رواية كبير العيلة الفصل الخامس عشر 15 بقلم منى لطفي
رواية كبير العيلة الجزء الخامس عشر
رواية كبير العيلة البارت الخامس عشر
رواية كبير العيلة الحلقة الخامسة عشر
سارت سلافة في الحديقة التي يغلبها الظلام إلا من بضعة أنوار تشع من مصابيح موزعة في الأرجاء وهي شاردة فيما صار هذا اليوم من أحداث جعلته يوما طويلا للغاية, لم تستطع النوم بعد أن تحدثت مع شقيقتها وقد أشفقت على سلسبيل, حاولت مرارا التحدث مع والدها بشأن التدخل لإقناع عمها بقبول رفض سلسبيل للزواج من ليث ولكن والدها كان صريحا معها أنها العادات والتقاليد التي تحكم هذا المجتمع ولكنه سيحاول أن يؤخر موعد الزواج حتى تلين سلسبيل قليلا, تركت شقيقتها نائمة وقررت السير في الحديقة علّ نسيم الليل يهدأ من روحها المتمردة التي تتواثب في صدرها بغضب شرس من تلك العادات البعيدة كليّة عن تعاليم ديننا الحنيف, فالإسلام نهى عن تزويج الفتاة أو الثيب إلا بإذنها, فالثيب تستنطق أي لا بد من أن تتلفظ بالموافقة بينما البكر فإذنها سكوتها حيث يمنعها الحياء من الإدلاء بموافقتها علانية, ولكن ما يحدث هو ضد كل الشرائع السماوية ولا يستطيع عقل بشري استيعابه…
قادتها قدماها الى شجرة باسقة ذات جذع عريض ضخم تسبح في السماء بأغصانها العالية التي تحمل أوراقها الخضراء, ارتكزت برأسها الى جذعها وزفرت بعمق مغمضة عينيها وهي تهمس في سرها أنه كلما مرّ الوقت تأكدت من صواب قرارها برفض غيث زوجا لها حتى وإن كانت…..
– مين هناك؟
انتفضت سلافة من وقفتها وفتحت عينيها متلفتة حولها لتستطلع مصدر الصوت الذي تعلم صاحبه جيّدا, كيف لا وهو من كان يشغل تفكيرها حالا!!
خرجت سلافة الى دائرة الضوء وقالت بصوت هاديء بينما يقف غيث على مسافة غير بعيدة منها وهي تجيب بهدوء:
– أنا يا غيث…
عقد غيث جبينه وتقدم منها بضعة خطوات حتى وقف على مقربة منها وتساءل بحيرة قاطبا:
– سلافة؟, غريبة!, ايه اللي امصحيكي لدلوك؟, وكيف تجفي لوحديكي في الجنينة إكده؟
سلافة بزفرة خانقة:
– ما جاليش نوم يا غيث قلت أتمشى شوية, ما حاصلش حاجة يعني…
تكلم غيث بإصرار:
– كيف ما حوصلش حاجة؟, ميت مرة أفهّمِك انك ماعينفعشي توجفي لوحديكي في وجت زي دِه, انتي ما عاوزاشي تسمعي الكلام ليه؟
وكأن غيث بحديثه هذا قد فتح أتون غضبها ليفلت من عقاله فتقطع الخطوات الفاصلة بينهما وتقف أمامه هاتفة باشمئزاز بالغ وكأنها تبصق الكلمات:
– عشان عاداتكو وتقاليدكو صح؟
غيث بحيرة لا يفهم سبب انفجارها:
– إيوة بس…
لتقاطعه باسطة يدها وهي ترفعها أمامه هاتفة بحدة:
– بس خلاص مش عاوزة أسمع حاجة تاني, تأكد اني من هنا ورايح مش هعمل أي حاجة تخالف عاداتكم وتقاليدكم العظيمة..
سكتت قليلا لتنظر اليه بقوة متابعة:
– عارف ليه؟..
لم تنتظر سماع جوابه وأجابت بتحد:
– لأني مش هكون موجودة عشان أسيء لعوايدكم العليا, عن إذنك!..
لم تبتعد سوى خطوتين اثنين قبل أن يعلو صوته وراؤها هذه المرة آمرا اياها بالوقوف!, ليتقدم منها ويقف أمامها متسائلا بغلظة وتقطيبة عميقة بين حاجبيه فيما يطرق القلق جوانحه بقوة عن معنى عبارتها الأخيرة التي رمتها في وجهه بكل تحد:
– جصدك إيه مش هتكوني موجودة؟
عقدت سلافة ذراعيها ورفعت ذقنها الصغير لأعلى دليل التحد لتجيبه بقوة:
– يعني ماشية, مش هستنى هنا أكتر من كدا, خلاص الأجازة طوّلت أوي ولازم تنتهي!
وكأنها مدت يدا من حديد لتنتزع قلبه بقسوة وجبروت وهي تخبره بلامبالاة متناهية عن عزمها على الرحيل و… تركه!
ولكنه يكون ملعونا لو سمح لها بتنفيذ ما رمته في وجهه, ليأتي دوره هو هذه المرة ليجابهها بمنتهى الصلف والغرور وهو يهتف بقوة بينما لمعة عيناه تأسران نظراتها فلا تستطيع الإشاحة جانبا:
– ومين اللي جال أنك هتعملي التخريف اللي بتجوليه دِه؟, مين اللي هيسمح لك أساسا إنك تتحركي خطوة واحدة بس من مُطرحِك؟!
نظرت اليه باستنكار وهتفت محتدة:
– ليه ان شاء الله؟, هو سجن؟!, وبعدين أنا بابا بس هو اللي يقدر يوافق أو يرفض غير كدا ما اسمحش لأي شخص إنه يتدخل في شيء يخصني…
ليميل غيث ناحيتها ناظرا بتركيز شديد في ليل عينيها البهيم وهو يشدد على كلماته ليضمن فهمها لها جيدا:
– بس أني مش أي حد, أني ولد عمك.. وزوجك!..
همت بمقاطعته عندما أردف:
– عارف هتجولي انك مش موافجة لكن أنا بجولك أنا اتجدمت لك وعاوز أتزوجك ولغاية ما أسمع موافجتك رجلك مش هتخطي شبر واحد بعيد عن إهنه… أظن واضح؟
خانتها الكلمات وهي تطالعه في ذهول غير مصدقة لما سمعته آذانها قبل أن تتحدث بتلعثم والحروف تتعثر على لسانها من فرط دهشتها:
– إنت.. إنت بتـ… بتقول ايه؟, انت اتجننت أكيد!..
لينفلت لسانها من عقالها بعد ذلك وهي تهتف بغضب ناري جعل عينيها تبرقان كسماء مرعدة في ليل شتوي غاضب:
– لكن هنتظر ايه منك؟, اذا كانت أختك اترمت تحت رجليكم وتبوس ايديكم انكم ترحموها وما ترموهاش لأبن عمكم وما اهتزتش فيكم شعرة, يبقى اللي انت بتعمله دلوقتي دا المفروض ما يدهشنيش, كل يوم بتأكد ان رفضي لارتباطنا كان صح مليون في الميّه!
تحدث غيث بهدوء ينذر بالخطر بينما تطايرت ألسنة اللهب من فحم عينيه المشتعل وهو يجيب:
– اللي حوصل انهاردِه ما يخصيكيش جد ما يخصّني أني واخويْ, سلسبيل أختنا من لحمنا ودمنا, وليث عم اعيالها وولد عمها هيجدر يصونها ويراعاها, هي ما هتجعدشي العمر كله تبكي على راضي الله يرحمه, سلسبيل لساتها اصغيرة وجودامها العمر كله, لكن لأنك مخّك إصغيّر حاكمت وأدانتي من غير ما تسمعي ولا تستفسري, أني كان ممكن ما أبررشي حاجة, لكن أنا جولتلّك يمكن تجدري تفهمي سبب اللي بوي وجدي عِملوه انهرده ايه, ومع إنها أول مرة أبرر نفسي لكن هجولك.. أنا اتحدت مع سلسبيل جبل شويْ, كانت منهارة مش هجدر أنكِر.. لكنها عارفة انه بوها وجدها مش رايدين غير مُصلحتها, وسيبتها تفكِّر.. هما كلمتين اللي جولتهوم لها.. هي عارفة ان بوها مش عيسيبها إكده من غير زواج.. ولو حوصل واتزوجت.. ليث وعمي عدنان مش هيجبلوا حد غريب إيربي اعيالهم, يبجى تتزوج عمهم ويتربوا وسط بيت بوهم وحضن عمهم اللي هيبجى حنين كيف راضي الله يرحمه عليهم, ولا ترفض وتركب راسها وهي عارفة ومتوكدة انها مسيرها هتتزوج يعني هتتزوج بس المرة ديْ هتتحرم من اعيالها, وسيبتها تفكّر في كلامي زين…. وأجدر أجولك انها هتوافج.. لأنها في الأول والآخر أم.. ماعاوزاشي تبعد عن ضناها!!
سكتت تراقبه وهو يطالعها بنظرات غضب ممزوجة بخيبة أمل لا تعلم لما قرصها قلبها لها؟!, تابع بصوت بارد:
– وأأكد لك انها هتوافج… ولوما إني اتكلمت امعاها وفهّمتها كانت زمانها في انهيار كيف اللي جالها بعد وفاة راضي الله يرحمه, يعني يا بنت عمي يا بنت مصر عوايدنا وتجاليدنا اللي مش عجباكي ديْ في الاول والاخير يهمها مصلحة بتّها, احنا بنفكّر لجودام مش فرض راي ولا هي لوي دراع ولا حاجة, عوايدنا اللي مش عاجباكي أول واحد كسرها كان عمي رؤوف.. بوكي.. ولمّن رجع لجى جلوبنا ودراعتنا مفتوحاله ومن غير مجابل.. يا.. بت عمي!
واستدار مبتعدا بخطوات قوية لتفيق سلافة من شرودها في كلماته وتلحق به حتى قطعت عليه الطريق وهي تهتف بيأس وترجي وعينيها لأول مرة يظهران ضعفا لم يسبق لغيث أن شاهده عليها قبلا:
– غيث.. أنا.. أنا آسفة, غيث أرجوك ما تضايقش من كلامي, بس.. بس أنا مش قادرة أنسى منظر سلسبيل وهي بترمي نفسها تحت رجليكم وتبوسها وهي بتترجاكم بلاش الجوازة دي!
زفر غيث بيأس مغمضا عينيه ليفتحهما ناظرا اليها وكأن عيناه تسألانها ماذا يفعل بها؟, بينما طالعته بنظرات حائرة مشتتة وهي تردف برجاء وقد تشبثت أصابعها بمقدمة ثوبه بدون شعور منها:
– أرجوك يا غيث بلاش تجبروها على حاجة هي مش عاوزاها, أصعب شيء لما أقرب ناس ليها اللي فاكراهم ضهرها هما اللي يكسروها, بلاش تكسروها يا غيث.. أرجوك!..
أغمض عينيه ليزفر عميقا ثم فتحهما وهو يطالعها بنظرات لا تعلم لما أشاعت الاضطراب في دقات قلبها والتي علت صوتها حتى خُيّل إليها أنه ولا بد قد سمعها, تحدث وهو يمسك لا شعوريا بأصابعها النحيلة الهشة بين أصابعه القوية وقد غُلف صوته بنبرة حنان لم تألفها منه:
– سلافة.. سلسبيل أختي الوحيدة, دِه نوارة البيت دِه, ما كانش حد فينا يجدر يرفض لها طلب جبل ما تتزوج, ولحد دلوك, بس أنا فهمتك ليه أبوي وجدي مصرِّين على زواجها من ليث, وحاجة كُمان أنا واثق ومتأكِّد إن ليث هيشيلها في عينيه, ما تتصوريش هو بيحب عيال المرحوم كيف, اطمني يا سلافة, بس اللي برجوه منّيِكي انك تهدّيها, افهميني يا بت عمي, آخر حاجة أجبلها اني أكسر أختي.. شجيجتي!
وسكت… لتتابع حديثهما العيون, فتتيه عيناه بين سرمدي عينيها لتعلو دقات القلوب وتتهدج الأنفاس, وتنتبه سلافة ليدها الصغيرة وهى تقبع داخل راحته العريضة بأمان وكأنها قد وجدت فيه ملاذها الآمن فتسحبها بارتباك دفع بحمرة الخجل الى وجهها لتلون وجنتيها, وتقطع حبل الاتصال بين أعينهما مشيحة بوجهها جانبا, ويكون غيث أول من يقطع الصمت المحيط بهما كالشرنقة قائلا بصوت متحشرج محاولا استعادة هدوءه الذي تبعثر بين جفونها الناعسة:
– ممكن تجاوبيني بصراحة يا بت عمي؟
أومأت في صمت فتابع:
– إنتي رافضة عشان الموضوع اللي اتحدتنا فيه جبل سابج عن تارنا اللي خدناه بيدنا ولا عشان ما انى عيشتي كلها اهنه في البلد؟, وانتى خابرة انى يستحيل أهمِّل بيتي وأرضي واهلي وناسي وأعيش في مصِر, ولا يمكن إكمن لغوتي واللبس اللي بلبسه ما عيلدوش عليكي؟
رفعت سلافة ناظرة اليه بتركيز وهي تجيب بثقة وهدوء:
– هجاوبك بصراحة يا غيث, وصراحة شديدة كمان, أولا أنا مش بنت تافهة مش بيهمها غير الشكل واللبس وطريقة الكلام وبس.. لأ!, وبعدين مين قال اني مش بحب البلد, انا لو ما كنتش بحبها ما كنتش استحملت فيها يومين مش داخلين على اكتر من خمس شهور تقريبا, انت عارف إني بشتغل في شركة أجنبية, طبعا الاجازة طويلة جدا, ولأن علاقتي معهم كويسة.. اتفقت معهم إني أعملهم الشغل كله من هنا على النت, والظروف خدمتني لأن القسم اللي أنا بشتغل فيه سهل أوي أني أرتب أموري وأخلص شغلي كله بالكمبيوتر وأبعته على ايميل الشركة, لو ما كنتش مرتاحة كنت قطعت الأجازة ورجعت.. ايه اللي هيمنعني؟, وبابا كان هيوافق عشان ظروف شغلي, ما كنتش اهتميت إني أرتب أموري بحيث أني أشتغل من هنا, دا أولا.., ثانيا بقه….
سكتت قليلا بينما يطالعها في تساؤل وقلق من اجابة سؤاله الثاني عن ملبسه ولهجته, ارتسمت ابتسامة طفيفة فوق شفتيها الكرزتين وهي تردف:
– انت عارف أني متعلقة ببابا جدا؟, أنا كنت أعرف انه من الصعيد, ما كانش بيحكي لنا عنكم بصورة مباشرة بس كان بيكلمنا دايما عن عادات بلده وعن أهلها وناسها لغاية ما شربنا حب البلد دي زيّه تمام, ولما قال لنا اننا لينا أهل والمفروض نيجي عشان نشوفكم كنا متحمسين جدا لكدا, نفسنا نشوفكم على الطبيعة, وأنا بالذات كنت عاوزة أعرف يا ترى الحكايات اللي كان بابا بيحكيها لنا واحنا صغيرين دي حقيقة ولا لأ؟, لما شوفتك بالعباية والعمة أول مرة حاسيت أني قودام عمدة بس شاب, بهرتني بجد, تمسكك بلهجة بلدك وانك لازم تكون مع أهلك وناسك وخصوصا أن أنت كبير عيلتك بعد والدك وجدي خلّاني أحترمك أكتر, عشان كدا يا غيث عمر ما لبسك ولا لهجتك ولا حتى حياتك هنا في البلد ما هتكون سبب لرفضي أبدا, بالعكس.. أنت امتداد لبابا في نظري, انت بتحقق لي الصورة اللي رسمتها في خيالي من وانا طفلة على حكايات بابا للصعيد ولأهله ولناسه, بحس إن بابا لو كان قعد هنا كان هيبقى شبهك تمام دلوقتي, بس أنا زي ما قلت لك قبل كدا.. على قد ما أنا اللي يشوفني يفتكرني متسرعة وعصبية وانفعالية لكن دا – ورفعت سبابتها مشيرة الى عقلها – فيه نقط معينة بيشتغل وجامد جدا, وارتباطنا صدقني حواليه علامات استفهام كتير, وأهم حاجة فيه إن رأينا مش واحد في الحاجات الأساسية اللي هي القاعدة اللي بيتبني عليها حياتنا بعد كدا, فهمتني يا غيث؟..
زنظرت اليه برجاء ويأس ليفهمها, بينما لم يستطع غيث وصف شعوره وهو يسمعها تتحدث بهذا الشغف الذي لمس صدقه بين نبرات صوتها عن والدها وعن ولعها ببلدها من قبل أن تراها, ولكن.. تظل العقبة الوحيدة… عقلها!, ترى ما الحل؟, ولكنه لن ييأس وإن كان ارتباطهما يخالف أوامر عقلها فهو كفيل بأن يُفقدها هذا العقل لتصبح طوع بنانه بعد ذلك, وسيبدأ منذ اللحظة!!…
مال عليها تائها في ليل عينيها البهيم وتحدث بصوت متهدج من فرط توقه لاحتوائها بين ذراعيه ليجعلها تلمس وعن قرب بل وتتأكد كيف أن ارتباطهما هو الأمر الصائب الوحيد الذي عليهما فعله قبل أي شيء آخر, قال وأنفاسه الساخنة تضرب وجنتيها المرمريتين:
– إديني فرصة يا سلافة وأني هثبت لك اننا احنا التنييين بنتحدت لغوة واحدة, واننا بنفكر زي بعض, انتي ما عتصدجنيش دلوك لكن الأيام هتثبت لك كلامي دِه, وافجي على خطوبتنا وجربي.. صدجيني مش هتخسري حاجة, مش هما بيجولوا انه الخطوبة دي فترة تعارف؟…
أومأت بالايجاب فواصل بأمل في اقناعها خاصة وأنها لم تعارضه والتزمت الصمت التام:
– يبجى نعملو كتب كتاب كيف شهاب وسلمى جولتي ايه؟
لتفيق من ضياعها في عينيه وبين همسة شفتيه هاتفة:
– لا…
قطب فأردفت تشرح وجهة نظرها:
– أرجوك يا غيث… كفاية خطوبة بس, مش هقدر كتب كتاب, أرجوك افهمني…
جاء وقت غيث ليهتف هو بها من أعماق قلبه وهو يميل عليها لتضربه أنفاسها الدافئة فتشعل نارا في أحشائه لا سبيل لإطفائها إلا بها هي وحدها:
– أرجوك انتي اللي تفهميني يا سلافة, أنا ما أجدرش تكوني خطيبتي وبس, صدجيني… عاوز الحواجز اللي بيناتنا تنجص, لو مكتوب كتابنا هجدر أتعامل امعاكي براحتنا لكن خطوبة إكده.. هيبجى لسّاتو فيه حاجز بيناتنا..
سلافة في محاولة منها لصد هجومه العاطفي الذي يكاد يغرقها به, وهي تراه في عينيه وتسمعه في نبرات صوته.. هو لن يكتفي بخطبة أو عقد قرآن.. بل إنها تكاد تقسم أنه سيتمم زواجهما الى آخره.. مهما كان قرارها النهائي, ومن سخرية الموقف أنها تعلم يقينا أنه يصيبها ضعف من نوع غريب لم يسبق لها وأن اختبرته قبلا ما إن يرتبط الموضوع بغيث, تماما كما يحدث الآن, فهي كانت قد قررت الرفض ونهائيا, ولكن ما حدث عكس ذلك, فقد أقنعها بأن توافق على الخطبة لتمنح نفسيهما الفرصة للتأكد من صحة ارتباطهما من عدمه, ولكنه يتحدث الآن وبعد ثوان من موافقتها على الخطبة ويطلب منها الموافقة على عقد القرآن!, بل إنها تكاد تقسم أنه ما إن يمر خمس دقائق أو أقل فإنه سيعمل على إقناعها بالزفاف!!!!, شدت من أزرها وأجابت بعد أن رطبت شفتيها بطرف لسانها الوردي ما جعل غيث يسمّر نظراته على شفتيها النديتين:
– معلهش يا غيث, خليها خطوبة بس, وبعدين يا سيدي الموضوع في إيدينا لو حبينا نكتب في أي وقت أعتقد عمي وبابا مش هيمانعوا… ايه رأيك؟
سعل غيث ليجلي حنجرته وأجاب بصوت خشن بينما عيناه تراقبان تحرك شفتيها مما جعل الدماء تسير ساخنة في عروقها كالعسل الدافيء وشعرت بنظراته وكأنها… تحتوي شفتيها في قبلة عميقة… داااافئة!!, قال غيث:
– وهو كذلك يا سلافة, هخليها عليّ المرة ديْ..
ابتسمت ابتسامة صغيرة وهمست له وهى تنظر اليه بعينيها الكحيلتين:
– تمام يا غيث, انا هبلغ بابا بموافقتي, ودلوقتي أقولك تصبح على خير…
ثم انصرفت سريعا من أمامه بينما تمتم رادًّا بتحية المساء عليها وهو يضرب رأسه بجذع الشجرة بجواره بخفة بينما يلاحق طيفها الغارب بنظراته المشتعلة وهو يهمس بعذاب:
– واني هيجيلي النوم الليلادي واصل!, طول ما نفسك في البيت امعاي وبعيدة عن يديّْ مش هعرف أدوج طعم الراحة واصل…
ثم رفع عينيه الى السماء مردفا من أعماقه:
– الصبر يا رب…….
************************
نظرت سلسبيل الى والدتها الراقدة فوق فراشها وتنهدت بحزن, فشجار والديها قد أنساها مصيبتها الوشيكة بزواجها من ليث, لا تصدق ما أخبرتها به والدتها من أن والدها أمرها بمغادرة غرفته الخاصة وأن اقامتها في هذا المنزل ما هي إلا إقامة مؤقتة الى أن يتم زواجها وشقيقيها ثم تغادر الى منزل أخيها عدنان والى غير رجعة!..
شعرت سلسبيل أنها بين نارين فمن جهة هي تشفق على والدتها وما آل اليه حالها ومن جهة أخرى فهي تلتمس بعض العذر لوالدها فوالدتها لا تخفي كراهيتها العميقة لعمها وعائلته الأمر الذي يدهشها هي, لقد تقربت منهم وعرفتهم جيدا خاصة بعد مُصابها الأليم في زوجها, لم يتركها أيّ من زوجة عمها أو ابنتيها بل لقد تدخلت سلافة من أجلها ومنذ سويعات قليلة محاولة منع هذا الزفاف الكارثة غير ملتفتة لغضب رجال العائلة من تدخل سافر من إحدى فتياتهم!..
حاولت الحديث الى والدتها قائلة بحنان:
– أمايْ.. أعمل لك كوباية لمون تروّج دمك؟
لم تلتفت راوية الراقدة على جنبها الأيمن الى ابنتها وأجابت ببرودة مغلفة بحزن مرير:
– ماعاوزاشي حاجة, روحي دار اعيالك وهمّليني لحالي..
زفرت سلسبيل بيأس ونهضت من جوارها متجهة الى الخروج عندما تعالت طرقات هادئة فسارعت لفتح الباب لتطالعها هيئة شقيقها الأكبر غيث وهو يسألها بهدوء عن والدتهما…
أفسحت له سلسبيل الطريق ليدخل ثم نظرت اليه وقالت وهي تمسك مقبض الباب:
– حاول امعاها يا غيث يا خوي, ما راضياشي لا تاكل ولا تشرب, انا عند اصغاري لو عاوز حاجة نادم عليّ…, وخرجت موصدة الباب خلفها..
تقدم غيث حيث والدته التي اعتدلت جالسة في الفراش, جلس بجوارها ومال عليها مقبلا رأسها وهو يقول بحنانه المعهود عليها:
– مالك يا ست الحبايب, انتي تايه عنيك الحاج عتمان ولا إيه؟, كلام جالو في ساعة غضب…
رفعت راوية عينان تقدحان شررا وهمست بغضب:
– ساعة غضب!, يبهدلني ويزعِّج لي جودامكم كلياتكم وجدك يسخنه علي وتجولي ساعة غضب وما جاصدش؟, جوم يا غيث روح دارك وهمّلني عاوزة أنعس اشويْ..
تكلم غيث بهدوء:
– ما هو انتي كمان يا أم غيث غُلطت ما تواخزنيش يعني, اني بدي أفهم ليه رافضة بنات عمي؟, زينين ومتعلمين وفوج كل دا بنات عمنا يعني لحمنا ودمنا واذا كان سلوِنا وعوايدنا ان البت ما تتزوجشي إلا ولد عمها يبجى رافضة ليه؟
هتفت راوية بغضب:
– كول اللي حوصل دِه ومعرفشي ليه مش رايداهم؟, دا كفاية أولكشي خلوا بوك يطردني من مُطرحي, كل دِه عشان جولت ما عاوزاهومش لولادي؟,,
غيث محاولا امتصاص غضب والدته:
– يا أم غيث سبج وجولت لك طريجتك هي اللي خلّت بوي يجول ويعمل إكده, من ميته حد فينا بيرفع صوته ولا عينه حتى في بوي ولا في جدي, لكن كرهك ليهم اللي اني معرفلوشيْ سبب هو اللي خلّاك تزعجي في وجه جدي…
راوية بنصف عين وبحنق وحدة بالغين:
– ولساتني ما عاوزاهومشي, وهكون غضبانه عليك انت وخوك لو طاوعتو جدكم وكملتو زواجة الشوم ديْ!
زفر غيث بيأس وهتف حانقا:
– طب جوليلي سبب واحد لرفضك دِه, وصدجيني لو اجتنعت بيه أني بنفسي هجنع شهاب وهنشيل الموضوع من دماغنا واصل, بس أفهم!
سكتت راوية قليلا ثم طالعته بجدية بالغة وأجابت:
– أني أمك ولازمن تسمع كلامي, نعرفهم من فين بنات عمك دولم ها؟, غايبين بجالهم سنين وسنين ومرة واحدة شوفناهم لا هم متعودين على طبعنا ولا عوايدنا ولا سِلْوِنا, شوف طريجة لبسهم كيف ولا دلعهم الماسخ, بنات متجلعين إكده وماعينفعوكوش, أني أمكو وأني أدرى بصالحكو….
غيث بجدية:
– وان جولت لك اني أني وشهاب رايدينهم؟, وان احنا واسجين في تربية عمنا ليهم, ولو على طبايعنا مع الوجت هيتعودوا عليها…
راوية بحسم:
– غيث هي كلمة واحدة انت وخوك تجولوا لابوكو انكو غيرتوا رايكم ومعاوزينهومش!!
نهض غيث ناظرا الى والدته بأسف وهمس:
– وأني مش هكدب, أني وشهاب رجالة يتشد بينا الضهر وما احناشي اصغيرين عشان نرجعو في كلامنا ونجصّر رجبة بونا جِدام خوه, زواجنا من بنات عمنا هيتم كيف ما الحاج عتمان اتفج مع عمنا, وياريت تحاولي تجربي منيهم وتعدِّيهم كيف سلسبيل وصدجيني هتلاجيهم غير ما انت متصورتهم!
أومأت راوية وقالت ببرودة ونظرها مسلط الى البعيد:
– ماشي يا غيث, هملني دلوك تعبانه وعاوزة أنعس…
مال عليها مقبلا رأسها واتجه بخطوات واثقة الى الخارج, وما أن أغلق الباب خلفه حتى لمعت عينا راوية بشر دفين وهمست بصوت خرج كالفحيح من بين أسنانها:
– ماشي يا ألفت.. عاوزة تاخدي ولادي مني كيف ما اخدت الحاج والحاجة وحتى زوجي في صفك وجبلهم ولد عمي… لكن ما هنولكيشي اللي ببالك… ما كونشي راوية إما خليتك تندمي ع اليوم اللي طبِّيتي فيه البلد برجلك انتي وبناتك دولم!
ليسطع بريق الغضب والكره والحقد في سواد عينيها والذي يضاهي سواد قلبها!!..
********************
دلفت سلمى حيث يجلس شهاب في انتظارها بغرفة الجلوس حيث أخبرها والدها بحضوره ورغبته بالتحدث معها, حاولت سلمى عدم إظهار دهشتها وتركت والدها برفقة سلافة يستفسر منها عن موافقتها على طلب غيث والذي أبلغه بها الأخير!!
رفع شهاب رأسه ما إن شعر بتغير ذبذبات الجو حوله وعلم أنها قد حضرت قبل أن تقع عيناه عليها, نهض من مكانه ورحب بها, قالت سلمى:
– ازيك يا شهاب, بابا قال انك عاوزني؟
وجلست مشيرة له بالجلوس بالمقابل ولكنه لم يجبها ولم يلبي طلبها له بالجلوس, وبدلا من ذلك نظر اليها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها متفحّصا ثيابها المكونة من بنطال قطني باللون الأصفر يعلوه بلوزة حريرية بيضاء اللون مرقطة بنقاط صفراء زاهية, وقد رفعت شعرها بطوق للشعر أبيض اللون, تحدث بهدوء لا يفصح عما يمور بداخله من انفعالات:
– انتي كنت بلبسك دا انهرده في العيادة؟
نظرت الى ثيابها ثم أومأت مجيبة بدهشة:
– أيوة, ليه؟, فيه حاجة؟
كتم شتيمة كادت تفلت من بين شفتيه وهتف وهو يشير بسبابتها اليها:
– انتي مش فاهمه فعلا ولا بتستعبطي؟
هبت سلمى واقفة وهي تهتف به بالمقابل رافعة سبابتها في وجهه بتحذير:
– شهاب.. خلي بالك من كلامك, أنا أرفض طريقتك دي في الكلام!
شهاب مقلدا لها بسخرية:
– شهاب.. أنا أرفض طريقتك دي!..
ليتابع بصوته الخشن وقد بدأ الغضب يعلو بداخله حتى بدا كالمرجل الذي يوشك على الفوران:
– وأنا أرفض يا ست هانم طريقة لبسك دي!, انتي مش واخده بالك انك في بلد في الصعيد ولا ايه؟, يعني المفروض البنطلونات والحاجات دي ما تتلبسش!
أجابت سلمى ببرودة حاولت تغليف صوتها بها بينما هي تريد الصراخ به ناعتة اياه بالغباء المطلق:
– أظن دي طريقة لبسي من ساعة ما جيت البلد.. ايه اللي جد دلوقتي؟..
اقترب منها بضعة خطوات حتى وقف على بعد بوصات منها ومال برأسه تجاهها مجيبا:
– اللي جد انك بقيتي مراتي, قبل كدا ما كنتش أقدر أعترض على لبسك ولا طريقتك, لكن من ساعة ما فاتحتنا اتقرت وبقيتي شايله اسمي يبقى حقي اني أتدخل وأتدخل كمان!
هزت سلمى برأسها وابتسامة ساخرة تعلو شفتيها الورديتين قبل أن تنظر اليه وقد عقدت ذراعيها أمامها وأجابت بلا مبالاة:
– والله حكاية ان لبسي دي مش عاجباك مشكلتك مش مشكلتي!, أنا كدا ودي طريقتي ودا لبسي ومش هغير من أي حاجة فيّا عشان أعجب سيادتك- ثم تابعت بهزة لا بمالاة من كتفيها- ولو مش عجباك احنا لسه ع البر, الموضوع كله يدوب قراية فاتحه..
ما إن أنهت عباراتها حتى شهقت عاليا فقد فوجئت بشهاب وهو أمامها تماما يميل عليها ناظرا بعمق في زيتون عينيها وهو يقول بغضب ناري:
– انسي خالص حكاية لسه ع البر دي, انتي وافقتي عليا وأنا بلزمك بالموافقة دي, وطالما ما صدرش مني حاجة وحشة أو في أخلاقي يبقى تنسي اننا نسيب بعض, ودلوقتي اتفضلي اقعدي عشان عاوزك في موضوع مهم…
جلست على الأريكة خلفها حيث أشار وهي كالمنومة فقد هالها حالة الغضب التي تلبسته ما أن نوّهت باحتمالية فض ارتباطهما, لا تدري لما تسارعت دقات قلبها بالقفز ترى هل هو فرح الأنثى لتمسّك خاطبها بها أم.. خوفا وقلقا مما هي مقدمة عليه خاصة وقد اكتشفت لتوها أنها لا تعلم بعد من هو شهاب حقيقة؟!..
تحدث بهدوء بعد أن زفر بعمق ليجلب الهدوء الى نفسه:
– احنا ما اتكلمناش في الشبكة, عمي قال ان الشبكة دي هديتي ليكي لما والدي فاتحه, فكنت عاوز نتفق على يوم ننزل فيه سوا ننقي الشبكة…
بلعت سلمى ريقها ونظرت اليه تجيبه ببرود:
– زي ما بابا قال, هو قالك انها هديتك وأنا موافقاه.. وأعتقد ما فيش حد بيختار هديته؟!
أغمض عينيه يعد في نفسه من واحد الى عشرة, ثم فتحهما ناظرا اليها تلك الفاتنة الباردة التي ستتسبب في اصابته بأزمة قلبية لا محالة ان استمرت على برودها هذا!, تحدث محاولا تصفية الاجواء بينهما:
– بس أنا أفضل انك تختاريها بنفسك, افرضي اخترت حاجة ما طلعتش على زوقك أو معجبتكيش؟!
كتمت سلمى دهشتها من منطقه, فهو يريدها أن تنتقي هي شبكتها بنفسها لتكون على ذوقها هي فلا تضطر الى ارتداء شيء لم ينل رضاها, جلب هذا المعنى الذي توصلت اليه الابتسامة الى شفتيها وأجابت بأول ما تبادر الى ذهنها بتلقائية شديدة:
– ما تخافش, هديتك مهما كان ذوقها فأنا متأكده انها هتعجبني, الهدية في معناها مش في تمنها…
اقترب منها في جلستهما فوق الاريكة ليجيب بصوت أجش بينما تاهت نظراته وسط بركتي الزيتون خاصتها:
– بقولك ايه؟
همهمت بخفوت وقد أسر عيناها برماديْ عينيه:
– امممم…
ليتابع وقد خرجت أنفاسه ساخنة لاهثة تلسع بشرتها الحليبية:
– ما تخلّيه فرح مع سلسبيل وليث أحسن؟.
هربت بنظراتها بعيدا وقد امتقع وجهها خجلا وقالت بتلعثم:
– لا.. لا طبعا, ما.. ماينفعش, وبعدين ما تنساش انك حاطيتني قودام الامر الواقع في موضوع كتب الكتاب دا, احنا اتفقنا كان على خطوبة بس..
ابتسم شهاب وأجاب ونظراته مسلطة على ثغرها الوردي:
– معقولة فرصة جات لي أضمن تكوني فيها مراتي وأضيّعها؟!
لترميه بسهام عينيها عندما رفعت نظراتها اليه متفاجئة من قوله, فتصيب قلبه في مقتل!, وتجيب غير واعية لما أحدثته في نفس القابع أمامها يمنع نفسه بصعوبة بإسكات هذا الفم المثير بقبلة يكاد يفنى في سبيلها ليتذوق رحيق هاتين الشفتين:
– ردودك جاهزة يا باش مهندس…
ابتسم شهاب ابتسامة واسعة أكسبته جاذبية رجولية مهلكة جعلت قلبها يفقد دقة من دقاته وأجاب وهو يميل عليها لتشتم رائحة عرقه الخاص ممتزج بعطره ليكون مزيجا مثيرا أشاع الفوضى والاضطراب في سائر أطرافها:
– صدقني كلامي مش أنشا ومستعد أثبت لك حالا!
قطبت جبيتها وسألته بريبة:
– تثبت لي!, أزاي يعني؟
أشار برأسه الى شفتيها وهو يقول:
– أمضي على كدا!
قطبت محاولة فهم عبارته وما إن انتبهت لاتجاه نظراته الى فمها حتى شهقت عاليا وهتفت بحدة وهي تحاول القيام من جانبه:
– انت هتثبت فعلا… بس اللي هتثبته انك وقح وعن جدارة!
لتقف مبتعدة عنه بينما صدحت ضحكته عاليا فتتغير تقاسيم وجهه ويصبح أصغر من سنواته التي تقارب الثانية والثلاثون, نهض متجها إليها وقال:
– ماشي يا بنت عمي, مش هحاسبك دلوقتي على كلامك دا, بس صدقيني.. وعد مني أوريك الوقاحة بجد أول ما نمضي قسيمة الجواز, ودلوقتي مضطر أمشي عشان مسافر أسيوط في شغل واحتمال أرجع بكرة..
تمتمت:
– بكرة؟, يعني مش هترجع انهرده؟
غمزها بخبث ومال ناحيتها وهو يتسائل بمكر:
– ايه.. هوحشّك؟
لتقطب زافرة بحنق وتتجه الى الباب وتقف قائلة ببرود:
– شرفت يا باش مهندس…
اتجه ناحيتها بخطوات وئيدة ومال عليها فيما هي مشيحة بوجهها جانبا وهمس بجانب أذنها:
– مع السلامة يا حبيبي.. ها؟, الواحدة بتقول لجوزها كدا, مش تديلو وش خشب زي كدا؟
شهقت معترضة والتفتت اليه هاتفة:
– ها؟, وش خـ…
ليعاجلها بقبلة سريعة فوق وجنتها وينصرف في أقل من طرفة عين تاركا إياها وقد تسمرت مكانها وهي تتمتم:
– مجنون.. وأحلف على كدا كمان!..
*****************
– يا بنتي فهميني لازمتها ايه سفرك معايا؟
أجابت سلمى وهي تركز نظراتها على الطريق الممتد أمامها بينما تجاورها سلافة في سيارتهما في اتجاههما الى القاهرة:
– انت مش بتقولي عندك شغل في مصر لازم تسلميه بإيدك؟, وأنا خلصت شوط كبير في الرسالة وفرصة الدكتور يشوفها..
نظرت اليها سلافة بنصف عين وقالت:
– مش عارفة ليه يا سوسو حاسة انك مخبية عليا حاجة!, من ساعة ما شهاب مشي امبارح وانتي مش طبيعية, دا انتي حتى ما قولتلوش على سفريتنا مصر؟!
أجابت سلمى ببرود يخالف العاصفة التي تجيش بداخلها منذ الأمس وتحديدا منذ رحيل شهاب مخلفا اعصار في أحاسيسها ومشاعرها لم يسبق لها وأن اختبرته سابقا حتى مع أحمد:
– ما فيش يا سلافة, بس حاسة انه عامل عليا حصار, ما تلبسيش ما تروحي, وكل شوية يطب عندي في العيادة تعبت خلاص وأعصابي باظت, فرصة أفك شوية وبعدين تعالي هنا هو انتي يعني اللي كنتي قلتي لغيث؟
زفرت سلافة حانقة وأجابت وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها:
– هو أنا لحقت!, أنا يدوب بقوله اني محتاجة أنزل مصر علشان الشغل ودا استلمني.. ليه, وعشان ايه, لو عاوزة تشتغلي اشتغلي في مال جدك أهو مالك انتي كمان, قفلني!, قلت في نفسي أنا غلطانه من الأساس إني بقوله حاجة, ثم انه لسه يدوب قراية فاتحة حتى دِبَل ما فيش!
ابتسمت سلمى وعقبت ساخرة:
– قلتها قبلك يا حبيبتي.. لسه قراية فاتحة.. وأحب أبشّرك ان ولاد عمك قراية الفاتحة عندهم كتب كتاب تمام زي ما بيقول المثل!….
وأكملا رحلتهما الى القاهرة والتي وافق بصعوبة والدهما أن يقوما بها بالسيارة فكان يحبذ استخدام القطار ولكن سلمى أقنعته بأن السيارة ستوفّر عليهما مشقة الموصلات وسيستطيعان التنقل بسهولة ويسر….
وصلا الى وجهتهما حيث عمل سلافة وبعد أن رحبت بزملائها وزميلاتها وأنهت ما قدمت من أجله كان لا يزال هناك وقت قبل أن تلحق بشقيقتها التي تركتها متجهة الى مشفاها واتفقا على اللقاء في مقهى قريب من عمل سلافة….
نادت مريم صديقة سلافة عليها وهي تراها تتجه الى المصعد في طريقها الى الأسفل:
– سولي.., سلافة..
استدارت سلافة الى مصدر الصوت وابتسمت بترحيب فيما أقبلت عليها مريم تعانقها:
– مريومة وحشتيني فينك يا وحشة؟
أجابت مريم بابتسامة شعرت بها سلافة وكأنها تخفي وراءها همّا كبيرا:
– موجودة حبيبتي, انتي اخبارك ايه؟
تمتمت سلافة بالحمد لله فواصلت مريم وهي تتلفت حولها:
– بقولك يا سولي.. كنت عاوزاكي في موضوع كدا…
أجابت سلافة قاطبة جبينها:
– انا رايحه دلوقتي كوستا استنى سلمى, تعالي معايا نشرب كابوتشينو ونتكلم…
بعد أن استقر بهما المقام وطلبا قدحين من القهوة الايطالية ذات الرغوة الكثيفة, أولت سلافة انتباهها الى مريم قائلة:
– اتفضلي يا ستي كلي آذان صاغية..
أجابت مريم:
– الاول عاوزة منك وعد ان الكلام اللي هقولهولك دا يبقى سر بيننا ما يطلعش غير في حالة واحده بس…
قطبت سلافة وقالت:
– وأنا من امتى بطلع سر برّه يا مريم؟, عموما يا ستي لكي وعدي بكدا, بس حالة إيه اللي مسموح لي أطلع فيها سرك برّه دي؟..
سكتت ثم تابعت بفكاهة:
– اوعى يكون زي الافلام بتاعتنا… لو جرالك بعد الشر حاجة؟!
لتنظر اليها مريم بجدية جعلت ضحكتها تموت فوق شفتيها وهي تجيب بمنتهى الجدية:
– تمام يا سلافة.. هو كدا!, الحالة الوحيدة فعلا أنه يجرالي حاجة…
قطع النادل حوارهما الدائر واضعا أقداح القهوة وقطع الكعك المحلى بالشوكولا فوق الطاولة الدائرية التي تتوسط جلستهما قبل أن ينصرف, فتابعت سلافة متسائلة بحيرة وقلق:
– فيه ايه يا مريم قلقتيني؟
فتحت مريم حقيبتها اليدوية وتناولت منها اسطوانة اليكترونية وشيئا صغيرا للغاية يوصل بجهاز الحاسوب لتحميل المستندات وقالت:
– الأول الـ سي دي دا والفلاشة دي تحافظي عليهم زي عينيكي, لو جرالي حاجة الحاجات دي تسلميها للنائب العام.. النائب العام شخصيا يا سلافة!
هتفت سلافة برعب بدأ يغزو أوصالها:
– مريم فهميني فيه ايه؟
رجعت بظهرها الى الخلف مستندة الى مقعدها وأجابت بهدوء لا تشعر بأي شيء منه:
– سامح خطيبي انتي عارفة انه دكتور تحاليل وتخصصه نادر في الأنسجة البشرية, من فترة كدا لاقى شغل في مستشفى استثماري والمرتب بالدولار, كانوا بيطلبوا منه انه يعمل أبحاث متطورة علشان علاج الأمراض المستعصية زي السرطان, كانت فكرتهم انه ممكن الأنسجة المريضة تتاخد من مريض يستحيل شفاؤه ويتعمل عليها أبحاث للوصل لعقار يساعد في علاج المرض, زي متطوعين يعني.. وقالوا له انهم بيدوهم طبعا فلوس في مقابل كدا, طبعا المريض بالمرض دا وخصوصا اللي فرص شفاه معدومة كان بيوافق, هما فهموه كدا.. انه الانسجة دي هتساعد في علاج مرضى فرص الشفا عندهم عالية, لكن للأسف الحقيقة طلعت غير كدا!
قطبت سلافة متسائلة:
– طلعت ايه يا مريم؟
رفعت مريم نظراتها اليها لتجيب بهدوء قاتل:
– تجارة أعضاء!..
شهقت سلمى ملتاعة وهي تكرر واضعة يدها فوق فمها:
– ايه؟, تجارة أعضاء؟!
لتهز مريم رأسها بالايجاب وتجيب:
– للأسف يا سلافة, سامح شك في الموضوع, المريض اللي بييجي علشان ياخدوا منه عينة مثلا من الكبد أو النخاع أو العضو المصاب بالخلايا السرطانية بياخدوا منه بردو أعضاؤه الداخلية السليمة, يعني يكون داخل العمليات عشان عينة كبد يطلع من غير كلية, أو طحال, وهكذا, اللي خلّاه يشك الحاجات المطلوب منه يحللها في الانسجة, حاجات مالهاش علاقة بعلاج سرطان , لا.. دي شروط لازم تتوفر في نقل عضو من انسان للتاني, ومعظم اللي دخلوا رجعوا المستشفى يشتكوا من آلام رهيبة في أسفل الظهر ومنهم مريض صعب على سامح فأخده لدكتور زميل ليه عنده عيادة وبعد الكشف ظهرت النتيجة انه المريض معندوش كلية!, دا غير انه الراجل قاله انه كان داخل يتعالج في المستشفى من تليف في الكبد في القسم المجاني اللي عاملينه عندهم, يعني الموضوع طلع كله نصب في نصب, بياخدوا المرضى على أساس انهم بيعالجوهم ببلاش ويسرقوا أعضائهم السليمة وفي نفس الوقت فهموا سامح وهو المسؤول الأول عن التأكد من سلامة الأنسجة انهم بيدوهم فلوس مقابل دا يعني بمعرفتهم, ومش بس كدا دول كانوا بيعملوا لهم تشيك أب كامل ويصمموا يتعمل تحليل للأنسجة الحيوية اللي في الجسم يعني تحليل كامل للكبد والكلى وجميع الأعضاء الداخلية بحجة التأكد من سلامة باقي الاعضاء وهما بيعملوا كدا عشان تجارتهم الرخيصة..
هتفت سلافة بحدة:
– حسبي الله ونعم الوكيل فيهم..
مريم وقد اغرورقت عيناها بالدموع:
– طبعا سامح بعد ما اكتشف الكارثة دي هدد انه هيبلغ البوليس, وطلع انهم مش ساهلين, وقدروا يلفقوا له تهمة تبديد عهدة وسرقة أدوات معمل كان ماضي عليها في أول شغله وهو بيستلم المعمل, الأجهزة دي تكلف فوق المليون جنيه, واتحكم عليه ب 5 سنين سجن بعد عذاب مع المحامي اللي حاول بشتى الطرق انه يثبت اتهام سامح انهم بيتاجروا في الاعضاء لكن للأسف مافيش دليل واحد, لغاية ما الدليل وقع في ايدي من جوة المستشفى نفسها من ممرضة عندهم شافت وسمعت وللأسف أبوها كان واحد من ضحاياهم, وهما عرفوا وبيطاردوني عشان ما أقدمش الحاجات اللي معايا دي للنيابة, وهددوني بأخواتي وأمي أنت عارفة انها ست كبيرة مالهاش بعد ربنا غيري وأخواتي توأم لسه في ابتدائي
هتفت سلافة بحدة:
– حسبي الله ونعم الوكيل فيهم..
مريم وقد اغرورقت عيناها بالدموع:
– طبعا سامح بعد ما اكتشف الكارثة دي هدد انه هيبلغ البوليس, وطلع انهم مش ساهلين, وقدروا يلفقوا له تهمة تبديد عهدة وسرقة أدوات معمل كان ماضي عليها في أول شغله وهو بيستلم المعمل, الأجهزة دي تكلف فوق المليون جنيه, واتحكم عليه ب 5 سنين سجن بعد عذاب مع المحامي اللي حاول بشتى الطرق انه يثبت اتهام سامح انهم بيتاجروا في الاعضاء لكن للأسف مافيش دليل واحد, لغاية ما الدليل وقع في ايدي من جوة المستشفى نفسها من ممرضة عندهم شافت وسمعت وللأسف أبوها كان واحد من ضحاياهم, وهما عرفوا وبيطاردوني عشان ما أقدمش الحاجات اللي معايا دي للنيابة, وهددوني بأخواتي وأمي أنت عارفة انها ست كبيرة مالهاش بعد ربنا غيري وأخواتي توأم لسه في ابتدائي مالهومش إلا أنا..
سلافة بغضب:
– ايه دا, احنا فين هنا؟
مريم بابتسامة ساخرة:
– في الغابة يا سلافة, للأسف فعلا دنيتنا بقيت غابة, وآخر حاجة كنت رايحه للنائب العام بعد محاولتهم معايا انهم يدوني فلوس ويطلعوا سامح من السجن ما فشلت هددوني بقتل أمي وأخواتي..
سلافة بتحد:
– ما يقدروش, لو كانوا قادرين كانوا عملوها, انتي اللي في الموقف الأقوى دلوقتي يا مريم, رقبتهم في ايدك , ما تخافيش وقدمي الحاجة اللي معاكي..
قالت مريم بجمود:
– بس هما قدروا فعلا يا سلافة وعملوها!
سلافة بتقطيبة:
– عملوا ايه؟
مريم بجمودها ونظراتها اتلزائغة:
– قتلوا رجاء الممرضة اللي ساعدتني…
شهقت سلافة بالتياع:
– هااااااا!, مش.. مش ممكن!
تابعت مريم ناظرة اليها:
– ودلوقتي أنا عندي معاد مع النائب العام, المفروض أقدم له اللي معايا ويثبت كلامي, اللي موقّفني خوفي على أمي وأخواتي, عشان كدا أنا هسيب لك الفلاشة والسي دي معاكي, ومعايا نسخة تانية.. معادي مع النائب العام بعد يومين لأنه للأسف مسافر لو سمعتي انهم نجحوا في انهم يوصلوا لي الحاجة اللي معاكي تسلميها انتي للنائب العام, موجود كمان دليل براءة سامح انا زرته من يومين ووصيته على أمي وأخواتي لو جرالي حاجة, اوعديني يا سلافة..
برقت عينا سلافة التي غشيتها الدموع هاتفة:
– اوعدك يا مريم, وان شاء الله مش هيحصل حاجة وسامح هيخرج منها وهتتجوزوا وأفرح فيكي مش بيكي…
وحاولت رسم ابتسامة على شفتيها فتختلط بدموعها المنسابة في صمت…..
**************
– انتي يا بنتي من ساعة ما رجعنا من بره وانتي ساكتة ليه؟
أجابت سلافة على سلمى الجالسة بجوارها في منزلهما بالقاهرة حيث أجلّا موعد رجوعهما الى الغد حيث فضلت سلمى الرجوع في وضح النهار فقد غربت الشمس وهما لا تزالان في القاهرة وقد استحسن والدهما هذا الرأي…
قالت سلافة بصوت يغلفه الأسى:
– مالي بس يا بنتي قلت لك دور برد مهمّدني شوية…
سلمى بنصف عين:
– مش عارفة ليه مش مصدقاكي؟, حاسة انه فيه حاجة تانية.. من ساعة ما شوفت مريم وأول ما شافتني استئذنت وقامت وانا حاسة انه الموضوع فيه حاجة…..
ليقطع استرسالها في الحديث صوت رنين جرس الباب المُلِحّ, فطالعت ساعة معصمها وقالت بتقطيبة حائرة:
– يا ترى مين هيجي لنا دلوقتي الساعة داخله على 12 بالليل؟
وضعت كوب الشاي الذي كانت تحتسيه فوق الطاولة الرخامية التي تتوسط غرفة الجلوس ورتبت بلوزة منامتها القطنية والتي تصل الى أردافها مرسوم عليها أحدى الأميرات, فيما يصل سروال المنامة الى ركبتيها, حاولت النظر من العين السحرية ولكنها لم تستطع رؤية أي شيء, فرفعت كتفيها باستسلام بينما تعالى رنين جرس الباب ثانية وبإصرار شديد فهتفت وهي تدير المقبض لفتحه:
– طيب طيب….
لتشهق من المفاجأة وترتد الى الخلف وهي ترى من ينتصب واقفا أمامها يكاد يفتك بها بنظرات الغضب التي تتطاير من بين فحم عينيه المشتعل وهمست بينما يلج هو الى الداخل لتحل أصابعه مكان يدها ممسكا بمقبض الباب ليغلقه خلفه وهو يركز نظراته التي تكاد تجلدها بسياطها عليها بينما تهمس هي بوجل وقلق من غضبه الوحشي:
– شـ… شهااااب!!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية كبير العيلة)