روايات

رواية ظننتك قلبي الفصل الأول 1 بقلم قوت القلوب

رواية ظننتك قلبي الفصل الأول 1 بقلم قوت القلوب

رواية ظننتك قلبي الجزء الأول

رواية ظننتك قلبي البارت الأول

ظننتك قلبي
ظننتك قلبي

رواية ظننتك قلبي الحلقة الأولى

المقدمة
***

ملكت نفسي وحياتي ، أنا الأقوى فلا أنحني ..
لكنني تعثرت بعينيك فسقط قلبي بهواك متيم .
كيف لصوتك لحن يحيني ويمنحني الأمل لأعيش .
لم لا يخضع قلبي لسطوتي !!!
لم أيقظته و سلبته مني !!!
أليس بقلبي أنا ؟؟!
أنت خطيئتي التى أحن إليها .
لقد ملكت قلبًا لا يؤذي أحدًا لكنه يوذيني !!
فالقلب قلبي والنبض لك .
لقد ظننتك قلبي ….. لكن بعض الظن إثم …

(المتوحشة …)

باغتته بجذبه من مقدمة قميصه الصوفي الباهت بقبضتها وهى تزمجر بوجهه بشراسة لم يرها من قبل بأعتى الرجال ، زجرته بمقلتيها العسليتان بنظرة أرجفت ساقيه المتخبطتان بتخوف لتتسع حدقتاه بفزع شاعرًا بأن الهواء من حوله فرغ تمامًا ليبحث عن ذرة منه تحيي رئتيه اللاتى توقفت عن عملهما إثر خوفه الذى إكتسى روحه .
هل يمكن لفتاة أن تدب كل هذا الهلع بنفس رجل من مجرد نظرة عين .

بخشونة صاحت من بين أسنانها المتراصة البيضاء بصوت مخالف عن ذلك الصفاء المحيط بهم ، يكاد يجزم بأنه قد سمع للتو صوت إصطكاك أسنانها فوق بعضها البعض ولهيب ناري قذف بوجهه مع كلماتها حين هتفت به بغضب هادر كما لو قتل أحد أحبائها للتو …
_ فيه إيه على الصبح ؟

إرتجف بين يديها كفرخ دجاج مرتعش ليزدرد ريقه الجاف بخشونة قبل أن يجيبها بنبرة متلعثمة تقطعت لها حروف كلماته التى تبخرت بالهواء …
_ كنت جاي أسألك يا هانم لو محتااااا … لو محتاجه حاجة ممـ من السوق .

شدت من جذبها لمقدمة قميصه تحدجه بنظرتها السامة قبل أن تطلق سراحه من بين قبضتها تدفعه نحو الحائط بقوة لا تليق بفتاة مطلقًا وهى تحقره برد متهكم …
_ هانم …!!!! غور من هنا …

لم تعطه الفرصة حتى لأى إيضاح بل صفقت الباب بقوة بوجهه لتدرك أن هذا ما هو إلا حارس العقار الجديد ..

وقف متيبسًا للحظات قبل أن يدرك أنه حصل على حريته من قِبَّل يديها ليركض الدرج هابطًا نحو الأسفل بخطوات متعثرة قبل أن تلحقه تلك (المتوحشة) مدركًا أنه أخطأ حين أقدم على عرض خدماته لقاطني تلك البناية …

غمغمت (المتوحشة) وهى تعود لداخل شقتها تلعن هذا السفيه الذى طرق بابها بهذه الساعة المبكرة من الصباح بسخط …
_ ربنا ياخدك يا بعيد قلقت منامي إلهي يقل راحتك .

أطلقت زفيرًا قويًا تعيد به إتزانها النفسي الذى أفسده هذا الغبي ، ظلت ملامحها معقودة بقوة كما لو أن صدرها لا يتسع لهذا البراح من حولها ، وما الجديد فتلك القتامة و ضيق النفس هى حياتها …

إنها “عهد مسعود” فتاة ثلاثينية حديثة العهد بعقدها الرابع فاليوم يصادف يوم ميلادها ، وها هي تخطو خطوة جديدة تجاه مسمى ( عانس) ألا يكفيها تلك الألقاب والمسميات التى تطلق عليها لتزداد بلقب جديد ..!!

برغم كل تلك الألقاب التى تعرفها والتى لا تعرفها عنها هى لا تكترث لكل ما يقال عنها ، ربما هي ليست فتاة عادية كغيرها ، وربما ليست محدودة الجمال بل هى حقًا جميلة تتمتع بملامح هادئة ذات أعين عسلية براقة ، لكنها ترفض ذلك بشكل مطلق ، ترفض أن ينظر إليها كفتاة جميلة فقط ، بل أنها ترفض أن تُعامل كـ فتاة من الأساس فهي خشنة التعامل تمامًا كالرجال .

تعتمد إسلوبها الخشن وترفض كل ما يعاملها بنعومة ، ترفض أن يدللها أحدهم أو يقضي عنها أمر أو حاجة ، تمامًا كهذا الحارس الجديد للعقار الذى لا يعرفها ولا يعرف طبعها …

كيف يجرؤ على دق بابها بهذا الوقت ألا يعلم من هي “عهد مسعود” …

________________________________

التظاهر بالقسوة ما هو إلا إدعاء مشاعر ليست متأصلة ، فقط ليظهر عكس ما يبدى على المرء ، لكن الخوف من أن يتحول هذا الإدعاء لحقيقة وتصل القسوة لأوردة القلوب فتتحجر …
(ترى هل أنتِ حقًا من أى فئة ؟ !!)

بهدوء قاتل وأعين ساخطة تطلعت “عهد” بشاشة هاتفها قبل أن تغمض جفناها بغيظ من صاحبة تلك المكالمة لتجيبها بإسلوبها الجاف كتراشق الحجارة الذى تطلقه من فمها كلما تحدثت ..
_ خير يا “وعد” بتتكلمي ليه على الصبح ، هي نقصاكِ إنتِ كمان ؟

رغم أن نبرة صوتها لم تكن بخشونة حديثها إلا أن مجيبتها على الطرف الآخر كانت على النقيض تمامًا ، كان صوتها عذب رقيق للغاية ، به شجن يلمس أوتار القلوب كسيمفونية عزف منفرد حزينة لكن تستوطن النفس …
_ صباح الخير يا “عهد” .

أجابتها كما لو أنها لم تستمع لكلماتها الجافة منذ وهلة ، ثم إستطردت بحنو ..
_ وحشتيني قلت أصبح عليكِ قبل ما تروحي الشغل ، وإنتِ مبتحبيش تتكلمي في التليفون وإنتِ في الشغل .

هبت گعاصفة عاتية بكل رياحها تطيح بكل حنو نطقت به “وعد” لتعنفها بقوة علي إتصالها ، تلومها بشدة علي طريقتها اللينة …
_ بلا وحشتيني بلا زفت علي دماغك ، بطلي سهوكتك دى ، طول ما إنتِ شغالة فى الحنين ده عمري ما عايزة أكلمك أو أعرفك ، إنتِ أختي إنتِ ؟؟!

سألتها مستنكرة كيف لها أن تكون متناقضة معها بكل شئ ثم إستطردت تستكمل توبيخها ..
_ لو كنتِ أختي بجد كنتِ عرفتي تردي علي كل بني آدم جه عليكِ وقلل منك وبهدلك ، حنيتك دى متنفعش مع الأشكال إللى إنتِ معشراهم دول ، إمشي يا “وعد” عصبتيني ، ومن غير سلام …

لم تمهلها حتى أدنى فرصة للحديث لتغلق المكالمة عند هذا الحد فقد ثارت نفسها للغاية بسماع صوتها ..

لم تكتفي بإغلاق المكالمة لتغمغم بسخط أثناء إتجاهها للمرحاض لتتوضئ …
_ بنت طرية ، خايبة ، حنينه زيادة عن اللزوم ، مخليه الكل يستعبطها ، لا وجاية عايزة تصالحني ، وربنا ما أنا مكلماها إلا لما ترجع عن إللي عملته ده و إللى يحصل يحصل …

فور أن دلفت لداخل المرحاض صفقت بابِه بقوة رغم أنها تعيش وحيدة للغاية ولا يشعر بعصبيتها وثورتها غيرها ..

________________________________

ترقرقت دمعة حزينة مسحتها “وعد” بطرف إصبعها قبل أن ينتبه لها أحد ، تشدقت بعيناها العسليتان التى تميل للون الأخضر والتى تشبعت بحمرة تستعطفها ألا تذرف دموع أكثر من ذلك فلم تعد تتحمل الحزن ، فهي بطبعها كائن لطيف حنون للغاية بعكس أختها الكبري “عهد” ، تتمتع بوجه مستدير صغير وشفتين رقيقتين ، بل كل ملامحها تبعث الرقة واللطافة تشبه والدتها الراحله (عايدة) إلى حد كبير ..

تهدج صدرها بإرتجاف تحاول السيطرة على دموعها التى لا تستطيع السيطرة عليها إذا بدأت بالبكاء ، ذلك طبعها المرهف الذى يدعوها لترقرق الدموع بكل الأحوال سواء كانت سعيدة فَرِحة أو حزينة تَعِسة ، تترقرق دموعها لأتفه الأسباب لكنها لم تكن يومًا ذات طبع نكد بل مرهفة الحس …

هذا الطبع الذى لم يتوافق مع زوجها “عاطف” الذى لا يسمح للعواطف بالإنسياق بدربها …

لم تغضب من “عهد” بل هي توافقها تمامًا لكن ما بيدها حيلة …

تطلعت نحو إبنها الصغير “زين” ذو الثلاث سنوات بتحسر ، فهو عوضها الوحيد بتلك الزيجة ولن تستطيع فعل شئ سوى الصبر والتحمل عوضًا عن حمل لقب من تلك الألقاب الكريهة التى لن تتحملها خاصة لقب (مطلقة) …

________________________________

ببهو تلك البناية التى تقطن بها “عهد” وصل الحارس بوجه قلق فمازالت مقابلته مع تلك (المتوحشة) تؤثِر به ، تطلعت نحوه إحدى الفتيات المراهقات التى وقفت ببهو البناية تعدل من خصلات شعرها بالمرآة العريضة ثم تحدثت بنبرة ساخرة ..
_ إلحق يا “ميزو” شكل البواب الجديد عدى على دراكولا إللى ساكنه فوق ..!!

مال أخيها ذو الرأس النحيل والشعر الكثيف المنتفخ فوق رأسه كـ بالون المنطاد يطالع الحارس بنظرات ضاحكة قبل أن يعقب ساخرًا ..
_ أه صحيح …

ثم أعلى من صوته بتساؤل ضاحك ..
_ مالك يا عم .. إنتَ كنت فى العاشر ولا إيه …؟!

أومأ الحارس رأسه بالإيجاب دون حديث ليستكمل “ميزو” بذات الطريقة …
_ هو فيه حد عاقل يروح للمجنونة دى برجليه على الصبح … إحمد ربنا إنها مأكلتكش …

إتسعت عينا الحارس وقد بهت تمامًا يريد إستيضاح الأمر …
_ هي تطلع مين دي ..؟!! دي يا دوب بسألها عايزة حاجة من السوق طبقت فى زمارة رقبتي كانت حتجيب أجلى ..

مطت الفتاة شفتيها وهي تستكمل تطلعها بالمرآة قائله ..
_ سيبك منها … محدش فى العمارة كلها بيتكلم معاها … لو خايف على نفسك خليك بعيد … عم (صبري) إللى قبلك عمره ما راح لها ولا كلمها ..

أومئ الحارس رأسه بقوة فهو بالفعل سيفعل ذلك ولن يقحم نفسه مرة أخرى ليدلف لغرفته قابعًا بها لحين إحتياج أحدهم له ..

كانت جرأة هذا الشاب لا تتعدى الكلمات التى تفوه بها لينظر بإرتباك تجاه المصعد يحث أخته على التحرك ..
_ يلا يا “سارة” أحسن تنزل … مش بيقول لك صحاها أهو …

مالت بأنفها بتقزز قبل أن تجيبه بلا مبالاة …
_ أصبر بقى .. متخفش … دى ماشيه زى الساعة لا بتقدم ولا بتأخر مش حتنزل إلا في معادها متخافش …

________________________________

بينما كانت “عهد” حديث الساعة بهذا الصباح إلا أنها حاولت إستعادة هدوئها گحبات رمل في مهب الريح ، شقتها الواقعة بالدور العاشر بهذه البناية حديثة الطراز كانت تخلو تمامًا من كل مظاهر البهجة ، كل محتوياتها تضج قتامة وضيق نفس ، برغم نظافتها وترتيبها بشكل مبالغ فيه إلا أن ألوانه الممزوجة بين البني الداكن والأسود يتخللهم بعض اللون النبيذى المحتقن تبث في النفس الضيق والكآبة ..

هذا السكون التام يشعرك للوهلة الأولي أن الشقة خاوية تمامًا ، دلفت “عهد” لغرفتها بعد قضائها لصلواتها أولاً لتبدل ملابسها كروتين يومي إعتادت عليه ..

أغمضت عيناها بعدم تحمل لسماعها لرنين هاتفها المزعج مرة أخرى ظنًا منها أنها أختها “وعد” تعيد الإتصال بها …

تحفزت “عهد” للغاية وهي تستدير بإنفعال حاملة هاتفها للرد لكنها وجدتها خالتها “زكيه” لتردف بإستنكار …
_ هم مالهم كلهم بيكلموني على الصبح كدة ليه … الله …

بنفس مشحونة بدون داعي أجابت “عهد” …
_ صباح الخير يا خالتي … فيه حاجة ؟!!

صوتها الحنون الذى تعتبره “عهد” آخر ما تبقى لها من حياة اللين كان بمثابة طوق أمان لحياتها الرتيبة من وقت لآخر لتتذكر أن لها شخص ما يهتم لها …
_ صباح الخير يا “عهد” … عاملة إيه … أنا بس بطمن عليكِ …

لم تطل محادثتها مع خالتها لكثير من الوقت حتى لا تتأخر على موعد عملها ، لم تخلو المكالمة من محاولة “زكيه” لمرة أخرى من تلك المرات العديدة بإقناع “عهد” بترك مسكنها و وحدتها والمجئ للعيش معها هي وبناتها ، لكن كالعادة وجدت ذاك الحائط الفولاذي الرافض من قبل “عهد” …
فهي عنيدة متشبثه لا يمكن تغيير رأيها بسهولة ..

________________________________

بذلك الحى القديم من تلك الأحياء الشعبية التى يتضافر سكانها بقوة حتى تكاد تشعر بأنهم أسرة واحدة كبيرة ، ورغم تهالك هذا البيت العتيق الطراز المتصدع إلا أنه مازال بيتًا شامخًا بوسط الحى ، يترصد بقية قاطني هذا الحى الشعبي لأصحاب هذا البيت ، ليس لسيطهم الذائع ولا لغناهم الفاحش فهم أبعد ما يكون من هذه الصفات ، بل لأنهم عائلة كبيرة يقطن أفرادها بكل شقة أسرة منهم ، لهذا سمى بـ (بيت النجار) ..

ذلك البيت الذى يتهكم عليه البعض گ( باب النجار ) بمقولة ( بيت النجار مخلع) فكل ما به متصدع حتى نفوسهم ، وهذا أمر لا يدعو للإختلاف فمن وطأت قدمه هذا البيت لابد وأن يطاله هذا التصدع بشكل حتمى …

بغرفة المعيشة كانت “زكيه” تلك المرأة الخمسينية النحيلة التى مازال يظهر جمال تقاسيمها رغم كبرها فكم كانت كريحانة يانعة فى شبابها تمامًا كما كانت أختها الراحله ، زفرت “زكيه” بقلة حيلة وهى تضع هاتفها جانبًا قبل أن تخرج كلماتها تحدث نفسها بضيق ..
_ وأخرتها معاكِ يا بنت “عايدة” ، بس لو تبطلي عنادك ده ..!!!!

بخطوات خفيفة تقدمت فتاة عشرينية متوسطة الطول تميل إلى القصر ذات ملامح هادئة ووجه مستدير لها من العيون السوداء الواسعة ذات الأهداب الكثيفة ما يظهر وجهها الطفولي الساحر ، أقبلت ترتدى إحدى المنامات القطنية المزركشة التى بهتت ألوانها من كثرة الإستخدام ، كانت تحمل نعومة لا تتناسب وهذا البيت المتصدع ولا تلك النفوس المهترئة ..

غُرتها السوداء التى غطت جبهتها الصغيرة أعطتها سحر من نوع برئ خاصة وقد عقصت شعرها الأسود كضفيرة على جانب كتفها لاقت بها بشدة …

تقدمت نحو والدتها التى أخذت توبخ نفسها وحظها التعس متسائلة ..
_ مالك يا ماما ، زعلانة ليه تانى ؟!

رفعت “زكيه” رأسها تطالع إبنتها الحسناء بتحسر فهي لا تدرى أتتحسر على حالها أم حال بنات أختها أم حال إبنتيها لتتنهد بإستسلام قبل أن تجيبها بنبرة خانعة ضعيفة …
_ مفيش يا “نغم” ، مش عارفة ألاقيها منين ولا منين ؟!

ربتت “نغم” برفق على كتف والدتها وإكتفت بكلمات بسيطة للغاية ردًا على والدتها فهذا الحال تمر بتفاصيله كل يوم …
_ خلاص يا ماما كفاية إللى إنتِ فيه …. متزوديهاش عليكِ بـ “عهد” بنت خالتي كمان ، هي مش صغيرة وأكيد عارفة مصلحتها ..

وضعت قبضتها تحت وجنتها لتجيب إبنتها بتساؤل ..
_ يعني هو ينفع تفضل عايشة لوحدها بطولها كدة ، ما هو بعد ما أمها ماتت و “وعد” إتجوزت وهي عايشة لوحدها ، ياما إتحايلت عليها تيجي تقعد معانا هنا وهي مش راضية ، دماغها ناشفه أوى ، بس حعمل إيه ، أغصبها يعني ؟!!

بتلك النقطة تمامًا وصلت “زكيه” لما تريد “نغم” إيضاحه لها لتردف بتأكيد ..
_ بالضبط يا ماما ، هي مش صغيرة ، ومش حنغصبها ، هي مش عايزة تسيب شقتهم هناك ، وإن جيتي للحق ، هي معاها حق ، حتيجي تعيش فى الوكسة إللى إحنا فيها دى ، ده إحنا مش قادرين نعيش هنا ، حنجيبها هي كمان تعيش معانا ..

تنهدت “زكيه” بضيق ثم أردفت بإيمائه ..
ـ عندك حق يا “نغم” ، ده إحنا اللى فينا مش عند حد …

إنتبهت “زكيه” لغياب إبنتها الكبري “شجن” لتهتف بقلق ..
ـ الله ، أمال أختك “شجن” فين ؟… مشفتهاش من بدرى؟ ..

إبتسمت “نغم” بخفة وهى تجيبها ببعض السخرية ..
ـ نسيتي ولا إيه يا ماما ، مش هي قايله لك إنها حتنزل بدرى تشوف شغل فى أى مستشفى ولا عيادة …

تذكرت “زكيه” ذلك بالفعل لتتنفس براحة بعد لحظات من كتم الأنفاس .
ـ أه صح ، هي قالت لى إمبارح وأنا إللى نسيت ..

ضيقت “زكيه” عيناها وهى تتمعن بطلة إبنتها الجميلة التى لها من جمال روحها ما يسر النفس أكثر من جمال وجهها البرئ ثم سألتها ببعض التمنى …
ـ وإنتِ مش عايزة تشتغلى زيها ؟!

رفعت “نغم” حاجبيها وأهدلتهما بضيق نفس أخفته خلف تلك الإبتسامة الزائفة …
ـ من ناحية عايزة أشتغل ، أنا نِفسى ، بس إزاى ؟! هو بعد إللى حصل فى الحارة ده حد حيرضى يشغلني !!!! منها لله بقى ..

إجابة إبنتها جعلتها تردف بإنفعال وقلة حيلة ..
ـ أشوف فيها يوم زى ما هى كاسرة فرحة بناتي وتاعبه قلوبهم …

أمسكت “نغم” بكف والدتها تحثها على النهوض ..
ـ طب يلا نشوف ورانا إيه ، مش حنقعد طول اليوم نجيب فى سيرة إللى متتسماش دى ..
_ يلا بينا …

________________________________

(بيت النجار) لم يضم شقة “زكيه” وبناتها فحسب ، فهي تقطن بشقة بالدور الثاني فقط ، تقع أمامها شقة يطلق فيها الريح صافرته ، فهي شقة خاوية مغلقة منذ سنوات طويلة ..

لم تكن تلك الشقة هي المشكلة برغم ما حدث من خلاف عليها منذ أمد بعيد ، لكن الكارثة الكبرى كانت بالشقة التى تقع بالطابق الذى أسفلها مباشرة ، أو بالأدق الدور الأول العلوي كاملاً والذى يقطن به أخو زوجها وعم بناتها “فخري” وزوجته وأولاده …

نال التصدع من شقة “زكيه” كلوحة سريالية لفنان مغمور تتلاقى به ألوان الجدران مع تلك الترميمات الأسمنتية المؤذية للعين ، لكن “زكيه” تقبلت كل ذلك برضا بالأمر الواقع …

لكن شقة “فخري النجار” أخو زوجها كانت مدعاة للفخر بما يظهر عليها من الثراء بوسط الحي ، برغم ذوقها المتدني السوقي للغاية إلا أنه مازال ينم عن الثراء بعكس تلك الأسرة الفقيرة بالشقة العلوية …

ضربت تلك المرأة السمراء التى تخطت الخمسون ببضعة سنوات فخذيها بقوة لتصدر تلك الأساور الذهبية السميكة صوتًا رنانًا لتضج عيناها ببريق يحمل كُره وبغض زاد بإنفعال شديد حين هتفت بصوتها الخشن الذى يشبه أصوات الرجال ..
ـ مش فاضل إلا الخدامين كمان يعدلوا علينا ..!!!!

إنها “صباح الجزار ” زوجة “فخري النجار” إمرأة متسلطة قاسية الملامح سمينة الجسد الممتلئ بثنيات مترهلة وبالحلي أيضًا ، رغم محاولاتها العديدة لتظهر بأنها صاحبة ذوق رفيع وعائلة محترمة يخشاها الجميع ويتمنوا قربها ، هكذا تحاول الظهور لكن بقرارة نفسها هي تدرك أنها ليست كذلك ولا حتى تقربه ..

ارتداؤها لكل هذا الكم من الأساور الذهبية والحلي المعلق برقبتها لتثبت أنها من صاحبات الثروات والمستوي المرتفع ، تتفاخر دائمًا بحسبها ونسبها فوالدها “مفتاح الجزار” ذائع الصيت صاحب محلات الجزارة لبيع اللحوم بحيهم والأحياء المجاورة …

إمرأة كل مقوماتها أنها تملك المال لا أكثر ولا أقل ، لكن هذا المال إبتاع لها بقية المقومات التى تريدها بحياتها إلا شئ واحد ، حب زوجها “فخري” لها …

هذا الزوج الذى إستطاعت بمساعدة والدها ونقوده شرائه منذ زمن بعيد للزواج منها وتحقيق حلمها بالوصول إليه فهو عشقها الأوحد ونقطة ضعفها الوحيدة ..

فقد تعدى عشقها له درجة الوله والتملك ، إنساق “فخري” خلف أطماع الشباب بالوصول للثروة والمال بزواجه من (بنت الجزار) ليعيش بحياة رغدة ويحقق طموحاته وأحلامه ، لكن ما أدركه بعد أن إنساق بتلك الهاوية أن المال ليس بكل شئ لكنه علم ذلك بعد فوات الأوان …

أعدلت “صباح” من جلبابها الأسود المطعم بزركشة ذهبية مبالغ بها لتصدر أساورها ضجيج محبب لنفسها مزعج للبقية ، مصمصت شفتيها الغليظتين واللاتي زاد من غلاظتهم لون أحمر الشفاه فاقع اللون ثم نادت بصوتها الخشن ..
ـ بت يا “راويه” ، إنتِ يا بت ، إنتِ فين جتك نصيبه …

وكما يقول المثل الشعبي ( إقلب القدر على فمها …) والذى إنطبق تمامًا على “راويه” إبنتها الكبري والوحيدة التى تشبهها إلى حد كبير كما لو كانت صورة بالمرآة لكنها نسخة مصغرة عنها …

بجلباب مزركش وأساور ذهبية وجسد ممتلئ تقدمت “راويه” تجاه والدتها والتى تسمع نادائها جيدًا إلا أنها لم تهتم بالإجابة …

سارت لبضع خطوات بطيئة بدلال شديد ثم جلست بالمقعد الذهبي بالصالون الأحمر الزاهي مردفه بإمتعاض …
ـ خير ، عايزة إيه؟!

جلست “صباح” فوق الأريكة تستريح بجلستها أولاً قبل أن توضح بتقزز ..
ـ بت عمك المخفيه ، رايحة تاني تدور على شغل ، شفتي بقى قلة القيمة كل شوية !!!

صمتت “راويه” لبعض الوقت بوجه ممتعض حين أخذت “صباح” تحثها على الإنفعال وشحن النفس …
ـ ما تردي يا بت ، حنسكت لهم وهم طالعين داخلين يقلوا من قيمة عيلة (النجار) ، ويوقفوا حالنا ..

تهدج صدر “راويه” بإنفعال فقد إستطاعت والدتها إشعال الحقد بقلبها بتلميحها المتكرر عن عنوستها والتى هي بالتأكيد سببها حُسن بنات عمها وسُمعتهم السيئة أيضًا …
ـ هم مش ناويين يجيبوها لبر ، وأخرتها معاهم بنات “زكيه”..

بنظرات ماكرة فقد وصلت “صباح” لمبتغاها أعدلت جزعها بأريحية تستكمل شحذ نفس “راويه” للقيام بما تفكر به …
ـ أبوكِ عمره ما حيسمع لي بعد آخر مشكلة ، المرة دى بقى إنتِ إللى حتكلميه ، ما هو إللى بيعملوه ده حييجي على دماغنا أول ناس ..

أومأت “راويه” بقوة وهى تردف بغيظ ..
ـ مااااشى ..

________________________________

بوقت قياسي لم يستدعي التلكع سحبت “عهد” علاقة ملابسها من الخزانة بدون تفكير أو إختيار ، فلم الحيرة فكل ملابسها متشابهة فهى لا ترتدى سوى الحُلل السوداء گتلك التى يرتديها الرجال بلا إختلاف مطلقًا ، لا تعتمد ما هو ملفت للنظر فهى ليست بحاجة لأن تكون ملفته أو محط أنظار أحدهم …

بدقائق قليلة كانت قد إنتهت من إرتداء تلك الحُلة السوداء بمظهر رسمي للغاية ، رفعت رأسها بنظرة خاوية گ حياتها تمامًا فهي كالإناء الفارغ يصدر أصوات رنانة بالرغم من الفراغ المتوغل بداخلة ، فما يظهر منه غير ما يبطنه تمامًا …

عينان تائهتان بدنيا صاخبة ووجه صامت بدون روح أو حياة ، فعليها بدء اليوم وإنتظار نهايته ككل يوم …

وقفت أمام المرآة ترفع خصلات شعرها الأسود ک ليل حزين يغطى رأسها المستدير تلملمه بقسوة إلى الخلف حتى إلتصق برأسها ، فشعرها الحالك يتمتع بنعومة حريرية ومع جذبه للخلف ظهر ک لون يغطى رأسها بدون حياة ک نظرات عيونها العسلية تمامًا .

كانت تلك الدقائق هي فقط ما إحتاجته لتتجهز لمغادرتها لكن ينقصها شئ ما ، نعم إنها تلك النظرة القاسية الكارهه لتسقط فوق عينيها وتصبح على أتم الإستعداد للتوجه للعمل فلا معني للإبتسامة بحياتها التى تشبه القطار الذى لا يعرف الحياد عن طريق سلك به .

________________________________

بحي راقي هادئ بصورة طالما إعتاد عليها سكانها ، لم يكن ذاك البيت أو بمعنى أدق تلك البناية الراقية بيت يخص عائلة بعينها لكن هناك عائلة ما إعتبرته كذلك ، إنها عائلة (دويدار) ..

إتخذ المستشار المتقاعد “خالد دويدار” من تلك البناية بيتًا خاصًا بعائلته رغم وجود سُكان آخرين يشاركونهم البناية ..

فلهذا المستشار قوى الشخصية ثلاثة أبناء إبتاع لكل منهم شقة بخلاف شقته أيضًا ليصبح هو وأبنائه يطلقان على هذه البناية ( بيت عائلة دويدار) …

قطن “خالد دويدار ” بالدور الثاني بينما إتخذ الثلاث طوابق التالية له شقة لكل من أبنائه فالطابق يحتوي على شقة واحدة فقط ..

بعادة صباحية ونشاط إعتاد عليه المستشار “خالد دويدار” لسنوات طويلة برغم إنتهاء مسيرته بالعمل ک مستشار بالقضاء العالى وتخطى عمر الستون عامًا ليصبح التقاعد حتميًا الآن ، وهذا ما لم يعتاد عليه رجل بسطوته وسلطته التى دامت لسنوات مضت ، بدأ “خالد” يومه بتفقد أحوال قاطني هذا البيت ..

دق صوت جرس الباب لتتقدم الدكتورة “منار الهواري” زوجة المستشار ( إمرأة خمسينية أنيقة ذات وجه نحيل وشعر قصير للغاية بلونه الفضي الطبيعي لعمرها تعمل كطبيبة باطنية ماهرة ) قامت “منار” بفتح الباب وهي تطالع ساعة يدها أولاً …
ـ صباح الخير يا “بشير” ، جبت كل إللى قلت لك عليه ؟؟!

هكذا سألت “بشير” حارس العقار الذى طلبت منه جلب لها بعض الأغراض الضرورية التى تحتاجها ، أجابها “بشير” بحماس فهو يدرك تمامًا المقابل السخي الذى سيحصل عليه الآن …
ـ كله تمام يا ست الداكتورة ، جبت لك الفاكهة والخضار وكله ..

أخرجت “منار” من محفظتها الطويلة مبلغ مالي زاغت له عينا “بشير” بسعادة فكم كانت تلك السيدة كريمة سخية طوال الوقت ، مدت “منار” يدها بالنقود مع بسمة شكر قائله ..
ـ شكرًا يا “بشير” خد دول هات حاجة حلوة لولادك ..

برغم إنتظاره لهذا المقابل إلا أنه أردف بإمتنان …
ـ خيرك سابق والله ..

ـ شكرًا يا “بشير” تعبتك معايا .. (قالتها بلطف حين أصرت على إعطائه المال الذى وضعه بجيب بنطاله مستديرًا نحو المصعد لتغلق “منار” الباب) ..

حملت الأكياس متوجهة نحو المطبخ حين تابعها “خالد” مدققًا بكافة التفاصيل ..
ـ مش كتير شوية الحاجات دى يا “منار” ..؟؟!

وضعت “منار” الأكياس على الحافة الرخامية بالمطبخ وهي توضح بدون تذمر فقد إعتادت على طبعه المُلم بكل التفاصيل الذى إعتاد عليه …
ـ عشان العزومة بتاعة بعد بكرة إنت نسيت ؟!!

ألقت نظرة خفيفة بداخل الأكياس وهي تسأل زوجها …
ـ أحضر لك الفطار قبل ما أروح المستشفي ، أصل “أم مجدي” واخدة أجازة كام يوم تزور بنتها فى بلدهم ومش جاية النهاردة …

حياة التقاعد تلك لم يعتاد عليها بعد ليصبح التذمر والضيق سمة له بالآونة الأخيرة ..
ـ إعملي لي فنجان قهوة وخلاص ..

ثم إنتبه بملامح مقتضبه وهو يشير تجاه خارج المطبخ .
ـ وهو “رؤوف” مش رايح الشغل ولا إيه ، هو كل يوم يتأخر كدة !!!!

زمت “منار” شفتيها بإستنكار ليوم راحة وحيد يتخذه ولدها بين الحين والآخر …
ـ يوم أجازة يا “خالد” مش حيحصل حاجة ، إمبارح كان عندهم طلبية دوا إتأخر أوي عقبال ما إستلموها ..

غمغم “خالد” بسخط وهو يخرج من المطبخ بإنفعال …
ـ عيل ضعيف ، مش جامد زى أبوة وإخواته كدة ، خليكِ إنتِ يا أختي دلعي فيه كمان وكمان ..

ضحكت “منار” على طريقة زوجها الذى إنشغل بحياة الجميع بتدقيقه الزائد عن الحد لتلتف نحو الموقد تصنع كوبًا من القهوة لزوجها فهو يحب إرتشاف القهوة بكوب زجاجي وليس بفنجان …

كان ذلك آخر مهامها بالمنزل قبل مغادرتها بإناقة فهي رغم تخطيها لعامها الخامس والخمسون إلا أنها تحرص دومًا على أناقتها والحفاظ على مظهرها برقي فهي مديرة بأحد المستشفيات الخاصة ولها عيادة ک طبيبة باطنية متمرسة ماهرة للغاية ، لكنها مع ذلك تفكر جديًا بمشاركة زوجها تقاعدة والتخلى مؤقتًا عن عملها بالعيادة ويكفيها عملها بالمستشفي لبعض الوقت لهذا قررت طرح عيادتها للبيع او للإيجار ..

________________________________

سحابة سوداء تتطاير كالريح لا تخشي ما يعترضها بطريقها بل هي تتخذ طريقها ومن يخشي على نفسه فعليه أن يتجنبها …

تحركت “عهد” نحو المصعد بخطوات قوية ثابته للغاية ، قتامة نظراتها وحُلتها السوداء حتى حذائها لم يختلف سواده عن بقيه ملبسها ، شعرها المصفف بعناية معقوص بقوة جعلها مخيفه تبث الرهبة بالنفوس ، فيا لها من فتاة تسبب زعزعة بالنفس لمجرد رؤيتها .

وهذا ما فعلته بالفعل حين فُتح باب المصعد لتخرج منه بخطواتها القوية السريعة متجهة صوب بهو البناية .

إلتصق “ميزو” وأخته “سارة” بالجدار وقد إتسعتا عيناهما بفزع لحظة رؤيتهم لـ “عهد” وهم يتابعون خطواتها ومرورها أمامهم ترمقهم بتلك النظرة النارية بتقزز من رعونتهم جعلت حناجرهم تتحجر بخوف وإرتباك .

لحظات من حبس الأنفاس حتى مرت من أمامهم وغادرت البناية عقبها زفير قوى من “ميزو” وهو يلوم أخته على تأخيرها لهم حتى تقابلا مع (المتوحشة) .
ـ شوفتي ، لو كنا مشينا بدري مكناش شوفناها ، غاوية تعطلينا يا “سارة” !!!

رغم إضطراب قلبها المتخوف من تلك الفتاة إلا أنها إبتلعت ريقها محاولة الظهور ببعض الثبات غير عابئة بلوم أخيها لتردف بإشمئزاز …
ـ أعوذ بالله ، مش عارفة البنى آدمه دى مستحملة نفسها إزاى !!!!!

إستدارت “سارة” تجاه أخيها تقلد والدتها تمامًا بنميمتها مع إحدى جاراتهم عن “عهد” .
ـ أنا سمعت ماما وهى بتتكلم مع طنط “سهى” جارتنا وبيقولوا إن “عهد” دى ااااا …. (أنهت جملتها بحركة أصابعها بشكل دائري إلى جانب أذنها دلالة على وصفها بالجنون)

أثار وصف “سارة” إندهاش “ميزو” معقبًا .
ـ بجد .. مجنونة ..!!!!

طرفت “سارة” بعينيها لمعلوماتها الخطيرة مستطردة إيضاح حالة “عهد” .
ـ ماما بتقول إنها عندها مرض نفسي بيخليها تتخيل حاجات مبتحصلش ، بتعمل قصة في دماغها وتعيش فيها وتصدقها وممكن تعمل للناس حاجات تأذيهم ، حتى لو الناس إللى بتعمل معاهم كدة لا شافوها ولا عرفوها قبل كدة ..

ليومئ “ميزو” بتفهم لتلك الحالة التى قد قرأ عنها بمادة علم النفس التى يدرسها قائلاً بشرود ..
ـ ااااه ، دى عاملة زى بناخده فى علم النفس ، دى حالة إسمها ..ااا … ذُهان ، إللى هو بيجيب هلاوس وتخيلات ده ..

ـ ايوووه بالضبط كدة ..

بتخوف من أن تؤذيهم يومًا قال “ميزو” .
ـ خلينا بعيد عنها أحسن مش ناقصة إلا المجانين كمان … يلا حنتأخر على الدرس ..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ظننتك قلبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى