روايات

رواية السماء تشهد أيها الماجن الفصل الخامس عشر 15 بقلم رضوى جاويش

موقع كتابك في سطور

رواية السماء تشهد أيها الماجن الفصل الخامس عشر 15 بقلم رضوى جاويش

رواية السماء تشهد أيها الماجن البارت الخامس عشر

رواية السماء تشهد أيها الماجن الجزء الخامس عشر

السماء تشهد أيها الماجن
السماء تشهد أيها الماجن

رواية السماء تشهد أيها الماجن الحلقة الخامسة عشر

١٥- العنقاء
شهر كامل ما وطأت قدماه أرض الفيلا و لا أبصرت حتى محياه بالشركة .. والأسبوع الأخير كان فيه من الفوضى والمفاجآت ما أربكها تماما وخاصة مع عدم وجوده..
لقد انقلبت الأمور بعد رحيله بسرعة عجيبة واتضح ما بين عشية وضحاها خيانة مهني مدير أعمالهما واستطاع ذاك الموظف الجديد المدعو سامي الحصول على ما يدينه ويؤكد خيانته للأمانة التي تركها جدها بين يديه ..
تحقيقات واستدعاءات جعلت رأسها يدور..
وما عاد لديها القدرة على الصمود أمام ذاك التشويش .. لكن أخيرا انتهى كل هذا .. دخلت غرفتها غير قادرة على التفكير للحظة آخرى وودت لو كان لديها إمكانية إيقاف عقلها عن العمل لبعض الوقت حتى تهدأ وتعود لطبيعتها .. يا ليتها تملك زرا للتخلص من معاناتها وخاصة إمكانية حذفه من مخيلتها كليا لتستأنف حياتها من جديد ..
إنه كالظل الذي يتبع أفكارها وخواطرها ويلوح كالشبح ما بين طيات ذكرياتها ويتسلل كلص سارقا النعاس من أجفانها .. لقد رحل منذ آخر مواجهة بينهما .. غادر حتى دون أن تشكره على كل ما فعله من أجلها .. على تخليصها من شبح الماضي بمواجهته والثأر لحقها المسلوب وكرامتها الضائعة واتخاذ قرارها بتسليم الأوراق التي عثر عليها مع شهاب للشرطة لتقتاده وأخته خلف القضبان لتطوي صفحة الماضي بلا رجعة ..
رحل بعد أن اقتنع اخيرا أنها لا تصلح له فهو أحق بامرأة افضل ..امرأة تهبه ما يستحق لأنه يستحقه عن جدارة لا امرأة بجسد معطوب وقلب جريح وروح مهلهلة .. تنهدت في وجع وجلست على طرف فراشها تتطلع حولها في تيه تشعر أن موضع ما داخلها يتلوى ألما لا تدرك كنهه كلما جال بخاطرها ذكره .. دمعت عيناها لسبب تجهله أو ربما تتجاهله.. إنه الحنين .. الحنين لصوته ومزاحه ومرحه وحتى مجونه ..
تنبهت عندما تناهى لمسامعها إشعار ما .. فتحت حقيبتها وتناولت جوالها معتقدة أنه أمر ما يخص الشركة والتحقيقات مع مهني ذاك النصاب الذي استغل ثقة جدها واختلس الكثير من أمواله وزور الكثير من قرارته لصالح منافسين ..
حتى أنه باع بعض الأسرار الخاصة بشركة جدها لبعض الطامعين .. كان جدها يعلم كل هذا فسمعته الطيبة بالسوق وصلاته المختلفة جعلت البعض يحذره من مدير أعماله الذي استولى على إدارة كل شيء وما كان جدها بقادر على تغير الأمر الواقع لأنه لا بديل حتى ظهر سامي الذي كان مهني يرفض تعيينه لولا تدخل نهى لتؤكد أنه الأفضل من بين من تقدموا للوظيفة وكانت على حق تماما فلولاه لظل الوضع على ما هو عليه ..
فتحت الرسائل الصادرة ليطالعها اسمه .. نبض قلبها تسارع بشكل عجيب .. تسمرت للحظة قبل أن تضغط زر الاستماع لهذه الرسالة الصوتية التي أرسلها ..
صوته الرخيم الذي اكتشفت أنها اشتاقته حد الوجع هز وترا مشدودا داخل روحها جعل قلبها يترنح وجدا.. حاولت اشعار نفسها
بثبات وهمي وأن تركز على فحوى الرسالة والتي همس بكلماتها في شجن :- “حياة.. هذه هى آخر رسالة ابعث بها إليكِ .. صدقينى كانت ضرورية بل حتمية لكن أعدك ألا أزعجك مرة آخرى ..
صمت للحظة، لكنه استطرد بصوت تحمل نبراته حسرة ووجيعة استطاعت استشعارها بسهولة عجيبة اربكتها :- حياة ..اليوم
أستطيع أن اقول لك وداعا .. اليوم فقط حققت الهدف من زواجنا وأديت الأمانة على أكمل وجه .. اليوم أستطيع أن اخبرك أنك حرة من الالتزام بأي رابط يربطنا وسأقوم باللازم حتى أنهي زواجنا بأقرب فرصة وأرسل لك صك حريتك حتى تعودي لحياتك من جديد ..
صمت من جديد للحظة، واستكمل هامسا :- هل لي بأن أقص عليك واحدة من أساطيري للمرة الأخيرة !؟.. سأفترض أن الإجابة بنعم.. تقول الأسطورة أنه تحت شجرة الخير والشر بجنة عدن، كان هناك شجيرة لطائر رائع الجمال لكن ما أن قطفت حواء من تلك الشجرة المحرمة طردا هى وآدم من الجنة وسقطت شرارة من نار على عش ذاك الطائر الذي احترق كليا لكن من بيضته الملتهبة خرج الطائر من جديد وأصبح عندما يكبر في السن يتحول إلى رماد ومن من ذاك الرماد يُخلق الطائر .. هذا الطائر هو طائر الفينكيس الأسطوري أو ما يعرف بالعنقاء ..كوني كالعنقاء حياة .. فلتولدي من جديد من رماد أحزانك ومعاناتك .. بعض الأوجاع تكون النيران التي تصهرنا لنصبح شخصا آخر .. شخصا أقوى من سابقه .. شخص بقلب لا يقهره الألم .. وروح مقاتلة لا تهزها الخطوب .. امنحي لنفسك الحياة يا حياة ولا تنتظري أن يمنحك أحد ما هذا الحق .. فالحياة التي نرغب ونستحق لا تُمنح مجانية، بل نقاتل في سبيل اغتنامها .. وداعا” .
تطلعت إلى جوالها مصدومة وما أن استجمعت شتات نفسها وتنبهت لما سمعت حتى انفجرت باكية في شهقات متتابعة وكأنما كانت رسالته تلك هي الطوفان الذي هدم صرح ثباتها لتغرق كليا في ذاك الإحساس العجيب الذي يحتلها في تملك ويدفعها للمزيد من النحيب ..
إحساس قاهر جعلها تدرك بل توقن انها تعشق ذاك الرجل وأنها لم تعشق غيره بحياتها ..
****************
أبحرت الباخرة التي كان يقف على متنها ينظر لليابسة التي تبتعد وكأنما تسلب منه روحه رويدا رويدا في وجع لا يمكن تحمله لكنه رغما عن ذلك وقف يتطلع إلى الأرض التي تتلاشي ببطء وكأنما هو يودع حبيبا ينتظر على الجانب الآخر..
تطلع لجواله حتى يتأكد أن رسالته قد وصلت إليها قبل أن يغلقه بشكل نهائي ..
تنهد في خيبة واندفع مبتعدا للداخل يبحث عن قمرته ليضع بها الحقيبة ويلحق بميعاد العشاء .. وعلى الرغم من فقدانه للشهية إلا أنه قرر عدم الانعزال في غرفته وأن عليه العودة لسابق عهده فلابد للحياة أن تستمر.. اتجه لمطعم الباخرة يجلس في ركن منزوِ يتطلع حوله في لامبالاة حتى يأتيه ما طلبه لعشاء خفيف ..
ابتسم رغما عنه عندما طرقت أبواب ذاكرته اليوم الأول بل النظرة الأولى التي رمقته بها في اشمئزاز أثناء جلوسه ما تلك الشقراء .. وتذكر حاله يوم أن امسك بها متلبسة بتفرسه .. كم كانت رائعة !؟..
كاد يقهقه على ذكرى قميصه المسكين الذي كان مصيره قاع البحر بلا رجعة ..
تنبه وهو في خضم تلك الذكريات أن هناك أعين تترقبه .. شعر ذلك بشكل غريزي جعله يرفع رأسه من على طبق حسائه متطلعا إلى حيث مصدر تلك النظرات .. كانت شقراء باهرة الحسن تتطلع إليه في جرأة حتى أنها حملت صحنها واتجهت حيث طاولته وهمست بالفرنسية وبصوت بالغ الرقة والنعومة :- هل يمكنني مشاركتك العشاء !؟..
جلست حتى قبل أن يأذن لها .. لم يعترض ولم يأبه من الأساس، لكنها مدت كفها معرفة نفسها في أريحية :- اسمي جوان ..
مد كفه بالمقابل محييا :- آدم ..
بدأت في تناول طعامها في هدوء تصب نظراتها عليه ما بين لحظة وآخرى .. بينما أنهى هو حساءه وكاد أن ينهض إلا أنها هتفت في نبرة شجية :- أنا وحيدة بالرحلة وليس لى صديق .. هل يمكننا أن نصبح أصدقاء !؟..
هم بالإجابة إلا أن أنغام اغنية فرنسية رومانسية بدأت تصدح ما دفعها حتى قبل أن تنل إجابته على عرضها، أن تدعوه للرقص تحاول جذبه لينهض مرافقا لها إلا أن آدم ابتسم في دبلوماسية جاذبا كفه هاتفا :- لا اعتقد أني سأكون صديقا ذا نفع .. الأفضل أن تبحثي لنفسك عن صديق أكثر شبابا وصخبا .. استأذنكِ ..
تركها مندفعا للخارج، صاعدا لسطح الباخرة يتطلع إلى الماء والسماء اللذان اصبحت الباخرة محصورة بينهما بعد ابتعادها عن اليابسة بشكل كبير.. تناهى لمسامعه كلمات الأغنية الفرنسية الرقيقة :-
أعيش في الظلام منذ أن فقدت عينيكِ..
ومنذ فقدت ضحكتكِ..
وأنا أعيش في صمت قاتل ..
تنهد في شوق هامسا :- اااه يا حياة .. لما أراكِ بكل ما حولي.. لم لا تتركيني لحالي !؟ لما طيفك يحاصرني فيشعل لهيب في ذاك الخافق الذي ظننته يوما قد مات للأبد !؟.. أما من راحة !؟. هدنة من محياكِ .!؟.. وقت مستقطع التقط فيه أنفاسي دون أن يخالجها عطرك الخطر النوايا .. والبرئ الشذى !؟..
منحة القلب النابض التي وهبتني أصبحت نقمة في غيبتك .. أصبحت عذاب لا يمكن وصفه .. أضحت وجعا لا يهدأ وجرح لا يطيب ..
دمعت عيناه وكلمات الأغنية الأخيرة تنساب إلى شغاف قلبه فتزده لوعة ..
احتاجك كحاجة الشجر إلى المطر..
احتاجك كحاجة الانسان إلى النسيان ..
احتاجك كحاجة الظل إلى الضوء ..
لا يمكنني فعل شيء .. حبك يتملكني ..
احتاجك لأدرك أن الطقس رائع الليلة
احتاجك لأصبح أفضل مما أنا عليه ..
احتاجك ..
تطلع للسماء ليبصر صورتها مزروعة بالجهات الأربع فأضحى كرجل يعتلي سفينة النسيان في بحار من الذكرى ..
فهل إلى نسيان الحياة سبيل !؟..
*******************
طرقات سريعة على الباب لتندفع نهى لداخل حجرة حياة حتى قبل أن تأذن لها وما أن طالعت ما تفعله حياة حتى تنهدت في ضيق هاتفة :- ألا زلتِ على رأيك !؟.. أما من شيء يغير قرر اتخذه ذاك الرأس اليابس..!؟..
ابتسمت حياة وهى لا تزل تضع ملابسها داخل الحقيبة المشرعة امامها بعرض الفراش هاتفة :- لا .. لن يتغير رأيي ابدا ..
ثم استطردت في نبرة موجوعة :- أنا احتاج لهذا السفر الطويل يا نهى .. احتاجه بشدة ..
فدعائم روحي اهتزت وقلبي قد اهترء حزنا.. اريد استعادة حياة .. حياة القديمة قبل أن يهزمها العشق الكاذب .. اريد استعادتي يا نهى والرحيل بعيدا لفترة هو ما سيحقق لي هذا ..
هتفت نهى معارضة :- لكن الأمور اختلفت الآن يا حياة .. فالعمل في حاجة إليكِ .. عليك العمل لحفظ مالك بعد ظهور الوصية الحقيقة لجدي والتي احضرها ذاك المحامِ الذي آتمنه جدي عليها .. لقد عاد لك حقك في إرثك ..لا نريد اشخاص من عينة مهني هذا يتلاعبون بحقوقنا وأنا لن أستطيع تحمل هذه المسؤلية وحدي.. ارجوكِ .. راجعي الأمر .. فما حاجتك للعمل كمرشدة سياحية تجوب الأقطار شرقا وغربا وأنت صاحبة امبراطورية عملاقة تحتاج لإدارتك !؟..
هتفت حياة تفسر :- العمل كمرشدة سيكون سلواي في غربتي تلك .. تعلمين أني اجيد الإنجليزية والفرنسية .. وكان حلم حياتي أن أجوب العالم منذ بلغت الثامنة عشرة لكن جدي وأنت تعلمين هذا الأمر جيدا كان يعارض ذلك بشدة خوفا علي ولأن معتقداته القديمة في عدم سفر الفتاة إلا بصحبة أبيها أو أخوها أو زوجها كانت تحكم قرارته .. وها قد حانت الفرصة وأنا احتاجها فعلا.. واعدك عند عودتي سأتولى زمام الأمور كلها ولن أتركك وحيدة ابدااا ..
همست نهى في مؤازرة :- حسنا حياة.. أنا كل ما يهمني هو راحتك .. أنتِةتعلمين ذلك جيدا ..
أكدت حياة وهى تضع بعض الأغراض بالحقيبة :- أعلم يا نهى .. وأعلم أيضا أني أثقل عليكِ .. فأمور العمل كلها ستكون ملقاة على عاتقيكِ .. لكني لست بقلقة ..
وابتسمت تغمز بعينها مستطردة :- فمعك البطل الهمام .. سامي ..
اتسعت ابتسامة نهى وطأطأت رأسها حياءً..
لتستكمل حياة :- وللصراحة .. هو شاب رائع .. أتمنى ان يجمع الله شملكما قريبا ..
هتفت نهى في تردد متسائلة :- وماذا عنكِ حياة !؟..
رغم أن حياة كانت تعرف إلى ما يرم سؤال نهى إلا أنها أجابت بلا مبالاة :- ماذا عني !؟ سأجوب العالم .. سأعيش تجارب جديدة .. واستمتع بحياتي واستعيد نفسي ..
همست نهى مترددة :- وأمور القلب !؟..
ابتسمت حياة ابتسامة يكللها الألم :- أي قلب..!؟.. لقد برءت من الهوى والقلب أغلق بواباته وألقى بمفاتيح الأقفال في بئر لا قرار له ..
تنهدت نهى هامسة :- أرجو لك رحلة موفقة ولكن اعلميني بأخبارك دائما ..
أكدت حياة مازحة :- بالتأكيد .. سأرسل لك كل صوري وأخباري لأثير غيرتك بينما أنتِ غارقة بين الملفات مع ساااامي ..
قهقهت نهى هاتفة :- لا مخطئة .. هو من يغرق في الملفات .. وأنا أغرق في تأمله وأضيع كل مجهوده سدى عندما افسد العمل في آخر الأمر ..
قهقهت حياة :- كان الله في عونه ..
همست نهى في هيام :- وفي عوني ..
لتنفجر حياة مقهقهة من جديد على أفعال نهى الشقية التي لا تملها أبدا ..
***************
كان يقود تلك المجموعة السياحية التي اضناها التعب خلال جولتهم في شوارع روما ليتجه بهم للتزود بما يحتاجونه ..
دخل مطعم ماريا وهتف يستدعيها لتظهر بوجهها الأحمر وجسدها الممتلئ هاتفة في سعادة كبيرة لمرأه :- آدم .. كم هو رائع عودتك !؟..
احتضنها في مودة وأوصاها بمجموعته لتضع لهم كل ما لذ وطاب لكنه لم يشاركهم الطعام بل جلس منزويا وطلب من ماريا فنجالا من القهوة .. أحضرته على عجل وجاءت تضعه أمامه تشاركه الطاولة ..
تطلعت إليه في نظرة عميقة وأخيرا هتفت في آهة مشفقة :- وأخيرا آدم .. لقد حدث أخيراً ..
تطلع إليها ادم متصنعا عدم الفهم :- ما الذي حدث !؟..عما تتحدثين يا امرأة !؟..
قهقهت مجيبة بايطاليتها المنغمة وهى تضع كفها البض فوق قلبها :- العشق ..
قهقه آدم مؤكدا :- العشق !؟..لا مجال لحدوث ذلك إطلاقا .. يبدو أن الخرف قد سيطر على عقلك ماريا ..
قهقهت مؤكدة :- إنكاره ذاك هو أكبر دليل أنك عاشق .. وعشق هادر .. أنا أراه يطل من حدقتيك ويقفز معلنا عن نفسه في كل نفس من أنفاسك .. كلام ماريا لا يُرد ..
أنت عاشق لامحالة .. عاشق حتى النخاع ..
دخل أحد الزبائن إلى المطعم فانتفضت ماريا تلبي مطالبه تاركة آدم يتطلع من نافذة المطعم الزجاجية هائما في تلك الذكرى حيث كانت تجلس بين مجموعة كتلك منذ عدة أشهر وكان هو لا يرفع عيونه من عليها متظاهرا أنه يتجاهلها لكنه كان يحيطها بعناية فائقة يكاد يدثرها بأضلعة خوفا عليها ..
تنهد وهو يتذكر ضحكاتها وهمساتها ليؤكد لنفسه في حسرة :- نعم .. صدقت ماريا .. أنت عاشق وتدرك ذلك جيدا وتنكره منذ زمن طويل .. فقدت قلبك وتركته وراءك تهرب مدعيا أنك تحيا وأنت فقدت معنى الحياة بفقدانك إياها ..
تنهد من جديد وهو ينهض ليصطحب مجموعته خارج المطعم مستكملا جولته بذهن شارد وقلب مفقود بلا رجعة ..
**************
وقفت ومجموعتها أمام تلك القاعدة التي يقف عليها تمثالان منتصبان أحدهما لرجل والآخر لامرأة، وهتفت في صوت عال وبإنجليزية متقنة ليسمعها كل من بالمجموعة :- هذا هو تمثال علي ونينو.. قصة حب خلدها التاريخ وتعتبر الأشهر في جورجيا .. علي كان رجلا أرستقراطيا ازربيجاني يعمل كمعلم بإحدى المدارس السوفيتية تعرف على الأميرة نينو كيبياني ووقعا صريعا الهوى.. لكن ارتباطهما قوبل بالرفض من عائلة الأميرة التي تمسكت بحبها وارتبطت به سرا ويقال أنهما انجبا طفلا لكن افترق الحبيبان ما أن أعلنت ازربيجان استقلالها عن الاتحاد السوفيتي الذي ضمها بعد فترة من جديد لتشتعل الحرب ويهب علي للدفاع عن وطنه ليكتب باستشهاده نهاية هذه القصة ..
هذان التمثالان هما مختصر قصتهما يتحركا في اتجاه بعضهما ليلتحما كجسد واحد لبضع ثوان ثم يمر كل منهما في طريقه..
تنهدت النساء ودمعت أعين البعض حتى هى تطلعت للتمثال المزدوج وشملها شجن عجيب وكلا التمثالان يلتحم كأنهما جسد واحد ثم يفترقا ..
تنهدت محاولة الابتسام لمجموعتها هاتفة :- انتهت جولة اليوم .. يمكنكم التقاط الصور ثم الصعود للعربة حتى نعود للفندق ..
جلست على أحد المقاعد القريبة من التمثال وتطلعت للأزواج الذين يتبادلون التصوير.. حادت عينيها تجاه التمثال تتطلع إليه واحست بغصة غريبة بروحها .. فقد استشعرت أن قصة الحبيبان أشبه بقصتها وآدم .. شخصان جمعهما القدر لفترة بسيطة وبعدها افترقا كل منهما في طريقه ..
دمعت عيناها لكنها انتبهت أن سائق العربة الخاصة بالفندق يتجه نحوها فتمالكت نفسها وهو يسألها مستفسرًا :- لقد ركبت المجموعة كلها ..لم يبق إلاك.. هل ..
قاطعته هاتفة :- سأبقي قليلا .. يمكنك العودة بالمجموعة ..
اومأ متفهما وعاد أدراجه لتعود مرة آخرى لوحدتها متطلعة لتمثال الحبيبين وقد سالت دموعها رغما عنها تتطلع لاندماجهما وافتراقهما وكأنما هو طقس لتعذيب الذات ..
************
كانت قد دخلت لتوها إلى حجرتها الفندقية بالعاصمة الإيطالية روما ..قررت أن تنل حماما منعشا سريعا قبل تنزل لتصطحب مجموعتها إلى معالم العاصمة التي تعلم علم اليقين أنها ستثير داخلها كثيرا من الشجون والذكريات ..
تحركت بمجموعتها من معلم لأخر في مهارة وبدون أن تدري قادتها قدماها لمطعم ماريا ..
دخلت في تردد وخلفها مجموعتها وحاولت على قدر إمكانها التعامل مع ماريا التي كانت لا تتقن الكثير من الإنجليزية للأسف..لكنها استطاعت بكل مودة إطعامهم أشهى المأكولات التي حازت استحسان المجموعة ..
تقدمت في اضطراب تجاه ماريا وهمست بصوت لا يكاد يسمع متسائلة :- هل قابلت آدم !؟.. هل جاء إلى هنا !؟..
تطلعت ماريا إليها بنظرة فاحصة وهتفت مؤكدة :- نعم .. آدم كان هنا منذ ما يقارب الأسبوع ..
خفق قلب حياة في جنون .. لقد كان هنا .. هل هناك أملا في لقائه .. مجرد لقاء عابر.. تتزود ببعض من ذكرى وترحل ..
هتفت المرأة بالكثير من الكلمات التي اختلطت فيها الإنجليزية بالإيطالية وحاولت حياة قدر استطاعتها تفسير ما تقول :- لقد جاء فعلا .. لكنه لم يكن آدم القديم .. إنه العشق .. لقد بدله الهوى كليا ..
همست حياة في خيبة :- تقولين عشق !؟..
أكدت ماريا وهى تهز رأسها بقوة :- نعم ..
يبدو أنه قابل أخيرا توأم روحه ..
أومأت حياة في تفهم واستأذنت ماريا ورحلت وهى تعتقد أنها خسرته للأبد ..
****************
دفعت بحذائها الرياضي بعيدا عن قدمها متأوهة واندفعت الي الحمام تمني نفسها بفترة استرخاء طويلة في المغطس تتخلص من عناء جولة اليوم الطويلة وكذا تحاول تناسي كلام ماريا عن آدم واهتدائه أخيرا لتوأم روحه ..
ما أن همت بخلع ملابسها حتى تناهى لمسامعها صوت رسالة ما على جوالها .. خرجت من الحمام متأففة فقد يكون أحد أفراد مجموعتها في ورطة ما ويحتاج مساعدتها إلا أنها زفرت في راحة فقد كانت الرسالة من نهى قررت تجاهلها للحظة لكنها فتحتها تتطلع إلى بعض الكلمات المكتوبة وباسفلها تسجيل صوتي .. قرأت الكلمات سريعا وما جاء بها حيرها :- أولا .. اشتقتك كثيرا .. ثانيا .. سامي عرض على الزواج أخيرا .. وطبعا تدللت لفترة طويللللة حتى وافقت .. ثلاث دقائق وخمس ثوان وأعلنت موافقتي بعد إلحاح منه طبعا …
قهقهت حياة في سعادة لمزاح ابنة عمتها وكذلك من أجل هذا الخبر الرائع ..
لكن نهى استطردت :- أعرف أن ما قمت به لا أخلاقي بالمرة ولا يليق من الأساس لكن منذ متى تفعل ابنة عمتك أي شيء معقول أو منطقي !؟..هذا تسجيل لحوار دار بيني وبين سامي وأقسم أني لم أكن أعلم معظم المفاجآت التي ستتضح فيه لكني استشعرت أنه من الأفضل لو استمعت لذاك التسجيل فقد يكون ما زال يهمك أمر صاحبه..
انتهت رسالة نهى لتجلس حياة في اضطراب مترقبة ما يمكن أن تسمعه على ذاك
التسجيل الصوتي يحدوها حدس عجيب أن القادم يخص آدم ..
مدت إصبع مرتجف وداست زر الاستماع ليطالعها صوت سامي متنهدا :- انه شخص رائع بكل المقاييس .. وعانى الكثير .. لقد كافح كفاح الابطال حتى وصل لتلك المكانة المرموقة بعالم الأعمال وخاصة بعد أن ترك له والده تلك الشركة التي أورثه إياها مديونة وشبه مفلسة .. لقد كان رحيل والده صدمة كبيرة فقد كان متعلقا به بشدة .. لم أر رجلا يعشق والده كآدم ..
تنبهت حياة في صدمة ترهف السمع بتركيز أكبر عند ذكر اسمه ليستطرد سامي :-
كلنا كنّا نعتقد أن الشركة قد انتهى أمرها وخاصة ونحن ندرك تماما أن آدم سيقع في دوامة حزن قد لا يستطيع الخروج منها..
لكنه وللعجيب كتم أحزانه والتي أعلم تماما مقدارها العميق كابن خال له ..
صرخت حياة وكذا نهى بالتسجيل متسائلة في تعجب :- ابن خاله !؟.. ولم لم تخبرنا بذلك وجئت متخفيا !؟ ..
أكد سامي مضطربا :- الحقيقة كان ذاك مطلبه .. فقد أكد عليّ عدم ذكر صلة القربة بيننا وأن اتقدم للعمل بالشركة وفى ذاك المنصب بالتحديد حتى يحقق هدف ما بنفسه والذي اطلعني عليه للعمل على الوصول لأدلة في أسرع ما يمكن .. وبالفعل اكتشفت خيانة مدير أعمالكما وأبلغته بذلك ..وقد قام باللازم تجاهه حتى يتأكد أن حياة بأيد أمينة وذلك بناء على وصية جدكما رحمه الله ..
هتفت نهى متعجبة من جديد :- وهل أوصاه جدي بحياة !؟..
أكد سامي في رزانة :- نعم .. هو اخبرني ذلك .. لا أعلم التفاصيل لكن جدكما هو من أصر على زواجهما بشكل رسمي بعد أن أخبره بكل ما كان من أمر الرحلة والجزيرة..
كان دور حياة لتشهق في صدمة وقد أوقفت التسجيل للحظة تستجمع فيها شتات نفسها غير مدركة ما يحدث .. هل اخبر جدها بكل شيء ومن اللحظة الأولي..!؟.. إذن لم كان يستغلها طالبا المال عند اعلان رغبتها بالانفصال !؟.. وكيف استطاع جدها إقناعه بإتمام الزواج من الأساس !؟.. لو كان جدها قد استشعر أنه رجل سيء ما كان غامر بتحويل زواجهما لزواج رسمي قد يوقعها في ورطة جديدة وتجربة آخرى فاشلة .. فجدها يعلم تمام العلم أنها لن تحتمل جرحا مضاعفا على جرح لم يكن قد اندمل بعد ..
وأي شركة تلك التي يتحدث عنها سامي والتي تركها له والده والذي ادركت مدى محبته له منذ كان يقص لها أساطيره بالجزيرة !؟..لقد استشعرت خلف حكاياته حنين جارف لم يكن باستطاعته مداراته أو امكنها هى إغفاله ..
شعرت ان رأسها يدور أمام ذاك السيل من الحقائق لكن على الرغم من هذا قررت أن تستطرد في سماعها للتسجيل فيبدو أنه يحمل الكثير .. ضغطت زر التشغيل واستمعت مرة آخرى لصوت سامي مؤكدا :- وعلى الرغم من النجاح الذي حققته شركته والتي استطاع في خلال عدة سنوات تحويلها لسلسة من الشركات الرائدة في عدة مجالات إلا أن ذاك النجاح لم يشفع له أمام الخيانة ..
هتفت نهى متعجبة :- خيانة !؟.. خيانة من!؟..
همس سامي مؤكدا في حزن :- زوجته !؟.. شهقت نهى وكان دور حياة لتشهق في صدمة لتهتف كلتاهما :- زوجته !؟..
انصتت لسامي مؤكدا :- لقد كان يعشقها .. كانت قصة حبهما حديث المدينة .. توج ذاك الحب بزواج أسطوري ظن الجميع أنه سيدوم للأبد .. لكن للاسف انقلب الحال بعد فترة ليست بالطويلة واكتشف آدم بعد كل هذا العشق أن زواجها منه كان أكبر خديعة تعرض لها .. فلقد تزوجته بسبب ثروته لا أكثر وأنها كانت على علاقة بأحدهم ..عندما واجهها آدم أخبرته ببرود أنه لم يكن الرجل الذي كانت تحلم به والذي كانت تأمل أن يحقق لها ما كانت تطمح إليه .. فهو أبدا لم يكن ذاك الرجل الجامح على حد تعبيرها الذي يرضي نزواتها ورغباتها كامرأة ..
كاد أن ينتهي الامر بجريمة لولا تدخلي ونصيحتي له بطلاقها في هدوء درءً للفضيحة والحمد لله أنه فعل لكنه أبدا لم يعد آدم الذي كان ..
اعتزل الجميع لفترة وقرر ما بين عشية وضحاها الخروج كمرشد سياحي في الرحلات التابعة لشركتنا .. كان يغيب بالشهور حول العالم ولا نستطيع الوصول إليه وكأنه يهرب من شيء ما يطارده .. لقد تبدل كليا وأصبحت النساء بناظريه مجرد وسيلة لتسلية رخيصة وانتهى .. اصبح العشق بالنسبة له أكذوبة .. وأمور القلب عبث لا جدوى منه ..
همست نهى متنهدة في حسرة :- مسكين .. لكن أين تراه يكون !؟.. فمنذ رحل مبتعدا ونحن لا ندرك أين يمكنه أن يختبئ كل هذه المدة !؟..
همس سامي :- هو باللامكان .. يتنقل مع إحدى مجموعاته السياحية من بلد لآخر وقد يبدل الجولات نفسها إذا ما سأم مع مرشد آخر مغلقا جواله مبتعدا عن الدنيا وما فيها .. يعيش جسدا بلا روح ..
انقطع التسجيل عند هذه النقطة لتتطلع حياة إلى الهاتف في ذهول غير مدركة ما يمكنها فعله..
إنها تعشق ذاك الرجل هي تعلم ذلك ..لكن ذاك الشعور الذي يكتنفها اللحظة هو أكبر من أن تشمله كلمة بقاموس اللغة ..
منذ رحل مودعا إياها باعثا لها تلك الرسالة على جوالها مختفيا بهذا الشكل الغريب وحياتها ما عادت إلا سلسلة متواصلة من التفكير فيه واجترار كل لحظاتهما معا حتى ظنت أنها اصيبت بلعنة ذاك الماجن وما عادت قادرة على انتزاعه من مخيلتها ولو للحظة واحدة ..
اين يمكنه أن يكون يا ترى !؟..
وهل سيكتب لهما اللقاء مجددا بعد شهور من الفراق !؟..
**************
دخلت مع مجموعتها لأحد المطاعم بالعاصمة الفرنسية باريس .. جلسوا جميعا ليطلب كل منهم حاجته .. تطلعت هي إلى الشارع المزدحم بالمارة وشردت كعادتها لتجد أحد أفراد مجموعتها يهتف بها في حماس :- هيا.. إنه دورك يا حياة ..
تطلعت متعجبة :- دوري في ماذا !؟..
هتفت أخرى :- في اختيار الأغنية من كشك الموسيقى وغناءها أيضا ..
قهقهت حياة :- اختيار جايز لكن غناء .. مستحيل .. رواد المطعم سيطردونا حتما بسبب الإزعاج الذي سيسببه صوتي ..
قهقه الجميع لكنهم لم ييأسوا دافعين إياها لتقف فوق منصة العرض تختار الأغنية ..
مدت كفها بقطعة النقود المعدنية واختارت إحدى أغاني لارا فابيان ..
وبدأت تغني :-
صحيح أنه كانت هناك طرق آخرى للإفتراق..
بعض بريق الزجاج كان بامكانه ربما مساعدتنا في صمت مر ..
قررت أن أغفر لك الخطايا التي يمكن أن ترتكب من شدة الحب ..
صحيح أن الفتاة الصغيرة في أعماقي غالبا ما تناديك…
تقريبا مثل أمّ كنت تلفني وتحميني
سرقت منك الدم الذي كان لا يجب أن نتقاسمه
بقمة الكلام والأحلام سأصرخ..
أحبك.. أحبك ..
شاركها بعض رواد المطعم الأغنية التي بكت وهى تكرر مقطعها الأخير :- أحبك.. أحبك ..
ليهمس ذاك الصوت لاهثا خلفها :- لم أعلم أن علىّ البحث بنصف الكرة الأرضية حتى أجدك واسمع تلك الكلمة أخيرا ..
انتفضت تتطلع لصاحب الصوت الذي ادركت كنهه وميزت نبرات صوته مسامع روحها قبل آذانها .. وجدته أمامها وهى التي كانت منذ لحظات تتذكره ودون وعي انفجرت باكية ليهتف وهو يجذبها لأحضانه:- هذه فعلا الطريقة المثلى لاستقبالي .
هتف ساخرا في مزاح :- ما أحلى الرجوع إليكِ..
رفعت رأسها متطلعة اليه وهتف تسأله :- هل حقا كنت تبحث عني !؟..
أومأ ايجابا مع ابتسامة خلابة لتهتف في حنق:- إذن لما تأخرت !؟..
وأشعلت الغيرة غضبها لتهتف :- بالتأكيد شغلتك الأخريات .. حسناواتك التافهات ..
قهقه لغيرتها التي استطابها لكنه همس في صدق لا يمكن تزييفه :- لم يكن هناك امرأة آخري يمكن أن تملأ فراغ روحي الذي خلفته .. لقد صومت عنهن للأبد.. انظري ..
واشار للمجموعة التي هو مرشدها لتنفجر ضاحكة من بين دمعاتها فقد كانت المجموعة عبارة عن أزواج من العجائز ليستطرد في عشق :- لا حياة بلا حياة ..
وقبل جبينها في وله وكاد أن ينسى الدنيا وكل ما حوله وهو بحضرتها راغبة بين ذراعيه إلا أن صياح مجموعة العجزة في سعادة وتصفيقهم في حماس على ذاك المشهد العاطفي المعروض أمامهم مطالبين ببعض الإثارة كان باعثا له ليتنهد في قلة حيلة هاتفا في مرح :- لن أعرض المزيد.. لقد انتهى المشهد وأغلقت السينما أبوابها ..
لتتعالى ضحكاتها متزامنة مع احتجاج الجماهير، وهو يهمس لها في مجون كعادته التي اشتاقتها كثيرا :- وستفتح السينما أبوابها قريبا .. لكن بعرض خاص للأبطال فقط ..
غمز بعينيه فاضطربت نبضات خافقها واحمرت خجلا ليقهقه وهو يمسك بكفها يجذبها لتتبعه بعد ان أمر السائق بإعادة المجموعة للفندق لأن هناك أحاديث مطولة لابد وأن يضع فيها النقاط على الأحرف ..
*************

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية السماء تشهد أيها الماجن)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى