رواية سيدة الأوجاع السبعة الفصل السادس 6 بقلم رضوى جاويش
رواية سيدة الأوجاع السبعة الجزء السادس
رواية سيدة الأوجاع السبعة البارت السادس
رواية سيدة الأوجاع السبعة الحلقة السادسة
طرقات على باب شقة أبيها جعلت سليم يندفع ليفتحه ليصرخ في سعادة:- بابا .. وحشتني ..
احتضنه أمجد في آلية خالية من المشاعر متسائلا: فين ماما !؟..
هتف والد أمل ساخرا: الناس بتسأل على صاحب البيت الأول يا أمجد.. ولا إيه !؟..
صمت أمجد للحظة وبعدها هتف في نبرة معتذرة : إزيك يا عمي ..
أشار له أبوها بالدخول لغرفة الصالون متعمدا معاملته كالضيوف، ليتنبه لذلك ممتعضا يتبعه في هدوء ظاهري ..جلس وقبالته جلس حموه متسائلا: خير !؟..
هتف أمجد بلا مواربة: عايز اشوف مراتي ..
هتف أبوها: مراتك اللي عيانة بمرض خطير محتاج علاج وأنت بخلان عليها بتمنه وعايز تتجوز عليها بفلوس علاجها .. مراتك اللي حبستها ساعات من غير وسيلة اتصال ولو كان حصل لها حاجة مكنش حد قدر ينجدها.. ولا ..
هتف أمجد محاولا تمالك أعصابه: لو سمحت يا عمي ناديها.. أنا عايز اتفاهم معاها ..
تطلع إليه أبوها في غيظ لكنه آثر الصمت ونادى على ابنته التي ظهرت على أعتاب الباب هاتفة: نعم يا بابا .؟!..
أمرها أبوها: تعالي أقعدي مع جوزك وشوفي هو عايزك فإيه ..
تنهدت في قلة حيلة غير راغبة في معارضة أبيها، وتقدمت لداخل الغرفة تجلس موضع أبيها الذي رحل مغلقا الباب خلفه في هدوء ..
تطلعت أمل إليه في صلابة متسائلة: خير يا أمجد !؟.. ايه اللي جابك .؟! جايب لي دعوة فرحك ..!؟..
قالت كلماتها الأخيرة ساخرة، ما دفعه ليهتف في حنق: بلاش الأسلوب ده يا أمل .. أنتِ مالك !؟.. إيه اللي جرالك !؟.. مكنتيش كده !؟..
قهقهت أمل في وجع هاتفة: مكنتش كده اللي هو إزاي !؟.. مكنتش بتكلم لما ألاقيك جاي دايما على حقي وأنا ساكتة وأقول بيتي وابني !؟.. ولا مستغرب إزاي أعترض إنك تتجوز جارتي وصاحبتي بالفلوس اللي المفروض تبقى لعلاجي !؟.. ولا إيه بالظبط !؟..
هتف أمجد في حنق: أنا معملتش حاجة غلط ..من حقي اتجوز وبدل الواحدة أربعة ..
هتفت أمل في حنق: صح من حقك..بس أنت مكنتش مكفيني ولا مكفي بيتك من كله عشان تقول اتجوز تاني، ولا أنا كنت مقصرة معاك فحاجة عشان تفكر تتجوز لأني أهملت فيك .. إيه عذرك !؟.. فراغة عين! ولمين !؟.. لجارتي اللي أنت أول ما كانت تيجي سيرتها يركبك مليون عفريت وتفضل تقول فيها ما قاله مالك فالخمر .. مش شيرين دي اللي مكنش بتقول عليها إلا العانس !؟ ايه اللي اتغير .. إيه !؟.. فكرت إنك تنفذها من العنوسة !؟.. ولا كنت فاكر عشان هي عانس هتقبل بيك !؟.
هتف أمجد مؤكدا: أنا حر ..كانت هي أو غيرها .. أنا حر.. واعتقد إن دلوقت بقى عندي مبرر كافي إني اتجوز واحدة تانية ..
تطلعت إليه أمل في وجيعة تمزقها، هاتفة في تساؤل هي أول من يعلم إجابته المُرة كعلقم :- أنت قصدك إيه!؟..
أكد في ثبات متغطرس:- من حقي اتجوز ست تخدمني وتكفيني لأنك عيانة ..وبمرض صعب الشفا منه.. ومكلف كمان ..
