روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والرابع والأربعون 144 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والرابع والأربعون 144 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والرابع والأربعون

رواية غوثهم البارت المائة والرابع والأربعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والرابعة والأربعون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل التاسع والخمسون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
وهناكَ في نهرِ الصفاءِ
تكونُ فضلٌ من اللهِ العظيمِ على الورى
ليلٌ يجيءُ وسرهُ مكنون في الليل
يا رب وفي الأسحارِ، أدعوك يا اللهُ
وأنت الباري أنت الذي أوجدتنا وخلقتنا
أنت العليمُ بدقةِ الأسرارِ بيديكَ
أنت الأمرُ يا ربَ الورى،
وإليك .. وإليك وإليك يرجعُ محكمُ الأقدارِ
_”نصر الدين طوبار”
__________________________________
حان موعد اللقاء والقلب لم يعد بمشتاق..
فاليوم تُسطر الحكاية أجمل خواتيمها وهي خاتمة تلق بشتيتين تقابلا صُدفةً فأصبحا مُقربين بعدما كانا عن بعضهما غريبين، اليوم تُفتح قصص العاشقين وتستقبل فوق صفحاتها قصتين جديدتين يُخلدهما بين أساطير العشق الزمان؛ حيث القوةِ من بعد ضعفٍ والخوف قد تحول للأمان، اليوم معًا سنصادق الليل ونرافق السهر، وكلًا منَّا يُراقب ما يهواه؛ حيثُ أنا أسهر وأراقبكِ وأنتِ تراقبين القمر، اليوم ستُكتَب قصةٌ بدأت من خيانة العهد ووصلت للقسم على الوفاء بالعهد، قصة بدأت من افتتانٍ بالقمر ثم انتهت بامتلاك القمر… فاليوم ستشهد الطُرقات أننا اجتمعنا، وسنفهم من الدُنيا ما جهلناه من معني، هذا المعنى الذي كان مُبهمًا ولم أجده في صفحات قاموسي؛ واليوم أراكِ أنتِ قمري وشموسي، اليوم يتوجب على المدينة أن ترى فرحة ذاك الغريب، وتلحظ رضا الزاهد وتعلم جيدًا أن الفرح للقلب عائد، أخبروا الطُرقات أن مهما علت أضواء ومهما فتحت أبوابها لن تجد مُتسعًا إلى ذاك الباب الذي أوصلنا لقلبها، وأن كل الأضواء لن تُضاهي لمعة عَينها، اليوم سنسمع حديث القلب إذ يقول:
“حيينا اليوم ربيعًا ونسينا ما عصرناه أمسًا من مُرٍ”.
<“أخبروا المُدن أن تشهد على فرحنا اليوم”>
ثمة بعض الأيام يُحق لنا أن نحتسبها عيدًا، حيثُ تلك الأيام التي تتفتح بها الأزهار وكأن الربيع قد حضر، وتُضاء بها السماء وكأنما يسكنها القمر، أيام تشرق بها الشموس الغاربة، وترسو بها السُفن من بعد إبحارها، تلك الأيام التي نستسلم فيها للأسر وكأن الألم راح بقوة السحر..
في حارة العطار أتت سيارة “يـوسف” ومعه بها “أيـوب” وكلاهما بجوار بعضهما حتى توقفت السيارة وفي مواجهتها سيارة أخرى تنافسها في الوقوف، ابتسم “يـوسف” ما إن لمح السيارة وقائدها ثم فتح النافذة وأخرج رأسه منها وهو يقول بنبرةٍ امتلكت كل الزهو وحُب الذات وخيلاء النفس:
_ أرجع أنتَ أحسنلك، أظن أنتَ جربت مرة قبل كدا وعارف إن ابن “الراوي” مبيتعاندش.
خرج له الآخر بنفس الطريقة ورفع صوته وقد كان صديقًا قديمًا له ولـ “أيـوب” الذي ضحك وتجهز للنزول من السيارة؛ وقد ازداد الضحك مع قول الآخر بنفس الزهو على غرار قول “يـوسف” المغتر:
_وهو حد كان قالك إن “وليد الرشيد” بيسمع كلام حد برضه؟ كان غيرك أشطر يا سكر.
الصديق القديم الذي تلاقى به صدفةً في موقفٍ مشابهٍ لذاك يأتِ له من جديد وتلك المرة تنافي سابقتها، حيث هنا في تلك المرة الجميع يرحبون بالفرحِ، فلا يسعنا إلا فتح الأبواب له بقول “أهلًا وسهلًا بكَ أيها الفرح” وبالأخص هذا الفرح الذي ظهر فوق الأوجه، وأتت معه الضحكات تسكن في الأعين وهي تلتقط وقوف الأحبةِ من بعد غيابٍ.
ترجل “يـوسف” و “أيـوب” مع بعضهما من السيارة ثم تلاقيا بالشباب الجالسين بالسيارةِ الأخرىٰ وبدأ الأكتاف تتحاوط في العناق، والحديث يخرج بمباركات، والعين تنطق بفرحها بهم، وانتهى الأمر بـ “يـوسف” يبتعد عن عناق “ياسين” وهو يسأله باهتمامٍ وقد جالت عيناه بحثًا عن مبتغاه:
_فين بنتك؟ دا أنا قولتلك دي تيجي قبلك.
ابتسم الآخر وجاوبه بقلة حيلة حيث لا يملك من الأمر شيئًا:
_مراتي خافت أنساها في حتة من فرحتي.
ما إن أنهى جملته لم يجد إلا الضحكات وفقط، ضحكات عالية كانت هي الرد على حديثه وقد قال “أيـوب” مُرحبًا بهم جميعًا هم الخمس سويًا:
_نورتونا يا شباب والله، وكنت هزعل والله لو ماكنتوش حضرتوا، أنتوا أخواتي مش غُرب وأنا عاملكم الفرح يوم جمعة أهو علشان محدش يبقاله حِجة، فين الباقيين بقى؟.
تلك المرة تحدث “خـالد” رفيقهم يجاوبه بقوله الرصين:
_حاولوا يحضروا بس للأسف بقى أنتَ عارف الظروف، بس قريب هييجوا يباركوا ليك بنفسهم، أما “عمار” فهيخرج من الشغل وييجي على الفرح علطول، قال كفاية “عـامر” مكانه.
تبادلت الابتسامات بينهم وعاد الترحاب من جديد يأخذ محلًا من وسط الجميع قبل أن تصدح الزغاريد من علو البناية كإشارةٍ على انتهاء العروستين من التجهيز والتحضير، وعلى إثر ذلك صعد كلًا من “يـوسف” و “أيـوب” للأعلى لكي يأخذ كلًا منهما زوجته والنصف الثاني لروحه، وقف “يـوسف” حائرًا بين طابق شقيقته وطابق زوجته لكن “أيـوب” اقترب منه بتقديرٍ لمشاعره ثم قال بحنوٍ:
_الأول شوف أختك وملي عينك منها، بعدها سلمهالي وأطلع شوف مراتك، يلَّا أنتَ أحق دلوقتي مني تشوفها.
أرشده بكلماته عن ما غاب عن عقله وقد استرشد “يـوسف” وابتسم له ثم ضحك له بصفاءٍ وولج شقته تحديدًا صوب غرفة شقيقته التي لم تبرحها الأصوات المرحة والهتافات العالية من أمه والبقية، وقد حمحم هو من الخارج ووقف عند أعتاب الغرفة، فالتفتت له تلك الحورية تأسره ببراءة العين وصفاء الضحكة، وقف أمامها مشدوهًا يتفحصها بعينيه وومضات الماضي تطوف وتسري في خلده حيث الزمان البعيد وبالتحديد تلك المرة التي حملها بها على يديه أول مرةٍ في عمره…
حينها ألقى عليها اسمًا واليوم يراه وصفًا، اليوم هو رجلٌ يقف على مشارف أبواب القمر، قمر لونه أبيض ناصعٌ حيث الفستان الرقيق الذي تناسب مع رقة الملامح وضحكة الأعين وابتسامة الثغر، وقف أمامها بعينين لم تملكا القدرة على الإيحاد بعيدًا وكأنه أدرك لتوهِ كم فقد من دونها، بينما هي فلمحت صورة “مُصطفى” به فتحركت له ومن ثم عانقته بدفءٍ وتشبثت به بقوةٍ وبادلها هو العناق بمثيله، شدد ضمته لها ثم نطق بصوتٍ رخيمٍ:
_مغلطتش لما سميتك “قـمر” يا بخته بيكِ.
ضحكت هي في عناقه ثم مسحت فوق ظهره وقالت بصدقٍ آسر لِلُبه منه:
_يا بختي أنا بيكم أنتوا الاتنين.
ابتعد ولثم الجبين ثم ضم الكف بين راحتيه ولثم كلًا منهما على حِدىٰ وهي أمامه تبتسم بخجلٍ وقد اقتربت منهما “غالية” تُلثم جبينه ثم جبينها وقالت بصوتٍ متهدجٍ:
_أنا مش عاوزة حاجة تاني من الدنيا غير فرحتكم بس، وكفاية إن اليوم دا جه عليا وفرحت بيكم مع بعض وأنتَ جنبنا ورجعت لحضني من تاني وربنا نصرك ونصرني عليهم، كان نفسي أكون أجمد من كدا وأحافظ عليكم أكتر بس والله مقدرتش وكل اللي في ايدي عملته، متزعلوش مني.
بكت وهي تتحدث معهما وقد ضمها “يـوسف” بين ذراعيه وأحكم عليها حصاره الفارض ثم لثم قمة رأسها وجبهتها وقال بنبرةٍ هادئة حيث حاول أن يتحكم في نفسه بقدر المستطاع:
_وهو أنا أقدر أزعل منك برضه؟ بعدين كفاية إنك لسه واقفة على رجلك وكفاية إنك كل يوم كنتِ بتدعيلي ربنا يسترها معايا، فكرك أنا عديت بكل دا شطارة مني؟ ولا بدعاكِ ليا يا “غالية” على القلب وحبيبة العين؟.
ضمته أمه وهي تدعو له ولابنتها وظلت تُكرر أحاديثها عليهما بصوتٍ أقرب للبكاء ومن ثم قطع كل ذلك صوت زغاريد “أسماء” وبجوارها “ضُـحى” حتى ضحك “يـوسف” مُرغمًا ثم التفت لشقيقته يحتضنها وفي تلك اللحظة ولج لهم “فـضل” الذي ما إن لمح ابنة شقيقته اقترب منها مُحدقًا في وجهه حتى ضحكت هي ثم دارت بنصف التفاتة تسأله بحماسٍ:
_ها يا خالو؟ إيه رأيك فيا وأنا عروسة أنفع؟.
ناوشت البسمة شفتيه ومن ثم وجد نفسه يقترب منها ثم ضمها داخل عناقه وقال بحبٍ وصدقٍ:
_وهو فيه عروسة حلوة من بعدك يا قلب خالو؟ إيه يا بت الجمال دا كله؟ أنتِ كنتِ مخبياه فين؟ الله أكبر ربنا يحفظك ويبعد عنك العين والشر ويهادي سرك، حافظي على بيتك وجوزك، أنا متأكد إنهم محظوظين بيكِ وسطهم، بس يلَّا علشان جوزك برة مستني.
انتفض قلبها في تلك اللحظة وسرعان ما تعلقت عيناها بالخارج فضحكوا البقية عليها بينما خالها غمز لشقيقها الذي ضحك هو الآخر ثم تابعهما حيث يقف “أيـوب” في صالة الشقة ينتظرها بأمل الأسير المُحرر لكي يلمح ضوء شمس الحُرية، وقف ينتظرها بصبر “أيـوب” آملًا في قوة إيمانة ومُقتضيًا بحكمته، بدأ صوت قرع نعالها يُصافح الأرض بخفةٍ جعلته يتطلع نحوها وفقط..
مجرد التفاتة منه نحوها وأيقن أن تلك هي التي ملكت القلب وصاحبه، هلل قلبه وتراقص بين جنبات صدره وإن كان هو يقف ثابتًا أمامها إلا من بسمةٍ ساورت شفتيه حتى وقفت أمامه وقد سلمها له “يـوسف” بعد أن سلمها له “فضل” فتحدث الأول بحبٍ وصدقٍ:
_دلوقتي أهيه رسمي بقت معاك وليك، مش هوصيك عليها بس هقولك إن ربنا كرمك من وسع يوم زرع حُبك في قلبها، يمكن أنتَ عارف بس أنا موجود وشاهد، قدرها وخلي بالك منها، وخلي بالك أنا طول عمري مكسور عادي، بس الكسرة اللي تجيلي من حاجة تخص “قـمر” هتبقى بموتي علطول يا “أيـوب”.
الحديث كان صادقًا والنظرة أقرب للتوسل وكل هذا كان الدُعامة التي جعلت “أيـوب” يلتقط كفها بتملكٍ واضح ثم قطع وعدًا صادقًا له:
_وأنا زيي زيك اللي يكسرها يكسرني واللي يطول قلبها يطول قلبي أنا كمان، أختك في عيني وربنا يقدرني وأخليها معايا في أمان ومفيش حتى نسمة هوا تقرب منها، بعدين أنا أصلًا عاوزها معايا علشان أقدر أكمل طريقي بيها، معقول بقى أزعلهالكم؟.
ابتسمت هي بخجلٍ من كثرة الإطراء عليها بينما هو تلاقى بعينيه مع عينيها ثم اقترب يُلثم جبينها أمامهم وهمس في أذنها بنبرةٍ خافتة لم تصل لغيرها هي حيث تغزل فيها غزلًا صريحًا:
_خلي للناس قمرهم، وخليلي أنا قمري.
ما تلا ذلك بعد خجلها أمام الجميع كان نزوله بها وخلفها سارت “ضُـحى” تعاونها وتُساعدها ومعها “أسماء” أيضًا التي لم تنفك عنها أفعال البهجة والفرح إعلانًا للفرح الزائر بيتهم، أمسك كفها وولج بها المصعد وكفه يعانق كفها بتشبثٍ ولم ينتبه أيًا منهما أن العالم به غير خليل الروح..
في الأعلى وقف “يـوسف” يتجهز للقاء بشبيهة قلبه، وقف وهو يتمنى أن يجدها بحالٍ أفضل من أحوالها سابقًا، تمنى أن يجد الفرحة بائنة في عينيها كما حال شقيقته، وتمنى أن تتغلب على حزنها خاصةً أنها بدون عائلةٍ، في تلك اللحظة تذكر مكالمته لها أمسًا حينما قالت بانكسارٍ نبع من شق روحها:
_وأنا فرحانة افتكرت بابا، بعدها سألت نفسي مين هيسلمني ليك في ايدك زي كل البنات؟ مشي بدري أوي وفيه حاجات كتير لسه معملتهاش معاه ومش هينفع تتم من غيره، كل ما آجي أفرح ألاقي ١٠٠ حاجة تنكد عليا.
خرج من شروده على مجاورة خاله له فالتفت يواجهه بعينيه ثم سأله عن سبب وقوفه فقال بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم له:
_”قـمر” قالتلي أسلمك مراتك في ايدك وأوصيك عليها زيها زي بناتي ووصتني أكون فوق قبلك زي ما سلمتها لـ “أيـوب” كمان، وأنا طالع أنفذ الوصية تعالى ورايا بشوية و”غـالية” هتيجي وراك وتكون معاك كمان.
ابتسم “يـوسف” له بغير وعيٍ منه وتوسعت عيناه بذهولٍ وقد وقف بفرحٍ لأجلها قبل نفسه، وقف حتى جاورته أمه وأمسكت يده ثم رفعت كفه ولثمته وهي تشاركه فرحها به وبتواجده، هذا الغائب قد عاد، كبر الابن وأصبح رجلًا، الجزء الكبير من القلب وجد الجزء الأصغر منه أخيرًا، قطعة من الروح، خليل القلب، رفيق الفؤاد، حبيب العينين، كل ذلك هو ولا غيره..
في الأعلى وصل “فـضل” وطرق الباب بأدبٍ مُراعيًا لحُرمة البيت وقد أتت أمها تُرحب به وبحضوره، بينما هو وجد “آيـات” برفقتها فرحب بها هي الأخرىٰ ثم اقترب من “عـهد” وقال يستأذنها أولًا قبل أن يتعدى على خصوصياتها:
_تقبلي أسلمك لـ “يـوسف” أنا؟.
حركت عينيها نحو أمها تسألها وقد ترقرق الدمع في عينيها ولم تجد ردًا يناسب ما يُقال، فقط الصمت هو الذي خرج منها وقد تلاقت عيناها بعينيه وأومأت بخفةٍ فابتسم هو لها ثم قال يمازحها بحديثه:
_يا بخته بيكِ يا “عـهد” زي القمر ربنا يحفظك.
عاد الخجل لها من جديد وقد اقتربت منها “آيـات” تُتمم على آخر الأشياء حيث الفستان الأبيض الواسع وحجاب الرأس الذي زينه طوقٌ صغير الحجم من الزهور الصناعية، وقد أبرزت الفتاة جمال عينيها بكحلٍ أسودٍ كان كما السحر المُلقى على أعتاب مُقلتيها وزادت رقتها بثغرها الوردي، ورقة ملامحها وهي تبتسم لكل من حولها بتيهٍ كأنها ضائعة بينهم..
وصل هو مع أمه لعقر دارها وقد خرجت هي تتمسك بمرفق “فـضل” الذي قادها إليه ثم وقف أمامه، أما الآخر فمدينته يبدو أنها خطفته حيث أطرافها وأرجائها ليقبع هناك بعيدًا عن العالم وزحامه، وجد نفسه بعينيها ساكنًا وهي تخبره عن خوفها وشدة حاجتها له، اقترب منها بخطى هادئة وقبل أن يمد كفه وجد خاله ينطق بثباتٍ:
_شوف قبل ما تاخدها مني، أنا ربنا يعلم إني بحبها زي بناتي الاتنين وبقت هي بنتي التالتة كمان، واللي يزعل بناتي هفرمه حتى لو كان أنتَ يا ابني يا كبير، لو جت في مرة اشتكتلي منك صدقني أنا هجيب حقها منك تالت ومتلت كمان، على الله تزعلها يا “يـوسف” وأنتِ يا “عـهد” لو رفع عينه فيكِ كلميني وأنا هجيب “عُـدي” أخوكِ ونجيلك، لا يكون فاكر نفسه حاجة علينا.
ضحكت هي له بامتنانٍ وقد كانت أكثر من ممتنة له ولحديثه ولتواجده معها في مثل هذا الموقف الذي لم تظنه بهذه الصعوبة على فتاةٍ وحيدة مثلها؛ وقد أومأت موافقةً بخجلٍ له بينما “يوسف” اقترب منها يضمها بين ذراعيه ثم مسح فوق ذراعها وقال بصدقٍ أمام خاله وأمها وأمه:
_هي مش محتاجة وصية من حد عليها، فكرة إنها معايا ومراتي دي لوحدها تخليني أقطع لساني لو فكر يزعلها، ومتقلقيش يا ست أم “عـهد” بنتك في عيني وفوق راسي ووعد عليا أهو لو زعلتها أنا هاجيلك بنفسي تاخدي حقك مني.
ابتسمت أمها من عبراتها المُنسابة بينما هو ابتعد عن زوجته ثم طالعها للمرة الأخيرة ولثم جبينها أمام الجميع ثم رحل بها وهو يتشبث بها في كفه، لا يصدق أن رحمة الخالق وصلت به لتلك اللحظة معها هي، لا يصدق أن قصته وصلت لهذا السطر، تلك القصة التي بدأت من خيانة العهد والآن وصلت إلى احتضان “عـهد”!! قصة يأسه الآن تشهد فرحًا حتى لو لم يكن كاملًا لكن يكفي أنها سببًا فيه، واليوم المدينة بأكملها ستشهد فرحه.
__________________________________
<“من أتاك بخديعةٍ في ظهرك، اخدعه أمام عينيه”>
لكل فعلٍ رد فعلٍ، لكن في بعض الأحيان يتوجب أن يكون رد الفعل سابقًا للفعل ذاته، فثمة بعض المواقف يتوجب عليك بها أن تسبق عدوك فيها رُبما بخطوة أو خطوتين حتى تأمن مكره وخداعه، تمامًا كما المركب التي أوهمت الجميع أنها فشلت في الإبحار ومن ثم كانت هي الوحيدة التي واجهت الطوفان..
في فندقٍ شاهق العلو على أحد جانبي النيل ارتكز بسطحه الزجاجي العاكس على ضفة من الضفتين، وتحديدًا في واحدةٍ من الغُرف الفاخرة في مكنوناتها، وفوق الفراش الوثير ارتمى جسد “ماكسيم” بعدما سار المُخدر في جسده وقام بفعله، وقد جلست بجواره تلك الفتاة التي قام بدفعها نحو طريقه “باسم” لينفذ خطة “مُـنذر” الذي وضع أساسها..
ولج “باسم” بخفةٍ للغرفة كأنها مجرد دعوة من “ماكسيم” للحضور إليه بمعاونة الفتاة التي ظلت تجول في الغرفة بخوفٍ من إفاقة “ماكسيم” حتى لاح ظل “باسم” فتنفست هي الصعداء ثم اقتربت منه تتحدث بتوبيخٍ طفيفٍ لم يصل لِحد المُبالغة:
_اخس عليك يا “باسم” باشا، كدا تسيبني كل دا مستنياك؟ دا حتى الحاجة الحلوة غلط عليها الركنة أحسن تسيح، يرضيك أسيح؟.
امتعضت ملامحه من طريقتها ورفع عينيه بمللٍ ثم نطق بصوتٍ جامدٍ أقرب لرد التوبيخ بتهكميةٍ لاذعة:
_أبقي شغلي التكييف يا حلوة، المهم أخلعي أنتِ يلَّا علشان ميصحاش يلاقيكِ وخُدي حسابك بس وأخفي من هنا، ياريت تلتزمي شوية، يعني من البيت للكباريه ومن الكباريه للبيت، مش هوصيكِ ها.
رماها بغمزةٍ عابثة جعلتها تقترب منه وهي تمسح فوق قلبه تقصد أغوائه بحركاتٍ مفتعلة وهي تتلون في طريقتها معه:
_طب مش ناوي تيجي مرة توصلني من الكباريه للبيت؟.
دفع كفها بعيدًا عنه ثم قال بضجرٍ منها وقد نفذ صبره:
_شايلك لوقت عوزة يا “فيفي” يلَّا أتكلي أنتِ.
تحركت من أمامه بيأسٍ من ركود مشاعره وبرود تفاعله معها بينما هو انتظر رحيلها من المكان ثم قام باخفاء أثار كل شيءٍ من المكان وتركه على طبيعته ثم ترك ورقة باسم الفتاة وقد سبق وتركت بصمة شفاها عليها وهي تخبره عن سعادتها برفقته وتوجب رحيله قبل أن يحضر “باسم” ويُتمم بنفسه؛ كل شيءٍ قدره جيدًا والنتائج كانت هي المُرادة..
أنهى كل ما توجب عليه فعله ثم تحرك نحو الشُرفة ووقف بها يُدخن سيجاره البُني وهو يُراقب تباين العمارات والبنايات؛ وقد اِفتر ثغره ببسمةٍ ساخرة إبان رؤيته للعالم من حوله، نفس اللوحة الواحدة لكن كأنما كان هناك رساميْن وكلًا منهما رسم بنظرته هو، فمابين الفندق الشاهق الذي احتوى الأجانب بمختلف الجنسيات وفرد جناحيه ترحيبًا بهما وما بين شعبٍ يركض خلف لُقيمات العيش وفُتات الأموال مر نهرٌ كان هو شُريان الحياة لكلا الطرفين.
امتد القهر لمنتصف قلبه وتمركز هناك وهو يرى بعينيه مجموعة من الصبية الصِغار ذي ملابس عَلُقَت بها الأوساخ والشحم الأسود يفتشون وسط القمامات عن الطعام، وفي نفس الرُقعة وبنفس الأرض على بُعد أمتارٍ يقبع هذا اللص الوضيع وينعم فوق الفراش الوثير ويأكل من خيرات أرضٍ يسعى لكي ينهب كل خزائنها في حين أن ابنائها يقضون ليلهم نومًا هربًا من الجوع، هذا الذي يريد سرقة الماضي، والسيطرة على الحاضر، وإخفاء ملامح المُستقبل، وما بين هذا وذلك وذاك توجد الأفواه المُكممة والطيور الحبيسة عن الحُرية والشمس الغاربة عن كل أملٍ.
اختنق “باسم” من الوقوف أمام تلك اللوحة القاسية على مناضلٍ مثله كان يومًا ما يسعى لتحرير العقول من قيدها فألصقوا به تُهمة الجنون، صورة حقيقية لشابٍ ألقى نفسه باليَّم هربًا من النيران، ولم يعلم أنه بذلك سوف يواجه الطوفان، أخرج هاتفه وتابع مع “مُـنذر” كل شيءٍ ثم ترك الغرفة وغادرها… لكن ليست كل المُغادرة بغير رجعةٍ.
__________________________________
<“صاحب نقاط الضعف، هو ذاته نقاط قوتك”>
لكل فردٍ منَّا نقاط ضعفٍ ما إن يمتلكها تكون هي بذاتها نقاط القوة لدى الآخريين، تلك النقاط التي تظهر في منتصف الطريق بعدما يُقرر المرء أن يتجاهلها لكنه يتفاجأ بها هي أكثر الأشياء التي تدفعه نحو الضعف لكي يتراجع بغير تكملةٍ للطُرقات المُرادة، لكن في بعض الأحيان نقطة الضعف تكون هي نقطة القوة بذاتها.
النيران لم تنطفيء بل أمتدت ألسنة لهيبها الحاقدة إلى الرأس ونظرات الأعين وهي تُشاهد الخسارة الفادحة التي قد يخجل الفاه عن ذِكرها، صور تم التقاطها لتخليد الذكرى للبعض ولكي تكون سكينًا في قلب البعض، هنا حيث حديقة البيت وموضع جلوس “سـامي” وهو يرى صور ابنه برفقة العائلة..!!
كانت تلك هي الصعفة الأقوى حينما فتح التطبيق الخاص بالمراسلات فوجد ابنه في السيارة برفقة “عُـدي” مع بعضهما ومعهما “رهـف” أيضًا وهم يوثقون تلك اللحظة، الصداقة القديمة عادت من جديد، الصديقان يتكاتفان مع بعضهما في الصور ومعهما “يـوسف” أيضًا في بعض اللقطات، ثم “يـوسف” و “نـادر” معًا في صورةٍ واحدة وابنه يبارك لأخيه بمناسبة زواجه؟ أي عبثٍ يصير حوله لكي يذهب كل ما فعله سدى كما تمر الرياح وتُجَر خلفها الرمال؟.
صورة أخرى كانت هي القشة التي قصمت ظهر البعير حيثُ الصورة العائلية التي التقطها “عُـدي” وبجواره “رهـف” وفي الخلف عائلة “مصطفى الراوي” بأكملها ومعهم “نادر” أيضًا الذي كان يمسك يد أمه وهي تضحك بجوار البقية، صورة كانت خير دليلٍ على فشله في كل شيءٍ طيلة الأعوام الفائتة وقد سحقته الهزيمة أسفل أقدامها ليهوى من قمة الجبل إلى أسفل سافليين حيث سابع قاعٍ..
خرج من تلك الصور وهو يسبهم جميعًا وأولهم طليقته التي منذ أن أنفصل عنها وهي تعيش حياتها كما الحُرة الطليقة بعدما حققت رغبة شقيقها المتوفي، كل الهزائم بالتأكيد لن تُعوض مهما حاول هو وسعى لذلك، تذكر بطاقته الأخيرة في ربحٍ خبأه بعيدًا عن مرمى البصر؛ والآن أصبح في أشد الحاجةِ إليها، أخرج هاتفه وطلب رقم “شـهد” حتى جاوبته هي بصوتٍ مختنقٍ كأنها تبكي فكان رده بغلظةٍ عليها:
_أنتِ هتكلميني من طرف مناخيرك يا “شـهد”؟ عملتي إيه مع “نـادر” سيادتك بعدما دخلتي الشقة؟ قدرتي تقنعيه؟.
زفرت هي ما إن تذكرت ما حدث منه وقالت بنفاذ صبرٍ:
_معملتش حاجة، طردني برة زي الكلبة وقفل بابه في وشي، أول مرة اتأكد فعلًا إني بحبه ومحتاجاه وإني ضيعت أكتر حد حبني في الدنيا كلها، حتى بابا أنا مش فارقة معاه، راميني بعيد علشان الشغل وسُمعته مش أكتر، حاولت أرجعه ليا ومش راضي، مش راضي حتى يسمعنى بكلمة واحدة، كل مرة بشوفه بتأكد إني خسرته خلاص.
زادت هي من وطأة خضوعه أمام الخسارة فرفع صوته ينهرها بحدةٍ بالغ فيها وقال بصوتٍ عالٍ:
_أخلصي أنا مش “أسامة منير” قدامك، أنا معنديش وقت للهبل بتاعك دا، قولتلك أنتِ آخر حل يخلي “يـوسف” يحل عن “نـادر” زي ما سبق وكنتِ السبب قبل كدا، يا ستي أعلمي فضيحة وقولي إن فيه حاجة حصلت بينكم ولازم ترجعيله، هو أنا اللي هفكرلك يعني؟ ما أنتِ دماغك سم، اسمعي يا “شـهد” لو عاوزة ترجعي مكانك تاني وترجعي قيمتك يبقى لازم ترجعي في حياة “نـادر” وسيبك من جو العيلة والحب اللي هو فرحان بيه، هو محروم بس مش أكتر ومبهور بيهم، زي ما قولتلك أنا هظبطلك الدنيا وترجعيله قبل ما شهور العِدة تخلص بينكم.
طفق الأمل يعود لها بعودتها لحياته، بدأ عقلها يرسم الخيالات الآملة في رغدٍ سيعود من بعد التصحر، أخبرته أنها معه في كل شيءٍ سيفعله لكي يُعيدها بحياة ابنه، بينما هو كل ما يوده حقًا أن يدمر العلاقة بين الاثنين كما سبق وفعلها منذ أن كانا صغيرين يحتاجان لبعضهما معًا، سياسة الغاب سيحكم هو بها حيث فَرِق تَسُد وهو سيكون سيدهما وهما سيكونا الخاضعين لأهوائه..
__________________________________
<“فكيف بنعيم الجنة ونحن مع من نُحِب”>
هنالك بعض اللقطات حينما يحياها المرء يتساءل كيف إذًا بنعيم الجنة؟ فإن كانت تلك الراحة وجدناها في لحظاتٍ دُنيوية كيف إذًا بالراحةِ في دار القرار؟ لحظات كأنك تعود من بعد تيهٍ لبيتك وترتمي فيه بثقل روحك فتجده يستقبلك ويحفظك بكنفه، لحظة تشبه الهدوء من بعد فوضى الضجيح، وكأن الحديث لحنٌ هاديءٌ من بعد غوغاء الكلمات؛ لحظات نحياها والأمل في استمرارها..
كان المشهد كالتالي، ساحة خضراء مفتوحة ومُزينة على نهر النيل، الأضواء بها ذهبية ولامعة، أماكن المقاعد للعروسين أشبه بأجنحة الفراشات، وأماكن الحاضرين أقرب للزهور، تم فصل النساء عن الرجال في المجلس، وخلىٰ المكان من الموسيقى بل فقط كلمات الأغاني بغير معازف وهذا هو طلب “أيـوب” الذي بذل قصارىٰ جهده لكي يجد مكانًا مثل هذا؛ أمسك العصا من منتصف المركز لكي يُرضي جميع الأطراف حوله، زوجته التي تمنت ارتداء فستان الزفاف وحضور الحفل معه، وصديقه الذي أخبره أن تلك الليلة ستكون لأجل إسعاد زوجته، وهو الذي يود أن يبدأ العمر من تلك الليلة بداية تُشرف وجهه أمام خالقه..
كان يجلس بأريحية شديدة وهو يعلم أن مكان النساء غير مكشوفٍ وبالتالي يرتاح ضميره من عبءٍ ثقيلٍ، الأصوات هادئة والكلمات كانت رومانسية ذي عواطف لم يكترث بها، كل شيءٍ أرضى ضميره حتى لو لم يعجب البقية، ففي النهاية هو الذي سيقف أمام الخالق ويُسأل عن فعله..
تحرك لكي يجلس برفقة الشباب ويُرحب بهم وقد طلب من النادل أن يحضر لهم بعض المشروبات وواجب الضيافة من أطباق الحلوى فكان الحديث أتيًا بمزاحٍ من “عـامر” رفيقه القديم بقوله:
_تسلم يا حبيبي لسه ضارب تمر ولبن من شوية.
ضحك الجالسون على مزاحه فيما استشف “أيـوب” سخريته فمال عليه يحاوط كتفه ثم قال بسخريةٍ هو الآخر:
_بارك الله فيك يا حبيبي، وألف هنا على قلبك، بس بعينك يا “عـامر” إني أعمل حاجة من اللي في دماغك دي، أنا كدا مبسوط وراضي وفرحان أوي وأنا مش شايل ذنوب كبيرة زي دي في رقبتي وأقابل بيها ربنا، فرح يعني معازف واختلاط وتبرج ورقص، بعدين هو فيه راجل عاقل يفرح والناس بتتفرج على مراته وأهل بيته؟ دي عادات متخلفة اتزرعت في أصلنا علشان نبعد عن الدين ونبقى مُغيبين.
تحدث تلك المرة “ياسين” يؤيده بصدقٍ:
_معاك حق والله، ربنا يسامحنا بقى ويغفرلنا ذنوبنا جميعًا، وعلى فكرة كان منطقيِّ أوي إن دا يكون شكل فرحك وطبيعي لأنك ما شاء الله متدين وإمام مسجد، لكن مش منطقي إن دا يكون فرح “يـوسف” بصراحة، مشوفتش كان موقف رجالة البدو هناك إزاي؟.
تحول حديثه للمرحِ وهو يُشاكس “يوسف” الذي ارتشف من زجاجة المياه وتجاهل حديثه فيما قال “أيـوب” بضحكةٍ يائسة:
_هو اقتنع بسهولة يعني؟ دا خلاني لفيت وراه ٣ أيام بلياليهم علشان يستوعب الفكرة وأخرتها كانت إنه مش عاوز أصلًا فرح وقال كل واحد ياخد مراته ويمشي من سُكات، بس أنا كان حرام عليا أخليه يعمل فرح ويشيل الذنوب دي كلها ويبدأ حياته الجديدة غلط، كل الذنوب دي هو اللي كان هيتحاسب عليها لوحده، وبعدين ما الفرح زي الفل ورايق أهو ومفيش أي إزعاج لحد خالص.
كتم “وليد” ضحكته بصعوبةٍ بالغة ثم مال على أذن “عـامر” يهتف بسخريةٍ تهكمية لم تصل لغير من يخاطبه:
_الراجل دا لو كان لمح فرحي كان رجمني بالحجارة، سجدة شكر لله إنه معتبش القاعة علشان أكيد كان هيتف في وشنا.
لاحظهما “يـوسف” فقال بنبرةٍ عالية يشاكسهما بها:
_السواق والتباع بتاعه بيقولوا إيه؟ ما نتلم شوية.
مط “وليد” شفتيه له بسخريةٍ وقد استمرت المشاكسات بينهم في ضحكاتٍ ومرحٍ ومزاحٍ زين الأجواء بأكملها رغم صفوها وهدوء مرورها على الجميع، كانت أقرب لجلسة ودية لدى الرجال في ترحيبٍ بينهم وتقديم الحلوى لاستقبال الوافدين وترحيبًا بالحاضرين…
لدى النساء كان الوضع أكثر حيويةً، حيث المكان المغلق على رقصاتهن ومزاحهن وأصوات الغناء العالية ومعها بعض الموسيقى الصاخبة وقد كانت باختيارٍ من “ضُـحى” التي حاولت بقدر المستطاع لكنها فشلت فتحركت نحو الفتاة وطلبت منها بضجرٍ:
_ينفع شوية أغاني علشان إحنا عيلة عندها كبت؟.
وكان الرد من الأخرىٰ بترحيبٍ لمطلبها:
_عادي يا آنسة طالما في قاعة السيدات مفيش مشاكل.
دقائق مرت بعد هذا الرد ومن ثم علا صوت الموسيقى تزامنًا مع رقصات الفتيات مع بعضهن وفي المنتصف كلًا من “قـمر” و “عـهد” بوضعٍ أكثر أريحية نظرًا لحضور المقربات منهن جميعًا وقد شاركتهما “غالية” وضمتهما معها بين ذراعيها بفرحٍ ثم مسحت فوق ظهريهما وهي تتضرع للخالق أن يحفظهما من كل شرٍ وعينٍ..
في الخارج حيث الطاولة التي يرأُسها “عبدالقادر” مع “نَـعيم” و “فـضل” ووالد “جـنة” أيضًا كانت الجلسة أكثر رُقيًا وهم يتحدثون ويباركون ويهنئون، وقد أتى “أيـهم” برفقة ابنه بعد إتمامه على كل شيءٍ وجلس برفقتهم ثم مال على والده يهتف بشقاوةٍ مرحة:
_الحمدلله اتطمنت عليهم وارتحت عقبالك يا تاعبني.
كتم “عبدالقادر” ضحكته ثم همس له بنبرةٍ خافتة:
_عندك عروسة ليا؟.
_كتير وعلى قفا مين يشيل كمان، كلهم سككهم فاضية، شاور أنتَ بس على واحدة منهم وأنا تاني يوم هخليها تنور البيت عندنا، الوِحدة هتاكلك يا “عـبده”.
كان ذلك هو رده عليه بمزاحٍ خالطته الشقاوة وقد ضحك والده مُرغمًا ثم طاف في المكان بعينيه كأنه يبحث عن رفيقة الروح، شعر بها بجواره ومعه وتشاركه الفرح لزواج ابنها الحبيب وقد ابتسم هو وأغمض عينيها لكي يهرب من الزحام برؤيته لها حاضرةً في العينين وساكنةً في القلب؛ لاح شبح ابتسامة فوق شفتيه ما إن سرىٰ طيفُها بجوار قلبه كأنها تُرحب به وتخبره أن مكانها دومًا وأبدًا سيكون بين قلبه هُنا..
فتح عينيه وخرج على صوت حفيده وهو يُمازح أباه بقوله ضاحكًا ومشاكسًا:
_أنا عاوز أعرف هتجوزني إمتى؟ مش عاوز تطمن عليا؟.
خرجت الضحكات من أفواه الحاضرين وقد حمله “أيـهم” ضاحكًا وهو يشاكسه هو الآخر بحديثه وهو يخبره أن الأمر قد يستغرق ثلاثين عامًا لكي يزوجه بفتاةٍ تلق به وحينها ركض الصغير هربًا منه وهو ينعته بالظلم لكونه لم يرأف به وبعمره الذي بدأ يأخذ محلًا في الكِبر.
__________________________________
<“بجوار الأحباب كل شيءٍ كان هادئًا حتى ضجيجنا”>
بجوار من نُحب يهدأ كل شيءٍ حتى تلك الفوضى التي نحملها بداخلنا، كل شيءٍ يكون مُرتبًا بشكلٍ لائقٍ بهدوء أرواحنا، بجوار من نُحب تحلو لنا الحياة وكأن صوت الموج الصاخب تحول إلى نغماتٍ رقيقة تتراقص على أوتارها الأفئدةِ..
بدأ كتاب الليلة يطوي صفحاته ويُغلقها لكي يحفظ التفاصيل تلك بين دُفتيهِ، كل التفاصيل التي ذُكِرَت ستبقى عالقة بالذهنِ وساكنة بالرأسِ، بدأوا في الداخل يتحركون ويتجهزون لأجل الرحيل، وقد وقف “مُـنذر” يدخن سيجاره بعيدًا عن الأعين وهو يتحدث مع معاونه في محادثةٍ كتابية قطعها مجيئها تقف بجواره ليصله عبق عطرها المميز فالتفت لها برأسه يسألها بنظراته عن سبب حضورها وقد دعم سؤاله كلاميًا بقوله:
_محتاجة حاجة من هنا؟.
كان جوابها نافيًا بإيماءة رأسها سلبًا وهي تبتسم له برقتها المعهودة ثم سحبت نفسًا عميقًا تُعبيء به رئتيها ثم قالت بصوتٍ هاديءٍ:
_لقيتك واقف لوحدك وأنا بكلم ماما وقولت آجي أرخم عليك وأقف معاك بصراحة، الأول خوفت وأترددت قولت يمكن تطردني من هنا كمان، بس جيت في الآخر، يمكن جيتلك علشان مكانش ينفع أشوفك لوحدك وماجيش.
توسعت عيناه بعدما حدثته بتلك الطريقة وهذه الكلمات وقد التفت لها حتى أصبح مواجهًا لها وتواصلت المُقل مع بعضها في حديثٍ دار أولًا بين القلوب، ذكرته بكلمات الأغنية التي أرسلها هو لها وقد شهدت كلماتها عليهما، تنهد هو وكان الأسبق حينما قال بصدقٍ آسر:
_أنا كدا كدا متعود أكون لوحدي بس مش متعود حد ياخد باله من الوحدة دي، مش عارف بصراحة بس بحسك مُعجبة بالوحدة دي وشدك بُعدي عن الناس والدنيا، مع إني ممكن أغير كل دا عادي جدًا.
حديثه كان مرحًا وبسيطًا جعل بسمتها العذبة هي التي تُزين وجهها ثم سألته بمزاحٍ تقصد بـه المُشاكسة:
_طب وهتغير كل دا ليه؟ خليك لو حابب.
رغمًا عنه أُصيب بمرحها هو الآخر فأتاها الجواب منه آسرًا:
_بس لو أنتِ حابة كدا أنا هتغير علشانك.
تلاشت بسمتها وتاهت ملامحها الصافية أمامه حيث كانت أكثر هدوءًا في أملها بينما هو لم يتطلب أكثر من ذلك بل قرر أن يخرج هاتفه ويخرجها من أثر حديثه وقال بتيه وحيرةٍ بعض الشيء:
_هو أنا ممكن أصورك بالفستان دا؟.
تلك هي الجُرعات المُفرطة التي قد تصل بالمرء لحد التُخمةِ وكأنها تناولت وجبة دسمة شهية المذاق حتى فقدت قدرتها على رد فعلٍ حتى لو بإيماءةٍ بسيطة، كانت أمامه حائرة في أمرها حتى اقترب هو أكثر ثم مد كفه وأعاد خصلاتها للخلف ثم عاد للخلف مبتسمًا واستفسر بمزاحٍ طفيفٍ:
_أصور ولا عندك اعتراض؟.
حركت رأسها نفيًا ثم عدلت من وضع جسدها لكي يلتقط لها الصورة وقد لمحت به شيئًا جديدًا غير ذاك الذي تعرفه دومًا ينتهج الصمت، ويساوره الغموض، هذا الماثل أمامها كان غريبًا عن الآخر لكنها وقعت في شباكه وكانت صيدًا ثمينًا نظير دفء عينيه، التقط لها الصورة وهي تبتسم له وقد اقتربت منه تسأله برقةٍ تواري خلفها رقتها:
_ممكن نتصور إحنا الاتنين مع بعض؟.
أومأ لها موافقًا ومد يده بالهاتف مُرحبًا وقد التقطت الهاتف منه ثم بدأت تلتقط لنفسها صورًا معه، كانا كما أي خطيبين لبعضهما وكأن الأمور على خير ما يُرام وكأن الفرح أثر بالإيجاب عليهما سويًا، هي مع رجلٍ مال له القلب بغير وعيٍ، وهو مع فتاةٍ تُشبه البحر في عُمقها، فكلما خشى الاقتراب منها وجد المد يسحبه نحوها، وبالرغم من خوفه من اقترابه منها، لم يجد أمنًا إلا بقربها.
المشاكس دومًا لن يخلو من طباعه، فهي لن تدع اليوم يمر دون أن تكون برفقته وتراه ويراها بفستانها الأزرق البترولي وحجابها الفضي المُلائم للتطريز الرقيق الذي استقر عند الأكمام ومنطقة الخصر، خرجت “ضُـحى” بحركاتٍ مُختلسة ثم ربتت فوق كتفه من الخلف وما إن التفت لها ضاحكًا وجدها تقف بغرورٍ ناسب جمالها فاقترب منها يضمها إليه حينما وضع كفه في خصرها ثم همس بخفوتٍ نشجته العاطفة:
_أنا الفرح بشكلك كدا بفستانك دا مخلييني عاوز أعرف دوري إمتى؟ عاوز ييجي اليوم اللي هلاقيكِ فيه مشاركاني كل حاجة جاية عليا علشان اتأكد بس إن الضحى بييجي يوم وتنور النهار وإن مش كل العمر ليل وبس.
ابتسمت هي بعينيها الواسعتين أولًا ثم اقتربت منه تضع رأسها فوق صدره وهي تقول بهدوءٍ متجاهلة عن عمدٍ إخفاء سرهما عن عائلتها:
_أنا أهو معاك ونفسي أكون ليك وجنبك علطول.
ضمها وحاوطها وطوق كتفيها بذراعيه وهو يسحب الهواء داخل رئتيه عنوةً، تلك اللحظة التي أحتواها بين ذراعيه فيها وقُربها منه ومن نبضات قلبه وتصريحها بتواجدها لأجله كانت أسباب كافية لكي يكون آمنًا من كل شرور العالم.
بعد مرور بعض الوقت بدأ الحاضرون في التجهز للرحيل من المكان، وقد أمسك كل زوجٍ منهما كف زوجته ورحل بها إلى سيارته حيث الدنيا التي تنتظرهم جميعًا، ومن المؤكد أن القدوم الهاديء يختلف مع الرحيل الصاخب، وهذا ما سيتم كشفه عن قريبٍ..
وقف “مُـحي” بجوار أخوته يتجهز للرحيل معهم فلمحها وهي تتحرك بجوار “آيـات” وتضحك برفقتها بسعادةٍ وقد ظل يُتابعها بعينيهِ ولم يَحِد ببصره عنها، لقد كانت هي أول سببٍ في حياته يجعله يتنازل عن ماضيه ويغير حاضره ويسعى لأجل مستقبله والسبب فقط نظرة رضا من عينيها له، تواصلت عيناه بعينيها فوجدها تُطيل النظر له كثيرًا بغير رغبةٍ في البُعدِ عنه مرمى عينيه.
وقتها نطق فؤاده يعذبه بقول صادقٍ تمنى أن تسمعه هي:
“كانت ولازالت كما الحلوى المُحرمة علينا..
تلك هي أعظم الهِبات التي أهدتها الصُدف إلينا”
وهي الهبة الأعظم والأكثر نُدرةً في هذا العالم، لم يتوقع أن العاصي قد تكون توبته يومًا على يد جنيةٍ تملك الجنة الخضراء في مُقلتيها، وهو الذي يُجاهد لكي يهرب من النيران وغلظتها، ظلت نظراتهما هائمة معًا حتى انتبهت لأمها فهربت من أسره وتركته هو أسيرًا لها ولمرور طيفها.
في الخارج شهد المكان حفلًا صاخبًا حيث الألعاب النارية التي وصلت للسماء تزامنًا مع أبواق السيارات الصاخبة التي بدأت تعلو في المكان بغير هدى حتى انتبه كل الماريِّن لما يحدث وكأن الليلة تحولت بطرفة عينٍ إلى احتفال فوز المنتخب على سبيل المثال ومن ثم تجمهر الناس معًا في شوارع المدينة..
ومن الشمال إلى الجنوب كانت تلك هي المسافة المقطوعة للعودة إلى “حارة العطار” والسيارات خلف بعضها تعلن عن فرحٍ يشبه الغزو ليستوطن المكان بدلًا من حالة الحزن تلك، كان “إيهاب” يقود سيارته برفقة زوجته وشقيقه ومعهما “ضُـحى” أيضًا، كانت السيارة تشهد حفلًا بالمزاح والأغاني والسعادة وقد نطق “إيـهاب” بسخريةٍ:
_الراجل داخ وطلع عينه علشان يعمل فرح إسلامي وميشيلش ذنب حد وأنتوا عربية بصراحة وأمانة ربنا هتروحوا الدرك الأسفل من النار بعمايلكم دي، محدش يقوله بقى ويعرفه علشان ميروحش فيها.
تحدثت زوجته بحنقٍ تلك المرة من بين ضحكاتها:
_هنروح وناخد الأوغاد معانا كمان.
رمقها بسخطٍ ثم قال بسخريةٍ مُشيرًا إلى موقفه قبل المجيء للحفل وحديثها وموقفها:
_تصدقي إنك غلبتي قلة أصل القطط؟.
كالعادة يقفان لبعضهما على حرفٍ فقط ومن ثم يعود كلًا منهما للآخر ويحتمي به من الأيام والناس والعالم من حولهم، وقد اجتمع ساكني الحارة بأكملهم على صوت أبواق السيارات بتنظيمٍ من “بـيشوي” الذي وجد فرقة مكونة من مجموعة شبابٍ يطرقون فوق الدُف يقتربون منهم ترحيبًا بهم، حينها زادت البهجة أكثر وانشقعت الأضواء في الحارة بأكملها وقد ظلت “قـمر” بالسيارة تراقب زوجها وهو يصافح الجميع بوقارٍ بينما شقيقها فوقف بجوار رفقته بعيدًا يمازحهم ويضحك معهم..
أتوا شباب الفرقة يسحبون الشباب معهم وهم يصفقون وينشدون ويتغانون مع بعضهم وقد كانت “نـور” بجوار زوجها تضحك بسعادةٍ لكونها تعاصر تلك الأجواء هنا فمال عليها يمازحها بقوله:
_طبعًا أنتِ هتروحي فيها من فرحتك.
_أوي، أول مرة أحضر فرح غريب كدا، تحسه فرح بس مش فرح فاهم؟ هما حلوين كدا ليه بس؟ عاوزة أعيش معاهم ينفع؟ والله مش هعمل صوت خالص، بس أعيش في حارة العطار ومش عاوزة حاجة تاني من الدنيا.
ضحك هو لها ثم أشار نحو “رهـف” التي وقفت بجوار خطيبها ثم قال بصوتٍ ضاحك:
_”رهف” ربنا كرمها وهتسكن هنا، حاسبي بقى أحسن ألاقي واحد جاي يقولي المدام تخصني، أقسملك بالله هبوظ وشك ساعتها علشان محدش يفكر يبصلك تاني، دي مبقيتش عيشة يا ستي دي، أعمل إيه؟ أخفيك في برطمان؟.
ضحكت هي رغمًا عنها ثم تشبثت بذراعه وهي تبتسم له ثم قالت بعبثٍ مرح وهي تُداعب موفقه بأناملها الطويلة الناعمة:
_لما نروح أنا هقولك المفروض نعمل إيه علشان محدش يقرب مني خالص، نخلص هنا بس ونروح بخير على بيتنا.
والآن أغلق ستار الحفل أخيرًا وأنتهى وقوف الحاضرين وبدأت عودة كل فردٍ لحيث يكون موطنه ومكانه، صعدت كل عروسٍ نحو بيتها، وتحرك الحاضرون لحيث موضع عودتهم، والجميع يردد لهم الدعاء بصلاح الأحوال والرزق بالذُرية الصالحة والعوذ من الحسد والعين والشيطان الرچيم
__________________________________
<“حلمٌ قديمٌ تمنينا؛ والآن القلب بجوار مُناه”>
اليقين؛ هو تلك النقطة التي تجعل مسعى المرء كامل الجهد والإجتهاد منه نحو ما يُريد، اليقين يُعني ذاك اليوم حيث قال القلب هذا الحلم الجميل أسعى له، وآهٍ لو أنا أناله، واليوم القلب يحقق حُلمه وما رغب أضحى له..
وصل ومعه بيته ومسكنه بين يديه وكأن العالم بأكمله يقف في صفه لكي ينصفه، وقف كلاهما يستمع للوصايا من الأهل والدعاء والتضرع حتى لاذ هو بالفرار أخيرًا وتوجه للأعلى ثم فتح الشقة المُضاءة بضوءٍ خافتٍ والتفت لها يطالع وجهها وهي تضحك له بخجلٍ فمد كفه لها يسألها بمزاحٍ:
_هتدخلي يا “قـمر” ولا أشيل؟.
حركت كتفيها بخجلٍ وقد فرت الأحرف من طرفها وكأن تلك القطة الشرسة تبدلت بأخرى وديعة تود الهرب الآن مما وضعت نفسها به، ابتسم “أيـوب” ثم اقترب يحملها فوق ذراعيه وأغلق الباب بقدمه متجاهلًا شهقتها تلك التي فلتت من بين شفتيها، بينما هو وصل بها للداخل حيث غرفتهما المُزينة بشموعٍ اصطناعية وزهورٍ متنوعة واسميهما المزينيْن حوائط الغُرفة، وقد أوقفها أمامه وظل مُمسكًا بخصرها بين كفيه ثم ألصق جبينه فوق جبينها وسحب نفسًا عميقًا وهو يقول بنبرةٍ مُحملة بمشاعر متباينة:
_الحلم اتحقق وبقيتي في بيتي يا “قـمر”.
ضحكت بخجلٍ أمامه وأغمضت عينيها هربًا من سطوته عليها بينما هو ضمها وتلك المرة هي الأولى وهو يضمها بهذا العمق كأنه لم يسمح لنفسه إلا في تلك اللحظة أن يتمسك بها لهذا الحد، ظلت بين ذراعيه حتى ابتعد هو عنها ثم قال بحماسٍ جعلها تجزم أنها تلمحه لمرتها الأولى به:
_يلَّا علشان الحلم يكمل وأقف أصلي بيكِ.
أومأت بخجلٍ ثم تحركت من أمامه بينما هو ظل يُراقبها ويتبعها بعينيه حتى اختفت من أمامه، فتنهد مطولًا ثم تذكر أمه ووصيتها له، تذكر كيف سألها ذات مرةٍ زواجها من والده وكان الرد منها أنه يوم أن يجد الفتاة التي تسرق قلبه أول شيءٍ يتوجب عليه فعله هو أن يقيم ليله وهي خلفه..
دقائق مرت بدلًا فيهما الثياب وقد ارتدت هي اسدالها وهو أمامها يرتدي ثيابًا بيتية ثم بدأ بالتكبير بخشوعٍ وهي خلفه تظنها ليلة من وسط ليالي الأحلام، لم تصدق ما يحدث حولها وأنها تقف خلف “أيـوب” ذاته، اليوم تشاركه البيت والغرفة وتقف خلفه بصفتها زوجه وإن تلاشت النقطة هي روحه، هذا الصوت وحلاوة الخشوع كانت تتلصص وتختلس الحراك نحو المسجد لكي تسمعه، والآن هو يأم بها بالصلاة في بيتهما، وقفت خلفه في زاوية الصلاة بالغُرفة وهي تتنفس بحدةٍ حتى لا تبكِ…
أنهى الصلاة وأعلن التسليم ثم التفت يلتقط كفها يُسبح على عُقل أصابع يُمناها لكي يتقاسما الأجر سويًا، هنا ونزلت عبراتها أمامه فمضها هو له بعد أنهى التسبيح والذِكر ثم مسح فوق رأسها وبدأ حديثه بديباجةٍ دينية:
_ربنا سبحانه وتعالى جعل الزوجة الصالحة من نعيم الدنيا، وجعل الزوج والزوجة أقرب لبعض من كل حد في الدنيا، يعني هنا أنا وأنتِ واحد مع بعض، من الليلة دي أنا أوعدك أهو هبدأ كل حاجة من أول وجديد، كل خطوة هتكون معاكِ أنتِ وبس، هساعدك ونقرب من ربنا ونمشي طريقنا من تاني لحد ما نروح الجنة وأنتِ تكوني سبب دخولي، لو زعلتك تعالي عرفيني أنا، وأنا والله العظيم أوعدك حقك هيرجعلك لو من نفسي، أنتِ نعيم الدنيا دي وأنا مهاوتش غيرك أنتِ وبس.
رفعت جسدها وتقابلت بعينيها مع عينيه تلمح الصدق الآسر فيهما، كل شيءٍ يأتيها منه يكون في نصابه الصحيح، حديثه الحاني، وكلماته المعسولة، أفعاله المسئولة، كل شيءٍ يخبرها أن هذا هو رجل الأحلام، لم تجد حديثًا يُقال فقط ألقت بنفسها عليه وهي تكرر كلمة “بـحبك” تلاوًا حتى ضحك هو بصوتٍ عالٍ ثم ضمها وتشبث بها هو الآخر ثم همس بخفوتٍ:
_مش أكتر مني والله ومستعد اثبتلك دلوقتي.
اليوم كان الزاهد يعيش مع فتنته، وتلك الحالمة تحتضن حُلمها، لقاء كانت القلوب تتتوق إليه وكأنهما على موعدٍ مع الهوىٰ حيث القلب الذي أحب وهوىٰ، فذاك القلب الذي أقسم بالزهدِ عن الزاد والهوى قد أتى عند عينيها وهوىٰ، فما الذنب ولما الذنب إن القلب رغم برائته تلك أحب ووقع في الهوى؟.
فوق سجادة الصلاة وقف “يـوسف” وخلفه “عـهد” التي حاولت تنفيذ وصايا طبيبتها النفسية بشأن ضبط النفس وصرف أي أفكار قد تُعكر صفوها، وقد تركت نفسها لخشوع تلك اللحظة التي لم تظنها بتلك الحلاوة وهي تستمع لصوته في قراءة ما تيسر من آيات القرآن الكريم، هو وهي لم تختلف حالتهما كثيرًا عن بعضهما، فهي تخشى كوابيسها وهو يخشى عليها من نفسه، وكأن تلك هي النقطة الجامعة بينهما.
أنهى الصلاة ثم التفت لها ولثم جبينها ثم قال بصوتٍ هاديء وصافٍ كُليًا على عكس نظراته المُشتتة:
_ربنا يباركلي فيكِ يا “عـهد”.
_شُـ.. شُكرًا.
كلمتها أتت متقطعة بشكلٍ جعله يقدر حجم تيهها فوقف بعدما استند على عاقبيه ثم حمحم وبدأ حديثه بجديةٍ:
_أنا زي ما قولتلك هروح الأوضة التانية وخليكِ هنا براحتك، متقلقيش ولو حابة أقفلي الباب عليكِ وأظن دا حقك إنك تكوني متطمنة وأنا معاكِ في اللي تحتاجيه ويريحك.
رفعت رأسها نحوه فوجدته يسحب هاتفه ثم ترك الغرفة وغادر منها حيث الغرفة الأخرىٰ التي أخبرها عنها أنه سيقضِ أيامه بها حتى تتأقلم وتعتاد على تواجده معها، زفرت بقوةٍ ثم تحركت نحو الفراش تُلقي جسدها عليه ودثرت نفسها وما إن أغمضت عينيها أتت ومضات الماضي ومحاولة الاعتداء على حُرمة جسدها فانتفضت بفزعٍ تبحث بعينيها في الغرفة عن أي شيءٍ تفر إليه من نفسها فلم تجد..
في الخارج ما إن ولج غرفة الأطفال وألقى بجسده فوق فراشٍ من الفراشين وضع يديه خلف رأسه وظل مُحدقًا بسقف الغُرفةِ بفراغٍ يسكنه لكنه حقًا يحاول أن يكون مثاليًا معها، لكن خوفها منه بتلك الطريقة يضع الحواجز بينهما؛ فيجعل خطواته أميالًا..
شعر بالجوع يدق معدته بعد انقطاعه عن تناول الطعام منذ أمسٍ فتحرك من الغُرفةِ نحو المطبخ يستكشف الطعام الذي أتت به أمه وأمها ورغم المظهر الشهي إلا إنه فقط اختار بعض اللُقيمات الصغيرة من صنفٍ أو اثنين وقد أحدث ضجة نتيجة اختياره للصحون فأتت هي ركضًا بخوفٍ وهي تسأل:
_هو في إيه؟ حصل حاجة؟.
أغمض عينيه يلعن غباءه فيما تسبب لها به ثم التفت لها يخبرها بهدوءٍ يُناقض الإزعاج السابق:
_آسف معلش بس كنت عاوز آكل، تاكلي معايا؟.
أومأت موافقةً فابتسم هو لها ثم خرج ووضع المقعد العالي لها لتجلس عند حافة الرُخام الأسود ومن ثم اختار لهما المزيد من الطعام كونها ستشاركه في طعامه، جلست بجواره تحاول اتخاذ أي فعلٍ ينجو بها سالمةً من غياهب الماضي وغسق دجي الليل؛ لكن الظلام كان هو الحل الوحيد لكي تستر عراء روحها، لاحظ هو حالتها فقال بنبرةٍ هادئة كانت كما الدواء لعطب روحها:
_متضغطيش على نفسك وتفضلي تلوميها، إحنا مش هنقضي يوم ولا اتنين مع بعض وكل واحد يروح لحاله، أنتِ مراتي ومعايا طول العمر، بكرة بقى، النهاردة، بعد بكرة الشهر الجاي أنا بقولك براحتك وخليكِ معايا بس، مش عاوز منك حاجة تانية ممكن؟.
أومأت له ببسمةٍ عذبة موافقةً وقد عادت لتناول الطعام وهو معها أيضًا يختلق الأحاديث كأنهما في فترة تعارف من جديد، وهي كانت تتجاذب معه أطراف الحديث بخجلٍ من نفسها كونها ضربت بأماله عرض الحائط، لكنها ستعوضه بكل تأكيدٍ..
قامت بتنظيف المكان بعد تناولهما الطعام ورتبت كل شيءٍ وقبل أن تعود لغرفتها ثم عادت له تسأله بصوتٍ مُضطربٍ:
_ينفع تيجي تقعد جنبي لحد ما أنام؟.
لاحظ اضطراب صوتها واهتزاز حدقتيها بتيهٍ فأومأ موافقًا ثم سار معها لحيث غُرفتها، استقرت فوق الفراش وهو جوارها يتكيء بنصف جسده وما إن نامت جاورها أكثر ثم مسح فوق رأسها بحنوٍ حتى انكمشت على نفسها فأبعد كفه وظل بجوارها حتى غلبه النُعاس فسقط بجوارها دون أن يعي لذلك، بل كان يضع رأسه فوق رأسها..
رُبما ساعة، وربما ساعتين، وربما أكثر كانت هي المدة التي مرت عليهما بوضع السكون قبل أن تلمح هي وحشها المروع يحاول الاعتداء عليها وهو يقف خلفها ويده تشق عنها ثيابها، رائحته الكريهة التي تبغضها هي اخترقت أنفها، ويده النتنة كانت تجول فوق جسدها، والكف الآخر كمم به فاهها، كل شيءٍ فعله ترك الذكرى السيئة في محيط العقل لكي تكون سلاحًا ضدها، ظلت تصرخ وتُهمهم بانزعاجٍ في نومها وتحرك رأسها يُمنةً ويُسرىٰ وهي تتوسل النجاة وقد استيقظ زوجها إثر وصول صوتها لسمعه..
حاول أن يهزها لكي تفيق لكن تلك المرة فعله لم يأتِ بمحله؛ تلك المرة هي لم تلمح إلا كابوسها وصورة “سـعد” وبالأخصِ في تلك الليلة المروعة التي حاول فيها أن يعتدي عليها؛ وقد فانتفضت من موضعها وهي تصرخ وتتوسله أن يبتعد عنها ببكاءٍ جعل “يـوسف” يشفق عليها ثم قال بصدقٍ:
_هبعد عنك، صدقيني هبعد، بس أهدي أنتِ خالص، أهدي.
ظلت تصرخ عاليًا وقد انتابتها نوبة هلعٍ وهي تُكرر:
_ابعد عني أحسنلك، ابعد عني، ابوس ايدك ابعد…
تهدج صوتها باكيةً وهي ترجوه فأضاف هو بلهفةٍ:
_هبعد والله، صدقيني هبعد بس ركزي معايا.
حركت رأسها نفيًا ثم التفتت تبحث بجنونٍ عن شيءٍ يحميها منه وقد وجدت السكين بجوار صحن الفواكه فخطفتها وتلك المرة وضعتها عند شريان كفها وهي تُهدد بقتل نفسها، وقد توسعت عيناه حد الجحوظ وقد اقترب منها يحاول الإمساك بها قبل أن تتسبب في الأذىٰ لنفسها وحينها دفعته بصراخٍ:
_قــولـتلك ابــعد عـني…!!
تلك المرة الخطر ازداد أكثر وهي تهم بخدش نفسها فاندفع أكثر بعنفوانٍ وقبل أن يتقدم أكثر كانت أخذت رد الفعل حيث قامت بغرز السكين في يده عرضيًا ونزفت الدماء في الحال من يده وقد توسعت عيناه إثر فعلتها بينما هي ظلت تصرخ وتُردد وتتوسل أن يبتعد عنها، حتى سقطت عند قدمه وهي تبكي لكي يزول أثر الذكرى المؤرقة بينما هو وقف بتيهٍ لا يعلم أي طريقٍ يختار وأي صوابٍ يفعل..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى