روايات

رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل الثاني والستون 62 بقلم سماح نجيب

رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل الثاني والستون 62 بقلم سماح نجيب

رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني والستون

رواية لا يليق بك إلا العشق البارت الثاني والستون

لا يليق بك إلا العشق
لا يليق بك إلا العشق

رواية لا يليق بك إلا العشق الحلقة الثانية والستون

ج٢-١٦-” حائرًا بين ماضٍ وآن ”
تعجب عمرو من إصرار طبيبه على أن يرجئ إتمام زواجه ، وأنه لابد له أن يأخذ وقته كافياً قبل التفكير فى الخوض بتلك الحياة الزوجية ، والتى يخشى أن يخفق بها منذ البداية ، وعلى الرغم من أن الطبيب محق بكل مخاوفه إلا أن كبرياء عمرو الذى تملكه جعله رافضاً الإنصات لما يقوله ، مؤكداً له أن تلك الزيجة ستتم بشكل أو بأخر ، وأن سهى ستصير زوجته وهذا مما لاشك فيه ، وسيبذل قصارى جهده لتحقيق تلك السعادة التى ينشدها كدواء لندوبه الغائرة فى روحه البائسة، فصار كمن ظل حبيساً وقتاً طويلاً فى نفق ضيق مظلم وما أن وجد قبس من نور ركض لاهثاً خلفه دون التروى بأن ربما ذلك النور سيتسبب فى إيذاءه دون أن يدرى
فدائما للبدايات بريق لامع يجذب النفس الظمأنة لأى بارقة أمل ، ولكن يبقى الندم والمرارة فى الأخير ، خاصة أن تم تشكيل طفولة عمرو وفق معايير خالية من الأمان والسلام النفسى ، اللذان كانا من المفترض أن ينعم بهما وهو طفل صغير لم يكن يعلم شيئاً عن عالم الكبار المحفوف ببعض المحظورات ، والتى تم جره إليها رغماً عنه ودون إرادته وهو فى سن مبكر
أرتسمت معالم الدهشة على وجه عمرو من إصرار الطبيب على رفضه الذى رآى أنه متعنتاً به ، فأشاح بوجهه عنه زافراً أنفاسه بضيق وسرعان ما قال وهو يشير له بالإنصراف :
– أظن الجلسة كده خلصت ممكن حضرتك تتفضل مع السلامة
لم يكن الطبيب لينفعل بسبب صرفه له هكذا ، فمهنته تحتم عليه إتباع الحلم والرشد فى التعامل مع مرضاه ، وربما كان عمرو أكثرهم أهمية لديه ، ونبع ذلك الإهتمام لديه من أنه لم يواجه حالة كحالته من قبل ، وهو أن يقوم بمعالجة شاب من سلوكه الغير سوى ،حتى إن كان ذلك الأمر بدأ بالظهور فى بعض المجتمعات الشرقية ، إلا أن هناك بعض التقاليد ، التى تحكم ذلك المجتمع الذى يعيشون فيه
خلع الطبيب نظارته ووضعها فى جيب سترته ورد قائلاً بهدوء كعادته :
– عمر المشكلة ما بتتحل طول ما أنت بتحاول تهرب منها يا عمرو ، وأنا بكلمك لمصلحتك وأنا لو كنت شايف أن مصلحتك تتجوز حالياً أكيد مكنتش هقولك الكلام ده ، أنا دكتورك وأدرى واحد بحالتك وظروفك ، أنت عامل زى واحد كان قاعد بقاله سنين على كرسى متحرك ولما جتله الفرصة يقف على رجليه ، بقى عايز يجرى مش يمشى خطوة خطوة فى الأول ، وهو مش عارف أن تسرعه ده ممكن يخليه يقع تانى
أولاه عمرو ظهره ورد قائلاً بعدم إقتناع لمحاولاته المتكررة فى إقناعه بالتروى فى التفكير بشأن زواجه :
– وأنا برضه أدرى بنفسى ومصلحتى يا دكتور
أنحنى الطبيب ولملم أغراضه قائلاً بعتاب :
– أنت دماغك ناشفة ، بس صدقنى ممكن تندم ، أنا هسيبك دلوقتى وأتمنى الجلسة الجاية تكون أهدى من كده وياريت تفكر فى كلامى
دون أن يكلف نفسه عناء وداع طبيبه ، كان يتجه صوب أحد أدراج مكتبه الخشبى وأخرج منه تلك الأوراق التى مفاداها أن سهى ستصبح مالكة لنصف أملاكه ما أن يتم عقد قرانهما
أخذ الأوراق وخرج من المكتب ووصل لسيارته وهو بنيته الذهاب لزيارتها كما تم الإتفاق بينهما ، وصل لمنزل عروسه يحمل الهدايا والورود ، ويحمل فى قلبه أيضاً شعوران متغايران يتنازع كل منهما فى السيطرة عليه ، إلا أنه نفض ذلك عن عقله ما أن رآى زوجة والد خطيبته تفتح له الباب وهى باسمة تدعوه للدخول ، فناولها ما يحمله بين يديه وولج لغرفة المعيشة ، ينتظر مجئ والد سهى ومجيئها هى أيضاً ، ولم يكد يمر خمس دقائق حتى وجد سهى تلج الغرفة بإستحياء وخجل لم يرى منهما سوى لمحة خاطفة اليوم وهو من دام معرفته لها أكثر من عامين
– منور
هتفت بها سهى وهى تجلس على أحد المقاعد البعيدة عن تلك الأريكة الجالس عليها وفتحت ذراعيها لشقيقها الصغير الذى أقتحم الغرفة صائحاً بسعادة يناديها قبل أن يهم عمرو بالرد على تحيتها ، التى أقتصرت على كلمة واحدة
أجلست شقيقها على ساقيها ولفت ذراعيها حوله ، فيما كان ظهر الصغير يستند إليها بوداعة ، إبتسم لهما عمرو قائلاً بمداعبة للصغير :
– مفيش أزيك يا عمو عمرو ولا أنت بخيل زى أختك
شهقت سهى بصوت منخفض بينما ضيقت عينيها ورمقته بنظرة محذرة من أن يسهب فى طرائفه ، والتى ستنهال نتائجها عليه بما لا يريده ، فرفع يديه بإستسلام مستطرداً :
– أنا بهزر بس ، بلاش نظرة ريا وسكينة دى ، كأنك هتقومى تكتمى نفسى كمان شوية
وضعت يدها على فمها لتقمع صوت ضحكتها وهى تتخيل نفسها تعمل على سلبه أنفاسه ، كسفاحة تهوى القتل من أجل المال ، إلا أنها عادت لرزانتها وملامحها الجادة والصارمة ما أن رآت أبيها على وشك الدخول لغرفة المعيشة
فبعد أن تبادل معه عمرو المصافحة وعبارات التحية والترحيب ، نظر والدها إليها قائلاً بأمر لطيف :
– سهى قولى لماما تحضر العشا علشان عمرو يتعشى معانا النهاردة
إلا أن عمرو رد قائلاً برفض لطيف:
– معلش يا عمى متتعبوش نفسكم
وضعت سهى شقيقها أرضاً وهبت واقفة وهى تقول دون أن تنظر إليه ، ولكن فضح صوتها ما تشعر به من خجل :
– دا أنا اللى عاملة الأكل بإيدى النهاردة ، علشان تقولى بعرف أطبخ ولا لاء
حاجبيه المرتفعين بدهشة لم يكونا كافيين للتعبير عن دهشته مما سمعه من لطف حديثها ، والذى لم يرى منه إلا اليسير بمحادثات هاتفية قصيرة ، لم تكن تغنى ولا تسمن من جوع ، ولكنها كانت كافية بالنسبة له فى أن يبدأ فى ترسيخ أولى دعائم التفاهم المتبادل بينهما
فما كان من أمره من رفض لقبول دعوة العشاء ، صار بطى النسيان ، بعد أن أعاد والدها إلحاحه بأن يتناول معهم الطعام ، فكانت تلك هى المرة الأولى فى حياته تقريباً يجلس وسط دفء عائلى ، تدور الأحاديث بينهما بين الجدية والتفكه والتندر والسؤال عن خطط المستقبل ، ورغم عدم شعوره بالجوع ، إلا أنه لم يترك طعاماً مما قامت زوجة والد سهى بوضعه له فى طبقه ، ولكن قبل إنتهاء العشاء سمعوا صوت الجرس ، فقام أحد الصغيران بفتح الباب
ضيق عمرو عينيه ما أن أبصر ذلك الزائر ، والذى لم يكن أحد سوى إبن عم سهى المدعو ” حاتم ” ، ملأه شعور بالضيق العارم لرؤيته ، فهما لم ينشأ بينهما سوى عدم قبول احدهما للأخر ، وبدأ الأمر منذ يوم الخطبة
أقترب حاتم من عمه وهو يقول مازحاً:
– شكل حماتى هتحبنى أوى
رمقه عمه بنظرة عطوفة ، ورفع يده داعياً إياه للجلوس وهو يقول بحنان :
– أكيد هتحبك ، يلا بسم الله معانا
جلس حاتم ونظر لعمرو قائلاً بجفاء :
– أزيك يا أستاذ عمرو
إبتلع عمرو ما فى جوفه من الطعام ورد قائلاً بإبتسامة صفراء:
– الحمد لله تمام ، أخبارك إيه أنت يا استاذ حاتم ، منور إسكندرية ، أنت لسه واصل من بلدكم ولا ايه
وضع حاتم ملعقة من الأرز فى فمه وأجابه برنة صوت متشفية :
– هو أنت متعرفش أن خلاص استقريت هنا فى إسكندرية من حوالى أسبوعين كده ، حتى إشتريت شقة فى عمارة فى نفس الشارع هنا علشان أكون جمب عمى ما هو من ريحة والدى الله يرحمه
بُهت عمرو مما سمعه منه ، فسهى لم تأتى له على ذكر ذلك ، وما أن نظر إليها وجدها تأكل بهدوء ، كأن الأمر لا يعنيها ، وظل حاتم يتحدث طوال الوقت ويضحك حتى وإن لم يكن هناك ما يستدعى الضحك ، ولكن شعر عمرو بأنه لن يحتمل الجلوس معه دقيقة أخرى
فبعد إنتهاءهم من تناول العشاء أنتقل عمرو وسهى لغرفة المعيشة مرة أخرى وتُرك الباب مفتوحاً ، حدق بها ملياً ومن ثم سألها بإلحاح وصوته يفضح شعوره بالغيرة :
– أنتى ليه مقولتليش على موضوع إبن عمك ده ؟
تجعد جبينها من شعورها بالدهشة لسؤاله اللحوح ، فردت قائلة بعفوية :
– وأنت إيه اللى يهمك فى موضوع حاتم ، يعيش هنا يعيش فى البلد ولا حتى فى المريخ ، هو يخصك فى إيه ، ثم أنا مالى ما يقعد مكان ما هو عايز
ما أن رآت تغير ملامح وجهه من ردها ، زفرت بخفوت وعادت مستطردة بهدوء قدر المستطاع :
–أنت عارف أن عمى الله يرحمه اتوفى بعد خطوبتنا بمدة بسيطة ومراته ماتت بعد منه بشهرين تقريباً ، وفضل حاتم هناك لحد اخته ما اتجوزت وبعدين قسم الأرض بينه وبين بابا وكل واحد خد نصيبه ، وهو قال حابب يعيش هنا لأن البلد من بعد موت باباه ومامته وجواز اخته مبقاش طايق يقعد فيها لوحده ، فجه على اسكندرية علشان يبقى جمب عمه وكده يعنى ، بس هى دى كل الحكاية ، وانا مقولتكش لأن مش شايفة إن الموضوع مهم أوى يعنى
حاول تغيير دفة الحديث ، خاصة أنه بدأ يشعر بالاستياء من أنها لا تبالى بالأمر ، فى حين أنه شعر بأن مجئ حاتم للسكن قريباً منهم ينطوى على شئ ، من المؤكد أنه سيكون غير سار بالنسبة له
وضع يده فى جيب سترته وأخرج منها ورقتان مطويتان بعناية ، فبعد تأكده من أن بإمكانها أن تأخذ الورق منه ، مد يده لها بهما وهو يقول بجدية :
– سهى ده ورق التنازل عن نص ثروتى ليكى زى ما قولتلك قبل كده ، خديه واقريه وشوفيه
بللت سهى شفتيها بطرف لسانها بعدما عملت على ضمهما بقوة ، كأنها تمنح نفسها الوقت الكافى بصياغة حديثها والذى تخشى أنه يترك فى نفسه أثرًا سيئاً ، لكونها ترى أن ذلك المال ربما حصل عليه بطرق غير مشروعة
نظرت للباب لتأكدها أن لا أحد يتلصص على جلستهما ومن ثم قالت بحذر :
– عمرو الفلوس دى مقدرش أخدها وخصوصاً إن يعنى متأخذنيش أكيد هى فيها فلوس حرام ، متنساش أن أول ما عرفتك كنت شغال فى عصابة
لفحه جوابها على ما قاله كلفحة هواء ساخن ألهب وجهه حتى كاد يشعر بإحتراقه الوشيك ، فرغم عدوله عن سلوكياته السيئة ، إلا أنه لم يفكر بشأن ذلك الثراء الذى ينعم به ، وأن أبيه الراحل جمع ماله من الإتجار فى المخدرات والأعمال المشبوهة تحت إمرة أدريانو ، وعلل الأمر أنه لم يكن مذنب بذلك ، بل حصل على النقود كإرث طبيعى من والده
حدق بالورقتان ومن ثم حملق فى وجهها فاغرًا فاه دلالة على شعوره الطفيف بالدهشة والتعجب من رفضها وصراحتها ، فأخفض وجهه قليلاً عنها متسائلاً:
– يعنى أنتى مش موافقة ؟
هزت سهى رأسها رافضة قبول ذلك المال ، وفركت يديها قائلة بإعتذار لبق :
– لاء مش موافقة وياريت تحاول تخلص من أى شبهة فى فلوسك لأن الحرام مبيجبش لصاحبه إلا الخراب والدمار ، وإن كنا هنتجور ونعيش مع بعض فأنا مش حابة أعيش من مال حرام يا عمرو وأنت فاهمنى ، عايزة جوزى يصرف عليا بفلوسه اللى كسبها بالحلال ، وأنت بإمكانك تعمل كدا طالما قولت أنك خلاص بقيت إنسان تانى وتبدأ صفحة جديدة يبقى تحاول تتخلص من أى حاجة أرتبطت بالماضى
أنصت لكل حرف منها بعناية ودقة ، حتى أنه لم يحاول مقاطعتها آثناء حديثها بل تركها تقول كل ما لديها ، لعله يشعر بصدق إهتمامها بأن يبدأن حياتهما الزوجية من منطلق التفاهم فيما بينهما ،وأن كل منهما يبدى حسن نواياه تجاه الأخر ، ولم يحاول الإنكار أن حديثها بعث فى نفسه الطمأنينة والسكينة ، من أن سهى ستساهم بإجتيازه إختباراته ، التى لن تقف عند كونه برأ من سلوكه السئ أو أنه صار رجلاً مسئولاً ، فالحياة لن تنفك عن وضعه بإختبارات عدة وسيكون عليه إجتيازها ، لذلك وعدها بأنه سيعمل جاهداً على العمل بنصيحتها والتخلص مما يراه يحمل شبهة المال الحرام ، حتى وإن كان بذلك لن يحتفظ إلا بذلك المال الذى أكتسبه بالأونة الأخيرة من عمله المشروع ، وبعد إنتهاءهما من حديثهما ،أكتسب وجهها ملامح الخجل الشديد عندما سمعته يستأذن أبيها فى أن يخرجوا جميعهم من أجل شراء ثوب الزفاف وإختيار الفندق الذى ترغب فى أن يقام به حفل عرسهما ، على أن يفعلوا ذلك فى أخر يوم من إختباراتها الجامعية ، والتى أوشكت على الإنتهاء ، وكأن الوقت أصبح حليفه فى أنه ينتهى سريعاً ، من أجل مجئ ذلك اليوم ، الذى ستصبح فيه سهى زوجته ، ويأمل أن تمنحه الراحة النفسية ، التى ظل يبحث عنها منذ نعومة أظافره
❈-❈-❈
تلك هى المرة العاشرة ، التى تسمع بها تلك القصة من فم إبنة عمها ، ومع ذلك تظل تضحك وتقهقه بصوت عالى حتى تدمع عيناها ، وربما رغبتها بأن تبتهج نفسها اليائسة من إنغماسها بذلك التوتر الذى يشوب علاقتها بزوجها هو ما يجعلها تضحك هكذا ، رغم أنها لم تسمع شئ جديد سوى تلك التفاصيل التى قصتها عليها بيرى فى المرة الأولى ، حتى أن تلك الفتاة التى تعمل على تصفيف شعرها فى أحد صالونات التجميل ، تعجبت من كونها تضحك هكذا ، وهى من إعتادت أن تراها هادئة وصامتة بكل مرة كانت تأتى بها برفقة إبنة عمها ،والتى كانت لا تختلف طباعها كثيراً عنها من حيث الهدوء ، ولكن أن تراهما الآن لا تكفان عن الضحك والتندر والدعابات ، لشئ يثير الدهشة حقاً ، وربما لم تأخذان حريتهما فى الضحك هكذا إلا لتأكدهما من أن لا أحد غيرهما بصالون التجميل ، فبيرى إستأجرته اليوم كاملاً من أجلها وأجل حياء ، لتنعمان بإهتمام العاملات فى المكان ، خاصة أن مالكة صالون التجميل ،تعلم أن حياء زوجة إبن رياض النعمانى والتى ما أن يعلم أحد بهويتها يتنافسون على تقديم الأفضل لها حتى دون أن تكلف نفسها عناء أن تطلبه
وضعت حياء حبة فراولة طازجة فى فمها وهى تقول باسمة :
– دا أنتى طلعتى مصيبة يا بيرى أنا بس كل ما أتخيل اللى أنتى عملتيه مقدرش أمسك نفسى من الضحك ، معقولة أنتى يطلع منك كل ده
تمطت بيرى بذراعيها وردت قائلة وهى مغمضة العينين :
– يعنى أفضل متعذبة بحبه السنين دى كلها والأخر رايح يخطب ويتجوز ، قولت مبدهاش بقى يا يكون ليا يا إما مفيش واحدة تانية تاخده منى ، مش المثل بيقولك قبر يلمه ولا غيرى تضمه باين ، أنا مش عارفة بجيب الكلام ده منين
ألح عليها الضحك أثناء تناولها الفراولة ، فظلت حياء تسعل بشدة حتى دمعت عيناها ، وكأنها ستلقى حتفها بعد أن علقت قطع الفاكهة فى حلقها ، ولكن إسراع إحدى العاملات بإعطاءها كوب من الماء ، ساعدها بأن تتخلص من تلك الحالة التى بدت عليها وكأنها تنازع للموت
تركت بيرى مقعدها الجلدى الكبير ، وأقتربت منها بخوف لتطمئن بأنها صارت بخير بعد زوال تلك الحالة ، التى آلمت بها ، فربتت على كتفها لتسترعى إنتباهها قائلة بإهتمام بالغ:
– حياء أنتى كويسة
هزت حياء رأسها ولكن لا تعلم لم واتتها رغبة فى أن تبكى ، ولم تستطع مقاومة رغبتها تلك وحدقت فى وجه بيرى وقالت وعيناها تتهيأ لذرف الدموع :
– يعنى ترضى أنك تعيشى مع واحد كان بيفكر يرتبط بغيرك وأنه مكنش عايزك يا بيرى
فهمت بيرى ما ترمى إليه حياء ، فنظرت حولها وأشارت للفتيات بتركهما بمفردهما ، على أن يعودوا بعد قليل ، وبعد إطمئنانها لذهابهن ، سحبت مقعد وجلست قبالتها وأخذت كفىّ حياء بين راحتيها وقالت بتروى :
– لو ركزتى فى الموضوع يا حياء هتعرفى أن الذنب مش واقع على عبد الرحمن وراسل فى أن كل واحد فيهم بالرغم من حبه إلا أنه أختار طريق تانى يكمل بيه حياته علشان يبعد عن أى حاجة وجعاه وأتسببتله فى أذى نفسى ، يعنى أنا يمكن ذنبى الوحيد إن أنا بنت الراجل اللى أذاه ، حتى لو عبد الرحمن عامل نفسه أنه خلاص مبيحبنيش وعايز ينسانى ، إلا إن عارفة ومتأكدة إن أنا لسه جوا قلبه ، بس محتاج وقت ينسى فيه اللى حصل ومش هقولك إن هلاقيه مرحب بجوازنا ، وأن إحنا هنعيش حياتنا فى تبات ونبات ، لاء عارفة أن ممكن أتعب معاه على ما أقدر أرجعه للصورة الأولى اللى خلتنى أحبه وأعشقه ، حبنا يستاهل علشان نعافر علشانه يا حياء
ينقصها الكثير من شجاعة وإقدام بيرى، التى عزمت على خوض تلك المغامرة التى لا تأمن الفوز بها أو الخروج ظافرة بذلك العشق ، الذى وضعها على أول طريق الخروج من لحدها المغلف بالبرود ، ورغم التشابه بينهما من حيث معاناتهما بهذا العشق ، والذى يبدو أنه كما وصفته مارجريت ذات مرة بأنه عشق ملعون ولا تأتى ثماره إلا بالندم والحسرة ، إلا أن كل منهما تتبع نهجاً مختلفاً عن الأخرى فى إسترداد عشقها ، فبيرى فضلت المواجهة والمصارحة وفرض حبها ، وحياء فضلت أن تلقن زوجها درساً لن ينساه طوال عمره قبل أن تفكر فى العودة إليه أو الإنفصال عنه بصورة نهائية
تنهدت حياء بصوت مسموع إذ قالت بتفكير وهى تمرر يدها بين خصيلات شعرها الطويل :
– حتى لو اللى إنتى بتقوليه ده صح ، بس ده ميدهوش الحق فى أنه يعملنى لعبة فى إيده ، لازم يعرف أنه زى ما هو اتوجع أنا موجوعة أنا كمان ومش هتنازل عن أن أعرفه أن اللى عمله ده مش هيعدى بالساهل كده ، مع إن عارفة راسل جوزى بسلامته مفيش حد فى بروده وتصرفاته المستفزة و …..
رفعت طرف إحدى خصيلات شعرها ، وضيقت عينيها تفكر لما تركته حتى الآن طويلاً هكذا وظلت تحافظ على تلك الصورة التى أعتاد أن يراها بها زوجها ؟ فهى تعلم أنه مغرم بدفن وجهه بين طيات شعرها الحريرى الطويل ، لذلك وبدون أن تتروى بتفكيرها نادت لإحدى العاملات التى جاءتها على وجه السرعة
غرزت حياء يداها بين طيات شعرها وقالت ببرود :
– عيزاكى تقصيلى شعرى ده عايزة قصة جديدة ، خليه بس يادوب واصل لحد كتفى مش أكتر من كده ، علشان مبقتش حباه يبقى طويل
شهقت بيرى متأسفة لتضحيتها بقص شعرها ، والذى يضفى عليها مظهراً خلاباً ، ولكنها لم تستطع مجادلتها ، إذ أنها ما أن أصدرت أمرها للفتاة بدأت تباشر عملها ، لتتساقط شعيراتها المقصوصة على الأرض ، وبعد وقت ليس بالطويل كانت حياء حصلت على تصفيفة شعر جديدة لخصيلاتها الفحمية القصيرة ، وباتت كأنها فتاة أخرى عنفوانية المزاج ، كأن شعيراتها الطويلة التى تساقطت على الأرض ، لم تنسى أن تأخذ معها ملامح وجهها ، التى كانت تنضح بالبراءة والطفولة دائماً ، إذ أن مظهرها الجديد كلياً ، صار يوحى بأنها ستتخلى عن سذاجتها ، ولن تكون أداة من أجل إرضاء الأخرين
مطت حياء شفتيها بإعجاب وهى تمرر يدها بين خصيلاتها القصيرة وما لبثت أن قالت باسمة :
– كده بقى شكله أحلى كإن شلت هم تقيل من على دماغى
حاولت إضفاء طابع المرح على حديثها ، لعلها تخفف من ذلك الشعور بالندم الذى عاودها من أنها فعلت ذلك بشعرها ، فباتت كمن يقدم على فعل شئ ويدركه الندم بوقت لاحق ، ولكنها أبت الإعتراف بذلك ، مبررة لذاتها أنها رغبت فى المقام الأول أن تمحى تلك الآثار ، التى إعتاد زوجها أن يراها بها ، ولعلمها أيضاً إفتتانه بشعرها الطويل ، فأرادت أن تجعله يشعر بالسوء مثلما صار هو يتفنن بجعلها تشعر به ، كلما تطلعت لوجه الوسيم واللعين
بإتيانها على تذكر وجهه ، نفخت بضيق وكأنها ستظل هكذا تتخبط فى حياتها ولن تنال راحتها أبدًا ، فحركت بيرى رأسها بيأس وقالت وهى تتصفح إحدى مجلات الأزياء :
– شيلتى هم من على دماغك ولا جبتى الهم لدماغك ، من شعورك أنك ندمانة دلوقتى إنك عملتى كده
أبت حياء الإقرار بصحة قول إبنة عمها فحاولت تغيير دفة الحديث ، فنظرت إليها قائلة وهى تقرصها من وجنتها :
– متحاوليش تخلينى أحس بالندم ماشى ، وخلينا فيكى أنتى ، هو عبد الرحمن هييجى فعلاً النهاردة يخطبك ولا هيهرب علشان أبقى عاملة حسابى ، لو كده أروح أنام
صفعتها بيرى على ظاهر يدها وردت قائلة بإمتعاض:
– عايزة تسبينى فى وقت زى ده يا جبانة وأنا اللى بقول إن لما ييجوا ويشفوكى أنك محجبة ويعرفوا إنك بنت عمى يطمنوا شوية ، لأن شكل أخته كده مقلقة منى وخصوصاً لما عرفت إن مش مسلمة
لم تستطع حياء الجزم كلياً أن بيرى وديفيد فى المستقبل ربما يعتنقون الإسلام بسهولة ، رغم أن بيرى لا تمارس طقوس ولا شعائر الديانة اليهودية ، بل تحيا يومها دون محاولة منها للتفكير بشأن عقيدتها ، فهذا ما يجعل حياء تأمل أن ذلك ربما سيساهم بجعلها سهلة الإنقياد لزوجها إذ رغب فى أن يجعلها تعتنق ديانته ، ولكن الأمر لم يكن بتلك البساطة بالنسبة لشقيقها ديفيد ، نظراً لإنغماسه بتلك الأشياء التى يراها مباحة له ، بينما الدين الإسلامى ينظر لها على أنها من المحظورات والمحرمات
بعد خروجهما من صالون التجميل ، وصعدت حياء لسيارة بيرى ، سمعت رنين هاتفها ، ولكنها ظلت تنظر للهاتف بخواء ، كون أن من يهاتفها هو زوجها ، ولم ترغب فى أن تتحدث معه وأن يساهم بتعكير صفو مزاجها ، الذى تحاول أن تحافظ عليه رائقاً من أجل إبنة عمها
فبعد مرور ساعتين تقريباً ، أعلنت إحدى الخادمات عن مجئ عبد الرحمن وأسرته المألفة من عمه وشقيقته وزوجها ، وأصرت حياء على أن تخرج هى وديفيد لمقابلتهم أولاً لحين إستدعائهم لبيرى
وصلت حياء وهى تتأبط ذراع شقيقها ديفيد ، الذى لم يجد مانعاً من الموافقة على زواج بيرى ممن إختارته ، فمن يكون هو حتى يفرق بينهما ، وهو من ذاق لوعة ذلك العشق ، ومثلما تمنى أن تنتهى زيجة بيرى على خير ، تمنى لو أن يصيبه ذلك الحظ الحسن فى أن تصبح معشوقته زوجته يوماً ما
ألقت حياء عليهم التحية وسرعان ما أعلنت عن صلة قرابتها بالعروس ، وهذا ما إستدعى دهشتهم جميعاً ، إلا أن حياء تبسمت وهى تقول برصانة :
– أنا عارفة أن الموضوع غريب شوية بس فعلاً أنا بنت عمها وده أخويا وأنا زى ما أنتوا شايفين مسلمة وحتى متجوزة إبن رياض النعمانى لو تعرفوه
رد العم قائلاً بإبتسامة هادئة:
– ومين ميعرفهوش ، فرصة سعيدة يا بنتى ، وصدقينى إحنا برضه جينا علشان خاطر مرات عبد الرحمن ، سواء كانت مسلمة أو لاء
عقد ديفيد حاجبيه من قول الرجل الوقور ، فما معنى قوله ” مرات عبد الرحمن ” ، ونظر لحياء لعلها تكون فهمت شيئاً ، ولكنه رآها جاحظة العينين ، وقبل أن يسألها عما أصابها ، إبتسمت وقالت بإرتباك :
– اه وهى بيرى مش هتلاقى أحسن من الأستاذ عبد الرحمن وخصوصاً أنهم بيحبوا بعض من زمان
حاولت بقولها هذا أن توهم شقيقها بأن ما قاله عم العريس ، ماهو إلا تقديم نواياه الحسنة ، فى أن تصير بيرى زوجة لعبد الرحمن ، فلا أحد يعلم بما فعلته بيرى غيرها هى ولم ترغبان فى إخبار ديفيد بشأن تلك الفضيحة ، التى تسببت فيها من أجل أن تصبح له زوجة
ضم ديفيد كفيه وإبتسم لعبد الرحمن قائلاً بتهذيب :
– منور يا أستاذ عبد الرحمن
بادله عبد الرحمن إبتسامته بإبتسامة خفيفة ، فرغم أنه تمنى أن تصبح بيرى زوجته ، إلا أنه لم يكن يريد أن يأتى رغماً عنه ، فعروسه الجميلة بعد ذلك اليوم الذى أدعت به كونها زوجته وتحمل فى أحشاءها طفله ، وذهابه إلى مكتبها ، ورغم أخذها عهداً بأن يتزوجها شرعاً ، إلا أنها لم تكف عن زيارة عمه فى منزلهم ، ترجوه بأن يسرع فى إتمام زواجهما ، قبل أن تبدأ علامات ودلائل حملها فى الظهور ، وتصبح منبوذة وسط عائلتها والمجتمع بأكمله ، فلا يعلم أى دهاء هذا الذى تملكه ويجعلها تفعل كل ذلك دون خوف أو وجل من إنكشاف أمرها
رمق عبد الرحمن شقيقته بنظرة مفاداها أن تحاول تبتهج قليلاً ، ومن ثم نظر لديفيد قائلاً بنبرة صوت هادئة خلاف لما يعتمل فى صدره من غيظ وضيق :
– هو إحنا جينا النهاردة نطلب إيد الأنسة بيرى يا أستاذ ديفيد وزى ما حضرتك شايف إحنا مسلمين ، فمش عارف إذا كنتوا توافقوا أو عندكم تحفظات بالنسبة لإختلاف الديانات ، بس فى الأول والآخر القرار ليكم ، ولو أنتوا رافضين تبقى فرصة سعيدة وهنقوم نمشى
زاد القلق بقلب ديفيد أكثر ، فما يراه على وجه عبد الرحمن لا ينبأ بأنه جاء بمحض إرادته ، كأنه تم فرض الأمر عليه وجاء رغماً عنه ، ولكن لم يفه بكلمة إذ وجدوا بيرى تلج لغرفة المعيشة بثوبها المحتشم ، وعيناها منصبة النظرات على وجه عبد الرحمن ، فجلست بجوار حياء بعدما رحبت بقدومهم
مالت حياء على أذنها هامسة بصوت منخفض :
– بيرى دا شكل العريس جاى ومش طايق نفسه ، دا أنا حاسة أن شوية ويقوم يجرى
وضعت بيرى يدها تغطى فمها وردت قائلة بهمس :
– سيبك منه ، يعمل اللى يعمله ، المهم عمه فى جيبه ومش هيمشى من هنا إلا لما يتفقوا على الجواز ، أطمنى أنا مظبطة كل حاجة
قطع ديفيد حديثهما الهامس وهو يقول بهدوء كأنه يقوم بدور ولى أمر إبنة عمه :
– طالما هى موافقة ومش شايفة إن ده مانع فتمام أنا موافق المهم بيرى تكون مبسوطة
– خلاص إحنا نقرأ الفاتحة ونتفق على ميعاد الفرح بقى وألف مبروك مقدماً
قالتها حياء وسرعان ما رفعت يداها هى وأسرة عبد الرحمن وشرعوا بقراءة الفاتحة ، ولكنها أدركت ما قالته عندما وجدت بيرى وديفيد يحدقان بها بحاجبين معقودين ، ورغم ذلك لم يحاول أحد منهما أن يبدى إعتراضه لما يحدث ، فبيرى تذكرت إمتناع مارجريت عن حضور تلك الجلسة ورغم أنها لم تظهر لها رفضها لزواجها من شاب مسلم ، إلا أنها أحست بمدى إنزعاجها من الأمر ، لذلك ما أن أعلنت مارجريت عن أنها مصابة بوعكة صحية ستمنعها من الخروج من غرفتها ، لم تتشدد بيرى فى أن تجعلها تقابل عائلة عريسها المنتظر ، لكونها تخشى إفساد تلك السعادة ، التى جاءتها بعد عناء وطول إنتظار ، فبعد إنتهاء قراءة الفاتحة التى اقتصرت على أسرة العريس وعلى إبنة عم العروس ، تم الإتفاق على إقامة الزفاف فى غضون إسبوع واحد ، ولم تنسى بيرى أن تغمز بعينيها لعبد الرحمن ، الذى راح يحملق بها بدهشة ، وأطرق برأسه أرضاً هرباً منها ومن عينيها ، وكم بدا راغباً فى أن ينهض من مكانه ويدق عنقها ، ولكن تلك الوخزات المؤلمة التى راحت توخز قلبه بعد تفكيره بأن يقدم على إيذاءها ، جعلته يدرك أنه لن يستطيع مسها بسوء ، حتى وإن كان إستياءه منها ومن أفعالها بلغ ذروته ولن يستطيع إلجامه وقتاً طويلاّ
❈-❈-❈
خرج عمران من ذلك المختبر التابع للمشفى الخاص بإجراء جراحات الحقن المجهري وتأخر الإنجاب وما شابه ، يكاد لو يفتك بزوجته ، والتى أتخذت حذرها منه وجلست فى الخارج لحين إنتهاءه ، لعلمها بأن ما أن يملى عليه الطبيب تلك الخطوات ، التى سيتبعها لإجراء تلك الجراحة الخاصة بالإنجاب ، ستراه خارجاً إليها كمارد الجن ، خاصة وأن عمران ربما سيرى بأنها زادت قليلاً فى مطالبها وأن تجعله يخضع لأمر كهذا ، وهو بإمكانه تأدية تلك المهمة بسهولة ، إذا أعطته هى الفرصة المناسبة وعادت إليه ولمنزله وتعود حياتهما طبيعية و لما كانت عليه من أمور الحب والشوق بين الزوجين ، فأن يتم إجباره على أن يرى أول أطفالهما جاء نتيجة لجراحة بحتة باردة ، يتلقى بها الأوامر من الطبيب ، سيجعله ذلك عصبى المزاج وربما ستعود وتطفى طباعه الهمجية على سطح علاقتهما من جديد ، ولكن رغم أن عقلها لم ينفك عن التفكير فى رد فعل زوجها ، إلا أنها رآته يقترب منها بهدوء ولا يبدو على وجه ملامح الإنزعاج أو الإستياء ، بل إنه جلس بجانبها وأخذ كفها الرقيق بين يديه ، وظل صامتاً بضع لحظات
وبعدما نجح فى إخفاء ضيقه مما حدث له منذ قليل ، إبتسم لها قائلاً بمرح :
– أدينى عملت اللى أنتى عيزاه أهو يا ميس يلا بينا بقى نروح ، الدكتور قالى هيتصل بيا لما نتيجة التحاليل تطلع ، وكويس أن معملناش كده فى مستشفى عمك راسل كانت فضحتى هتبقى بجلاجل
عقدت ميس حاجبيها الأنيقين وردت قائلة بهدوء:
– فضيحة ليه بقى ، ما فى ناس كتير بتعمل عملية الحقن المجهري دى عادى
نهض عمران عن مقعده وجذب يدها ليجعلها تترك مقعدها هى الأخرى فرد قائلاً بعصبية طفيفة :
– دا لما يكون الخلفة بالطريقة الطبيعية مستحيلة ، لكن أنا ولا أنتى كنا محتاجين نعمل كده ، أنا وافقت بس علشان خاطرك وعلشان تبقى مرتاحة
حاولت جذب كفها من بين يده ، إلا أنه شد عليه بلطف ، خاصة بعد أن رآى بوادر إمتعاضها مما سمعته منه ، فوضع يدها تحت ذراعه ليجعلها تتأبطه ليخرجان من المشفى ، فنظر إليها قائلاً بإبتسامة :
– يلا بينا وبلاش تزعلى بسرعة كده ، أنا بفضفض بكلمتين معاكى ، ويلا نروح بيت جدك حابب أقابل إبن خالك عاصم لحد دلوقتى مشوفتوش ولا أتكلمت معاه
سارت ميس بجواره وهى صامتة ، حتى وصلا لسيارته ، فجلست بالمقعد المجاور لمقعده وهى مازالت تشعر بالتخبط والحيرة أكثر من ذى قبل ، كأنها عاجزة عن إتخاذ قرار صائب بحقها وحق زوجها ، ولم تنتبه أنها أخذت وقتاً طويلاً فى التفكير ، إلا بعدما رآت سيارة زوجها تعبر البوابة الكبيرة لمنزل عائلتها
ترجلت من السيارة ووجدت أدم و عماد جالسان فى الحديقة ، فتقدمت منهما قائلة وهى تشير لزوجها :
– هاى ، ده عمران جوزى يا أدم
ومن ثم أشارت لأدم مستطردة :
– وده يبقى أدم اللى حكيتلك عنه يا عمران وصاحبه عماظ
تصافح أدم وعمران ومن ثم صافح عماد وجلس برفقتهما بينما ذهبت ميس للداخل ، وظل ثلاثتهم يتجاذبون الأحاديث فيما بينهم ، حتى رآوا راسل عائداً من مشفاه مبكراً ، فأقترب منهم وربت على كتف عمران متسائلاً:
– هى فين مراتك زوغت من المستشفى ومحدش عارف هى راحت فين
أجابه عمران بتفكه بعدما رفع وجهه له ليتسنى له أن ينظر له بتمعن :
– هى كانت معايا ، كنا فى مشوار مخطوبين بقى وبنزوغ من ورا أهلنا
ضحك أدم على ما قاله عمران ورد قائلاً بإبتسامة:
– حلو جدااا أن الزوجين يحاولوا يغيروا من نمط حياتهم علشان الملل
نظر إليه راسل من رآسه لأخمص قدميه ودون أن يكلف نفسه عناء قول كلمة أخرى ، كان ذاهباً للداخل ليرى هل زوجته عادت من الخارج أم لا ؟
صعد الدرج حتى وصل لغرفته ، ولكن فكر برؤية الصغير ، فطرق باب غرفة ساندرا وأخذه منها وذهب به لتلك الغرفة التى يقطنها ، ولكن لم يدم لهوه مع الصغير سوى دقائق حتى غط فى نوم عميق ، فوضعه على الفراش وخرج للشرفة ، ورآى أن تلك الجلسة التى أقتصرت على أدم وصديقه وعمران ، أجتمع بها أفراد أخرون كميس ووالدتها ووفاء وساندرا ، ولا يعلم سر ذلك الارتياح الذى إجتاح الجميع تجاه أدم
لم يكن وجود ذلك الشاب فى القصر مرحباً به من جانبه هو فقط ، وكيف يأمن وجوده فى المنزل ، وهو يراه يذهب هنا وهناك ويجلس مع أفراد عائلته ، بل إستطاع أن يحوز على محبة الجميع عداه هو ، ولكن ربما ذلك عائد لخوفه الشديد من تلك الخواطر والهواجس ، التى بدأت تملأ رأسه ، من أن يحاول جذب زوجته إليه ، خاصة الآن والطرق بينهما صارت مسدودة وكأن ليس هناك سبيل للعودة ثانية
خرج من دوامة أفكاره وشروده وتأمله ، على صوت الصغير ، الذى أوشك على إتمام عامه الأول بعد بضعة أيام ، ويبدو عليه أنه إستيقظ من نومه بعد غفوة دامت لمدة ساعتين
فأقترب من الفراش حاملاً إياه مبتسماً وقال :
– صحيت يا حبيبى
رفع الصغير يداه الصغيرتان والناعمتان الملمس وجذب تلك النظارة الطبية الأنيقة الموضوعة على وجهه ، فقهقه الصغير كأنه ألقى إحدى الدعابات ، فما كان منه سوى أن ضحك هو الأخر وقبل وجنتيه المكتنزتين
ولكن سمع “راسل” صوت طرقات على باب الغرفة ، ففتح الباب وأخبرته الخادمة بأن والده يريده بشأن أمر هام ، فصرف الخادمة مع وعده بالذهاب إليه
فبعد خمس دقائق هبط الدرج وهو يحمل الصغير ، الذى لا ينفك عن العبث بنظارته وأزرار قميصه ،التى ربما وجدها طيبة المذاق بفمه ، الذى بدأت تتشكل به أسنانه البيضاء الصغيرة
وصل “راسل” لغرفة المعيشة وجد أبيه ورجل لم يعرف من يكون ، ولكن على أحد المقاعد كانت “حياء” جالسة بصمت تضم يديها كأنها بإنتظار قرار مصيرى ، فما أن وقع بصرها عليه ، حتى أرسلت إليه عيناها نظرات باردة ، تنم عن مشاعرها المتبلدة بتلك اللحظة خاصة وهى تراه يحمل الصغير
فتبادل معها النظرات الباردة وهو يقول بصوت كالصقيع :
– خير كنت عايزنى فى إيه ، ومين الأستاذ ؟
لم تكن نظرات أبيه ودية ، إذ شمله بنظرة باردة هو الآخر رافعاً عصاه كأنه يشير إليه وقال بأمر لاجدل فيه :
– ده المأذون علشان تطلق “حياء” لأن مش هخليها على ذمتك دقيقة واحدة كمان وهى موافقة أنك تطلقها وكل واحد يروح لحاله ، وكمان علشان لما عدتها تخلص هجوزها واحد تانى
أنقبضت ملامح وجه راسل على الفور ما أن سمع ما تفوه به أباه ، بل أنه لم يكلف نفسه عناء إخباره بأن سيقوم بإستدعاء المأذون من أجل طلاقه لزوجته ، وكأن عليه أن يقوم بتنفيذ أمر والده دون إبداء أى إعتراض
فصاح منادياً بصوت جهورى لإحدى الخادمات ، التى جاءت إليه تحنى رآسها بأدب ، فإلتفت إليها قائلاً بأمر :
– خدى ساجد خرجيه لمامته برا
حملت الخادمة الصغير وخرجت من غرفة المعيشة ، بينما أقترب راسل من مقعد زوجته وأنحنى إليها فجأة مما جعلها ترتعد بخفة ما أن سمعته يقول من بين أسنانه :
– وده إسمه إيه بقى يا مدام راسل بتحطينى قدام الأمر الواقع مثلاً ، مفكرانى هسمع الكلام وهطلقك ، دا أنتى بتحلمى
عقدت ذراعيها ونظرت فى عمق عينيه قائلة بنبرة خافتة فاترة:
– أنت عايز إيه بالظبط يا راسل شوية تقولى هطلقك وشوية تقولى بحبك ومش هسيبك ، أنت شكلك أصلاً مش عارف أنت عايز إيه فقولت أسهل عليك الموضوع ونفترق بالمعروف علشان كده كلمت باباك يجيب المأذون ، جايز كل واحد فينا يلاقى سعادته مع حد تانى ، طالما إحنا الاتنين مبقناش شاطرين إلا فى أذية بعض ، وزى ما قولتلك قبل كده لو كنت أنت غير رأيك أنا مغيرتش رأيى ومش عيزاك ، خلاص حكايتنا خلصت لحد كده
إستقام بوقفته وأولاها ظهره ورمق المأذون قائلاً ببرود :
– معلش يا عم الشيخ هم حبوا يهزروا معايا بس أنا لا هطلق مراتى ولا فى حد هنا هيطلق حد أتفضل خد واجبك وأمشى
لم ينتظر الرجل سماع كلمة أخرى ، فهب واقفاً ولملم أوراقه وأغراضه وخرج من الغرفة ، فأشار رياض لأحد رجاله بأن يتبعه ليأمن وصوله لسيارته فى الخارج
وبعدما أقتصرت الجلسة على ثلاثتهم ، رفع والده عصاه يشير بها أمام وجهه وهو يقول بنبرة تفيض تسلية رغبة منه فى إثارة المزيد من حنقه :
– أنت مشيت المأذون ليه ، مش أنت قولت قبل كده أنك هتطلقها ، لازمتها إيه بقى الممطالة ، يعنى لا بترحم ولا بتسيب رحمة ربنا تنزل ، أنت عايز إيه بالظبط
صرخ راسل إحتجاجاً على تدخل والده فى شئونه :
– والله دى حياتى أنا ومراتى وإحنا اللى نقرر مش إنت ، ومش علشان أنت قولتلى طلقها يبقى هخاف منك يا رياض باشا وأقولك حاضر ، وبلاش إسلوب الإستفزاز ده أحسن ما أسيبلك البيت وأمشى
– أنت بتهددنى يا راسل ، مش هتبطل وقاحة وقلة أدب
هتف بها رياض وهو يوكزه بعصاه فى منتصف صدره ، فهو وصل لحافة صبره من أفعاله
وضع راسل يديه فى جيبى بنطاله وأحنى رأسه قائلاً بتنهيدة عميقة :
– أنا لا بهددك ولا حاجة يا رياض باشا ، أنا مضغوط بما فيه الكفاية ، وصدقنى أنا ذات نفسى مش مستحمل النفس اللى بتنفسه ، فبلاش الأمور توصل بينا لأسوء من كده لأن أنت فى الأول والآخر والدى وسيبنى أحل مشاكلى مع مراتى بالطريقة اللى تريحنا
أنتفضت حياء من مكانها وبدون أن تفه بحرف واحد ، خرجت من الغرفة ، فحتى محاولتها فى الفكاك منه لم تأتى بثمارها . صعدت إلى غرفتها وأرتمت على فراشها وحملقت فى سقف الغرفة ، الذى تمنت بلحظة مجنونة أن يسقط عليها وتنتهى حياتها خيراً من تلك الحيرة والتشتت اللذان حفلت بهما حياتها منذ زواجها منه ، فإلى متى سيظلان يدوران بتلك الحلقة المفرغة ؟
لم تشأ أن تنغمس بتلك المشاعر المتضاربة حول زوجها ، فتركت فراشها وخرجت للشرفة وفكرت فى الذهاب لحظيرة الخيول ، ولكن ما أن رآت أدم جالساً فى الحديقة عدلت عن فكرتها ، حتى لا يطاردها بكلامه المعسول والذى يخرج منه بعفوية ، فهى تشعر بالضيق لسماعها ذلك المديح منه ولا تسمعه من زوجها ، الذى لا يفعل شيئاً فى تلك الأونة إلا أن يجعل غضبها يتفاقم من بروده وأوامره التى بدأ يمليها عليها من حين لأخر والنابعة من شعوره الجارف والعاصف بالغيرة ، ولكنها لم تشأ إستغلال وجود أدم لإثارة غيرته أكثر ، رغم أنها لم تغفل عن التفكير فى ذلك ، ولكن ما أن أمعنت تفكيرها بذلك الأمر الذى رآته مشيناً بعض الشئ ، نحت أفكارها تلك جانباً ، تاركة لعفوية أدم القيام بتلك المهمة دون تدخل منها أو منحه موافقتها على أن يستمر فى إطراءها أمام زوجها
❈-❈-❈
بعدما تلقى ذلك النبأ الذى يفيد بأن ياسمين فى ذلك الوقت متواجدة فى المركز الخاص بالمكفوفين ، وهو لم يتوانى ثانية واحدة وأخذ سيارته على الفور وذهب إليها ، فتكليفه أحد رجاله بمراقبة منزلها ليلاً نهاراً أتت بثمارها بعد عدة أيام من إنتظاره سماع أى خبر عنها ، وبدا أنها ستظل حبيسة المنزل لما تبقى من عمرها ، ولن يراها إلا إذا سطا على منزلها بغياهب الليل كأحد اللصوص ، ولكنه لن يكون لصاً عادياً ، إذ أنه لن يكون راغباً إلا بسرقة قلب تلك التى سلبته فؤاده ومنعته الراحة والهدوء ، منذ علم بأنها مازالت على قيد الحياة ، وكلما يتذكر رفض أباها له تزداد نيران غيظه ، لأنه يرى أنه الأحق والجدير بها ، حتى وإن كانت بحالتها تلك ولن تتمكن من أن تبصر النور بعينيها ، ولكن يكفيه أن تكون قريبة منه تأخذ وتعطى وتملأ قلبه بهجة وحبور بإمتلاكها ، فتخيله فقط أن ياسمين زوجته جعل إنتشاء عجيب يسير فى أوردته كأنه أحتسى قنينة كاملة من الخمر المُعتق
– أيوة هو ده العنوان
قال ديفيد وسرعان ما صف السيارة أمام ذلك المبنى المتألف من ثلاثة طوابق وحديقة صغيرة ، قد بناه أحد رجال الأعمال من أجل المكفوفين ، ليحصلوا على تعليم وعناية وأن يشرف على تعليمهم كيفية التصرف فى حياة الظلام البصرى التى يعشونها ، نخبة من أكفأ المعلمين والمعلمات
ترجل من السيارة وبعدما تبادل حديث قصير مع حارس المبنى ، ولج للداخل بحجة أنه يريد مقابلة أحد المسئولين أو مالك ذلك المركز التعليمي ، ولم تواتيه رغبة مقابلة أحد منهم ، إلا من أجل أنه يريد شراء المركز حتى يصير هو المالك له بل ربما سيهبه لها ، وأن يكون لديه الحرية التامة لرؤيتها ، بل أنه سيترك كل أعماله ليضمن حصول معشوقته على أفضل خدمة ورعاية
بعدما طرق باب غرفة مدير المركز ولج على الفور بعد سماع الإذن بالدخول ، فصافح المدير ولم يلبث إلا ثوانٍ معدودة حتى أفصح عن رغبته المُلحة :
– حضرتك أنا جاى أشترى المركز ده وعندى إستعداد أدفع أى مبلغ تطلبوه
قطب الرجل الذى نال منه المشيب حاجبيه متسائلاً بدهشة:
– تشترى المركز ! بس ده يا إبنى مش للبيع ده زى وقف خيرى كان عامله رجل أعمال الله يرحمه ووهبه لخدمة المكفوفين يعنى مش للبيع ، بس ممكن تتبرع بمبلغ مالى يساعدهم
أخرج ديفيد دفتر الشيكات من جيب سترته متسائلاً:
– حضرتك عايز فلوس تبرع كام ؟ مليون جنية كويس ولا عايز أكتر ؟
فغر الرجل فاه مما تفوه به ديفيد ، كونه لم يرى فى حياته من يهب كل هذا المال دفعة واحدة ، بل ولديه الإصرار على أن يفى بما يقوله ، حتى أنه حرر له الشيك وناوله له وهو مازال واقعاً تحت تأثير الدهشة من تصرف هذا الشاب
وضع الرجل كفيه على سطح مكتبه متسائلاً بفضول :
– ممكن أعرف إيه السر أنك كنت عايز تشترى المركز أو أنك تتبرع بالمبلغ ده كله مرة واحدة
نقر ديفيد بأطراف أصابعه على سطح المكتب ورد قائلاً بجدية :
– فى أنسة بتيجى هنا إسمها ياسمين والصراحة أنا يهمنى أمرها جدا وعايز أضمن أنها مرتاحة لما تيجى هنا
هز الرجل رأسه ببطىء وقال بعدما علم عن من يتحدث :
– أه قصدك الباشمهندسة ياسمين مهندسة الديكور ، دا والدها الشيخ أنا اعرفه كويس ، بس أنت تقربلهم إيه أنا أول مرة أشوفك ؟
أزدرد ديفيد لعابه محاولاً العثور على إجابة شافية تمكنه من الخروج من ذلك المأزق ، فكون ذلك الرجل يعرف والد ياسمين ، حتماً سيخبره بشأن تلك المحادثة التى حدثت بينهما
إلا أنه رد قائلاً بهدوء:
-هو كنت أعرفها قبل الحادثة لما كانت مهندسة ديكور ، واتأثرت جدا باللى حصلها وحبيت أساعدها هى دى كل الحكاية
إبتسم الرجل على ما قاله ديفيد ، فأى تأثر هذا الذى يجعله راغباً فى شراء المركز من أجلها ؟ عاود هز رأسه قائلاً كأنه أقتنع بحجته الواهية :
– فيك الخير يا إبنى ، ربنا يكتر من أمثالك يا …
رفع الرجل الشيك المصرفى ليعلم إسمه ، إلا أن عيناه تسمرت على قراءة إسمه كاملاً ، ولكن قبل أن يبدى دهشته أسرع ديفيد قائلاً بحذر :
– فى مشكلة عند حضرتك إن أنا مش مسلم مش كلنا بشر ولا إيه
لم يشأ الرجل الخوض فى أمر الديانات والمعتقدات بذلك الوقت ، وربما علمه بهوية ديفيد جعله يطمئن أن الأمر لا يتعدى سوى مساعدة منه ولا يمكن أن يفسره بشكل أخر
نهض ديفيد من على مقعده متسائلاً بأمل يشوبه الرجاء :
– هو ممكن أتفرج على المركز والأقسام بتاعته أخد فكرة جايز أعمل واحد زيه فى يوم من الأيام
أماء الرجل إيماءة خفيفة وترك مقعده ليصطحبه بجولة ، فكل غرفة يدخلها يتمنى لو أن يراها ، ولكن يصاب باليأس ما أن تتجول عيناه فى الحجرة ولا يجدها ، حتى أنه ظن أنها ربما عادت لمنزلها أثناء جلوسه مع المدير فى غرفة مكتبه
ولكن علقت أنفاسه بصدره ، ما أن أبصرها جالسة بتلك الغرفة الخاصة بتعليم المكفوفين القراءة بطريقة بريل ورآى معاها فتاتان وشاب أخر ومعلمة ربما فى سن الأربعين ، تتولى تدريبهم على إستخدام الطريقة الصحيحة للقراءة
تأمل أناملها الرقيقة والنحيلة ، وهى تمررها على الكتاب المفتوح أمامها ، فلو كانت أناملها تلك تمررها على وجهه لما كانت أصابته تلك القشعريرة ، وكأن أى فعل يصدر منها يجعل قلبه يكاد يقفز من صدره
وما أن أعلنت المعلمة عن إنتهاء الوقت المحدد لهم ، تحسست ياسمين عصاها الرفيعة الموضوعة بجانبها ، وأخذت حقيبتها ونهضت من مكانها تتأهب للخروج ولتنتظر مجئ أباها ليعيدها للمنزل مثلما هى معتادة
رفعت يدها قليلاً بالعصى تتلمس بطرفها الأرضية ، لتضمن خلو طريقها من أى عثرات أثناء خروجها ، وكل هذا وديفيد مازال واقفاً أمام الغرفة ، يصب كامل إهتمامه ونظراته عليها
فقبل عبورها من باب الغرفة ، نظر ديفيد للمدير قائلاً بشكر تحدوه رغبته فى أن ينصرف قبل خروجها :
– شكراً لحضرتك أنا لازم أمشى دلوقتى
إبتعد ديفيد عدة خطوات ورآى المدير يعود لغرفة مكتبه ، فأنتظر حتى مرت ياسمين من جواره وخرجت للحديقة وهو يتبعها ، وبعد أن جلست على إحدى الأرائك الخشبية ، لم يمنع نفسه من الإقتراب منها وإلقاء التحية لعله يطيل وقته فى الحديث معها وتشبع عيناه من رؤيتها المحببة لنفسه المشتاقة
– إزيك يا أنسة ياسمين
هتف ديفيد بنبرة مختلجة شوقاً ، متأرجحاً بين رغبته فى أن يجثو على ركبتيه أمامها طالباً منها الصفح والغفران على ما تسبب به لها دون قصد منه ، وبين أن يتجاذب معها أطراف الحديث كإثنان إلتقيا صدفة
أرتبكت ياسمين بعد سماع صوته ، وتلك هى حالتها دائماً ما أن تسمع صوت رجولى ولا تعلم من يكون صاحبه ، فردت قائلة بتلعثم :
– ممـ مين حـ ـضرتك
تجلى التوتر والإرتباك على صوتها وجلستها إذ راحت تتحسس مكان وجود عصاها وحقيبتها كأنها تبحث عن شئ مفقود ، فأشفق على ما أصابها ، ولم يكن هذا ما جعله يشعر بتمزق خفقات فؤاده ، إذ أنه رآى محاولاتها المتكررة فى فرك يديها وكأنها تريد عصرهما لشعورها التام بالعجز
جلس ديفيد بأقصى طرف الأريكة الخشبية ورد قائلاً بحنان:
– أنتى مش فاكرة صوتى
إبتلعت ياسمين لعابها وردت بعد جهد :
– أسفة مش واخدة بالى حضرتك عايز منى إيه ؟
طافت نظراته بعينيها الخاليتين من الإبصار ولكن بدتا كأنها تحدق به بتركيز ، فلم يستطع إلجام لسانه عن قول تلك الجملة التى حتما جعلت إرتباكها مضاعفاً :
– أنا بحبك يا ياسمين وعايز أتجوزك
أرتجفت يداها وسقطت عصاها أرضاً ، فأسرع برفعها عن الأرض وقربها منها مستأنفاً حديثه :
– أنا أسف لو كنت ضايقتك بكلامى ، بس بجد هى دى الحقيقة وأنا أعرفك من زمان ومش عارف أنتى فكرانى ولا لاء ، بس أنا جتلك مكتب الديكور مرة وحتى أنتى ضربتينى بالقلم وأعتذرتلك بعد كده ، وأنا مش عارف أنساكى ولا أحب واحدة غيرك
قطبت ياسمين حاجبيها وتساءلت بدهشة:
– معقولة إنت ؟ بس حاسة إن الصوت ده سمعته من وقت قريب
لم يجد حاجة بأن يومئ برأسه فهى لن تستطيع رؤيته ، ولكن لسانه حاضراً ليجيبها على ما سألته إياه ، فرد قائلاً وبدت اللهفة طاغية بنبرة صوته :
– أيوة أنا ، وأنا اللى عملت نفسى سواق عربية الأوبر يوم ما وصلتك أنتى ومامتك البيت لما كنتوا فى المستشفى
علقت أنفاسها بصدرها ما أن سمعت إجابته ، حتى وإن كانت لم تعد تمعن التركيز فى أصوات من حولها سوى أسرتها ، إلا أن صوته كان حاضراً بشكل أو أخر بغياهب عقلها ، فإزدراد لعابها لم يزدها سوى شعور بالإرتباك والتوتر ، أمجنون هو ليستميت هكذا للزواج منها وهى بتلك الحالة من فقدان بصرها ، فما لبثت أن تذكرت ذلك اليوم الذى علم به خطيبها أنها أصبحت فاقدة البصر ، فلم يكد يمر يومان أخران حتى أعرب عن أسفه عن إتمام زواجها ، وإبتسمت حينها بمرارة ، لعلمها أنه ربما يكون محقاً فمن سيكون راضياً أن يبتلى بزوجة عمياء ، ومنذ ذلك الحين أخذت قرارها بأن تغلق باب قلبها وعقلها ، ولم يعد يعنيها وجود أى رجل قريب منها سوى شقيقها ووالدها ، ولكنها لم تنكر تعجبها ودهشتها من ذلك الرجل الذى لم تستطع تذكر ملامحه جيداً ، وعندما أعتصرت ذاكرتها ، لم تتذكر سوى أن ملامح وجهه تميل للملامح الأوروبية من حيث الشعر الأشقر والأعين الزرقاء وغير ذلك لا تتذكر شيئا أخر
تعرقت يداها وهى تقبضها وتبسطها كأنها أصيبت بالتشنج ، فهمهمت بنبرة صوتها الخافتة :
– أنت غريب أوى على فكرة ، يعنى أنت مش شايف حالتى عاملة إزاى ورغم كده بتقول أنك بتحبنى وعايز تتجوزنى
– أنا ميهمنيش أى حاجة من دى يا ياسمين وأنا مستعد أبقى عينيكى اللى تشوفى بيها الدنيا بس وافقى
نطق ديفيد بحديثه محموماً ، كمن أعياه الشوق ولم يعد يملك صبراً للإنتظار ، ولم تأخذه الرحمة بها وهو يراها مرتبكة كطفلة صغيرة مما تسمعه منه وشعورها بالعجز أن تفر هاربة من ذلك العاشق المجنون ، فراح يكمل حديثه معقباً :
– أنا عينى مش شايفة حد غيرك مهما كانت ظروفك وقلبى بيدق علشانك أنتى بس ، أنا مش بس بعشقك أنا بعشق التراب اللى بتمشى عليه
لم يعد بإمكانها الإستماع لغزله ، فأخذت عصاها وهبت واقفة لعلها تفلح فى الإنصراف قبل أن تسمع منه كلمة أخرى ، ولكن كادت أن تتعثر بمشيتها لولا وجدت ذراعين تمتدان لها ، فقبل أن تصرخ إحتجاجاً لظنها أنه ربما هو من ساعدها بإستعادة توازنها ، سمعت صوت والدها يقول بحنان :
– حبيبتى معلش أتأخرت عليكى شوية
وجدت ملجأها بين ذراعىّ أبيها ، فترجته بصوتها الذى حمل غصة تمهيداً لبكاءها الوشيك:
– ولا يهمك يا حبيبى بس يلا بينا نروح البيت بسرعة
أختفت إبتسامة أبيها ما أن أبصر ديفيد واقفاً على بعد عدة خطوات منها ، فهتف به متسائلاً:
– هو أنت ؟ أنت بتعمل إيه هنا ؟
عاد ببصره لوجه إبنته الممتقع ، فخشى أن يكون قال لها شيئاً أثار به إستياءها ، فتخلى عن بشاشته وعاد ينظر إليه قائلاً بغضب :
– أحسنلك إبعد عن بنتى يا أستاذ أنت وإلا صدقنى مش هيحصلك طيب
طوق أبيها كتفيها بذراعه وأخذها مبتعداً ليعودان لمنزلهما ، فأطلق ديفيد سباب لاذع بصوت هامس ، وفكر فى العودة لمنزله ، وهو يكاد يموت قهراً وغيظاً من والد محبوبته ، فما أن وصل للبيت وجد شقيقته وإبنة عمه ومارجريت يجلسن فى الحديقة
فأرتمى على المقعد المجاور لحياء قائلاً بدون مقدمات :
– أنا نويت أغير ديانتى وأبقى مسلم
رغم إبتهاج حياء مما سمعته منه ، إلا أن ملامحها حملت الصدمة والدهشة مثلها مثل البقية ، إلا أن مارجريت حدقت به بنظرة مطولة قبل أن تكون بنبرة مبهمة:
– عايز تعمل زى أبوك وأمك ما عملوا يا ديفيد
❈-❈-❈

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية لا يليق بك إلا العشق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى