روايات

رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل السابع والستون 67 بقلم سماح نجيب

رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل السابع والستون 67 بقلم سماح نجيب

رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء السابع والستون

رواية لا يليق بك إلا العشق البارت السابع والستون

لا يليق بك إلا العشق
لا يليق بك إلا العشق

رواية لا يليق بك إلا العشق الحلقة السابعة والستون

ج٢ ٢١–” غير مرغوب فيه ”
كفنان عاشق ومحب للجمال راح يضفى ألوان جذابة على لوحة خلت من الألوان فكان السواد والظلام ساكن أرجاءها ، ولكن صارت تنضح بالحيوية والإشراق ، تجعل الرائى لا تمل عيناه من تأملها ، وكتمثال حجرى لفارس دبت فيه الحياة فجأة ، وترك مكانه وذهب حيث كانت تجلس تلك الصبية فى إنتظار فارس أحلامها داعياً إياها أن تراقصه تحت قطرات المطر التى أزالت عنه أخر ذرات القسوة وذاب الحنين بذراعيه اللتان أحتوتها بحب كأنها أثمن ما يملك
ما أجمل لقاءها به بعد طول الفراق، تجرفه معها بسيل من الأشواق، لحظة أبدعا فى رسم أحداثها كلوحة مزدانة بألوان الربيع ، وقت حالم إزداد فيه نبض القلوب ، وتم أسر العيون بقيود من العشق ، وفيه من اللهفة للقاء الحبيب مايروي أحاسيس قد أوشكت على الذبول كالورود ، لقاء حملت نسائمه عبير الشوق ، النابعة من بساتين الغرام
زاد إفتتنانه بجمال عيناها ونظراتها ، فما أجمل الأحاسيس وتصويراتها، لحظة لقاءه بها تشبه الإبحار في فضاء الدفء والحنان بزورق شراعه خفقات القلب التى تقفز فرحاً ما أن ألتحمت نبضاتهما سوياً ، فعندما تبتهج الوجوه بلقاء من لهم فى الوجدان من الحب ما يعجز اللسان التعبير عنه، تكفي الإبتسامة في التعبير عن ما يدخره القلب من شوق وعشق ، وتلألات إبتسامة الفرح على شفاه كادت تجف و تذبل من طول الفراق، و تشابك الأيدى ببعضها البعض ولد حرارة الشوق لتنقل أحاسيس كادت تمزق القلب والروح من كثرة كتمانها
– عمرى ما أتمنيت أكتر من أنك تكونى معايا يا روحى
نطق بعبارته همساً و أرادها أن تعلم جيداً أنه سينتظرها دوماً، و يرى صورتها في كل ثانية تمر بدونها ، وأن حبه لها مازال هو لم يتأثر ببعدهما ،و لا يمكن أن يفعل شيء سوى أن ينتظرها ، وأن يحلم بأن يصحو في الغد ليجد نفسه معها، معها هى فقط.
فأخر ما سمعته منه قبل أن يداهمها النعاس ، الذى لم تستطع مقاومته ، هى تلك الكلمة التى همس بها فى أذنها وهى راقدة بين ذراعيه بإستسلام حالم :
– بحبك
مرت ساعات الليل وجاء ضوء النهار متسللاً من خلف الستائر المخملية ، لينبأها بأن أوقات ثمالة العشق التى أدركتهما معاً البارحة قد رحلت ، فإلتفتت برأسها لتصطدم عيناها بوجهه المسترخى والذى دفن نصفه بالوسادة ، وإنزلقت نظراتها لذراعيه اللتان تطوقانها بحنان وحب ، كأنه يخشى أن يستيقظ ولا يجدها ، تململت بين ساعديه لعله يحل وثاقهما عنها ، إلا أنها وجدته يبدى إعتراضه بهمهماته الناعسة ، والتى سرعان ما كف عنها وعاد لنومه بعدما زاد فى إحكام ذراعيه حولها ، فسكنت لعلها تعيد الكرة بعد برهة عوضاً عن أن تتألم عظامها من ضغط ساعديه
– هو إزاى قدر يضحك عليا كده ، ده زى ما يكون أدانى مخدر خلانى مش قادرة أتحكم فى تصرفاتى
تساءلت بحيرة بعدما رفعت عيناها لوجهه وأرسلت إليه بصراً جائعاً ممزوجاً بشعور من الندم على أنها ألقت أسلحتها هكذا بوقت مبكر لم تكن تضع له حساباً ، وتخشى إستيقاظه وتجده فخوراً بأنه إستطاع إخضاعها له رغماً عنها ، بل ما تفوهت به البارحة فى خضم هذا الجنون المطبق الذى تغشاهما معاً ، سيجعلها لن تجرأ على رفع عينيها فى وجهه أو أن تعود وتتحداه بعدما خسرت ما تبقى لها من كبرياء أمام لقاءهما الضارى والذى إتسم بنهم وجوع كل منهما للأخر
ولكن ما أن زادت حيرتها بالتفكير فيما حدث ، تذكرت الشاى الذى جلبه لها ومذاقه الذى أعربت عن تعجبها منه ، فهل من الممكن أن يكون وضع شيئاً أخر بكوبها ،جعلها تفقد سيطرتها على مشاعرها ، وأن تتقبل كل ما يحدث بينهما دون أن تفكر فى إبداء رفضها أو إعتراضها ، بل كانت أكتر ليناً وطوعاً و لم تستطع كتمان إشتياقها إليه
برقت عيناها بلهيب جعلها تنتفض من بين ذراعيه ، وتكون أكثر حزماً فى أن تجعله يفلتها ، مما جعله يفتح عيناه بعدما شعر بحركاتها المفرطة كأنها تود الخلاص من قيده لها
أرخى ذراعيه عنها قائلاً بنبرة ناعسة ولكن إستطاعت لمس رنة السعادة بها :
– صباح الخير يا روحى
تحاشت النظر إليه وردت تحيته بتحية عابرة فاترة لم تعلم هل إستطاع كشفها من نبرة صوتها المتبرمة والمقتضبة ، فوضعت قدميها أرضاً لتهم بترك الفراش وتعثرت برداءها الملقى على الأرضية معلناً عن هزيمتها البارحة والذى كان هو شاهداً عليها ، وها هى ما أن ثابت إلى رشدها عادت إليه ، لتلملم أذيال خيبتها التى تناثرت هنا وهناك
– مالك يا حياء
وصل لمسامعها سؤاله الذى حمل طابع الجدية والإهتمام ، بل وبنظرة خاطفة وجدته يجلس بالفراش ، وأزاح عنه الأغطية لتكشف لها عن جزعه العلوى ، الذى قضت معظم ليلها تتوسد صدره وتغرقه بمدامعها وهى تشكو له وجع الفراق ونهش الشوق لقلبها وكم كانت تتمنى لقياه ، كأنهما عادا لنقطة البداية وأنه عاد وجدها تحمل له من الإشتياق والحنين ما يعجز عقله عن إستيعابه
شدت رباط رداءها حول خصرها بأصابع مرتجفة ، تخشى أن يقدم على إكمال إحدى صولات غزله لها ، فردت بسرعة وهى تتجه نحو المرحاض لعلها تهرب من ظله :
– مفيش بس أفتكرت إن عندى إجتماع مهم فى الشركة وإن ملحقتش أخلص كل الشغل إمبارح ولازم ألحق أخلصه قبل الاجتماع
تفوهت بأخر كلمة وهى تغلق عليها باب المرحاض ، وأوصدته من الداخل تخشى أن يقتحم عليها خلوتها ، فالأن لن يجد ما يمنعه عنها بعد ما حدث بينهما بالأمس ، وهى خير من تعلم طباعه المتطلبة والمتسمة بالجرأة خاصة بأمور الوصال بينهما
عقد راسل حاجبيه تعجباً من فتورها الذى لم يضعه بحسبانه ، خاصة أنه ظن أن خلافاتهما قد ذابت بأتون تلك العاطفة الذى جمعهما سوياً ، وأضحى كل منهما كالمرآة للأخر تاركين العنان لألسنتهما وقلبيهما فى البوح عن ذلك الظمأ الذى أنهك روحهما
أسند ظهره للوسائد خلفه وعيناه مازالت ترصد باب المرحاض ، حتى وجدها تخرج إليه تجفف شعرها ومازالت تتحاشى النظر إليه ، كأنها تشعر بالخزى أو أنها أقترفت ذنباً ولا تريد الخوض بأسبابه
وقفت أمام المرآة لتمشط شعرها ، فكان بإمكانها أن تراه وهو يترك الفراش ، فإضطربت أنفاسها خشية إقدامه على الإقتراب منها ، وأن تجد نفسها تعود إليه من جديد وتلك المرة على ضوء النهار ولن يكون الليل والظلام ساتراً لها وهى تتقلب بين ذراعيه كمن تتقلب على جمر الغضا
تلكأت قدميه فى التوجه للمرحاض ، تتقاذفه الرغبة فى أن يدنو منها ويسألها عن فتورها وبرودها الغير منتظر ، إلا أنها أنهت حيرته بأن ذهبت لغرفة الثياب ، فلم يجد حاجة له أن يتبعها ، لعل بعد أن ينهى إغتساله ، سيكون قادراً على أن يتحدث معها ، خرج بعد دقائق وجدها تحكم وضع حجابها على رأسها ، وكم زادها لون حجابها الأسود بهاءاً وصفاءاً فى وجهها الأبيض المستدير ، والذى لا يجده أقل ضوءًا من ضوء القمر بليلة مقمرة
ذهب لإرتداء ثيابه على عجالة ، قبل أن تنتهى وتخرج من الغرفة ولن يعود بإمكانه أن يسألها عما أصابها فجأة وجعلهما يعودان كغريبان يتقاسمان غرفة وفراش واحد ، خرج وهو يغلق أزار قميصه وجدها بصدد الابتعاد عن المرآة لكى تلملم أوراق عملها التى تركتها مكانها بالأمس ، فسد الطريق عليها بجسده ، حتى وجدها تصطدم به ، وشهقت بخفوت كأنها لم تتوقع أن تجده أمامها
وقفت متجمدة بمكانها وهى رافعة كفيها تبسط وتقبض أصابعها بحركة متوترة ،فإزدردت لعابها متسائلة :
– فى حاجة ؟
هز رأسه ببطئ ورفع كفيه وقبض على راحتيها لينهى حيرتها البادية على وجهها ، ولم يكتفى بأسر كفيها ، بل وضعهما على صدره لعلها تشعر بتلك الخفقات التى زاد معدلها وجنونها ، فأمعن النظر بها متسائلاً بإهتمام :
– أنا اللى مفروض أسألك فى حاجة مضيقاكى ، من ساعة ما قومتى من النوم وحاسس أنك متغيرة
بهدوء سحبت كفيها وردت قائلة بإبتسامة متوترة :
– لا أبداً مفيش حاجة أنا بس متوترة شوية علشان إجتماع النهاردة أصله مهم جدا وخايفة بس مينتهيش زى ما أنا عايزة ومخططه له
أرادها أن تهون عن نفسها ذلك الضغط الذى تشعر به ، فضمها إليه بألطف طريقة ممكنة بل ولمساته حملت من الرقة والعذوبة ما جعله أراد أن يتخلى عن كل شئ ويتوسلها بأن تظل سجينة صدره وذراعيه ، فأثر عبير عطر ليلة البارحة مازال يسرى بدماءه يحمل له من نشوة العشاق ، ما يجعله لا يريد أن يبرح مكانه ولا أن يتركها تفلت من بين يديه قبل أن يتجرع من كؤوس الهوى ما يصيب قلبه وعقله بالثمالة
همهم وأنفاسه تكاد تكون كصافرات الإنذار القادمة من مكان بعيد :
– متضغطيش على أعصابك يا حبيبتى ، إهدى خالص وكله هيعدى على خير إن شاء الله
فقبل أن تدرك ما هو ناوٍ عليه ، كان يباغت حواسها بعناق الصباح بعد ليلة لم تنافسها فى تأجج وفوران وثوران مشاعره وعواطفه إلا ليلة عرسهما ، وحمل عناقه إليها مدى ذلك الجهد الذى يمارسه لضبط أعصابه حتى لا يتسبب في إيلامها ، وهذا ما جعلها تشعر بالهزيمة ، فما أن يسلط سحره ورقته وعذوبته على حواسها ، حتى تجد قلبها يتواطئ معه ضدها ، ويسلبها أحد دفاعتها ، فالإحجام صار إقبالاً والإعراض صار قبولاً ، ودماءها تضخ بشرايينها حارة ملتهبة ، كمن وضعت بمرجل وإستلذت بشعورها فى الإحتراق حتى أرادت أن يتوقف قلبها عن النبض والخفقان ، لعلها لن تعود وتشعر بذلك العذاب اللذيذ
– راسل
نطقت بإسمه مبهورة الأنفاس ومشدودة الأعصاب كقوس تم شد وتره حتى أضحى أمر إنقطاعه وشيكاً إذا إستمر هذا الحال من المد والجزر والشد والجذب
أجابها ويداه محكمتان حول رأسها وعيناه ساجية بوميض الغرام :
– روح وعقل وقلب راسل
أين كان كل هذا الإشتياق والحنين وهو هناك متخذاً ملاذاً له بعيداً عن مرآها ؟
ما رآته من عواطف ومشاعر متأججة بليلتهما السالفة ، وما شعرت به من عناقه لها الآن ، يجعلها تجزم أن قضى العامان الماضيان ونيران الشوق تتأكل أحشاءه وأضرمت نارًا أندلعت بشرايينه وجعلته مغرماً صباً جفاه النوم وظل أيامه مسهداً ولم ينام قرير العين هانئ البال إلا البارحة
أطرقت برأسها وغمغمت بعتاب :
– لسه بتقول إن أنا روحك وعقلك وقلبك بعد اللى عملته فيا
لم يريدها أن تطأطأ رأسها فى حضرته ، فهو لا يستلذ بضعفها ورقتها إلا بأوقاتهما الخاصة والحالمة فقط ، ولا ينكر أن عنفوانها الدائم فى مجابهته وتحديه ، يجعله يرغب فى مشاكستها على الدوام ، حتى يعود ويرى تلك الجذوة من الأنفة والإباء والكبرياء ، التى دائماً ما تتحلى بها أثناء إنتفاضة كبرياءها الأنثوى فى حضرة غروره الذكرى المهيمن أوقاتاً كثيرة
وضع كفه أسفل ذقنها ورفع وجهها له قائلاً بصدق :
– لو وصفتلك أنا بحبك وبعشقك قد إيه يا حياء هتقولى عليا إن أنا مجنون أو ببالغ ، بس صدقينى قلبى ده بيدق علشانك أنتى وبس ، وعارف أنك أكيد زهقتى من أن لحد دلوقتى مش عايز أجاوبك على كل حاجة عايزة تعرفيها بس أدينى بس شوية وقت مش أكتر
أبعدت يده عنها وأولته ظهرها قائلة بنفاذ صبر :
– اه زى الوقت اللى كنت بستحايل عليك فيه أنك تدينى فرصة قبل ما تتجوز إيلين صح ، المعاملة بالمثل يا راسل وعن أذنك بقى علشان متأخرش على شغلى
وضعت حقيبتها على أحد كتفيها بينما لملمت أوراقها فى حقيبة العمل الجلدية ورمته بنظرة مستاءة أكثر منها معاتبة ، فما أرهقها لعبة الاعتذار والعتاب والإنتظار ، فلو كان يعلم أنه سيوضع بمأزق كهذا ويرجوها أنه تمنحه الوقت الكافى لتنجلى الحقائق ، لكان منحها كل الوقت بالماضى ولا يرى دمعة واحدة من عينيها الجميلتين ، اللتان أشعلتا فؤاده بالأمس ببريقهما الأخاذ والملتمع على ضوء الإنارة الخافتة لغرفتها
ما كادت تصل لباب الغرفة و فتحته لتهم بالخروج ، حتى وجدته يقبض على ذراعها بلطف ، قائلاً بصوت شجى :
– حبيبة قلبي بلاش تنكدى علينا بعد الليلة الحلوة بتاعة إمبارح
أرتجف بدنها لا إرادياً ، كأنه رشقها بماء بارد جعلها تنتفض من شدة البرودة ، فكانت تخشى أن يقدم على ذكر ما حدث بالأمس ، ويذكرها كيف كانت بين يداه مطيعة لينة ، وأن رد فعلها في الصباح يتنافى مع كونها كانت بالليلة الماضية زوجة محبة وعاشقة مغرمة ، يختلج فؤادها شوقاً وحنيناً إليه
قبل أن تمتد إليها يده لتعيث الأضطراب بنفسها إثر لمساته التى كان على وشك توزيعها على وجهها ، سمعا صوت أقدام أتية ربما عائدة لأدم ، الذى راح يدندن بصوته لحناً لإحدى أغانيه الفرنسية
ولكنها سمعت سبة قوية من بين شفتى زوجها ما أن سمع أدم يقول بمرح :
– بونچور
إلتفت راسل خلفه بعدما كان حاجباً حياء بجسده ، حاصراً إياها بينه وبين إطار الباب ، فرفع شفته العليا قائلاً بضيق ظاهر :
– وعليك
تملصت حياء من حصاره لها وتقدمت بخطواتها للأمام فى إتجاه الدرج وردت قائلة بإبتسامة بشوشة:
– صباح الخير يا أدم ، جاهز علشان الإجتماع
هز أدم رأسه بحماس ،بينما فغر راسل فاه بدهشة ، لكونه لم يعلم بشأن ذهاب أدم للشركة أو أنه من المفترض له حضور ذلك الإجتماع الذى أشارت إليه حياء
فرمقه بنظرة شاملة متسائلاً:
– هو أنت هتحضر الإجتماع ده ؟ وعلشان إيه بقى إن شاء الله ؟
أجابت حياء نيابة عن أدم وهى توزع نظراتها بينهما :
– أدم دلوقتى من حقه يعرف شغل باباه ويعرف أكتر عن مجموعة النعمانى جروب وباباه هو اللى عايز كده ، ومن حكم فى ماله ما ظلم
قطعت حياء أطراف أى حديث من المحتمل أن ينشأ بين ثلاثتهم ، إذ أقترحت على أدم الذهاب لتناول إفطاره وأن يكون على أهبة الإستعداد لمرافقتهم للعمل ، حتى أنها لم تنسى توجيه دعوة حتمية لزوجها بأن يتناول طعامه قبل ذهابه لمشفاه ، متحاشية النظر إليه ، ولم يجد هو الوقت لرد دعوتها الفاترة بالرفض ، إذ وجدها تهبط الدرج وتبعها حتى وصلا لمائدة الطعام ووجد والده يترأس المائدة وأفراد العائلة كل منهم على وشك تناول إفطاره ليذهب لعمله
دققت وفاء النظر فى وجهيهما ، إلا أنها لم ترى سوى معالم الاستياء والتبرم ، خلافاً لظنها بأنها سترى وجوه ضاحكة مسترخية خاصة أنه لابد لهما أنهما تنعمان بليلة حالمة ، مثلما حرصت هى على أن تساهم فى إذابة الخلافات بينهما
فقطبت حاجبيها وتساءلت فى قرارة نفسها بدهشة :
– هى الوصفة طلعت مغشوشة ولا إيه ؟ ولا هم اللى مبقاش فى حاجة نافعة معاهم ؟
زفرت بخفوت من كونها شعرت بالإخفاق فى مساعدتهما ، فهى قضت وقتاً لا بأس به فى إعداد تلك الوصفة السحرية من الأعشاب ، والتى كانت إحدى وصفات زوجها السرية والتى لم يبح بسرها إلا لها هى فقط ، وحرصها على وضعها فى متناول يد راسل جعلها متيقظة حتى لا تصل إليها يد غير يده ، وأوهمته بأنها خاصة بأحد زبائنها ، ووضعتها فى أكياس بلاستيكية مختلفة ، حتى إذا أنكشف أمرها وجاءها راسل ليستفسر عن سبب ما أصابه بعد تناولها ، تخبره أنها حذرته من عدم الإقتراب من الكيس الازرق ، حتى لو كان أخذ من الكيس الأبيض ، كانت ستجد حجة واضحة من أنها أخطأت فى وضع الاعشاب به نظرًا لأنها ربما تعانى من النسيان ، وبعد تأكدها من أخذه ما يكفيه منها ، ذهبت للمطبخ وأخذت الأكياس على الفور ووضعتها فى غرفتها حتى لا تصل إليها أحد من ساكنى القصر ، فهى وضعتها من أجل راسل وزوجته فقط ، ولكن ما تراه أمام عينيها ، جعلها تشعر بالإخفاق ، وفكرت جدياً فى إعادة الوصفة لربما نسيت عشبة من الأعشاب
وضع رياض قطعة خبر صغيرة بفمه وهو يرمق ولده الجالس على رأس المائدة على الطرف الأخر وعيناه منصبة النظرات على وجه زوجته ،التى يبدو عليها أنها تتجاهله عن عمد وقصد ، فكم حلا له بذلك الوقت أن يسكب المزيد من مواد الإشتعال على غضبه المكبوت
فرمق أدم بنظرة عطوفة قائلاً بتشجيع :
– أنت هتنور الشركة يا أدم ، أنا أول مرة أحضر إجتماع فى الشركة من وقت طويل كان دايما عاصم هو اللى بيتصرف فى كل حاجة وجت حياء تساعده وأنت دلوقتى هتساعدهم وأنا واثق أنك هتكون على قد المسئولية اللى أنت هتشيلها
ترك أدم مقعده وأقترب من رياض ورفع يده الهرمة وقبلها قائلاً بإمتنان :
– دى ثقة كبيرة وغالية منك يا رياض باشا واتمنى أن أكون فى يوم زيك وزى بابا
رغم النظرات الودودة التى شملتهما سوياً من باقى أفراد العائلة ، إلا أن الفرد الوحيد والذى لم يحاول بمرة أن ينمق حديثه ، هب واقفاً وهو يقول بسخرية :
– عن إذنكم بقى علشان ألحق أروح المستشفى ، مليش نفس أعيط من المشاعر الجياشة بين الجد وبين حد من أحفاد العيلة ، المواقف اللى زى دى بتقلب معدتى
لو يعلم ذلك العنيد ذو الرأس المتيبس والحكم الخاطئ على ما يراه من مشاعر والده تجاهه ، أن مكانته بقلب أباه حالياً لا ينافسه بها أحد سواء قريباً أو غريباً ، بل هو المتفرد بتلك المكانة التى طالما تمناها منذ صغره وشاءت الظروف أن تسير الأمور بينهما على النحو الخاطئ فى الماضى ، ولكن الآن كلما سار إليه ذراعاً إبتعد عنه باعاً ، فسكن رياض الحزن ، كونه لن يحيا ما يكفيه من العمر حتى ينتظره هكذا إلا ما لا نهاية ، ولكنه لا يشفق على كبر سنه ، ولا على خوفه من أن يأذن الله له بالرحيل قبل أن تسوى الأمور بينهما ، تأمل ولده الخارج من غرفة الطعام ، ولم يخرجه من تأمله إلا يد أدم التى راحت تربت على ظاهر يده بحنان ، نظر كل منهما للأخر وكأن أدم يعلم حقيقة الأمور بينه وبين راسل ، فشد رياض على يده وربت عليها بحنان ، فأدم بضعة من عاصم إبن شقيقه ، ولطالما تمتع بحبه وحنانه منذ أن كان صغيراً وتولى تربيته هو وشقيقته سوزاناً ، فهما أبناءه بالمقام الأول قبل أن يكونا أبناء شقيقه الراحل
❈-❈-❈
النقر الخفيف والمستمر لحذاءها على أرضية الغرفة ، جعله يعلم مدى الضيق الذى تشعر به ، ولم يكن هو بأقل منها ضيقاً بتلك الأسئلة التى راح يطرحها عليه ضابط الشرطة المكلف بالتحقيق فى محاولة قتله ، التى كادت تتم بنجاح لولا أن الله قد كتب له منها النجاة ، ولكن لم يشعر الضابط بأى كلل أو ملل وهو يطرح عليه سؤال تلو الآخر ، كأنه لن يتركه إلا إذا علم ما فعله بذلك اليوم منذ إسيقاظه من نومه حتى تلك اللحظة التى تم فيها إطلاق النيران على سيارته وتم إصابته بطلقتان ناريتان جعلتا حياته على المحك ، ولكن رغم ضيق عمران من كثرة إجابته على تلك الأسئلة ، إلا أنه أجاب الضابط بكل أريحية ولم يغفل عن ذكر تفصيلة من ذلك الحدث ، كأنه وقع منذ دقائق وليس منذ عدة أيام . أشار بعينيه لزوجته التى جلست على تلك الأريكة الجلدية أسفل نافذة الغرفة ، أن تكف عن فعلتها المتوترة ، فتبادلت النظرات الصامتة معه ومن ثم كفت عما تفعله ، ولكن لم يدوم هدوءها طويلاً ، إذ هبت واقفة مكانها وقطعت الثلات خطوات التى تفصلها عن فراش زوجها
فقالت بمهنية وهى ترمق الضابط بإبتسامة صفراء:
– لو سمحت يا حضرة الظابط كفاية كده النهاردة ، هو لسه حالته الصحية متسمحش أنه يفضل يتكلم كتير ، ممكن تكمل التحقيق معاه بعدين وإلا كده ممكن يحصله مضاعفات
رفع الضابط وجهه لها ومن ثم رد قائلاً بشئ من السخافة :
– التحقيق ده مهم يا دكتورة ، وهو الوحيد اللى يقدر يدينا طرف الخيط اللى هنمشى وراه علشان نعرف مين اللى عمل فيه كده وليه كان عايز يقتله ، ومين اللى ضرب عليه نار وهو خارج من الفندق بتاعه
سعل عمران سعالاً قوياً ووضع يده أمام فمه والأخرى على صدره ، كأنه على وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ، فأسرعت ميس بالإقتراب منه ورفعت كوب الماء الموضوع على الكومود الصغير وناولته له وهى تقول بخوف متناسية وجود الضابط :
– حبيبى ألف سلامة عليك ، أرتاح يا عمران ومتتكلمش تانى
سكتت لبرهة ومن ثم إلتفتت برأسها ونظرت للضابط مستطردة :
– كفاية كده حضرتك أنت مش شايف كتر الكلام ممكن يعمل فيه إيه هو لسه فى فترة النقاهة ، التحقيق مش هيطير ، هو لازم يرتاح ، أنا الدكتورة بتاعته وبقولك لازمة الراحة وميتعرضش للإجهاد فى الكلام
تبعت حديثها بأن رفعت إحدى يداها وأشارت لباب الغرفة ، لعل الضابط يكون فطناً لمقصدها ويترك زوجها بحاله خشية أن كثرة الحديث ستؤدى فى النهاية إلى نتائج غير مرغوب فيها ، نهض الضابط على مضض واعداً بالعودة بوقت لاحق لإستكمال باقى أسئلته والتى لا ينتوى الفكاك عنها سبيلاً
خرج الضابط من الغرفة ، بينما عادت ميس تنحنى لعمران متسائلة بخوف وإهتمام :
– حبيبى حاسس بإيه دلوقتى ، فى حاجة بتوجعك
هز عمران رأسه مازحاً:
– أه قلبى بيوجعنى يا دكتورة ، معندكيش حاجة لوجع القلب
رفعت ميس حاجبها ولكنها فشلت فى إخفاء ضحكتها على قول زوجها الممازح ، فجلست قبالته على طرف الفراش ، وأخذت كفه بين راحتيها وضغطت عليهما بحنان ، وتألق بعيناها بريق أخاذ ، جعله ساهماً وهو يحدق بحدائق خضراوتيها الغناء
همست له قائلة بصوت عذب رقيق :
– بعد الشر على قلبك يا قلبى
موجة من الحنين ضربت محياه ، فأجابها بنبرة لطالما بعثت الشوق حياً بين ثنايا روحها وقلبها :
– أنا لو أعرف مين اللى ضرب عليا النار ، أنا هروح أشكره ، بس أعرف مين الكلب ده اللى اخدنى على خوانة قبل ما أركب عربيتى ، وكمان شكله كان مصمم على قتلى
صمت لبرهة عندما تذكر رسالة التهديد التى أرسلت إليه فى اليوم السابق للحادث ، وجاء نصها الصريح بأنه إذا لم يأتى بقطع الألماس فى غضون ثلاث ساعات ، ستكون النتائج وخيمة ، فما أن أفاق على حاله من شروده عاد مستأنفاً حديثه :
– ميس أنا عايز أخرج من المستشفى ، أنا زهقت ، أنا مبحبش المستشفيات
قبضت ميس على كفة بحزم ورفق ومن ثم قالت بمهنية كطبيبة قبل كونها زوجة :
– بس أنت لسه محتاج عناية ورعاية يا عمران علشان ربنا يتم شفاك على خير
حاولت إقناعه بضرورة بقاءه فى المشفى ، بيد أن عمران قد أخذ قراره من أن يعود للمنزل ، حتى أنه تقدم بإقتراح قائلاً بجدية :
– شوفى إيه اللازم وأعمله فى البيت صدقينى متتصوريش كل يوم بيعدى عليا فى المستشفى بتخنق ، من وأنا صغير مش بحب الدكاترة ولا المستشفيات
ضيقت ميس عينيها وقالت بتهديد أنثوى ماكر :
– مبتحبش الدكاترة ، حلو الكلام ده يا عمران ، جزاء لكلامك ده مش هتخرج من هنا ، لحد ما تحب الدكاترة بقى
أشرق وجهه بإبتسامة من قولها ، فجذب ذراعها فجأة ، حتى وجدت يداها ترتحان على صدره ، ولكن جحوظ عينيها ،جعله يتنبأ برد فعلها ، مما جعله أكثر حزماً لبقاءها بين ذراعيه ، فقال بصوت هامس بدهاءه المعتاد :
– أنتى حاجة تانية خالص يا ماسة ، أنتى دكتورة قلب عمران وبس ، هتخلينى أخرج من المستشفى بقى ؟ لو كده شوفى ممرض أو ممرضة وياخدوا بالهم منى فى البيت وبلاها القاعدة هنا
عبثت بأناملها بأحد أزرار قميصه القطنى ، وردت قائلة بعدما أخذت نفساً عميقاً:
– ممرض أو ممرضة ليه ، وأنا لزمتى إيه ، لو أنت رجعت البيت أنا هرجع معاك وأنا اللى هاخد بالى منك لحد ما ترجع إن شاء الله زى الأول وأحسن كمان ، بس إستنى أكلم ولاء تقول لحد من الشغالين تجهزلك الأوضة ، وأنا هشوف أدويتك وكل اللى أنت محتاجه قبل ما نمشى وكمان أبلغ راسل إن الفترة الجاية هكون اجازة طويلة شوية
لم يكن رده عليها سوى عناق لم يحكم سيطرته عليه ، مما جعلها تنتفض من بين ذراعيه خشية إفراطه فى حركته التى لم ترى لها داعٍ أو فائدة ، سوى أنه لا يضع بباله أنه ما زال مريضاً ويجب عليه أن يتوخى الحذر فى أفعاله وتصرفاته
فما أن أنسلت من بين يديه وإبتعدت عن الفراش لتأمن عدم إقدامه على فعل ما فعله بها ، أعادت ترتيب خصيلات شعرها ووجهها تكاد تنفجر منه الدماء مغمغمة بإبتسامة مكبوتة :
– قليل الأدب حتى وأنت فى حالتك دى
هرولت خارجة من الغرفة ترافقها صوت ضحكته ، والتى تعلم أنها نابعة من القلب ، فما أن وصلت للردهة ، أسندت ظهرها للجدار ، وأغمضت عينيها محاولة أن تلطف من ذلك اللهيب المشتعل بوجنتيها ، فمن العبث أن تحاول إقناع ذاتها أن عمران بأوقات ضعفه سيكون أقل تأثيراً عليها منها بأوقات قوته ، فكلتا الحالتين متساويتين ، ولا تختلف خفقات قلبها ونبضه العنيف بأى حالة من الأحوال ، فكم سيروقها لو كان بإمكانها أن تعود إليه وتتوسد صدره وليتركها تغفو بنوم هادئ عميق ، تعويضاً لتلك الأيام الماضية ، التى تأكل بها الخوف قلبها ولم يتركها تهنئ بنوم متواصل أو أن تنعم جفونها بالنعاس الهادئ ، كأن كل شئ بات محرماً عليها قبل أن تراه سليماً معافياً ويعود عمران زوجها ، الذى لا يدخر جهداً فى أن يجعل كل نبضة من نبضات قلبها تغرم به بل وترقص على ألحان الهوى ، فبعد أن هدأت وعادت أنفاسها لوتيرتها الهادئة ، أكملت سيرها حتى وصلت لغرفة مكتب راسل ، وأخبرته بشأن إصرار عمران على ترك المشفى ، وأنها هى من ستعتنى به لذلك ربما سيفتقدها لعدة أيام لن تأتى بها للمشفى ، فرحب راسل بقرارها متمنياً له الشفاء وأخبرها بضرورة الإعتناء والإهتمام به ، على أن تكون أكثر حذراً بالأيام القادمة ومنع عمران من بذل أى مجهود سيكون ذو تأثير سلبى على تحسن أحواله الصحية
❈-❈-❈
عاد كرم للمنزل بعد إنتهاء دوامة بشركة السياحة ، وولج للداخل واضعاً الحقائب البلاستيكية التى يحملها على الطاولة الصغيرة بالصالة ، وجد البيت مرتباً ونظيفاً شأنه ككل يوم يعود فيه إليه ، فمنذ مجئ تلك المرأة التى أخبرته هند بأن والدتها أرسلتها إليها من أجل السهر على راحتها لعدم تمكنها من ترك والدها والإقامة معها حتى يحين موعد وضعها لجنينها ، وهو لم يعد يحمل هماً للتفكير فى أحوال زوجته أثناء ذهابه إلى العمل ، فالمرأة تقوم بواجبها على الوجه الأكمل والأفضل ، من حيث إعتناءها بهند وبالبيت من حيث الترتيب والتنظيف وإعداد الطعام وما عليه هو سوى أن يجلب الأغراض المنزلية من فاكهة وخضراوات وما شابه ، ولا ينكر أنه يريد شكر خالته بأنها أرسلت تلك المرأة لتخفف عنه عبء التفكير في أحوال زوجته وأزاحت عنه الهم ، بل كأن نشأت بين هند وتلك المرأة ألفة لكونها هى من تقدم لها السلوى والسلوان حتى يعود إليها هو بالمساء
سمع صوت حركة بالمطبخ ، فعلم أنها ربما تعمل على إعداد طعام العشاء لعلمها بموعد عودته ، أتجه إلى غرفة النوم حيث مرقد زوجته الدائم ، ولكنه وجدها نائمة ، فأنحنى إليها وقبل جبينها قبلة متلهفة إليها ، وستقتصر العادة على ضمة أو عناق ولن يطمح بأكثر من ذلك
فتحت هند عيناها الناعستين اللتين تغشاهما الحنين ما أن وقع بصرهما عليه وهو منحنى إليها يرمقها بصمت عاشق ، فقالت ببحة صوتها الناعسة :
– حمد الله على السلامة يا حبيبى
لم يكن رده عليها سوى أشواق راح ينثر عطرها على صفحة وجهها ، حتى عاد وتذكر أن فرط أشواقه لن تجديه نفعاً ، إذ أنها لن تمنحه أكثر من عناق حار ، ثم تدركه التعاسة والتى لابد لها من أن تزوره بعد أن تبلغ عواطفه الثائرة ذروتها ومن ثم يجد أمنياته تتحطم على صخرة الحقيقة والواقع من أن زوجته لن تمنحه ما يخمد به ثورة إشتياقه
إعتدل جالساً على طرف الفراش وأخذ راحتيها بين كفيه متبسماً :
– أكلتى وخدتى الأدوية بتاعتك
رفعت جزعها العلوى وإسندت ظهرها للوسائد تحرك رأسها بالسلب قائلة بإبتسامة :
– لاء قولت استناك ناكل سوا ، بقالى كام يوم بأكل لوحدى علشان أنت بتتأخر فى الشغل
وضع يده على بطنها ممسداً عليها بلطف ، ورماديتيه متلألأتين ببريق الحب والفخر ، كونها تحمل بأحشاءها نبتة منه وثمرة عشقهما ، فلو كان منذ بضعة سنوات أخبره أحد بأن هند حب طفولته وغرام صباه وشبابه ستكون زوجته حاملة لطفله ، لم يكن سيصدقه وسيتهمه بالكذب والجنون ، فلم يكن يرى منها منذ أن وعت على كونه إبن خالتها ، سوى الإعراض والنفور ، وأنها لا تضع رابط الدم والقرابة بينهما أى موضع جدية لديها ، ولكن ها هى الآن زوجة مغرمة عاشقة تنظر إليه على أنها تنظر لأغلى كنز إمتلكته يوماً ، بل تحتضن طفلهما وتستميت بالحفاظ عليه ، فعصا الحب السحرية ما أن مست قلبها حتى أضحت فتاة أخرى حلوة طيبة وكأن هناك أنثى أخرى سكنت جسد تلك المتعجرفة التى كانت عليها سابقاً
– هخرج أجيب الأكل ونأكل مع بعض بس ثوانى أغير هدومى
هتف بها كرم وهو يترك مكانه وأقترب من خزانة الثياب الخشبية وأخرج ثيابه البيتية وبدأ يخلع عنه ثياب العمل ، ومن حيث لأخر يبتسم لزوجته التى تأملته بإبتسامة هادئة ، وما أن أنتهى خرج من الغرفة وقبل أن يصل للمطبخ ، حمحم بصوت مسموع لعل تلك المرأة تنتبه على وجوده ، كونها تنظر من نافذة المطبخ ، كأنها تبحث عن شئ بعينه
إرتبكت ولكن سرعان ما إلتفتت إليه بإبتسامتها المعتادة متسائلة بلكنة صوتها ، التى يستطيع أى أحد العلم منها أنها لم تكن مصرية المولد والمنشأ ، ولكنها تعلمت اللهجة المصرية واللغة العربية بمهارة من سنوات إقامتها بمصر :
– مساء الخير مستر كرم الأكل جاهز ، حضرتك هتاكل فى أوضة السفرة ؟
رد كرم بإبتسامة مهذبة :
– لاء أنا هاخد الأكل وأكل أنا والمدام مع بعض
أماءت برأسها إيماءة خفيفة ومن ثم بدأت برص الأطباق على أحد الصوانى ، أنتظرها كرم حتى تنتهى وهو يفكر فى الراتب الذى تتقاضاه تلك المرأة ، فهو يفوق راتبه الشهري الذى يتقاضاه من عمله ، إلا أن إصرار زوجته على وجودها ورجاءها له بألا يرفض مجيئها جعله يتغاضى عن أن من يدفع لها أجرها وراتبها هو والد زوجها ، ورغم أن الأمر يشكل له الضيق ، إلا أن من أجل حصول زوجته على رعاية وإهتمام أفضل مما سيقدمه هو لها ، جعله يحاول تمرير الأمر ، ويسمح بقدومها للإقامة معهما وأن تقوم على خدمتهما
إستدارت إليه ومدت يداها له بالصينية ، أخذها منها ولكن حركة عينيها أثارت به الإرتياب والشكوك ، وما أن مد يده ليأخذ منها الطعام ، أدارت رأسها وعادت تنظر من النافذة
عقد كرم حاجبيه متسائلاً:
– هو فى إيه بتبصى من الشباك ليه كده ؟
سؤاله جعلها ترتبك وتهتز الأطباق محدثة صوتاً رن بأذنيها كأجراس الخطر ، إلا أنه لم ترفع وجهها لها ، بل ظلت تحدق فى محتوى الأطباق ، ولكن لم يبدو عليه التأثر بإرتباكها ، بل قالت بهدوء :
– أبداً مستر كرم ، مفيش حاجة
– طيب
نطق بها كرم وهو يهم بالذهاب لغرفة نومه ، ولكن سمعها تقول وهى تقترب منه واضعة طبق الفاكهة الطازجة على الصينية :
– مدام هند بتحب الفاكهة
أنفاسها ساخنة متململة وعطرها سخى لعين متناثر على ثيابها ، التى تحرص على نظافتها دائماً ، شفتاها مكتنزتان ممتلئتان مدعاة للغواية ، شعرها مصفف بعناية ، فتلك هى الصورة التى كانت عليها منذ الوهلة الأولى التى حضرت بها للمنزل ، ولكن كرم لا يكلف نفسه عناء رفع رأسه ووجهه لها وهو يحدثها مكتفياً بأن يسمع صوتها فقط دون الحاجة إليه فى أن ينظر إليها
حمل الطعام لزوجته ، ووضعه أمامها وبدأ يتناول طعامه ويطعمها بفمها ، ولم ينسى أمور دلاله لها بأن يمنحها إبتسامة أو قبلة أو كلمة حب أثناء تناولهما للطعام
وضعت هند المحرمة القطنية من يدها بعدما مسحت فمها وقالت برضا :
– الحمد لله شبعت
حمل كرم الصينية من على الفراش قائلاً بود :
– بألف هنا يا حبيبتى
وضعها على طاولة صغيرة موجودة بالغرفة ، وعاد وتمدد بجوارها وتجاذبا أطراف الحديث حول يومه فى العمل وقصت عليه إحدى نوادر الصغير سويلم ، الذى قام بزيارتها اليوم وهو يحمل لها هدية تمثلت بدمية صغيرة من أجل المولود ، وأخبرها بأن والده وعده بنزهة فى اليوم التالى، فبعدما قضيا بضعة ساعات يتحدثان ، غفت هند سريعاً بنومها ، ولكن لم يواتيه النوم ، ففكر بأخذ الصينية للمطبخ
خرج من الغرفة ووجد السكون يلف المنزل ، فعلم أن تلك المرأة ربما خلدت للنوم ، وضع الصينية من يده وما أن إلتفت خلفه وجد شبح يتحرك فى ظلام ذلك الفناء الجامع بين منزل الحاج سويلم وبين ذلك المنزل المقيم به ،و إستطاع تمييزه على ضوء الإنارة الخافتة القادمة من أحد أعمدة الكهرباء القريبة من المنزل ، ثوانٍ وتحرك ذلك الشبح تجاه تلك الشرفة الأرضية والتى ربما تابعة لغرفة المعيشة فى منزل الحاج سويلم ، ولم يكن ذلك الشبح سوى تلك المرأة التى خرجت من غرفتها التى تسكنها بثوب نومها الذى يصل بالكاد لركبتيها
جحظت عيناه ما أن رآها تقترب من ذلك الرجل والذى لم يكن سوى والد الصغير سويلم ، وكان يبدو عليه أنه يدخن سيجارة وهو جالساً فى الشرفة ، لتشديد زوجته على عدم تدخينه للسجائر ، ولكن بعض الأوقات يعمل على تدخينها ولكنه لا يفعل ذلك بشراهة
على الفور خرج كرم من الباب الصغير الموجود فى المطبخ ، والذى سيمكنه من الوصول لمكان وجودهما دون أن ينتبه أحد منهما على وجوده
وقف فى مكان قريب حتى إستطاع سماعها وهى تقول وصوتها يغلف الجو بتيار مشحون من التوتر :
– حضرتك قاعد هنا ليه كده فى وقت متأخر
أجابها والد سويلم متلعثماً مجاهداً على خروج الكلمات من فمه :
– عادى كنت قاعد بدخن سيجارة ، بس أنتى ايه اللى خرجك من البيت فى وقت زى ده وبلبس زى ده أصلاً هو كرم أو المدام بتاعته هم اللى بعتوكى عايزين حاجة
جفت دماءه وتدفق عرقه غزيراً ما أن رآها طالقة العنان لخصيلاتها النحاسية ، فذلك الشبح الذى يراه الآن فى الظلام لا يشبه تلك المرأة المتكلفة التى رآها على ضوء النهار ، عندما قام بزيارة كرم وهند بعد عودته من سفره
أجابته بصوتها الناعم كأحد الغوانى :
– لاء محدش بعتنى ، انا اللى شوفتك قاعد هنا قولت أجى أشوفك ، وأتعرف عليك خصوصاً إن كانت أول مرة اشوفك فيها لما زورت مستر كرم ومراته
جعد الرجل جبينه قائلاً بدهشة :
– وهو ده وقت حد يتعرف فيه على حد ، وأنتى اصلاً عايزة تعرفينى ليه ، أتفضلى أرجعى البيت ، الوقت اتأخر وميصحش حد يشوفك كده
تسمرت قدميه ، كونه غير معتاد أن يرى أنثى أخرى تسير بهكذا ثياب غير زوجته ، بل أنها قطعت المسافة الفاصلة بينهما والتى تقدر بثلاث أو أربع خطوات ، حتى صار كل منهما يسمع صوت أنفاس الأخر ، وصار الجو خانقاً بالشرفة المظلمة رغم فساحة مساحتها ، إلا أنه شعر بأن جدرانها تكاد تطبق على أنفاسه حتى منعته من يتنفس براحة ،و كيف له من أن يستنشق هوءاً نقياً غير ملوثاً بعطرها ، أو أن يشعر بشئ سوى أنفاسها الدافئة ، فربما يجلس الشيطان الغاوى بأحد الزوايا مستلذاً بما يراه الآن ، وكيف يفوته مشهداً كهذا من إجتماع رجل وإمرأة ، صارت العواطف والمشاعر المحرمة هى ما تلوح بأفق ذلك الظلام الذى جمعهما سوياً ، فكم هو بارعاً فى جعل كل ماهو مدنس وباطل بتلك اللحظات عذباً رائقاً ومغرياً ، بل أن العقل أحياناً كثيرة يقف عاجزاً عن رد وساوسه أو دحرها ، شيطان رجيم يتمكن من نفس إبن أدم تمكن الدماء من مجراها
❈-❈-❈
أبصرته فى تلك المرآة المواجهة للفراش وهو يقف يتلصص عليها بعيناه الحائرتان من شق الباب ، ولا تعلم سر إصراره على ترك تلك الحواجز بينهما وهو بأدنى فعل منه يستطع هدمها ويجدها طوع بنانه وتهبه كل ما يشتاق إليه ويعجز لسانه عن طلبه ، ولكنها تعلم أنه ليس بأقل منها شوقاً لأن يظفر بتلك الليالى التى لن تكون سوى نيران سيلقى بها حتفاً ، ولكنها ستكون برداً وهناءاً لها ، كتمت إبتسامة فى وسادتها وهى تراه مازال واقفاً مكانه كلص يعلم أن الغنيمة غنيمته ولكنه يخشى إفتضاح أمره ، لفظت عنها الغطاء الخفيف الذى كانت تتدثر به ، وتحركت كأنها لم تعد تشعر بالراحة فى نومها ، بل أنها لم تنسى أن تطلق تلك الصرخة الخفيفة والتى أوهمته أن مبعثها حلماً أو كابوساً راودها ، فإنتفضت جالسة بالفراش وهى تضم ذراعيها حولها كطفلة تخشى الظلام ، وفلحت حيلتها عندما وجدته يقتحم الغرفة قاطعاً المسافة بينهما بلهفة عاشق ، وجلس قريباً منها جاذباً إياها إليه ولف ذراعه السليمة حولها رابتاً على ظهرها بحنان لم ترى منه شيئاً منذ عودتها إليه ، أرادت إستغلال تلك الهنيهات قبل أن يعود لتصلبه وتعنته معها ، أو أن تراه يصد عنها صدوداً ، فذراعيها الملتفتان حوله ويداها المتشبثتان بقميصه ، جعلت عليه من المستحيل التفكير بأمر إبعادها عنه
حمحم يجلى تلك الغصة التى كادت تقضى على أنفاسه وسألها :
– مالك بتصرخى ليه ؟ سمعت صوتك وأنا معدى من قدام الأوضة ، أنتى كنتى بتحلمى
كتمت إبتسامتها فى كتفه على كذبته الواضحة ، ولكنها حاولت أن تجاريه بكذبته ، فقالت وصوتها يأن ويرتجف :
– كان حلم وحش أوى يا عبد الرحمن ، كابوس بمعنى أصح
مرت لحظات وتوقعت سيل جارف من سخريته ومن صده لها ولمشاعرها التى لا تخجل من البوح بها ، كونها ترى أن هذا حق مطلق لها طالما كان زوجها ويحل لها معه ما لا يحل لغيره ، وضعت رأسها على كتفه وشبكت يديها حوله ، لتضمن بقاءه وكلما إشتد ضغط ذراعيها تقافزت دقات قلبه حتى بدأت لمساته تحنو على خصيلاتها الناعمة التى راحت أنامله تجرى بين ثنايها ، فأضحت أنفاسها تتسابق بمضمار التوق
تجرأت ورفعت رأسها عن كتفه ممعنة النظر فى وجهه ، ولكن قد هالها تلك العاطفة التى أثارتها بعينيه ، فصار يحكم لف ذراعه حولها كمن وجد ضالته المنشودة بعد طول بحث وعناء ، وراحت دقات قلبها تهدر صاخبة يكاد طنينها يصم أذنيها
تهدج صوته قائلاً بنبرة مفعمة بالصدق والشوق :
– لسه زى ما أنتى يا بيرى جميلة ورقيقة زى الوردة اللى الواحد لازم يتعامل معاها بحرص ويعاملها معاملة خاصة علشان تفضل زى ماهى ومتدبلش
أدنى بوجهه منها وأغمض عيناه مستنشقاً رائحتها ليملأ رئتيه منها ، وأنامله تعيد ترتيب أطراف شعرها على كتفها وقريباً من عنقها ، فاتنة بكل للكلمة من معنى ومدلول ، بل أن من يراها سيحسده على إمتلاكه فاتنة مثلها ، يكفى رقتها وعذوبتها ونعومتها بأن تجعل القلوب تخضع لعشقها دون إرادة ، فإن كان حتى الآن نجح فى إيهامها بأنها لم تعد تشكل له فارقاً ، إلا أن من دواخله ومن مكنون قلبه ربما صار صباً هائماً بعشقها أكثر من ذى قبل خاصة بعدما حملت إسمه وصارت له زوجة
أحاطت وجهه بين كفيها الناعمين ووزعت عطاياها السخية على صفحة وجهه وهى تقول بجنون العاشقين :
– أنا بحبك بحبك أوى يا عبد الرحمن ، قول أنك أنت كمان لسه بتحبنى ، مش عايزة أفضل الباقى من عمرى وأنا مستنياك ترجعلى زى زمان يا حبيبى ، سيبك من اللى فات وخلينا نفكر فى اللى جاى
كأن بإتيانها على ذكر صفة الماضى ، جعلته يعود لما كان عليه ، فيده التى كانت لمساتها حانية رقيقة ، تخاصمت فيما بينهما وأعادها إلى جواره ، بل أنه ترك مكانه الدافئ لتجتاحه البرودة وتصب بأطرافها ، ولكن لم يكن لديها وقتاً كافياً لإبداء مبررات رفضها لإقدامه وإحجامه التى يتبعها معها ، إذ سمعا صوت جرس الباب وما أن خرج من الغرفة مغلقاً الباب خلفه ، سمعت صوت ذلك الرجل الذى يمتلك المتجر التجارى بأحد البنايات المجاورة والذى تربطه بزوجها صداقة قديمة مثلما علمت منذ أن رآته فى المرة الأولى التى جاء بها لهنا زائراً لهما ومهنئاً لهما بزواجهما
أرتدت ثيابها وخرجت مرحبة بقدومه وقالت بإبتسامة عفوية :
– أهلاً وسهلاً بحضرتك نورتنا
رد الرجل قائلاً بإبتسامة عريضة :
– دا نورك يا مدام بيرى ، أسف لو كنت جيت فى وقت مش مناسب
ربت عبد الرحمن على ساق الرجل وهو يقول بود ظاهر :
– دا بيت أخوك تنور فى أى وقت
لم تحاول بيرى التكلف أو أن تتصنع البهجة ، إذ لم يكن لديها ما يبهج النفس بتلك اللحظة خاصة أن مجيئه أفسد عليها فرصة كانت تتحينها منذ وقت طويل ، فأعتذرت بلباقة عن الجلسة وذهبت لغرفتها وفكرت فى أن تتحدث مع حياء عبر الهاتف ، فهاتفتها على أحد مواقع التواصل الإجتماعي ، ثوان ووجدت وجه حياء يطالعها على شاشة الهاتف ، وملامحها الضجرة لا تختلف كثيراً عن ملامحها المستاءة
– مالك ضاربة بوزك شبرين ليه كده أنتى كمان
قالتها بيرى بتساؤل وهى عاقدة حاجبيها ، لكونها ترى حياء جالسة أمام البحر بذلك الوقت المتأخر
أجابتها حياء بعدما أطلقت تنهيدة قوية :
– مفيش دا العادى يا أختى ، المهم قوليلى أخبارك إيه
قالت بيرى بتبرم وإستياء :
– متختلفش كتير عن أخبارك واللى باينة على وشك من غير ما اسأل
سواء شاءتا بذلك أم أبتا ، فكلتاهما بحاجة للإفضاء بمكنون قلبها للأخرى ، لعل كل منهما تقدم للأخرى عبارة أو جملة تسرى بها عنها ، حيلة متبعة بينهما منذ مقابلتهما فى المرة الأولى ، وبعد إكتفاؤهما من الحديث حول أزواجهما ، أغلقت حياء الهاتف ووضعته بجوارها وهى جالسة على الرمال أمام البحر بذلك الشاطئ الخاص خلف القصر ، فتلك الرقعة الجالسة بها هى بذاتها التى جلسا على رمالها بتلك الليلة التى قضاها سوياً هنا وجلب لها ثوب السباحة الذى مازال موجوداً بداخل المقصورة على الشاطئ
سمعت صوتاً يناديها ولكن تلك المرة ، كانت إحدى الخادمات ، التى جاء لتخبرها بأن زوجها قد عاد للمنزل وهو الآن فى غرفة المعيشة ، نظرت إليها حياء قائلة بصوت خافت :
– روحى أنتى وأنا جاية وراكى
ها هو قد عاد ، ولكن لم يأتى هو سعياً وراءها ليبحث عنها ، بل كلف إحدى الخادمات بإخبارها بأنه قد عاد
خمسة أيام وهى لم ترى له وجه ولم تسمع له صوت سوى تلك المكالمة القصيرة والتى أخبرها فيها أنه سافر للقاهرة من أجل إجراء جراحة عاجلة لأحد رجال السياسة البارزين ، ظنت بوقتها أن إسراعها فى إنهاء المكالمة الهاتفية سيمنحها الراحة من ذلك الداء الذى برح بقلبها وجسدها وعز عليها الدواء ، فكم كانت تتوق للفرار من ذلك الأسر المسمى بالحب
فهل هذا حباً الذى سلبها حريتها وأفقدها إرادتها ؟ هذا الداء المزمن الذى لا شفاء لها منه بل يتركها عاجزة كطفلة صغيرة تشتاق للعب بالنار من وقت لأخر رغم التحذيرات المتوالية عليها من عقلها ، تحس أنها مشدودة إليه بقوة خفية لا قبل لها على التخلص منها ، كأنها واقعة تحت تأثير منوم مغناطيسي ، يأتمر بأمره ويتحرك بإرادته ، تحبه حباً جنونياً ، ملك عليها نفسها ، واستولى على مشاعرها ، حبا عاتيا يجرف فى سبيله كل ذنب اقترفه بحقها ويغفر كل ذلة وسيئة ، إلا أنها بتلك اللحظة قررت إلقاء كل ما أعتراها جانباً ولن تفكر فى العودة إلى القصر لترحب بعودة زوجها الغائب ، بل ستظل جالسة بمكانها حتى يصيبها السأم وتعود هى بملأ إرادتها وليس كواجب مقدس عليها بالعودة ، لتجعل زوجها يشعر بالبهجة من أنه ترك زوجة كانت تستميت فى رؤية ظله وعودته وأن تجعل ليلته أكثر دفئاً وحميمية ، فإلى متى ستظل دميته الراقصة على أنغام ذلك الفلوت الموضوع بين أصابعه وطرفه بين شفتيه الأمرة إياه بإصدار الألحان التى تناسب أهواءه
ضمت طرف وشاحها الخفيف حول كتفيها بعد أن هبت تلك النسمات الباردة القادمة مع الأمواج العاتية ، التى راح زبدها يضرب تلك الصخور ، ويغرقها حتى يظن الرائى أنها لن تعود صلبة بل سيفتتها الموج من كثرة لطماته لها ، ولكن إجتاحها دفء أخر تمثل بذراعين قويتين طوقتها بتملك ، فإرتعدت أوصالها وإستدارت برأسها وجدته جالساً خلفها
قطبت جبينها كونها لم تسمع صوت خطواته ولم تشعر به إلا بعدما صار ملاصقاً لها ، فتساءلت بدهشة طفيفة:
– أنت جيت أمتى ؟ أنا محستش بيك
دفن وجهه بعنقها مغمغماً:
– جيت دلوقتى ، ومعلش إن كنت أتأخرت عليكى كام يوم على ما رجعت ، بس جايز كنتى بتفكرى أو مشغولة بحاجة علشان كده محستيش بيا ، وأبقى سعيد الحظ لو كنتى بتفكرى فيا ، وحشتينى يا روحى
لم يكن بحاجة لأن يكون سعيد الحظ ، فالحق يقال أنها لا تفكر فى أحد سواه ، ملك عليها لبها وخلبها عقلها وجعل أفكارها تدور بفلكه هو وحده ، وقبل أن تبدى إعتراضاً ، كان يقف مشدود القامة ومن ثم أنحنى إليها حاملاً إياها بين ذراعيه واتجه بها إلى تلك المقصورة التى شهدت إحدى لياليهما الزاخرة بالعشق ، ولكن ما كادت تمر ثلاث دقائق ، حتى حلت وثاقه عنها وتملكت منها حرارة الرفض له ولتلك المشاعر التى يثيرها بها ، وحاولت البحث عن أى موضوع أخر حتى وإن كان تافهاً لتغلق الباب أمام ذاك التوق والشوق المتبادل بينهما
نفضت ذراعيه عنها بجفاء وأعتدلت جالسة بالفراش وتساءلت بإمتعاض :
– راسل أنت كنت حاطط إيه فى الشاى ، لأن اللى حصل بينا مش معقول أكون كنت فى وعيى علشان يحصل ، أكيد أنت كنت حاطط فيه حاجة ، أنا مستحيل أعمل كده بمزاجى
أعتدل جالساً هو الأخر ومسح وجهه بكفيه ، لعله يفهم ويعلم مغزى ومدلول حديثها ، الذى يحمل طابع الإهانة له ، فرمقها بنظرة مطولة ومن ثم سألها :
– أنتى مكسوفة من اللى حصل بينا يا حياء ؟ مكسوفة أنك بينتى حقيقة مشاعرك ناحيتى وأنك لسه بتحبينى وبتشتاقيلى زى زمان
– دا أى كلام أنا لو كنت فى وعيى مكنتش عملت كده
غمغمت بعبارتها محاولة إضفاء طابع التبرم والإستياء عليها ، حتى أنها أكملت بقسوة لم يوخزها عليها الندم :
– الراجل اللى يحاول يخلى مراته تخضعله بأى طريقة من دول وتبقى مجبرة أنها تتقبله ، يبقى معندوش الشجاعة أنه يواجهها وبيستخبى ورا تصرفات سخيفة ، بيحاول يثبت بيها أنه راجل
جردته من كل ذرة صبر حاول بها قمع غضبه ، فهى الأدرى بمدى اعتزازه المميت فى الحفاظ على عدم المساس أو الإنتقاص من رجولته ، فليس هو من يهوى خضوع الطرف الأخر له دون إرادته ، ولا هو بحاجة لتلك الأمور لأن يأخذ منها حقوق الزوج ، فلو كان الأمر يتم بالإجبار ، لكان أخضعها له دون جهد يذكر ، ولكنه ليس ذلك الرجل الذى يستمتع بدموع أو قهر زوجته ، بل دائماً ما يحب أن يكون الوصال بينهما متكافئ دون الحاجة له بأن يجعلها خانعة ذلك الخنوع المنفر
ثار كبرياءه ووخزته كرامته ، كأنه تقابل مع أحد بميدان القتال ، ولن يجد طريقه يرد بها الهجوم الواقع عليه سوى أن يحاول إثبات أنه حقاً سيئاً كمعتقدها به ، فقبض على ذراعيها وغرز أصابعه بلحمها قائلاً من بين أسنانه بعدما أظلمت عيناه :
– هو وصل بيكى الحال تفكرى فيا أنا بالشكل ده يا حياء ، طب أنا هوريكى إذا كنت أقدر أخليكى تعملى اللى أنا عايزه وأنتى فى وعيك أو لاء
وصال بود مهين لم تحسن قطع أوصاله قبل أن تتغلغل يداه بين خصيلاتها يشد عليهم بكفيه الغاضبين ، وأنفاس كادت تحرق جلدها معلنة أن القادم أسوء ما يمكن أن تحصل عليه بعد أن أثارته بقولها ونعتها له بالوقاحة وإفتقاره لإخضاعها له باللين ولجوءه لحيل مشينة بأن يجعلها تفقد سيطرتها على أشواقها التى أنفلت عقالها
ولكنه ما عاد قادراً على أن يكمل ما بدأه ، إذ علم أن محاولته تلك ستقضى على ذلك الخيط الدقيق الذى مازال يربطه بها ، فنزع نفسه عنها وحدقت فى وجهه بقسوة قائلة بدون أن تتروى بحديثها :
– هو ده أخرك يا راسل أنك تحاول تفرض نفسك عليا بالقوة ، فاكر أن كده ممكن أخضعلك علشان تعرف أنك أنانى مبتفكرش إلا فى نفسك بس وأنا ومشاعرى ملناش أى أهمية عندك ، وصلتى إن أنا بالرغم من أن مضايقة من وجود ساندرا أن أحسدها هى وابنها علشان أنت فضلت معاهم السنتين اللى فاتوا ومهتم بيهم ، خليتنى أقول ياريتنى كنت مكانها
بلغ به الغضب منتهاه ، فصاح بها دون أن يعى ما يقوله :
– وأنا متمناش أنك تكونى مكانها ولا تشوفى اللى شافته ، ساندرا اللى أنتى شايفاها دى ، جوزها اتقتل قدام عينيها ، وعايشة فى رعب وخوف إن إبنها يتاخد منها وتتحرم منه باقى عمرها
كف عن الحديث ، ريثما يبتلع تلك الغصة الناتجة عن تجمع العبرات فى عينيه ، ولكن ما لبث أن أستطرد قائلاً بنبرة مغلفة بالحزن العميق ، كأنه يجد مشقة فى أن يتفوه بتلك الكلمات :
– أه أنا أنانى يا حياء ، بدليل أن جيت فى وقت من الأوقات فكرت إن أحرمك من حريتك وإن أطلقك علشان تقدرى تتجوزى حد تانى وتخلفى الأطفال اللى نفسك فيهم ، لأن أنا وأنتى للأسف مفيش بينا التوافق البيولوجى اللى مفروض يبقى موجود علشان نقدر نخلف ، واللى الدكاترة بيقولوا عليه ” عدم توافق كيمياء الجسم ” و على الرغم من إن إحنا الاتنين معندناش أى حاجة تمنع الانجاب ، بس حظنا إن وجودنا مع بعض ميحصلش حمل ، يعنى مش هتقدرى تكونى أم ولا أنك تخلفى منى ، ولا إن يكون عندنا ساجد زى ما كنتى بتحلمى وبتتمنى
❈-❈-❈

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية لا يليق بك إلا العشق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى