روايات

رواية ميثاق الحرب والغفران الفصل الخامس 5 بقلم ندى محمود توفيق

موقع كتابك في سطور

رواية ميثاق الحرب والغفران الفصل الخامس 5 بقلم ندى محمود توفيق

رواية ميثاق الحرب والغفران الجزء الخامس

رواية ميثاق الحرب والغفران البارت الخامس

ميثاق الحرب والغفران
ميثاق الحرب والغفران

رواية ميثاق الحرب والغفران الحلقة الخامسة

لم يكن بوضع يسمح له بملاحقته ، فالألم الذي اجتاح بطنه موضع الطعن كان مميت ، وضع يده فوق جرحه في محاولة شبه فاشلة منه لوقف النزيف لكن قوته بدأت بالأنهيار تدريجيًا ولم يعد قادرًا على الوقوف فجلس على الأرض متألمًا .. وفورًا أخرج هاتفه يجري اتصال ببشار الذي أجابه بعد رنات قصيرة :
_ أيوة ياعمران
خرج صوته مكتومًا من فرط الألم :
_ تعالالي يابشار على الشارع اللي في ضهر المخزن بسرعة وهات معاك العربية
نبرة صوته الضعيفة أصابته بالزعر فهتف بقلق :
_ في إيه ياعمران أنت زين ؟!
أخرج الكلمات بصعوبة وهو يقول بإيجاز :
_ مش قادر أتكلم يابشار اسمع الكلام وتعالى طوالي
رغم عدم فهمه لما يحدث لكنه أدرك أن هناك كارثة وهو ليس بخير فتلك النبرة المتألمة والضعيفة لم يسمعه يتحدث بها ابدًا من قبل .. انهى الاتصال وخرج بملابس المنزل ركضًا للخارج واستقل بسيارته يشق بها الطرق قاصدًا المخزن وتحديدًا الشارع الخلفي .
حاول عمران البقاء صامدًا لآخر لحظة متحملًا الألم العنيف لكن الدماء التي فقدها افقدته توازنه ولم يعد يستطيع فتح عينيه ، وبالنهاية اغلقها باستسلام فاقدًا وعيه .
بتلك اللحظات وصل بشار ونزل من السيارة ، فتصلب بأرضه مذهولًا حين رأى ابن عمه فاقدًا وعيه على الأرض ودمائه تملأ ملابسه .. هرول نحوه مزعورًا وجثى على ركبتيه أمامه يصيح به :
_ عمران أنت سامعني .. عمران !!
حين لم يحصل على إجابة منه حاول أن يوقفه بصعوبة بسبب قوة جسده وبنيته الصلبة ، نجح بالأخير في صعوبة وسحبه معه للسيارة ثم ادخله بالمقعد الخلفي واسرع يستقل بمقعده المخصص للقيادة وينطلق بها بسرعة جنونية متجهًا لأقرب مستشفى ……
***
ساعات طويلة مرت وهو بالانتظار خارج غرف العمليات ، يجلس فوق أحدى المقاعد الحديدية ويفرك كفيه ببعضهم من فرط القلق والضيق ، ومن الطبيعي أن أول من جال بعقله أنه المتسبب في محاولة قلت ابن عمه هو عائلة صفوان وبالأخص جلال .. سينتظر فقط خروجه سالمًا من غرفة العمليات وبعدها لن يحتفظ بهدوئه أبدًا .
لمح الطبيب يخرج من الغرفة فتوقف واسرع نحوه يسأله باهتمام :
_ خير يادكتور طمني ؟
أجابه الطبيب بهدوء ووجه تعلوه علامات الارتياح :
_ الحمدلله اطمن .. الجرح كان عميق وهو خسر دم كتير للأسف بس لحسن الحظ أن كان في أكياس دم احتياطي موجودة بالمستشفى والحمدلله اتخطى مرحلة الخطر وبقى كويس بس برضوا هيفضل تحت المراقبة الأربعة وعشرين ساعة الجايين عشان لو حصل أي مضاعفات نتيجة العملية
تنهد بشار الصعداء براحة وقال باسمًا :
_ الحمدلله اللهم لك الحمد والشكر ، طب امتى اقدر ادخل اشوفه يادكتور ؟
تمتم بجدية بسيطة :
_ دلوقتي هننقله على غرفة خاصة زي ما حضرتك طلبت وبعدين تقدر تدخل تشوفه .. بس نراعي أنه لسا خارج من عملية يعني مفيش كلام كتير ولا توتر وعصبية عشان الجرح
بشار بإيجاب :
_ تمام يادكتور متشكرين قوى
ابتسم له الطبيب بود ثم تحرك مبتعدًا عنه ، بينما بشار فعاد إلى مقعده منتظر خروجه ونقله لغرفته الخاصة حتى يذهب له …..
***
بعد مرور نصف ساعة تقريبًا كان بشار يتحرك للغرفة الخاصة بعمران، وفتح الباب ببطء ثم دخل فوجده ممد فوق الفراش مستيقظًا يبدو أن فاق للتو .
تقدم نحوه وجذب مقعد يجلس بجوار فراشه متمتمًا :
_ حمدلله على السلامة .. أنت زين ياعمران
هز رأسه بالإيجاب دون أن يتحدث فسأله بشار بحرقة :
_ مين اللي عمل إكده ؟
عمران بصوت خافتًا نتيجة لعدم قدرته على الحديث :
_ متشغلش بالك يابشار .. لما اطلع من المستشفى واشد حيلي هبقى افوقله زين اللي عمل إكده
انفعل وهتف :
_ كيف يعني مشغلش بالي ياعمران !!
تمالك أعصابه وتابع بهدوء مزيف :
_ طيب المهم مش وقته الكلام ده دلوك ارتاح أنت لساتك خارج من العملية ولما تشد حيلك نبقى نكمل كلامنا
لم يبدي أي ردة فعل بل كان جامدًا المشاعر يحدق أمامه في الفراغ بصمت وفور خروج بشار لخارج الغرفة حتى يجري اتصال ، لمعت في عيناه نظرة مميتة كلها وعيد وغضب ، وماهي إلا لحظات معدودة وأغلق عيناه لينام مجددًا بسبب التعب .
على الجانب الآخر بمنزل الصاوي ، أجاب بلال على هاتفه بعدما رأى اسم بشار ينير شاشة الهاتف :
_ أيوة يابشار
اتاه صوت ابن عمه الحازم :
_ ادخل اوضة عمران وچبله شوية خلجات يابلال وتعالى على مسشتفى ( …. ) بس اوعاك تجيب سيرة لحد
صابه القلق وقال مفزعًا :
_ مستشفى ليه ؟ .. عمران چراله حاچة يابشار ؟
بشار بإيجاز :
_ لم تاچي هقولك هو زين متقلقش ، اعمل اللي بقولك عليه بس وتعالى
لم تمر لحظة قبل أن ينهي الاتصال وصدح صوت إخلاص من خلفه تهتف برعب :
_ ولدي چراله حاچة يا بلال .. عمران بيعمل إيه في المستشفى ؟!
وضع هاتفه بجيب بنطاله وأجابها برزانة محاولًا تهدأتها :
_ مفيش حاچة اطمني يامرات أبوي هو زين أنا هروح اشوفه وهبلغك
صاحت بصوت مرتجف من فرط الخوف :
_ رچلي على رچلك .. هروح معاك اشوف ولدي
تنهد بعدم حيلة ولم يحاول منعها فإذا فعل لن تقبل وجميع من في المنزل سيستيقظ على صوتها ، هتف بلطف :
_ طيب روحي البسي بسرعة ومتخليش حد يحس
اماءت له عدة مرات بالموافقة واسرعت نحو الدرج تتجه لغرفتها حتى تبدل ملابسها وسط ندبها وبكائها وهي تهمس :
_ چيب العواقب سليمة يارب .. ياحبيبي ياولدي يارب ما يكون چراله حاچة .. يارب احميه واحفظه
دقائق معدودة بالضبط ووجدها بلال تهرول شبه ركضًا على الدرج وكان هو قد انتهى أيضًا من جمع بعض ملابس أخيه في حقيبة صغيرة ، ثم غادروا معًا المنزل واستقلوا بسيارة أجرة لتنقلهم إلى المستشفى .
***
كانت إخلاص تسير في ردهات المستشفى شبه ركضًا ويسبقها بخطواته بلال ، فور وصولهم لغرفة عمران كانت لها الاولولية في دخول الغرفة وركضت تجاه ابنها الممدد فوق الفراش الأبيض الصغير هاتفة بزعر وعينان غارقة بالدموع :
_ عمران چرالك إيه يانور عيني .. أنت زين ياولدي ؟
التقط يد أمه وقبلها برفق متمتمًا في ابتسامة دافئة :
_ أنا زين ياما الحمدلله متقلقيش
ثم القى نظرة على أخيه الصغير معاتبًا إياه أنه اخبرها فهز بلال رأسه بعدم حيلة ، بينما هي فارتمت عليه تعانقه بقوة وتقبله بحنو أمومي وسط بكائها القوي ومحاولاته لتهدأتها التي باتت بالفشل تقريبًا ، فصدح صوتها وهي تقول بحزن وحرقة :
_ تنقطع يده اللي مدها عليك ياولدي وآذاك .. ربنا ينتقم منه
عمران بحنو محتضنًا وجهها بين كفيه :
_ ياما أنا زين وكيف الحصان قصادك أهو .. ليه البكا ده كله
صاحت من بين بكائها بألم :
_ كيف الحصان كيف وأنت نايم على السرير إكده .. الهي ما يشوف النور ولا يرتاح اللي عمل فيك إكده يا قلب أمك
ضحك عمران مغلوبًا وجذبها لصدره بدفء يقبَّل رأسها باسمًا ويهتف متوعدًا لأخيه بمزح :
_ عاچبك إكده .. حسابك معايا بعدين يابلال
اقترب منه بلال ضاحكًا ورتب على كتف أخيه بلطف هامسًا :
_ أنا مليش صالح هي سمعتني وأنا بكلم بشار وصممت تاچي معاي .. المهم حمدلله على سلامتك ياخوي
ابتسم له عمران بحنان وتمتم :
_ الله يسلمك ياحبيب أخوك
ابتعدت إخلاص عنه وسألته بغضب واهتمام :
_ مين اللي عمل إكده فيك ياولدي ؟
عمران بهدوء تام محاولًا تغيير مجرى الحديث :
_ مش وقته دلوك ياما الحديت ده .. أبوي وعمي عرفوا ولا محدش غيرك عرف
أجابته بقوة :
_ لا عرفوا وجايين في الطريق .. أبوك اتصل بيا وأنا في الطريق وقولتله
تنهد عمران الصعداء وهو يبتسم مغلوبًا فلم يكن يريد أن يعرف الجميع ويلتفوا حوله بالغرفة جميعهم ، ولكن كيف فلا يوجد شيء يخفى على عائلته وبالأخص أمه ! ………..
***
بصباح اليوم التالي داخل الحرم الجامعي تحديدًا أمام كلية الهندسة …
يجلس بلال فوق أحد المقاعد البعيدة عن آشعة الشمس الساخنة ويعبث بهاتفه يتفحص مواقع التواصل الاجتماعي بفتور وكأنه لا يجد وسيلة أخرى يشغل نفسه بها إلى حين بدأ محاضرته عن فن العمارة .. جذب انتباهه صوت أنثوي مرتقع فالتفت برأسه في تلقائية وسقطت عيناه على فتاة توبخ شاب لمحاولته التعرض لها وإزعاجها ، ظل صامتًا يتابع شجارهم بصمت إلى حين رأى الشاب يتمادي ويحاول جذبها من ذراعها عنوة لكي تستقل بسيارته والفتاة تصرخ به .
استقام واقفًا من مقعده وقاد خطواته السريعة تجاههم ثم جذب يد الشاب بعيدًا عن الفتاة برفق هاتفًا في حدة :
_ إيه ياكابتن هو غصب ولا إيه ما قالتلك لا !
تراجعت الفتاة فورًا للخلف ووقفت خلف بلال تلوذ به من بطش ذلك الشاب المتسكع الذي سحب يده من قبضة بلال بعنف وهتف بغضب :
_ وأنت مالك هي من بقية اهلك
هدر بلال بنبرة رجولية قوية :
_ أه اختي .. عندك مانع
ثم القى عليه نظرة متفحصة لهيئته التي لا تليق بطالب ابدًا وقال مستحقرًا :
_ أنت في كلية إيه أصلًا هو ده شكل طالب .. مين فهمك أن دي رجولة لما ترفع يدك على بت
رتب الشاب على كتف بلال وقال بنبرة تحذيرية :
_ ملكش دعوة أنت وابعد احسلك دي خطيبتي
التفت بلال برأسه للفتاة وكأنه يتأكد من تلك المعلومة فهزت رأسها بالنفي وقالت مسرعة :
_ لا كذاب أنا مش خطيبته هو دايمًا بيضايقني كدا
عاد بلال برأسه له وابتسم ساخرًا ثم قبض على ذراع الشبا يسحبه معه هاتفًا :
_ طب ما تاجي تقول الكلمتين دول في مكتب العميد إيه رأيك؟
دفع يد بلال عنه وصاح به منزعجًا :
_ يدك لتوحشك
ضحك بسخرية ولم يعيره اهتمام ولكن الشاب بدا مصممًا في قراره حيث انحنى ومد ذراعه يقبض على رسغ الفتاة ليجذبها إليه وسط صراخها ، وكان رد الفعل التالي هو لكمة عنيفة من بلال جعلته يهتز وتلقائيًا افلت ذراع الفتاة ، فتشتعل نيران غضبه أكثر وراح يوجه هو أيضًا لكمة له لكن بلال تفاداها وبدأ قتال بينهم تجمع على أثره جميع طلاب الحرم الجامعي والشباب حاولوا الفصل بينهم بما فيهم أصدقاء بلال، وبعدما نجحوا في الفصل بينهم اخذوا الشاب إلى مكتب عميد الكلية وأصدقاء بلال اصطحبوه معهم وجلسوا أسفل أحدى المظلات واعطوا لصديقهم منديلًا حتى يمسح دماء فمه .
قال صديق له بجدية :
_ أنت مالك ياعم هتعمل لنفسك حوار دلوك والعميد هيطلبك ، ليه يتتدخل !
رمق صديقه بنارية وهتف منفعلًا :
_ يعني الواد ابــ **** بيضايق البت وبيمد يده عليها واقف اتفرج عليه ولا إيه !!
قال صديق آخر بنبرة رخيمة :
_ خلاص ياشباب حصل خير هو العميد مش هيعمله حاجة أساسًا الواد الو*** هو اللي غلطان وهيتعاقب
تأفف بلال بنفاذ صبر واستقام واقفًا :
_ أنا رايح الحمام اغسل وشي
تحرك بخطوات سريعة تجاه مبنى الكلية يقصد الحمام وبينما كان بطريقه ، كانت على المقابل له تسير فتاة هادئة وجميلة تصغره بسنتين وعيناها عالقة داخلة الكتاب الذي بيدها ولم تنتبه له فاصطدمت بكتفه دون قصد ، شهقت بفزع وتوقفت وسط همستها العفوية :
_ أنا آسفة جدًا
وفور ملاحظتها لهيئته وملابسه الغير مهندمة ودماء فمه قالت بريبة وقلق :
_ أنت كويس ؟!
اكتفى بإماءة رأسه في إيجاب واندفع فورًا نحو الحمام وبقت هي تتابعه باستغراب حتى اختفى عن انظارها فاكملت هي الأخرى طريقها لقاعة محاضرتها .
بعد دقائق قصيرة خرج من الحمام وكان عائدًا للخارج حيث يجلس أصدقائه بانتظاره، لكن سقط نظره على مشهد جعله يتسمر بأرضه مندهشًا .. الفتاة التي سرقت علقه وقلبه وكان ينوى التقدم لخطبتها تقف مع شاب تلتقط معه الصور بحميمية وبسعادة تلمع في عيناها، وبعد دقائق ابتعد ذلك الشاب ورحل مغادرًا الجامعة بأكملها وتجمع حولها اصدقائها يهنئوها بخطبتها وكانت تلميحاتهم توضح أن ذلك الشاب كان خطيبها ! .
بقى متصلبًا بأرضه لا يستوعب ما رأته عينه للتو والتقطته أذنه ، احس لوهلة بوغزة مؤلمة في قلبه وأنطفأ لون عينيه فبات كل شيء من حوله كمشهد مأساوي أصابه بمقتل .. لم يفكر بشيء في تلك اللحظة حتى محاضرته التي لم يتبقى عليها سوى عشر دقائق لم يكترث لها واندفع خارج الجامعة بأكملها، واستقل بسيارة أجرة تنقله إلى أقرب موقع من منزله .
***
داخل المستشفى تحديدًا بغرفة عمران، انفتح الباب بقوة وظهرت من خلفة فريال التي ركضت تجاه أخيها بتلهف في عينان غارقة بالدموع وارتمت عليه تعانقه برعب هاتفة :
_ عمران طمني أنت زين .. إيه اللي جرالك ؟
ضمها لصدره بحنو ومرر يده بلطف فوق ظهرها هامسًا :
_ أنا بخير الحمدلله يافريال متقلقيش يا قلب أخوكي
ابتعدت عنه واخفضت نظرها لبطنه موضع جرحه وأخذت العبرات تنهمر من عيناها بغزارة .. كتمت صوت شهقاتها بكف يدها، لكن قلبها يصرخ من الألم على أخيها وخوفها من أن يكون زوجها هو الفاعل ! .
ضيق عمران عيناه بحيرة من بكائها الشديد فتهجَّمت ملامح وجهه واعتدل في نومته بصعوبة ثم ضمها إليه مجددًا هاتفًا بجدية :
_ مالك يافريال، أنا زين قصادك أهو .. أنتي في حاجة مضيقاكي ولا إيه ؟
أجابته بخوف وصوت موجوع نابع من صميمها :
_ مش جلال اللي عملها صُح ؟!
تجمدت معالم وجهه والتزم الصمت لثواني قبل أن يهدر بحزم :
_ لسا متوكدناش .. معرِفش إذا كان هو ولا لا
ابتعدت عنه وقالت بوجه غارق في الدموع تحاول الدفاع عنه وجعل أخيها يصدق برائته :
_ لا جلال ميعملهاش .. هو عارف أنك ملكش صالح بقتل عمي خليل ومستحيل يأذي حد بريء .. لا ياعمران مش جلال اللي عملها
طالت نظرة عمران المتمعنة لها ثم لاحت ابتسامة خافتة على جانب ثغره وقال لها بعين دافئة كنبرته تمامًا :
_ بتحبيه قوي للدرجة دي يافريال !
هزت راسها بالإيجاب تقول في تأكيد وعينان عاشقة :
_ قوي ياعمران .. جلال روحي اللي مقدرش أعيش من غيرها
ملس على وجنتها بأنامله في حنان أخوي وقال مبتسمًا :
_ يارب ميطلعش هو يافريال، بتمنى ياغالية عشانك
اجفلت نظرها أرضًا وقالت بألم وشعور بالعجز :
_ لو طلع هو مش هقدر اسامحه
مال عليها ولثم جبهتها بحنو متمتمًا بوداعة :
_ خلاص عاد قفلي على السيرة دي وامسحي دموعك ووريني ضحكتك الحلوة دي
ابتسمت بعفوية على جملة أخيها وراحت ترتمي بذراعيه من جديد تنعم بدفء وراحة صدره الواسع، فيضمها هو إليه أكثر مقبلًا رأسها …
***
كانت آسيا قد انتهت من تبديل ملابسها وتقف أمام المرآة تسرح شعرها الأسود، حين سمعت صوت الباب ينفتح ولحظة بالضبط وظهرت من خلفه أمها التي تقدمت منها بتريث ووقفت خلفها تتطلع في انعكاس صورتها بالمرآة بقوة، غضنت آسيا حاجبيها بتعجب وقالت مبتسمة :
_ خير ياما بتبصيلي إكده ليه ؟!
جليلة بنبرة مريبة وعين ثاقبة :
_ مش عاجبني حالك يابت بطني
تركت الفرشاة من يدها واستدرات بجسدها كاملًا نحو أمها وحدجتها باستفهام قائلة :
_ إيه اللي مش عاجبك في حالي ياحجة جليلة .. ده أنا حتى تربيتك وبتك
لوت جليلة فمها بقلة حيلة وقالت بحزم :
_ وهو ده اللي مخوفني إنك تربيتي وعودك طالع كيف عودي بظبط .. راسك ناشفة ومبتسمعيش لكبير وجبارة .. خايفة تغلطي نفس غلطاتي يابتي وقلقانة عليكي لأحسن عِندك ده يوقعك في مصايب
اقتربت أكثر من أمها واحتضنت كفها هامسة بحنو :
_ متخافيش ياما أنا مش عيلة صغيرة ولا عبيطة عشان أوقع نفسي في مصايب، أنا عارفة أنا بعمل إيه زين اطمني عليا، لو كنتي أنتي جبروت قراط فأنا قراطين ومهسمحش لصنف مخلوق أنه ياجي عليا ويكسرني
تنفست جليلة الصعداء بعدم حيلة فمهما حاولت الشرح لها لن تفهم، ستظل محتفظة بعنادها ولن تتنازل عنه، وهي كانت مثلها لكنهم لم يسمحوا لها حين أدركوا أنها قد تخرج عن طوعهم وعن طبيعة الأنثى التي صنعوها بمجتمع ذكوري يستخدم جميع التصريحات التي منحت له كونه رجل وهي امرأة ! .
قست نظرة جليلة وهي تسأل ابنتها بحدة :
_ اليومين دول رجلك خدت على الخروج .. بتطلعي تروحي وين يا آسيا ؟!
صمتت للحظة ثم قالت مخترعة حجة وكذبة محترفة :
_ ما أنتي عارفة ياما بطلع أجيب طلبات البيت أحيانًا .. يعني هكون بروح وين !
أجابها جليلة بعدم اقتناع ونبرة منذرة :
_ امممم يعني مفيش حاجة إكده ولا إكده مدرياها عليا؟
آسيا بنفي تام وثبات تام غريب :
_ لا مفيش طبعًا هداري عنك إيه يعني !
اكتفت جليلة بنظرتها الصارمة لابنتها ثم استدارت وغادرت غرفتها تتركها تقف تفكر بسؤال أمها وشكها بها، هي حتى لا تفهم كيف انتابها الشعور أنها تخفي شيء عنهم !! .
***
بتمام الساعة التاسعة مساءًا داخل منزل خليل صفوان تحديدًا بغرفة جلال …
كانت عيني فريال ثابتة عليه تتأمله بنظرات مريبة، كأنها تحاول اختراق عقله وقراءة قسمات وجهه لمعرفة ما أن كان هو من حاول قتل أخيها أم لا، رغم أنها متيقنة أنه لا يفعلها لكن وساوس الشيطان لا ترحل عنها وتظل تلح عليها أن تتأكد حتى لو اضطرت إلى سؤاله بشكل مباشر، وكان هو هادئًا يراجع بعض أوراق الحسابات الخاصة بالوكالة لكنه حين لمح شرودها ووضعها المريب سألها بقلق واهتمام حقيقي :
_ عمران زين يافريال ؟!
قد يكون هذا هو السؤال الأول الذي يوجهه لها بكل طبيعي منذ شجارهم الأخير وفتور علاقتهم لأيام فردت عليه بجمود :
_ أيوة بخير الحمدلله
لم يعقب ولم يسأل مرة أخرى والتزم الصمت، أما هي فعادت في شرودها وتفكير السوء الذي يستحوذ على عقلها حتى تمكن منها الشيطان وإذا بها تجد نفسها تسأله بكل صراحة وضيق :
_ جلال أنت ملكش يد في اللي حُصل لعمران ده صُح ؟!
رفع نظره لها متعجبًا بل مندهشًا من سؤالها وقال بنبرة غاضبة :
_ ولو قولتلك ليا هتعملي إيه يافريال ؟
قست ملامحها رغم ارتباكها من نظراتها إلا أنها قالت بجفاء :
_ أنا سبق وقولتلك لو أذيت أخويا مش هسامحك
هب واقفًا وتحرك نحوها بخطوات مريبة وسط نظراته المخزية حتى وقف أمام الفراش، أمامها مباشرة ومال عليها يهمس بنبرة أصابت أعمق يسارها :
_ أبوكي اللي قتل أبويا وأخوكي اللي بيتستر على أبوه بقوا هما الملايكة وجلال الشيطان صُح يابت الصاوي، بقيت احس إن ممكن في يوم الاقيكي اختارتي ناسك وسبتيني أنا يافريال
امتلأت عيناها بالدموع وأخذت تتأمله بحرقة قبل أن تجيبه بصوت مبحوح :
_ كيف ما أنا مقدرش اخسرك، كمان مقدرش اخسر حد من أهلي ياجلال، بزيادة دم وعداوة.. الدم مبيخلصش غير لما يخلص على الكل
اكتفى بنظرته القاتلة دون أن يتفوه ببنت شفة ثم انتصب في وقفته واستدار يغادر الغرفة ويتركها بمفردها وسط حزنها وتخبطها ! .
مرت ساعات طويلة ولم يعد فغلبها النوم وغرقت بأحلامهما التي قد تكون مزعجة بعض الشيء، عاد للغرفة في تمام الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل وحين دخل ووجدها نائمة تنهد مطولًا بخنق، ثم اغلق الباب ببطء وتحرك بتريث نحو فراشهم وجلس بجوارها ينحنى عليها يقبَّل شعرها ووجنتها بحب، قلبه يسحق تحت الأسى والحزن بسبب البعد وفتور علاقتهم، حتى شكها به وشعوره بأنها تفضل عائلتها عليه يمزق قلبه ! .
لو تعلم أنه التزم الصمت ولم يفعل شيء ليثأر لدماء أبيه من أبيها الذي قتله بدم بارد فقط من أجل أطفالهم ومن أجلها، لكي لا يرى حسرتها وقهرها على والدها حتى لو كان رجل ظالم، أو نظرتها المعاتبة وهي تحمله الذنب في قتله.. تنازل ومازال يقدم تضحيات وتنازلات فقط من أجلها، وبنهاية الحكاية تتهمه بمحاولة قتل أخيها وعدم مسامحتها له أن حاول مجرد المحاولة .. ليتها تعلم مقدار عشقه وارتباط روحه بها .
***
وصل عمران المنزل ودخل بخطوات بطيئة باستعانة بشار الذي كان يسنده ومن خلفه كان كل من إخلاص وإبراهيم، رغم الألم البسيط الذي مازل يصيبه بين الحين والآخر إلا أنه أصرّ على الخروج من المستشفى والعودة لمنزله حتى يستطيع الاستمتاع بقدر أكبر من الراحة بين طيات فراشه وبقوقعته الخاصة داخل غرفته، في حين أن الجميع كان ضد قراره ورغبته إلا أنه أيضًا نفذها ولم يكترث بأحد .
هتفت إخلاص من خلفه بضيق :
_ كان فيها إيه ياولدي لو فضلت في المسشتفى لغاية ما تشد حيلك وتقدر تقف على رجلك زين
هدر إبراهيم بعدم حيلة :
_يعني أنتي مش عارفة ولدك وراسه الناشفة وعناده
هتفت عمران بنفاذ صبر وبانزعاج بسيط :
_ بزيادة عادة قولتلكم أنا في بيتي وسريري هكون مرتاح أكتر
تحدث بشار بنبرة رزينة مبتسمًا :
_ خلاص ياعمي سيبوه على راحته
زفرت إخلاض يخنق وقالت في دفء :
_ أنا هروح احضرلك الوكل عشان تاخد علاجك
صعد الدرج يقصد غرفته بالطابق الثاني من المنزل وكان يساعده بشار، بينما ابراهيم فتوجه لغرفة الصالون الخاصة به وذهبت إخلاص للمطبخ حتى تقوم بتحضير الطعام لابنها .
وجدت عفاف بالمطبخ تجلس فوق المقعد الخشبي حول الطاولة الصغيرة وتحتسي كوب شاي دافيء، تجاهلت وجودها تمامًا وبدأت تتحرك بأرجاء المطبخ تحضر الطعام حتى سمعت صوتها تقول بنبرة تحمل بعض الشماتة :
_ حمدلله على سلامة عمران
التفتت لها إخلاص ولمست نبرة التشفي في صوتها فاستشاطت غيظًا وقالت بخبث :
_ الحمدلله ربنا حفظه لشبابه وليا ولأخته .. ربنا يبعد عنه كل حاقد وشيطان مؤذي عاوز يأذي ولدي ومستنيه يقع
ابتسمت عفاف بلؤم وقالت بنظرة شيطانية :
_ وميحفظهوش لأبوه ليه، ولا أكمنك عارفة أن أبوه خلاص بقى ليا ومعدش ليكي أنتي وعيالك مكان وحتى لو ليكم فقريب مش هيبقى
التهبت عين إخلاص التي اندفعت نحوها كالوحش الثائر وهتفت بتحذير وغضب هادر :
_ مين أنتي عشان تقولي عيالي ليهم إيه وملهمش إيه، أنا ممكن اوديكي ورا الشمس ياعفاف اوعاكي تنسي روحك وتنسي مين إخلاص، ولو إخلاص مش موجودة فولدي راجل وزين الرجال كمان بصباع واحد منه يمشي البيت ده كله على العجين ميلخبطهوش وأولهم أنتي
ضحكت عفاف وقالت بغل وسخرية :
_ ولدك اللي كانوا هيقتلوه امبارح، وياعالم هيعملوها تاني ولا لا .. ولو مات وقتها مهيبقاش ليكي حد واصل ولا ضهر ولا سند تتحامي فيه
انهت عباراتها واستقامت واقفة ثم غادرت المطبخ تاركة إخلاص متسمرة بأرضها ودموعها تجمعت بعينيها خوفًا ورعبًا على ابنها الوحيد .
بعد مرور نصف ساعة تقريبًا فتحت باب غرفته ودخلت حاملة فوق ذراعيها صينية معدنية حديدية متوسطة الحجم وفوقها صحون الطعام .. اعتدل عمران في نومتها فور رؤيته لدخول أمه بالطعام، وتابعها وهي تضع الصينية أمامه على الفراش بوجه عابس وحزين فغضن حاجبيه وسألها بجدية :
_ مالك ياما ؟!
وكأنها كانت في انتظار سؤاله حتى تنفجر باكية مما جعله يصاب بالفزع والقلق ليسألها :
_ في إيه ياما ؟!!
جففت دموعها بظهر كفها وأجابته بصوت مبحوح :
_ مفيش حاجة ياولدي زعلانة عليك بس وقلقانة كمان
تنفس الصعداء براحة بعد جملتها ثم ربت بيده في رفق على الفراش بجانبه هامسًا ببسمة حانية :
_ تعالى ياما اقعدي
جلست بجواره فوجدته يحتضن كفها بين كفه العريض والضخم ويرفعه لفمه يلثم ظاهره ثم انحنى عليها وقبَّل رأسها وجبينها متمتمًا بنبرة انسدلت كالحرير ناعمًا :
_ دموعك غالية قوي عندي والله ياما، متقلقيش عليا أنتي مخلفة راجل أنا زين ومحدش يقدر ياخدني منك غير ربنا، واللي عمل إكده معايا أنا عارف هربيه زين كيف بطريقتي
عانقت ابنها بحنو أمومي هاتفة بحب نقي وصادق :
_ ربنا يخليك ليا يانور عيني ومايحرمني منك ياولدي
_ويخليكي لينا ويباركلنا في صحتك ياست الكل
كانت تلك عبارته وهو يقبل ظاهر كفها مرة أخرى بابتسامة ساحرية ……
***
بتمام الساعة الثالثة عصرًا باليوم التالي، داخل مخزن السمك الخاص بعائلة إبراهيم الصاوي، يجلس عمران على مقعد مبطن مريح وعلى مقعد آخر مجاور له كان بشار الذي قال باعتراض بسيط :
_ كان لازمته ايه الاستعجبال بابن عمي بس ما كنا صبرنا لحد ما تتحسن اكتر وترجع كيف الأسد
رمقه عمران مبتسمًا بثقة وقال في نظرة مخيفة كلها جبروت وقسوة :
_ ليه هو أنا دلوك مش أسد ولا إيه !! .. اصبر واتفرج هعمل إيه
لم تمر دقائق طويلة بعد عبارة عمران الأخيرة حتى انفتح الباب ودخل رجل ببنية ضخمة ويسحب بيده ذلك المتسكع خالد ! .
هتف عمران بنظرة شيطانية وصوت يدب الرعب في الأبدان :
_ إيه كنت فاكر نفسك هتعرف تهرب مني يا****

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ميثاق الحرب والغفران)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى