رواية ما بين العشق والهوس الفصل الثالث 3 بقلم أمل نصر
رواية ما بين العشق والهوس الجزء الثالث
رواية ما بين العشق والهوس البارت الثالث
رواية ما بين العشق والهوس الحلقة الثالثة
وكما توقع كان الطبيب هو بطل الحديث الدائر بين الاثنتان، وهي تقص على زوجته كل ما تحدثت به أمام عزيز، والأخرى تستمع بانتباه، وابتسامة بالإنبهار تعلو وجهها، للجرأة التي طرأت حديثًا على جارتها.
حيث أتتها الفرصة لكي تتحدث مع الطبيب الذي تسكن بمنزله لما يزيد عن الأربع سنوات ومع ذلك لم تتمكن من رؤيته سوى بعض مرات معدودة، بفضل انشغاله الشديد، حتى وهي تعالج من قبل زوجته، الطبيبة الراقية الأستاذة فاطمة.
-لما صامتة أنتِ يا عزة؟ تكلمي وادلي برأيك عن ما قصصته عليكِ.
سألتها ابتسام في محاولة منها لتسمع وتعرف برد فعل جارتها عما تتفوه به، وكان رد الأخرى ابتسامة متسعة ومرحة:
-وما الحاجة لسماع رأيي يا امرأة؟ وقد تطورتي وصرتٍ تحادثين الرجال، لقد فشلت تربيتي، أنا لم أربي جيدًا.
قالتها بمزاح لتنطلق الضحكات الصاخبة منهن فتصل إلى هذا المتعوس الملتصق وأذنه خلف الباب المغلق، ليزداد الضجيج في عقله بالتفكير المتواصل.
لقد رحبت بالرجل وكادت أن تقع من طولها لمجرد رؤيته بالقرب منها، أوقفته واعترضت طريقه بلهفة وخفة غير طبيعية، حتى إذا افتر فاهه بشبه ابتسامة لها؛ حلقت في الفضاء بفرحة وكأنها ملكت النجوم، لتأتي وتقص على زوجته وكأنها فعلت أمر بطولي.
أو أنها التقت بنجمها المفضل في التلفاز، وحصلت منه على توقيع لتظل تفتخر به بجميع سنوات عمرها القادمة، تنهد يغمض عينيه بتمني أن يُصبح هو مكان الرجل، فينال ما يبتغيه من النساء.
نفض رأسه عن هذا الخاطر الغريب، فهو لا يحلم بغيرها ولا يوجد من النساء ما حلت برأسها كمثلها، لقد سكنت بعقله واحتلت وجدانه وسيطرت على كل حواسه، فلا يرى من النساء غيرها، ولا يسمع بأفضل من صوتها، ولا يتنشق برائحة كرائحتها التي تتركها في ركن من منزله.
على صوت ضحكاتهم مرى أخرى يقطع عنه شروده، فالتفت رأسه بحدة، وقد ضاقت أنفاسه وتعب من كثرة التفكير في التعلق بالمستحيل.
خطر إليه النهوض وطردها من منزله كي يستريح عقله ولو لدقائق من مشاغلتها له على الدوام، حتى لو كان هذا بدون قصد منها.
❈-❈-❈
في المساء وعلى ميعاد النوبة المسائية، دلفت لداخل الحجرة على صوت الهاتف الذي لا يتوقف بصوت الإتصالات العديدة التي تتواتر عليه، وزوجها واقف امام المرأة يتأنق بما يرتديه كما ينثر على ثيابه العطر، بتجاهل تام للرد
-عصام الا تجيب على الهاتف اللعين؟ وتريحنا قليلًا من الأصوات المزعجة؟
هتفت بها نحوه مندهشة بانزعاج قابله هو بنظرة باردة لانعكاس صورتها في المراَة، ليرد بعد وقتٍ طويل وقد أحرق أعصابها بالفعل في انتظاره.
-لا أريد الإجابة أو الرد، فلا تهتمي انتِ
صاحت غاضبة وقد أخرجها بهدوءه المستفز عن طورها:
-كيف لا أهتم يا عصام؟ وهذا اللعين قد أصاب رأسي بالصداع النصفي بهذه الاتصالات العديدة، لا تريد الإجابة فاجعله إذن على وضع الصامت أو أغلق الهاتف.
التف إليها صامتًا بنظرة مستخفة تعلمها جيدًا، ظل لعدة دقائق على وضعه، وهي تتطلع إليه بترقب، حتى تحركت شفتاه ليقول اَخيرًا:
-أراكِ اخذت الثقة وأصبحتِ تناطحيني في الرد، بل وأصبحت تأمريني أيضًا بما أفعل وبما لا أفعل.
صمتت تصك على فكها في انتظار المزيد، فهيئة زوجها تدل أن مخزون كلماته القاسية قد أتى ميعاد فيضانه، وكما توقعت وجدته يكمل بنظرة تشملها من اعلى رأسها حتى طرف جلبابها في الأسفل :
-لقد تغيرت يا ابتسام، وأصبحت امرأة أخرى لا أعرفها، فكما أثرت بكِ حياة المدينة وغيرت في صورتك الخارجية للأفضل، غيرتك في طبعك أيضًا، شعرتِ بالإطمئنان حتى جعلك شديد الجرأة، ليُصبح صوتك عاليًا مع زوجك بقلة حياء .
-انا قليلة الحياء يا عصام .
هتفت بها مقاطعة له، فعلى صوته بالصياح عليها بغضب ظاهر:
-مجرد مقاطعتك لي الاَن قلة حياء أنا لا أرضى عنه، لست طويل البال حتى أصبر عليكِ يا ابتسام.
إرتفعت عيناها إليه بتساؤل يشوبه التوتر، وهو الأعلم بما يدور على الفور برأسها الاَن بعد سماعها العبارة، فتابع يضغط على النقطة التي تخشاها دائمًا برعب، ألا وهي تكرار الفشل في زواجها والعودة مرة أخرى مطلقة ذليله في بيت أباها تنهشها أللسنة البشر بلا رحمة.
-لا تأمني غدري حبيتي، قد تجديني الاَن صابرًا على وقاحتك، ثم فجأة اقلب الطاولة فوق رأسك واقوم بتطليقك على أتفه الأسباب، وبعدها سأجد الحُجة الجيدة أمام اهل البلدة حينما اذكر كل أخطائك من وقت زواجي بك.
تعلمين ان الجميع سيصدقني، بل وسيدعمونني في قراري حتى أهلك يا ابتسام، اليس كذلك؟
توقف يرى رد فعل كلماته على وجهها الذي انسحبت الدماء منه، وانفاسها التي أصبحت تتلاحق سريعًا دون توقف من مجرد التخيل.
حتى كاد أن يتراجع مشفقًا عليها، ولكن عقله اليقظ بذكريات الماضي أبى أن يعطي فرصة لعاطفته للتأثير عليه، يكفيه ما عانى منه في زيجته الأولى من امرأة، عشقها بكل جوارحه، حتى عمي عن عيوبها، فجعلته يتغاضى عن أخطائها التي كانت تزداد يومًا بعد يوم.
وحينما انتفض بالرفض لأفعالها، لم يُعجبها اعتراضه لتذكره بتفضُلها عليه، حينما تنازلت وتزوجت بمن أهو اقل منها تعليمًا بشهادة أقل من شهادتها الجامعية،
نفض رأسه ليجلي عنها زكريات الماضي التي حفرت بالقلب ندبة عميقة لا يعتقد انه سيشفى منها أبدًا.
غلف وجهه بقناع قاسي يدعي الحكمة وقول النصيحة:
-أنا لا أُخيفك ولكني أحذرك، حتى لا تكرري الخطأ، فشلك في الزواج الثاني سيقضي على كل فرصك الجيدة في الزواج للمرة الثالثة.
أنتِ جربتي قبل ذلك ولا أعتقد نسيانك لنمازج الرجال التي تبتغي الزواج من مطلقة، مابين أرمل يريد امرأة لتربية أطفاله، او شاب فاشل لا يجيد تجهيز نفسه فيطمع بجهاز غيره مع مطلقة لن تكلفه شئ، أو رجل عجوز يريد الزواج بمن تعيد إليه شبابه.
ظلت صامتة بأعين غائمة، لجمتها كلماته السامة عن الرد، وقد ذكرها بهذه الأيام العصيبة في الشد والجذب مع عائلتها التي كانت تريد سترها والموافقة على اي خاطب مهما كانت صفته، وهي لا تجد غير البكاء حيلة لردعهم عن الضغط عليها كي توافق .
تنفس أمامها بعمق شاعرًا بالأكتفاء مما فعله بها، كاتمًا هذا الصوت من الداخل والذي يدعوه لطمئنتها، لعدم نيته في فعل ذلك والإنفصال عنها، ليربط على قلبه بالالتفاف عنها ينتوي المغادرة
فتناول هاتفه وعلاقة المفاتيح ليضعهم بجيب بنطالة ثم ذهب منصرفًا دون أن يكلف نفسه عناء النظر نحوها، ومعرفة ما أصابها.
وقد سقطت بجسدها على أرضية الغرفة بعد ان تهاوت اقدامها عن حملها، وقلبها من الخوف ازداد خفقانه بصورة جعلتها تشعر بقرب توقفه، تتمنى الموت ولا العودة لهذه السنوات المريرة التي قضتها كمطلقة، حمل ثقيل على أهلها في المنزل.
وفي الخارج تتربصها الأعين أينما وطئت أقدامها، تُحاوطها الظنون والإتهامات المسبقة على أقل فعل تقوم به، مطمع لكل خسيس يظنها سهلة المنال.
كالبضاعة المستعملة يقل ثمنها مع أي خاطب من الأعداد الغفيرة التي تريد الزواج بها، ولا تجد منهم من ما يناسب او يصلح لها
إلى أين أنت ذاهبة؟
تفوه من خلفها فجأة لتشهق منتفضة واضعة كفها على موضع قلبها وقد أجفلها الاَن بحضوره، فتسائلت بأنفاس متهدجة:
-متى جئت يا عمران؟
تقدم نحوها بوجه عابس فقد استفزه استمرار خوفها الغريزي منه في كل مرة تتفاجأ برؤيته رغم مرور السنوات التي جمعتها معًا، وكأنه تذكره عن غير قصد بتشوه وجهه، فقال مشدد على أحرف كلماته:
-أنا من بدأت بالسؤال، إذن فعليك الإجابة وليس الرد بسؤال اَخر.
ابتعلت لتجيبه ببعض الثبات وقد هدء ارتياعها قليلًا:
-لن أذهب بعيدًا بإسدالي هذا يا عمران، هما خطوتين فقط للشقة المقابلة لشقتنا، سأذهب لجارتي ابتسام.
أخفى ارتباكه لمجرد ذكرها بالإسم، وسألها بنبرة طبيعية:
-ولما لا تأتي هي؟ ألا تعلم بأنك متعبة وكثرة الحركة خطر عليكِ وعلى حملك؟
أجابته بعفوية:
-تعلم كل ذلك وهي دائمًا ما تأتيني وتساعدني أيضًا.
-ولكنها اليوم بحال بائسة ومنهارة من البكاء بعد شجارها مع زوجها، لقد اتصلت بها وعلمت منها ذلك، أود الذهاب للاطمئنان عليها، فهي لم تقصر معي أبدًا.
سألها بفضول تملكه للمعرفة؛
-ألم تعلمي منها سبب الشجار؟
-سوف اعلم حينما أذهب.
قالتها سريعًا وهي تعيد لف حجابها قبل الذهاب، ولكنها تذكرت لتساله:
-لم تخبرني يا عمران، عن سبب حضورك من نوبة عملك بالأسفل الاَن؟
لوح أمامها بالعلبة الفارغة قبل أن يذهب لوجهته في المطبخ، لتعلم انه قد أتى من أجل تعبئتها بالسكر من أجل إعداد الشاي والمشروبات الساخنة كي تساهم في تدفئته ومعاونته على السهر مع رفيقه في الأسفل، اومأت بتفهم وانصرفت بعد ذلك ذاهبة.
وبداخل المطبخ توقف مستندًا بظهره على طرف حوض غسيل الأطباق من خلفه، وقد ذهب عقله إليها، يتسائل بداخله عن المتسبب في المشاجرة التي حدثت بينها وبين عصام الذي تركه بحالة لا يرثى لها في الأسفل، هي منهارة في البكاء وهو متجهم الوجه بشرود.
لكم ود اختراق الشقة المجاورة الاَن ليسمع منها كل ماحدث بأذنيه كفعل ما يقوم به كل صباح، وليس تلخيص مبهم من عزة التى لا تتحدث بغير المفيد، وهو مغرم بالتفاصيل في كل ما يخصها.
❈-❈-❈
على أرض الغرفة الباردة جلست أمام الأخرى والتي كانت تهتف بالكلمات الغير مترابطة، بانهيار جعلها تخرج ما يعتمل بصدرها أمام جارتها:
-لقد هددني بالطلاق يا عزة، وعلى سبب تافه، اقسم بالله إنه شئ لا يستحق ولكني أعلم أنه يريد التخلص مني ومنذ فترة طويلة وليس اليوم فقط، وربما يريد الزواج بأخرى…
كانت تهذي بالكلمات مع بكاءها المستمر دون توقف والأخرى تربت على ذراعها بدعم لتهدئتها.
-لكن لما يفعل معي هكذا يا عزة؟ يتهمني بالتواقح وقلة الحياء، لأني فقط طبت منه اغلاق الهاتف المزعج؟ عصام لم يعد يُطيقني، لم يعد يريدني..
للمرة الثانية تقطع كلماتها بالبكاء الذي على صوته بشهقاتها، فردت عزة بأسلوبها الرزين الهادئ والذي دائمًا ما يلامس المنطق لتُذهب عنها الأفكار السيئة
-يا حمقاء تعقلي ولا ترهقي نفسك بالتفكير والتنبؤ بالشر،
تلك مجرد كلمات؛ لا تحملي لها هم وأخرجيها من رأسك.
فلقد تفوه بها زوجك في لحظة غضب.
-الرجال أو البشر عموما في أوقات الغضب لا أحد منهم يعي ما يتلفظ به وقتها، لقد علمتني أمي ان من يفعل لا يتكلم، ومن يتكلم لا يفعل، هو فقط يفرغ ضيقه بالضغط عليكِ كما يفعل باقي الرجال.
توقفت عن البكاء وقد لفت نظرها مغزى الكلمات، فتساءلت متناسية ظرفها وما تسبب لها في البكاء:
-وهل عمران يفعل معكِ ما يفعله باقي الرجال بالظغط وإفراغ الغضب؟
تبسمت عزة لقولها قليلًا قبل أن تجيبها بتفكه:
-وكيف يفعل وهو لا يراني من الأساس؟ إنه لا يشعر بوجودي اصلآ!
تعقد حاجبي الأخرى بشدة وتجعد جبينها باستغراب لتسألها على الفور:
-وكيف لا يراكِ او لا يشعر بوجودكِ وهو زوجك؟ أعقلي كلماتك يا عزة حتى أقتنع.
هزت برأسها المذكورة بابتسامة غير مفهومة وردت متنهدة بشرود:
-لا يهمني اقتناعك صديقتي، لأنه وبصراحة لن يفيدني .
نعم لن يفيدني بشئ، فقد علمت بمكانتي عنده من وقت زواجي به، دائما صامت وكلماته بالتنقيط، لدي مساحة محددة لا أقوى على تجاوزها معه، ضيفي على كل ذلك، أني لا أشعر معه بالدفء الأسري، الذي يكون بين الرجل وامرأته
لا يحكي ولا يتحدث معي عن تفاصيل يومه وما يحدث معه، حتى أنا لا أجد الفرصة لفعل ذلك، في بداية زواجي به كنت افعل بفتح الموضوعات العديدة والتحدث بالكثير ولكن ومع شعوري بعدم انتباهه فتر حماسي، وقل حديثي تدريجيًا حتى أصبح عدة الكلمات بسيطة.
تتكرر يوميًا بروتينية ليظل هو بشروده الدائم، وصرفت أنا النظر عن المحاولة لكسر الجمود بيننا، ووضعت أملي بالطفل القادم، لو كان فتاة تُصبح شقيقتي وأمي، وإن كان ولد سصير أبي وأخي، أو لا شى من كل ذلك، ويكفي أن يكون طفلي وفقط، اليس هذا أحب الأشياء؟
-نعم حبيبتي إنه لمن أعظم الأشياء.
قالتها ابتسام قبل أن تجذب رفيقتها تضمها إليها، وهي تتمتم بالدعوات الصادقة حتى يتم الحمل على خير، وتنل صديقتها أمنيتها بهذا الطفل.
نزعت نفسها فجأة عنها لتسألها بفضول:
لا أريد التواقح معك يا عزة ولكن ينتابني الفضول بشدة كي أعرف منك حقًا، كيف تقبلتي زوجك بهذا التشوه الواضح بوجهه، ألم تخافي وتتراجعي لانتظار الأفضل؟
تبسمت عزة بمرح لالتهاء صديقتها في الحديث ونسيان البكاء ومشاجرة زوجها، فردت تجاريها:
-لم أتراجع ولو دقيقة، فقد كانت وجهة نظري التي بنيتها بداخلي منذ أول لقائي به؛ أني لن انظر إلى وجهه، وسوف أنتظر منه أن يأتيني بقلبه ولكن هذا لم يحدث.
أما عن قبولي بالتشوه الكبير بوجهه فقد تعودت حبيبتي، بالتعود يتقبل المرء كل شئ، ثم إني لست ملكة جمال حتى اتكبر عليه.
قالتها بعدم ثقة لم تتقبلها ابتسام فهتف معترضة على الفور:
– لا تقولي هذا يا عزة، أنتِ جميلة ولا يعيبك شئ، ينفصك فقط بضع الدهون التي تسبب زيادة في الوزن لتدور على جميع أعضاء جسدك، خاصة الوجه، وبعدها صديقتي، ستكوني جميلة على حق.
❈-❈-❈
تحرك من أمام النار التي أشعلها منذ قليل بعد أن انتهى من صنع الشاي عليها، فاقترب يناول رفيقه بالكوب الكبير مرددًا له ببعض المرح:
-الشاي التمام، لعصام الهمام.
أومأ له بشبه ابتسامة الاَخر يتناول الكوب الساخن ليرتشف منه على الفور متلذذًا بطمعه ثم عاد لشروده مرة أخرى
يشعر بعظم ما فعله اليوم مع زوجته، ولكنه لا يملك غير ذلك، لن يكون ضعيفًا بعد اليوم لامرأة مهما كانت مكانتها بقلبه، لقد علم وعرف جيدًا أن المرأة إذا اطمانت من جانب الرجل وشعرت بامتلاكها له، لا تتورع بعدها عن الدهس عليه بكل قوتها.
مدامت تملك بيدها صك غفرانه، وإن كانت الأولى تكبرت عليه بشهادتها الجامعية، فهو لن يسمح لهذه الريفية الساذجة ان تتكبر عليه بجمالها،
-كف عن شرودك يا رجل وانتبه إلي.
قالها عمران ليخرجه من حالة الشرود التي تلبسته منذ أن اتى وجلس بجواره، وباستجابة منه التفت إليه بتساؤل، ليكمل له عمران:
-لقد مللت من التحدث مع نفسي وأريدك معي.
أومأ له برأسه ليرد وقد استفاق قليلًا إليه:
-أنا معك يا عمران فلا تشغل بالك.
-كيف لا اشغل بالي يا رجل وأنت تغفل عن عملك معي؟ وقد يأتي اي لص أو مهاجم ليضرب رأسي من الخلف،
وقتها من سينجدني ويرد بالمقاومة؟ إن كان شريكي غافلاً؟
قالها عمران وهو يستند بطرف كتفه على السور الحديدي للمبنى من الداخل، ليكمل وهو يشير بكفه للأمام .
-نحن في حي شعبي قديم، والمبنى هنا كالدرة التي تميز المنطقة، يلفت الأنظار إليه من جميع الجهات، والنفوس الطامعة لن يهمها الخير الذي يقوم به الطبيب، إن نحن غفلنا عن الحراسة، وتهيئت الفرصة لديهم للسرقة.
تحول وجه الاَخر للعبوس الشديد بعد سماعه لوصلة التقربع الغير مباشر من رفيقه، فنهص فجأة يعدل من ملابسه، ليقول بنبرة جدية يكتنفها اللوم:
-استفقت بالكامل يا عمران، رغم أني لم أصل لهذه المرحلة حتى يصيبك القلق،
تحرك عمران من جوار السور ليقترب منه قائلًا ببعض اللطف:
-لا تأخذ كلماتي على محمل السوء، لقد كان غرضي التنبيه وفقط يا رفيقي.
أومأ له المذكور يدعي التفاهم، قبل أن يتناول كوب الشاي خاصته وقال بعملية وهو يتحرك بخطواته:
-أعلم يا عمران ولك كل الحق.
استوقفه بسؤاله:
-إلى أين انت ذاهب؟
اومأ بذقنه للأمام يجيبه:
-سوف أقوم بجولة تفقدية حول المبني، لأستكشف المكان وحركة الأمن من حولنا.
قالها وذهب تاركًا عمران ليفعل هو الاَخر ويراقب متطلعًا بتفحص لكل ما تقع عليه عينيه، بجدية اعتاد عليها منذ الصغر وتوليه مسؤلية حرمته من الإستمتاع بمرحلة المراهقة كباقي أقرانه، ظل على بحثه حتى اطمأن.
جلس ليستريح قليلًا، فمازال ليل الشتاء الطويل لم ينتهي بعد، نظر بالساعة فوجدها قاربت على الثانية عشر مساءًا، ليخمن بعودة عزة للمنزل، فميعاد نومها يبدأ من العاشرة، إذن هي وحدها الاَن.
وربما لو رسالها قد تجيبه وتندمج في الحديث معه كرد فعل طبيعي بعد شجارها الكبير مع زوجها، هكذا يعرف عن بعض النساء أو كما قرأ، تناول الهاتف ليحاول بالإرسال من حساب الأمس، ولكنه توقف بعد تذكره لكلماتها مع عزة وتعبيرها عن تفاهة المرسل.
عاد لإحباطه يفرك بكفيه على صفحة وجهه، شاعرًا بالعجز وقلة الحيلة، يتحرق شوقًا للتواصل معها، ولا يجد الوسيلة، حتى خداعها بحسابات أخرى لا تأتي بفائدة معها، تذكر حديثها صباحًا مع الدكتور عزيز ولهفتها حينما أوقفته واعترضت طريقه.
اغمض عينيه يتسائل بحسرة، لماذا كل طريق يقطعه محملُ بالأشواك؟ لما لا يجده ولو لمرة واحدة ممهدًا أمامه كباقي البشر؟ كم ود لو أصبح مكان الدكتور عزيز، ليرى لهفتها في الحديث إليه… انتفض فجأة يقطع شروده على خاطره الاَخير.
فتناول هاتفه يتلاعب به بحرفية وقد توصل بعقله لفكرة مجنونة، يود تنفيذها والمحاولة من جديد، فربما قد أتت هذه المرة بالنتيجة المرجوة، انتهى من فعل الحساب الجديدة بوضع الصورة الجديدة والتي كانت مخزنة بهاتفه منذ فترة كبيرة.
مع كتابة الأسم والمعلومات التي يعملها جيدًا، وبدون انتظار أو طلب صداقة، بعث يراسل على الفور بالأسم الجديد ورسالة مبهمة قصيرة تثير التساؤل بغموضها:
-هل أنتِ ابتسام زوجة عصام الحارس؟
ثم ترك الهاتف بعد ذلك من يده على الطاولة الصغيرة امامه ينتظر النتيجة.
❈-❈-❈
عادت من حمام سريع أنعشت به نفسها قليلًا، بعد البكاء والإنهيار الذي أصابها وحديث زوجها السام، الذي كاد أن يصيب عقلها بالجنون في التفكير عن مدى جديته والخوف الذي تملكها من المجهول الذي ينتظرها إن صدق بالفعل وطلقها هذا المعتوه .
لكي تعود مرة أخرى لبلدتها محملة بفشل التجربة الثانية في زواج، وترى باعين الحاقدين الشماتة، وتدخل الحسرة بقلوب أحبابها، ولكنها هدأت بعد ذلك، وقد ساهمت كلمات عزة بطمأنتها قليلًا.
فلهتها بمزاحها والحديث عنها وعن علاقتها بزوجها الصامت عن التفكير في مشكلتها، غطست بداخل الفراش تلمتس الدفء فالبرودة في جو الغرفة أصبحت تزداد مع اقتراب فصل الشتاء.
تلحفت بغطائها جيدًا وهمت بالنوم، فتناولت هاتفها تلقي نظرة سريعة على الصفحات والأخبار كعادة تلازمها طوال اليوم، لتجد هذا الإشعار الجديد.
ضغطت لترى هوية المرسل لتفاجأ وتتوسع عينيها بعدم تصديق، فركت على عينيها لترى الصورة التي تعرفها جيدًا، ودخلت للحساب لتجد نفس المعلومات، فتسارعت دقات قلبها، مع رجفة جديدة لا تعلم سببها، إن كان البرد أم هي رؤية هذا الشئ أمامها
ينتابها الشك ويقتُلها الفضول مع هذه الرسالة الغريبة والمبهمة، ظلت تحادث نفسها بالأسئلة عن صدق ما تراه أو الكذب، لتغلبها الحيرة الشديدة، فقامت بالرد لتفطع شكها باليقين مرسلة:
-من انت؟
وفي الناحية الأخرى تلقى الرسالة كهلال العيد بعد انتظار دام لساعات عاد بها رفيقه وتحدثا معًا حتى ارهقمها السهر، ليتخذ كل واحدًا منهما وضعه للحراسة في جهة بعيدة عن الأخر، وقد أثر هدوء الأجواء حولهم فجعل الصمت هو سيد الموقف في جميع الأنحاء.
حاول السيطرة على خفقان قلبه السريع ليلتقط أنفاس طويلة يهيئ نفسه قبل الرد بروية وهدوء، متلبسًا شخصية الطبيب فبعث لها:
-أنا الدكتور عزيز الذي استوقفتيه في الصباح يا ابتسام.
قرأتها لتكتم شهقة قوية كادت ان تصدر منها بصوت عالي وتفضحها في قلب المنطقة كلها، لتضغط بأنامل مرتجفة تريد معرفة المزيد والتأكد:
-وما الذي يثبت صحة كلماتك؟ فحسابك فارغ من الأصدقاء، ولا حتى نشطًا بالمنشورات العادية.
أرسل لها بالرسالة التي حضرها بعقله من البداية توقعًا لما سيدور برأسها:
-هذا حساب جديد يا ابتسام، فعلته أنا منذ قليل حتى أراسلك منه دون مراقبة من زوجتي .
رفرفرت بأهدابها لعدة لحظات تستوعب، وهي تعيد على قرائة الرسالة مرارًا وتكرارًا لفهمها والقصد من وراءها، ليُتبعها بواحدة أخرى طويلة يشرح لها باستفاضة:
– أرجو ألا تفهمي مغزى عبارتي بالخطأ، أو أن يذهبك ظنك للسوء، أنا كل ما أريده عزيزتي هو التحدث معك.
نعم أريد شخصًا نقيًا ببراءتك يستمع إلي وقد أسعدني حديثك العفوي معي في الصباح، بعيدًا عن الروتين والمسؤليات الكثيرة والملقاة على عاتقي، أنا مرهق ومستنزف واريد الراحة يا ابتسام.
-كلماته الخبيثة المقصودة ضغطت على عاطفتها التي تسوقها دائمًا فلغت عن عقلها التفكير السليم، لترد متأثرة بمشاجرتها مع زوجها:
-كلنا نبتغي الراحة ولا نجدها، لست وحدك.
كتم ابتسامة الإنتصار بكفه، يود الرقص او التنطيط على الأرض بأقدامه من الفرح، فمعنى اندماجها في الرد، أن الخدعة انطلت عليها وصدقت، قبض على قبضة كفه بقوة حتى يسطير على الرجفة التي تسير بداخله.
مجموعة من الإنفعالات المختلطة تفعل بعقله الأفاعيل، تماسك يذكر نفسه ليتلبس شخصية الطبيب من جديد برسالته:
-ولكني تعبت من الجري طوال اليوم في هذا السباق الذي لا ينتهي للحاق دائمًا بالقمة ومواكبة كل جديد.
لا أملك الرفاهية كي اتوقف، انا أريد الراحة ولا أجدها، هل لي أن أسألك ؟ إنت كنتٍ سعيدة مع عصام أم لا؟
أوقفها سؤاله الغريب، لتتطلع للشاشة لعدة لحظات بعجز لا تود الإجابة فقالت مغيرة دفة الحديث:
-ابعث لي صورة أخرى كي أتأكد من شخصيتك.
أجفلته بطلبها المفاجئ، اضطرب يبحث عن حجة مقنعة، فذاكرة هاتفه الجديد لا تحمل سوى هذه الصورة، أما بهاتفه القديم فهو يحمل الكثير من الصور المنفردة للطبيب والعائلية أيضًا، بحكم عمله معهم منذ سنوات طويلة، فرد يرسل إليها:
-يسعدني طلبك بالتأكيد، ولكني مضطر لأنهاء المكالمة الاَن، كنت اود استئذانك للعودة بمراستلك؟
صمتت قليلًا حتى تمكنت اَخيرًا من الرد:
-لا أمانع، كي يزداد تأكيدي.
هم لإنهاء المحادثة ولكنه استدرك سريعًا يبعث برسالة يذكرها:
– اود منكِ التكتم على محادثاتي معك ولا تخبري عنها أحد اَخر على الإطلاق، حتى لو كان أمام شقيقتك، تعلمي بوضعي الحساس جيدًا اليس كذلك؟
لم تعرف بما تجيبه فعقلها إلى الآن لا يستوعب أن يكون هو بالفعل الدكتور عزيز، وقد ذكر لها عن لقاءها به في الصباح، وهو يناديها بابتسام، وبأسم زوجها عصام.
بالإضافة لحديثه الرزين، والخالي من تفاهات الرجال في إرسال الورود وادعاء الرومانسية بالتدليل وكأنها على معرفة قديمة بهم، ولكنه كيف عرف بحسابها الذي أسسه لها عصام في بداية زواجه بها، أيام الدلال الاولى، قبل أن ينقلب ويظهر طبعه السئ معها.
وهذه الصفحة الفارغة الذي ادعى أنها صفحة جديدة أسسها خصيصًا لمراسالتها، أيعقل أن يكون هذا حقيقًا بالفعل، أن يكون الطبيب أعجب بها كما هي أعجبت به، لدرجة جعلته يبحث عن حسابها ويصنع حسابًا جديدًا لها خصيصًا؟
أما هو فقد أنهى المحادثة ليغمره شعور الإرتياح والبهجة وكأنه فاز باليانصب، بعد تمكنه اَخيرًا من وضع قدمه على بداية الطريق، يعلم جيدًا بصعوبة ما يود تحقيقه ويرسمه في خياله.
ولكن يكفيه المحاولة الاَن بالتحدث إليها، وقد يسعده الحظ في الوصول، لا شئ مستبعد مدامت الحيلة موجودة، لقد وضع اقدامه على بداية الطريق للتعارف معها، حتى لو كان بشخصية غير شخصيته فلا يمانع، فالأهم هو التواصل معها.
انتفض فجأة على نداء رفيقه من خلفه:
-عمران يا عمران.
نهض سريعًا بارتياح حاول السيطرة عليه، والرد بلهجة تبدو عادية وهو يخطوا ليقترب منه :
-لماذا النداء يا عصام؟ وماذا تريد؟
نهض إليه هو الاَخر يرد بعدم انتباه لانشغاله بالهاتف الذي لا يكف عن الإتصال به:
-كنت اهم بإعداد كوبٍ ساخن من الشاي، إن أحببت أفعل لك أيضًا.
ألقى عمران نظرة بتساؤل على الهاتف الذي بيد رفيقه، قبل أن يجيبه:
-انا فعلًا اريد الشعور بشئ ساخن على كفي البار، كما يأن رأسي ليعتدل بفعول الشاي، أستطيع الفعل بنفسي لي ولك أن كنت مشغولًا.
اعترض برأسه عصام ليترك الهاتف على حاله متجهًا نحو النار المشتعلة في الأسفل ليُعد الشاي بتصميم، تطلع أليه عمران بنظرات متشككة ورأسه يخمن أن رفيقه يتهرب من امرأة أخرى تلاحقه، ليسب بداخله هذا المحظوظ بجمال خلقته التي تجذب إليه النساء بدون مجهود.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ما بين العشق والهوس)