روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والثاني والأربعون 142 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والثاني والأربعون 142 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والثاني والأربعون

رواية غوثهم البارت المائة والثاني والأربعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والثانية والأربعون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السابع والخمسون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
أدخل على قلبي المسرة والفرح
يا من لصدر المصطفى الهادي شرح
يا من له حسن العوائد
والذي يهب الجميل ومنه تأتينا المنح
يا من إذا ناداه عبد مذنب
لنوال عفو عن إساءته صفح …
ثبت على الإيمان قلبي
واهدني للخير ما غنى هزار أو صدح.
_”علي محمود”
__________________________________
أنا الذي لم يعرفني غيري في هذا العالم..
أنا هنا التائه ولم أجد الطريق بعد، أنا هنا الضائع ولازِلت، طُرقاتي مُظلمة، وأضواء شمسي غاربة، سمائي وحيدة بغير قمرٍ، أيامي تمضِ بدون عُمرٍ، أنا أسير والعالم يسير وبين جنبات العالم المُجحف أنا الأسير، طُرقاتي بأكملها علىَّ مفروضة، وحُرية الاختيار مرفوضة، لم يُنصفني بالعالم شيء، ولم اختر في حياتي شيئًا بعد، وأما بعد ليس من بعد أيامي بعد، حتى أنتِ، حتى أنتِ رأيتُكِ بعين قلبي، لكن كل العوائق تحول بيننا لكي لا تسيرين بدربي، رُبما ليس في هذه الدنيا ولا هذا المكان، ويُمكن في عالمٍ غير هذا أو بغير الزمان آتي لكِ تائهًا فأجدكِ أنتِ العنوان..
فالناس يقولون أن فاقد الشيء لا يُعطيه، فهل إذا أتاكِ خائفًا في كنفك ستحميه؟ أحميني من نفسي قبل العالم، وكوني لي مغفرةً فأنني أنا الآثم، يبدو وكأن حُبنا من العالم غير مرغوبٍ، أو رُبما العالم علينا مجبورٍ، ورغم ذلك أنا أحبك رغمًا عن أنف العالم، رغمًا عن أنف القبيلة وشيخها، ورغمًا عن أنف الدُنيا وسُكانها، أنا أحبك، ولا يسعني العالم إن كان لا يُحبك، فما الدنيا بدونكِ وما العالم بغير حُبك؟.
<“تسطع الشمس مرتين، مرة نهارًا ومرة مع الحقيقة”>
الحقائق المخبوءة لم تبقَ كثيرًا تحت وطأة الخفاء، وإنما يأتِ يومٌ وتنكشف أمام الجميع، حقائق تحمل في طياتها أملًا وألمًا، فإن كان الألم يدوم، فالأمل على قلوبنا محتوم، نحن نحيا بالأمل، ولم نُرافق الألم، نحن الطيور الحُرة وإن كسروا أجنحتنا لن يسكت معنا القلم.
صدمة اعتلت وجه كليهما بعد أن ذكرت هي الاسم وبعد أن أكمله هو، ظهر الاستنكار فوق الملامح، وبدت هي مشدوهة أمامه، تواصلت نظراتهما سويًا مع بعضهما فوجدته يغيب عنها بعينيه أو رُبما يهرب منها، فكررت عليه سؤالها بنبرةٍ ذي قوةٍ أكبر من سابقتها:
_أنتَ تعرفه يا “مُـنذر”؟.
الجواب المنتظر إما يكون أملًا وإما يكون ألمًا؛ فبعض الأسئلة بدون جوابٍ تكون أكثر راحةً، لذلك أعاد التواصل بعينيه معها وزفر بقوةٍ ثم نطق نبرةٍ واهنة مُسترسلة دون أن يُدرك هو ذلك:
_كنت أعرفه، بس أول مرة أعرف إنه مات مقتول وإن اللي قتله هو عمك، كنت فاكرها حادثة عادية خالص زي ما اتقال ساعتها، على ما أظن كمان إن اللي قتله اتسجن صح؟.
لاحظت هي الألم مرسومًا في عينيه، نبرته تجاوبها وتصرخ بقهرٍ، عيناه تنظر وكأنها تتوسل الرحمة، يده تنبسط فوق فخذيه وكأنه يستسلم، لاحظت هي حالته ولم تحده عن عقلها، راقبته حتى أغمض جفونه وابتلع غصته ثم سألها من جديد يدعي الثبات:
_هو أنتِ تعرفي منين إنه أتقتل؟.
كان سؤاله في محله لكي يبعث في نفسها ألمًا ولو كان غير مقصودٍ منه، يكفيها الظلم الذي تسبب فيه عمها في حق البشر والأبرياء، عمها الذي سعى للسُلطة لكي يُكمم الأفواه المُطالبة بالحُرية، ويقتل النفوس الشابة، ثم يسرق الأقلام التي تدون الحقائق فوق الصُحف، أطلقت زفرة قوية من جوفها ثم قالت بخزيٍ من أفعاله المُشينة:
_”يـوسف الراوي” كان في بيت عمه علشان يتابع ورث والده وحقه اللي هما واخدينه، وبكل أسف ساعتها أنفعل وخرج عن أعصابه وهدد عمه بالقتل وكان هيضربه بالمكتب، بس وقتها كل حاجة كانت مترتبة، “سـامي” جوز عمته كان على علاقة بعمي وعرفه على “عاصم الراوي” واتفقوا إنه يخلصهم من “يـوسف” ويضمنلهم إنه ميقربش من قشاية تخصهم، وطبعًا بتقرير طبي إنه مجنون وغير مؤهل وفاقد للأهلية، وحصل فعلًا و “يـوسف” دخل المصحة عندنا، عمي سلط عليه الدكاترة واستغل غياب “جـواد” في مؤتمر الصحة النفسية اللي كان مسافره ومرض بابا وغيابه عن المستشفى بعدما بقى جليس فراش..
بح صوتها، وظهرت العَبرات في عينيها، تألم حلقها من مرور الغصة به لكي تستوطنه، وارتجف جسدها كما ورقة شجرٍ صفعتها رياح الخريف فسقطت من جذورها تُضرَب بالأرض أسفلها، تهدج صوتها وهي تسرد البقية بقولٍ مُتألمٍ:
_وقتها بقى “يـوسف” كان هناك وأتعرض للأذى منهم، يعني جلسات تعنيف، اتهامات بالجنون، ضرب وإهانة، وكل دا علشان يخرج عن سكوته ويتهور ويتصرف غلط، والتقارير تطلع مظبوطة، والدكاترة كانت بتتضرب منه وهما عارفين اللي هيحصلهم بس هما كانوا ساكتين، لحد ما عمي جه وحط اسمه ضمن الأسماء اللي هتخرج من المستشفى بحجة الأمراض العضوية، وعلى أساس بيعمل عملية ومات فيها، وفي الأصل أعضائهم بتتسرق وبتتباع، والحجة طبعًا إنهم فاقدين الوعي والأهلية، يبقى خسارة فيهم شوية الصحة الجُسمانية كمان، وقتها رجع “جـواد” ولاحظ إن التقارير فيها حاجة غلط، اللي مكتوب صحيًا ونفسيًا عكس حالة “يـوسف” والعلاج اللي بياخدوا غلط مقارنةً بحالته اللي محتاجة هدوء، يبقى إزاي واحد ياخد منشطات؟.
توسعت عيناه ذاهلًا أمامها وفرغ فاهه، أصابته هي بصدمةٍ تلك المرة وكأن الجلسة بينهما لن تتوقف عن المفاجآت لكليهما، كان أمامها مدهوشًا كأنه يجلس أمام كومةٍ مُبعثرةٍ من الحقائق فأضافت هي تُكمل حديثها:
_وقتها دور وراهم وفضل يجمع كل حاجة لحد ما عرف اللي بيحصل جوة وهو إنهم بيستغلوا المرضى النفسيين في أهوائهم ورغباتهم، كانت صدمة ليه ساعتها، بس هو حاول ودخل لـ “يـوسف” وبعد محاولات كتير أقنعه إنهم يساعدوا بعض، و “يـوسف” فضل هنا ٣ شهور بيسمع كلام “جـواد” وما بين عند منه ورغبة إنه يخلص نفسه ربنا كرمه، بس وقتها عمو “نَـعيم” جه وكان على علم بكل حاجة، وهو اللي ساعد “جـواد” كمان إنه يفضحهم، وجاب المحامي بتاعه وخلاه يساعد أخويا من غير أي مقابل مادي غير بعد كل حاجة ما تظهر، ساعتها “حـمزة” كان خطيب جارة “يـوسف” وعرف اللي حصل…
تنهدت بارتجافٍ وهي تتذكر كيف اغتالوا براءة شابٍ كان كما الطيور الحُرة رفض السجن والأسر في وطنٍ كان هو ابنًا له:
_ساعتها جه زيارة لـ “يـوسف” وقعد معاه ووعده إنه مش هيسكت وهيفضحهم علشان كل الناس تعرف حقيقة اللي زي عمي ورجال الأعمال الفاسدين، ووقتها بدأ يكتب ويدور وينزل مقالات عن المستشفيات الخاصة اللي بتستغل أجساد المرضى النفسيين وعن المستشفيات الاستثمارية اللي بتتاجر بالأرواح، وكتب مقال عن صاحب شركة مقاولات بيغش في البنا والمباني تقع فوق دماغ صحابها، وكتب عن تهريب الأثار بالاتفاق مع رجالة الحكومة، “حـمزة” كان قلم وصوت للناس اللي ملهمش صوت، بعدها عمي حس بالخطر هو ورجال الأعمال اللي معاه، وسلطوا عليه قتلوه، طبعًا كانت حادثة أو ظهرت إنها حادثة بس هي كانت متدبرة، بعدها بأسبوعين كان “جـواد” سلم كل حاجة ضدهم وبلغ عنهم، واتقبض عليهم، وهناك عمي انتحر في السجن، أو يمكن هددهم يقول عنهم فقتلوه، وفي النهاية “حـمزة” خد الصوت معاه وراحوا هما الاتنين.
سردت القصة بقهرٍ وخوفٍ سكنا عينيها، سردتها بأملٍ انطفأ مع الأيام وحُلمٍ تحول لأبشع الكوابيس في الحياة، سردت قصة شابٍ صرخ مُناديًا بالتحرير فقُتِل وسط التحرير، قصة حلمٍ ظنناه حقيقة، ولم نعلم أن الحقيقة في بعض الأحيان تكذب علينا، فعصابة الطيور الجارحة تلك تخشى حُرية الطيور الحُرة فأقرب ما يكون لديهم من فعلٍ هو بتر أجنحةِ الحُرية..
تركها وغادر المكان بعدما شعر بالثقلِ يجثو فوقه، شعر أن الحياة كلما عاش فيها كُلما زادت ضرباتها له، أمله بات منطفئًا تمامًا، تحرك بدراجته البُخارية وسط شوارع منطقة “وسط البلد” ثم أوقفها ونزل منها يتحرك فوق قدميه، شعر برغبة عارمة في البكاء على حاله وحال الآخرين، امتلكه اليأس، وآهٍ من يأسِ الأبناء على أوطانٍ مُغتصبة..
جاب الشوارع بعينيه يرى صفعات القرارات الجديدة فوق الأوجه، فهذا شابٌ يعجز عن تكوين أسرةٍ لأسبابٍ مادية تحرمه من حلمٍ بسيطٍ، وهذا أبٌ يقف أمام أشهى أنواع الطعام عاجزًا عن الابتياع منها لأفراد أسرته بسبب ضائقة مادية جعلته يُنكس رأسه بخزيٍ من نفسه، وهذه أمٌ تحمل أبنها المريض فوق رأسها وشهادته الطبية مُعلقة فوق صدرها تمد يدها بالحاجةِ من الناس، وهذا شابٌ فقد حلمه في الالتحاق بكُلية أحلامه نظرًا لقلة المال المُجنىٰ بين يديه، وهذا طفلٌ صغيرٌ يسير حاملًا صناديق الحلوى بين يديه يبيع منها للمارين وبالرغم من ذلك لا يملك الجُرأة أن يتذوقها من نفسه خوفًا من بطش مالكها، هنا تم بيع الأحلام، وهُنا جف حبر الأقلام، هنا في قلب المرء حيث تلاشى الأمل وسكنت محله الآلام.
أغمض عينيه بقهرٍ لكي يهرب من قسوة الصور، لكن هيهات فتلك هي صور الحقيقة حيث اللامفر منها، صور تسرد قصة وطنٍ ثقل كهل أبنائه، وطنٌ حُـرٌ داخل إطارٍ مصنوعٍ من سياجٍ قوية تحتاج لطوفانٍ حتى تُكسَر، تردد حديثها في سمعه بشأن قصة كلًا من “يـوسف” و “حـمزة” وكأنها أسقطت بسردها عن الحُرية والقوة، كلا الأمريْن المُتغصبين بأيادٍ نتنة دنست المُسميات معها، لكن…
لكن وحدها كانت بداية الوقوف عند مفترق الطُرق، فإن كان سبق وقتل فعليه أن يقتل كل معتدٍ ومُغتصبٍ، عليه أن يصرخ مُطالبًا بالحرية قبل أن يكون الأَسر هو فرض العين عليه، لذا أخرج هاتفه بأنفاسٍ ثائرة، وأنامل متبعثرة وضغط على الزر يطلب من معاونه بلهجةٍ حادة:
_”باسم” أنا عاوزك تجيبلي كل حاجة ليها علاقة بموت “حمزة التهامي” متسيبش تفصيلة واحدة، حتى مقالاته هاتها، وشوف موضوع الملجأ وخليك متابع برضه، هاتلي اللي فات واللي جاي.
تلقى الآخر الأمر موافقًا وراضخًا وفرد جناحيه له ولذراعيه كان باسطًا، أما الآخر فالتفت راحلًا وعاد لدراجته وفي الخلف فوق واحدةٍ من المباني الشاهقة تحمل لوحة كتِبَ فوقها رسالة تلتقطها الأعين صباحًا وتنساها مساءً كأن شيئًا لم يكن، أو كأنها مجرد شمس نهارٍ وولت وغربت:
“الحُرية بيد الأحرار كانت واجبًا،
فأمض في الطُرقات واصرخ بها مُطالبًا”.
__________________________________
<“حان الموعد ونحن معه نسأل متي يحين؟”>
بين أمسٍ مؤلمٍ وغدٍ مُشرقٍ تمر ليلة لا تنس، ليلة كان مذاقها علقمًا في الحلق، ومُرها وصل للروح، ليلة نتردىٰ بها قتلىٰ ومع الصباح تعود لنا الروح، روحٌ كادت أن تهجرنا وترحل لكنها عادت لتخبرنا أن كل ليلٍ يمر.
في صبيحة اليوم الموالي صعدت فوق سطح بيتها لكي تجد لها منفسًا من ليلةٍ أرهقتها، كابوسٌ مروعٌ تكرر ليومين بشكلٍ متوالٍ ومتتابعٍ، أول مرةٍ كان هو بالمسجد يقيم فرضه، وفي الليلة الثانية تكرر نفس الفعل، يداهمها الكابوس ليلًا ويهجم عليها عقلها وهي وحدها، وينتهي ليلها بباكورة الصباح وهي تنم بجوار خشب الفراش تضم نفسها كما الجنين المتكور برحم أمه..
هاتفت “فُـلة” بمخابرةٍ هاتفية وأخبرتها بتكرار كابوسها وأخبرتها عن خوفها المُتكرر بشأن “يـوسف” وتركه لها بوسط الكابوس، وفي كل مرةٍ الأسباب تكون خارج طور الإرادة من كليهما، أخبرتها أنها تحاول وهو يحاول وكلاهما يحاول وكأن تلك المحاولة لم تكفِ لأي شيءٍ، فكان الجواب من الأخرى بطابعٍ عملي:
_طبيعي تخافي للدرجة دي علشان أنتِ مش مستعدة لعلاقة كاملة في الجواز وخايفة من رد فعل “يـوسف” بس هو متفهم دا، حتى لو مش مبين بس هو فاهم إن الأعراض النفسية برضه ليها أثر كبير في حياة الإنسان وطبيعي رد الفعل يكون مُختلف تمامًا منك، كل ما عقلك الباطن يخوفك من “يـوسف” افتكري الذكريات الحلوة بينكم، أو مواقف حسسك فيها بالأمان، عاوزاكِ أنتِ اللي تساعدي نفسك، مش عاوزة “يـوسف” دايمًا يكون موجود علشان يساعدك، عاوزاكِ أنتِ اللي تكوني ماسكة الحل لنفسك بذاكرتك، ومتقلقيش، أنا معاكِ في أي وقت براحتك.
تذكرت “عـهد” تلك الكلمات وهي تقوم بسقاية الزهور فوق سطح البيت، رأت الزهور تحارب لأجل الزهو بنفسها وسط قسوة الطقس فابتسمت هي الأخرىٰ بدورها وسرعان ما تذكرت أهم المواقف التي حدثت بينهما في بيت “رهـف” يوم الخِطبة وتذكرت كيف جمعت بينهما تلك الذكرى حينما اختلت بنفسها تهاتف أمها بالخارج في حديقة البيت.
مُــنـذ يــومـين..
من وسط الزحام الفَرِح خرجت تهاتف أمها وتطمئن عليها لكونها جلست بمفردها في البيت بأكمله فأخبرتها الأخرى أنها بخير وأن “فـاتن” أتت تجلس برفقتها حتى يعود ابنها، فأطمأنت هي عليها كثيرًا ثم أغلقت هاتفها والتفتت لتجده يقف بمحاذاتها وهو يقوم باشعال لُفافة تبغه وسألها باهتمامٍ:
_كنتِ بتكلمي مين؟.
_ماما، كنت بتطمن عليها علشان لوحدها، بس قالتلي إن طنط “فـاتن” معاها هناك لحد ما “نـادر” يرجع ولحدٍ ما أرتحت علشان أتطمنت عليها، أنتَ مالك شكلك متعصب؟.
هكذا أتى ردها عليه يحمل سؤالًا ظهر في اهتمامها به حتى تنهد هو بثقلٍ ثم سحب هواء سيجاره داخل رئتيه وقال بنبرةٍ جامدة بعض الشيء بسبب تبدل مذاقه بين كل حينٍ والآخر:
_مخنوق، حاسس إني متضايق من غير سبب، يمكن علشان “حمزة” الله يرحمه كان موصيني عليها، ويمكن علشان “حَازم” نظراته بتقول إنه موجوع، أو أنا شخص بيتلكك للحزن وبمسك فيه، معرفش بس مخنوق..
لاحظت هي اضطراب حالته وكلماته وتيه نظراته فمدت كفها تمسك كفه وتبتسم له وسرعان ما رافق تلك البسمة ضحكة بشوشة زينت وجهها وهي تسأله بلهفةٍ كأنها تمازحه:
_صحيح أنتَ كنت بتعمل إيه فوق سطح طنط؟ عاوزة أعرف بصراحة علشان فضولي مخليني أشك إنها مكانتش حاجة بريئة خالص، شكلك من يومك خاربها يا ابن “الراوي”.
ضحك هو ضحكة طفيفة زينت وجهه ثم أمسك كفها هو بدلًا منها هي وعانقه بأصابعه ثم تحرك بها حتى نهاية الحديقة حيث السُلم المعدني الملتصق بحافة البيت، حينها فصل كفيهما ثم صعد أول ثلاث درجات منه ومد كفه لها وهو يسألها بنبرةٍ مبحوحة:
_هتخافي تطلعيه؟.
وزعت نظراتها بين كفه الممدود وبين الدرج الرفيع وسرعان ما أخذت القرار وتنهدت وهي تُعانق كفه بكفها الناعم وأتى قولها ناعمًا كما لمستها له؛ حتى ضحكت عيناه لها إثر وصوله قولها:
_مش وأنا معاك يا “يـوسف”.
تلى قولها فعلها وهي تتبعه بقلقٍ من الدرج الضعيف لكن صوتٌ ما أخبرها ألا تخف وهي برفقته، نبرة قلبها كانت قوية وهي تبثها الثقة في شبيه الروح حتى تبعته بغير خوفٍ وبكل أمانٍ وثقت به أنه معها حتى لو أضطر أن يترك روحه هو فداءً لها، وصل بها لسطح البيت وهي معه وما إن وصل حملها من خصرها ثم وضعها في مواجهته وما إن لاحظ ارتجافة جسدها أنزل ذراعيه عنها ثم قال بنبرةٍ هادئة لم تخلو من أثر نبضاته المُتلاحقة:
_هو دا السطح، أكتر مكان شاف شقاوة مني هنا.
طافت في المكان بعينيها باحثةً عن أي شيءٍ يُرشد عقلها لشقاوته فوجدته يشير نحو البيت المجاور لموضع وقوفهما وأضاف بتفسيرٍ عن ذي قبل وبالطبع لم يخلْ من لمحة الألم:
_وأنا صغير كان “سامي” و “عاصم” عقابهم ليا إني اتحبس في الأوضة وأنا كنت لوحدي وقتها بفضل أعيط وأزعق وأكسر لحد ما يطلعوني فوق السطح وأقعد فيه، هنا بقى اتعرفت على “رهـف” وأختها كمان، كنت بنط ليهم من هناك لهنا ونلعب مع بعض وننزل تحت أركب العجل معاهم ومعانا “حـمزة” الله يرحمه وأخوه الكبير، وأول ما عربية “عـاصم” تظهر كان “حـمزة” يصفرلي وأطلع أنط من فوق السطح للسطح كأني معملتش حاجة، هما برة فاكريني محبوس بعيط، وأنا برة خاربها طول وعرض، بس كان دايمًا فيه خوف جوايا إني أكيد مش مرتاح وأنا واخد الحُرية بسرقة زي دي.
لاحظت هي ألم صوته حينما قرر أن يكشف لها عن ضعفه فاقتربت منه تواسيه بذراعيها حينما ضمته وطوقت عنقه وبدوره تشبث فيها مُعبرًا عن ضعفه، معبرًا عن طفولته المُغتالة على أيدي عائلته، لحظة ترك فيها ضعفه يظهر أمامها لتتولى هي تلك المرة الدور في حمايته.
خرجت “عـهد” من شروده فيه على رائحته التي ملأت السطح بأكمله تزامنًا مع صوت خطواته التي تنطق نيابةً عنه “أنا هُنا” وقد حلق قلبها باقترابه والتفتت له تبتسم بوجهها فوجدته يبادلها البسمة بمثيلتها وقد ارتمت هي بثقل رأسها فوق صدره تلتحد به كما الهِرَّة الضعيفة وحينها طوق هو جسدها بذراعيه ومسد على كتفيها وقال بنبرةٍ هادئة:
_أنا هنا وهفضل معاكِ هنا.
جملة واحدة كانت سببًا في بداية القصة لتُكتَب في أواسط كتب العشق والحُب، جملة قامت بأسرها منذ البداية ولازال أثرها ثابتًا كما هو في خاطرها وخُلدها، جُملة بعثت في نفسها أملًا جديدًا أن ما سبق من مُـر قد مَـر ولا يهم من الأمر إلا أن يبق هو دومًا وأبدًا هُنا، هُنا حيث هما الاثنان يعانقان بعضهما، والسماء فوقهما، والطيور الحُرة تُرفرف بجناحيها كأنها تطوقهما، هُنا حيث القلب بجوار القلب، هُنا حيث الأمان في كنف من نُحب.
__________________________________
<“صاحب الحق لا يهرب من المُطالبة به”>
صاحب الحق لا يهرب من المُطالبة بحقه مهما صعب الأمر عليه، صاحب الحق وإن بح صوته سيصرخ، وإن جف حبره؛ دمائه للكتابة ستنزف، صاحب الحق لو مر عليه العُمر، لن يدع حقه بين الخبايا يمر، صاحب الحق يسترد حقه وحقه سيظل مكتوبًا باسمه.
في وسط النهار مع غروب شمس شتاءٍ من سماءٍ ملبدة بالغيوم، ذاع اللون البُرتقالي الداكن أقرب في درجته للون الأرجواني، وتحديدًا بداخل النادي الرياضي كانت “نـور” هناك برفقة “چـودي” التي استأنفت تدريبات السباحة من جديد بعد معاونة “نـور” لها ودعمها المتواصل وتأثيرها على “سـراج” الذي رضخ في النهاية رغم خوفه على صغيرته، لكنها قطعت الوعد له أنها في حمايتها ولا داعٍ للقلق.
كانت “نـور” تجلس وتراقب الصغيرة التي في كل مرةٍ يظهر عليها الخوف رغم تأكيد كل من حولها أن المياه تتلائم مع درجة الحرارة التي يحتاجها الجسد في مثل تلك الأوقات وقبل أن تفعلها عادت ركضًا نحو “نـور” التي جثت لها فوق رُِكبتيها ثم سألتها بحنوٍ:
_ليه برضه منزلتيش؟.
_علشان بخاف أوي، المياه بتخوف أوي من بعيد وأنا بحس إني صغيرة أوي وبخاف أضيع جواها، بلاش خلاص مش عاوزة.
هكذا أتى ردها المُرتجف الذي جعل “نـور” تمسح فوق وجنتيها ثم لثمت جبينها وقالت بنبرةٍ هادئة تحاول بها بثها الدعم وحثُها على التقدم نحو أخذ تلك الخطوة:
_والمرة اللي فاتت لما خوفتي برضه في الآخر نزلتي، دا معناه إنك قوية وبتقدري تاخدي الخطوة بس فيه حاجة جواكِ بتخليكِ تترددي، بس أنتِ أشطر بنوتة قوية أنا عرفتها في حياتي ومش بتخاف من أي حاجة، ليه بقى تخلي الخوف كل مرة يرجعك ورا؟ أنتِ شطورة أوي.
زاغ بصر “چـودي” بعيدًا بعينيها عن مُحدثتها وكأنها تبحث عن سببٍ لخوفها وإذ به الرفيق المُفضل يحضر لها من حيث لا تعلم ووجدته يقترب منها فشهقت هي ذاهلةً ورددت بلهفةٍ:
_”مُــنذر”!!.
ذكرت اسمه باستنكارٍ جعل “نـور” تلتفت للخلف تُطالع وجهه وهي تُجعد جبينها بتعجبٍ بينما هو اقترب من الصغيرة يبتسم لها بوجهٍ بشوشٍ ثم قال بنبرةٍ أعربت عن رضوخه لها:
_مقدرتش ماجيش بصراحة أشوفك وأنتِ بتنطي.
رغم سعادتها بحديثه إلا أن الخيبة طالت ملامحها لكونها لم تفعلها وحينها استقامت “نـور” في وقفتها وهي تبتسم له مُرحبةً به بقولها الودود:
_أهلًا يا “مُــنذر” نورت والله وكويس إنك جيت.
أومأ لها يرد تحيتها له ثم عاد بعينيه للصغيرة التي قالت بنبرةٍ خافتة أقرب للهمس وكأنها تُنبس بترددٍ:
_أنا مقدرتش أنزل، خوفت.
التفت للخلف فرأى وسع حوض السباحة بعينيه فأدرك أن الخوف سطوته أكبر من قوة إرادتها بتلك اللحظة فالتفت لها من جديد بعدما رسم بسمة هادئة فوق شفتيه تختصها هي ثم جلس على عاقبيه أمامها وقال مُشجعًا لها:
_كل حاجة من بعيد بتكون غريبة علينا وعمرنا ما هنجرب مُتعتها، لازم نقرب ونشوف بنفسنا الحاجة دي عاملة إزاي، المياه ممكن تكون بتخوف وشكلها يخضك بس هي حاليًا أدفا من الجو برة، هي خطوة واحدة بس بنخاف ناخدها رغم إن بعدما ناخدها بنكتشف إننا كنا هنضيع مننا كتير أوي، الخوف بيضيع المُتعة من الحاجة، وأنتِ مش بتخافي صح؟.
ابتهجت ملامحها أمامه وأومأت موافقةً له فابتسم هو لها ثم مسح فوق كتفها وأومأ هو كذلك يخبرها عن ثقته بها، وفي تلك اللحظة ابتسمت “نـور” ثم استأذنت من “مُــنذر” وتحركت تجلب له كوبًا من الشاي الدافيء.
عقب سيرها صوت المُدرب عاليًا يصرخ باسم الصغيرة لكي تعود لمنصة القفز فأجفل جسدها إثر صراخه بخوفٍ منه وقد بدا ذلك من شحوب ملامحها الشقراء مما جعل “مُــنذر” يقودها إليه ثم وقف هناك يحدثه بنبرةٍ جامدة ذي حِدة:
_وسيادتك بتصرخ كدا ليه عليها؟ المفروض كدا هي هتيجي وتتغلب على خوفها يعني؟ مش واخد بالك إنك مدرب لسن خاص ومحتاج معاملة غير دي؟ هي خايفة أكيد مش هنموتها من الخوف يعني علشان خاطر سيادتك عاوز تنجز شغلك في وقت أسرع!! ما بلاش غباء علشان مترجعش تزعل.
لاحظ الآخر اندفاعه وقد كان شابًا من نفس عمره فقال باندفاعٍ هو الآخر:
_وحضرتك لو مش واخد بالك أنا مسئول عن كام طفل غيرها؟ أكيد لازم أراعيهم كلهم وأشوف شغلي لأن دي مسئولية عليا أنا، لو كل طفل فيهم أخرنا كدا يبقى مش هنشوف شغلنا ولا هما هيقدروا قيمة الوقت.
ضيق “مُــنذر” جفنيه ثم زفر بقوةٍ والتفت لها من جديد يجلس على عاقبيه ثم قال بنبرةٍ أهدأ لم يخفَ عنها الخُبث:
_طب يا حبيبي، أنزلي علشان معالي وزير الشباب والرياضة وقته من دهب، وأنا هخليكِ تروحي معايا أنا ونركب الموتوسيكل مع بعض.
ضحكت هي بوهجٍ سكن وجهها وملامحها ثم اقتربت تضمه بذراعيها الصغيرين وقد طوقها هو الآخر ثم مسح فوق ظهرها وكالعادة يود أن يحميها من كل شيءٍ حوله، هي الصورة الأخرى لطفولة الجميع، كلٌ منهم فقد شيئًا في حياته أراد أن يمدها هي به عوضًا عن تلك التي لم ينلها في حياته سابقًا.
تركته وتحركت تقف فوق منصة القفز وما أن نظرت نحو “مُــنذر” وجدته يوميء لها حتى شدت عودها واستقامت أكثر بوقفتها ورفعت كلا ذراعيها ومن ثم قامت بإلقاء نفسها بداخل حوض السباحة حتى ضحك “مُــنذر” بسعادةٍ لأجلها وفخرًا برفيقة أيامه الصغيرة التي فعلت ما لم يفعله كبارٌ بأضعاف عمرها..
أتت “نـور” وقدمت له الشاي فأخذه منها وشكرها ثم عاود متابعة رفيقته حتى تحركت “نـور” بعدما صدح هاتفها برقم زوجها فأتى المُدرب نحوه بعدما ترك الصغار مع مساعده وما إن جاوره ظن “مُــنذر” أنه سيعتذر منه وقد تلبسه الهدوء لأجل ذلك حتى بادر الآخر الحديث بقوله:
_مساء الخير يا فندم، أنا آسف على سوء التفاهم بس أتمنى تقدر موقفي علشان حقيقي الوضع صعب أوي وأنا أكيد مسئول عن كتير غيرها، هو حضرتك والدها؟.
كان سؤاله قلقًا للغاية حتى أتاه الجواب:
_عادي بس ياريت دا يعني ميتكررش مرة تانية علشان أنتَ متزعلش مني ولأ أنا مش والدها، أنا عمها يا سيدي.
أومأ موافقًا ثم حرك رأسه نحو “نـور” وسأله بأملٍ طفق يظهر فوق ملامحه المُنبسطة:
_يعني المدام مش والدتها ولا مرات حضرتك؟.
تجعدت ملامح “مُــنذر” وهو ينفي ذلك الشيء فوجد الآخر يتحدث بلهفةٍ كأنه وجد ضالته التائهة منه بين الطُرقات:
_يعني كدا حضرتك مش جوزها ومش خطيبها صح؟.
تبدلت نظرات “مُــنذر” بشكلٍ ملحوظٍ فاستبشر الآخر خيرًا وقال مُكملًا كلماته بحماسٍ أكبر تزامنًا مع وصول “سـراج” ووقوفه بجوار زوجته:
_أنا كنت عاوز أطلب أيد الآنسة منك، أنا بقالي أسبوع بشوفها ولما سألت “چـودي” قالتلي إنها مش والدتها بس قولت اتأكد منك، وبما إن حضرتك مش والدها ولا جوز الآنسة يبقى أكيد هي أختك، ممكن تاخد رأيها وأنا معاك.
فرغ فاه “مُــنذر” ورفرف بأهدابه وهو يرى استبشار الآخر أمامه بكل خيرٍ وحينذاك وصل لهما “سـراج” بينما هي تحركت نحو مكان صنع المشروبات؛ فتحدث “مُــنذر” بنبرةٍ خافتة للآخر بعدما برع في اصطناع البراءة وافتعال التهذيب في كلماته أثناء إشارته على الآخر:
_شايف الشاب اللي جاي علينا دا؟ دا أخونا الكبير روح أطلبها منه وتمسك بطلبك وخلي بالك هو شخص متفهم جدًا يعني أكيد هيقدر صراحتك كويس.
حرك المُدرب رأسه نحو “سـراج” ثم عاود النظر لمن يجلس معه وسأله بتعجبٍ من عدم تواجد أي شبهٍ بين الثلاث:
_دا أخوكم !! إزاي بس وأنتوا مش شبه بعض خالص، دا قمحاوي وعيونه زرقا وأنتَ عينك عسلي باين !!؟.
تبسم له “مُــنذر” باصفرارٍ واستفزازٍ ثم قال بمزاحٍ زيل كلماته على عكس باطنها الذي كان مُتهكمًا:
_بيقولوا البطن قلابة.
أنهى حديثه ثم تحرك نحو “چـودي” التي خرجت لتوها من الحوض فعاونها حينما فرد لها المأزر وولجته بذراعيها الصغيرين؛ وعيناه إبان ذلك لم تحد عن الماثليْن أمامه كأنه يتأهب لمباراةٍ داخل حلبة المصارعة، أما “نـور” فأمسكت قدحين من الشاي ثم التفتت لكي تعود نحو زوجها فوجدت حينها “نورهان” ابنة عم “شـهد” تقف بجوار ملعب كرة القدم وهي تتوشح بسترةٍ شتوية سوداء فعقدت حاجبيها حينها وتقدمت خطوتين لتلمح الصورة بوضوحٍ أكبر..
حينها أتى شابٌ من داخل الملعب يُرحب بها ثم مد يده لها بشطيرة ملفوفة بورقٍ أبيض أخذتها منه ورحلت بخطواتٍ واسعة ثم مرت بجوار سلة المُهملات وألقت الشطيرة بعدما سحبت منها شيئًا ودسته في جيب سترتها، حينها اضطرَّت أن تراقبها فوجدتها تسير بخفةٍ حتى وصلت للمرحاض ووجدته فارغًا فوقفت أمام المرآة بمللٍ، ومع ازدياد حاجتها لجرعة المُخدر لم تنتظر أكثر.
أخرجت محتوى الكيس على ظهر كفها ثم استنشقته بلهفةٍ، لم تخجل مما تفعل، ولم تفكر ولو ثوانٍ أن ما فعلته كان خطأً كبيرًا في حق نفسها، انتهجت مبدأ إن لم تستحِ فأفعل ما شئت، وهي لم تستحِ من شيءٍ بل غياهب الظلام ابتلعتها حتى لم تعد تُبصر نورًا ولا تلمح “نـور” التي كانت تُراقبها بعينين متوسعتين من خلف الحائط الرُخامي القصير.
شهقت “نـور” بصوتٍ خافتٍ ثم عادت بأدراجها للخلف ركضًا نحو زوجها بعدما أثار المشهد مشاعر التقزز بداخلها، كادت أن تتقيأ مما رآت وشعرت بانقباضة فوق معدتها وأرادت أن تبكِ بغير سببٍ مُحددٍ، لطالما رأت ماضيها كاد أن ينتهي بنفس المصير، والآن تراه حاضرًا نصب عينيها.
__________________________________
<“لكي تخرج من طُرقات الجحيم عليك أن تمر بها”>
ما بين الوضوح والخِفاء تتواجد مسافة فاصلة نَمُر من خلالها ما بين الشيء ولا اللاشيء تكمن المعرفة، وفي باطن مكمنها يتوجب علينا أن نُلقي بنفسنا في جوف باطنها لكي نستدرك الفارق بين الوعي واللاوعي.
امتدت أيادي الليل تُغلف السماء يُصاحبها سكونٌ في شتاءٍ ترتب على أثرهِ التحاف الناس في بيوتهم آمنين بالداخل مع ازدياد صوت أمطارٍ بالخارج، وفي واحدةٍ من أحب العادات لقلب “يوسف” كان يسير تحت الأمطار في المنطقة المُحببة له “وسط البلد” بحركة خفافٍ حتى وصل لعيادة “جـواد” أخيرًا بموعدٍ يختلف عن المعتاد بسبب طلب “فُـلة” لمقابلته بعجالةٍ خاصةً أن موعد الزفاف لم يتبق عليه سوى يومين فقط، وهذا هو ما أثار ريبته وساروه بقلقٍ..
جلس في الشُرفة معها أولًا ووجدها تقوم بقطف وريقات النعناع الأخضر ثم وضعت في كؤوس الشاي الخاصة بهما ثم جلست أمامه وهي تقول بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسمت له:
_طبعًا دي كوباية شاي لا تقارن بكوباية العسولة بتاعتك، بس معلش خليها عليك، المهم أنا طبعًا آسفة إني طلبتك بسرعة كدا وخليتك تقلق بس أنا كنت عاوزة أتكلم معاك بخصوص “عـهد” وهتكلم معاك بصفتي الدكتورة بتاعتها، وهتكلم بصفتي بنت زيها، ومتأكدة إنك هتسمعني صح؟.
صدقت هي في حديثها، فبمجرد أن ذكرت اسمها أمامه توهجت عيناه بشكلٍ ملحوظٍ أمام من تجلس معه وتأهبت حواسه بكل إنصاتٍ بينما هي رأت ذلك في عيني، رأتها في نظراته وهو أمامها يتطلب المزيد وكأن طيف الأحرف ما إن يمر بالبالِ وحده يُريحه؛ وعلى إثر ذلك أتى قولها:
_بص، الفترة الجاية هي الفترة الفيصلية في حياة “عـهد” نفسيًا، تكاد تكون الفترة الأصعب وفترة تحديات كبيرة هي هتضطر تواجهها بنفسها وتخوضها، عقلها الباطن هيبدأ يظهر الدوافع اللي بيملكها علشان يخليها تحس إنها في خطر محاوطها لسه وإن أثر التعدي عليها لسه متلاشاش، أي قرب زيادة بيدي عقلها إنذار بالخطورة وكأن الصورة بتتجسد قدامها تاني، أنتَ ممكن تفتكر إني ببالغ، بس الاضطرابات اللي من النوع دا بتكون صعبة أوي على اللي عايشها، لأنه متحاوط بذكريات صعبة ساكنة العقل الباطن وبين حاضر بيرجعه لورا من أقل موقف شبيه..
سكتت هُنيهة تدرس ردود أفعاله جراء كلماتها؛ أمعنت النظر في وجهه لتقرأ في عينيه تخبط المشاعر وحيرة الأمر، فأضافت المزيد من جديد فوق سابق حديثها:
_كبنت بقى أنا مقدرة مشاعرها وهقولك حاجة يمكن تفهمها ويمكن لأ، إحنا كبنات عندنا حدود مينفعش حد يتخطاها ويعديها، حُرمة الجسد لما حد يحاول يتعدى عليها بتسيب أثر نفسي صعب حتى لو مجرد موقف عشوائي بيخلينا نتوتر، فتخيل دي محاولات اعتداء بشكل مُتكرر؟ كل مرة كانت بتحس فيها إن فيه حد بيحاول يوصل لجمالها ولشكلها مش لجوهرها خالص، شخص مهووس بيها حتى لما مشي أثره لسه موجود عليها، مش بالسهل إن هي تقبل علاقة وترحب لأن الموضوع سايب ليها ذكرى وحشة أوي، أنا طالبة منك فرصة بس، فرصة تاخد حقها ووقتها لحد ما هي بنفسها تتأكد إنها تخطت وعادي..
سحب هو تلك المرة الهواء عنوةً لداخل رئتيه وكأنما هناك جبلٌ يجثم فوق صدره، فوجدها هي تضيف من جديد بلهفةٍ أكبر:
_مش طالبة منك كتير إطلاقًا، بس طالبة منك إنك تصبر معاها وتشجعها وتقولها إن أنتَ حابب “عـهد” نفسها، البنت القوية اللي اشتغلت وصرفت على البيت وأهلها ووقفت على رجليها بعد ضياع بيتها وحياتها لما عيلتها طردتها، بتحب فيها قلبها الكبير وطاقتها اللي لسه في الحياة وحبها لكل الناس حواليها، بتحب فيها كل حاجة بتعملها، عرفها إن قربكم مش بالطريقة دي وبس، وإن فيه مشاعر أهم ربنا خلقها بين الناس ودي أوسع وأشمل من منظور العلاقات الجسدية وبس، وأنا واثقة فيك وإنك هتعدي معاها المِحنة دي.
عقب حديثها ضوء البرق يتبعه صوت الرعد وهطول المزيد من الأمطار حتى ارتجف جسدها وحرك هو رأسه نحو الخارج وسرعان ما تنهد بعمقٍ بعدما أنذرته الأمطار بنذر خيرٍ؛ هي عادته منذ الصغر حينما كان والده يخبره بكل صراحةٍ “المطر خير يا يوسف” وهذا الـ “يـوسف” يحب الأمطار كثيرًا وتنهد بعمقٍ ثم حرك رأسه موافقًا بعدما اعتدل في جلسته.
سألته هي بعينيها عن قراره فوجدته يهتف بنبرةٍ هادئة بعدما اتخذ قراره الأخير بشأن زوجته:
_أبويا كان علطول بيحب المطر زي عينيه، كان ممكن يمشي تحت المطر لحد ما يتعب كمان ومش فارق معاه، وأنا كنت بخاف منه دايمًا، بعدها قالي إن المطر هو الخير كله، ومن ساعتها أنا بحب الخير لكل اللي حواليا وبحس المطر بداية جديدة لينا، متقلقيش مني، أنا أكيد لو عليا هقدر أتحكم في نفسي وردود أفعالي كويس، سبق عليا وكنت لوحدي ومعملتش حاجة غلط علشان عارف إن ربنا أكيد شايفني وعالم، فأكيد دلوقتي الموضوع هو هو الفرق بس إني بقى ليا عيلة وأخوات بنات، يعني أقل تقدير لو أنا راجل زبالة ابن ستين في سبعين أكيد لازم أعقل وأفرمل الدنيا علشان اللي ليا، أما بالنسبة ليها هي…
سكت ما إن شعر بفؤاده يرتجف لأجلها وهو يتذكر المُعاناة التي تعيشها بسبب تلك الكوابيس التي دمرت ربيع عمرها كما لو كانت خريفًا يقتلع كل شيءٍ في وجهته:
_هي بالنسبة ليا أهم من كل حاجة في الدنيا، أهم حتى من راحتي أنا في حاجة عاوزها، كفاية بس إنها معايا وهتبقى في بيتي ويومي ينتهي بوجودها فيه وهي أكيد ليا ومعايا، أما بقى الجواز والخلفة مش مهم، دي كلها شكليات مؤقتة، أنا معاها لحد ما تثق فيا إن شاء الله حتى تاخد سنة كمان.
ابتسمت هي له برقةٍ ثم سألته بممازحةٍ طفيفة وقد رفعت أحد حاجبيها ترسم ملامح الشر فوق وجهها:
_طب ولو الموضوع طول عن سنة؟.
_لأ كدا هاجي أكسر العيادة فوق دماغك ودماغها ودماغ أخوكِ كمان معاكم، سنة إيه؟ ما كنت أترهبنت وخلاص بدل الذُل دا.
اندفع بتلك الطريقة يجاوبها ردًا عليها لكي يقطع سُبل أية اقتراحات من هذا القبيل مما جعل عينيها تتوسع أمامه فزفر هو بقوةٍ ثم رسم بسمة يائسة فوق وجهه وقال بهزيمة المغلوب على أمره:
_يا ستي سنة سنة مش مهم، هي بس تتحملني سنة ويبقى كتر خيرها وخير أهلها كلهم كمان معاها، أهم حاجة تبقالي كويسة ومفيش أي خوف عليها، والله ما يهمني غير إني أشوفها بأمان وبس مش أكتر.
ابتسمت هي له وأضافت بهدوءٍ وصدقٍ:
_فيه حد قال قبل كدا قدامي إن اللي عاوز يخرج من الجحيم لازم يمشي في طريقه، وأنتَ علشان تخرجها من خوفها لازم تواجهه وتمشيه معاها خطوة خطوة، وخلي بالك حاليًا أنتَ أمانها الوحيد كله، يعني اللي جاي مترتب عليك أنتَ.
_الحد دا “مُــنذر” صح؟.
ألقى سؤاله عليها بتكهنٍ جعلها تبتسم له بشرودٍ وقد أومأ لها هو الآخر وشرد في حديثها بكل حواسه، فهو حاليًا الأمان الوحيد الذي بقىٰ في حياتها، كأنه هو شعلة النيران التي تستهدىٰ عليها خطواتها في غياهب الظلام وعليه أيضًا أن يبث الدفء لأيامها، عليه أن يُكمل في طريقٍ بدأه حينما قال أنا هنا وعليه أن يفعل كل شيءٍ يصدق قوله أن هو حقًا هُنا.
__________________________________
<“ما بين صوابٍ وخطأٍ كان طريقًا واعرًا”>
تلك النفوس البشرية تتأرجح بين أنعواجٍ واستقامة، تسير في الطُرقات الوعرة وتروح وتجيء بين صوابٍ وخطأٍ ومابين هذا وذاك يقبع طريقٌ طويلٌ لكي نخوضه علينا أن نتعلم، نتعلم بعد الخطأ وندرك قبل الصواب، قبل أن نقف عند مفترق الطُرقات مُتخبطين بغير أسباب..
وحدها رؤيتها هي التي تُعطيه أملًا فيما هو قادم عليه، فكرة حضورها في حياته هي الأشمل لكل خيرٍ ينذر أرضه من بعد العُجاف، فتاة واحدة جعلته يزهد الجميع من بعدها ويعدل عن كل الطرقات إلا من دربها، هي وحدها التي لأجلها أراد أن يغير حاضره ويقتل ماضيه ويُبدل مستقبله..
تحرك “مُـحي” نحو شقة شقيقة “تَـيام” بعدما أخذ قراره أن يبدأ السير في الطريق الصحيح، هو وحده المُلح عليه أن يعدل عن سلوكه وعن أي فعلٍ قد يكون حرامًا في حياته، فتح له شقيقه ورحب به وولج الآخر بترددٍ خاصةً حينما وجد “آيـات” تقترب منهما بخمارها وتضع المشروب الدافيء فقال هو بأسفٍ لهما:
_مبدأيًا طيب أنا آسف علشان جيت فجأة كدا ورخمت عليكم وأنتوا عرسان جُداد بس أنا واقع في ضيقة ومحتاج منكم تفكوهالي، وأنتَ بالذات يا أخويا يا ابن أمي وأبويا، علشان لو ناسي بس هفكرك.
جعد “تَـيام” ملامحه باستنكارٍ جليٍ ثم نظر لزوجته وأشار لها أن تدخل وبعد اختفاء أثرها التفت لشقيقه وسأله بلامبالاةٍ يدعي بها عدم الاكتراث بمن يجلس أمامه:
_عاوز إيه يا “مُـحي”؟ خير يا أخويا يا ابن أمي وأبويا.
سخر منه بنفس جملته حتى ضحك الآخر ثم قال بتيهٍ اتضح في كلماته ونظراته الزائغة التي طافت في المكان بغير هدى:
_بص علشان أنا حاسس إني متردد أجيلك، بس أنا برضه واثق إنك أكتر حد بيفهمني ويقدر يستوعب أنا عاوز إيه وبقول إيه، علشان كدا أنا هطلب منك بكل صراحة وأقولك أنا عاوز إيه، عاوز مساعدتك ليا علشان أنا تايه ومش عارف أوصل للطريق الصح إزاي، بس أنا من ساعة ظهورك في حياتي أنا متأكد إنك بتفهمني حتى قبل ما أعرف إن أنا أخوك، بس الأول توعدني إنك متظلمنيش؟.
بكلماته تلك استحوذ على تركيز شقيقه الذي صبَّ كامل تركيزه فوق ملامحه فوجده يتنهد ثم بادر في الحديث بقوله مُعربًا عن كل شيءٍ حدث معه، أخبره عن رؤيته لها منذ أول مرةٍ حتى ما فعله معها في المقابلة الأخيرة بينهما، لم يخفِ عنه شيئًا بل أخبره بكل شيءٍ ولم يترك مثقال ذرةٍ في طور الخفايا، كان الشقيق يتابعه مُنصتًا بكامل تركيزه لحين وصل لنهاية الحديث وأطلق “مُـحي” أنفاسه الثائرة..
لاحظه شقيقه بكل إمعانٍ بعدما شمله بعينيه وراقب ملامح وجهه عن كثبٍ وكأنه يُفتش عن صدق نواياه، بينما الآخر أضاف بلهفةٍ يُضيف من خلالها صدق كلماته:
_أنا مش بكدب ومش عاوز أوصلها بطريقة مش كويسة ولا حتى أتسلى يا “تَـيام” أنا عاوزها علشان بحبها بجد وعاوزها تكون ليا، صدقني المرة دي بجد، شوف عاوز ضمان إيه يخليك تثق فيا وأنا معاك في اللي تؤمر بيه بس ساعدني، أنا عاوز “جَـنة” تبقى ليا.
مال “تَـيام” للأمام وسحب هاتف الآخر يُقلبه في راحة يده ثم زفر بقوةٍ وقال بثباتٍ حطَّ به الجمود لتخرج كلماته حادة بعض الشيء:
_دا مش هيخليك توصلها، هيخرب الدنيا يا “مُـحي” علشان هيسهلك الحرام، الحركة دي متخلفة ومش مقبولة منك، لو عاوزها بجد يبقى تقطع على نفسك عهد إنك تبطل تراقبها، متأثرش عليها لدرجة تخليها تخاف منك، سيبها براحتها وهي اللي تحدد، دا أولًا يعني بقى، ثانيًا لو عاوز تغير نفسك علشان عاوز توصلها فأنا آسف مش هقدر أساعدك، لأن بمجرد وصولك ليها هترجع تاني ألعن من الأول، يبقى ليه من الأول؟.
كلماته أشعلت نيران الشقيق الماثل أمامه فاستقام يُطالعه شزرًا وكأنه كاد أن يهرب من حقيقةٍ حتمية لكنه تفاجأ بها تصدمه في وجهه فأتى الحديث انفعاليًا جراء ذلك بقوله:
_وهو أنا جايلك تديني مواعظ وحكم؟ أنا جايلك بقولك تساعدني وتاخد بأيدي ألاقيك مرة واحدة كدا بتبعد ايدك عني ومش عاوز تساعدني؟ هو أنا لو وحش هصارحك أصلًا ولا هقولك اللي عملته كله؟ أقولك؟ أنا مش عاوز حاجة منك خلاص، واللي عاوزه هوصله بيك أو من غيرك.
انتصب “تَـيام” في وقفته هو الآخر يقف بمقابلة شقيقه ثم قال بلهجةٍ حادة هو الآخر وكأنه يحذره من التمادي أكثر فيما يخص هذا الأمر:
_لو عملت حاجة غلط أنا اللي هقفلك يا “مُـحي” مش حد تاني، جو السبهللة بتاعك دا تنساه خالص، تفوق لنفسك وحياتك وترضي ربنا أحسنلك من كل الهبل دا، عاوز تتغير علشان توصل لواحدة بس؟ مش علشان دا حق ربنا عليك ومش علشان أنتَ مسلم وراجل ومينفعش تفضل كتير كدا؟ براحتك بس حتى لو اتغيرت علشان توصلها برضه ربنا مش هيباركلك، عارف ليه؟ علشان النية من الأول خربانة.
الكلمات كانت صفعات جديدة فوق وجه أخيه، حديثه كان نُذرًا لم يتقبله الآخر وشعر أنه كما المصباح الكاشف يقوم برفع الغطاء عن قُبحٍ متوارىٰ خلف ساترٍ واهٍ، كل ذلك جعله يسحب هاتفه ثم فتح الباب ورحل من الشقة بعدما خطى بخطواتٍ واسعة عنيفة، جعلت شقيقه يُطالعه باحباطٍ جليٍ..
خرجت “آيـات” التي وصلها الحديث بأكمله وحركت عينيها نحو باب الشقة أولًا حيث موضع خروج الآخر ثم نحو زوجها ثانيًا ثم اقتربت منه تنطق بعتابٍ طفيفٍ به لمحة آسفٍ:
_ليه كدا يا “تَـيام” بس؟ زعلت أخوك منك وهو جاي علشان تساعده وعشمان فيك، كسرت بخاطره الله يسامحك وهو كان عنده أمل فيك إنك تاخد بيده وتساعده يمكن ربنا يجعلك سبب في هدايته.
التفت لها يواجهها بوجهٍ ملامحه جامدة وكأنها أقرب للحدةِ وظهر ذلك في قوله:
_علشان لازم يفوق لنفسه شوية، أنا مش راضي عنه ومش راضي عن أي حاجة في حياته، وفاهم دماغه كويس أوي، هو شبطان بس مش أكتر ولما يوصل للي هو عاوزه خلاص اللهفة دي هتروح، “مُـحي” عاشها طول وعرض وعمل كل حاجة وشاف بنات أشكال وأنواع بس دي حاجة جديدة عليه، مجرد بنت جميلة وملتزمة وغير كل اللي شافهم، فطبيعي تشده وتخليه عاوز يوصلها، حتى لو بيحبها، لازم يتعب علشان يوصلها، مش بالساهل هي يخرج من اللي كان فيه غير لو نيته كانت صادقة بجد.
رأت في كلامه الحقيقة تتجلىٰ بوضوحٍ أمام ناظريها، لم تقوَ على تكذيبه أو حتى مجادلته وإنما قررت أن تتولى الدَّفة الحنونة في الطريق واقتربت منه أكثر تهتف بهدوءٍ بالغٍ رافقته بسمة عذبة:
_حتى لو كلامك صح، أنا معاك وموافقاك بس الطريقة لأ للأسف خالص، هو كان جاي متعشم فيك وأنتَ فاجئته برد فعلك رغم إنك عارف إن ظروف حياتكم اللي فرقت بينكم كانت سبب إنكم تتغربوا عن بعض، علشان كدا متكسرش بخاطره، روحله وراضيه وفهمه سبب كلامك كان إيه بالظبط، ممكن؟ أنتوا أخوات ومالكمش غير بعض، كفاية اللي ضاع منكم.
ردت له فعله حينما أوقعته تحت أثر التُخمة وزاغ بصره بتيهٍ عن مرمى بصرها، الآن أدرك أن حديثه أتى بطريقةٍ غير صحيحة وبالتالي شقيقه سيزداد عنادًا معهم، تنهد إثر ذلك بصوتٍ مسموعٍ ثم جلس فوق الأريكة بعدما نبشت كلماته سطح ثباته وظهر الأثر به جليًا كما يتعلق العطب بالقلوب، أما هي فعلمت أن أي حديثٍ آخر سوف يزيد من بلة الطين لذا كفت عن الحديث وتحركت نحو الداخل بصمتٍ.
__________________________________
<“هذا هو حبيب الروح أعلمه أنا وتحبه الروح”>
الحياة دائمة المذاق لا تُعطي نكهة بديلة غير المعتادة، فلا بُد من بديلٍ يُنافي الأمر المُعتاد لكي نُدرك أن قيمة الشيء لا تظهر إلا بوجود من يعاكسه؛ فالحلو دومًا يحتاج لشيءٍ لاذعٍ لكي نعرف حلاوة مذاقه، واللون الأبيض يحتاج لنقطة سوداء لكي نُدرك قيمة بهجته، فلا يوجد شيءٌ واحدٌ فقط بنفس القيمة الثابتة إلا وكان هناك ما يُنافيها..
عاد للبيت والعودة تحتاج لطاقةٍ أكبر من الذهاب، ولج شقته يحمل الحقائب التي طلبتها منه زوجته بعدما انفعلت في الهاتف بصراخٍ عليه لكونه يُهمل فيما تحتاجه هي، وعلى إثر ذلك نعتها بالغباء وقام بإغلاق الهاتف في وجهها والآن يبحث عنها كما القط الذي يبحث عن الفأر لكي يشاكسه.
وجد “إيـهاب” الشقة فارغةً منها فجلس فوق المقعد يهاتفها بقلقٍ وهو يهز كلا ساقيه بانفعالٍ حتى جاوبت هي بعد المرة الرابعة عليه وهي تقول بضجرٍ منه:
_نعم؟ مين معايا؟.
_نعم ياختي؟ مين معاكِ؟ أنا “إيـهاب” يا عسل.
هتفها بتهكمٍ ردًا عليها حتى قالت هي بتهكمٍ:
_أديني إمارة، مش يمكن واحد فاضي بيتسلى؟.
عض فوق شفته السُفلىٰ ثم كور كفه وقال بثباتٍ واهٍ أشبه بهدوء ما قبل العاصفة:
_بإمارة إني لما ألمحك أقسم بالله ما هسيبك، ماشي.
أصدرت صوتًا من حلقها ينم على الاستخفاف به ثم أخبرته أنها تعبر الطريق لكي تلج السيارة التي تذهب بها للطبيبة بواسطة أحد السائقين وأخبرته أنها عائدة لبيتها بمجرد مضي نصف ساعة وقد جلس هو ينتظرها حتى وصل الأمر لساعةٍ كاملة وهو ينتظر فقط وقد أتت وطرقت فوق الباب فكشر عن أنيابه ثم وقف خلف الباب يسأل بسخريةٍ:
_نعم؟ مين برة؟.
زفرت هي بقوةٍ ثم قالت بنبرةٍ تباينت فيها الضحكات والضيق في آنٍ واحدٍ منه:
_أنا “سـمارة” افتح علشان جاية تعبانة.
_أديني إمارة مش يمكن أنتِ واحدة فاضية بتتسلي وعارفة إن مراتي برة وجاية تغرغري بيا؟ أنا إيه اللي يضمنلي؟.
ضحكت رغمًا عنها من طريقته وهو يسخر منها ويقوم بمحاكاة طريقتها وسرعان ما تحولت ملامحها إلى الشقاوة وهي تقول بعبثٍ:
_عاوز إمارة عيني الاتنين، يوم ٩/٢٠ من خمس سنين.
جعد جبينه في الداخل من ذكرى مرور التاريخ عليه خاصةً أنها لم تملك أي اهتمامٍ بالتقويم أو التاريخ؛ فأتى سؤاله حائرًا:
_ماله التاريخ دا يعني؟ حصل فيه إيه؟.
تنهدت هي بهيامٍ ثم جاوبته برقةٍ ونعومةٍ:
_تاريخ أول مرة تحضني وتبوسني فيها بعد كتب الكتاب لما كنا عند “عـنتر” وساعتها قولتلي إن الليلة دي أنتَ عرفت طعم الحلو في الدنيا.
عَجَّل في حركته لفتح الباب وهو ينطق بهلعٍ زائفٍ من ذكرتها التي أتت بها لكي تعيد له الماضي الراحل:
_يخربيت إمارتك السفلة زيك دي، خشي خشي وكفاية فضايح الله يخربيت دماغك.
ضحكت هي رغمًا عنها من جديد بينما هو أغلق الباب ثم تحرك يجلس بجوارها فوجدها تبتسم له بسمة حملت معها العتاب لكونه أنفعل عليها في الهاتف فضمها هو له بصمتٍ ثم رفع كفها ولثم راحته كأنه يسترضيها وهي بدورها صمتت ورحبت به وبمكانها بين ذراعيه بكل صمتٍ.
في الأسفل في حالة من الهدوء النادر جلس هذا الشريد يمسك كتابًا عن تاريخ مصر الفرعوني، كتابٌ جديدٌ وصله من أحد الزائرين لمكان عمله وما إن أعجبته التصميمات الفرعونية بالمكان وعلم هوسه بهذا الشيء قام بمهاداته الكتاب القابع بين كفيه، ولكي يُزيد “إسماعيل” من حالة الصفاء تلك قام بتشغيل صوت “أم كُلثوم” بجواره والقمر فوقه يشهد على صفاء ليلته في فناء البيت الرملي..
ليلة شتوية هادئة من زوبعات الأمطار والعواصف، وقمرٌ منيرٌ ظهر في سماه، هوسه بين يديه وما يحب لسمعه كان في الخلف وحبها يسكن قلبه، فتنهد مطولًا ثم التفت للخلف دون أن يقصد فوجد هاتفه يصدح برقمها، تعجب لوهلةٍ كيف التفت في تلك اللحظة المناسبة ثم خطف هاتفه وقال بهدوءٍ:
_غالبًا كدا هبدأ أصدق كلامك إن الروح بتحس بروحها، أنا حسيت بيكِ إنك بتتصلي من غير ما اسمع التليفون؟ دا نسميه إيه دا يا “ضُـحى”؟.
ألقى السؤال بتخمينٍ أكثر من الاستفسار حتى ردت بسعادةٍ:
_نسميه إنك قلبك كبير يا “سُـمعة” وبيحس بدفا قلب صاحبه، بعدين هو أنتَ ماكنتش عاوز تحس بيا؟ دا أنا كنت طلعت عينك يا “إسماعيل” أينعم أنتَ غلبان بس برضه هطلع عينك.
بسمة هادئة زينت وجهه، وانتفاضة ثائرة أتت من قلبه، وصفاءٌ حل ملامحه وكان الرد حاضرًا بقوله:
_ماهي طلعت كتير علشان أعرف أوصلك وتكوني ليا، بس مش مهم حتى لو أنتِ شقية وهتغلبيني أنا راضي بغُلبي علشان معاكِ أنتِ وبس يا أحلى “ضُـحى” في كل الدنيا.
هذه هي الجُرعة الزائدة التي تلقتها منه، تلك المرة من المرات النادرة التي يُغدقها فيها بكلماته المعسولة لتضفي مذاقًا شهيًا فوق أيامها البائسة، كلماته كانت أحب لها من كل شيءٍ حولها حيث حنانه المعتاد وهو يُنصت لها ويشاركها يومه وهي تملي عليه تفاصيل يومها بأكمله، كلاهما كان مُستأنسًا برفقة الآخر تحت سماء الحُب أسفل جناح العشق.
__________________________________
<“الحمقىٰ فقط هم من يدخلون أرض أعدائهم بكل تبجحٍ”>
الليل الصافي في الشتاء لن يبقَ كثيرًا؛ دومًا تأتِ الأمطار لتكون نُذرًا يُفاجيء الجميع أن الحال يتبدل في طرفة عينٍ، فما بين سماءٍ مُلبدة بالغيوم وبين شمسٍ ساطعة تُدفيء الجميع نمر بفترة صقيعٍ تُغلف أرواحنا وتمتد أياديه لداخلنا..
كاد أن يرحل ويترك مكانه لكي يعود للحارة مُبكرًا لكن الأمطار بالخارج أجبرته أن يظل مطرحه في مركز الصيانة برفقة مساعديه وهو يتفحص سيارته المُدمرة كُليًا، تذكر سعادته بها يوم أن أتى بها “أيـهم” له وأخبره أنها هدية منه ومن أبيه له، تذكر كيف كانت سعادته يومها حينما احتضن شقيقه وشكر والده، وعلى إثر ذلك ترقرق الدمع في عينيه ثم تنهد “أيـوب” بحسرةٍ..
لاحظ اهتزاز الهاتف في جيبه فأخرجه وجاوب على زوجته التي ظلت تستفسر عن أحواله وتمازحه وتشاكسه كما اعتاد هو منها، وحينما لاحظت هي الحزن البائن في صوته سألته باهتمامٍ عن سببٍ لذلك فأتاها الجواب منه بضيقٍ:
_العربية متدمرة ومش نافعة غير بعد شهور، أنا كنت بحبها علشان كانت هدية بابا وأخويا وكنت بعزها علشان أول عربية ركبتها وروحت بيها عند قبر أمي، وحاليًا أكيد مش هعرف أجيب عربية، الشقة شطبتني ومش عاوز آخد فلوس من بابا، لسه لما نشوف الفرح اللي بعد بكرة دا.
اندفعت هي بطريقةٍ تمثيلية تسأله بدهشةٍ:
_يا حوستي؟ يعني أنتَ دلوقتي مبقاش عندك عربية؟ وبتقولها في وشي كدا عادي كأن مفيش حاجة؟ أتجوزك إزاي بعدما دمرت أحلامي ومخططاتي؟ جوزي مش عنده عربية وأنا بوافق عادي؟ اتفضل روح هات عربية يلَّا.
تعجب هو من طريقتها ولم يرَ ملامحها بالطبع لكي يستنتج سبب قولها، فرد عليها بتهكمٍ:
_أروح أجيب عربية؟ على أساس إنها عربية كبدة يعني؟ بعدين نصيبنا كدا قولي الحمدلله إني خرجتلك منها حي، ثم تعالي هنا يا بت أنتِ، مش قبل كدا قولتلك إحنا مع بعض على الحلوة والمُرة والسراء والضراء؟ بتديني ضهرك؟.
هتفت هي بحنقٍ مستنكرةً ردًا عليه وقد توقع هيئتها أمامه:
_أنا !! أنا قولتلك معاك في المُرة؟ لأ يا بابا، أنا ساعتها قولتلك معاك في الحلوة وسكت عند المُرة، وعند السراء عليت صوتي ووطيته عند الضراء، ربنا يعينك يا رب، قال مُرة قال، أنا متجوزاك علشان أشوف مُرة كمان؟ يا ميلة بختي.
رغمًا عنه وعن أنف حزنه ضحك على نواحها الزائف ونُكرانها للحديث حتى علا صوت ضحكاته أكثر لتطرب أذنيها هي وابتسمت بسعادةٍ ثم نطقت بنبرةٍ أكثر هدوءًا:
_الحمدلله إنك ضحكت، خلي بالك بقى من نفسك ومتزعلش بكرة العربية ييجي غيرها أحسن مليون مرة كمان، ولو ماجتش مش مهم، هروح أشوف حد معاه عربية أتجوزه وخلاص، هغلب يعني؟!.
ضحك من جديد أيضًا وكأنها تقف أمام حزنه بالمرصاد، ثم أغلق معها بعدما ألقت وصايها عليه لكي يرعى نفسه ويهتم بسلامته حتى يعود إليها من جديد، أما هو فلجأ لرفيقه حتى يعود به إلى حارة “العطار” وجلس في انتظاره بعدما أرسل له مكانه عبر الخرائط الإلكترونية، وقد أتى “يـوسف” عند مركز الصيانة ونزل بتيهٍ ووقف في ردهة الاستقبال وهو يطالع المكان البعيد عن أواسط المدينة بتعجبٍ…
ولج للداخل بحيرةٍ حتى لمح اسم “أيـوب” يزين الحائط الرُخامي الأسود باللغة العربية ولمح اسمه بجوار خانة الإدارة فعقد حاجبيه ثم بحث عنه بعينيه ليجده أسفل سيارةٍ من السيارات فاقترب منه يجلس على عاقبيه ثم قال بسخريةٍ:
_الأسطى “أيـوب” بقى أسطى رسمي، بتعمل إيه؟.
خرج “أيـوب” له من أسفل السيارة ثم قال بضحكةٍ واسعة زينت وجهه كأنه يرى رفيقًا غاب عن اليوم الدراسي:
_باشمهندس “يـوسف” بنفسه؟ دا المكان نور.
وقف كلاهما بمقابلة بعضهما وقبل أن ينطق أيًا منهما أتاهما من الخلف الصوت البغيض يهتف بخيلاءٍ واستعلاءٍ كأنه يملك الأرض بإرادة ساكنيها:
_آخر حاجة كنت أتوقعها إن ييجي يوم ويكون فيه قدامي “أيوب العطار” مع “يـوسف الراوي” مع بعض، والغريب أكتر هو إن الموت والحياة هيجمعوكم مع بعض.
التفت له كلاهما مع بعضهما في نفس اللحظة فابتسم “ماكسيم” ثم دس كفيه في جيبي بنطاله وقال برأسٍ مرفوعٍ وأنفٍ شامخة:
_أنا آسف طبعًا إني جيت أتطمن عليكم متأخر بس بصراحة من بعد ما قطعت ليكم فرامل العربية واتسببت في اللي حصل ليكم وأنا بفكر آجي وأجيب معايا إيه بس مش لاقي حاجة تليق باتنين زيكم، كان نفسي “نـادر” يكون موجود معاكم علشان أتطمن عليه بعدما خبطته بالعربية هو كمان، بس يا حرام دلوقتي زمانه مخطوف وفي إيد رجالتي أو يمكن يكون هرب منهم، هو وشطارته بقى، صحيح مبروك على الفرح، عرفت إن فرحكم بعد بكرة.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

‫10 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى