روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والحادي والأربعون 141 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والحادي والأربعون 141 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والحادي والأربعون

رواية غوثهم البارت المائة والحادي والأربعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة و الحادي والأربعون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السادس والخمسون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
اللهم لكَ الحمدُ كُلُّهُ ولكَ المُلك كُلُّه
بِيَدِكَ الخيرُ كُلُّهُ وإليك يَرجِعُ الأمرُ
كُلُّه علانيَتُِه وسِرُّه فأهلٌ أنتَ
أَن تُحمَدْ إنَّك على كلِّ شيء قديرٍ
اللَّهمَ اغفر لي جميعَ مامضى من ذُنوبي
واعصمني فيما بقيَ من عُمري
وارزقني عَملاً صَالحاً يُرضيكَ عنِّي
_”من دعاء الصالحين”
__________________________________
الحُب جهادٌ، والقلب يحتاج لوفاء المُجاهد، ونصرة قلب المُحب واجبٌ، والعناق في عُرف العاشقين فرض عينٍ، فمن أفسد في حُبه كان ظالمًا، ومن لم يُطِع القلب كان آثمًا، لطالما كان العشق هو القضية الوحيدة الخاسرة أمام أعتى رجال القانون، فلن يفلح أمام فداحته مُحامٍ ولن يصدر ضده أمر قاضٍ، فمن أفتروا على الحُبِ هم ذاتهم من خضعوا للحربِ، تلك الحرب التي شنتها الأعين بين قلبين، أحدهما كان راغبًا وثانيهما مُرغمًا، ومن ثم تنقلب الدَّفة فيصبح كليهما مُغرمًا، تتبدل الأحرف ورُبما تتلاشى، والعُمق يزداد معنًا من بعد الهشاشة، الحرب المُقامة بين المُقل تُسلب منها الراء فتُكَوْنُ حُبًا، والألم تطرأ عليه تغيرات ظهور الحبيب فيغدو أملًا، أما المُرغم على السير في طريقٍ لم يَرغبه، سيصبح بسبب قلبٍ أحبه هو المُغرم، فلو كان الحب سماءً، فحتمًا سيطير فيها كل عاشقٍ، هناك حيث الحُريةِ، السُحب الناعمةِ، البُعد عن غوغاء بشرٍ لا يفهمون بلغة الحب ولا يسمعون صوت القلب، حيثُ هناك مع قلوبٍ يوم أن أحبت أعلنت مُسامحتها للعالم، وأقامت هُدنةً في وسط الحرب، تاركة أمر الجهاد فقط بشأن القلب، وفي النهاية إن كان القلب هوىٰ وأحب، فمن هو صاحب الذنب؟.
<“لو علم الحمار فقر قدراته لكان استراح قبل التباهي”>
خوض السباق مرغوبًا، والإجتهاد فيه مرغومًا، والأمل منه هاديًا، والخوف منه ساحقًا، جلَّ ما نُفكر فيه هو سباقٌ شريف بين طرفين نزيهين، وفي الحقيقة المُخبوءة، هو حربٌ بين قوتين مُتضاربتين، فهل رابح السباق سيكون منهما؟ هذا يجوز، ورُبما…
مقابلة رسمية أتت مع رحيل النهار لتختتم عمله بها ويبدأ الليل مُعاونًا لها، طبيبٌ نفسي شهير لاقى السُمعة الحَسِنة، ورجلٌ أشقر الملامح جاء من خليط الجنسيات يجلس مقابلًا له يعمل كعالم آثارٍ شهيرٍ لاقىٰ سُمعة شهيرة وحسنة في مجاله وها هو أمامه ويبتسم بكياسةٍ غلفت ملامحه، والآخر يبتسم بودٍ وزهوٍ _وإن كان يخفي ما يعكس ذلك_ للآخر الذي جاب العيادة بعينيه ثم بادر في الحديث بإنطلاقة فهدٍ كان حبيسًا:
_جميلة العيادة وطُرازية جدًا، واضح إنك بتحب الحاجة الكلاسيكية يا دكتور، أو يمكن بتحب الحاجة اللي فيها طابع أثري ومحتفظ برونقه.
بدا أمام الآخر مهووسًا بكل ماله أصلٌ، كان يبحث بعينيه في المكان كأنه يتفقده أو رُبما يحفظ تفاصيله المُريحة داخل عينيه، راقبه الآخر بطرفة عينٍ يمكلها مُحاربٌ ظافرٌ في قهر كل عدوٍ ثم قال برتابة كلماتٍ مُجاملة:
_الحقيقة هي طُرازية فعلًا، ودي الكنز اللي والدي سابه ليا أنا وأسرتي، بس أكيد ذوقك حلو علشان كدا شايفها حلوة مستر “ماكسيم” بس هل دا معناه إنك اخترت العيادة علشان طُرازية ولا علشان دكتورها شاطر وليه سُمعته؟.
سؤالٌ مُزود بنكهة المزاحِ، بسمة ودودة زينت مجرى السؤال، نظرة العين عكست ذلك هي الأخرىٰ والنظرة الحقيقية لازالت مخبوءة، بينما الآخر فعاد للخلف وقال بغير مبالاةٍ لكلا الأمريْن، وإنما هو أتى لشيءٍ غير ذلك:
_لا إطلاقًا، أنا جيت هنا لغرض تاني خالص، غرض يخص مصلحتك ومصلحة عيلتك وأسرتك، ودا لأني صريح جدًا ومبحبش الخداع والكدب، فأتمنى إن جلستنا تكون بشكل ودي، ودا لأن بكل بساطة أنا جاي أقوم بدور المِجهر، كأني تليسكوب بوضح ليك الحاجة الغايبة عنك.
كلماته كانت رسمية لحدٍ بلغ التوتر وأشده، لكن ليس أمام طبيبٍ نفسي يُجيد ضبط النفس بمهارةٍ وبراعةٍ حتى ملامحه لم تُظهر أي شيءٍ، وإنما أجاد رسم صفة الاستماع والإنصات لمن يحدثه، فتنهد الآخر بشكلٍ دراميٍ رسم فيه الأسف باصطناعٍ ديناميكيًا رافق قوله:
_ترددت كتير قبل ما أجيلك، بس كان لازم آجي لأني كمُعلم فاضل ماحبش طُلابي يكونوا كدابين ومُستغليين، أو بمعنى أصح ماحبش حد يخرج عن طوعي، يمكن حضرتك متتوقعش كل اللي هقوله؛ بس هقوله.
حديثه استرعى انتباه الآخر، فتقدم “جـواد” بجسده للأمام يضم كلا كفيه بعناقٍ يُعني التحفز لما هو آتٍ من سيل كلماتٍ بعدما كانت النظرة تُجيد الحديث وتنظر بخطرٍ قادمٍ، حينها رسم “ماكسيم” إمارات التعجب المُصطحبة معها آسفًا ثم قال بُغتةً دون تمطيط آخر:
_”مُـنذر الموجي” أو حاليًا هو “مُـنذر الحُصري” تلميذي النجيب، أشطر تلميذ أنجبته في مدرستي، حاليًا هو خطيب أختك!! وكدا أنتَ بقيت في دايرة حفيفة بالمخاطر، فقولت أنبهك وأخليك تاخد بالك أنتَ بتسلم أختك لمين؟.
لم تتبدل ملامح “جـواد” بتاتًا، ظل كما هو كأنه تمثالٌ من الشمع، نظراته أسفل منظاره الطبي لم تختلف كثيرًا عن سابقتها، عيناه صمتت كما توقف لسانه، وكل ما صدر عنه فقط اعتدالة فوق مقعده ثم قال برتابةٍ:
_مفيش مشاكل، أحيانًا التلميذ الشاطر بيفوق معلمه بس دا لو تعامل بمباديء وقيم، وعمومًا أنا متشكر جدًا لكلامك وعلى العموم أنا عندي علم مُسبق بكل حاجة، مش منطقي برضه أكون بناسب الحج “نَـعيم الحُصري” ومعرفش أنا بسلم أختي لمين وفي بيت مين، وعلى فكرة!! أنا توقعت المقابلة دي من زمان، “ماكسيم ألفريد” عالم الآثار الشهير ظاهريًا، رجل العصابات الدولية باطنيًا، تصدق دي مقابلة تتحط في تاريخي؟.
إذا أتاك من يُلقيك بقنبلةٍ فلا تتركه قبل أن يَّطلهُ أثرُها هو الآخر، وهذا النهج أنتهجه “جـواد” مع من يُقابله حتى بانت إمارات الذهول الصادمة فوق وجهه، يبدو كمن أشعل نيرانًا في حقل زراعي يعود لجيرانه ولم تسلم أرضه من وصول النيران لها، وإثر ذلك تحول الوضع في طرفة عينٍ فأصبح الطبيب صاحب المُثل العُليا هو الظافر في جلسته، بينما الآخر فبالرغم من خسارته الحاضرة إلا أنه لم يُفصح عنها بل تعمد أن يلتوي في كلماته لكي يواري هزيمته..
دامت حرب النظرات بينهما قليلًا وانتهت باستلام “ماكسيم” دُّفة الحديث بقوله الملتوي بكل انعواجٍ:
_دا واضح إنك قدرت توصل لكل المعلومات عني، تفتكر بما إنك طبيب نفسي ممتاز وموهوب في علاج المرضى عندك هل أنا ممكن أكون مريض نفسي؟ ولا أنا شخص بيقدر قيمة الأشياء صح وبحب أديها المكانة اللي تستحقها؟.
سؤاله أتى لعوبًا كأنما هناك من يدعي الفضيلة وعلى إثر ذلك أتى رد “جـواد” الرصين بديباجة المُدافع عن الحق بصك ملكية تعود له:
_والله لو بنظرتي كطبيب نفسي من خلال معلوماتي عنك فأنتَ شخص وضيع مالهوش أي تلاتين لازمة، مجرد حُثالة معدومة الهوية زي سرطان بيمشي في الجسم ولازم نبتره قبل ما يزيد انتشاره أكتر، مجرد شخص ليه أهواء وضيعة عاوز ينشر أفكاره الشاذة وسط المجتمعات، بحيث إن اللي هو وأمثاله فشلوا فيه ميخلوش غيرهم ينجح بالوصول ليه، أما كإنسان عادي، فأنا شايفك متقلش قيمة عن التور الهايج في حلبة مُصارعة مش أكتر من كدا على حد التقدير يعني.
أمال الآخر جزعه للأمام مُطرقًا بأنامله فوق سطح المكتب الفاصل بينهما وأردف بتفسيرٍ بعدما تولى الحديث من وجهة نظره أو رُبما قصد أن يُفسر كلامه بشكلٍ متواطيءٍ أسفل طاولة الرغبات:
_طبيعي إن أمثالك الراكضين ورا المُثل العُليا والدفاع بنزاهة عن أفكاره ومعتقداته أنه يشوفني كدا، إنما أنا واحد بغير العالم، الأفكار القديمة والجهل بقيمة الأشياء مش من طبعي خالص، مثلًا عندك شباب زي “مُـنذر” دا؟! أنا قدرت قيمته صح، خليته محترف في كل حاجة أولهم القتل، ودي الحقيقة اللي متعرفهاش لأن عمه مش على علم بيها، عندك واحد زي “إسماعيل” دا؟! دا كنز لوحده، بس إيه؟ مجرد شاب مُجهد نفسيًا وبس، وغيرهم وغيرهم كتير، يا راجل فيه بلد بتتسرق من أيام الفراعنة ولسه لحد دلوقتي فيها آثار وأغنيا؟ للأسف مش متقدرة صح، فيها شعب جبان وضعيف، حُكام جايين لأهوائهم بس، شباب مش واعي. مش مدرك لقيمة أي حاجة، واللي واعي بيمشي منها قبل ما الطوفان يبلعه جواه.
حديثه نبش بقسوةٍ فوق سطح نزعته الوطنية وكأنه ابنٌ يخشى على عِرض وشرف بيته ولأول مرة يخرج من طور التعقل وينتهج غيره أشد قسوةً في الإلقاء بان في اندفاعه:
_وهو مين السبب مش أنتَ وأمثالك؟ مين اللي عمال يسرق تاريخم وينهب منهم أيام عمرهم في مخدرات وبلا أزرق ونهب لأحلامهم؟ مين غيرك أنتَ والعصابات اللي زيك جابلهم مخدرات وخلاها قوت يومهم؟ مين زرع فيهم الفُحش والعُهر علشان ينسوا القيم والأخلاق ودينهم؟ مين غيرك أنتَ وأمثالك خلى اللي زي “أيـوب” إرهابي وأي شاب مسلم يبقى مخوفاتي ماشي بين الناس؟ مين غيركم بيسرق ماضيهم وتاريخهم، وينهب أحلامهم وحاضرهم ويلغي فكرة المستقبل من قاموسهم علشان يكونوا رهن لحظات الحاضر الصعبة؟ صدقني يوم ما الغمامة هتتشال من على العيون، فيه طوفان هيقوم.
كل ما تلقاه كانت السُخرية من ملامح الآخر ثم عقب ذلك وقوفه ثم نصف التفاتة يشمل بها العيادة بعينيه ثم قال بسخريةٍ لم تَلِق بالموقف ككلٍ:
_جميلة العيادة، بس غريب إن كل زوارها شباب بس، وطن إيه دا اللي كل شبابه متوزعين في مصحات الإدمان ومصحات العلاج النفسي؟ أومال لما يكبروا أكتر هيروحوا فين؟ على ما أظن عندكم اسمها دار مُسنين..؟.
ترك سؤاله مفتوحًا بتكهنٍ ولم يُغلق أقواس كلماته، بل تركها تضمر نفس نظيره بحزنٍ جليٍ تسطر فوق ملامحه بحزنٍ وقهرٍ؛ وفي النهاية رُقعة الفساد تتسع وتبتلع الجميع في جوفها، والصمت هو المُراد، أما من تحدث فهو المجنون وسط عالمٍ أصم يدعي أنه العاقل.
__________________________________
<“ليس كل الأشياء تُسترد بالقوة، بعضها يأتِ بالحيلة”>
الغاية تُبرر الوسيلة، وتُبدد الخطأ..
فالأعين تتربص بالهدف وفقط ولا يَهُمها ماهو دون ذلك، الغاية تكمن في الوصول للمُراد دون الأخذ بعين الاعتبار أن الطريق المأخوذ هو الخطأ بذاته، وحينما نتعرى أمام مرآة الحقيقة، ندفع بكل الدفوع الشرعية لذلك؛ أن وسيلتنا هي مُبرر غايتنا..
قبل مرور بعض الوقت قبل تلك اللحظة الراهنة، كان “مُـحي” يجاور “إسماعيل” في غُرفته وهو يرتدي ثيابه لأجل المُناسبة التي يتحتم عليه حضورها باعتباره أحد أهم أفراد العائلة، فكان الآخر يُهندم ثيابه برتابةٍ ويُصفف خصلاته المرفوعة باعتناءٍ وقبل أن تستقر بنان أنامله فوق ساعة معصمه ولج له “إيـهاب” كما الإعصار يحذره بسبابٍ للمرة التي فشلوا في حصرها:
_لو الساعة جرالها حاجة هزعلك، دي هدية جايالي غالية من برة مخصوص، تتخدش بس، أنا هخدش أنا كمان بس مش هقولك إيه هخليك مع نفسك كدا تفكر.
يُلقي الكلمات فَيأتِ الرد بالضحكات وفقط، ضحكات يائسة من تكرار الوصايا العشر حتى قطع ذلك قول “مُـحي” الساخر بمزاحٍ:
_دا أنتوا الدم عندكوا بقى مياه ساقعة.
حدجه حينها الشقيق الأكبر بسخطٍ بينما الآخر فهو فقط تبسم ثم أقترب من شقيقه وقال بشقاوةٍ مرحة يقصد بها اللعب فوق الأوتار الأكثر حساسية:
_ولو الساعة جرالها حاجة وأنا سليم؟.
طاف “إيـهاب” فوق ملامحه ثم قال بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم للآخر وطوقه بذراعه كأنه يشد عضده:
_فداك الدنيا بحالها يا “سُمعة”.
حينها ضحك له شقيقه ثم ضمه بقوةٍ وشدد قبضته له مما جعل الآخر يبتسم بحنوٍ وهو يرى سعادة نصفه الآخر بائنة للعيانِ، هذا لم يكن “إسماعيل” الوحيد المضطرب اليائس، إنما هو آخرٌ أكثر إشراقة وابتهاجٍ عن ذي سابق..
كان “مُـحي” حاضرًا معهما بجسده فقط، وإنما عقله غاب مع شاشة هاتفه حينما وجدها قبلت قبول المتابعة على موقع “انستجرام” وقد كان أنشأ الحساب قبل سابق باسم زائفٍ يعود لفتاةٍ، تلك هي الوسيلة التي لجأ إليها لكي تُفتح له الأبواب من جهتها كما سبق وفتحت له الكثير، جلس ثوانٍ عابرة أتته خلالها الفُرجة حينما قامت بإضافة قصتها عبر هذا الموقع وتشير إلى موضع ذهابها.
انتفض من محله سريعًا وخرج ضاربًا الشقيقين بكتفه بحركاتٍ غير مُهندمة تفتقد للرتابةِ حتى سبهُ “إيـهاب” بصوتٍ عالٍ ولم يخجل من ذلك، فأضاف “إسماعيل” بحنقٍ هو الآخر حينما مر “نَـعيم” بجوار الغرفة:
_تلاقيك رايح تشقط واحدة من الأشكال اللي تعرفها، إلهي يا رب تطلع متجوزة وتضرب علقة محترمة من رجالتها.
لم يكترث الآخر بصياحهما ولا حتى السُباب الذي وُصِفَ به، إنما غضض البصر عن كل ذلك وقرر أن يرد لها أفعالها معه بنفس الطريقة، وصل لهناك حيث المكان الذي أشارت بالذهاب إليه ولا يعلم كيف وصل لكنه يعلم لما وصل.
كانت “جـنة” تجلس في مكانٍ قرب منطقة حارة “العطار” وجلست به فارغة ووحيدة كما اعتادت دومًا، منذ أن وُلِدت وهي وحيدة بدون أخوة، وكبرت وحيدة بغير رِفقة، وغدت شابة بغير أنيسٍ، وحدها تُهذب نفسها، وتُقلم رغباتها وتهتدي في خطاها، والآن في الطابق الرابع عشر في بناية شاهقة تجلس بداخل المكان المفتوح المُزين بأضواءٍ ذهبية وزروعٍ خضراء..
الجميع مع بعضهم إلا هي، هنا تجلس أسرة صغيرة، وهناك تجلس مجموعة رفقاء مع بعضهم، وأمامها فتاة برفقة صديقاتها يواسونها بسببٍ حزين، وهي هُنا بمفردها تأتِ مرتين لتنزه عن نفسها أو رُبما تجلدها، ترتشف العصير المفضل لديها ثم تقرأ كتابًا أو روايةٍ ما ثم تحمل نفسها سريعًا وترحل نحو بيتها، والآن أخفضت بصرها بين صفحات الكتاب تقرأه بتركيزٍ والصمت يملأ الرُكن الذي ترتكز فيه..
سقط عليها ظله فجأةً حتى تشوشت الرؤية أمامها فأضطرَّت أن ترفع رأسها له، تتلاقى الأعين بين نظرات الترقب منه وبين الدهشة منها، ظل يتمسك بها بعينيه ولم يتركها أن تفارقه، بينما هي تمنت وتوسلت أن تكون رؤيته أمامها كاذبة وليس إلا، لكنه حرك المقعد وجلس مقابلًا لها وقال بثباتٍ يُحسد عليه أمام رفرفة ناظريها:
_أنا آسف إني جيت مرة واحدة كدا وأقتحمت مساحتك، بس مهم تعرفي إني عمري ما اتأسفت لحد قبل كدا، وعمري ما أعتذرت بس أنتِ غير يا “جـنة”.
طافت بعينيها المكان بحثًا عن الناس ثم نطقت بصوتٍ أعرب عن الخوف والقلق مما وضعها هو به:
_لو سمحت يا دكتور”مُـحي” كدا مينفعش، أنا مش قايلة لأهلي إني هشوف حد وهما متأكدين من كدا، وقعدتك دي غلط كبير وهتأذيني، لو سمحت!!.
توسلته بنبرةٍ أقرب للتهدج فرأى في عينيها خوفًا لم يفهم سببه لكنه سرعان ما استنتج أن تواجده قد يتسبب لها بضررٍ فوقف مُسرعًا وعيناه لازالت تتعلق بعينيها، لم تقدر على صرف نظراتها بعيدًا عنه، كأنه جاذبية أرضية وحده غير تلك التي يقف عليها الآخرون، بينما هو فقرر أخذ الصراحة سبيلًا لذلك أتى قوله لها:
_حقك عليا، أكيد مش هقبل حد يزعجك ولا يضايقك بكلمة، بس أنا جاي أقولك إنك مش هينفع تهربي مني خلاص، نتيجتي الأسبوع الجاي وهنجح إن شاء الله وأتخرج، وهاجيلك أطلب أيدك، بس الأهم إنك تعرفي حاجة مهمة، وهي إنك مش أول واحدة في حياتي، بس أول واحدة أحبها في حياتي يا “جـنة” وأنا مش هقدر أضيعك من أيدي، هبقى مجنون.
توسعت عيناها إثر تدفق كلماته المبعوثة بصراحةٍ منه وأتىٰ ردها بحدةٍ مُفتعلة في وجهه لكي تزيحه من طُرقاتها:
_دا على أساس إنك كدا عاقل يعني؟ أنتَ تخطيت مرحلة الجنون بكتير، وأنا بقولك أهو أبعد عني أحسنلك، قُربك بيأذيني وأنا والله بحاول مع نفسي، مش عاوزة حاجة ترجعني تاني لنفسي القديمة، أنا راضية بنفسي كدا.
_بس أنا مش راضي كدا، أنا عاوز أبقى زيك مرتاح وراضي عن نفسي، عاوزك أنتِ معايا ومش عاوز غيرك، أديني أمل وقوليلي إنك هتبقي نصيبي وتوافقي لو جيتلك، والله عندي استعداد أعمل أي حاجة علشانك، أنا مش مرتاح كدا ومش هرتاح غير بحاجة واحدة وهي كلمة منك.
زاغ بصرها في شتاتٍ وضياعٍ ولم تعد تعلم أين المرسىٰ أمام طوفانٍ سيقوم بتهشيم سفينتها، أما هو فأخفض جذعه لها بميلٍ لم يكن بالغًا ثم قال بتريثٍ هاديءٍ:
_أنا مش هاجيلك غير لما اتأكد أني استاهلك وإنك هتكوني مراتي وليا، هنضف حياتي ونفسي قبل ما أقف على عتبة بابك ومش هضايقك بوجودى أو بظهوري تاني، بس أديني إشارة بس أمشي عليها بدل التوهة دي.
ترى صدقًا لم تجد له نهاية، ترى عينين فيهما أنطوى الأسر وهو يرجوها أن تناوله مُراده، لا تعلم ماذا تفعل أمام سائلٍ يطلب منها الحياة وهي بين يديها تمسك بالإكسير الشافي، تواصلت المُقل ببعضها فوجدته يرمي حقيقة لم تكن بحاجةٍ لكشفها:
_أنتِ لو مش حاسة بحاجة ناحيتي مش هتخافي مني، أنتٓ خايفة علشان بقيتي بتشوفيني واللي بنشوفه مرة صعب ننسى إننا شوفناه.
أقر هو بدلًا عن قلبها بكل شيءٍ، أقر أنها تراه وتنجذب نحوه حتى أنها أمست تخشى ميل قلبها نحوه، لكنها أرادت أن تقف على أرض صلبة أولًا فسألته بتيهٍ:
_ولو رفضت هتعمل إيه؟.
توقعت الكذب أو الاستعطاف قبل أن ترمي بسؤالها، لكنه ضرب عرض الحائط بكل أفكارها وقال بصراحةٍ لم تعهدها إلا منه هو وحده طوال حياتها:
_هروح كباريه وأسهر وأشرب علشان أنسى كلامك دا، هرجع للطريق اللي بحاول أنساه وأعمي عيوني عنه، بس لو وافقتي من دلوقتي هروح لأخويا وأقوله ربيني وخُد بايدي، هخليه يعلمني أكون زيه، ها؟ أروح فين بالظبط؟.
من جديد يصيبها بذهولٍ يُشتت روحها ويجعل كومة ثباتها تتبعثر وتسير خُفافًا خلف الرياحِ، كانت أمامه لم تقل عنه قلقًا وشتاتًا لكنها فقط تحدثت بثباتٍ واهٍ كما حركة عينيها:
_الحكاية كلها نصيب ومكتوب، واللي ليه نصيب في حاجة بياخدها غصب عن نفسه حتى، وأنا معرفش نصيبي إيه، بس حتى لو نصيبي أنتَ هرضى لأن دي حكمة ربنا يا “مُـحي” وإحنا مالناش في الأمر كله شيء.
نُطقها لاسمه مُجردًا كان هو الأمل بذاته، في كلماتها وجد هو مرساه وكأنها وقفت على الشاطيء تلوح له أن يأتِ نحو اليابسةِ، استقام بوقفته يطالعها من علياءه ثم ابتسم لها وقال بصدقٍ ظهر في عينيه كما كلماته:
_أنا مش عاوز يكون ليا في الدنيا دي مكان تاني من غيرك.
ألقى كلماته ورحل دون أن يكترث بباكورة مشاعرها العذراء التي لم تداهمها مثل هذا الشيء من قبل، لقد بعثر كل شيءٍ ورحل كما جاء في لمح البصر وهي تجلس في الخلف تستمع لنبضات قلبها الهادر بين جنبات صدرها بعنفٍ، هو لم يكن مارًا عاديًا كما غيره من العابرين، يبدو أن الحكاية ستطوي بين صفحاتها أكثر من ذلك وهي لازالت تقف عند السطر الأول منها..
__________________________________
<“بين حاضرٍ ومستقبلٍ يزورنا الماضي؛ فنتعرقل”>
نعيش في حاضرنا، وننتظر متسقبلنا لكن هذا لا يُعني أننا تغافلنا عن ماضينا، فما بين الأول وبين الثاني يأتِ إلينا ماضٍ يُعرقل سير خطواتنا، يضعنا أمام مرآة الذكرىٰ، والذكرى وحدها تؤرقنا.
عادات وعُرف قامت هي باختراعهم في بيتها، ألصقت خُرافاتها للقدماء وهي تتحرك بخطواتٍ ثائرة تملأ على إثرها الطاولة الكبيرة بأطباق الطعام بشتى أنواعها وأمامها الجالسين يتبادلون النظرات بحيرةٍ، أتت “أسماء” بصحن الدجاج المشوي وقامت بوضعه بمنتصف الطاولة ثم قالت بضحكةٍ واسعة:
_كلوا وخلصوا الأكل كله، أنا واقفة على رجلي من إمبارح علشان الأكل يعجبكم، كُل وأكل عديلك يا “أيـوب” يلَّا، وأنتَ كمان يا “إسماعيل” شجعه لحد ما “عُـدي” ييجي من تحت يلَّا.
الاثنان برفقة بعضهما يبتسمان لها وقد خرجت “قـمر” تضع لهما قارورة المياه والأكواب ثم غمزت لزوجها الذي أشار لها أن تتريث لكي يرد لها فعلها هذا، بينمها هي تصنعت البراءة وهي تعرض عليه بأدبٍ:
_الحمام فاضي يا “أيـوب” لو عاوز تغسل أيدك، أتفضل.
جعد جبينه بحيرةٍ لكنه أدرك لعبتها فالتفت لمن يجاوره غاضضًا بصره عنهما واستأذنه بأدبٍ وتهذيبٍ:
_عن إذنك يا “سُمعة” هغسل أيدي وأجيلك.
سمح له الآخر باسم الوجه وتصنع الإنشغال بمراسلة شقيقه بينما الآخريْن سارا معًا وما إن جاورها أمسك كفها يقبض عليه بقوةٍ ثم مال يهمس جوار أذنها بنبرةٍ خفيضة:
_جيت أغسل أيدي وأغسل عاري بالمرة.
راقصت حاجبيها بشقاوةٍ ثم أرشدته للمرحاض، غاب لمدة ثوانٍ ثم خرج لها فوجدها تمسك المنشفة القماشية له ثم مدتها ببراءةٍ جعلته يرمقها بطرف عينه بينما هي أقتربت أكثر تُهندم ياقة سُترته بنعومةٍ بالغة، ثم رفعت أناملها تُمررها فوق لحيته حتى ضحك هو بيأسٍ ثم قال بزيفٍ:
_يابت لمي نفسك بقى كفاية فضايح.
تراجعت للخلف وهي تتصنع براءة الفعل بقولها:
_هو أنا عملت حاجة يعني؟ غلطت لما حسيت إنك عاوز تغسل إيدك؟ كان المفروض أسيبك يعني تاكل وأيدك ملوثة؟.
ضحك مُرغمًا وأراد أن يضمها وهي تُسبل أهدابها له ثم لثم وجنتها بقبلةٍ خاطفة قبل أن تتم رؤيتهما في الجُرم المشهود، بينما في الخارج فخرجت “ضُـحى” تجاور زوجها الذي قال بمعاتبةٍ طفيفة:
_وحشتيني يا ست، فينك كل دا؟.
ضحكت له بخفةٍ ثم قالت بقلة حيلة توضح له مافي الأمر:
_جيت متأخر من الشغل ويدوبك لبست وبجهز نفسي، المهم أنا اللي هقعد جنبك وإحنا رايحين، خلي بابا ورا مع عمتو وماما، بلاش شهامة على قفايا، لو حد قعد جنبك مش هروح أصلًا.
بادلها الضحكة بأخرى ثم أقترب يهتف بعبثٍ:
_العربية وصاحب العربية تحت أمرك كمان، شاوري بس.
جملته كانت كفيلة لإنشقاع النور من وجهها خاصةً مع عينيها البُنيتين التي سقط عليهما ضوء الثُريا الذهبي فبعثت الدفء لقلبه، حينها أمسك كفها ثم لثم راحته في حركةٍ أعتادها كلاهما في مقابلتهما، يُلثم راحة كفها وهي تبتسم له ولم تبتعد عنه إلا بقدوم “أيـوب” من الداخل فأنسحبت هي خلف أختها.
في سيارته جلس لكي يعود للبيت، اليوم سعيد ومناسبته سعيدة، لكن باله لم يكن سعيدًا، رؤيته لكليهما معًا ضافت به الحال ذِرعًا، هما لم يتركا له فرصة تذوق مذاق النصر، بل دومًا يأتيا له بنكهة الهزيمة لتمرر العلقم عبر المذاق الشهي فتتغضن ملامحه بنفورٍ، أراد أن يصرخ ويعبر أن ما يحمله فوق طاقته، “يـوسف” الذي يشبه الليل كثيرًا، لم يهنأ بنهارٍ بعد..
فتح المذياع بسيارته على أغنية حديثة يحبها هو ودومًا يراها أدق وصفًا له، يهرب من ضجيجه معها لكي تؤنسه وقت أرق الذكرى لعقله، استسلم للصمت المُطبق إلا من كلمات الأغنية:
_وأنا عمري كام علشان تكونلي
الذكرى أسلوب حياة؟ دماغي فيها مليون
شريط، ماضي أليم، من دا ودا، دا أنا كنت
عيل من يومين ودخلت أنام، صحيت لقيت
العمر عدى مخادنيش معاه.
العمر مر بدونه، بدون “يـوسف” الصغير وإنما ترك الحُطام له ليقف أمام أي فعلٍ بتيهٍ وهو يبحث عن رد الفعل، ورد الفعل عنده كان معلومًا، عنف، صمت، بُعد، فُراق، رُبما هذا سابقًا، إنما حاليًا فهو يحتاج أن يرمي نفسه بين ذراعي “غـالية” ومن ثم سيمر الأمر ويزول، وبالفعل ولج شقتهم فوجدها بها بمفردها وهي أمامه تجلس فوق سجادة الصلاة وبالطبع هو المخصوص بالدعاء منها، أقترب منها بجسد رجلٍ والقلب مُسنٍ والروح صابية، ألقى بنفسه فوق فخذيها وقال بصوتٍ مهزومٍ أتعبها هي قبل أن يتعبه هو:
_أنا تعبت.
أخفضت رأسها تُلثم جبينه بحنوٍ ثم مازحته بقولها:
_مش وأنتَ في حضن “غالية” يا حبيب عيوني.
ابتسم لها بوهنٍ فوجدها تضم رأسه لصدرها وبفعلها هذا داوت ماضيه قبل حاضره، ضمته وهي تقرأ له ما تيسر من آيات الذكر الحكيم لتُهديء روحه المُتعبة، استقر بجوارها صامتًا ونظرات التشفي من عيني “عـاصم” لا تتركه، تحدي “سـامي” له جعله يشعر أن الهزيمة هي خير الرفيق له وما بين كلا الشعوريْن عناق أمه يداويه ويدها تسمح على قلبه وهو هنا آمنٌ بكنفها بعدما حُرم منها ومن عناقها.
__________________________________
<“الذُل والهوان خوف كل إنسانٍ تخبطت به الحياة”>
لا يوجد فينا ساكنٌ، جيمعنا نتحرك ونتحرك وتموج بنا الأيام، وما بين تلك الحركات نحن نسير إما طائعين وإما مُطاعين، القوة والأمر هما البغية، والذل والهوان هما الخشية، نحن هنا نسير خلف حركاتٍ مخبوء في ضمارها ما لم تكشفه الأعين على مداد بصرها..
هي من أوصلت نفسها هُنا، عاشت بمعزلٍ عن الجميع حتى نفسها، تركت لأهوائها حُرية التصرف بها لينتهي بها الأمر هنا فوق الأريكة الوثيرة بغرفتها بجسدٍ هزيلٍ، العرق يتصبب منها، تقوم بحك جسدها الذي يبحث عن جُرعته ولم يجدها، هي تعلم وتتيقن أنها أتت بجرعة أخرىٰ وقامت بوضعها من قبيل الاحتياط، والآن لم تجدها؛ فثارت ثورة أعصابها بجوعها للمخدرات..
ارتعش جسدها وهي تحاول أن تدفع به ذرات الهواء الثقيلة والبرودة التي تحاوط الأجواء لكن جسدها يعكس ذلك بحرارةٍ تحركها وفوران الدماء بجسدها، علمت أن تلك الدخيلة على عالمها هي من سرقت سبب هدوئها وسكونها، فخرجت من غرفتها تقصد غرفة الأخرىٰ التي يبدو أنها قررت أن تنتقم منها، ولجت كما الإعصار المدمر..
وجدت الأخرى تجلس فوق المقعد المهتز باسترخاءٍ وهي تقوم بتقليم أظافرها فوقفت الأخرى على رأسها وهي تقول بغضبٍ أعمى:
_أنتِ يا بتاعة أنتِ، هاتي الحاجة اللي خدتيها من أوضتي.
جعدت “شـهد” جبينها ولوت فمها بحيرةٍ كأنها لم تعرف أي شيءٍ بينما الأخرىٰ فعلمت أن هذا السبيل لن يُجدِ نفعًا، فعدلت عنه وسلكت غيره بمنتهى الذُل حيث جلست على عاقبيها وتلمست بكفها كف “شـهد” تتوسلها بهوانِ نفسٍ:
_علشان خاطري، هاتيه أنا دماغي هتنفجر وجسمي مش شايلني يا “شـهد” والله، هاتيه بس خليني آخد نفسي شوية علشان أقدر أقف حتى، بصي شوفي عاوزة مني إيه، وأنا هعمله ليكِ، أبوس رجلك حتى موافقة بس هاتيه.
ظلت الأخرى جامدة الحراك تُقلم أظافرها بغير اكتراثٍ حتى بكت الأخرىٰ وقررت أن تستجديها بقولها المتهدج:
_هاتيه بقى، هاتيه وأنا هعملك اللي تعوزيه كله.
اقتربت منها “شـهد” تضم خصلاتها وهي تقول من بين أسنانها المُطبقة فوق بعضها:
_ولما أنتِ حلوة وبتعرفي تسمعي الكلام كدا بتمدي إيدك عليا ليه؟ فيكِ كل العبر الهباب وجاية تتفلسفي عليا أنا؟ على العموم أنا هديهولك، بس مش علشان جمال عيونك، علشان بس أخلص من زنك وقرفك كل شوية، بس قبل كل دا تبعدي عن سكتي وسكة “نـادر” خالص، مالكيش دعوة بيه، مش بعدما كان معايا هيبصلك أنتِ بقرفك دا، ولو عرفت إنك كلمتيه هبلغ عنك، صدقيني هبلغ عنك ومش هيفرق معايا حاجة، هـا؟!.
أتاها الرد بسرعةٍ كُبرىٰ من الأخرىٰ دون مثقال ذرةٍ من التفكير حتى:
_موافقة، موافقة بس هاتيها يلَّا.
دفعتها “شـهد” من كفها ثم أشارت على طاولة الزينة فتحركت الأخرىٰ زحفًا كما يسير الكلب، ومن ثم حاولت حمل ثقل جسدها فتحركت بضعفٍ ثم خطفت الكيس الصغير وقامت بسكب محتوياته على ظهر كفها ثم خطفتها بفتحة أنفها جُرعةً واحدةً دون أن تُبالِ بما أو من حولها..
أنتشى جسدها إثر وصول جُرعة المخدر لها ثم أرتمت فوق الأرض تضم جسدها المتألم بوضعٍ يشبه وضع الجنين، صورتها تؤلم النفس وتقبض الروح وتؤذي القلب، ذلها وضعفها بتلك الطريقة يجعلانها محط أنظار الجدل والشفقةِ معًا، أما الأخرىٰ فتركت الغرفة وخرجت منها بعدما سحبت هاتفها ورمقتها بتقززٍ من وضعها.
__________________________________
<“تذكرنا والذكرى تقتلنا، وأين المفر من المقتل؟”>
نتذكر ولا مفر من ذكرى مؤرقة، نقف ها هُنا عند مفترق الطُرق نُقابل كل شيءٍ يبعث في نفسنا خوفًا وقبل أن نتراجع ظنًا منَّا أننا نعود سالمين نجد أنفسنا مُحاطين بما يؤرق المضجع ويجعلنا نتلظى بنيران الخوف من ذكرىٰ نخشى أن تتكرر.
زغاريد أمٍ تخرج من بين الشفاه كُلما تحركت في أروقة البيت، أضواء مُزينة تملأ الأركان من بعد الظلام، بهجة سكنت الأوجه بدلًا من الشقاء، كل شيءٍ هُنا يدل على فرحٍ ظهر في البيت، بيتٌ كُتبَ عليه أن يُقارن بالفراق كثيرًا، كانت في الغرفة برفقة شقيقتها، تحاول الإندماج دون أن تشعر بذنبٍ، كلما حركت رأسها نحو المرآة تجد صورته تقفز أمام عينيها يبتسم لها كأنه لم يرد تركها في مثل هذا اليوم، كانت تبتسم للذكرى المُؤلمة ثم تعود لشقيقتها لكي تكمل العناية بها.
في الأسفل جلس “حازم” زوج “إيناس” شقيقتها بشرودٍ، الأجواء حوله تتنافى مع مشاعره، هو هنا لتأدية وصاية شقيقه حق التمام، عاد بذهنه لذكرى ألمت روحه وضربت الخناجر في مركز قلبه، ذكرى وفاة الشقيق الأصغر على ذراعيه بداخل غرفة الرعاية المُشددة..
كان “حازم” حينها يجلس فوق المقعد وشقيقه جسده موصولًا بالأسلاك الطبية ومن ثم أتت منه إفاقة سريعة جعلت شقيقه يندفع بجسده نحوه ثم مسح فوق خصلاته بحنوٍ جعل الآخر يبتسم بوهنٍ ثم قال بصوتٍ واهٍ:
_كنت متأكد إني.. لو فوقت هلاقيك.
بكى شقيقه وفقد القدرة على التحدث أمام حال النصف الآخر منه فوجده يتنفس بعمقٍ ثم بادر في التحدث بقوله:
_كان نفسي أعمل كل اللي هقولك عليه بس خلاص، مش بايدي يا “حازم” عاوزك تخلي بالك من بيتنا، ماما شديدة بس بتحبك وبتحب “إيناس” أوي خليك صبور معاها.. كان نفسي أشوف ابنك أوي بس مش هلحق، أبقى أحكيله عني، قوله كان عندك عم طيب وكان مستنيك…
سكت يلتقط أنفاسه ثم أكمل بتلك النبرة الواهنة:
_خليه راجل يدافع عن الحق لو على رقبته، وخلي بالك من “رهـف” بالله عليك، حطها في عينك وخلي بالك منها، متخليهاش لوحدها كتير، خليها تنساني…لو النصيب كرمها بحد غيري وافق وخليك وراها لحد ما توافق، هي ضعيفة أوي وغلبانة، مفيش حد بيحس بضعفها ولا هي بتحس بإيه غيري، أول ما تطمن له سلمهاله، وصيتي ليك هتبقى “رهـف” علشان هي أكتر حد هيتعب من بعدي، خلوا بالكم منها….
تقطعت أحرفه وخفىٰ صوته فحثه شقيقه بصوتٍ باكٍ يضمه له ويزيل عن كاهليهما القلق والحزن الذي ساورهما في طرفة عينٍ:
_بطل هبل يا واد، محدش هياخدها غيرك أنتَ، عروستك مستنياك وفستان الفرح بتاعها جاهز، قوم بس أنتَ وبطل تلاكيك، يا سيدي هجيبلك أنا أوضة الصالون خلاص، بس قوملي وخليك معايا، متسبنيش لوحدي يا “حمزة”… قوم.
تهدج الصوت باكيًا، هرع الدمع سائلًا، تحرك القلب متألمًا، وصاح العقل رافضًا، أما الآخر فأطبق جفونه راحلًا، حمل قلبه والتفت لدنياه مُغادرًا، ترك العالم المُدنس قبل أن يكون وسطهم فاسدًا، شابٌ دافع عن الحق، وعند حقه لم يتواجد له حقٌ، صرخ شقيقه بصوتٍ تقطعت له الأعين من البكاء، وبحت معه الأصوات وتمزقت على أثره القلوب:
_”حــمزة”.. متسبنيش لوحدي بالله عليك.
آخر ذكرى جمعته بالشقيق الراحل قبل أن يذهب من هذا العالم المُدنس بالوسخِ، وآخر ما صدر منه كانت محاولة واهية في القبض على كف “حـازم” شقيقه لكن الموت سابقه وحمل روحه وغادر بها، اللمسة تتكرر من كفٍ آخر يحمل الاسم حيث ابنه الصغير الذي ركض نحوه يضحك له فابتسم له بعينين دامعتين ثم حمله على ذراعه ولثمه وكأنما يُلثم شقيقه الراحل عنه عينيه، وكان حاضرًا وساكنًا في قلبه.
ازداد الليل عتمةً خارج البيت وتوقفت السيارات خلف بعضها، سيارة “يـوسف” كان بها برفقة “أيـوب” وزوجته وشقيقته، وفي الخلف سيارة “إسماعيل” بها “ضُـحى” بجواره وفي الخلف كبار العائلة، والسيارة الثالثة كانت لكلٍ من “نـادر” و “عُــدي” معًا ومعهما “وعـد” شقيقة “عـهد” التي أصر “عُــدي” على بقائها معهما في السيارة الفارغة..
نزلوا من السيارات وسرعان ما طافت نظرات “يـوسف” و “نـادر” في الشارع السكني الراقي وحضرت معهما الذكريات المريرة بالتقاء عينيهما نحو البيت الذي شهد على كل شيءٍ، ولو أمكن لكانت نطقت جدرانه، هنا حيث لاقى “نادر” التعنيف والضرب والوحدة والحرمان من حقوقه كطفلٍ؛ بل تربى أن يكون خاضعًا، هنا حيث “يـوسف” المحروم من الحياة بأكملها ومن حقه كأنسانٍ في هذا العالم، هنا حيث تربى أن يكون يتيمًا ووحيدًا، والأدهى هو مرور ذكرى الزواج من “شـهد” فتبسم كلاهما بسخريةٍ ونطق “يـوسف” يمازحه بقولٍ:
_دا القلم معلم.
_دا القفا ورم وغلاوتك.
مزاحٌ دار بين الاثنين ولم يعلم مقصده سواهما معًا، وقفت “أسماء” تراقب البيت بمظهره الذي دلَّ على الثراء الفاحش وحينها أنقبض قلبها فرفعت نفسها لزوجها تسأله بقلقٍ:
_أنا خايفة، الشكل الخارجي ميطمنش.
حرك “فـضل” رأسه يلحظ البيت ثم عاود النظر إليها وقال بنبرةٍ هادئة يحاول إزالة خوفها عن عاتقها:
_ياستي خلي أملك في ربنا كبير، بعدين هو ابنك يترفض برضه يا “أسماء”؟ بطلي نكد بس أنتِ وأدعي ربنا يوفقه ويناوله مراده ويجمعه بيها.
أومأت موافقةً له بخوفٍ ثم توجهوا نحو البيت، كانت الترحيبات حارة بكل حفاوةٍ، البيت من الخارج عكس ساكنيه وملامحهم البشوشة، خالها كان شابًا وسيمًا بشوش الوجه، يتحدث بأدبٍ وتهذيبٍ، وكذلك أمها، أما “حازم” فاكتفى ببسمة هادئة وترك عينيه تطوف في وجه “عُـدي” لكي يتأكد من تقديره لوصية شقيقه الراحل.
تعجبت “لوزة” من حضور “نادر” كثيرًا لكنها وأدت تعجبها فرحًا بابنتها التي خرجت من سرادق الأحزان، دقائق مرت ظهرت خلالهم “رهـف” تحمل الضيافة وشقيقتها خلفها تدعمها وتحمل البقية، أول من تطلع لها كان الفاتح المعذب لاختراق حصون المدينة، كانت ترتدي فستانًا من خامة “الستان” بلون زهرة “اللاڤندر” والحجاب كان باللون الأبيض، عيناها كانت مزودة بسحرٍ أسودٍ برسمةٍ بارعة حاوطت أمواج عينيها لتقذفه هو بين أمواجها.
تحرك تلقائيًا يقف أمامها مبتسم الوجه ومشدوهًا بطَّلتها عليه فيما تضرج وجهها بحمرة الخجل تلقائيًا وكفها يُعانق الآخر فوجدته يُقدم لها باقة الزهور ثم أضاف مُبتسمًا بهمسٍ خافتٍ:
_قالولي في البيت إني كنت متدلع علشان كدا جيبت بوكيه صغير، بس أوعدك أشقى شوية كمان وهجيب حاجة أكبر.
كتمت ضحكتها الخجولة وهي تلتقط منه الباقة ثم مرت على أسرته ترحب بأفرادها برقةٍ غير متناهية، تبتسم برقة وتطالعهم بحب، ويراقب كل ذلك زوج شقيقتها، وقد جلست هي بجوار “أسماء” التي ضمتها بحبٍ وظلت تُطريء عليها وعلى أخلاقها الحسنة، كل شيءٍ كان وديًا حتى تولى “فـضل” بداية الحديث قائلًا:
_إحنا يشرفنا طبعًا أني أطلب إيد الآنسة “رهـف” لابني “عُـدي” ووعد زيها زي بناتي بالظبط وتتحط فوق راسي، وتحت أمركم وطلباتكم كلها مُجابة وأوامركم تتنفذ.
تولى “كامل” خالها صفحة الحديث ورد بقوله مُرحبًا:
_شرف لينا يا أستاذ “فـضل” بنتكم وتحت أمركم، بس أنا أهم حاجة عندي اللي ياخد بنت أختي يحطها في عينيه، يشيلها فوق راسه ويقدر قيمتها، مش تقليل منه لا سمح الله، بس علشان هي بجد تستاهل كل خير، فأنا عاوزه بس يوعدني إنها في عينيه مش أكتر.
توجه بكلماته للآخر الذي تواصل بنظراته معها فوجدها تتنهد بخجلٍ ثم أخفضت عينيها نحو باقة الزهور التي تمسكها وحينها عاود النظر لخالها وقال بصدقٍ:
_أنا عندي أخوات بنات، ولما جيت أشوف بعيني ليهم أتطمنت عليهم علشان واثق إنهم مع رجالة، وأنا اللي مش هقبله على أخواتي مقبلهوش على حد غيرهم، أوعدكم بنتكم في عيني واللي تؤمر بيه كله أنا عيوني ليها أهم حاجة بس إنها تكون متطمنالي ومتأكدة إني والله هعمل اللي عليا كله علشانها وعلشان تكون حاسة معايا إنها في أمان..
راقبه “حازم” باهتمامٍ وكأن يرى هل يستحق هذا أن يحصل على مكانة الشقيق؟ هل يقدر على مناولتها له برحابة صدرٍ دون أن يحمل همها وهم مُلاقاة شقيقه إن كان مُقصرًا بحقها، وجده بعينيه يستحقها، ورآه بقلبه خُلقَ لأجلها، هي تحتاج له ولمثله، لذا تنهد مُطولًا بارتجافٍ لم تلحظه إلا زوجته وفقط.
دارت الأحاديث عن إمكانيات “عُـدي” وعن كل شيءٍ يملكه ويقدر عليه وعن تواضع مقدرته أمام مستوى عَيشها، والجميع رأى الصدق في الوعود لهم من جهته، قام بفرد بساطه بكل صراحةٍ وأخبرهم عن ظروفه وأن شقته الجديدة تحتاج للكثير من الجهد وهو سيقوم ببذله، أخبرهم عن كل شيءٍ ولم يخجل بل كان صريحًا، فأتاه الرد من أمها بتقديرٍ له:
_شوف!! علشان كلامك وذوقك وعلشان أنا شايفة في عينك حبك ليها أنا معنديش أي مشاكل، أنا مش عبيطة يابني بس فيه غيرك كتير جُم هنا وكلهم بان فيهم الطمع، بس أنتَ لأ، أنا مصدقاك وكفاية إنك عارف كل الظروف ومقدرها، وكفاية أوي إن بنتي متطمنة ليك، وعلشان خاطر “يـوسف” ابني اللي ربنا مأردش إني أخلفه أنا واثقة فيك، بس لو حصل حاجة هموتلكم “يـوسف”.
أضافت المرح أخيرًا لقولها فابتسم الجميع لها وأضاف “يـوسف” بمزاحٍ هاديءٍ يدركه جميع من يراه معها:
_ودي هتعمليها إزاي إن شاء الله؟ كان غيرك أشطر يا “لـوزة” أظن أنتِ عارفة اللي فيها وعارفة إني نفسي طويل أوي، وسطوح بيتك يشهد على كدا.
ضحكت هي مُرغمة على ذلك ثم أشارت على الماضي بإبهامها للخلف وهي تقول بمرحٍ:
_لأ، هسم ورق العنب يا ناصح.
الكثير من المزاح يُلقى من الجميع، كانت جلسة ودية مرحة، حتى تحرك “عُـدي” يجاورها لكي يُلبسها خاتم الخِطبة أمام الجميع لتكون أول البدايات في صك ملكيته لها، لم ينس العمل بنصيحة “أيـوب” الذي حذره من لمسه لكفها، فترك شقيقته تعاونها في ذلك قبل أن تطلق الزغاريد العالية فرحًا بتلك المناسبة.
أخفضت “رهـف” عينيها نحو الخاتم الذي زين بنصرها وهي تبتسم برقةٍ ثم حركت عينيها نحو باقة الزهور المهداة لها من جهته فوجدته كتب لها:
_”إلى جميلةٍ تُشبه مدينة عكا المُستعصاة على كل الفاتحين، أشكرك لترحيبك بي في أرضكِ وفتحكِ لأبواب حصونك على مصراعيها لأكون أول ظافرٍ أمام الخاسرين..
إلى عكا التي سبق وأغلقت في وجهي كل الأبواب واليوم هي بنفسها من تهدم لأجلي القلاع وتنزع عن قلبها الحصون، كل أزهار الحقول لن توفيكِ حقكِ”
_الظافر بقلبك/ “عُـدي فضل”
عاودت النظر إليه فوجدته يحفظها بعينيه، نظراته كانت سعيدة رغم هدوء ملامحه، رأت فيه نجاةً من ماضٍ أليمٍ وحياةً تود أن تعيشها معه هو، واربت الباب له فوجدته يدفعه على مصراعيه ويستبسل لأجلها، هامت النظرات مع بعضها، وأول المُنسحبين كان “حازم” الذي فشل في كبح جماح حزنه، رؤيته لها سعيدة من غير شقيقه عاثت في نفسه حزنًا بالغًا فتحرك نحو الحديقة هربًا من تلك اللحظة.
رؤيته لآخرٍ غير شقيقه يأخذ محل الغائب كانت لحظة ثقيلة لم يتوقع ثُقلها عليه، لا يعلم كيف استطاع شقيقه أن يوصيه بتلك الوصية لكن يبدو أن حبه لها بلغ أشده عليه ليفضلها على نفسه حتى بلحظات موته، أخرج هاتفه وطالع صورته مع شقيقه يوم تخرجه من الجامعة وهو يحمله ضاحكًا والبسمة تشق وجهه، ثم قال بصوتٍ متهدجٍ:
_أنا آسف، بس والله مش قادر، مش قادر أشوف حد غيرك بيحقق حلمك، وصيتك في رقبتي وأتمنى تكون مرتاح دلوقتي، بس صدقني مش قادر أدي حاجة أكتر من كدا، أنتَ روحك كانت فيها.
بكى من جديد وكأن شقيقه مات لتوه، بكى بحزنٍ وكمدٍ على فراق حبيبٍ وأخٍ ورفيقٍ لم تعوضه الأيام، الجميع قالوا نسى، وكيف ينس وهو لم يتذكر غيره؟ وحده من خبأ حزنه وأنفرد به عن العالم مع نفسه، لكن زوجته لم تتركه أتت له ومسحت فوق كتفه وما إن التفت يواجهها، ضمته بحنوٍ وهي تدعو للمتوفي الذي كان ذات يومٍ شقيقًا يأخذ صفها حتى أمام شقيقها.
__________________________________
<“نحاول لأجل من أحببنا ومن أحببنا يستحق المحاولة”>
رُبما تستنزفنا المحاولات ويُرممنا الوصول؛ لذا نحاول ونجتهد ونسعَ بكل طاقتنا، نُجدف وسط البحر حتى ولو كان الموج عاصيًا علينا، نسير ونتحرك والموج يقذفنا ووحدها سلامة الوصول للشاطيء هي التي تُرممنا، وما بين بحرٍ عميقٍ من الأحزان ومابين يابسةً جافة بها الأمان؛ ضربتنا الأمواج.
هو هُنا لأجل محاولةٍ يتمنى أن تُكلل بنجاحٍ، لقد اعتاد في عمله أن يتعامل مع كل شيءٍ بمحاولةٍ حتى يُجني ثمارًا مُرضية له، الحياة في نظره كما قسم الكيمياء الذي يقوم بتدريسه؛ حيث تحتاج للكثير من المعادلات لكي تتزن الأمور فيها، جلس في غرفة الاستقبال ببيت خطيبته ينتظر قدوم “بـيشوي” الذي تعمد أن يتأخر بقصدٍ منه، وأمامه جلس “جـابر” صامتًا ومستاءً من طيلة الصمت.
قطع هو الصمت متحدثًا بهدوءٍ:
_أنا آسف لو معطلك عن حاجة، بس هو قرب.
لم يكترث الآخر بل أختار الصمت طواعيةً منه، أختار أن يرمقه فقط مُعبرًا عن ضيقه ثم وضع ساقًا فوق الأخرى فجاء الاتصال من “بـيشوي” بضجرٍ من العمل المُقحم فوق رأسه:
_مش هقدر آجي، عندي بضاعة لازم تخرج من المصنع وتيجي المخزن دلوقتي علشان الصبح أسافر بيها، خلص حوارك ومالكش دعوة بيا، “جـابر” آخره معايا حجر شيشة على القهوة وحواره يخلص وكدا هبقى كارمه.
_تمام، ربنا يوفقك ويقويك.
هكذا كان جوابه وفي الحقيقة هو شعر بأريحية أكبر لعدم مجيئه، فمن المجنون الذي يُجازف بوضع الوقود بجانب عود ثقابٍ مشتعلٍ ويندم لافتعال الحرائق؟ أصبح أكثر هدوءًا فقال بلينٍ تعمده في أحرف كلماته:
_أنا جاي أتكلم معاك بشكل ودي، أعتبرني أخ صغير ليك ومش هكبرك وأقولك ابنك، بص يا عم “جـابر” أنا راجل عملي ودماغي دي كبيرة ومببص للأمور من صورة واحدة، دايمًا بشوف كل الصور والجوانب وآخد فكرة أخيرة، أنا عارف إنك خايف على بناتك، وعارف إن الدنيا مبقاش فيها أمان، ودا حقك، بس بتستخدم حقك غلط، بالهداوة كل حاجة تتحل وتمشي صح، تقدر تعمل أكتر بكتير من اللي أنتَ عاوزه، وبدل ما تكسب الطاعة بالجَبر، أكسبها بالمحبة.
انتبه له الآخر وحرك رأسه سائلًا عن المقصد، فأتاه الجواب الرصين بقولٍ هاديءٍ:
_أقصد بيتك وبناتك يا عم “جـابر” لازم تحاول مرة على الأقل تسمعهم، تشوف هما عاوزين إيه، ينفع لأحلامهم إيه، أنا لو مش واحد ابن أصول مش هاجي وأكلمك وهبقى مستفاد من بُعدكم عن بعض، بس أنا مش كدا، أنا اللي يهمني إن مراتي تكون متطمنة ومرتاحة في حياتها، ومفيش أهل بيزعلوا ولادهم ويكونوا مرتاحين، جرب كدا تتكلم معاهم بالهدوء، فكر معاهم وشوف أفكارهم، طلعت مناسبة خير وبركة، مش مناسبة مفيش مشاكل ندور ونشوف غيرها، الحياة مبتقفش على حاجة واحدة.
اندفع الآخر يُبرر أفعاله بصوتٍ زاعقٍ:
_هو كل شوية حد ييجي يلومني ويقولي أدير بيتي إزاي؟ بناتي وأنا حُر معاهم ومحدش منهم يعارض أصلًا، سيادتك بقى بتتكلم في إيه؟ هو أنا أصلًا ليا كلمة عليهم هنا؟ ما خلاص يا دكتور “يـوساب” أنتَ وابن خالتك ركبتوا ودلدلتوا رجليكم كمان.
لم يرد أن يصل به الحديث لتلك النقطة، وإنما أراد أن يتوجه بالكلمات نحو طريقٍ آخر أكثر هدوءًا فأضاف برصانة عقلٍ:
_محصلش، صدقني محدش فينا مهما وصل ممكن يوصل لمكانة أب عند عياله، اللي واجعهم منك أصلًا إنهم بيحبوك وحبك باين ليهم غلط، أقولك؟ هات “مارينا” دلوقتي وأسألها هي عاوزة إيه، جرب تديها فرصة كدا وتشوف دماغها، جرب تاخدها في حضنك وتتكلم معاها، جرب قبل ما بناتك يمشوا من هنا ويخرجوا من بيتك وميرجعوش ليك تاني، خليهم يزعلوا وهما مفارقين بيتك، مش يفرحوا كأنهم ما صدقوا يخرجوا من الجحيم.
كلماته كانت كما النُذر لعقلٍ غرق في غياهب الظلام، كلمات كانت جرس الإخطار لركود مشاعره بجمود غلفه الصدأ وراحت عنه لمعته، ثارت أنفاسه بشكلٍ ملحوظٍ للرائي الذي جلس أمامه وقد أتت هي تضع العصير أمامهما، فأشار له أن يتحدث معها وحينها رغم تذمره سألها بصوتٍ تباينت فيه المشاعر ما بين الحدة الطفيفة واللين:
_بت أنتِ، عاوزة إيه علشان أنا محتار معاكِ؟.
رفرفت “مارينا” بعينيها يمينًا ويسارًا ثم قالت بصوتٍ مضطربٍ وكأنها تخشى التحدث أمامه لكن وجود الخاطب أراح عقلها من التفكير في الخوف:
_مش عاوزة الشغل دا، عاوزة أتخرج السنة دي والنتيجة كلها أيام وبعدها هكمل مذاكرة علشان أكون معيدة وربنا يقدرني وأكون دكتورة كمان بعد كام سنة، هكون استفدت من كُليتي بجد، إنما اللي حضرتك عاوزه أنا مش حباه، مش شبه طموحي، بعيد عن مذاكرتي وتعبي طول السنين فيها علشان أجيب تقدير عالي، صدقني أنا عاوزة أشرفك قبل ما أشرف نفسي كمان.
حديثها كان صادقًا للحد الذي جعله يصدقه فتنهد هو بثقلٍ ثم أضاف يُحذرها بقوله:
_ماشي، متروحيش الشغل، بس لو مبقيتيش دكتورة أنا هخليكِ تعيدي ثانوية عامة تاني لحد ما تجيبي مجموع طب، طالما أنتَ غاوية تعب بقى وعاملة فيها دحيحة وناصحة كدا.
قررت أن تبتسم له وفعلتها وحينها أشار لها “يـوساب” أن تحتضنه فتوترت هي قبل أن تفعلها، لكنها أقتربت منه تحتضنه بجفاءٍ غير مقصودٍ وقالت بصوتٍ مهتزٍ:
_شكرًا يا بابا، أوعدك هحاول باللي أقدر عليه.
حرك عينيه نحو “يـوساب” فوجده يغمز له ثم أومأ له وحينها ضمها “جـابر” لمرته الأولى منذ سنواتٍ كثيرة، ضمها لعناقه بفتورٍ وكأنه لم يعرف كيف يُعانق، وقفت “مهرائيل” تراقبهما من على بُعدٍ وهي تتمنى أن تحظى بعناقٍ مثل هذا منه، تتمنى أن يعانقه حتى لو أتى عناقه جافًا وباردًا ستتقبله وترضَ به، هرعت العبرات من عينيها وعادت للداخل..
بينما “جـابر” انسحب وترك للآخريْن دقائق عِدة فتحدثت هي بلهفةٍ أقرب للبكاء:
_بابا حضني!! بابا حضني بجد، شوفته؟.
أومأ لها موافقًا بوجهٍ مبتسمٍ وكادت أن تبكي من جديد، فأضاف هو مُردفًا لسابق قوله ونظرياته:
_شوفتي إني كان معايا حق؟ اعتمدي الحل دا علطول بقى، كلمة حلوة وهزار وضحكة وهتكسبي، صُدي جفاه بحنيتك، الحنية بتلين الحديد كمان، خلي بالك من نفسك ومنه ومن أختك، أنا أديتك المفتاح وأنتِ استخدميه صح، عاوزة مني حاجة تانية يا دكتور؟.
مازحها بكلمته الأخيرة وحينها ضحكت هي له بعينين لامعتين ثم قالت بنبرةٍ متباينة المشاعر أمامه:
_عاوزاك كويس من كل شر وأذىٰ.
بادلها الحديث ببسمةٍ هادئة ثم رحل من البيت براحةٍ أكبر، رؤيته لفرحتها كانت سببًا لفرحه هو الآخر، سعادتها وأمانها أصبحا جل اهتماماته مؤخرًا، أراد أن يقوم بسد فجوات روحها؛ لكن أولًا عليه أن يترك في أثرها نورًا لكي يُنسيها أثر الظلماء.
__________________________________
<“العقل دومًا كان سلاحًا، والسلاح ذو حديْن”>
العقل دومًا السلاح الأكثر خطورة في جسد المرء، فما بين ذكرى أليمة وأخرى سعيدة سنجد العقل يتولى المُهمة الأثقل، وهي وضع المرء في مواجهةٍ ضارية بين المرء ونفسه، تلك المواجهة الساحقة التي تضع المرء في فخ الهزيمة ما بين سابقه وحاضره.
الليل زاد أكثر قبل أن يظهر الخيط الأول الأبيض في السماء، تلك اللحظات الليلية الهادئة في فجرٍ يصادقه صاحب القلب الصادق، لحظات يرفرف بها الهواء ساحبًا مع نسمات باردة تشفي النفس العليلة، شوارع فارغة من الضجيج، مساكن مُظلمة المصابيح، طُرقات شاغرة من المارين، والنفوس طوت بداخلها الحزن الأليم..
نزل “يـوسف” من بيته يسير في الطُرقات الفارغة بصمتٍ وقد وضع قبعة معطفه فوق رأسه وسار بصمتٍ ينافي ضجيج رأسه، قصد وجهته وتمنى أن يجد مراده بها، وإذ به يصل للمسجد فوجد صوت الابتهال الليلي يصدح منه، إذاعة القرآن الكريم التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا باسم “أيـوب” دومًا تكون سببًا لمرسى نفسه، تنهد بثقلٍ ثم ولج بصمتٍ يجلس بجوار “إيـاد” الذي ابتسم له مُرحبًا به ثم تحرك يناوله كوبًا من المياه المُثلجة وقال بنبرةٍ يلمؤها الزهو:
_دي مياه زمزم، في شيخ جابها المسجد هنا وأنا خليتها تسقع شوية، أشرب وأدعيلي معاك بقى.
ضحك له “يـوسف” وتناول الكوب منه وقد وجد “أيـهم” يعاون “أيـوب” في تجهيز المقاعد خاصةً بعدما ازداد تعبه اليوم بعد عودته، وقد ابتسم الشقيقان له فأومأ هو بصمتٍ ورد تحيتهما ثم أرتكن فوق العامود الرُخامي بوسط المسجد.
في نفس الليل والسكون، كان هناك يزور نومها، يركض بها في حُلمها، يحميها من غدر عائلتها، ومن هوس مجنونٍ بها، يركض وهي فوق ظهره ضاحكةً بحريةٍ تجددت شمس عهدها في أيام “عـهد” ظلت تذكر اسمه في نومها حتى صرخ هو بألم وتركها من فوق ظهره لتسقط داخل فجوةٍ سوداء ابتلعتها؛ فصرخت وانتفضت من نومها وكأن قلبها سقط من موضعه، أنتفضت صارخةً وهي تبحث عنه في الغرفة، ظلت تُردد اسمه بهلعٍ ثم سقطت فوق رُكبتيها تضم جسدها بكلا كفيها وبكت كما الصغيرة التي حُرِمَت من الفرحة ليلة العيد فراحت تبكي بقهرٍ..
الكابوس يتجدد، والنفس تخشى، النوم يفر، والهجر يداهم سكون ليلها، تخشى أن يتركها وتخشى أن يزداد تعلقها به أكثر، ازداد البكاء أكثر وناجت ربها ليلًا أن يرأف بها ويمن عليها بنومٍ هاديءٍ يخلو من كوابيسٍ مُروعةٍ.
__________________________________
<“الحياة لن تهديك بغير سببٍ، فمسبقًا إما لك وإما عليك”>
من رحم وكبد المعاناة تكون الهبات والعطايا، ومن بعد زبد الآثام تُمحى الخطايا، تلك الطرقات لن تُهدى لك، فإما أنتَ سبق ودفعت الثمن وإما لازال قسطه عليك، وقبل أن تخوض الرحلة تذكر أن الحياة لن تهديك نورًا في طريقك قبل دفع الرسوم.
في اليوم الموالي أمام بيت “نَـعيم” قرابة الغروب كان “سـراج” يقف بجوار زوجته وهو يتحدث في الهاتف مع “عزيز” المساعد الخاص به وبشئون عمله، سأله عن الأمور أين آلت بعدما تهدد بإغلاق معظم أماكن عمله الخاصة باسم العائلة، كان القلق يطوق عنقه والآخر يخبره أن “تَـيام” يتولى زمام الأمور وهو المُتصرف وأنه سيعود له قرابة دقائق لا أكثر.
أغلق الهاتف بضيقٍ ثم دسه في جيبه فوجد “نـور” تمسح فوق كفه وهي تؤازره بقولها الهاديء:
_متقلقش، مفيش حاجة هتتقفل، دا شغلك وتعبك واسمك اللي بنيته، وإذا كانوا هما قاصدين يضايقوك ويوقفوك عاند أنتَ معاهم أكتر، ولو على سمعة المكان هيرجع تاني يشتغل، هما بس شهروا بيك علشان أنتَ أحسن منهم، صدقني هتتحل، خليك واثق في كرم ربنا عليك.
أومأ لها موافقًا بتيهٍ ثم زفر بقوةٍ وشدد ضمته لكفها، يكفيه تواجدها وبقائها معه بعد كل شيءٍ، حتى لو خسر كل شيءٍ يكفيه أنه ربحها هي، خرج من شروده على ظهور “تَـيام” الذي أقترب منه وألقى التحية ثم ولج للداخل دون أن يخبره بشيءٍ..
الأمر الذي جعل القلق يتفاقم في قلب الآخر ومعه زوجته ثم قاما باتباع “تَـيام” الذي ولج البيت يُرحب بوالده أولًا، فسأله “سراج” بضجرٍ:
_يابني، عملت إيه؟ البازرات هتتقفل؟.
عاد له بجسده ثم أعطاه الورق الذي تحصل عليه وقال بنبرةٍ ضاحكة بعدما أراد أن يناوشه بقليلٍ من المزاح:
_ياعم كنت ناوي أخضك، مبارك عليك رجوع حقك ومحلاتك، بقى معاك تصريح تحطه قدام عين التخين أهو، ولجنة المُصنفات مش هتقدر تعمل حاجة تاني معاك، اللجنة عاينت بنفسها وطابقوا البضايع في البازرات وبكدا الحق معاك أنتَ.
ضحك “سـراج” بسعادةٍ ثم عانق “تَـيام” بشكلٍ مُباغتٍ حتى ضحك الآخر بصوتٍ عالٍ لفت الأنظار نحوهما وقد ضحك البقية عليهما، ومنهم “نـور” التي وجدت زوجها يطوقها بذراعيه ويشكرها لتواجدها ودعمها له في خطاه المُثقلة.
بارك الجميع له وقد تحرك “تَـيام” بعدما لاحظ نظرات والده ولثم جبينه وكفه ثم أخبره أنه يحتاج للنوم من بعد يومٍ عج في جسده كل التعب، والألم حتى شعر أن رأسه تصدعت، فتحرك بخفةٍ نحو شقته، ووجد زوجته تقف في المطبخ تُعد وجبة الغداء له، وما إن سألته رفع رأسه بزهوٍ يخبرها:
_يا باشا عيب عليك، هو أنا بتاع بومب؟ خلصت كل حاجة وجيبتله التصريح وشغله هيكمل عادي، صحيح البلاغ كان تقيل شويتين وبتوع المصنفات شدوا حيلهم عليه، بس أنا عملت اللي عليا كله ومدفعتش جنيه واحد رشوة، خدوا حقهم وكوبايتين الشاي بس، وعدتك ونفذت الوعد أني معملش حاجة حرام، مفيش مكافأة؟.
أخفضت نيران الموقد ثم اقتربت تُلثم وجنتيه كلًا منهما على حدىٰ ثم طوقت عنقه بدلالٍ وقالت بنبرةٍ ضاحكة:
_أحلى مكافأة في الدنيا كلها ليك يا “تـيمو” هو أنا يعني هييجي عندي أعز منك، عاملة ليك كيكة فراولة تحفة.
تلونت ملامحه بخبثٍ ثم ضمها له وقال بنبرةٍ يملؤها العبث:
_دي مكافأة “إيـاد” ابن أخوكِ، أنا بقى إيـه؟.
طافت بعينيها تدعي التفكير ثم هتفت بحماسٍ كمن وجد ضالته التائهة:
_هعملك معاها عصير، مرضي كدا؟.
ادعى التفكير ثم وافق القول وقبل بعرضها وقبل أن تبتعد عنه ضمها له ومسح فوق ظهرها وهي بدورها ابتسمت بنعومةٍ ثم مسحت فوق ظهره، العادة التي يلتزم بها في كل أوقات حياته، عناقه لها كأنه يتحدى نفسه ويثبت لها أنها حقًا معه هُنا، وهي الناعمة المطيعة المُحبة تفتح ذراعيها وتستقبل حبه لها وتغلق عليه.
__________________________________
<“بالأمس رُغمت على الفعل واليوم أُغرمت بالفاعل”>
ليس كل مرغوبٍ مغرومًا، فهناك كانوا راغبين مُجبرين، نحن نرغب في الممنوع الشاق وصولنا إليه، أما المُتاح فهذا لم ينل إعجابنا، نحن نرغب دون أن نُغرم، ويوم أن نُغرم نُرغم..
كل شيءٍ أمسى ثقيلًا، حياته عسرة بدون سببٍ مفسرٍ لذلك، لا يدرِ هل آثامه التي لم يقترفها هي السبب أم أن الفرحة تُحرم على أمثاله؟ حتى في أسعد لحظات المرء فرحًا كان ينأى بنفسه بعيدًا عن إطار الصورة وكأنه مدعوٌ وفقط، اليوم هو مدعوٌ لجلسة عائلية في بيت خطيبته، عزيمة أتت بغير هدىٰ وإنما داهمته فجأةً، كاد أن يرفض ويمتنع لكن عمه قاطع رفضه هذا بقوله الصارم:
_”مينفعش ترفض عزومتهم ليك، كدا كإنك بترفضهم هما نفسهم، روح يا حبيبي وأقعد معاهم وأقعد مع خطيبتك، أومال سموها خطوبة ليه؟ مش علشان تتعرفوا على بعض أكتر؟. ”
حينها رضخ “مُـنذر” بالقول ووافق وسار يتجهز ثم ركب دراجته، ولم ينسَ وصية “إسـماعيل” أن يحضر علبة حلوى للعائلة ولم ينَس وصايا “مُـحي” أن يحضر باقة زهورٍ، بدا كأنه أعمى يستهدىٰ في السير فوق الطُرقات الظلماء.
وصل وجلس وبادل الترحيب بغيره مع شقيقها وابنته الصغرى ثم رحب بأمها وجلس معها، هي تتحدث بعمليةٍ طاغية وتستفسر منه عن العمل وعن الفارق بين الدول العُظمى والدول النامية وهو يتجاذب معها أطراف الحديث، ثم يصمت مُنصتًا لها، حتى أتت السبب في جلوسه وطلت عليه تبتسم بتوترٍ أمامه، ثم رحبت به..
دقائق مرت وتُركوا بمفردهما في شرفة البيت الواسعة، هي تشرد في اللاشيء وهو يحاول أن يتحدث معها، حتى بدأت هي بسؤالٍ لم يتوقعه منها حينما باغتته به:
_هو أنتَ لما سافرت روحت إزاي وأنتَ لسه عارف عمك من فترة قصيرة على حسب كلام “جـواد” عنك وعن ميراثك؟.
رفرف بأهدابه بحثًا عن الجواب وسرعان ما تنهد وقال بصراحة قولٍ لم تظنها هي أنها حاضرة لديه لكنه يعلم أن تُفتش في دواخله بكل صرامةٍ وتحدٍ منها:
_ الراجل اللي رباني وأنا صغير باعني لناس أجانب وسافرت بالعبارة هجرة غير شرعية من غير ورق أو أي حاجة ليها علاقة بهويتي، فضلت في الطريق خمس شهور، من هنا للسلوم، ومن السلوم لليبيا، ومن ليبيا لجزيرة وسط المياه ومن الجزيرة لمينا إيطاليا، فيه اللي مات مننا في أول الطريق، وفيه اللي كمل للآخر بس مات، وفيه اللي زيي كدا.
فتحت عينيها على وسعيهما وراقصت أهدابها بغير رتابةٍ وقد وجدته يبتعد عنها بعينيه، لكنه قرر أن يصرف نظراتها تلك بقوله الذي أتى مشحونًا بغبطةٍ غطت صوته:
_وأنتِ ليه بتخافي من سيرة عمك التاني كدا كأنك بتشوفي عفريت؟ مهما حاولتي تخبي عينك بتقول كل حاجة وإن سيرته رغم موته ليها تأثير عليكِ، آذاكِ في حاجة؟.
هو أيضًا مثلها يمسك مصباحًا ثم يُشير نحو الظلام بداخلها فيظهر الرُكام فيها بداخلها، لذا كما أنتهج هو الصراحة اتخذت نفس السبيل وقالت بشجاعةٍ واهية:
_يمكن علشان مثلًا كان بيتعمد يقرب مني وأنا طفلة وحاول كذا مرة يتحرش بيا لحد ما جابلي حالة نفسية، ولا يمكن علشان قتال قُتلىٰ ومعدوم الضمير مراحمش الحي ولا الميت؟ تاجر بجسم الأموات وخد روح الحي.
_مين الحي دا؟ والدك؟.
هكذا كان سؤاله بعدما أراد أن يقوم بكر خيط الكلمات منها، فتنهدت هي بثقلٍ ثم فجرت قنبلتها بقولٍ مُضطربٍ خائفٍ:
_لأ؛ دا شاب كان مشارك في جريدة وموقع إعلامي كبير، لما حاول يفضحه قتلوه هو والعصابة بتاعته، الشاب دا اسمه “حـمزة” وكان صاحب “يـوسف الراوي”.
توسعت عيناه من وقع كلا الاسميْن على سمعهِ، وحينها قاطعها هو بذهولٍ فارضًا به دهشته على حديثها:
_الشاب دا اسمه “حـمزة التهامي”؟.
_هو أنتَ تعرفه؟.
ردت سؤاله بسؤالٍ، وجاوبت دهشته بدهشةٍ أكبر، ففي سؤاله حقائق مخبوءة وفي سؤالها كوارث حتمية، كلاهما يتأهب للحصول على الجواب وكان الله وحده بالسر عليمًا.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى