روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والرابع والثلاثون 134 بقلم شمس محمد

موقع كتابك في سطور

رواية غوثهم الفصل المائة والرابع والثلاثون 134 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والرابع والثلاثون

رواية غوثهم البارت المائة والرابع والثلاثون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والرابعة والثلاثون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل التاسع والأربعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
‏يَارَبِّ مَاعِدتُّ أَرْجُو غَيْرَ وَاحِدَةٍ
رَضَاكَ عَنِّي وَعَفْوٌ مَنْكَ يَسْتُرُنِي
إِذَا ذَكَرْتُكَ جَاوَزْتُ السَّمَا شَرَفاً
فَكَيْفَ إِنْ كُنْتَ فَوْقَ العَرْشِ تَذْكُرُنِي؟
‏يَارَبِّ مَاعِدتُّ أَرْجُو غَيْرَ وَاحِدَةٍ
رَضَاكَ عَنِّي وَعَفْوٌ مَنْكَ يَسْتُرُنِي
فأنتَ المغيثُ لِمَن مَاتَت عزائمهُ
‏أنتَ الرَّحِيم بِمَنْ قَدْ هَدّهُ التعبُ
وروحي يا الله تُتعبنِي.
_”مُقتبس”
__________________________________
ولكنني لما أدركتُ أنكَ راحلٌ علمت أن وطني يُغربني عنه،
أنا هُنا في غِيابك أشعر بالغُربة وأرغب بالعودة؛ عودة للديار وعناق أمي وصوت منزلي الدافيء، وعلى الرغم أنني أحظى بكل ذلك لكن وقت غيابك أشعر حقًا بالغُربة ومالي من دون عينيكِ أُلفة، أنا الجاهل الذي أصبح من بعد قراءته لعينيك فصيحًا، ومن بعد زُهده في الدنيا وقع في هواكِ طريحًا، كأنكِ أنتِ الدُنيا لكنكِ دُنيا تُحيي المرء وكان الضوء فيكِ صريحًا، ولما وجدتُكِ وجدتُ نفسي التائهة مني، وتلاقيت بالروح الغائبة عني، وبدون مُبالغةٍ وبكل إنصافٍ وجدُتني أنا كُلي معك وكأن نفسي الضائعة كانت في موضعك، ولقلبك وجهت حديثي وأنتظرت منه الجواب منكِ لكي أسمعك، فلما كُنتُ غائبًا عني في الروح كنتَ حاضرًا، فلا أريد منك هجرًا، بل أريدك لي من الزمانِ واصلًا، فمنذ مجيئك صالحت أيامي وصفيتُ لزماني بعدما كُنتُ عليه عاتبًا، ولما صفيتُ بقلبي رأيتُ ما كان لي من الدنيا خِلًا وظِلًا وبِتُ به حالمًا، فالحمدلله ألف مرة أنكِ لي ربيعٌ من بعد كل مُرة، الحمدلله أنني يوم صَفيت أنتِ من بين العالم من رأيت، سبحانه ربي شاء وقدر للقلب أن يرى بعينيه سحرًا جميلًا، والقلب قد أبصر بعدما كان ضريرًا، وسبحانه ربي شاء بالمُلتقىٰ يوم أن اخترت من سُبلكِ لي طريقًا..
<“رُبما فقدت القُدرة على الحديث، لكن قلبي يتألم”>
نحنُ الجاهلون في تلك الحياة لازِلنا نسير بعمىٰ ونجهل كل ما هو قادمٌ علينا، فتلك الحياة لازالت تخفي في جبعتها الكثير والكثير ونحن كما الأوجه نتلقى منها الصفعات فقط، فهي دومًا تُعطينا المزيد ونحن في الإنتظار وكأن ما يأتينا منها هو نُقطة من بحرٍ أخفته هي ببراعةٍ عنَّا وفي النهاية سبب الغرق يكون مِنَّا.
_وإن قولت لأ؟.
اندفع “مُـنذر” بتلك الجُملة بغير تفكيرٍ بل أراد أن يُعبر عن احتجاجه واعتراضه في وجه الآخر المُبتسم باستفزازٍ كعادته الباردة التي تتنافى مع أصوله البربرية، بينما “ماكسيم” فحول بسمته إلى ضحكات واسعة وصوته يُجلجل ويشق سكون الليل ثم أضاف ما وأد ثباته بقوله الخبيث:
_بسيطة هروح للحج “نَـعيم” وأقوله إنك مجرد واحد نصاب وترجع من تاني للشارع بس المرة دي هتبقى كبش فِدا.
تبدلت ملامح “مُـنذر” في لحظتها وبُهتَ وجهه وكأن الدماء أنسحبت منه وأحتدت نظراته شرًا وحقدًا تجاه الآخر بنقمٍ وبعد صراعٍ دام بين النظرات تحدث “مُـنذر” بتهكمٍ يُقلل من الآخر:
_هتروح تقوله إيه بقى؟ هتقوله أنا كنت بربي في ابن أخوك وبسقيه الغل من ناحيتك علشان ييجي يخلص عليك ويقتلك وكدا يبقى خد بتار أبوه الـ**** اللي رماه للناس وحكم بقتله؟ أنتَ مصدق نفسك؟ ولا مصدق حتى إني لسه عندي ولاء ليك؟ كلامك دا أنا كنت مصدقه وأنتَ بتقولي إن سبب وجودي معاكم هو “نَـعيم الحُصري” اللي بيتاجر في العيال ويبيعهم، إنما لما “فيلين” قالي الحقيقة قبل ما يموت وأداني الدليل، أنا غيرت الخطة وأنتَ عارفني مبغيرش حاجة غير لو متأكد إني مش هبدلها تاني.
أخفىٰ غيظه ببراعةٍ خلف أسوار كلماته الجامدة بينما الآخر فازداد بروده أكثر فوق ملامحه الوسيمة التي لا تَنُم أن هذا الوجه البريء قد يخفي كل هذا الشر بداخله ونطق بنفس التهكم يُحاكِ طريقة الآخر في الكلام:
_براڤو، أنا بجد مبهور، بس لأ يا سيدي أنا هقوله إنك قتال قُتلىٰ وإنك هنا علشان تفتحلنا الأبـواب لحد ما نفتح ونوصل للمعبد اللي مليان آثار تحت الأرض، وإنك هنا علشان تنتقم وتخلص عليه مش أكتر، والحج “نَـعيم” كبير النزلة كلها لما يعرف أكيد هيشك فيك وأنتَ عارف الباقي “مُـنذر”.
لأول مرةٍ يخشى من شيءٍ يَهز صورته أمام عمه، حتى لو لم يفعل أي شيءٍ من هذا القبيل لكن المؤكد أن هذا الحديث يكفي لزعزعة صورته بعدما وجد نفسه مقبولًا في عينيْ عمه أخيرًا، بينما غريمه فاقترب منه بتروٍ حتى بات في مواجهته بشكلٍ مباشرٍ وأفصح عما ينتويه:
_”مُـنذر”.. أنا عارفك وفاهمك وأنا اللي مربيك ومختارك تكون قائد جيشي من بعدي، وعارف إن عمك لو بس شك فيك أنتَ هتتحول عليهم كلهم وهتقلبها جحيم، تفتكر لو عمك نظرته اتغيرت ليك دا مش هيغير فيك حاجة؟ بالعكس أنتَ هتمشي وتسيبه وترجع ليا من تاني لأنك في كل الأحوال تبعي أنا وولاءك ليا أنا، “نَـعيم” هيصدق عليك أي حاجة تتقال لأنه ببساطة مش واثق فيك أنتَ مين، مجرد واحد ابن ليل وعصابات مالكش أصل عنده، ومش بعيد يطردك من بيته.
عاد من جديد لمخاوفه فهو لم يتوقع رد فعل عمه تجاهه، فنعم هو يحبه لكن المؤكد أنه سوف يصدق أي حديثٍ يُقال عنه لطالما وُجِد الدليل ومن المؤكد أيضًا أن ذاك البغيض يحمل الأدلةِ معه، شعر بالضيق يُخيم على صدره وكأن الضلوع لم تسعه، حقًا أراد أن يبكي وكأن الأرض بأكملها بكل ثُقلها تكالبت عليه كما العدو لتُبكيه، خشى أن يصدر أي فعلٍ حتى وجد كتفه يُطوق من الخلف وكأن هناك حصنٌ منيع يحميه وعقب ذلك صوت “إيـهاب” القوي:
_خير يا خواجة؟ فيه حاجة ضايعة منك؟.
تبدلت ملامح “مُـنذر” في نفس اللحظة ووزع نظراته بينهما وخشى أن يكون موضعًا للإتهام بينما الآخر فقال بتلذذٍ وهو يزرع الشك بينهما:
_بتطمن على تلميذي المفضل شايف شغله وسطكم ولا لأ.
رفع “إيـهاب” كلا حاجبيه بسخريةٍ ثم التفت لرفيقه يسأله بنفس السخريةِ التي كللها التهكم الواضح في نظراته ومغزى كلماته:
_جرى إيه يا “مُـنذر”؟ مش شايف شغلك كويس ليه؟ كدا تزعل الراجل الكُبرة دا مننا كدا؟ يقول علينا إيه دلوقتي؟ ناس متربية مبنعملش حاجة عيب؟ عاوز توسخ سُمعتنا؟.
سكت “مُـنذر” ولم يجاوبه بينما “إيـهاب” تبدلت نظراته لأخرى مُستاءة حتى من مجرد النظر في وجه الماثل أمامه ثم نطق بضجرٍ كأن طاقته نفذت كُليًا:
_اللي كان تلميذك رجع لحضن عمه وأخواته من تاني، فشغل اليهود بتاعك دا ودس القرف بين الناس مش هياكل معايا، وإذا كنت ناوي تكمل هنا قعدتك يبقى بأدب تتفرج وبس، عامةً مصر منورة بأهلها مش هجاملك وأقولك منورة بيك، تتفرج وبس، لكن تمد إيدك على حاجة هنا صدقني هتزعل أوي مني، بس أنا عاذر مشاعرك برضه، يعيني ناس ملهمش حضارة ولا أصل طبيعي ينبهر بالحاجة اللي عمره ما كان عنده زيها.
هو أيضًا لم يكن بهينٍ، فهو يعلم دومًا مربط الفرس بأرض عدوه ويعلم كيف يجعل ساحة القتال تُدار بقيادته هو، هو الآن يُجيد ضرب عدوه بكلماتٍ أنطلقت كما السهم من فاهه، حتى ابتسم الآخر وجاوبه مُتشدقًا بنزقٍ:
_وماله، منورة بأهلها يا “عمهم”.
رمىٰ جُملته ثم التفت بنيرانٍ سكنته حقدًا وغِلًا على أشياءٍ لم يملكها بل يسعى لها بكامل طاقته، أشياءٌ حُرِم منها هو وأمثاله وعائلتهم وهو يصول ويجول في البُلدان ليقتنص ما لم يكن له بيومٍ من الأيام، أتعلم أن فقد المرء لشيءٍ يتمتع به غيره ويرفع من قدره قد يدفعه نحو إحراقه حيًا لكي تُضاهي تلك النيران نيرانه الموقدة بداخله؟.
وقف “مُـنذر” مشدوهًا وهو يرى إنسحاب “ماكسيم” من أمامهما بينما “إيـهاب” فزفر بقوةٍ ثم التفت للآخر فوجده يسأله بقلقٍ وخوفٍ لأول مرة يظهرا عليه ويُبدي خوفه لأجل نظرة أحدهم عليه:
_أنتَ مصدق إني ممكن أكون معاه لسه؟.
توضحه “إيـهاب” بعينيه ليقرأ الخوف في نظراته وكأنه يتشبث بآخر آماله وكأنه يخشى أن يكون ذليلًا بينهم، فنطق بثباتٍ وصرامةٍ أوضحتها كلماته:
_يوم ما هشك في نفسي أو حتى في “إسماعيل” أخويا أعرف إني برضه هشك فيك أنتَ كمان، بلاش خيابة أومال.
بكلماتٍ قليلة شابه همة رجلٍ أزاح جبلًا من الحجر من فوق صدر أحدهم ليعيد له أنفاسه المسلوبة منه، ووقتها ضمه “إيـهاب” وفرض هيمنته وحمايته على ذاك الصغير الذي تجددت مخاوفه مرة ثانية لكنه انتبه لتوهِ فعاد برأسه للخلف يسأله باهتمامٍ:
_أنتَ عرفت منين إني قابلته؟ أنتَ بتراقبني؟.
_أيوة مراقبك ومخلي واحد يتابعك هنا زي ما بيتابع “إسماعيل” ويقولي أخباره وكل حاجة عنك وعنه، علشان أنا واثق إني لو هتغفل هتغفل في واحد فيكم أنتوا الاتنين، وأنا من بعد اللي عملته في مدير الملجأ كان لازم آمنك منهم.
كان هذا حديثه الذي جعل “مُـنذر” يهدأ قليلًا عن السابق واستأنف العودة للبيت لكي يرى “چـودي” ويجلس معها وهو يُجدد طاقته برفقتها، معها يتناسى العالم بأكمله ويرى بعينيها أشياءً غابت عنه لم يعهدها في السابق لذا أسرع الخُطى برفقة “إيـهاب” الذي توجه نحو شقته بينما هو فولج يبحث عنها فوجد “تـحية” تخبره بحزنٍ:
_لو بتدور عليها هي مشيت.
التفت لها يهتف مُستنكرًا بدهشةٍ جلية فوق ملامحه:
_مشيت؟ مشيت راحت فين؟.
اقتربت منه الخطوات الفاصلة وفسرت حديثها السابق بقولها:
_راحت مع خالها خلاص، “نـور” و “سـراج” كانوا هنا وخدوها ومشيوا وهي سابتلك ورقة معايا علشان كانت عاوزة تسلم عليك بس ملحقيتش، الورقة أهيه اتفضل.
التقط منها الورقة بتروٍ بالغٍ نتج عن خوفه ثم فتحها ليجدها رسمت دراجة بخارية باللون الأسود كما علمها هو وفوقها جلس شابٌ وأمامه فتاة صغيرة ثم رسمت قلبًا كبير الحجم ووضعت بداخله اسمه واسمها وكتبت أسفله تخبره عن حبها له بخطٍ غير منمقٍ:
_بحبك يا “مُـنذر” وخلي بالك من الموتوسيكل ومتسوقش بسرعة لوحدك، i love you.
ترقرق الدمع في عينيه على إثر فعلتها البسيطة تلك وأراد أن يحتضنها في الحال لكنه تذكر أنها ليست من حقه هي الأخرى وأن هناك من يحبها، كان يتوجب عليه أن لا يتعلق بها لتلك الدرجة حتى لا يحزن برحيلها، لقد أتخذ من تواجدها في هذا البيت مأوىٰ له وترك الطفل المحبوس بداخله يتحرر معها هي وفقط، تدرب على الإنسانية معها وهو الذي لم يعهد إلا القسوة والوحشية والقتل..
ولج غرفته بحزنٍ وهو يقبض على الورقة بكفه وقد تهدلا كتفاه بخيبة أملٍ ثم جلس على طرف الفراش وهو يرى نقطة الصفر تُرحب به وتفتح له الأبواب على مصراعيها ليغرق بها ويغوص في عُمقها، ومن ثم ترك العنان لعبراته تتسابق فوق وجنتيه، تلك المرة لم يمنع نفسه من البكاء فيكفيه لهذا الحد، تلك المرة اتخذ من رحيلها حُجة قوية للبكاء وفي الخلف كان هناك رُكامًا من الأوجاع يشبه البركان الذي كان على وشك الإنفجار.
__________________________________
<“لأجلك نفعل أي شيءٍ حتى التضحية بكل شيءٍ”>
لأجل من نُحب قد نفعل أي شيءٍ حتى لو تطلب الأمر أن نترك لأجلهم كل شيءٍ، ففي تلك اللحظات القلوب هي من تقود والعقول تؤيد والجسد يُنفذ لأجل من نُحب، نحنُ هنا نموت ألف مرة لكننا نحيا مرة، وتلك المرة التي نحياها تكون لحظة الأمان الذي يحاوط أحبائنا، فيا أحباء نحن لأجلكم أتينا هُنا وأنتم كونوا لأجلنا..
الأمان كلمة من عدة حروف عُمقها بقدر حياةٍ تُهدي للمرء من الآخرين، فهنا فوق الفراش استقر “يـوسف” برأسه فوق صدر “أيـوب” الذي قرأ له القرآن الكريم بصوته العذب حتى نام كلاهما بجوار الآخر مُتشبثًا في عناقه، وقد ولج “أيـهم” الغرفة يحمل الطعام فوق الحامل وخلفه “قـمر” تحمل البقية لكنها لاحظت توقفه فتبعته لتجحظ عيناها بذهولٍ، أما “أيـهم” فالتفت لها يمازحها بقوله:
_شكلك طرف تالت في العلاقة دي، عارف أنا الإحساس النتن دا ومجربه، بس أنا مقبولة شوية بصراحة، إيه المنظر دا؟.
فرغ فاهها بتيهٍ وردت عليه بصوتٍ ضائعٍ بعدما وقعت تحت أثر الدهشة:
_هو أنا طلبت منهم فعلًا يكونوا مع بعض بس مش للدرجة دي لأ، دا أنا متحضنتش الحضن دا من واحد فيهم حتى.
افتر ثغره ببسمةٍ ساخرة ورفع كلا حاجبيه يسألها بسخريةٍ:
_دا كل اللي شاغلك؟ يعني دا اللي مزعلك بس؟.
ضحكت رغمًا عنها أمامه بينما “أيـهم” وضع الطعام ثم اقترب يوقظهما بهدوء حتى بانت إمارات الإيقاظ عليهما فهمهم أحدهما بألمٍ والآخر انزعج من الضوء فرفرف بأهدابه حتى أيقن أين هو، فوجد نفسه في عناق “أيـوب” الذي أخفض رأسه له وسأله بصوتٍ مُحشرجٍ:
_أنتَ نايم في حُضني؟ أنتَ خدت عليا بزيادة أوي.
ردود الأفعال كانت تتمحور في إطار السخريةِ والمزاح وقد أخفى “يـوسف” إحراجه واعتدل فوق الفراش لكي يرحل من هنا فوجد “أيـهم” يمنعه بصلدةٍ ونطق بقوةٍ يوقفه:
_رايح فين أنتَ؟ أقعد علشان تاكل معاه الأكل معمول ليكم أنتوا الاتنين سوا، وأختك أنا مأكلها تحت مع مراتي وأختي، يعني مالكش حجة هنا، يلا يا “قـمر” أكليهم وأنا هنزل أجيب ليهم عصير وفاكهة خليهم يشدوا حيلهم قبل الفرح النحس دا.
دفع “يـوسف” بخفةٍ فوق الأريكة وعاون شقيقه الذي امتلأ جسده بالجروح الكثيرة والكدمات أيضًا ليجلس فوق الأريكة ثم رفع قدمه المجروحة فوق المقعد الصغير وجعل جلسته أكثر راحةً، وقد عاونته “قـمر” في ذلك ثم أتت بطبقٍ كبير الحجم ومنشفة قماشية لكي يقوما بغسل وجهيهما وعاونت هي الاثنين ثم قدمت لهما الطعام بنفسٍ راضية بغير تعبٍ بعدما أصرت هي أن تتولى هذه المُهمة.
ابتسمت لهما وهي تُطعم “أيـوب” بسبب كفه المُصاب وعجزه عن إمساك الملعقة بينما شقيقها فعاونته في تقطيع اللحم حتى يسهل عليه تناوله بسبب إصابة كتفه الأيسر، كانت كما الأم ترعى صغارًا بينما “أيـوب” فشرد بها وهي مبتسمة الوجه فوجد ومضات تأتي من الماضي تحمل صورة أمه وهي تُطعمه في صغره إبان مرضه فضحك مُرغمًا لها حينما تذكر “رُقـية” التي كانت تشببها في تفانيها وفي كل شيءٍ.
أما عن “يـوسف” فشرد في شقيقته التي توزع الإهتمام عليهما بشكلٍ متساوٍ وكأنها أنقسمت بينهما، فتعجب منها ومما تفعل، بل وتعجب أيضًا من كل شيءٍ حوله تسبب في حرمانه منها، فمن المؤكد لو كانت معه كان كل شيءٍ اختلف مما هو عليه، أقل مافي الأمر لكان طبيعيًا بدون اضطرابات وبغير وجعٍ نفسي يعاني منه الجميع قبله.
في الأسفل تناول “عبدالقادر” الطعام برفقة الجميع ومعهم “تَـيام” أيضًا الذي لم يفارقهم بل كان كما أفراد العائلة ولم يُقصر في أي شيءٍ حتى حق زوجته ورعايتها، البيت غمرته حالة من السلام التام وعادت الضحكات لهم تستقر فوق الأوجه بعد تناول الطعام وهم يتشاورون في عدة أشياءٍ مختلفة، فأمر ابنه بثباتٍ:
_عاوزك تخرج مبلغ لله وأتفق مع المطعم اللي أول الطريق الناحية التانية خليه يحضر وجبات ووزعها يا “أيـهم” واتأكد إن الزكاة تخرج في وقتها وتوصل، حقوق العباد بلاش تقصر فيها يابني، ربنا يحرسكم ويحفظكم ويرعاكم ليا.
أومأ له “أيـهم” ثم التفت يبحث عن ابنه فوجده يتحدث في الهاتف بسعادةٍ ظهرت في ملامحه وهو يتحدث وبعد مرور ثوانٍ أغلق الهاتف ثم ركض لأبيه يحدثه بحماسٍ:
_”أبانوب” جاي الحارة وهيقعد يومين هنا في شقة “بـيشوي” وهيقضي اليومين دول معايا هنا في الحارة، أقسم بالله ما هقعدلكم في البيت اليومين دول.
كاد أن يركض لكن “أيـهم” مد ذراعه والتقطه من ثيابه حتى أعاده من جديد في مواجهته وقال بسخريةٍ تهكمية:
_هو أنتَ بتقعد أصلًا علشان تحلف عليا؟ طب يمين فوق يمينك هتخرج بمزاجي أنا وبس، علشان تحلف عليا كويس.
دفع كف والده عن ثيابه ثم قال بضجرٍ:
_جدو قاعد وهو بس اللي ينفع يقول علشان هو الكبير هنا، لو وافق هسمع كلامه لو موافقش برضه هسمع كلامه هو، بس مش هسمع كلامك أنتَ.
تعجب والده من طريقته وكاد أن ينفعل بينما أشار له جده فركض يستقر بين ذراعيه وهو يُغمض عينيه بأهدابه الكثيفة فمسح جده فوق ظهره وقال بثباتٍ:
_أنا جدك وبحبك بس هو باباك ومينفعش متسمعش كلامه وأنا لو دلعتك وخليتك متسمعش كلامه يبقى أنا مش كويس، روح يلا قوله أنا آسف وبوسه علشان هو بيحبك ومينفش تقوله كدا حتى علشان لو حد شافك هيقولك عيب وممكن تتعود بعد كدا تكلمه بطريقة مش كويسة.
أومأ موافقًا ثم تحرك نحو والده واقترب يُلثم جبينه ثم ألقى بنفسه عليه وقال يمازحه بمرحٍ:
_متزعلش مني يا بابا، أنا كنت بهزر والله.
ضمه بقلة حيلة ثم قال بهدوء وهو يُربت فوق ظهره:
_مش زعلان منك خلاص، حصل خير.
في الداخل أنسحبت “نِـهال” من المطبخ بعدما عاونت “وداد” فيه وفي الأشياء التي احتاجت تواجدها معها وتركت “آيـات” بمفردها حتى انسحبت الأخرىٰ نحو غرفتها وما إن فتحتها تفاجأت بزوجها ينام فوق فراشها وسُرعان ما أيقنت أن الأمر تطور لهذا الحد فأغلقت الباب وأقتربت من الفراش لتجده يضحك عليها وسألها بسخريةٍ:
_أنتِ مالك مخضوضة كدا ليه؟.
حركت كتفيها ثم جاورته وهي تقول بصوتٍ رقيقٍ ظهر به أثر ضحكاتها:
_هو بصراحة لما دخلت ولقيتك نايم استغربت شوية وهنجت ثانيتين بعدها افتكرت يعني إني بقيت مراتك وكدا فلقطت بسرعة بقى، بس منور الأوضة، إيه رأيك فيها؟.
جاب الغرفة بعينيه يتوضحها أكثر ثم أومأ لها موافقًا بمعنى أنها أعجبته ثم قال بنبرةٍ هادئة بعدما عاد لها بنظراتهِ:
_حلوة زي صاحبتها ورقيقة زيها برضه، المهم علشان بس قولت أعرفك أنا هروح أبات عند ماما النهاردة، هي كلمتني وقالتلي أروحلها وعلشان تكونوا على راحتكم كلكم، يعني مرات “أيـوب” ومرات “أيـهم” هنا بيتحركوا، وبكرة هصحى وأروح لبابا بس مش هطلع شقتنا من غيرك، وخليكِ براحتك معاهم هنا لحد ما أخوكِ يفوق وتطمني عليه.
رأت هي أنه يفعل لأجلها كل شيءٍ ويضغط على نفسه وطاقته لذا ضحكت له ثم رفعت جسدها تُلثم وجنته وقالت تمازحه بدلالٍ أصبح يعشق ظهوره منها:
_افتح دراعاتك.
فرق ذراعيه عن بعضهما ثم ضمها له ولثم رأسها وهو يُربت فوق كتفها، يعلم أن عودته للبيت من دونها يشبه أمرًا من السخافات ورُبما هو لم يعتاد على الأماكن بدونها لكنه لأجلها سيفعل أي شيءٍ، فحتى لو تطلب هي منه أن يتركها هنا، هي تحتاج للبقاء مع شقيقها لكي تطمئن عليه.
في الخارج تحرك “أيـهم” نحو شقته مباشرةً فوجدها تتحدث بالهاتف مع شقيقتها وهي تقول بعدما تأوهت بألمٍ:
_ضهري خلاص مش قادرة، بيوجعني أوي.
حدثتها الأخرىٰ بحنقٍ وهي تقول:
_ما قولتلك تعالي أقعدي معايا هنا وسيبك من المدعكة اللي عندك دي، أنا اتعلمت لما ألاقيهم في بيت حماتي عندهم حاجة بخلع منهم وأسيبها تضرب تقلب لحد ما يتظبطوا كدا وكلهم يعملوا، تعالي وخلاص وقوليلهم أختي عند ماما.
جاوبتها “نِـهال” بضجرٍ ونفاذ صبرٍ منها ومنهم:
_طب وهي عيلة جوزك دي يا شيخة تتعاشر؟ دي حماتك لوحدها اللهم أحفظنا ست تتفاتلها بلاد مخضرة، بعدين مينفعش أقل بأصلي معاهم برضه، دي مش أصول يا “نـوال” وهما هنا شايلني على كفوف الراحة ومش مخلييني محتاجة حاجة، أظن أنتِ عارفة قبلهم حصلي إيه وعيشت مع ناس عاملة إزاي، يبقى أنا بقى أقل معاهم؟ بعدين علشان خاطر “أيـهم” مش هينفع حتى أخلى حد يقوله مراتك فين، رغم أن محدش فيهم بيتكلم.
وقف خلفها يشعر بالفخر منها، وجد البسمة تشق وجهه وكأنها ألوانٌ تُضاف فوق لوحة باهتة تُضفي لها زهوة خاصة تسرق نظرات كل من تتحرك عينيه صوبها، وحتى قبل أن يُخضعه عقله لمقارنةٍ بينها وبين الأخرىٰ هرب هو من تلك المُقارنة ثم اقترب منها يُحمحم حتى تنتبه لتواجده فأغلقت مع شقيقتها وسألته بعينيها عن سبب قدومه فقال هو بثباتٍ:
_وحشتيني قولت أطلع أطل طلة عليكِ، كويسة؟.
أومأت بتيهٍ له وهي تشعر بالغرابةِ مما يفعل فوجدته يقترب أكثر ثم ضمها هو بصمتٍ بعدما فشل في النطق والتعبير عما يشعر به نحوها، تلك اللحظة أراد أن يوثقها لها فضمها بين ذراعيه بصمتٍ فقط ثم مسح فوق ظهرها حتى استقرت هي بين ذراعيه بصمتٍ ولم تتحدث لكنها شعرت بنبضات قلبه الثائرة كأنه أرسل حديثه لها عبر تلك النبضات ثم نطق أخيرًا ببحةٍ قوية من صوته الرخيم:
_شكرًا إنك مخلياني رافع راسي قدام نفسي علشان اخترتك.
تأثرت هي من جملته وابتسمت بين ذراعيه وكأنها تود اخباره أن المشاعر بينهما متبادلة، أرادت أن تخبره بالكثيؤ والكثير لكنها اكتفت بالصمت والبقاء بين ذراعيه في أمانٍ كانت تفتقده في غيابه، لقد نست الماضي المؤلم والحياة التعيسة وأملها الذي كانت تسعى إليه ورضت بتلك الحياة التي تعيشها معه ومع ابنها صاحب القلب المُنير.
__________________________________
<“لا تنخدع بصمتي، فأنا في المعتاد أتحدث مع ذاتي”>
في الوجه العام ومُطلقًا لا يُجيد المرء فعلًا غير المُعاتبة، فنحن نُعاتب كل من حولنا إلا نفسنا، فتجد المرء للفرصِ مضياعًا بجدارةٍ ويوم أن يُعاتب، يُعاتب الزمن، فلا تنخدع بصمت من لا يُعاتب فيكفيه نيران مُعاتبته لنفسه وكلامه منه الذي يؤذيه.
أطمئن “نَـعيم” على ابنه الكبير وعلى “يـوسف” و “أيـوب” ثم أغلق الهاتف ووضعه فوق المكتب فوجد المشاكس الصغير يدخل له مبتسم الوجه ببشاشةٍ ووقتها ابتسم هو له ومازحه بقوله ساخرًا:
_خير يا “حوكشة” تعالى.
ولج له “إسماعيل” مبتسم الوجه وجلس في مواجهته والفضول يبزغ من عينيه كما يبزغ الفجر من بعد الظلام، وقد أكد نظراته بقوله ملهوفًا:
_الفضول بياكلني، أنتَ إزاي موافق إن “مُـحي” يروح معاها، إحنا عمالين نجره ناحيتنا، وأنتَ تقوله روح؟ بعدين “إيـهاب” لو عرف مش هيرضى يخليه يروح، إحنا ما صدقنا يبطل سهر وصياعة شوية مش عاوزينه يرجع تاني ويمكن المرة دي يكون أصعب من الأول.
تنهد “نَـعيم” وانفرجت شفتاه ببسمةٍ هادئة ثم تقدم للأمام يُشبك كلا كفيه معًا وقال بثباتٍ ووقارٍ بلهجةٍ استفهامية:
_مش أنتَ خَيال وبتفهم؟ لما بيكون عندنا خيل حارن وراسه ناشفة ومصمم يجري وهو تعبان بنعمل إيه وهو بعدها بيعمل إيه؟.
عقد حاجبيه وجعد جبينه أثناء الجواب بقوله:
_بنفتحله الساحة ونخليه يجري وهو مطلوق فيها ولما بيتعب بيقف لوحده أو بيهدا مع الخيال ويرجع تاني، ولو مش تعبان وحارن وعاوز يجري بنسيبه ونسيب وراه الخيال لحد ما يقدر يوقفه ويتحكم في عناده.
ما إن أتاه الجواب المرغوب افتر ثُغره ببسمةٍ طفيفة ثم عاد للخلف يستقر فوق المقعد وهو يرد عليه بِحُجةٍ أقوى:
_بالظبط كدا، أنا عارف ابني كويس وفاهمه زي نفسه وأكتر، عامل زي الخيل الحارن علطول، لو رفضت طلبه عناده يزيد ويقاوح أكتر، فاكر “عـنتر” أول ما “إيـهاب” جه يراوضه حصل إيه؟ حرن وعند معاه ولما “إيـهاب” عند هو كمان “عنتر” رفع رجليه وضربه في ضلوعه والاتنين اتأذوا ساعتها، أهو “مُـحي” كدا بالظبط، لو كنت قولت قدامها لأ كان هيعاند ويقولك طب هروح، أو على الأقل يخرج من البيت يسهر تاني، بس أنا فاهمه.
_فاهم إيه؟ هو دا حد عمره فهم دماغه؟ دا مثرثر.
كان هذا رد “إسماعيل” بسخريةٍ على حديث مُعلمه وأبيه فضحك الآخر له مُرغمًا وعنوةً عن شفتيه ثم أطلق زفيرًا قويًا وقال:
_فاهم إن اللي يعيش وسط الرجالة هنا لمدة سنة بيبعد فيهم عن العربدة اللي كان عايش فيها ويعتمد على نفسه ويذاكر ويشتغل ويعتمد عليه مش هيقبل أبدًا النظرة دي تقل درجة، وهتشوف بنفسك هيروح وهيقعد هناك بس مستحيل يرتاح أو يتسبط وسطهم، فأنا هسيبه يروح زي ما بسيب الخيل الحارن، بس كدا كدا مفاتيحه معايا وفاهمه.
تفهم “إسماعيل” حديثه وتأكد أنه دومًا على صوابٍ وقد صدح صوت هاتفه برقمها فضحك باتساعٍ ثم ودع “نَـعيم” وولج غرفته مُبتسمًا ليجدها أرسلت له وعاءً من الأرز الناضج الذي قامت هي بتسويته ولأول مرةٍ لم يفسد منها وقد أرفقت له الصورة برسالةٍ صوتية مفداها:
_أول مرة أعمل رز وميتحرقش وميعجنش مني، أنتَ في أمان معايا خلاص يا “سُـمعة” يا أنا يا الأندومي في بيتنا بعد كدا، أنا عملت رز ومباظش، أنا فرحانة أوي والله، محتاجة أوثقها دي في الشهر العقاري، علشان تبقى أول دور ليا في عمارة طبيخي.
ضحك هو بصوتٍ عالٍ ثم فتح الحديث معه بعدما اتكأ على الفراش وظل يستمع لثرثرتها بصدرٍ رحب وهي تخبره مكونات صنع الأرز بطريقةٍ صحيحة دون أن يخفق منها، ثم أخبرته عن كل شيءٍ حولها وكأنها تبحث عن مواضيعٍ شتىٰ تفتحها معه لكي لا يُغلق المكالمة وهو معها يُقسم أنه تعافى من كل شيءٍ في حياته قبل مجيئها.
في الخارج على الطريق بداخل سيارة “إيـهاب” جلست “سمارة” ترشقه بنظراتٍ مُحتدة وهي تتذكر موقفه معها قبل قليل بعدما ارتدت ثيابها لكي تخرج معه وتنزه نفسها وتهرب من زخم أفكارها بسبب الحمل واضطراب الهرمونات لديها وهي تتأرجح بين بالٍ رائق وبين مزاجٍ مُغبر، فوجدته يعتذر منها بقوله:
_ينفع أنزل نص ساعة بس وأرجع؟ وأوعدك والله هننزل بجد، أنا طالما بوعد بوفي وعمري خليت بوعد معاكِ، بس لازم أنزل علشان ألحق الدنيا قبل ما تتعك فوق دماغي.
اتقدت عيناها بشرٍ ثم قالت بتوعدٍ لم يخفَ عليه:
_لو الساعة تلاتة الفجر هننزل برضه، علشان دي مش عيشة، أنتَ جوز مين فينا؟ سايبني بكلم نفسي هنا، اللي مصبرني عليك إن كلها شهرين وأخلف، وساعتها وريني مين هيهتم بيك، صبرك عليا يا ابن “دهـب”.
رفع حاجبيه بسخريةٍ ثم لثم جبينها ورحل بخطواتٍ واسعة جعلته تضيق جفونها بشكٍ وريبةٍ ثم نطقت بتهكمٍ:
_راجل وغد بصحيح، قال ابن “دهـب” قال، دي تلاقي أمك دي سـت فالصو علشان تربي وغد زيك، بس عسل ابن “دهـب” ويتاكل من حلاوته.
ضحكت في السيارة ما إن تذكرت حديثها حتى انتبه هو لها ثم سألها بسخريةٍ ما إن وجدها تضحك بمفردها:
_أنتِ عبيطة؟ بتضحكي مع نفسك يا “سمارة”؟.
حركت رأسها نفيًا ثم أخبرته بما تذكرت وضحكت عليه بكل صراحةٍ ودون أي إخفاءٍ منها لسخريتها من اسم والدته حتى توسعت عيناه ورفع صوته بانفعالٍ زائفٍ:
_أمي أنا فالصو يا عيلة دهب عيرة كلها؟ خليني ساكت أحسن وبالع لساني، بلاش سيرة أمي تيجي علشان لو أتكلمت هزعلك، كله إلا “دهـب” عندي وأنتِ عارفة.
ضحكت هي له ثم ألقت رأسها فوق كتفه وهي تقول بصوتٍ رقيق بعدما ضحكت باتساعٍ أكبر له:
_وعندي أنا كمان والله، طب والله شكلها كانت غلبانة كدا زي أمي ونصيبها كان راجل عاوز الحرق زي أبويا وأبوك دول، طب دا أنا شكلي محظوظة أوي وأنا ست متستتة في بيتي وجوزي “إيـهاب الموجي” اللي مخلي الناس كلها عينها في حياتي لما قريب هرتكب جريمة فيهم كلهم.
ضحك على تذمرها ثم ربت فوق كتفها بعدما حاوطها له ثم قرر أن يُجاريها بقوله الهاديء لكي يَمنعها من الإنجراف خلف ظنونٍ واهية:
_مش عاوزك تشغلي بالك كتير بالتفكير، المهم أنا لمين ومع مين في الآخر، وأنا أهو أخري معاكِ وعندك أنتِ، خليك بس معايا يا عمنا وربك يكرم وأركز معاكِ.
توسعت ضحكتها بوجهٍ مُشرقٍ أكثر من السابق واستقرت برأسها فوق كتفه وهي تشاعر بالنوم يُداعب جفونها لكنها حاولت أن تبقى مستيقظة معه حتى لا تُضيع تلك الفرصة من بين يديها وتُحرم من وصاله في الساعات القليلة التي خصصها لأجلها.
في مكانٍ آخر تحديدًا ببيت “سـراج” كانت “چـودي” تجلس فوق الفراش وبجوارها جلست “نـور” تضع أمامها الهدايا التي أتت بها لأجلها من مدينة الأسكندرية والعديد من أنواع الحلوى الخاصة بتلك المدينة، والأخرى تمسك الأشياء بسعادةٍ وهي تضحك لها ثم سألتها بلهفةٍ:
_هو مين اللي جاب الحاجات دي؟.
ضحكت لها “نـور” وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة بعدما ملست على خصلاتها الشقراء:
_أنا اللي نقيت و”سـراج” دفع.
ضحكت الأخرى لها ثم ارتمت عليها تحتضنها بقوةٍ بينما “نـور” فظلت تمسح فوق خصلاتها ثم قالت بسعادةٍ بالغة وهي تستشعر فرحة الأخرى بجوارها:
_أي حاجة بعد كدا تعوزيها عرفيني علطول وأنا هحيبها لحد عندك، زي ما بتطلبي من “سـراج” أطلبي مني أنا كمان وأنا هجيبلك كل اللي نفسك فيه، أنا عن نفسي هعتبرك بنتي الكبيرة، اتفقنا؟.
_اتفقنا.
هتفتها الصغيرة ثم ارتمت عليها مُجددًا فيما ولج “سـراج” غرفته فوجدهما سويًا وحينها أسرع الخُطى نحوهما ثم جلس فوق الفراش وضم صغيرته ثم أشار لزوجته التي اقتربت منه وضمها هي الأخرى فلاحظت هي تهجم ملامحه فسألته بتعجبٍ:
_مالك يا “سـراج”؟ فيه حاجة مزعلاك؟.
هرب بعينيه من نظراته ونظر أمامه ثم زفر بعمقٍ وقال بصوتٍ مُثقل بالهموم والحزن:
_”نـزيه الزاهي” أبو “شـهد” بلغ عني الضرايب والمُصنفات وكأنهم حملة عليا ومش عارف أعمل إيه، كلمت “إيـهاب” يشوفلي صِرفة بس هو قالي هيكلم “تَـيام” وهو هيخلص الحوار علشان دا شغله، وأنا بصراحة كله إلا شغلي عندي.
تنهدت هي بثقلٍ ثم ربتت فوق كتفه وسرعان ما جالت بخاطرها فكرة فتلهفت مُسرعةً تأتي له بالحل:
_بابا ممكن يساعدك، هو أكيد مش هيقولك لأ بعدين دا شغلك أنتَ وتعب باباك وعيلتك كلها كمان يعني مصدره معروف إيه، أكيد مش هيرضى ليك تتضر في شغلك كدا.
هتف هو برفضٍ قاطع جعلها تتعجب منه:
_لأ طبعًا، عاوزاني من أول أسبوع جواز أقوله ألحقني يا حمايا؟ بعدين أنا مبعرفش أقبل مساعدة من حد، وباباكِ مش بيحب الوسايط يا “نـور” فبلاش يتدخل، بعدين “نـزيه” بيخلي أخوه يردهالي علشان بلغت عنه وأتعرف إنه هيفلس، بس مش مهم طول ما الخبطة بتيجي فيا عادي، المهم ***** بنته متجيش جنبك.
التفت له الصغيرة تحذره بنبرةٍ قوية:
_قولنا عيب الكلام دا بقى، مينفعش تشتم تاني.
ضحك لها ثم تصنع أنه يقوم بعضها وهي تضحك بنبرةٍ عالية حتى وصلت ضحكاتها للقهقهات بينما الأخرى فضحكت معهما ثم أغلقت الضوء وقامت بتشغيل الشاشة على أحد الأفلام الكرتونية المُفضلة واندست في عناق زوجها الذي سرعان ما أندمج معهما وهو يتعجب من هذا المجتمع اللطيف الغريب عليه، وكأنه رجلٌ كان يعيش بكهفٍ وسرعان ما خرج لكي يواجه الشمس بدفئها وضوئها.
__________________________________
<“كلماتهم لا تُنسى مهما فعلت لكي أنسى”>
لقد رحلوا وخلفوا في القلوب بعض الندوب التي لم تُشفى، رحلوا وتركوا في القلوب علامات سوداء أصابت أصحابها في مقتلٍ، كلماتٌ كُلما ترددت في السمع قتلت صاحبها بدل المرة الواحدة ألف مرة، فهم كانوا سلاحهم الكلمات ونحن سلاحنا نقاء القلب، هذا القلب الذي يُعاني ولازال يُعاني من أثر كلماتٍ لم تُشفى..
في صبيحة اليوم الموالي تحديدًا في عيادة “فُـلة” كانت تجلس بعمليةٍ وطريقةٍ رسمية و”عـهد” تجلس أمامها بعدما ازدادت مُعانتها خلال اليومين السابقين بالأخص من بعد حادثة “يـوسف” مما أدىٰ إلى تدهور صحتها عضويًا ونفسيًا، لقد هجرها النوم وفي لحظة أن يأتيها، يأتيها مُجبرًا عليها فيحول أحلامها المُزهرة لكوابيسٍ مُروعة.
كانت تسرد مُعانتها لطبيبتها النفسية التي كانت تُنصت لها بكامل حواسها وتدون كل شيءٍ يخرج من الأخرىٰ حتى أضافت “عـهد” بصوتٍ أقرب للبكاء وهي تسرد المتبقي في مُعاناتها:
_أنا نفسي أجرب طعم النوم زي الناس عادي، تعبت وأنا طول الليل خايفة أنام يا إما عندي أرق والنوم هاجرني، ولو جه كأنه مغصوب عليا بيخليني أعيش في كوابيس صعبة أوي، كل مرة تزيد بشاعتها، الأول كان الكابوس يخصني دلوقتي يخصني ويخص “يـوسف” وهو مش راضي يريحني حتى ويسمع كلامي ويبعد عنهم، “يـوسف” مش عاوزني أتطمن.
تنهدت “فُـلة” ثم عدلت نظارتها الطبية فوق وجهها وهي تسألها باهتمامٍ بالغٍ:
_طب وإيه علاقة “يـوسف”؟.
اندفعت”عـهد” تخبرها بنفاذ صبرٍ وحنقٍ منه:
_علشان هو مش راضي يسمع كلامي، أنا بخاف عليه أوي منهم ومن الدنيا كلها، نفسي يبعد عنهم وعن طريقهم ويسيبهم في حالهم، كل يوم بشوفه في الكابوس بيتضرب ومرة بيعيط ومرة متكتف ومرة بيحاول يجري منهم وهما في الآخر بيمسكوه، وكل مرة آجي أساعده ألاقيه بيزقني بعيد علشان محدس يقرب مني، أنا تعبت بجد، تعبت وأنا عاملة نفسي قوية بس مش قادرة حتى أواجه نفسي واكشف تعبها، جيتلك علشان الحل عندك ومبقاش عندي.
ابتسمت لها “فُـلة” ثم استقامت في جلستها حيث قامت بفرد ظهرها ثم قالت بنبرةٍ هادئة يغلب عليها الطابع العملي:
_بصي، أنا هخليكِ تلعبي مع عقلك الباطن لعبة حلوة أوي، بس الأول لازم تفهميني، عقلك الباطن مخزن حبة حاجات كتيرة بدايةً من وفاة والدك الله يرحمه واللي واضح إن موته كان أكبر صدمة واجهتيها خاصةً لو الموت دا بشكل مُفاجيء، بمعنى إن الصدمة كانت أكبر من إن عقلك يتقبلها، فهنا حصل الخلل واللي خلى العقل الباطن يتحكم ويفرض سيطرته على العقل الواعي، فيه في علم النفس دراسة أثبتت إن النفس المُضادة صداها بيتغلب على النفس العادية، يعني الحاجة اللي بتفكري فيها، بمعنى إن عقلك الواعي لو تأقلم واعتاد، عقلك الباطن بيحاربك اللي مخزنه ضدك، فالحل إيه؟ نتعامل معاه كأنه هارد محتاجين نفضيه..
انتبهت لها “عـهد” بعينيها وملامحها نطقت تُعبر عن حيرتها فأضافت الأخرى بثباتٍ تزيد تفسيرها للأمور:
_بصي، الفكرة مثلًا إن لو معاكِ موبايل مساحته خلاص أتملت كلها شغله هيقل بشكل ملحوظ، وعلطول هيهنج مننا ويقف بسرعة لأنه عنده قصور في الأداء بسبب تقله، عقلك الباطن برضه كدا، مخزن كتير أوي ولما بييجي يخلص كل دا بيواجهك بيه على هيئة الكوابيس اللي هي جت من تهديدات مخوفاكِ أصلًا ومسببة ليكِ ذُعر بسبب إن التهديدات دي حصل منها حاجات حقيقية، يعني مثلًا أنتِ قولتي إن “سـعد” دا حاول قبل كدا يعتدي عليكِ؟.
تذكرت تلك الليلة المشئومة يوم أن حاول الاعتداء عليها أثناء خطبتها له قبل أن تنفصل عنها وحتى الآن لم تُفصح بالأمر كاملًا لكنها زفرت بقوةٍ وقالت بصوتٍ مُتعب للغاية:
_يومها كنا قاعدين فوق السطح وأنا بحاول أجبر نفسي تتقبله بعدما شوه سُمعتي وخلى الناس كلها تجيب في سيرتي، وهو كان متنيل شارب زي عوايده، طلب مني أعمله شاي ونزل “وعـد” تجيب حاجة ليها من غير ما آخد بالي وقفل الباب ولقيته بيقرب مني، حاولت أصرخ وأعيط يمكن حد يلحقني منه، وهو أيده للآسف فضلت تلمس فيا وأنا بحاول ابعده عني وآخر حاجة عملتها سحبت السكينة وغزيته في دراعه وجريت فتحت السطح، من ساعتها وأنا فضلت أخاف من أي حد يقرب مني، حتى “يـوسف” خدت وقت لحد ما اتعودت على إنه يقرب مني ويحضني، بس لسه مش مستعدة لأكتر من كدا.
فهمت “فُـلة” حديثها وأنها تقصد أمر زواجهما فتنهدت بثقلٍ ثم قالت بنفس الطابع العملي لكن بلينٍ أكثر من السابق:
_تمام زي ما أنتِ بتعملي تكتبي كل التهديدات دي وتخرجيها من جواكِ بأي شكل، تكتبيها ترسميها تحكيها بصوت مسموع مع نفسك، بس الأفضل إنك تكتبي مخاوفك دي وبعدها تحرقي الورقة دي تمامًا، دا الجزء الأول، الجزء التاني سلوكي تمثيلي، وهو إنك تغيري الكابوس بنفسك لنفسك، بمعنى إنك تفكري فيه عادي كأنك بتفتكري أحداث فيلم مشوق بس نهايته مش عجباكِ فتقرري تحطي نهاية ليه أنتِ حباها، يعني مثلًا أكبر كابوس بيخوفك بتكون إيه نهايته؟.
_دايمًا بتكون النهاية ضربي أو ضرب “يـوسف” أو أنا وهو بنبعد عن بعض، دايمًا فيه حاجة تخليني أخاف وأصحى بصرخ بصوت عالي أوي كأني كنت في سبق، وفي العادي بفضل ساعة وأكتر قلبي واقف ومش مستوعبة حاجة حواليا ولا الناس ولا المكان حتى، وفين وفين لحد ما استوعب كل حاجة.
هكذا جاوبت على السؤال بلمحة ألمٍ توسطت كلماتها وصوتها حتى قالت “فُـلة” بصوتٍ صبغته بالحماس لكي ينتقل للأخرى تلقائيًا:
_يبقى بالظبط كدا، قبل ما تنامي تفتكري الكابوس وتفكري فيه، كدا كدا أنتِ بتعملي كدا أصلًا لأن لحظة نومك دي بتكون أكبر المخاوف ليكِ، فقبل ما تنامي فكري في الكابوس زي ما قولتلك بس حولي نهايته لنهاية تانية وردية، يعني تخيلي مثلًا بدل ما “يـوسف” يسيب، خليه يحضنك في الحلم، لو كل واحد فيكم يجري في اتجاه تخيلي إنك بتجري وراه وبقيتي معاه، جربي دا مرة بعدما تكتبي مخاوفك في ورقة تمام؟ بس خدي بالك أهم حاجة إنك تخلي الواقع صداه أكبر من الحلم، يعني تخيلي مواقف ليكم لطيفة مع بعض، أو خلي آخر حاجة تختمي بيها يومك هي دي اللي تواجه عقلك الباطن.
طفق الأمل يُعلن عن نفسه بداخله وهناك بصيصٌ يشبه شعاع النور بدأ يلمس قلبها وهي تُنصت لطبيبتها ثم استمرت الجلسة لقرابة نصف ساعة أخري من هذا القبيل، أما “عـهد” فاستمرت تخبرها مخاوفها ومُعانتها وفي ذهنها عَلُقت عبارة تصف مُعانتها بقول:
“لقد هاجرنا النوم ويوم أن أتىٰ كان علينا مُجبرًا
فحول أحلامنا المُزهرة إلى كوابيسٍ مُروعة”.
__________________________________
<” لقد كان الحق لي منذ البداية لكني أترفع”>
لقد قال العظيم “چيفارا” مقولة خلدها التاريخ وغفل البعض عن فهمها ودراستها بما يكفي لكي يتعامل بها البشر مع بعضهم، حيث قال “لا شَأن لِي بجَمالك وَهندَامك وَبِشجرةِ عائلتِك الطَّويلة، وبِما تمْلكه ولا أمْلكُه، تهمُّني أخلَاقُك وَصدقُك وإنْسانيتُك فِي عَالَم مزدحِم بأشْباه الإنْسَان” فنحن هُنا على حافة الهاوية ومن ثم سنسقط في القاع بغير عودة.
في بعض الأوقات السكوت عن الحق يُسقط الحق، فيجب على كل صاحب حقٍ فينا أن يتمسك بحقه قبل أن يسقط حقه بالمطالبة بهذا الحق، وهذا الأسلوب انتهجه “أيـهم” الذي ذهب للمنزل الموضوع به “سـامي” ثم جلس قام بسحب المقعد وجلس عليه بوضعٍ مُعاكسٍ أمام الآخر الذي امتلأ وجهه بالكدمات وما إن تلاقت النظرات ابتسم “سامي” بسخريةٍ ونطق ببرودٍ كأنه لم يكترث بما يُعانيه:
_لأ جامد يابن “عبدالقادر” لو أعرف والله إنك قارح وصايع كدا كنت خطفتك أنتَ يمكن كنت عرفت كسرت شوكتك زي ما كسرته وخليته لحد دلوقتي يبصلي وهو خايف وفاكرني وأنا بذله لما كان تحت أيدي.
تهجمت ملامح “أيـهم” وكاد أن ينهش لحمه بأسنانه وأظافره لكنه تريث وعدل عن هذا الفعل حينما انتهج البرود سبيلًا ثم عاد للخلف وهو يقول بثباتٍ:
_مش مكسوف من نفسك وأنتَ راجل *** كدا وفرحان إنك اتشطرت على عيل صغير وهو مريض؟ دا أنتَ راجل ناقص رجولة ومعندكش ريحتها، بس وماله محسوبك هيعرفك الرجولة على أصولها، بس مش دلوقتي بصراحة، سايبك أتكيف شوية وأنا بذلك كدا، عارف أنا ماكنتش قابل ابنك وسطنا، قولت أكيد الواد دا دمه فيه قرفك كله، بس لما وقف معانا في المستشفى بصراحة أنا عرفت إن عم “مصطفى” عرف يربي ويزرع كويس فيه، ولما الغمامة اتشالت من على عينه فاق وعرف مصلحته مع مين، تصدق والله يا أخي صعبان عليا، الواد مكسور وسط الناس، بس أقولك؟ أنا مش هخليه مكسور، أنا هخليه يمسك محل من محلاتنا ويديرها، مش إحنا أولىٰ بابن عمتنا؟.
اهتاج “سامي” فوق المقعد كأنه ثورٌ في حلبةٍ ووضعَ أمامه خيم قماشية باللون الأحمر لتثور ثورته بداخل الحلبة وظل ينعت “أيـهم” بسبابٍ لاذعٍ وكلماتٍ نابية حتى تحرك الآخر وقام بامساك خصلاته يشدها بيده وهدر في وجهه بانفعالٍ:
_صوتك ميعلاش يا ابن “تماسي” واحترم نفسك يا روح أمك بدل ما أخدك وأعمل بيك نمرة تحت، اسكت خالص وخليني أتكيف بيك وأنتَ تحت أيدي كدا، ووريني مين هيدور عليك بقى، يا أخي ربنا خلق البشر كلهم وشهم فيه القبول إلا وشك واخد إنصراف، بس أنا عاملك مفاجأة حلوة أنتَ بتحبها.
دفع رأسه للخلف ثم جلس فوق المقعد وبعد مرور دقائق طُرِقَ الباب فتحرك يفتحه للطارق الذي وقف حائرًا ولم يكن إلا “يـوسف” الذي كان يشعر بالريبة من طلب “أيـهم” له أن يحضر لتلك البناية، وقد تنحى “أيـهم” جانبًا ليفسح له مجالًا ليرى غريمه المُكبل فوق المقعد، وقف “يـوسف” مدهوشًا وفرغ فاهه وقد ظن أن تلك أحد الأوهام التي يظنها هو، لكن “أيـهم” أغلق الباب ثم قال بصوتٍ متشفٍ:
_أنا قولت والله ما هحرمك من لحظة زي دي قبل أي حاجة هعملها، جيبتهولك لحد عندك، عاوز تضرب دا حقك، عاوز تكسر عضمه برضه براحتك، بس لو هيصعب عليك افتكر إن الكلب دا مبيرحمش حد.
تعجب “يـوسف” ووقف بتيهٍ لكن ترك عينيه تتجول في وجه غريمه ليسري التشفي في جسده وهو يراه ذليلًا فوق المقعد يعجز عن فك وثاقه، على الفور تذكر أيام محبسه وأيام المصحة العقلية حينما كانوا يتكالبون عليه ويضربونه في جسده، لقد عانى وعاش الكثير من الألم بسببه ولم يرحمه منذ أن توفى والده وحُرِم من عائلته، كان “سـامي” هو العدو الأكبر له ولم يرحمه قط.
في تلك اللحظة كان في غُمرة الاضطراب وانقسم رأسه إلى أحزابٍ تتضارب مع بعضها في الرأي والحديث والكلام وهو كعادته يستمع ويُنصت لكلٍ منهم ورأسه تُزعجه فقرر أن يقترب من “سـامي” ثم قام بالقبض على عنقه بكفه الحُر وهو يستمع لصوت صرخات الطفل اليتيم الذي كان يبكي في الليل بمفرده من الوحدة والخوف، وكلما ازداد الصوت في سمعه ازدادت قبضته أكثر فوق عنق “سـامي” الذي اختنق أسفل قبضة “يـوسف” ولولا تدخل “أيـهم” لكان لفظ آخر أنفاسه ولقىٰ حتفه..
ابتعد “يـوسف” عنه وصدره يعلو ويهبط بعنفٍ حتى أن صوت أنفاسه الهادرة كان مسموعًا لكنه تمالك نفسه ثم هدر بصوتٍ مُحشرجٍ من بين أنفاسه اللاهثة:
_أنا هوريك إن نهايتك دي هتبقى على ايدي أنا مش أيد حد غيري، لو كل واحد جوايا فيهم مش راضي يسمع كلام التاني هخليهم كلهم يتفقوا على موتك وإنهم يخلصوني منك، بس مش قبل ما أقهرك وأخليك تشحت اللي ليك كله.
أنهى حديثه ثم وقف يُنظم أنفاسه المهدورة في ساحة العِراك مع نفسه أولًا قبل الآخرين ثم أخرج هاتفه أمام الاثنين وضغط على رقم “نـادر” وفتح مُكبر الصوت وقد جاوب الآخر مُسرعًا بلهفةٍ وقلقٍ ظهرا في قوله:
_خير يا “يـوسف” فيه حاجة؟ أول مرة تتصل بيا!!.
ابتسم بخبثٍ وهو يُطالع وجه “سـامي” ثم سأل “نـادر” بتعجبٍ رسم فيه البراءة كأنه لم يفعل أي شيءٍ:
_هو أنتَ زعلان ولا إيه إني بكلمك؟.
_لأ، لأ خالص والله أنا مستغرب بس فرحان برضه إنك بتكلمني عادي، خير محتاج حاجة؟ أنا حاليًا أفضل بكتير من الأول لو عاوز حاجة عادي هنفذهالك.
بسمة رضا زينت وجه “يـوسف” ما إن وصلته كلمات الآخر ثم طالع وجه “سـامي” الذي فرغ فاهه بدهشةٍ من حديث ابنه ولهفته في الكلام مع غريمه، بينما “يـوسف” فقال بثباتٍ وعيناه لازالت ترصد الآخر:
_لأ متقلقش خالص، أنا بس كنت مخنوق شوية و”عُـدي” هييجي هو و”رهـف” وقولت أنتَ عارفنا كلنا تعالى اقعد معانا بدل ما تقعد لوحدك كدا، تعالى اتمشى وأقعد معانا شوية، هستناك يا “نـادر”.
شعر الآخر بفرحةٍ تشبه فرحة المنبوذ بواحدةٍ من المناسبات العامة وهو يرىٰ الناس جمعًا مع بعضهم وهو وحده وغير مرغوبٍ في تواجده ومن ثم عند التقاط الصورة الجماعية بحثوا عنه لكي يقف بينهم في إطار الصورة، شعر كأنه أحضر حُلةٍ لحضور حفل زفافٍ وجلس في انتظار دعوته حتى كاد أن يمل ويخيب ظنه، لكنهم لم ينسوه وأرسلوا له دعوته، وافق بتروٍ وتيهٍ لكن قلبه تحرر من القيد بداخله وأراد أن يقفز مُعبرًا عن سعادته لكنه ابتسم وتنهد بعمقٍ..
أغلق”يـوسف” المُكالمة ورفع أحد حاجبيه يتحدى الآخر بعينيه فبصق “سـامي” موضع وقوف الآخر الذي ابتسم له ثم اقترب منه يقف على مقربةٍ منه ثم باغته فجأةً حينما أخرج مِديته ودفعها للأمام ليظهر نصلها الحاد ثم وضعها على عُنق الآخر وقال بلهجةٍ حادة:
_متخليهاش تيجي فيك، أنا من ساعة ما رجعت لأمي وأنا قافلها، فتحتها مرتين بس، مرة يوم “إيـاد” والمرة التانية هتبقى في اللي خطف “إيـاد” أبلع ريقك بدل ما أعمل بيها نمرة حلوة تخلي عيشتك هباب، ابنك يخصني من الآخر، هعلمه يبقى راجل يمكن أنجح في اللي أنتَ فشلت فيه، ورَّيح بقى، رَّيح بدل ما أريحك أنا خالص.
ظهر الدم أسفل نصل المدية فدفعه للخلف ثم أغلقها ودسها في جيبه وطالع وجـه “أيـهم” الذي ومض له بجفنه فأومأ له موافقًا ثم قال بصلدةٍ:
_كفاية عليك كدا النهاردة، خلي الباقي بكرة.
رحل الاثنان برفقة بعضهما ثم أغلقا عليه المكان فزأر “سـامي” بصوتٍ عالٍ وبات النقم متفاقمًا في قلبه بسبب “عـاصم” الذي حتى لم يحاول البحث عنه وهو هنا منذ ما يقرب الخمس أيام وهو لم ينتبه عليه ولا حتى يفعل أي شيءٍ لأجله، وكأنه كان رفيقًا على الشاطيء فقط ويوم أن لاحظ قدوم الموج ركض بعيدًا لكي يأمن على نفسه وفقط.
__________________________________
<“وأنتَ أول من خذلني كيف لي أن أثق في العالم بعدك”>
كل شيءٍ يؤلم في بدايته فقط، ومن ثم نعتاد عليه، فالصفعة الأولى فوق الوجه تؤلم صاحبها عند تلقيها ومن بعد ذلك يعتاد على الصفعات وهي تتوالى فوق وجهه، لكن دومًا وأبدًا تبقى الصفعة الأولى التي تلقاها ممن يحب حينما خذلوه لا تُنسَ ولو جاب الأرض ذهابًا وإيابًا رغبةً في النسيان.
الحب يعني المشاركة في الأحزان قبل الأفراح، وماهية القلوب تظهر في الأحزان والشدائد لدى الآخرين، وهو لأجل من يحب وعملًا باسم الحُب أتى يشارك حبيبته مآساتها ويُشاطرها حُزنها، يحاول بكل طاقته أن يكون برفقتها بعدما حاولت هي ابعاده عنها بكافة الطرق، فبعدما كان حديثهما دائمًا لا ينقطع استرساله أصبح يبحث عن حرفٍ واحدٍ منها.
جلس “يـوساب” في شقة خالته يراقبها بعينيه وهو يرى الحزن في وجهها وعينيها أثناء هربها منه فنظر لخالته حتى فهمت وانسحبت من المكان وخلفها “سـلوى” أيضًا، بينما هو زفر بقوةٍ ثم اقترب يجلس فوق المقعد المجاور لها وسألها بمعاتبةٍ:
_طب يعني أنا ذنب أمي إيه؟ قفلتي تليفونك ومش معرفاني عنك حاجة وجاية تقعدي عند خالتي اللي هي أخت أمي ومقموصة كمان؟ لأ دا أنتِ عاوزة تتضربي بأمانة بقى.
رفعت عينيها له بحزنٍ جليٍ في نظراتها لتتواصل المُقل مع بعضها فتنهد هو بثقلٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_بصي، أيًا كان اللي حصل فحقك تزعلي طبعًا وحقك إن تضايقي كمان، بس بلاش تضيعي وقتك في الحزن بس، لازم تفكري على الأقل وقت حزنك يمكن منظورك يتغير يا “مارينا” الحياة عمرها ما كانت على رِتم واحد، بالعكس الحياة طول عمرها بتتبدل، تحسي إنها لازم تكون على اللونين ومتوازنة، فأنا بقولك أهو فكري وقت حزنك برضه بدل ما الحزن ياكلك.
شعرت هي أنها تود الإنفجار فالتفتت له بحدةٍ ثم قالت بصوتٍ عالٍ نسبيًا نبع من قهرها:
_أنا لو فكرت وقت حزني هتعب أكتر، صدقني هتعب تعب فوق تعبي بكتير أوي، أنا طول عمري بنفذ أوامره هو وبس، خشي كلية كذا حاضر، روحي كنيسة كذا حاضر، متكلميش دي حاضر، صاحبي دي حاضر، خليكِ زي أختك وأعملي زيها برضه حاضر، خلاص أختك غبية خليكِ أنتِ ناصحة حاضر، أنزلي كورسات حاضر، روحي جامعتك وركزي فيها مفيش شغل ولا مشاريع دا كلام فاضي برضه حاضر، بس المرة دي حاضر خلصت خلاص، مبقاش عندي طاقة أكمل كدا، أنا تعبت وأنا بتجبر ومش نافع أختار، دي أيامي وحياتي أنا، يبقى ليه غيري يقرر عني ويختار اللي شايفه مناسب من عنده؟ ليه أتجبر على شغل وحياة أنا مش حباها، حتى لو هشتغل يبقى مش الشغل دا، أنا معنديش طاقة أشرح لحد وأذاكر تاني وآخد دبلومة علشان أكون مُدرسة، وهو مش من حقه يفرض عليا حاجة أنا مش حباها، مش من حقه يجبرني أعيش في دايرة ضيقة على طموحي.
بكت وهي تتحدث معه وكأنها تعاني من تراكمات كثيرة لم يُدركها هو فسحب نفسًا عميقًا ثم قال بهدوءٍ يحاول إضفاءه على جلستهما سويًا:
_إحنا كلنا هنا لينا أهل منيفعش إننا نتخلى عنهم، هما أهلنا ودي حاجة مستحيل الزمن هيغيرها حتى، ممكن هو عاوزك تشتغلي علشان شايفها فرصة ليكِ بس مش عارف يعبر وممكن أنتِ شايفاه تحكم وفرض سيطرة، وهو شايف إنك بترفضي من باب العصيان وبس ومش شايف إن رغبتك معدومة تجاه الشيء دا، علشان كدا بقولك فكري وأنتِ حزينة علشان ساعات الحزن بيخلينا نفكر بصورة مختلفة شوية، بصي؟ أنا معاكِ في أي قرار هتاخديه بس واجبي إني أشاورلك على حاجات ممكن تكون غايبة عنك، من ضمن الحاجات دي فرصة الشغل دا، يمكن تلاقي نفسك في المهنة دي وتطلعي أصلًا ناجحة فيها، يمكن تساعدك أكتر وتفتحلك أبواب لفرص تانية، أي حاجة بتمر علينا مخبية وراها حاجات كتيرة أوي إحنا بنضيعها مننا بسبب تسرعنا، فكري تاني وأنا معاكِ فاللي تختاريه وهساعدك لحد ما الحال يتصلح.
ابتسمت له وهي تخبره بعينيها أنها تثق به وأكثر من ذلك بكثيرٍ، هو وحده من يتقبل عيوبها ويرى محاسنها في الوقت ذاته الذي ينعتها والدها أنها أفشل الناس وأكثرهم إخفاقًا، وقد تنهد هو ثم رفع كوب العصير المفضل لديها ومازحها بقوله حتى تضحك له:
_أمسكي عصير المانجا أهو على الله بس وقت الفرح لما نيجي نكتب العقد ألاقيكي طالعة تجري وتهربي وتسيبي الفرح، مستبعدهاش منك بعدما رفضتيني وأنا بتقدم.
ضحكت هي بصوتٍ عالٍ من بين عبراتها المُناسبة وشاركها هو الضحكات ثم مد يده لها بالعصير حتى أخذته منها وهي تزفر بقوةٍ بينما “تـريز” فوقت تراقبهما مبتسمة الوجه وهي تراهما يبتسمان أثناء حديثهما سويًا وبالأخص أن ابن شقيقتها يشبه ابنها كثيرًا في العديد من الخصال والصفات أهمها الشهامة والتفاني لأجل من يحبونهم.
__________________________________
<“أنا لكَ فُرصةٌ، اسع للحفاظ عليَّ والتمسك بي”>
حياتنا تُشبه الأشجار، فهناك من يجدنا فُرصةً لكي يستظل تحتنا، وهناك من يرانا فرصةً ليحصل على أوراقنا، وهناك من يُقحم علينا خريفًا يُسقط خلاله أيام عُمرنا، وهناك آخرون أتوا لنا بالربيع ووضعوه فوق أغصاننا، وفي كل الأحوال نحن الأشجار والعابرين هُم من كانوا مُستفيدين مننا.
جلس مُنفردًا في المشفى بعدما أنهى عمله في الاشراف على الحالات التي تحتاج كشفه ورعايته الطبية وقد احتفظ بورقة “چـودي” معه طوال اليوم، وكلما اشتاق لها أخرجها لكي يرى عبارتها وهي تخبره بحبها له، خرج من شروده على صوت طُرقاتٍ فوق باب مكتبه فحمحم وأخفى الورقة ثم تحرك يفتح الباب فوجدها أمامه تبتسم بلطفٍ وقد تعجب هو من تواجدها قرابة نهاية اليوم العملي، فيما حمحمت هي وقالت بثباتٍ:
_أنتَ قولتلي إني لو محتاجة منك حاجة هتنفذها صح؟ أهو دلوقتي وقعت في ضيقة ومحتاجاك ضروري تفكها عليا، فك كرب مسلمة إلهي ربنا يفك كربك وكرب عيلتك كلها، يارب تروح تحج أنتَ وعيلتك كلهم، يارب مامتك تروح الجنة..
_أخــلصي!!.
هدر بتلك الكلمة يوقفها عن التكملة فتصنعت هي الوقار وقالت بثباتٍ يُنافي قلقها من رفضه:
_بص بكرة عيد ميلاد “تمارا” ومامتها واخدة عربيتي وأنا متبهدلة في المواصلات والله، ولسه مجيبتش هدية ليها، فإحنا هنستأذن ساعة نروح نجيب ليها الهدية بالموتوسيكل بتاعك علشان دا أسرع حاجة ليا، ولا أتبهدل في المواصلات؟ موافق صح؟.
تبادلت النظرات بينهما ليرى توسلها ألا تخذله بينما هو فهناك شبح ابتسامة تراقص فوق شفتيه تزامنًا مع توسع عينيها لتلمح رد فعله الغامض، وبعد مرور دقائق ركبت خلفه فوق الدراجة البخارية وهي تضحك بسعادةٍ وخصلاتها تتطاير خلفها بحركاتٍ انسيابية وكأنها طفلة قضت أجمل أيامها في فصل الصيف بشمسه الحارقة ومن ثم أتى الشتاء بأمطاره الغزيرة، فتراقصت هي أسفل المطر، نفس الشعور الذي تراقص بداخلها يُداعب أوتار حُريتها، بينما هو فترك صوت ضحكاتها يتوغل ويتغلغل في سمعهِ.
أوقف دراجته أمام أحد المحال التجارية المشهورة بمنتجات الأطفال بمختلف أنواعها وقد وقف هو أمام المكان بخوفٍ، فهو لم يسبق له أن يدخل مثل تلك الأماكن من قبل، حتى يوم أن جلب لـ “چـودي” دُمية صغيرة تركها هي تنتقي ما تود ثم خرجت له تأخذ المال وعادت هي دون أن يكون معها، تاه أمام المكان في نفسه القديمة، فحتى في صغره لم تسمح له الظروف أن يدخل مثل تلك الأماكن، أما هي فتراجعت مُجددًا له تسأله بتعجبٍ:
_واقف ليه؟ يلا تعالى معايا.
جرته من يده عنوةً فولج معها المكان الكبير ليرى بعينيه الكثير من الأطفال برفقة أهاليهم يبتاعون معهم الألعاب بمختلف أنواعها وقد وقف يراقب ضحكات البعض وسعادتهم، وتذمر البعض وحزنهم، وقف يدرس المكان ويراقبه بينما هي فانسحبت تنتقي لابنة شقيقها الهدية المرغوبة التي أمرتها الصغيرة بإحضارها وأكدت عليها أنها تود هذه لا غيرها، وما إن قارنتها بما في هاتفها قامت بخطفها سريعًا قبل أن ينتشلها غيرها وقد التفتت له فوجدته يراقب المكان بعينيه ونظراته تنطق بما يشعر به..
حركة قدميه نحو بعض الأماكن بألعاب الصبية وبحثه بعينيه وسطهم وتعجبه من حداثة بعض الأشياء كل ذلك ساهم في شعورها به وبما يعايشه لتدرك أن هذا الطبيب نتاجٌ لماضٍ لم يرحمه، لذا انسحبت تأتِ له بشيءٍ يُناسبه، ثم وقفت أمامه تُعيد أنظاره لها فتنهد هو ما إن تلاقت عيناه بعينيها فوجدها تمد كفها له بمسدسٍ صغير الحجم توسط راحة كفها حتى سألها بعينيه فوجدها تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_دا مسدس هدية ليك عشان جيت معايا هنا ووصلتني، أنا كنت ناوية أكرمش ليك حق المشوار بس قولت كدا أشيك يعني وأقيم، هتكسف أيدي؟.
سألته برقة لم يقدر على مُجابهتها أو رفضها بل وجد نفسه يأخذه بتروٍ وكأنه طفلٌ ينل قسطًا من أحلامه المكروهة من العالم، بينما هي ابتسمت له ولأجل نظرة عينيه التي سردت عليها الكثير والكثير من الألم والمعاناة، وقبل أن تستعد للمغادرة جمدها محلها بقوله مُندفعًا:
_”فُـلة”.. أنا عمري في حياتي ما دخلت محل لعب أطفال غير النهاردة، وعمر ما حد جابلي حاجة غيرك أنتِ، شكرًا.
التفتت له تبتسم بعينيها ثم قالت بصوتٍ هاديءٍ أجادت خلاله إخفاء تأثرها بملامحه الحزينة ونبرته المنكسرة:
_مفيش شكر بين الصحاب يا دكتور.
خرجا من المكان سويًا وقد ركب الدراجة وهي خلفه تمسك الهدية الكبيرة بكلا ذراعيها بينما هو فقبض على هديتها مُتبسمًا ثم وضعها في جيب بنطاله ثم استأنف طريقه للعودة وهي خلفه، كلًا منهما شرد بالآخر، حيث غاصت هي بفكرها فيه هو، وشرد هو في فعلها وفي هديتها لكنه لم ينجرف خلف أي صوتٍ قد يُفسد فرحته عليه.
أوقف الدراجة أمام المشفى ونزلت هي منها وشكرته، وقبل أن يتحدث وجدت أحدهم من الخلف يسحبها لكي تواجهه وهدر في وجهها بغضبٍ جليٍ في نبرته وكلماته:
_دا “هـاني” كان معاه حق بقى لما قالي إنك هنا خرباها أنتِ وأخوكِ!! إيه دا يا دكتورة يا محترمة أنتِ؟ خلاص نسيتي إنك ليكِ أهل ورجالة وهتفجري كمان؟.
بكت هي في الحال فيما اندفع “مُـنذر” يبعده عنها ثم حال بينهما ونظرًا لفارق السن بينهما والشيب المُغطي رأس الآخر لكان أبرحه ضربًا فسأله بصوتٍ عالٍ:
_أنتَ مين؟ وإزاي تمسكها كدا وبتتكلم معاها ليه أصلًا؟.
ضحك الآخر باستهزاءٍ وقال بصوتٍ عالٍ جذب الأنظار نحوهم ونحو الطبيبة الباكية:
_أنا عمهم الكبير يا أستاذ يا محترم، أكيد مجابتش سيرتي ليك علشان تدور على حل شعرها معاك، لأ ومش بس كدا لما ابن عمها التاني ييجي علشان يتكلم وينصحها تتهجموا عليه، دا أنتوا عالم قادرة وفاجرة، بس أنا هربيكِ يا “فُـلة” وأكسر رقبتك اللي رفعاها علينا كلنا، نسيتي إني كنت هبقى حماكِ؟ أنتِ اللي زيك مينفعش تفضل كتير من غير راجل، عاوز راجل يشكمك.
ازداد بكاؤها وهي تستمع لكلماته المُهينة لها ولشرفها ولسُمعتها أمامه بينما هو فاندفع بغير تعقلٍ يقبض على رسغها ثم أوقفها خلفه ونطق بتحدٍ للآخر حينما قال:
_وأنا راجلها وقدامك أهو، هي خطيبتي وأنا وقريب هتبقى مراتي كمان، يعني لما تيجي تتكلم بعد كدا تكلمني أنا وتوجه كلامك ليا أنا، ولو عليها فهي أشرف من الشرف اللي أنتَ متعرفش حاجة عنه، وكلمة كمان في حقها هدفنك هنا.
وقف “جـواد” على مقدمة الدرج يستمع لقول “مُـنذر” فأيقن أن بعض القرارات تأتي بسرعة البرق لتكون غير منسية، ففي بعض المواقف تخرج كلمات لا تنُسى في أيامٍ تُخلد بالذهن هي الأخرى، لتصبح كلماتٍ غير منسية في أيامٍ لن تُنسَ مهما امتلكنا الإرادة لذلك.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى