزهر معك من جديد…
ربما ليس في هذا العالم…
لكنها ستبقى جنتك وحدك حتي تلقاك!!!!
أخذت نفساً عميقاً تمالكت به دموعها التي لم تفوتها عيناه المتربصتان بها…
ثم ربتت علي كف رؤى لتهمس بثبات:
_هيا بنا!
قالتها وهي تندفع للخارج متجاهلة إياه بشموخ…
وكأنها لا تهتم…
لتتبعها رؤى مطأطأة الرأس وهي تشعر بالخزي والانكسار….
جلست قبالته على الكرسي …
وأمامهما كان الرجل يتم إجراءاته بطريقة عملية…
لكنها كانت غافلة عن الجميع …
غارقة بشرودها…
ليلاحظ هو تلاعبها -العصبيّ-بدبلتها الذهبية في إصبعها !!!
اتسعت عيناه بارتياع وبصره يتجمد عليها بشعور خانق…
كيف لم ينتبه أنها لازالت ترتدي تلك الدبلة في يدها؟!!
عقد حاجبيه بغضب وهو يراها تتلمسها بكل هذا الحنان…
ليراها بعين خياله وكأنها تتلمس ذاك الراحل …
نعم…حسن…
هاجسه الذي يؤرقه منذ سمعها تتحدث عنه بالأمس!!!
ما الذي كان عليه هذا الرجل حتى تحبه امرأة كهذه كل هذا الحب؟!!!
بل وتخلص له حتى بعد سنوات من وفاته…
ما الذي كان يجمع بينهما أكثر مما يجمع أي امرأة برجل؟!!!!
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يلمح الدموع المتحجرة في عينيها الشاردتين….
وارتجافة أناملها المتشبثة بدبلتها الذهبية وكأن روحها فيها….
ليقبض كفه بقوة هو الآخر وهو يضغط على أسنانه بقوة مقسماً لنفسه أن ينزع حسن هذا من قلبها بأي طريقة…
لن يكون فهد الصاوي لو لم يتملكها كاملة…
كاملة….
كاملة!!!!
==========
طرقت ماسة باب غرفة السيدة حورية برفق في يوم عملها الثاني هنا…
هي لم تغادر غرفتها منذ البارحة كما أمرها السيد عاصي….
واكتفت بالراحة من عناء السفر الطويل….
سمعت صوت حورية تدعوها للدخول…
فتنحنحت بارتباك وهي تدلف إلى الداخل لتهمس برقتها الفطرية:
_صباح الخير يا سيدتي.
ابتسمت حورية في حنان وهي تقول بطيبة واضحة:
_صباح الخير يا ماسة….ما شاء الله….أنتِ جميلة حقاً كما تقول الخادمات هنا…منذ جئتِ بالأمس ولا حديث لهن سوى عن ماسة بعينيها الفضيتين.
ابتسمت ماسة بخجل وهي تهمس بارتباك:
_شكراً يا سيدتي.
تأملتها حورية بتفحص لتقول لها بعد لحظات:
_قولي حورية فقط يا ماسة….الفارق في السن بيننا ليس كبيراً إلي هذا الحد …
أومأت ماسة برأسها إيجاباً وهي تتفحص ملامحها بارتياح…
السيدة حورية امرأة فاتنة…
جمالها جذاب آسر …
ومريح…
على عكس زوجها تماماً!!!
ثم تقدمت نحوها لتتناول ذراعها وتقيس لها “الضغط”…
ثم طلبت منها كل الوصفات”الروشتات” الطبية التي وصفت لها…
لتتأكد من توافر الأدوية كلها هنا…
ثم أومأت برأسها في رضا وهي تهمس بخفوت:
_الوضع مستقر…لكن يبدو أن الحمل يحتاج لتثبيت …هذه الحقن كافية…لكن يجب أن تستريحي تماماً ولا تتحركي.
تنهدت حورية بحرارة وهي تسند رأسها علي ظهر سريرها لتهمس بشرود:
_أما عن عدم الحركة فالسيد عاصي لن يدعني أغادر هذا الفراش….لكن ماذا عن الراحة يا ماسة؟!!! من أين يأتون بها؟!!!
تأملتها ماسة بإشفاق وهي تشعر بحزنها المستقر بعينيها…
ثم أطرقت برأسها وهي تسألها بخجل:
_هل تريدين شيئاً آخر ؟! ميعاد حقنتك بعد ساعة.
ابتسمت حورية وهي تقول بحنان:
_ابقي معي قليلاً…دعينا نتحدث في أي شئ…لقد استراح قلبي لكِ كثيراً.
أومأت ماسة برأسها وهي تهمس بامتنان:
_وأنا أيضاً!!
قالتها ثم لاحظت تصلب نظرات حورية على شئ ما خلف ظهرها بخوف واضح….
فالتفتت خلفها بحركة تلقائية…
لتنتفض بدورها من مكانها وهي تعدل حجابها على رأسها كما أمرها هامسة بخفوت:
_مرحباً سيد عاصي.
تجاهلها عاصي تماماً وهو يتوجه نحو حورية بخطوات بطيئة واثقة…
ثم قال لها بصوته القاسي:
_لا تقصير في الدواء…لا نهوض من الفراش…لا طعام إلا في حدود المسموح.
إلى هنا كانت ماسة واقفة مكانها مطرقة برأسها تشعر بأن أوامره -رغم صرامتها- منطقية….
لكنها عادت تلتفت نحوه بحدة عندما سمعته يردف بنفس النبرة القاسية:
_وأي زيارات لكِ غير مسموح بها!!
عقدت ماسة حاجبيها وهي تشعر بالغرابة….
لا زيارات؟!!!
لماذا؟!!!
ربما يخشى عليها من العدوى مثلاً….
أو ربما من الحسد!!!
لكن ماذا عن والديها…
أوامره الصارمة تشمل الجميع….
لماذا؟!!!
ورغماً عنها راودتها ذكريى مشابهة لعزيز…
فابتسمت في حنين دافق وهي تتذكر…
_ألف سلامة يا ماسة!!! ليتني أنا مكانك!!
همس بها عزيز بحنانه المميز وهو يناولها كوب الليمون الذي أعدته رحمة…
مستغلاً انشغال الأخيرة في المطبخ …
فانتفضت ماسة مكانها لتقوم من فراشها جالسة وهي تهمس بإعياء:
_اخرج يا عزيز…لا يصح أن تدخل غرفتي هكذا.
جلس جوارها على طرف الفراش وهو يهمس بقلق:
_أنتِ لن تتمكني من مغادرة الفراش….وأنا لم أحتمل ألا أطمئن عليكِ…لا تقلقي…أمي مشغولة في المطبخ.
وضعت كفها علي رأسها الذي كان يؤلمها بحق لتهمس بضعف:
_متعَبةٌ كثيراً .
ثم التفتت إليه لتهمس بحب:
_لكنني افتقدتك أكثر…اخرج الآن وسألحق بك.
هز رأسه نفياً وهو يتأملها بقلق صادق ليهمس بلهجة آمرة:
_لن تغادري فراشك…فقط اشربي الليمون وسأغادر بعدها.
تناولت منه الكوب وهي تبتسم هامسة بامتنان:
_شكراً يا عزيز!!
تنهد في قلق وهو يراقب ملامحها الشاحبة…
حتى انتهت من كوبها فتناوله منها ليضعه جانباً…
ثم تناول غطاءها برفق ليضعه عليها هامساً بحزم حنون:
_عودي لنومك ولا تخرجي من الفراش حتى تستردي عافيتك.
عادت تتمدد علي الفراش وهي تشد غطاءها عليها….
وعيناها متعلقتان به في عاطفة صادقة….
ليقترب بوجهه منها هامساً بصدق:
_لم أتمنِ يوماً أن تكوني زوجتي كما الآن…كم أريد أن أضمك لصدري في هذه اللحظة فأمتص كل ألمكِ وتعبكِ.
اتسعت عيناها للحظة شعرت بعدها أن وجنتيها على وشك الاحتراق خجلاً…
لترفع الغطاء حتى غطت به رأسها كاملاً ليصله همسها الخجول من تحته:
_عيب يا عزيز…اخرج الآن…حالاً!!!
ابتسم وقتها بحنان يمتزج بقلقه عليها…
لكنه همس مشاكساً:
_قولي…اخرج يا حبيبي…وسأخرج بعدها فوراً!!!
همست بها بخجل من تحت الغطاء…
فاتسعت ابتسامته ثم همس بهيام:
_اعتني بنفسكِ لأجلي.
_هل أنتِ دوماً شاردة هكذا؟!
شهقت رغماً عنها وصوته القاسي يقطع عليها ذكراها الرقيقة…
فتحسست سلسلتها بحركتها التلقائية لتهمس باضطراب:
_عذراً سيد عاصي!!هل تريد شيئاً؟!!!
ضاقت عيناه بتركيز وهو يقرأ الاسم المنقوش على دلاية سلسلتها ….
فابتسم ابتسامة جانبية ساخرة….اختفت بسرعة كما ظهرت…
ليقول بعدها بصرامة:
_تعاليْ معي!!
=============
جلست رحمة على سرير ماسة تحتضن وسادتها بحنان وهي عاجزة عن التحكم في دموعها…
لا تدري كيف تمكنت ماسة من الاختفاء هكذا…؟!!!
وكيف سيكون حالها وهي تواجه الحياة وحدها….؟!!!
قطعة من قلبها أخذتها ماسة معها وهي راحلة….
بل لا تبالغ لو قالت….قلبها كله…!!!!!
فتحت أناملها المنقبضة علي رسالة ماسة التي تركتها لها قبل رحيلها لتستيقظ فتجدها جوارها علي الوسادة…
أمي الحبيبة…
عذراً لو كنتُ قد خيبتُ أملكِ فيّ دون قصد…
لكنني أبداً لن أفعلها عامدة…
أنتِ منحتِني حياتي السابقة يوم قررتِ أن تكوني لي أماً…
وأنا سأمنحك حياتي القادمة عندما أبتعد عن عزيز…
نعم عزيز كان حياتي القادمة…لكنني سأتركه فقط لأجلكِ عساكِ لا تندمين علي معروفٍ صنعتِه بطفلة يتيمة فكبرت لتخطف فرحة قلبك بابنك….
لا تقلقي على ماستك…فهي صلبة رغم الخدوش…
أحبكِ أمي…وستبقين دوماً بعينيّ كل الرحمة!!
سالت دموع رحمة غزيرة وهي تقبض كفها من جديد على رسالتها بعد أن قبلتها لتهمس وسط دموعها بحرقة:
_لأجلكِ يا ابنتي قبل أن يكون لأجله….عزيز لم يكن ليداوي جرحكِ أبداً…بل كان سيزيده!!
ثم رفعت رأسها للسماء لتدعو بتضرع:
_احفظها يارب أينما كانت…وردها لي…
ثم تهدج صوتها وهي تردف :
_لأمها!!
======
جلست قبالته على مكتبه الضخم بغرفته الكبيرة…
والتي تشبه الغرف العظيمة لل”بكوات” في مصر القديمة كما كانت تراها علي التلفاز…
هذا القصر قديم الطراز لكنه فخم حقاً…
كل قطعة فيه تحفة أثرية…
لم تكن تصدق يوماً أن ترى شيئاً كهذا في الواقع بعدما قضت عمرها السابق كله في حارة رحمة الفقيرة شديدة التواضع.
أطرقت برأسها تنتظر منه أن يبدأ الحديث…
لكنه ظل يتأملها متفحصاً للحظات….
ثم قال لها بنبرته القاسية :
_الطفل الذي تنتظره السيدة هو أهم شئ في حياتي الآن….هل تدركين معنى هذا؟!!!
أومأت برأسها إيجاباً وهي تتحاشى النظر إليه…
ثم همست بخفوت:
_بارك الله لكما…سأبذل قصاري جهدي للعناية بالسيدة.
خبط بقبضته علي المكتب ليهتف بصرامة:
_قلت لكِ الطفل…وليس السيدة…هل تفهمين؟!
خفق قلبها بعنف وهي تشعر بالنفور من قسوة هذا الرجل…
حتى لو كان هذا ما يملأ صدره حقاً…
فلا يليق أن يصرح به هكذا….وبصوته الجهوري هذا…
ألا يخشى أن يسمعه أحد الخدم فيبلغ السيدة حورية…؟!!!
لكن…من ذا يجرؤ هنا على فعلة كهذه….؟!!!!
بل من يملك محاسبة “الشيطان” كما يلقبونه على ما يقول….؟!!!
هو هنا السيد المطاع بلا جدال…
فرغم أنها لم تقضِ هنا سوى يوم واحد…
لكنها سمعت من أحاديث الخدم الكثير عن قسوته وجبروته…
قطعت أفكارها عندما عاد يهتف بصوته الخشن:
_لماذا لا تردين ؟!
التفتت إليه لتختلس نظرة لعينيه القاسيتين قائلة ما أملاه عليها ضميرها بثبات:
_سيد عاصي…اسمح لي…صحة السيدة مرتبطة بصحة الطفل…لو أردت الخير لطفلك فيجب أن توفر لزوجتك ….
قاطعها هاتفاً بصرامة:
_لا تقولي زوجتي…هي السيدة حورية …
مطت شفتيها في استياء وهي تكاد تقسم أنها لم تقابل في حياتها من هو أشد غلظة من هذا الرجل…
من أين يأتي بكل هذه القسوة التي تغلف نظراته قبل كلماته….؟!!!
إنه حقاً مخيف ك…شيطان!!!
ازدردت ريقها ببطء لتعاود كلامها بصبر:
_حسناً…صحة الطفل مرتبطة بصحة السيدة …وأنا لاحظت أن حالتها النفسية ليست جيدة…
عقد حاجبيه وهو يسألها ببطء:
_هل اشتكتِ إليكِ بهذه السرعة؟!!!
هزت رأسها نفياً لتهتف بسرعة وقد شعرت بالخوف من أن يؤذي زوجته :
_لا لا ….إطلاقاً…إنه مجرد إحساس.!
نظر إليها طويلاً ليأسرها بقوة عينيه الزيتونيتين فلم تستطع الفكاك من سيطرتهما رغم الخوف الذي كانت تشعر به….
ليعود بعدها بظهره إلي الخلف دون أن يرفع عينيه من عليها قائلاً بنبرته القاسية:
_تتدخلين فيما لا يعنيكِ!!
أخيراً امتلكت الشجاعة لتفك عينيها من أسر عينيه فأطرقت برأسها قائلة:
_لا…أنا أتحدث في صميم عملي….صحة السيدة مسئوليتي…وحالتها النفسية ستؤثر على هذا…لهذا تكلمت بصراحة.
ظل ينظر إليها طويلاً في ثبات…
ثم قال ببرود:
_عودي لغرفتك.
تنفست الصعداء أخيراً وهي تقوم بسرعة لتندفع نحو الباب وهي تشعر بالارتياح لخلاصها من رفقته البغيضة….
لكنها توقفت مكانها عندما سمعت هتافه خلفها:
_هل تحلمين بكوابيس في العادة؟!!!
عقدت حاجبيها بشدة وهي تضع كفها على صدرها…
كيف عرف؟!!!
إنها اعتادت كوابيسها منذ فترة ….
بالتحديد منذ ذلك الحادث الذي تعرضت له….
رحمة العزيزة كانت تنام جوارها دوماً لهذا السبب…
لكن ليلة أمس كانت أول ليلة تقضيها مع كوا بيسها دون حضن رحمة….
لهذا كانت أصعب ليلة مرت عليها منذ وقت طويل….
لكن…كيف عرف هو عن هذا؟!!!
غرفتها تقع في آخر الرواق الذي تقع فيه غرفته….
تراه سمع صرخاتها مثلاً؟!!!!
انقبض قلبها وهي تشعر بالقلق…
هل سيؤثر اكتشافه هذا على عملها هنا؟!!!
ربما ظنها مجنونة أو ما شابه!!!
التفتت نحوه أخيراً ببطء لترمقه بنظرات متسائلة…
لكنه شبك كفيه أمام وجهه دون أن يرفع عينيه من عليها قائلاً ببرود:
_لا شئ هنا يخفى عني.
عقدت حاجبيها بتوتر وهي تنتظر منه المزيد من التوضيح أو الشرح…
لكنه أردف بصرامة:
_عودي لغرفتك!
=========
_لا يا جميلتي…سأكون عندكِ في موعدي بالضبط.
قالها معتصم بصوته الرخيم لمحدثته على الهاتف…
وهو يرمق دعاء بنظراته المتفحصة….
لكنها تجاهلته تماماً وهي تتظاهر بالانشغال في عملها….
كم تود الآن في هذه اللحظة لو تقذفه بأي شئ في رأسه…
لتشوه وسامة وجهه هذه التي تغريه بالعبث مع الفتيات…
حمقاء هي …
بل قلبها هو الأحمق…
عندما تعلق برجل كهذا…!!!!
قطعت أفكارها عندما شعرت به يقترب من مكتبها ….
ليقول بتحفظ وبلهجة مختلفة تماماً عن لهجته التي كان يتحدث بها مع صديقته:
_كيف حالك يا دعاء؟!!! كيف كانت رحلتك؟! كلنا افتقدناكِ.
_وأنا افتقدتك أكثر أيها الأحمق المغرور.
كادت تلقي بها في وجهه….
لكنها تمالكت نفسها لتقول باقتضاب دون أن تنظر إليه:
_شكراً.
مط شفتيه في استياء لردها البارد ….
ثم جلس قبالتها على المكتب ليسألها باهتمام:
_أنا ألاحظ أنكِ تتباسطين مع الجميع إلا معي أنا….لماذا تعاملينني دوماً بهذا الجفاف؟!!!
رفعت عينيها إليه وهي تشعر بالارتباك…
ماذا عساها تقول له…؟!!!
هو محق في زعمه…
فهي برغم طبيعتها المرحة المتحررة مع الجميع…
تجد نفسها تعامله بحذر شديد…
وكأنها تنظر إليه من خلف قضبان عالية…
قضبان صنعتها حواجز كثيرة تراها هي بينهما…
أعظمها في نظرها هو مرضها الذي تراه مخزياً…
وليست هي فحسب من تراه كذلك…
بل كل من يعرف بحقيقتها…
وأولهم والداها!!!!
والداها اللذان يحاولان قدر استطاعتهما إخفاء حقيقة مرضها عن الجميع…
وتشعر بخوفهما الظاهر كلما تقدم أحد لخطبتها خجلاً من أن يبوحا له بحقيقة العروس “المعيبة” كما يرونها!!!
نعم…هي لم تزد في نظر نفسها ولا في نظر والديها عن كونها مجرد دمية معيبة …
دمية معيبة لن تعجب الشاري لتبقى طيلة عمرها مركونة على رف الرواكد!!!
فمنذ صغرها وهي تعاني من نوبات سقوطها “الصرعية” المتكررة…
وقد كان هذا يشعرها بالخجل أمام رفيقاتها…
لكن الخجل تطور لخوف عندما سمعت والدتها تتحدث يوماً عن علاقة هذا بمسّ شيطاني أصابها…
لن تنسى أبداً تلك الليلة التي قضتها طفلةً غارقة في دموعها وخوفها من مجهول لا تعرف عنه شيئاً!!!
لكن الله كان رحيماً بها…
عندما ذهبت بها والدتها أخيراً لأحد الأطباء فشخص حالتها بدقة ليعطيها الدواء المناسب…
فتقلصت حدة أعراضها كثيراً حتى أنه لم يعد ينتبه لمرضها أحد…
خاصة وهي تتعمد المرح والمزاح أمام الجميع…
لكنها -هي -كانت تشعر بأنها امرأة ناقصة…
وبأنها لن تجد من يقبل بها على حالها هذا….
وربما كان هذا سبب شخصيتها المزدوجة!!!
فهي علي الرغم مما تبديه من مرح وانطلاق مع الجميع …
تشعر بداخلها أن روحها مكسورة…
مهزومة في معركة لم تخترها…
لكنها مجبورة على المضيّ فيها وتحمّل عواقبها للنهاية!
لقد كانت قد وطّنت نفسها على وحدتها وتقبلت مصيرها برضا…
لكن حبها لهذا الرجل أمامها والذي تملك قلبها رغماً عنها…
هو ما عاد يملؤها بالخوف لتدق أجراس الحذر بداخلها من جديد!!
لا تدري لماذا هو بالذات من جذبها إليه…
لا…ليس الأمر لوسامته وخفة ظله…
فلم تكن أبداً ممن ينجذبن لهذه الشكليات…
لكنه شئ خاص بنظرة في عينيه لم يخطئها قلبها…
نظرة ميزتها هي بإحساسها قبل عينيها…
نظرة منحتها وعداً بالأمان لم تدرِ مصدره…
لكنه كان يهدهد خوفها برفق خبير…
ليفتح الباب من جديد لأحلامها الوردية التي طالما دفنتها تحت رماد المرض والعجز والخزي….
ومع هذا هي لا تزال حائرة معه….
نظراته تحكي لها الكثير عن مشاعر صادقة لن يغفل عنها قلبها…
لكن أفعاله تناقضها بغرابة….
فهو لا يكف عن مواعدة الفتيات والمزاح معهن بجرأة تصل لحد الوقاحة أحياناً…
رغم أنها شبه واثقة من أنه لا يتمادي معهنّ لحد علاقة جسدية….
لكن مجرد أحاديثه ومكالماته الهاتفية الحارة تثير جنونها ….
خاصة وهي تشعر أنه يتعمد كتمان مشاعره عنها غافلاً عن عينيه اللتين تفضحانها بقوة!!!!
وأمامها كان هو غارقاً في عينيها الواسعتين…
يكاد يقسم أنه لم يرَ في حياته عينين أوسع منهما…
كأنهما بحر عريض ….
أو صحراء شاسعة….
يعدو بها جواد قلبه حراً منطلقاً بلا قيود…
لكنه لا يزال غير قادر على البوح بمشاعره نحوها….
ربما لأنه غير واثق منها…
وربما لأنه يعرف أن دعاء ليست كباقي الفتيات اللاتي يعبث معهن….
واعترافه بمشاعره معها يعني خطوة جادة ….
هو ليس مستعداً لها بعد!!!!
طال اللقاء كثيراً بين عينيهما ….
ليمتد بينهما جسر طويل من مشاعر مرتبكة حائرة…
لازالت تتعثر في خطواتها نحو بر الأمان…
لتكون هي أول من يقطع لقاء عينيهما هذا عندما أشاحت بوجهها …
لتتناول ملفاً من على مكتبها…
ثم قامت من مكانها لتقول له بحزم واثق:
_لا صحة لما تقوله يا معتصم…أنا أعاملك كبقية الزملاء…كلكم إخوتي.
قالتها وهي تغادر المكتب بخطوات واثقة…
بعيدة تماماً عن قلبها الذي كان يخفق الآن بجنون…
مردداً بين ضلوعها بحسرة…
كاذبة…
كاذبة..!!!!

جلست صفا وحدها على إحدى الأرائك في شقتها المقابلة لشقة عبد الله …
والتي أقامت فيها بعدما ألقى عليها يمين الطلاق….
كانت قد اشترت هذه الشقة منذ أكثر من عامين…
وكتبتها باسمها هي….
ربما هو شعورها بعدم الأمان مع عبدالله خاصة بعدما طلقها لأول مرة….
وها قد صدق حدسها وطلقها للمرة الثانية!!
طالما خذلتني يا عبدالله…
طالما خذلتني…!!!!
حبي لك أشبه بنقطة سوداء وسط بياض روحي…
فلا أكاد أعرف حقاً نفسي معك…
أنا التي طالما تباهت بقوتها…
وتغنّى الناس برجاحة عقلها…
أجدني معك طفلة تائهة بلا حول ولا قوة…
وليتك تقدر قيمة حبي لك…!!!!
بل على العكس…
طوحته بيديك كورقة طوتها أناملك بلا اكتراث!
يالخسارتي…
بل…يالخسارتك!!!
فما نثرته أنا من جواهر تحت قدميك…
زهيدٌ في عينيك كحفنة من تراب!!!
فمن فينا الخاسر ؟!
ومن الرابح؟!
ومن مِنّا الشقيّ بصاحبه…
ومن السعيد؟!
أنا…أم أنت؟!!!

قطعت أفكارها عندما سمعت طرقاً على الباب…
فمسحت دموعها التي سالت على وجنتيها ….
لتتوجه نحو الباب فتفتحه برفق ثم تبتسم بحنانها المعهود:
_تعاليْ يا رؤى…أهلاً!!
احتضنتها رؤى بقوة وهي تبكي بانهيار….
كل ما فيها الآن كان يبكي وجعاً بعدما عادت من زيارتها لجنّة…
شعور بالندم…بالخزي…بالخذلان…
وبالضيااااع…!!!!!
لتكتمل هذه الصورة عندما عادت لمنزلها فلم تجد صفا…
صفا بحضنها الحنون التي طالما احتوتها…
كما احتوت أخاها…
لكنها لم ولن تجرؤ علي البوح لها بخطيئتها مع فهد!!!!
ضمتها صفا بقوة وهي تربت على ظهرها برفق….
لتهمس في أذنها بحنان:
_لا تبكي يا حبيبتي…أنا بخير!!
أبعدت رؤى وجهها قليلاً…
لتتفرس في ملامح صفا الحانية…
ثم هزت رأسها في عجز…
هل كل الرجال هكذا؟!!
صور مكررة من فهد وعبدالله!!!
هل هذا هو ما يفعله بنا الحب عندما نستسلم له؟!!
يمزق كل خيوط تماسكنا…
ليتركنا بعدها قطعاً مبعثرة تتقاذفها هبّات الرياح !!!!
لكن صفا ربتت على رأسها لتهمس برقتها المعهودة:
_هل تناولت غداءكِ؟!!! هل ذهبتِ للجامعة اليوم؟!!
ابتسمت رؤى وسط دموعها الغزيرة وهي تومئ برأسها صامتة…
صفا العزيزة لن تكف عن اهتمامها بالجميع…
حتى وهي في هذه الظروف…
تسألها لتطمئن على أحوالها…!!!!
أحمق يا عبدالله!!!
أحمق!!!
كانت تهمس بها في سرها وهي لا تعرف تفاصيل طلاقهما الأخيرة…
لكنها موقنة من أن عبد الله هو المخطئ كعادته…
صفا لا تستحق منه هذا….
بل هو الذي لا يستحق ملاكاً مثلها!!!
لهذا سألتها بنبراتها الباكية:
_ماذا حدث بينكما يا صفا؟!!! لماذا حدث هذا؟!!!!
أعادت صفا رأسها لتضمه على صدرها قائلة بحنان:
_لا شأن لكِ بما حدث بيننا؟!!! علاقتي بكِ لن تتغير…أنتِ ابنتي التي لم أنجبها يا رؤى!
عادت رؤى تنتحب بين ذراعيها وهي تشعر بحاجتها لهذا الحنان الصادق….
وكذلك صفا التي شعرت وقتها أنها تحتاج حقاً لهذا الحضن…
فضغطت على شفتها بقوة مغمضة عينيها وهي تتذكر آخر مرة ضمها فيها عبد الله هكذا…
كانا عائدين من المشفي…
بعد محاولة جراحية فاشلة جديدة بغرض الإنجاب كالعادة…
ليلتها لم تكن فاقدة للأمل فحسب….
بل كانت فاقدة للشعور بالحياة نفسها!!
لكنه ضمها بين ذراعيه بحنان لم يسبق أن رأته منه…
ليهمس في أذنها بدفء:
_أنا طفلك الأول يا صفا …هذا شعوري بكِ حقاً…كثيرات هن النساء اللائي يجدن إغواء الرجال بأنوثة براقة…لكنني لن أجد مثلكِ …تحتوي ضعفي بأمومتها الصادقة….بحنانها الفياض…وبقلبها الذي أعلم أنه لم ولن يكون إلا لي.
سالت دموعها على الرغم منها من جديد…
وهذه الذكري البعيدة تجلدها بسياط الحنين….
لتفتح عينيها ببطء…
فتجده أمام عينيها…
نعم…هو!!!
عبدالله الذي عاد لتوه من عمله…
ليجد باب شقتها مفتوحاً وهي تحتضن رؤى الباكية هكذا!!!!
نظر إليها طويلاً وهو يشعر بقلبه يخفق بجنون….
مرآها وهي تحتضن شقيقته بهذه الطريقة جعله يشعر بالذنب الذي عاد يجلده…
لكن صفا هربت بعينيها منه…
لتربت علي كتف رؤى هامسة بحنان:
_لقد عاد عبد الله…اذهبي وتناولي غداءكِ معه…وسأنتظركِ هنا مساءً لنتحدث كما تشائين.
أومأت رؤى برأسها إيجاباً…
ثم توجهت نحو عبد الله الذي كان لا يزال واقفاً لم يرفع عينيه من على صفا….
لكن صفا أطرقت برأسها ثم أغلقت باب شقتها برفق….
فزفر هو في ضيق…
ثم دخل شقته مع رؤى ليغلق بابها هو الآخر قبل أن يتوجه نحو غرفته ليستلقي على سريره بعنف….
ثم توجه ببصره نحو جانبها الخالي من فراشهما….
فخبط بقبضته على الوسادة جواره هامساً بحنق:
_كيف أضعتها يا أحمق؟!كيف؟!
==========
أغلق فهد باب الشقة عندما انصرف الجميع ليبقى مع جنة وحدهما….
قامت من مكانها لتتوجه نحوه مواجهة إياه بقوتها المعهودة لتسأله بثبات:
_كيف أضمن أنك لن تخبر عبد الله عما كان بينكما أنت ورؤى؟!!!
فاقترب منها بدوره ليمسك كتفيها قائلاً ببرود:
_أنتِ هي الضمان الوحيد.
أطرقت برأسها وهي تتمنى لو يكون كل هذا كابوساً تفيق منه على سريرها لتحتضن صورة حسن جوارها على الكومود ثم تعود لنومها من جديد…
لا تزال لا تصدق كل ما حدث…
كل هذه الأحداث السريعة المتلاحقة…
والتي تجعلها أشبه بمن تلقى ضربة عنيفة علي رأسه…
نعم…
تماماً…هذا هو ما تشعر به بالضبط…
دوار عنيف…
كأن رأسها يلف بسرعة في متاهة بلا نهاية…
وتخشى السقوط…
لأن ذراعي حسن لن يسنداها هذه المرة…
بل…
ربما ذراعا رجل آخر!!!
اقشعر جسدها للفكرة فأزاحت ذراعيه عن كتفها ببعض العنف لتقول بتماسك مصطنع:
_والآن…ما هي خطوتك التالية؟!!
ابتسم في برود مصطنع يداري شعوره العاصف بها الآن…
ليرفع كفها إليه ببطء…
ثم بدأ في نزع دبلتها من إصبعها…
لكنها قبضت كفها بقوة وهي تهتف في حدة:
_ماذا تفعل؟!!
قبض علي كفها بقوة متملكة وهو يقول ببرود:
_هذه هي خطوتي الأولي .
عقدت حاجبيها بشدة….فأردف بتهكم:
_من مبادئ الأستاذة أن تبقي على دبلة رجل وهي في عصمة رجل آخر؟!!!
دمعت عيناها رغماً عنها وهي تشعر بالقهر…
ربما يبدو هذا الوغد محقاً…
لكن…كيف تفعلها…؟!!!!
كيف تنزع دبلة حسن من إصبعها وهي التي بقيت كذلك منذ وضعها بنفسه منذ سنوات….؟!!!!!
وقد أقسمت لنفسها ألا تخلعها أبداً….
لكن هذا الوقح عرف كيف ينال منها…
نعم…ليس من مبادئها أن تبقي على دبلة حسن طالما وافقت على زواجها من فهد بإرادتها…
حتى مع يقينها أنه قد أجبرها على هذه الزيجة لأسبابه المريضة…
لكنها تعودت احترام اتفاقاتها والتزاماتها…
وهذا الوغد لن يكون استثناء!!!
عضت علي شفتها بقوة للحظات….ثم أشاحت بوجهها لتقول بصرامة:
_لا تلمسها أنت…أنا سأخلعها بنفسي!!
عقد حاجبيه بشدة وهو يفهم مغزي عبارتها…
هي لا تريده بينها وبين حسن هذا…
حسن من ألبسها دبلته…
وهي من ستخلعها!!!
فك حصار أنامله عن كفها وهو يترقب ما ستفعله…
ليلاحظ ارتجافة أصابعها وهي تخلعها ببطء…
كأنها تنزع روحها معها…
ورغم ضيقه الذي لم يبدِه لها لكنه شعر نحوها بشئ من الإشفاق!!!!
رغم ما تحاول التظاهر به من قوة وصلابة…
لكنه كان يشعر أنها على وشك الانهيار أمام أول ضغط إضافيّ…
لهذا وقف مكانه صابراً حتى نزعتها من يدها فمد يده ليتناولها منها…
لكنها قبضت كفها عليها لتهمس بشرود:
_أنا سأحتفظ بها حتى أعيدها مكانها بعدما ينتهي هذا ال….عقد!!
كز على أسنانه وهو يلاحظ أنها لا تتحدث عما بينهما على أنه زواج…
بل…مجرد عقد!!!!
حسناً…
عنادها هذا يجعل اللعبة أكثر تشويقاً وإثارة…
وصعوبة…
وهو لم يعشق يوماً الألعاب السهلة!!!
لهذا هز كتفيه وهو يبتسم ابتسامته المعهودة ليهمس بتحدٍ صارخ:
_ومن قال أن (زواجنا) سينتهي؟!!!
كان يضغط على حروف كلمة زواجنا بشدة في مقابل استخدامها للفظة (عقد)…..
فزاد انفعالها وهي تهتف بحدة:
_والآن…ماذا تنتظر أنت من هذا الزواج؟!! لا أظن امرأة مثلي قد تغري فهد الصاوي العظيم ليقدم على هذه الخطوة…هلّا أخبرتني عما برأسك؟!
ابتسم ابتسامة جانبية وهو يلتقط سهامها البندقية المصوبة نحو قلبه باحتراف ليهمس ببطء مثير:
_قلت لكِ من قبل أنكِ تعجبينني…وأردت فقط تملكك!!
كان دورها هي لتبتسم في سخرية قائلة :
_وهل تُمتلَك المرأةُ بالزواج في عصرنا هذا يا شهريار؟!!!!
اقترب منها أكثر حتي كاد يلاصقها وهو يهمس ببرود:
_وبمَ تُمتَلَكُ إذن؟!!!
وضعت كفها علي صدرها مكان قلبها تماماً لتهتف بحرارة:
_بهذا …لكن مثلك لن يفهم لأنه أمات قلبه منذ دهور.
ورغم أن عبارتها أصابت هدفاً حساساً بصدره…
لكنه قال بنفس البرود:
_ستكونين لي كاملة…قلبك سيأتيني راكعاً قبل أن تستسلمي لي بكل جوارحك.
ضحكت ضحكة قصيرة أشرق لها وجهها للحظات…
قبل أن تردف بإشفاق لا تدعيه:
_مثلك يجعلني أشعر بالرثاء…غيرك يموتون لأجل كلمة حق جاهروا بها في وجه الطغيان…وأنت تعيش حياتك تلهث خلف سراب.
كان يتشرب كلماتها رغماً عنه بكل ذرة في كيانه…
لكنه مع هذا ابتسم بسخرية ثم صفق بكفيه هاتفاً:
_مرافعة جيدة يا أستاذة…والحكم بعد المداولة.
هزت رأسها في يأس من هذا الحوار العقيم…
ثم أشاحت بوجهها لتسأله بتوتر:
_متى سيمكنني العودة لشقتي؟!!
لكنه أدار وجهها نحوه ليهمس أمام عينيها بنبرته المتسلطة:
_لن تخرجي من بيتي إلا بإذني…هذه أبسط حقوقي يا أستاذة.
عقدت حاجبيها بضيق لكنه لم يفلت وجهها من بين أنامله…
فازدردت ريقها ببطء لتهتف بحنق:
_وعملي؟!
ظل ينظر إليها للحظات…
وقد عادت إليه رغبته في تقبيل عينيها من جديد…
لكنه تمالك نفسه بصبر..ليقول لها ببرود:
_لن أمنعك من العمل…لكنكِ لن تتحركي خطوة واحدة إلا بعلمي.
تنهدت بحرارة وقد أرهقها هذا الحوار بثقله الجاثم على صدرها…
فأزاحت أنامله من على وجهها لتعطيه ظهرها وتعود نحو غرفتها…
لكنه أمسك مرفقها ليديرها نحوه قائلاً بسخرية وقحة:
_إلى أين تذهبين؟!! لا تقولي أنكِ ستتزينين لزوجكِ كبقية العرائس؟!!
التمعت عيناها بقسوة لم يرها فيها من قبل وهي تهمس بشراسة:
_إذا أردتَ مني شيئاً فخذه غصباً وسرقة كعادتك…أنا لن أمنحكَ شيئاً بإرادتي.
ابتسم وكأنه كان يتوقع ردها ليحيط وجهها براحتيه من جديد هامساً ببطء:
_فهد الصاوي لم يمس امرأة يوماً إلا برضاها..
فخفضت بصرها عنه وهي تشعر ببعض الارتياح…
لكنه رفع أحد حاجبيه ليهمس بمكر:
_لكنكِ تستحقين أن تكوني أول استثناء!!
ازدادت قبضتها تشبثاً بدبلة حسن في يدها وهي تشعر بخوف حقيقي…
التقط هو ذبذباته بسهولة ليفك حصار أنامله من على وجهها ببطء…
ثم قابل وهج البندق في عينيها بتحدٍ يمتزج بالإعجاب…
ليهمس بعدها :
_ومع هذا سأنتظر حتى أكسب رهاني…لأتذوق لذة انتصاري مضاعفة!!
أغمضت عينيها بقوة تتحاشي النظر لملامحه البغيضة -كما رأتها-ثم همست بصوت منهَك:
_سأذهب لغرفتي.
شئ بداخله كاد يدفعه لمنعها…
هو يريد استبقاءها معه…
يريد أن ينهل أكثر من بئر بندقيّتيها العنيدتين…
سحر التحدي الذي يروقه مع أي امرأة…
ويجده معها أكثر جاذبية وغموضاً!!!
لكن -شيئاً ما- بصوتها الكسير على غير عادته كان يرجوه ألا يضغط عليها أكثر…
فانهيارها الحتمي ليس ببعيد!
لهذا أمسك كفها بتملك واضح رغم تشنجه في يده…
ليتوجه بها نحو غرفتها…
ثم دفعها برفق ليدخلها فاستدارت نحوه وهي تتأهب للشجار…
لكنه رفع سبابته في وجهها هامساً بنبرته المتسلطة:
_هذا أول دروسكِ هنا يا أستاذة…قراركِ ليس من رأسكِ بل بيدي أنا.
ابتسمت بسخرية لتهمس بتحدٍ مماثل:
_لا يهم…المهم أن ما أريده أنا هو ما سيحدث في النهاية!!
اشتعلت عيناه بغيظ واضح للحظة…
قبل أن يرمقها بنظرة مشتعلة أغلق بعدها الباب بنفسه ليتركها وحدها….
فانهارت أخيراً على سريرها وهي تفتح كفها المنقبض على دبلة حسن لترمقها باستجداء صارخ…
قبل أن تهمس بألم:
_لن أضعف يا حسن…لن أضعف ولن أخاف.
=============
_ابتعدوا…آآآآآآه.
صرخت بها ماسة وهي تقوم من نومها متلفتة حولها في ذعر…
لتنتبه أنه كابوسها اليومي كالعادة…
هذه هي ليلتها الرابعة هنا…
وكل ليلة تشبه سابقتها…
نفس العذاب بكوابيسها كالعادة منذ ذاك الحادث…
لكن الفارق أن رحمة ليست هنا معها…
لتدفن وجهها في حضنها حتى يعود لها أمانها وتنام من جديد!!
سالت دموعها علي خديها وهي تشعر بانقباض قلبها…
وأنفاسها اللاهثة تجاهد للخروج من صدرها…
لكنها التفتت جوارها لتتناول مصحفها الصغير من على الكومود…
فقرأت منه بعض الآيات لعلها تتلمس السكينة….
ثم أغلقته بعدها بأنامل مرتجفة لتعيده مكانه…ثم ضمت ركبتيها إلى صدرها لتدفن وجهها بينهما…
وهي تحاول نسيان هذا الكابوس…
لكن قلبها كان يرتعد بحق …
لم تدرِ كم ظلت على هذه الحالة….
لكنها نظرت للنافذة لتجد شعاع الشمس قد بدأ في الظهور…
فأطلقت آهة خافتة…
ولازالت أحداث كابوسها محفورة أمام عينيها…
ثم نفضت غطاءها بعنف لترتدي عباءتها وحجابها…
وكل ما ترغب فيه الآن هو أن تخرج من هذه الغرفة إلى أي مكان….
فتحت باب غرفتها لتهبط الدرج الداخلي للقصر بخطوات متمهلة…
وهي تنظر خلفها نحو غرفة السيد عاصي بنظرات خائفة مترقبة….
لكنها شهقت بعنف عندما عادت برأسها للأمام فوجدته واقفاً عند أول السلم…
ينظر إليها بثبات!!!
ازدادت خفقات قلبها رعباً وهي تتوقف مكانها مطرقة برأسها ….
لا تدري ماذا تفعل…
لكن خطواتها بدت وكأن لها إرادة مستقلة….
لتجد نفسها تكمل طريقها وتهبط الدرج حتى وقفت قبالته…
كان جسدها يرتعش وبعض من خصلات شعرها قد تفلتت من تحت حجابها لتلتصق بجبينها المتعرق…
وبقايا من دموعها المتجمدة كانت هناك على وجنتيها تشهد على ليلة عصيبة كالعادة…
شفتاها ترتجفان رغماً عنها وتزداد ارتجافتهما مع مقاومتها المستميتة للبكاء…
وبالطبع كل هذا لم يخفَ عليه …
لكنه سألها بخشونة:
_أين تذهبين؟!
لم تستطع إجابته …
ببساطة لأنها لم تكن تعلم…
هي كانت تريد الهرب من غرفتها فحسب…
ولم تفكر سوى في الخروج…
لهذا ظلت على إطراقها الصامت أمامه وهي تشعر بالعجز الكامل…
حتى لو أرادت الكلام والشرح والتفسير…
لن تستطيع…
يبدو أنها لن تستمر في هذا العمل…
هذا الرجل بطباعه الصارمة لن يتقبل غرابة أطوارها وتصرفاتها…
وهو ما لن تلومه عليه كثيراً في الواقع!
_هل استشرتِ طبيباً بخصوص كوابيسك اليومية هذه؟!!!
كانت هذه عبارته التي فجرت دهشتها لترفع رأسها نحوه بصدمة….
فأردف بنبرة أكثر رفقاً:
_أنا أسمع صرخاتك كل ليلة وأنا في طريقي لصلاة الفجر.
أغمضت عينيها بقوة وهي تشعر برغبة عارمة في البكاء لما أحسته من هوان نفسها وحالها….
لكنها لن تفعلها أمامه…
على الأقل الآن!!!
لهذا وضعت كفها على شفتيها تتمالك بكاءها للحظات…
ثم همست بصوت خفيض متقطع:
_سأذهب للحديقة الخلفية…أريد فقط…
لكنه قاطعها بإشارة من كفه وهو يتأمل وجهها للحظات…
ثم أشار لها أن تتبعه…
قبل أن يعطيها ظهره ويسير بخطواته الثابتة….
فلم تجد بداً من اتباعه رغم توجسها منه…
سارت خلفه حتى خرج من القصر ليتوجه نحو ركن قصيّ من الحديقة…
بدا وكأنه منعزل عن بقيتها…
ربما لأنه كان مميزاً ب”تعريشة” من أوراق الشجر الضخمة…لعلها كرمة عنب…
والتي تضافرت مع عيدان الخشب لتصنع ما يشبه غرفة صغيرة وسط الحديقة …..
توقف مكانه وهو لازال يعطيها ظهره…
فتوقفت بدورها وهي تتلفت حولها في خوف يمتزج بالترقب…
رغم أن الشمس شقت طريقها وسط السماء…
ليبسط النور سلطانه على المرئيات…
لكنها كانت تشعر بشئ يقبض قلبها بقسوة….
فرفعت كفها ببطء لتتشبث بسلسلة عزيز بقوة…
عندما استدار هو نحوها ليلمح ما تفعله…
فابتسم في سخرية للحظة…ثم قال بنبرات قوية تحمل شيئاً من الغموض:
_العاقل لا يستمد قوته من ضعيف!!
اتسعت عيناها بدهشة تمتزج بالذعر…
وهي تراه يقرأ أفكارها بهذه السهولة…
لتتجمد يدها مكانها على السلسلة للحظات…
ثم تخاذل ذراعها ليسقط جوارها وهي تعقل عبارته الموحية…
هي حقاً تستمد قوتها من ضعيف!!!
لكن..
أيهما أضعف يا ترى؟!!!!
عزيز…أم سلسلته؟!!!
أطرقت برأسها وعقلها يجيبها بعتابه الصارخ…
عزيز كان أضعف من أن يحافظ على حبه…
لكن قلبها ثار بين ضلوعها هائجاً بثورة بحر عاصف….
عزيز كان ضحية ظروف قاسية…
هو حاول قدر ما استطاع…
لكنها هي التي تسرعت بالهروب….
ربما هو وفاؤها لرحمة ورغبتها في رد جميلها….
وربما هي كرامتها التي دفعتها للرحيل حتى لا تري الشفقة في عيونٍ أحبتها!!!!
بينما تأمل هو إطراقها الصامت للحظات ثم قال بنبرته المسيطرة:
_هذا المكان سيناسبك كثيراً….سأطلب منهم أن يحضروا لكِ الإفطار هنا…وبعدها لن يزعجكِ أحد…لكن لا تنسيْ موعد دواء السيدة.
رفعت رأسها إليه بدهشة تمتزج بامتنانها…
لكنه كان قد تجاوزها ليعطيها ظهره راحلاً…
دون كلمة زائدة!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى