رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الفصل الأول 1 بقلم آية محمد رفعت
رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الجزء الأول
رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) البارت الأول
رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الحلقة الأولى
كسر ضوء الشمس النافذ عتمة الليل وسكونه المخيف، فتسللت أشعتها بخفةٍ لتداعب أوراق الأشجار الكثيفة التي تطوف بالاراضي الزراعية، وكأنها بانتظار ذاك الإشراق الذي يحتضنها كل صباح، ازدحام تلك الاماكن معتاد فالاستيقاظ باكراً من أسمى صفات أهالي الصعيد، الأغلب يتجول بائعاً والبعض يذهب لعمله، ومن بين المارة تجد مجموعة من الأشخاص مجتمعون على صينية دائرية الشكل يتوسطها الفطير الشهي والعسل الصافي وقطع الجُبن القريش، يجلس عليها أهل هذا المنزل البعيد عن تلك الارض التي يجتمع بها رجال البيت والاصدقاء، الطعام بين أهل الصعيد قلة ما يتناوله أهله بمفردهما، فالجود والكرم مدفون بالعروق، ومن بين كل تلك المنازل منزل كبير الدهاشنة، وبالاخص بحديقة منزله الشاسعة، يجتمع المزارعون حول عدد من الطاولات لتناول الفطور الشهي، وبالقرب منهما وبالاخص على تلك الاريكة الخشبية كان يجلس كبيرهما بوقارٍ، العصا التي يحملها بين يديه تمنحه عظمة تليق بجلبابه الاسود، يجلس بسكونٍ وعينيه تراقب الجميع باهتمامٍ، ليشير بعينيه لخادمه للطاولة التي قل الطعام منها ليزيده بالخير، انتهى الجميع من تناول الطعام فنهضوا تباعاً ليردد احداهم:
_دايماً سباق بالخير يا كبيرنا..
وأضاف الأخر بامتنانٍ:
_ربنا يزيدك من وسع..
ابتسامة صغيرة تشكلت على طرفي شفتي “فهد”، فنهض عن الأريكةٍ وهو يردد باستحسانٍ:
_الف هنا وشفا يا رجالة، تقدروا ترجعوا لشغلكم..
أشاروا بايديهم بطاعة ومن ثم انصرفوا لاعمالهم بالحقول التابعة لعائلة “فزاع دهشان”، أسرع إليه الخادم ليخبره على عجلة من أمره:
_الست” راوية” عايزة جنابك جوه..
صعد الدرج القصير حتى أصبح بداخل المنزل، يبحث عنها بعينيه المتلهفة لرؤياها فرغم تقدمهم بالعمر سوياً الا انه مازال يشعر برؤياها وكأنه لقائهما لاول! ، نفس ذاك الشعور الذي يسيطر على قلبه المرهف مازال يتلبسه وكأنه ذاك الصبي الذي يبلغ خمسة وعشرون عاماً، بل تمكن العشق منه ليجعله يلتاع لرؤياها وحتى إن رأها يسكره حد الرغبة فيدق قلبه بعنفٍ وكأن هناك من يضرم نيران الشوق عمداً ليفتك بهيبته التي يخشاها الجميع، طلت من أمامه بردائها الابيض الفضفاض وحجابها الذي يتدلى من خلفها، فأقترب لتقف هي مقابله ببسمتها المشرقة:
_كده تفطر بره معاهم زي كل يوم، نفسي مرة تفطر معانا زي زمان..
أسرع باجابتها:
_هو أنا اقدر على زعلك، محطتش لقمة في بوقي من الصبح..
اتسعت ابتسامتها وهي تردد في رضا:
_كنت هزعل لو عملتها يا “فهد”.
تطلع من حوله بترقبٍ وحينما وجد الساحة خالية من حوله، همس بغزلٍ:
_يابوي على كلمة” فهد” اللي بتطلع تشرح الجلب دي..
تعالت ضحكاتها حتى أصبحت مسموعة لمن يهبط الدرج، فقال بسخريةٍ:
_وبعدهالك يا “فهد” لساك عايش في دور سي روميو .
ردد بحزمٍ مصطنع:
_”سليم”!
دنا منه حتى صار قريباً:
_الحق عليا بنبهك أننا تحت بدل ما حد من الأولاد يطب عليك وصورتك تهتز قدامهم!
جلس “فهد” على المقعد الذي يترأس مائدة الطعام الكبيرة قائلاً:
_متخافش عليا محدش يقدر يوقعني.
أكد له مازحاً:
_خبرك زين يا واد عمي..
أستاذنت “راوية” بخجلٍ:
_هجيب بقية الاكل..
وتركتهم واسرعت للمطبخ حرجاً مما حدث، ولجت للداخل لتشير للسيدة التي تعاون “نواره” و”ريم”:
_طلعي باقي الأكل يام “نعمات”..
أومأت برأسها في طاعة:
_أمرك يا مرت الغالي..
ثم حملت الاطباق وأسرعت للخارج، حملت” ريم” الاطباق المتبقية لتناولها لراوية وهي تتساءل باستغرابٍ:
_مالك وشك احمر إكده!
مررت يدها على وجهها وكأنها تخبرها بأن وجهها متسخ فتحاول تنظيفه، تعالت ضحكات “نواره” وهي تشير إليها ساخرة:
_كفياكي يا “ريم” هتلاجيها شافت “فهد” بره بس..
ذمت “راوية” شفتيها بعدم رضا لتصيح بهم بانزعاجٍ:
_اه ده انتوا فضيتوا ليا بقا..
حملت “نواره” الخبز الطازج لتسرع بالخروج قائلة:
_لا انا الحق نفسي قبل ما المدبحة تقوم..
قالت “راوية” من وسط سيل ضحكاتها:
_كبرنا ومكبرناش!.
شاركتها “ريم” الابتسامة بحزنٍ ظهر على وجهها حينما تذكرت ابنتها، يقال أن لكل منا نقاط ضعف أو ربما جانب معتم يستحوذ على المرء حينما تزوره السعادة، فالابتسامة يتخلالها تذكار لما يؤلم، وكأنها تتعهد على تذكارك دوماً بما يؤلمك حتى تقتل أي ابتسامة قد تتسلل لشفتيك!
شعرت بها “راوية” فاحتضنتها بذراعيها قائلة بحزنٍ:
_لسه مش قادرة تتقبلي اللي حصل لماسة؟
تدفقت الدموع من عينيها كالمطر المحتبس، لتجيبها بقهرٍ:
_ياريت اقدر يا “راوية”، انا مش قادرة أستوعب اللي حصل معاها!
ربتت بيدها على كتفيها وهي تخبرها بثقةٍ:
_جوزها جنبها وعمره ما هيتخلى عنها، أنا عندي ثقة كبيرة في ربنا أنها هترجع أحسن من الأول..
أغلقت عينيها وهي تردد بتمني:
_يارررب يا”راوية” يارب..
أخفت حزنها وهي تشير لها بابتسامةٍ ترسمها بالكد:
_طيب يلا قومي عشان نفطر من زمان مفطرناش مع بعض..
أزاحت دمعاتها وهي تحمل باقي الأطباق:
_بينا..
وبالفعل خرجن سوياً لتنضم إليهم بالخارج، تبدل حزن “ريم” لسعادةٍ كبيرة حينما وجدت “عمر” يجلس بالخارج، فجلست مقابله تتأمله بحنينٍ، تود لو أن يحتضنها بقوةٍ حتى تحاول الخروج من تلك المشحنات المقبضة، شعر بها فأشار بيديه وهو يهمس لها:
_أنتي كويسة؟
إكتفت بإيماءة رأسها بأنها على ما يرام، ثم انتبهوا جميعاً لصوت “نادين” الذي إخترق القاعة كالصوت الرنان:
_أيه ده من غيري!
غمس “سليم” الفطير بالعسل الأبيض وتناولها بتلذذٍ:
_عارفين أنك هتنزلي من نفسك لما تشمي ريحة الوكل..
جلست جوار “راوية” ثم شرعت بتناول طعامها لتردد بإعجابٍ:
_الله على الفطير البلدي من ايدك يا “ريمة”.
ابتسمت وهي تخبرها باستحسانٍ:
_ألف هنا على قلبك يا نودي..
علق”عمر” هو الأخر:
_تسلم أيدك يام أحمد..
منحته بسمة رقيقة، فقال “سليم” باستغراب:
_هو محدش من الولاد نزلوا من القاهرة الأجازة دي ولا أيه؟
أجابته “راوية”:
_مفيش غير” آسر”و”أحمد” البنات عندهم امتحانات..
تساءلت “نادين” بدهشةٍ:
_طيب هما فين يفطروا معانا..
أجابها “فهد” بثباتٍ:
_شيعتهم الأرض يبصوا على العمال يشوفوا لو كانوا محتاجين حاجة.
رددت “راوية” بضيقٍ:
_هما لحقوا يستريحوا يا “فهد”، مش كفايا المصانع والمزارع اللي بيدروها!
نظرة حادة حانت منه فقال بجفاءٍ:
_مخلف عيل صغير هنخاف عليه ولا أيه؟..
رددت في توتر:
_لا مقصدش بس بقول على الاقل كان فطر معانا مهو طول الشهر بيبقى بالقاهرة مع الشباب وحتى في اليومين اللي بينزلوهم بتخليهم يشتغلوا بالارض!..
استنزفت كلماتها غضبه بأكمله، فضرب بعصاه الارض بقوةٍ:
_مفيش اهنه دلع يا”راوية”، الولد لو مشالش الحمل عن اهله مبيقاش راجل..
امتلأت عينيها بالدموعٍ لتعصبه المبالغ به، فتدخل” سليم” بالحديث قائلاً:
_محصلش حاجة يا “فهد”، هي خايفة على ولدها وده حقها بالنهاية هي أم..
هدأت تعابير وجهه قليلاً، فقال بهدوءٍ:
_أنا هادي يا” سليم” بحاول بس أخليها تستوعب أنه في يوم من الايام ولدها هيبقى كبير الدهاشنة ولازمن أقرص عليه عشان عضمه يبقى ناشف ومحدش يقدر يقف قصاده..
حدجته بنظرةٍ ساكنة ولكنها تحوى سهام متخفية تعرف طريقها لاختراق قلبه بحرافيةٍ، نهضت “راوية” عن مقعدها ثم كادت بالابتعاد عن الطاولةٍ، فتوقفت قداميها حينما استمعت لأمره الصارم:
_كملي وكلك قبل ما تقومي.
عادت لتجلس على مقعدها من جديدٍ، وهي توزع نظراتها بينه وبين طبقها بغيظٍ..
*********
مساحة شاسعة يملأها الرجال العاملين من كل صوب وإتجاه، بعضهما يحملون المحاصيل الزراعية للشاحنة والاخرون يكدون عملاً بزرع المحاصيل، الجميع يعلم بأن تلك المنطقة تخص عائلة “فزاع الدهشان” فباتت تخص أحفاده وبالأخص كبيرهم “فهد الدهشان”، ومن بين هؤلاء العمال كان ينحني بقامته الطويلة ليحرر السكين الملتوي حتى يتمكن من قطع الحشائش الخضراء ليجمعها فوق بعضها في تناغم وإنسيابية، ومن ثم يكوم حزمة أخرى فوق بعضهما ليحملهما ثم يضعها على العربة التي يجرها الفرس الاصيل ليشير بيديه التي تتصبب عرقاً:
_خد الحمولة دي وإرجع أنت يا”حسان”..
ومن ثم إنحنى ليحمل حزمة أخرى فأسرع إليه” حسان” العامل، قائلاً:
_عنك أنت يا بشمهندس “آسر”، أني اللي هحملهم..
ابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتيه القاسية، ومن ثم أجابه بمحبةٍ كبيرة:
_لا أنا اللي هحملهم، اسمع أنت بس الكلام وأرجع المزرعة أهتم بالفرس..
سحب اللجام ليجلس على طرف العربة وهو يشير له بطاعةٍ:
_اللي تؤمر بيه يا بشمهندس..
مرر” آسر”أصابعه على رأس الفرس الأبيض بحنانٍ، ثم رفع عينيه ليشير للأخر بالتحركٍ فأنصاع إليه، اتجه “آسر” للشجرة القريبة منه، فاستلى من فروعها قميصه الأبيض الذي تركه على أحد فروعها حتى لا يتسخ بأعمال الحقول الشاقة، فلم يتسنى له الوقت ليبدل ملابسه فما أن وصل من القاهرةٍ حتى أمره والده بالذهاب لمتابعة العمال، فما كان منه الا أن خلع قميصه ليعاونهم اليد باليد رافضاً مباشرة عمله المتوقع بمعاينة الحسابات فترك تلك المهامة لاحمد، دس يديه بجيب بنطاله الأسود ليخرج منديله الورقي، ثم ازاح العرق النابض على بشرته الخمرية، ومن ثم فتح عينيه البنية الداكنة ليتأمل إن كانت ملابسه مازالت متسخة بعد، ثم مرر اصابعه بين خصلات شعره الفحمي ليمشطه جيداً، ثم جلس على الأريكةٍ الخشبية، المتهالكة، القريبة منه ليرفع هاتفه بانتظار رد الطرف الأخر، فقال:
_أيوه يا “بدر”، أنت لسه نايم ولا أيه؟
طيب فوق كده وإسمعني، شحنة الفاكهة في طريقها للمصانع لازم تكون موجود هناك أنت و” يحيى”فهمت؟
طيب تمام، بعد بكره هنكون عندكم أنا و”أحمد” بأمر الله..
وأغلق هاتفه ومن ثم وضعه بجيب بنطاله، ليتجه بخطواته المتزنة تجاه المبنى القريب من الأراضي الزراعية، ليجد “أحمد” منهمك بالعمل على عدد من الملفات، ليتحرر لسانه الصامت ناطقاً بتعصبٍ واضح:
_الشغل ده ميرضيش ربنا أبداً.. كل ده غلط دي فلوس ناس يا ريس!
أجابه المحاسب بتوترٍ:
_يا بشمهندس راجع حساباتك تاني جايز تكون غلطان..
نهض عن مقعده ليحدجه بنظرةٍ قاتلة:
_أنت اللي هتعلمني شغلي ولا أيه؟
والقى الاوراق بوجهه قائلا بحدةٍ:
_راجع شغلك وشوف باقي المبلغ الناقص من الحسابات ده فين والا الكبير بنفسه اللي هيعرف..
وترك المكتب الصغير المتدلي بأحد أطراف المبنى المتوسط، ثم خرج ليجد “آسر” من أمامه، يضع يديه معاً بجيوب بنطاله ويتطلع له بصمتٍ قاتل، ليبتره حينما قال:
_الانفعال مش طريقة لاستعادة الحقوق يا بشمهندس، مينفعش تقول للحرامي في وشه أنت حرامي لا تلعب عليه وتخليه يرجعلك حقك وفوقه بوسة…
زفر “أحمد” بانفعالٍ:
_ده بني آدم بجح بيغلطني عشان يزوغ من المبلغ اللي عكشه في كرشه.
تعالت ضحكات “آسر” الرجولية، ليردد بعدم تصديق:
_هدي نفسك بس يا عريس ده أنت على وش جواز..
سكنت نظراته وهو يردد بفتورٍ:
_عريس أيه بس ده أنا بقالي سنتين خاطب ومستنى أختك تخلص الجامعة بتاعتها وكل مرة الكبير بيطلعلي بحجة شكله مش عايز يتخلى عن بنته..
رد عليه بمزحٍ:
_”روجينا” أكلة بعقله حلاوة، وبعدين أنت مستعجل على الجواز كدا ليه مش قولت عايز تأسس المصنع ويبقى ليك مالك الخاص استغل الوقت ده لنفسك الجواز فقر يا ابني صدقني..
ضحك “أحمد” وهو يجيبه بمشاكسةٍ:
_يعني أنت مش عايز تتجوز يا كبيرنا..
أعدل من ياقة قميصه وهو يجيبه بفخرٍ:
_لا، مبفكرش بالمواضيع المنحرفة دي…
ثم جذبه بقوةٍ كادت باسقاطه:
_يلا عشان نرجع..
تأوه “أحمد” بألمٍ:
_بالراحة علينا احنا مش قدك يا كابتن..
أجابه ساخراً:
_طول ما أنت بتأكل وتنام وبتكنسل الجيم عمرك ما هتبقى قد أي حد..
تعالت ضحكاته فقال بصعوبةٍ بالحديث:
_لا يا عم كفايا الشغل اللي طالع عينا فيه!.
بسخريةٍ قال:
_طيب يلا ياخويا..
مشى لجواره حتى مروا من أمام أحد الأراضي الزراعية التابعة لأحد العاملين المخلصين لأبيه سابقاً، فمن يسوقه الحظ للعمل بمزارع عائلة الدهشان قد يحظى بمالٍ وفير يتمكن من بعدها شراء الأرض الخاصة به كحال هذا العامل المحبب لقلب “آسر”، فأشار لأحمد قائلاً:
_اسبقني أنت على العربية وأنا دقايق وهحصلك..
أومأ برأسه بهدوءٍ ثم أكمل طريقه سيراً للسيارة التي تبعد عنه بمسافةٍ ليست ببعيدةٍ، بينما إقترب” آسر” من كومة القش الملقاة أرضاً حيث كان يجلس هذا الرجل المسن، فألقى عليه التحية ثم قال ببسمةٍ بشوشة:
_عامل أيه يا راجل يا طيب، أنت ما صدقت تسبنا ولا أيه؟
أجابه الاخير بابتسامةٍ واسعة:
_أستاذ “آسر”، كيفك يا ولدي.. والله وليك شوقة..
وحاول النهوض على قدميه الملفوفة بشاشٍ أبيض، مستنداً على عكازه الصلد، سانده”آسر” سريعاً ليردد بخوفٍ:
_خليك مكانك..
ثم تساءل بحزنٍ:
_الف سلامة عليك يا عم “فضل”، مالك أيه اللي حصل؟
وصف بألمٍ ما حدث له:
_مفيش يا ولدي كنت بحمل الربة على العربية فتكعبلت ووجعت على رجلي ولما روحت المستوصف جبسوهالي..
عاونه على الجلوس مجدداً ثم قال:
_الف سلامة عليك، طيب جاي ليه الأرض وأنت تعبان أوي كده؟
كاد بأن يجيبه؛ ولكنه انتبه لصوت صخب يأتي من خلفه من أرض العم”فضل” بالتحديد ، فاستدار ليجد أحداً يحاول رفع أكوام القش الضخمة ليضعها على العربة القريبة منهم، فأسرع تجاهه تلقائياً، كان يرتدي جلباباً أسود اللون، يلف حول وجهه شال أبيض اللون يخفي به رأسه ووجهه المغطى بأكمله، لم يكن سوى عينيه الخضراء الساحرة بارزة من خلفه، تعجب “آسر” مما يرتديه هذا الرجل الغامض؛ ولكنه ظن بأنه يحتمي من أشعة الشمس القاتلة، فانحنى ليجذب الحبال الغليظة من حول كومة القش الضخمة ليردد بثباتٍ:
_هات الطرف التاني يا ريس..
انحنى الرجل ذو الجلباب ليناوله الطرف الأخر، فتلامست أيديهم فشعر بنعومةٍ ملامسها، رفع “آسر” عينيه تجاه هذا المقنع باستغرابٍ، ثم نهض ليزيح قميصه الابيض عنه فاستدار الرجل سريعاً ابتسم آسر وهو يخبره بمرحٍ:
_لا مواخذة يا عمهم بس الحاجة مش هتدخلني البيت لو وسخت الابيض..
ومن ثم انحنى ليحمل كومة القش ببراعةٍ تنساق مع جسده المصفح بالعضلات القاسية، ليضعها على متن العربة، ثم عاد ليحمل الكومة الأخرى فوضعها لجوار الاخرى، فاستدار ليشير له قائلاً:
_لسه في حاجة تانية عايز تحملها على العربية!
هز رأسه فتعجب “آسر” من صمته المبالغ به، أتاه الرد من خلفه حينما إقترب منهما “فضل” ليثني على ما فعله:
_الف شكر يا ولدي، مننحرمش منيك.
ربت على كتفيه بابتسامةٍ صغيرة:
_على أيه يا عم “فضل”، خد بالك انت بس من نفسك ولو إحتاجت أي حاجة كلمني من غير ما تتردد..
ثم جذب قميصه، ليشير للرجل الغامض:
_سلام يا ريس، شكلك عندك دور برد صعب في الحنجرة أبقى عالجه يا عم”فضل”..
تعالت ضحكات العجوز، ليجيبه بصعوبة:
_حاضر يا ولدي..
*********
وصل للسيارة فهبط “احمد” مسرعاً ليشير له بصدمةٍ:
_أنت فاكر نفسك في إنجلترا ألبس بسرعة قبل ما يقتلونا..
ارتدى “آسر” قميصه ثم تحرك تجاه الباب الايسر من السيارة ليردد بخبثٍ:
_ما تنشف يا عم، حد يقدر يبصلنا بس!..
تحرك “أحمد” بالسيارة ليسأله باهتمامٍ:
_عامل أيه عم “فضل”؟
أغلق عينيه ثم استرخى على المقعد ليضع القبعة على رأسه، فعاد” أحمد” ليسأله مجدداً فقال بخفوتٍ:
_رجله مكسورة وجايب ابنه يساعده وهو أصلاً شكله مالوش لا في الطور ولا في الطحين..
رفع حاجبيه بتعجبٍ:
_ابنه! .. عم “فضل” معندوش غير بنت وحيدة بتدرس بالقاهرة..
أزاح “آسر” القبعة عن وجهه ليردد باستغرابٍ:
_أمال مين ده..
_معرفش، جايز مأجر حد..
نفى “آسر” ذاك الإقتراح:
_لأ.. معتقدش حالته المادية متسمحش بكده..
قال “أحمد”:
_جايز حد من قرايبه، لان زي ما قولتلك معندوش غير بنت واحدة بتدرس بالقاهرة بنفس جامعة” حور” بنت عمك “سليم”..
عاد ليتمدد على المقعد من جديدٍ ثم وضع القبعة لينعم ببعض الراحة..
********
بأرض العم”فضل”..
إحتدت نظارتها المتخفية من حول قناعها الخفي، فما أن تأكدت من ابتعاده حتى رددت بغضبٍ:
_ ماله ده كمان، شايف نفسه على خلق الله..
أجابها العم”فضل” ببسمته البشوشة:
_مالكيش حق يا بتي.. ده البشمهندس “آسر” أطيب خلق الله..
قالت بتأففٍ:
_مهو واضح، ده خايف من مامته!.. هو ده كبير عيلة الدهاشنة اللي هيكون بعد أبوه!
بملامحٍ جادة للغاية أجابها:
_أنتي متعرفهوش زين يا بتي، البشمهندس “آسر” غريب عن ولاد عمامه، بيحب خلطة الناس بالصعيد لكن وقت الجد يبيقى غول عيلة الدهاشنة، الكل إهنه بيعمله الف حساب ومحدش يقدر يعيب فيه زي ما أنتي بتعملي كده، خلينا في حالنا يا بتي..
وتحامل على ذاته ليصعد على العربة، ثم أشار لها بالصعود:
_يلا نروح قبل ما الظهر يأذن..
ظلت محلها شاردة الذهن، تتطلع على الطريق الذي سلكه بالعودةٍ بشرودٍ، ظنها الشخص الغامض ورأته هو ماكر وخبيث، نعم لم يكن أمامها خيار أخر حينما مرض ابيها، فارادت أن تساعده بعمله الشاق حتى لا يكون بمفرده، من البداية وهي تناضل الأفكار اللعينة التي تنصف المرأة بأنها ضعيفة وغير قادرة على ممارسة عمل الرجل فاردت أن تكد عملاً بالأرض علها تثبت لذاتها بأنها قادرة على ذلك، انتبهت لصوت والدها حينما نادها مجدداً:
_”تسنيم”!
التفتت تجاهه ثم صعدت لجواره وهي تردد بضيقٍ شديد:
_بعدهالك يابوي، مش قولتلك متنادنيش باسمي..
رد عليها بابتسامةٍ واسعة:
_حاضر يا ولدي، كده زين؟
ابتسمت وهي تجيبه بحبٍ:
_زين..
**********
بالقاهرة وبالأخص بالعمارة التابعة لأبناء عائلة “فهد” ، كان الطابق الأرضي فارغ يشغله مساحة كبيرة من الحشائش الصناعية، وعدد لا بأس به من الطاولات البلاستكية، أما الطابق الثاني فكان يحوي شقتين كبيرتين للغاية، بابهما مقابل بعضهم البعض، احدهما تخص الفتيات والأخرى تخص الشباب لمتابعة الأعمال المشيدة بالقاهرة، أما الفتيات لمتابعة الدراسة والجامعة، يعلوه الطابق الثالث الذي يخص “ماسة” بشكل كبير لأنها بالنهاية امرأة متزوجة..
*******
بالشقة الخاصة بالفتيات..
انتهت “حور” من أداء فريضتها ثم رفعت يدها البيضاء لتدعو الله بتحقق أمانيها، ومن ثم نهضت لتطوي سجادة الصلاة لتضعها برفقٍ على مسند المقعد، ثم جذبت خمارها الطويل ليتدلل خصلات شعرها القصير ذو اللون الأسود المميز، فحانت منها نظرة جانبيه تجاه طاولة الطعام التي اعددتها لابنة عمها، لتردد بسئم:
_مفيش فايدة فيكِ..
ومن ثم اتجهت لغرفتها لتزيح الغطاء السميك عنها وهي تصرخ بانفعالٍ:
_يا خم النوم الجامعة هتفوتك!..
فردت “روجينا” ذراعيها بالهواء وهي تحيبها بدلالٍ:
_سبيني الله يكرمك يا “حور” هو أنا أسيب بابا بالبلد ألقيكي هنا..
ثم جذبت الأغطية مجدداً وهي تشير لها:
_خمسة كمان وتعالي صحيني..
رمقتها بنظرةٍ مغتاظة وهي تضيف:
_بقالك ساعة بتقولي كده ولما بجي بتكون مش أخر مرة..
ثم أضافت بمكرٍ:
_أنتي هتقومي بالذوق ولا أنادي “آسر” يشوفله حل..
انتفضت من على الفراش بفزعٍ:
_أوعي والله أزعلك..
ضحكت وهي تشير لها ساخرة:
_كده مش هتنامي تاني، غيري هدومك وتعالي افطري الأكل برد من زمان..
زمت شفتيها بغيظٍ:
_في قفاكي.. هتلاقيني في قفاكي..
وما أن تأكدت بخروجها حتى جذبت الغطاء مجدداً وهي تهمس بسخطٍ:
_عيلة هم..
أتاها صوتها المنادي بحزمٍ:
_”روجيـــــــنا”!..
نهضت سريعاً فتعثرت أرضاً لتتعالى ضحكات “حور” بتسلية..
********
ركضت خلفه مسرعة، لتتفادي تلك المزهرية التي كادت بأن تحتضن الأرض باشلائها، شعرها الطويل يترنح من خلفها بخفةٍ ودلال، نجحت أخيراً بالوصول إليه فقبضت على راسخه ثم لوت ذراعيه لتنتشل اللعبة الصغيرة من يديه، بكى “طارق” البالغ من العمر اثنا عشر عاماً، فصاح بها بغضبٍ شديد:
_أنتي كل لعبة تاخديها مني بالعافية، أنتي بجد بقيتي وحشة أوي!
هزت “ماسة” رأسها بطفوليةٍ وهي تجيبه:
_”ماسة” مش وحشة “طارق” هو اللي وحش عشان مش بيرضى يلعب “ماسة” معاه..
دفعها بعيداً عنه بكرهٍ:
_مش هلعبك معايا لاني مبحبكيش..
لمعت الدموع بعينيها فقالت بطفولية:
_والله لأقول ليحيى يضربك عشان أنت بتضرب “ماسة”..
_في أيه؟….
سؤال متلهف سأله ذو العين السوداء، بعدما أسرع بالوقوف أمامهما، فأشارت” ماسة”بيدها ببكاءٍ:
_”طارق” ببضرب “ماسة”..
وتركتهما وركضت للأعلى سريعاً حتى ولجت لغرفة” يحيى”، أما بالأسفل انحنى “بدر” ليكون مقابله، فمرر يديه على شعره بحنانٍ:
_مش احنا اتكلمنا أكتر من مرة يا “طارق” في الموضوع ده!..
أجابه الصغير ببكاءٍ:
_هي اللي بتاخد كل لعبي يا “بدر”، ويعدين هي المفروض كبيرة ومش طفلة ليه بتعمل كده..
ارتسم الحزن على تعابير وجهه ومع ذلك حافظ على ابتسامته:
_مش أحنا قولنلك أكتر من مرة يا” طارق” أن “ماسة” تعبانة ولازم ناخدها على قد عقلها، هي بقت دلوقتي طفلة في سنك ومش فاكرة حاجة عن سنها وهي كبيرة، دلوقتي “يحيى” أخوك هيزعل منك..
حدجه بنظرةٍ مغتاظة قبل أن يقول:
_يطلقها ويتجوز واحدة كبيرة..
بلهجةٍ صارمة صاح:
_عيب يا “طارق” الكلام ده، “ماسة” مهما كان تبقى بنت خالك “عمر” ومرات أخوك الكبير..
احنى رأسه بالأرض حرجاً فاحتضنه “بدر” بحنانٍ..
أما بالأعلى..
إنتهى من ارتداء بذلته السوداء الأنيقة، ثم نثر البرفنيوم الخاص به ليتأكد بذاته من تصفيف خصلات شعره الأسود الطويل بانتظامٍ، عينيه الرمادية يحتلها قوقع غائم من الحزن، بشرته الداكنة تمنحه وسامة طاغية، انتهى من عقد جرفاته الخاص، ثم انحنى ليعقد رباط حذائه فتفاجئ بزوجته تدلف للغرفة باكية، نهض ليدنو منها سريعاً ثم تساءل بقلقٍ:
_في أيه يا حبيبتي؟..
فركت عينيها ببكاءٍ وهي تشير له على الباب قائلة:
_”طارق” ضرب “ماسة”..
سكن الغضب ملامحه فكادت عينيه بالانخراط بموجةٍ عاصفة، يحاول قدر الامكان أن يجعل أخيه ومن حوله يستعب الحادث المؤلم الذي أصاب معشوقة دربه ليحولها من مرأة كاملة الانوثة لفتاة لا يتعدى عمرها الحادية عشر عاماً ورغم وجع قلبه لتلك الذكرى القاتلة الا انه يجاهد ليكن جوارها، رفع” يحيى”أصابعه ليزيح دمعاتها، ثم حضنها برفقٍ:
_متزعليش يا روح قلبي، أنا هنزل حالاً أطلع عينه وأقوله ميرفعش أيده على “ماسة” تاني..
تحول بكائها لضحكة مشرقة، فجذبت يديه وهي تردد بسعادةٍ:
_يلا نضرب “طارق”..
ابتسم وهو يتأمل ضحكتها التي أنعشت قلبه، فجذب حقيبته السوداء من على سطح مكتبه:
_يلا يا ستي..
وهبط معها للأسفل، فما أن رأه” طارق”حتى تخبئ خلف “بدر” بخوفٍ، فأشار له بدر سريعاً:
_مفيش داعي تزعقله يا “يحيى” أنا خلاص فهمته غلطه..
سحبت “ماسة” جاكيت “يحيى” قائلة:
_”طارق” بيقول مش هيلعب ماسة معاه تاني أضربه يا “يحيى”..
اكتاظ غيظ الصغير فقال بعنفٍ:
_مش هلعبك عشان انتي وحشة وأنانية..
أطرقت بقدميها الارض لتغوص بنوبة من البكاء كاد بأن يؤثر بحالتها النفسية المتدهورة، فأمسك” يحيى” ساعديها معاً وهو يصيح بغضبٍ فتاك:
_قسماً بالله يا “طارق” لو محترمت نفسك لأكون قسمك نصين، أنت مفيش فايدة فيك أبداً، غور من وشي..
ركض الصغير للخارج باكياً، فأسرع “بدر” للدرج ليتفحص وضعها، قال “يحيى” بقلقٍ:
_شوفتي يا “ماسة” زعقتله ازاي، متزعليش عشان خاطري..
ادلت شفتيها السفلية وجسدها ينتفض، فحملها “يحيى” ليضعها برفقٍ على الأريكة بالأسفل، ثم أشار بيديه لبدر على مكان الادوية، ليستكمل حديثه المهدأ لها:
_لو “ماسة” معيطتش هجي بدري من المصنع النهاردة وأخرجها الملاهي زي ما تحب..
اتسعت بسمتها وهي تردد بحماسٍ:
_”يحيى” خرج “ماسة”؟
ابتسم وهو يجيبها:
_هخرجك وأجبلك البسبوسة اللي بتحبيها..
كفت عن البكاء واتسعت ابتسامتها، فاحتضنها بلهفةٍ بعدما تمكن من تخطي المرحلة الخطرة من علاجها المتزمن، ابتعد عنها برفقٍ حينما انتبه لهبوط” بدر” فناوله الحقيبة الصغيرة، أخرج منها “يحيى” الدواء فكادت “ماسة” بالركض، فرفع بدر يديه حاجزاً من أمامها قائلاً:
_خدي الدوا عشان يحيى يخرجك زي ما قالك..
لوت فمها بتقزز، فجذبها “يحيى” لتجلس جواره من جديد ثم مد يديه بالدواء، فوزعت عينيها بينه وبين الدواء بغضب ومن ثم تناولته جرعة واحدة، مرر يحيى يديه على خصلات شعرها وهو يردد باعجابٍ:
_شطورة يا روح قلبي..
ابتسمت وهي تهز رأسها بفرحةٍ، فرفع صوته منادياً:
_”إلهام”..
أتت مهرولة إليه، فأردف:
_خدي “ماسة” أوضتها وخلي بالك منها..
أمسكت بيدها وهي تردد بابتسامة:
_دي في عنيا يا أستاذ “يحيى”..
حملت عروستها الصغيرة، ثم لحقت بالخادمة وهي تشير له بعفويةٍ:
_باي يا” يحيى”..
ابتسم وهو يودعها:
_مع السلامة يا حبيبتي..
صعدت “ماسة” للأعلى بصحبة الخادمة، فجلس “بدر” جواره ليتنحنح قائلاً باستياءٍ:
_انا مش معاك خالص باللي عملته مع “طارق” يا “يحيى”..
رفع رأسه اليه ليجيبه بحزنٍ:.
_أديك شايف يا” بدر”بحاول أخليه يستوعب حالة “ماسة” وهو رافض..
قال بهدوءٍ:
_مش قادر لانه عيل صغير المفروض تكلمه بهدوء..
هز رأسه باقتناعٍ، فربت “بدر” على كتفيه:
_عارف أن اللي بتمر بيه صعب حد يتحمله، بس لازم تكون صبور زي ما أنت يا “يحيى”..
ثم جذب حقيبته ليشير له:
_شوفه وهستناك بالعربية..
منحه ابتسامة مصطنعة يخفي بها آلآمه، بداخله وجعاً يكاد يبتلعه، ومع ذلك عليه التحلي بالصبر، نهض ليتجه لغرفة أخيه الصغير، طرق الباب بطرقاتٍ متتالية ليجدها مستلقي على الفراش بحزنٍ، فما أن رأه حتى جلس مكتف ساعديه أمام صدره بزعلٍ، ولج” يحيى”ثم جلس لجواره على حافة الفراش ليردد بنبرةٍ صوت حزينة:
_أنا عارف أني مكنش ينفع أتعصب عليك ولا اكلمك بالأسلوب ده بس أنت مش قادر تفهمني يا “طارق”، وبعدين انت مش كنت بتحبها!
استمع لما قاله جيداً ثم أخبره بعفويةٍ:
_كنت بحبها لما كانت دايماً بتشتريلي لعب وبتخرجني معاها، بس لما بقت تأخد العابي وبتعمل كده مبقتش أحبها..
زفر الهواء العالق برئتيه على مهلٍ،ثم عاد ليسترسل حديثه الهادئ:
_ما أنا قولتلك يا حبيبي “ماسة” تعبانه والتعب اللي عندها ده خلاها تبقى زي العيلة الصغيرة وأحنا لازم ناخدها على قد عقلها..
قال بسخريةٍ واضحة:
_يعني أنا لما هتعب هبقى طفل عنده ٥سنين!..
بتعصبٍ شديد نطق:
_وبعدين معاك بقى يا “طارق”!..
ثم نهض عن الفراش وإتجه للخروج ليوقف حينما ناده” طارق” ليخبره بحزنٍ على حاله:
_خلاص هلعبها معايا ومش هضايقها تاني..
منحه ابتسامة صافية ثم استكمل طريقه للخارج ليستقر جوار “بدر” منطلقاً للمصانع الخاصة بتحويل الفواكه المنعشة لعصير طبيعي يحمل رمز عائلة الدهاشنة..
********
بسيارة “أحمد”
مرت جموع من الأغنام من خلف أحد الفلاحين من أمام السيارة فتفادهم بصعوبةٍ، ليصطدم رغماً عنه بأحدى السيارات التي كانت من أمامه، توقفت السيارة ليهبط منها السائق ثم فتح الباب لسيده فهبط هو الأخير بغضبٍ شديد، تابع “أحمد” ما يحدث بمعالمٍ منصدمة:
_”هاشم المغازي”!
انتبه “آسر” لما يقوله ابن عمه فتطلع للأمام ليرى من لا يتمنى رؤياه بهذا الصباح المتناغم، ردد “أحمد” بخفوتٍ:
_الدم هيبقى للركب!
إقترب “هاشم” من السيارة فما ان رأى سائقها ومن جواره حتى تملكه الحقد والغضب، فرفع صوته بجراءةٍ:
_ابقى خلى كبيركم يعلمكم السواقة يا واد منك له، ولحد ما ده يحصل ابقي اقعد في بيتك كيف الحرمة اللي بتستنى عدلها..
إحتدت عينيه بنظراتٍ تزوره وقت الغضب، فسيان ما يصدق بأنه نفس الشخص العطوف الذي يساعد العاجز ويكرم ضيفه، فتح باب السيارة وهو يتحدث بصرامةٍ:
_خليك بالعربية يا “أحمد”..
جذب معصمه ليتساءل بخوفٍ:
_بلاش يا” آسر”.
أبعد يديه الممسكة به ثم أغلق الباب ليكون أمام الأخير وجهاً لوجه، نطاحه “هاشم” النظرات بكره شديد، فتحرك فكيه قائلاً:
_انتوا الادرى بقعدة الحريم بالبيوت ما كبير الدهاشنة خلكم تتداروا فيها ٢٢سنة.
غلت الدماء بعروق “هاشم” فأطرق بعصاه الأرض وهو يردد بحدةٍ:
_معتش اللي أنت يابن “فهد” اللي تتحدت مع كبار البلد إكده..
تعالت ضحكات “آسر” فقال وهو يحك مقدمة أنفه:
_كبار أيه؟ ، لا باين عليك لما كبرت في السن خرفت، البلد ملهاش غير كبير واحد “فهد الدهشان” ومن بعده بعد عمر طويل اللي واقف قدامك وش لوش..
ابتسم ساخراً:
_القوالب نامت والأنصاص قامت ولا أيه؟
كسى وجهه غيمة قاتلة، فاقترب منه ثم مرر يديه على الشال الذي يضعه حول رقبته، فضغط به على جلد رقبته بقوةٍ كادت بخنقه وهو يردد بشراسةٍ وتحدٍ:
_لو مش عايزني أقل بكرامتك صحيح خد الجردة دي وغور من هنا، يكفيك شر غضب راجل عرق الدهاشنة بيجري في عروقه..
ابتلع ريقه الجاف بصعوبةٍ، فدفعه “آسر” أرضاً ليسرع إليه سائقه، فطرق بيديه على مقدمة سيارته قائلاً بحزمٍ:
_يلا يالا خد معلمك وغور من هنا قبل ما أعلم عليه وأخليه عبرة للمغازية كلهم.
صعد “هاشم” لسيارته سريعاً ومن ثم لحق به السائق ليغادر بسرعة الرياح التي حملتهم سريعاً بمنتصف ثرايا “عتمان المغازي”، أما” آسر” فصعد لسيارته ليخبره احمد ببسمةٍ واسعة:
_حطيت عليه بالجامد يا كبيرنا..
عاد ليستلقي على مقعده وهو يردد بمرحٍ:
_جرجرني للرزيلة وأنا راجل محترم وابن ناس..
تعالت ضحكات “أحمد” ليكمل قيادته حتى أصبح أمام المنزل..
********
بمنزل “عتمان المغازي”..
كالرعد الذي طرق السماء، أشعل” هاشم”النيران بأعمدة المنزل بأكمله، وخاصة بعد قصه ما حدث معه من ابن “فهد الدهشان” العائلة التي يمقتها كل بني المغازي بأكملهم، هاجت الدماء بعروق شقيقته التي تستمع لما يسرده على مسمعها بجوار ابنها الوحيد، فصاحت بعصبيةٍ بالغة:
_أهو ده اللي ناقص، معتش غير العيال اللي يمشوا كلمتهم علينا..
حمسها “هاشم” بغضبه الطائش:
_قولتلك قبل سابق ياخيتي “فهد” وولده مش هيجبوها لبر، لازمن نقطع عرق ونسيح دم..
خرج ابنها عن صمته المطبق أخيراً حينما قال بصرامةٍ وجفاء قاتل:
_ورحمة أبويا لأكسر مناخيرهم وأجبها الارض..
وأشار لوالدته بوعداً قاطع يصاحبه نبرة شيطانية مخيفة:
_بكره ياما هجبلك بنت “فهد الدهشان” خدامة تحت رجليكِ ولو ده محصلش مبقاش “أيان المغازي”!
…………
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء))