رواية وريث آل نصران الفصل التاسع 9 بقلم فاطمة عبدالمنعم
رواية وريث آل نصران الجزء التاسع
رواية وريث آل نصران البارت التاسع
رواية وريث آل نصران الحلقة التاسعة
الفصل التاسع (قوله مقبرة)
#رواية_وريث_آل_نصران
الآن نعلم طريقنا، ولكن هل نعلمه غدا؟
ربما طريقنا اليوم هو متاهتنا غدا…
المؤسف حقا هو أن أمنيتك في أن يكون كل ما مررت به أضغاث أحلام لن تتحقق.
توقفت السيارة أمام منزل “نصران” وقد خيم الصمت على الأجواء، وارتفع صوت تضارب أوراق الشجر لتشعر بملحمة من الصمت هنا.
_أخيرا.
قالها “طاهر” بنبرة يائسة فلقد ضاع أمله في قدوم “عيسى” بسبب تأخره، تابع بغيظ:
الفجر أذن وصلينا، وأبوك طلع ينام وأنت كل ده موصلتش… و بعدين بتاخدها معاك ليه يا “عيسى”
كان “عيسى” قد نزل من سيارته واستمع لحديث “طاهر” بتعب حقيقي حيث دلك عنقه سائلا:
هو أنت مش قولت هتمشي بعد الفجر ملبستش ليه؟
ابتسم “طاهر” من مراوغته في الإجابة فقال:
رد عليا الأول.
_اللي حصل.
كانت إجابة مختصرة وتبعها بإشارته على موضع الغافية في سيارته:
وراها حاجة.
انكمش حاجبي “طاهر” دلالة لعدم فهمه، تحرك بعيدا عن موضع السيارة وتبعه “عيسى” الذي واصل الحديث شارحا:
خوفها من ابن عمها زيادة شويتين.
برر “طاهر” ذعرها يذكره بحديث والدتها:
والدتها قالت إنه حاول يتعرضلها، فاعتقد ده طبيعي.
هز “عيسى” رأسه نافيا وهو يكرر قوله بيقين:
حتى لو حاول يتعرضلها، مش هتخاف منه كل الخوف ده… لما شافته كانت خايفة وكإنه هيموتها مع إني كنت واقف معاهم …
تابع سرد ما يدور في خاطره:
حتى لما دخل، مرضيتش تدخل مع إن أمها واخواتها جوا… في سر ورا خوفها ده، حاجة هي بتحاول تخبيها… أو جايز عايزة تقولها ومش عارفة.
_طب هي مقالتش حاجة عن “فريد” الله يرحمه؟
سأله “طاهر” باهتمام ولكن الإجابة حطمت آماله حين سمع “عيسى” يقول:
مقالتش جملة مفيدة.
قال “طاهر” بانغعال نتج عن خيبة أمله:
يعني إيه مقالتش جملة مفيدة، مفيش معلومة عندها!
وفين تليفون “فريد” احنا استلمنا حاجته كامله ما عدا تليفونه…لو كان القتل علشان السرقة اللي قتل هياخد التليفون بس وهيسيب باقي الحاجة.
حرك “عيسى” رأسه موافقا وتبع ذلك بقوله:
أنت صح، وده اللي أنا بقوله من الأول …اللي قتل “فريد” كان عارفه.
قاطع حديثهم قدوم “مريم” والتي بدا على وجهها علامات النوم حين وقفت تسأل:
ماما بتقول لحضرتك هي ملك مرجعتش؟
أشار لها “عيسى” على سيارته وهو يقول:
نايمة في العربية، صحيها.
تأهب “طاهر” للرحيل فقال وهو ينظر لساعته:
أنا طالع ألبس علشان خلاص مفيش وقت، لما أرجع نتكلم تاني.
هز “عيسى” رأسه موافقا، وكان انتباهه مصوبا على “مريم” التي ذهبت لإيقاظ شقيقتها، لم يستغرق الأمر كثيرا فلقد انتفضت “ملك” بنداء من شقيقتها… نزلت من السيارة بعد أن استغرقت ثوان تدرك فيها أين هي،
أحاطت “مريم” ذراعها بيدها ليصعدا معا إلى والدتهما، وأثناء السير استدارت لتجده واقفا يرمقهما بثبات، حتى نظراتها له لم تقطع ذلك وكأنه يخبرها أنه يعلم ما حدث، بلا وكأنه عتاب أرسله لها “فريد” وليس أمامها سوى أن تنظر أمامها و….
تصمت.
★***★***★***★***★***★***★***★
مر شهر و نصف، كانت الأيام ثقيلة… أثقل من أن تتحملها قلوب هشة كهذه، أيام تُحسب من أعمارهم ولكن الشيء الوحيد الذي تم فيها هو الألم.
انتقلت “هادية” مع فتياتها الثلاثة إلى منزل صغير هنا حيث وجدن الأمان، يُدفع إيجاره شهريا، وبجواره دكان مماثل له في الصغر أو ربما أصغر … دارت الأرض والحقيقة الوحيدة الآن أنهم هنا.
كان المنزل مكون من حجرتين ، و البهو، ومطبخ وقد طغت البساطة على كل شيء بالمكان .
اتسعت حجرة “ملك” لفراش صغير التصق بالحائط ووقع خلفه شرفة تساهم عند فتحها في إدخال أشعة الشمس إلى الغرفة ، وجوار الفراش على المكان المتبقي من الأرضية، يتم تهيئة الموضع للنوم، و يتبادل “ملك” و “شهد” الأدوار إحداهن على الفراش يوم و الاخرى على الأرضية وتنعكس الأدوار.
وفي الغرفة الاخرى شقيقتهما “مريم” و والدتهما.
فتحت “ملك” عينيها، فوقعت عيناها على السقف… تأملته بشرود ثم انتقلت بنظرها إلى الموضع حيث نامت شقيقتها أمس فلم تجدها.
تركت الفراش وسارت نحو الخارج، فوجدتهن في الصالة، يتأهبن لتناول الإفطار…. وضعت مريم أكواب الشاي الساخنة على الطاولة، ثم آتت “شهد” بالمخبوزات وجلست على مقعدها أمام الطاولة… حضرت والدتهن و جلسن جميعا حول الطاولة، قطع الصمت صوت والدتهم تقول لمريم:
مرتاحة مع المدرسين؟
_هما مش زي المدرسين اللي كنت باخد معاهم بس تمام بقى، المشكلة بس في الطريق بتاع العربيات ده…بعاني علشان أعدي.
كان هذا حديث “مريم” التي شرحت لوالدتها وضعها، فلقد عاودت إلى الدراسة مجددا، بالذهاب إلى معلمين جدد…بعد انقطاعها منذ أن خطت القدم إلى هنا.
أشارت “هادية” إلى “شهد” وقد جذبت كوب الشاي الخاص بها:
و أنتِ يا “شهد” امتحاناتك امتى؟
تناولت “شهد” قطعة من المخبوزات أثناء إجابتها:
الجدول لسه منزلش هروح كده أشوفهم النهاردة أو بكرا.
أشارت “هادية” لشهد و “مريم” بعينيها على شقيقتهما، فبادرت “مريم” بالسؤال إلى شقيقتها التي أصبحت شبه منقطعة عنهم:
مبتاكليش ليه يا “ملك” ؟
قبل إجابتها كانت “شهد” تضع الكوب على المائدة وتحدثت موجهة كلماتها لملك:
ما هو لو الحالة اللي أنتِ فيها دي هترجعه، كنت هقولك تمام براحتك لكن خلاص هو الله يرحمه، ولو اعتبرتيني سبب في موته يا “ملك”، هتبقي أنتِ كمان سبب على فكرة، و لو مشيت بمبدأك هقولك ده لولا خروجك مكانش مات، بس أنا مش هقولك كده.
وجهت ” ملك” لها عينيها في حين تابعت “شهد”:
احنا قدام حقيقة واحدة هي إن اللي قتل هو ” شاكر”، لا أنا ولا أنتِ، لو مستنية مني اعتذار فأنا آسفة… لكن ياريت نتعايش بقى مع وضعنا الجديد، إحنا بقينا هنا وده بقى بيتنا والحاج “نصران” كتر خيره خدلنا البيت ده بالمحل اللي جنبه وقال براحتنا في الإيجار، يعني حياة جديدة بعيد عن عمك وقرف بنته ومراته وابنه.
قامت شهد من مقعدها، وتوجهت ناحية شقيقتها تقول:
مفيش حد في الدنيا يقدر يقولك متزعليش، لكن مش هنوقف حياتنا يا “ملك”، الحياة بتمشي ولو ما مشتيش معاها هتدوس عليكِ.
التقطت شهد كفها ونطقت بأسف حقيقي:
متزعليش، أنا أسفه.
احتضنتها ” ملك” بعد هجر طال بينها وبينهن، واقتربت والدتهن والتي هرولت “ملك” ناحيتها، ضمتها “هادية” بحنان ولم تفعل “ملك” شيء سوى البكاء، لن يعيد شيء المفقود، ولكن ربما هذه الدموع تريحها قليلا… ربما.
★***★***★***★***★***★***★
كان “باسم” في معرض السيارات الخاص به، ينتظر على أحر من الجمر وصول الأخبار إليه، دخل المُنتظر من الباب في الأسفل وتبعه في الصعود إلى مكتب “باسم” أحد العمال، فصرفه بقوله:
أخرج أنت ومتطلعش حد.
لم يبق سوى “باسم” و صديقه، فاعتدل “باسم” في مقعده ناطقا باهتمام:
احكيلي بقى عرفت إيه بالظبط، أظن سايبك فترة كبيرة أهو، وأخيرا حنيت عليا وقولت إن عندك جديد.
بدأ صديقه في السرد كاشفا ما لديه:
اسمع بقى يا سيدي، احنا طبعا بعد الحوار اللي أنت حكتهولي عن الواد اللي قابلته في البار وإنه قال أنا اللي قتلت كان عندنا احتمالين، واحد منهم إنه شارب ومش واعي للي بيقوله، سمعكم بتتكلموا في حوار فدخل فيه، والاحتمال التاني إنه يكون قتل فعلا.
هز “باسم” رأسه بانتباه فتابع الاخر:
أنا نزلت اسكندرية، وعرفت إن فريد نصران اتقتل فعلا في قرية جنبهم، وأهله مش ساكتين عن الحوار ده،
القرية بقى اللي “فريد” ده اتقتل فيها هي نفسها اللي المفروض إن “شاكر” أبوه من الكبار فيها، تاني حاجة بقى وده اللي أنا عرفته…”شاكر” ليه مرات عم وعندها تلات بنات كانوا قاعدين معاهم في البيت من بعد وفاة عمه، التلات بنات وأمهم في نفس اليوم اللي اتدفن فيه “فريد” طلعوا على قرية “نصران” ده كلام “محسن” صاحب “شاكر”…طبعا هو ما اتكلمش كده علطول، أنا عملت نفسي ساكن جديد عندهم واتلميت على ” محسن” والشلة بتاعته وبقيت أروح أسهر معاهم في مكان تبع أبو شاكر… وشوية بقى وعرفت أهم معلومة في ده كله
_إيه هي؟
سأله “باسم” وقد شوقته المعلومات بالفعل إلى الذروة فكان حديث صديقه طرب له حين تابع:
“شاكر” كان عينه على واحدة من بنات عمه اسمها “ملك”، و ” ملك” دي كانت بتحب “فريد” اللي اتقتل.
أطلق “باسم” صفيرا متحمسا و سمع البقية:
“شاكر” مفهم “محسن” أو جايز دي الحقيقة الله أعلم إن “ملك” وأمها وأخواتها راحوا يقعدوا في قرية نصران علشان البت منهارة على “فريد” ومش قادرة تصدق إنه مات وسايبينها هناك وسط أهل “فريد” تهدى كام يوم، لكن اللي عرفته بقى إنه مش موضوع هدوء خالص “ملك” وأمها وأخواتها خدوا بيت إيجار هناك، و فاتحين محل بقالة كمان جنب البيت يعني الوضع بيقول إنهم مكملين هناك، وده أول دليل على إن “شاكر” كداب، تاني دليل بقى كلامه في البار لأن اللي شارب ده بيكون حاجة من اتنين يا بيخرف بكلام مش مهم، يا بيقول الحقيقة اللي هو ميقدرش يقولها وهو واعي و بعد اللي عرفناه ده فالاحتمال التاني أقوى.
قال “باسم” مبتسما بظفر:
“شاكر” قتل أخو “عيسى” علشان “ملك”.
نظر ” باسم” لعيني صديقه وسأل:
ده الاحتمال التاني مش كده؟
هز الطرف الآخر رأسه ضاحكا بتأكيد، وقد جمع “باسم” خيوط لا بأس بها، خيوط أعطته أمل بأنه بواسطتها سيحقق الكثير.
★***★***★***★***★***★***★
في منزل “نصران”
انتهى الجميع من تناول الإفطار، الذي لم يحضره “طاهر” المتواجد في عمله، و “عيسى” الذي خرج باكرا ولم يعد… كانت “رفيدة” تقف جوار والدتها التي جلست على الأريكة تتابع التلفاز، وقد رغبت في قول شيء ولكن الخوف من الرفض سيطر عليها:
ماما ممكن طلب؟
رفعت “سهام” رأسها فتقابلت عيناها بعيني ابنتها وهي تسأل عن ماهية الطلب فأجابت “رفيدة”:
ممكن 5 آلاف جنيه.
_ده ليه؟
سألته “سهام” باستنكار واضح فوضحت “رفيدة” سريعا:
عايزة أشتري لبس، وكمان عيد ميلاد “جيهان” قرب وأنا مش معايا فلوس خالص.
قالت “سهام” بانزعاج:
يعني ايه يا “رفيدة” مش معاكي فلوس، أنا مش لسه مدياكي، و مش قولتيلي إن “عيسى” إداكي .. وبعدين أنا عايزة أعرف هو عيد ميلاد الآنسة “جيهان” ده بيبقى كام مره في السنة؟ … الفلوس اللي أنتِ بتاخديها في شهر دي يا “رفيدة” بيصرفها موظفين في شهور على بيوتهم.
بدا الضيق على وجه “رفيدة” التي استعدت للمغادرة ناطقة:
خلاص يا ماما مش عايزة.
تنهدت “سهام” بنفاذ صبر أمام سلوك ابنتها، ونادتها قائلة بهدوء:
خلاص يا “رفيدة” متزعليش، خدي اللي أنتِ عايزاه من الدرج… تحولت النبرة إلى تحذيرية وهي تتابع:
بس دي اخر فلوس هتاخديها الشهر ده.
انهالت عليا ابنتها بوابل من القبلات تشكرها بامتنان حقيقي، ضحكت “سهام” وهي تمسح على خصلات ابنتها بلطف، و قطع جلستهم الودية هذه دخول “عيسى” الذي قابلته “رفيدة” بابتسامة مرحة وهي تسأله:
كنت فين يا “عيسى” بابا سأل عليك على الفطار؟
_كنت في مشوار.
أجابها بهدوء وهي ينظر حوله باحثا عن والده، فأرشدته “رفيدة” بقولها:
طب بابا مستنيك في المكتب.
توجه ناحية غرفة المكتب ولكنه سمع “سهام” من الخلف تسأل:
أخلي “تيسير” تحضرلك الفطار؟
لم يجب بل دخل غرفة المكتب بعد أن دق على بابها، نظرت “رفيدة” لوالدتها بحرج وحاولت إصلاح الموقف وهي تقول:
مسمعش شكله.
ابتسمت لها “سهام” ابتسامة دارت خلفها ضيقها، دارت خلفها كل ما تعانيه منذ أن استقر “عيسى” هنا.
في داخل المكتب
توجه “عيسى” نحو البراد يجلب زجاجة من مشروبه المثلج، والتي فتحها وتجرع منها قدر لا بأس به أنعش روحه وهو يسأل:
كنت عايزني في إيه بقى؟
سأله “نصران” وقد شمله بنظراته:
أنت عارف “محفوظ” اللي أنا مشاركه في مصنع الأغذية.
_قولتلي عليه اه
قالها “عيسى” وهو يضع الزجاجة على الطاولة ويجلس في المقعد المقابل لوالده، فتابع “نصران” طالبا:
كنت عايزك تاخد “ملك” بنت “هادية” وتقوله يشغلها في الحسابات.
سأل “عيسى” باستنكار رافعا حاجبه:
يشغلها! ، هو أنا ممكن أمشي موضوع الشقة اللي أجرتهالهم، والمحل اللي مليته بضاعة ليهم إنها مساعدة… لكن مش شايف يا بابا إن اهتمامك زيادة شوية.
صحح له “نصران” بحدة و قد أزعجته نبرة ابنه:
البيت هما مأجرينه مش قاعدين فيه ببلاش، والبضاعة اللي في المحل كانت هدية مني وبيت أبوك بيت كرم ولا إيه يا بن “نصران”؟
ضحك ” عيسى” و هو يسأل بمكر:
هو أنت اتعصبت كده يا بابا علشان بقولك مساعدتك ليهم زيادة، أومال لو سألتك تعرف هادية من زمان ولا لا هتعمل إيه؟
ضرب “نصران” بكفه على الطاولة ناطقا اسم ابنه بغضب فاحتدت تقاسيم “عيسى” و تابع “نصران”:
بلاش كلام لا هيقدم ولا هيأخر، هتعمل اللي طلبته منك ولا أشوف غيرك؟
تحدث ” عيسى” بهدوء يصحح لوالده:
اللي أنت بتطلبه مني ده غلط… “ملك” اللي أنت عايزها تروح تشتغل في الحسابات دي بتخاف من خيالها، وابن عمها جايبلها عقدة من الرجالة كلها، لو عايز تديهم فلوس دور على طريقة تانية تديهم بيها.
سأله “نصران” باهتمام:
طريقة زي ايه؟
فكر “عيسى” قليلا حتى بدر لذهنه فكرة أخبر بها والده بتأني:
ممكن تخليها تراجع حسابات الأراضي هنا من بيتها.
وللأمان خلي حد يراجع وراها فترة.
أنهى “عيسى” حديثه وتناول الزجاجة يشرب منها باستمتاع فسمع والده يقول مبررا:
أنا مش مهتم بيهم زيادة ولا حاجة يا “عيسى”، بس دول تلات بنات ومهما كانت الفلوس اللي هتدخلهم من المحل فهي يادوب هتكفي إيجار البيت اللي أمهم أصرت تدفعه، ولو اتبقى هيبقى قليل على إنهم يعيشوا بيه، و أنا لو أعرف أديهم فلوس هعمل كده بس أمهم مش هترضى.
ابتسم ” عيسى” وقد تواجهت عيناه بعين والده وهو يقول له:
مش محتاج تبرر، أو تجاوب سؤال مش عايز تجاوبه… ممكن تقول إنك مش عايز، وأنا لو مكانك همتنع عن الرد عادي.
_بقى كده
قالها “نصران” على كلمات ابنه الذي تابع سائلا:
أنا عايز أسأل سؤال، أنت قولتلي أن في ناس كتير عايزة تاخد حتة أرض هنا، وفي اللي بيقول إن كان ليه من الزمان وعايز ياخد… ايه السبب اللي يخليهم يتخانقوا على الأرض اللي في القرية دي؟
انتظر إجابة حقا، شرب المتبقي في زجاجته ليسمع قول والده الذي أضحكه:
بمتنع عن الرد.
تابع “عيسى” ضحكه الذي قال من وسطه:
حقك.
سؤال إجابته تضع الجميع في مأزق، إجابة حملها “نصران” سنوات طويلة، وإفصاحه عنها ليس بالأمر الهين أبدا.
★***★***★***★***★***★***★
كانت مريم تجلس على مقعد مجاور لوالدتها في محل البقالة، تتأكد من وضع حاجتها في الحقيبة استعدادا للذهاب لدرسها الذي لم يتبق عليه إلا القليل.
قطع الصمت هذا الصوت الصغير المميز وهو يقول:
طنط عايز بيبسي ولبان.
قامت “مريم” من مكانها متوجهة ناحية هذا الصغير ناطقة بلطف:
حاضر هجبلك… قولي الأول أنت اسمك إيه؟
_حسن.
قالها هذا الذي ظهر فجأة ليصبح خلف الطفل وقد زين ثغره ابتسامة واسعة، احتدت نظرات “مريم” فقال متصنعا البراءة:
أنا مبتعرضلكيش على فكرة، أنا عايز بيبسي ولبان.
قامت “هادية” إليهم تسأل باستغراب:
في حاجة يا “مريم”؟
قال ” حسن” بدلا عنها:
يزيد ابن أخويا عايز بيبسي ولبان.
ابتسمت له “هادية” ابتسامة واسعة مرحبة به، أحضرت “مريم” من الداخل ما أراده الطفل ووضعتهم في كيس بلاستيكي وأعطته للصغير قائلة:
دول مني أنا بقى علشان أول مرة نشوف القمر ده.
أخذت حقيبتها وتركتهم وهي تقول منبهة:
أنا راحة الدرس يا ماما.
_هتعرفي تعدي الطريق؟
سألتها “هادية” بقلق فطمأنتها “مريم” حين قالت:
متخافيش في بنت بتيجي معايا و علطول بقابلها ونعدي سوا.
سأل “حسن” باهتمام بعد انصراف “مريم”:
هي درسها على الطريق؟
جاوبته ” هادية” على ما سأله:
أيوة.
سألته بلطف:
عايز حاجة تانية أجبهالك؟
هز رأسه نافيا وشكرها بامتنان وهو يلتقط كف الصغير لينصرفا من هنا.
في نفس التوقيت
كانت “شهد” في طريقها إلى موقف السيارات كي تذهب إلى جامعتها، كانت تنظر حولها لا تعلم أين الطريق… من المفترض أن يكون الموقف هنا ولكن لا شيء.
تجمدت مكانها حين وجدت سيارة أحدهم تتوقف جوارها فاستدارت ترمقه بغضب ولكنها وجدته “طاهر” الذي سألها ضاحكا:
عمالة تتلفتي حواليكي ولا اللي تايه من أمه.
هزت رأسها مؤكدة:
أنا فعلا تايهة، هو فين الموقف اللي بتركبوا منه؟
_أنتِ راحة كليتك؟
سألها فأجابته بنعم فعرض عليها قائلا:
طب الطريق مش بعيد، تعالي أوصلك.
لم تنتظر أن ينهي حديثه بل فتحت باب السيارة وجلست تربط الحزام، فنطق باندهاش:
يا شيخة طب اترددي حتى!… ده أنا قولت هتسألي مامتك الأول.
استدارت له تفصح عن سبب تصرفها:
مش معايا تليفون ، ومش هستفيد حاجة لما أفضل تايهة كده غير إني متأخر، أو مش هروح خالص … فوديني المره دي والمرة الجاية لما أعرف الطريق… تابعت بسخرية:
أوعدك هبقى استأذن.
ضحك وقد بدأ قيادة سيارته بينما مدت هي يدها نحو الصورة المعلقة في السيارة تسأل:
هو ده ابنك؟
جاوبها بالإيجاب وهو يقول بحب لصغيره:
اه ده “يزيد”.
_شبهك، شكل مراتك بتحبك أكتر علشان كده ابنك شبهك بالظبط.
قالتها وهي تتأمل ملامح الصغير ولكنها سمعت ما صدر حيث زفير نم عن حزن دفين وقوله:
الله يرحمها.
استدارت له تعتذر بصدق:
أنا أسفة.
ابتسم لها وهو يقول بهدوء:
عادي محصلش حاجة… هي فعلا الله يرحمها كنا بنحب بعض جدا، و اتجوزت بعدها علشان ضغط العيلة وبرضو علشان يزيد وحبيتها واتطلقنا.
_لا كده أنت اللي نحس بقى.
قالتها مازحة فأجابها ضاحكا:
ده أنا هرجعلها مخصوص علشان أثبت عكس نظريتك دي.
تحدثت مقترحة:
أنت أرجعلها وقولها أنا رجعتلك علشان أثبت عكس نظرية ” شهد”
تابعت بحماس:
فتروح قايلالك مين شهد دي، وتروحوا متطلقين تاني.
ارتفع صوت ضحكه، وجذب هاتفه الذي أصدر الصوت المميزة للرسائل فقرأ رسالة زوجته السابقة والتي تدعوه فيها إلى الغذاء في أحد المطاعم فابتسم بهدوء، وقد كانت نظرات “شهد” مراقبة أما عنه فأرسل الموافقة حتى لا يصبح في النهاية القاسي، حارم أحبته من الفرص الثانية.
★***★***★***★***★***★
هو هنا مجددا في مكتب والده، بعد أن طلبت منه “سهام” هذا الطلب الذي لم يره إلا تبجح…. تريد الحديث معه وتطالب بدقائق معدودة…. كان البيت خالي من الجميع عدا هو وهي، وابنتها التي صعدت إلى غرفتها، ووالده الذي ذهب للاسترخاء قليلا في فراشه.
_خير يا مدام.
قالها قاطعا الصمت بنبرته المميزة، نبرته التي تطعنها بخناجر، ارتبكت دقيقة وربما أكثر قبل أن تستطيع الحديث:
عيسى أنا عارفة إنك مبتحبنيش، وإن من يوم جوازي من والدك وأنت عندك نفور مني على عكس فريد الله يرحمه، أنا متجوزتش والدك برضايا، ولا حتى كان برضاه… بعد موت أخوه بقى بالأمر يتجوز مراة أخوه وباخد باله من ابنها، وعمري ما كرهت والدتك، أو حتى غيرت منها… نصران كان بيحبها أنا كنت مجرد فرض أو واجب تقيل بيعمله لكن حبه كله كان ليها هي.
قام من مقعده واتجه ناحيتها، اخترقتها سهام نظراته وهو يقول:
فقولتي تموتوها وتبقي الفرض والحاضر والمستقبل… مش كده؟
استندت على المقعد المجاور وهي تقسم له بدموع:
والله العظيم ما عملت كده… أنت مش فاهم وحتى لو فهمت مش هتحس يا عيسى… أنا عارفة إنك كنت نايم عندي في الأوضة اليوم اللي سمعت أخويا وهو بيقول إنه عايز يموتها… وعارفة خوفك ساعتها وإنك فقدت النطق لأيام طويلة لكن أنت أكيد فاكر أنا رديت عليه ازاي، أخويا كان خايف إنها تقول ل….
أشار لها بانفعال يأمرها بالصمت وهو يقول بعنف:
مليش دعوة بأي مبررات هتقوليها، أنا فاكر كويس أوي برضو لما سمعتكوا من ورا باب أوضتك وهو بيقولك إنه موتها.
_والله العظيم طردته، و ضربته… أنا اتصدمت انه عمل كده كنت زيي زي أي حد في البيت.
قالت مدافعة بانهيار فسألها هازئا:
بجد؟… أنتِ مبتقوليش جديد على فكرة، أنتِ تهمتك عندي مش أنك قتلتيها، أنتِ تهمتك أنك سكتي يعني قتلتيها مرة كمان لما سيبتي أخوكي يعيش وعلى إيده دمها.
قاطعته بدموع تراكمت على وجهها:
علشان ده أخويا، علشان مهما عمل هو أخويا، وعلشان مكنتش هقدر أتكلم وأشوف نصران بيقتله… عيشت سنين طويلة أكفر عن ذنبي ربيت فريد كإن أمه عايشة وأكتر، وحاولت أرجعك وأنت اللي بعدت… واتحرقت بموت “فريد” تعب السنين كلها مات وأنا حتى مفرحتش بيه.
اقترب منها يقول بلهجة عدائية:
بلاش دور الضحية ده، شكلك وحش أوي فيه… السنين اللي أنتِ بتقولي عيشتي فيها تكفري عن ذنبك وتربي فريد كنتِ عايشة فيها ملكة هنا في بيت “نصران” بعد ما خدتي مكان مراته، أنتِ تهمتك أكبر من تهمة أخوكي… أنتِ خرستي في وقت كان لازم تتكلمي فيه، متقوليش إن كنتي بتحبي أمي اللي بيحب حد ميفرطش في حقه حتى لو علشان خاطر مين.
أشار على صورة “فريد” الموضوعة على مكتب والده وتابع:
فريد ده كان بيحبك، بيحبك أكتر من أمه اللي ملحقش يعيش معاها، “رفيدة” و “حسن” أخواتي وللأسف أنتِ أمهم، و “طاهر” مش ابن عمي وبس، طاهر كان أقرب واحد لفريد… كل الحاجات اللي عدتهالك دي هي اللي محت عقابك عندي، سألها باستنكار وهو يتابع:
زعلانة من المعاملة الوحشة؟ ، بتصحي ضميرك مش كده؟…. احمدي ربنا عليها، لولا ولادك اللي هما اخواتي ولولا حب فريد ليكِ كنت هديكي العقاب اللي تستحقيه، لكن أنا معاقبتكيش…
قاطعته تقول برجاء كسا عينيها قبل حديثها وهي تحاول امساك كفه الذي أبعده:
ليه كده؟، ما حقك جالك لحد عندك أخويا مات في حادثة عربية وأنا لحد النهاردة بموت بعذاب الضمير و بتمنى لو رجع الزمن لوقتها وأنا مكنتش هسكت.
هز رأسه نافيا وهو يؤكد لها بسخرية:
الزمن مبيرجعش.
توجه ناحية البراد أمام نظراتها يخرج زجاجة من مشروب الشاي المفضل وهو يتابع:
وعلى فكرة أنا حقي مجاليش لحد عندي ولا حاجة، أنتِ لو عرفتي الحق بيجي ازاي هتعرفي إنك فلتي من عقابي فعلا.
مسحت دموعها وهي تقول وقد انهارت كل حصونها أمامه:
بقولك مات في حادثة، في إيه تاني يطفي نارك؟
تجرع من الزجاجة المعدنية و أنزلها ليقول قوله الذي حول الغرفة إلى كتلة من اللهب المشتعل، القول الذي صدر منه وقد كسا عينيه وميض مشتعل، وزين ثغره ابتسامة مهلكة وكل هذا مصوب لها فقط:
في إن أنا اللي دبرتله الحادثة.
تحاول أن تفهم، بل تحارب على أمل أن تدرك معنى كلماته، وقد أعطاها قدماها إشارة بأنهما لن يتحملا الصمود أكثر من ذلك، وهو أمامها يجلس على المقعد واضعا الساق فوق الاخرى، متلذذا بمشروبه وكأنه حصل عليه بعد ظمأ طال زمانه.
إنها الكلمة ولقد قالها “الحسين” من قبل:
(بعض الكلمات قبور.)
ربما كلمة تحييك، وكلمة تميتك وأنت على قيد الحياة
ربما قول خرج من فمه حصد روحها فلن تنساه أبدا.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وريث آل نصران)