هتفت في محاولة للثبات بمجهود خرافي تبتلع الغصات بحلقها، قاتلة الدمعات بمقلتيها: أمجد .. أنت جاي ليه دلوقت !؟..
أكد في لهجة واثقة كادت أن تدفع بها لتقذف أقرب مزهرية بوجهه: عشان ترجعي معايا ..
تساءلت من جديد : عشان.. !؟..
هتف محتدا: عشان ده الطبيعي .. ترجعي بيتك.. وتقومي بواجباتك الزوجية لأخر نفس.. ده دورك كزوجة ..
هتفت به في حنق: ودورك أنت كزوج فين !؟..
تساءل ساخرا: وأنا قصرت فإيه !؟ أنا عامل اللي عليا وزيادة ..
هتفت ساخرة: أنت متأكد !؟..طب وأنا.. وصحتي !؟ ..وعلاجي !؟.. أمجد .. أنت بتحبني ..!؟..
تطلع إليها كأنها ممسوسة تسأل عن غيبيات لا علم له بها، وعلى الرغم من اعتقادها أنه سيتجاهل الرد إلا أنه رد في هدوء مؤكدا :- كنتِ اختيار أمي ..ولقيت انك تنفعي زوجة صالحة وأم لأولادي ..لكن الحب والكلام الفاضي ده ميأكلش عيش.. ملوش وجود أصلا .. ده كلام روايات زي اللي بتحبي تقريها بيضحكوا بيه ع السذج اللي زيك ..
ساد الصمت لبرهة مؤكدا لها من جديد :- انتِ ملكيش عندي الا اكلك وشربك وكسوتك .. علاجك ده على أهلك ..مليش فيه .. ولحد ما نشوف هيحصل ايه بعد العلاج هتفضلي فبيتي قايمة بواجباتك .. حتى لو حصل وقابلتي ربك .. تضمني الجنة لأني هبقى راضي عنك ..
همت بالحديث إلا أن أبيها اندفع محتدا لداخل الغرفة في تلك اللحظة هاتفا في ثورة : انا سامع كلامك من برة وكنت منتظر منك إنك تطلع ابن اصول وتعترف بغلطك فحق أمل.. لكن الظاهر التعامل مع أمثالك بالحسنى مبيجبش نتيجة .. اتفضل من غير مطرود ووفر اللقمة والهدمة اللي كنت هتتفضل على بنتي بيهم وأنا متكفل بيها وبعلاجها .. اتفضل ..
تطلع إليها أمجد في غيظ متسائلا :- أنتِ موافقة على الكلام ده !؟..
تطلعت إليه تجز على أسنانها في محاولة لكبح ثورتها مؤكدة :- ومعنديش غيره .. ولو بابا مكنش دخل قاله كنت هتسمعه مني ..للأسف ده الرد الوحيد على أمثالك ..
اندفع أمجد كالريح من أمامها هاتفا في ثورة وبلهجة تهديدية :- طيب .. هتشوفي ..
ما أن سمعت صفق الباب خلفه حتى اندفعت بين ذراعيً أبيها تبكي في لوعة ..اجلسها أبوها جواره على الأريكة رابتا على كتفها، هامسا في حنو:- إهدي يا أمل ..إهدي وكله هايبقى تمام .. أهم حاجة دلوقت صحتك وعلاجك .. لازم نبدأ في العلاج بسرعة ..
همست من بين شهقات بكائها :- أمجد مش هيسكت يا بابا .. أنا عرفاه..
أكد ابوها في حنو :- ولا يقدر يعمل حاجة ..ده جعجاع ..سيبك منه وركزي في نفسك وصحتك ..وبعدين هو أنا رحت فين !؟.. والله ما يقدر يطول شعرة منك طول ما أنا عايش..
همست في راحة بين ذراعيه :- ربنا يخليك ليا يا بابا ..بس احساس الحسرة صعب قوي ..متحسرة على كل يوم ضاع من عمري جنبه ..
لثم أبوها جبينها في حنان لتنهض هي لترتاح قليلا قبل موعد العشاء ..
****************
دخلت لغرفة أمها في هدوء.. كانت تعتقد أنها مستيقظة فهمت بالرحيل إلا أن حورية فتحت عيونها هاتفة تستوقفها :- فيه حاجة يا هناء !؟..
تطلعت الفتاة ذات السبعة عشر ربيعا هاتفة في حدة :- اه فيه .. جبت لك حقك من اللي عايزة تخطفه منا ..
تطلعت إليها حورية في صدمة عقدت لسانها لبرهة قبل أن تسأل في قلق :- أنتِ قصدك مين !؟.. وتخطف مين من أساسه !؟..
هتفت هناء مؤكدة :- الهانم اللي سمعتك بتقولي لبابا يتجوزها .. أنتِ إزاي جالك قلب تعملي كده !؟.. إزاي تسيبيه لواحدة تانية تشيل اسمه اللي اتبنى بفلوسك وممكن تجيب له حتة عيل يشيل اسمه ويشيل معاه الورث كله اللي هو أصلا فلوسك ..يعني حقي أنا وبس ..
صرخت حورية في ثورة :- أنتِ جبتي الكلام ده منين !؟.. أنتِ بتتصنتي عليا أنا وأبوكِ !؟.. جبتي منين الكلام ده !؟.. ده مش كلامك ولا ده تفكيرك.. أنا عارفة مين اللي حط التخاريف دي فدماغك ..مفيش غيرها عمتك ..
هتفت هناء في غضب : ايوه عمتي.. مالها!؟ .. الحق عليها خايفة عليا وعلى حقي ..ده أنتِ امي رايحة تقوليله اتجوز ومفكرتيش فيا ..
صرخت بها حورية هاتفة :- مين دي اللي خايفة على حقك! سعدية!؟.. دي كل اللي يهمها الفلوس وبس .. أوعي تفتكري إنها عايزاك لأبنها عماد عشان خاطر سواد عيونك !؟.. لا .. هي عايزة تضمن إن الورث بعد عمر طويل لأبوكِ هيكون ليها والباقي ليكِ طبعا وتحت تصرف ابنها ..لكن لو أبوكِ اتجوز هايبقى فيه وريث تاني هيدخل معاهم ولو خلف كمان وبالذات ولد هاتبقى راحت عليها والولد هيكوش على كل حاجة وتطلع هي من المولد بلا حمص ..
تطلعت إليها هناء كالبلهاء هاتفة :- أنا مش فاهمة حاجة من اللي بتقوليها بس اللي أنا متأكدة منه إنها عايزة مصلحتي ..ما أنا هكون مرات ابنها..
قالت كلماتها الأخيرة في هيام واضح مما دفع حورية لتتطلع لأبنتها في حسرة واضحة فلولا مرضها ما تركت أحد يربي ابنتها غيرها، وما رأتها بهذا الشكل منقادة وراء توجيهات عمتها، ومساقة كالعمياء خلف عشق شخص غير جدير بها ..
هتفت حورية أخيرا :- المهم عملتِ ايه في اللي أنت وهمانة إنها عايزة تخطف ابوكِ !؟..
ابتسمت هناء في فخر مؤكدة :- رحت لها لحد الحارة اللي عايشة فيها وفضحتها قدام أهلها كلهم .. حتى طلع لي راجل من بينهم قالي دي مراتي .. إزاي بقى مراته وإزاي بابا عايز يتجوزها !؟.
شهقت حورية في صدمة هاتفة : حرام عليكِ .. ده طليقها ومطلع عينها.. تفتكري بعد اللي عملتيه ده ممكن يكون عمل فيها إيه هي وعيالها دلوقتي !؟..
هتفت هناء في غيظ :- ما شاء الله .. ما أنتِ عارفة كل حاجة عنها اهو.. اومال بتنكري ليه إن بابا عايز يتجوزها !؟..
هتفت حورية في محاولة لإقناع ابنتها:- يا بنتي دي عاملة غلبانة أبوكِ بيساعدها عشان ظروفها صعبة.. إهدي بقى وخلي عمتك تهدى ..مفيش الكلام ده .. أنا ياما عرضت على أبوكِ يتجوز وهو مرضيش .. ارتاحي وريحي عمتك.. وربنا يستر من اللي أبوكِ هيعمله لما يعرف باللي عملتيه..
ازدردت هناء ريقها هاتفة بلهجة يملأها الخوف: هو بابا ممكن يعرف !؟.. لا ..هيعرف إزاي !؟..
تطلعت لها امها في غيظ :- أنا اللي هقوله أحسن ما الموضوع يوصله من بره ..ما يمكن العاملة دي تروح تشتكيله منك ..استلقي وعدك بقى أنتِ وعمتك ..عشان تبقي تمشي ورا كلامها تاني ..
تطلعت هناء لأمها في حنق، لكنها لم تنبس بحرف، وأخيرا اندفعت لخارج الغرفة في ثورة تاركة أمها تتحسر على صحتها الفقيدة التي جعلت منها جثة هامدة لا تصلح لتكون زوجة ولا استطاعت أن تكون أم كما يجب لأبنتها الوحيدة..
***************
كانت تقف أمام الموقد تحرك مغرفة بهوادة داخل وعاء المهلبية التي كانت قد نضجت تقريبا ..
ابتسمت في حسرة لذكرى بزغت كشمس نهار أمام ناظريها في بداية زواجها بتوفيق ..كان لا يحلو له إلا جعلها تصنع المهلبية كحلوى مفضلة لأبيه والذي ما أن ذاقها من صنع يدها حتى أدمنها وآثار ذلك غيرة حماتها فأسماها توفيق ساخرا ب “حرب المهلبية”..
لم يكن توفيق يفضلها كحلوى لكن ولدها عامر يعشق مذاقها من يدها.. يبدو أنه ورث ذلك عن جده لأبيه رحمه الله ..
بدأت في سكب الخليط في اطباقه وتركته جانبا ليبرد ..كانت تود أن تهادي جارتها الشابة نرمين وزوجها ببعض الأطباق ..
بدأت في غسل الوعاء ليتناهى لمسامعها صوت موسيقى ارتفعت لتوها انسجمت معها وبدأت في الغناء بصوت رخيم.. لطالما كان صوتها حنونا ونبرته شجية .. كثيرا ما غنت وحيدة بصوت عذب أثنى عليه كل من سمعه .. اطربت لشدو ام كلثوم ونسيت حالها تماما وهي تشاركها الغناء صادحة :-
الليل …
ودقة الساعات تصحي الليل..
وحرقة الآهات في عز الليل..
وقسوة التنهيد والوحدة والتسهيد..
لسه مهمش بعيد .. لسه مهمش بعيد..
سالت دمعاتها على كل ما كان .. عمر ضائع .. قلب مجروح .. كرامة مهدرة.. كبرياء مهان .. واخيرا وحدة بلا ونيس إلا الحسرة والوجع ..
رفعت رأسها أخيرا تضع المغرفة بموضعها لتفاجأ بصوت تصفيق حاد قادم من النافذة المقابلة .. كان يقف يصفق في حماسة كأنه يستمع إلى أم كلثوم بذاتها .. أخذتها الصدمة حتى أنها ما وعت إلا وهي تغلق النافذة بوجهه في عنف، تتطلع حولها في اضطراب تحول لغضب على ذاك الجار الثقيل الظل الذي أثار حنقها بالمشفى ثم كاد أن يفرض نفسه عليها بالبقالة لدفع ثمن أغراضها، والأن يتطفل عليها بهذا الشكل الفج ..
****************
كانت أمها تحتضن طفلها بين ذراعيها تهدهده وأبوها جالس بالقرب يتطلع لباب غرفتها المغلق منذ ساعات في قلق وهمس أمرا :- ما تقومي تشوفي نجوى ..البت قافلة على نفسها من ساعة ما جت وعرفنا اللي حصل ..
تطلعت له أمها وهي تمسح دمعاتها عن خديها في وجع، عاتبة بصوت مسموع :- والله ما قادرة يا بو نجوى.. كل أما اشوفها على حالها ده قلبي بيتوجع عليها أكتر .. بقى كده يا كمال ..تعمل فنجوى كده !؟..
تنهد زوجها في حسرة على ما آل إليه حال ابنته الأثيرة لقلبه، وهمس متمنيا :- كمال بيحبها .. واللي حصل ده أكيد غلطة وهتتصلح عن قريب .. ياما البيوت بيحصل فيها ..
هتفت الأم بوجع :- بس توصل للطلاق !؟.. ليه !؟.. ده باع وبالقوي يا أبو نجوى.. لا ..بنتنا ميتعملش فيها كده ..
تنهد الأب في قلة حيلة هامسا :- طب هاتي الواد من أيدك وقومي شوفيها.. طيبي بخاطرها .. وخليها تاكل لها لقمة ..دي مداقتش الزاد من بدري ..
اومأت الأم في طاعة، تاركة حفيدها هانئا بين ذراعي جده، مندفعة تطرق باب حجرة ابنتها التي ما أجابت نداء الطارق .. حتى طلت أمها من خلف الباب، وأخيرا دلفت للداخل متصنعة الصلابة مقتربة تجلس جوار ابنتها التي كانت تتطلع إلى الفراغ أمامها مشدوهة كأنما سُلب عقلها ..
ربتت الأم على كتف ابنتها هامسة في تعاطف :- قومي يا نجوى كليلك لقمة معانا يا حبيبتي .. قومي عشان خاطري وخاطر أبوكِ اللي قاعد قلقان عليكِ بره ..
لم تجب نجوى بحرف، لتعيد امها الربت على فخذها مطمئنة في نبرة تحاول أن تكسوها ببعض الأمل الكاذب، مكررة كلمات زوجها التي نطق بها منذ دقائق خلت :- قومي يا حبيبتي والله هي كام يوم وتلاقيه راجع يطيب خاطرك ويردك .. هو يقدر يستغنى عنك ..
همست نجوى بصوت متحشرج مؤكدة :- قدر يا ماما .. قدر يستغنى ومش راجع .. أنا ضيعته من إيدي ومش هيرجع ..
وشهقت في وجع هاتفة في حسرة، وهي تلقي بنفسها بين ذراعي أمها التي تلقفتها في اشفاق تشاطرها البكاء تعاطفا مع حال ابنتها:- كمال خلاص يا ماما ..ضاع من إيدي .. راح ومش راجع .. وأنا السبب .. أنا اللي عملت فنفسي كده .. قال كتير وأنا مسمعتش ..كنت فاكرة إني ضامنة حبه وإنه مش هيقدر يستغنى عني مهما حصل ..بس أهو حصل ..
ضمتها أمها بين ذراعيها أكثر هامسة تحاول تطييب خاطرها :- يروح .. والله ما هيلاقي واحدة تحبه زيك .. هو الخسران ..
رفعت نجوى رأسها من بين أحضان امها متطلعة إليها بوجه محتقن وعيون منتفخة من أثر البكاء هاتفة في إصرار :- لا يا ماما .. أنا الخسرانة.. خسرت حب عمري .. أنا محبتش إلا كمال وعمري ما هحب غيره .. بس خلاص .. خسرته ..
وانفجرت باكية في قهر من جديد تخبئ خيباتها واوجاعها بأحضان أمها التي هزت رأسها في إشفاق وعاودت دموع الحسرة على ابنتها تغرق وجنتيها ..
****************
وقفت أمام باب الشقة المغلق من الخارج تحاول مجرد محاولات هي مدركة تماما بعدم جدواها لفتحه ..
بكت في قهر أفعال ذاك الحقير طليقها ..فقد استشاط غضبا عندما جاءت تلك الفتاة التي ادعت أنها ابنة حماد لتخبرها أمام الجميع أن ابيها له رغبة في الزواج بها .. أي حمق هذا.!؟.. حماد بيه بكل هيلمانه ينظر إلى عاملة فقيرة تعمل بمصنعه !؟..
عاملة أشفق عليها يوما عندما سقطت فاقدة وعيها لقلة الطعام !؟..والتي أعطاها مالا لتنقذ ولدها من الموت مرضا !؟.. أي جنون مطبق ذاك الذي تدعيه الفتاة الحمقاء وصدقه هذا المغفل طليقها مهددا إياها بسحب طفليها من حضانتها وعدم رؤيتهما للأبد !؟..
جلست أمام الباب والحسرة تتآكلها.. ترى لو كانت ما تدعيه تلك الفتاة صحيحا ماذا هي بفاعلة !؟.. هل ستقبل بكل سعادة .. أم ترفض مخافة فراق صغارها !؟..
أغمضت عينيها في ألم قاهر بحجم الكون يعربد داخل حنايا روحها الطواقة ليد تنتشلها من تلك البئر الحالكة السواد القابعة داخلها في عجز..
فتحت عيونها ترهف السمع لصرخات مسعد بالأسفل تحت نافذة بيتها ..كان يبدو كعادته مترنحا من أثر مشروب أو عقار ما مؤكدا في احرف متقطعة وبصوت جهوري:- والله يا صفية ما ليك خروج بره البيت ده .. يا أنا يا القبر .. وطالما مش طيقاني زي ما بتقولي .. يبقى خروجك م البيت ده على قبرك ..قال عايزة تتجوزي قال !؟.. على جثتي..
أعادت رأسها للخلف تسندها على الباب هامسة في وجيعة :- أنا لا عايزة اتجوز ولا نيلة .. أنا عايزة اتساب فحالي أربي عيالي وبس ..
اندفع طفلاها رعبا من صوت أبيهما الجهوري الصارخ تحت نافذتهم لأحضانها، تضمهما في محبة ليهمس ولدها :- أنتِ صحيح هتتجوزي وتسبينا زي ما أبويا بيقول !؟..
أكدت صفية وهي تمسح دمعات غافلتها مؤكدة :- لا يا حبيبي .. أمك مش ممكن تفوتك أبدا .. ده أنت وأختك نور عنيها من جوه ..
ضمت صفية طفليها بين ذراعيها من جديد تحميهما تحت جناحها مخافة غدر الأيام ..
**************
دفعت الباب في هدوء متعجبة من قدومه بعد آخر زيارة له وما حدث بينهما من حوار محتد تدخل فيه أبوها ليضع حد لمهزلة أقواله العجيبة المنافية لأي منطق ..
جلست قبالته هاتفة في ثبات :- خير يا أمجد !؟..
هتف ممتعضا :- طب حتى قولي سلام عليكم ..
ابتسمت في هدوء :- وعليكم السلام.
تطلع إليها حانقا من هدوئها ذاك الذي يوتره لكنه يأبى كعادته اظهار مشاعره الداخلية لأي من كان وهتف في ثبات هش :- انا راجعت نفسي وقلت عشان الولد يتربى ما بينا ترجعي البيت .. كل اللي بيحصل ده كلام فاضي وبيحصل فكل بيت .. والست العاقلة الأصيلة تستحمل وتعيش عشان خاطر البيت يفضل قائم وأولادها يتربوا فكنف أبوهم ..
هزت رأسها مبتسمة حتى أنهى كلماته وهتفت في رزانة :- وهو أنا معملتش كل ده يا أمجد !؟..
أكد معترفا :- لا عملتي .. أنا مأنكرتش ده يا أمل .. أنتِ جيتي بس فالأخر و..
قاطعته ساخرة :- وايه !؟.. اعترضت !؟..
قلب شفتاه ولم يرد لتستطرد في نبرة متوسطة الحدة :- اعترضت إني بعد كل اللي قلته واللي اتعمل بالحرف لما وقعت ملقتش إيدك اتمدت لي ..ده اسميه ايه !؟.. ده أنت لو ماكنة باظت عندك فالمصنع اللي أنت شغال فيه بتعملوا لها عمرة وبتجروا تصلحوها عشان عارفين إنكم هتدفعوا دم قلبكم في واحدة جديدة .. ومن قبلها بتعملوا لها صيانة عشان تحافظوا عليها .. أنا محصلتش ماكنة فمصنع يا أمجد ..لا كان بيتعمل لي صيانة لمشاعري ولا حرص على رغباتي .. ولما المكنة باظت لا مندفعش فلوس نصلحها .. نجري نشتري الجديدة بتمن التصليح .. عشان القديمة كانت أصلا رخيصة بس أهو قامت باللي عليها وجه وقت طلوعها ع المعاش ..
هتف متعجبا :- أنتِ ليه بتفسري الموضوع كده !؟.. أنا بس المصاريف بتاعت العلاج مش هقدر عليها وباباكِ معاه وهو لوحده ويقدر ..
هتفت أمل باسمة في سخرية :- وهو أنا على ذمة مين !؟.. ومسؤولة من مين !؟.. مش منك !؟.. ده أنت حتى معرضتش تعالجني ولو ضاقت معاك تلجأ لبابا ..لا ..ده أنت من أولها عايزه يشيل تكاليف العلاج .. يعني لما كنت بصحتي كنت تمام ما أنا قايمة باللي عليا لراحتك والمحافظة على بيتك ولما تعبت .. خلاص أمل هاتبقى جاية عليا بخسارة أبوها يعالج وتفضل تخدم فيا وتحافظ برضو على بيتي لحد آخر نفس .. ما هي دي شروط الست الصالحة اللي الست الوالدة محفظهالك .. لكن هي عملت إيه لما جوز أختك رفض يشتري غسالة أطباق لأختك !؟.. مرضتش ترجعهاله إلا لما اشتراها كهدية صلح.. وطالما يقدر يريح بنتي ميجيش ليه .. ده كان منطق الست الوالدة ..لكن مع أمل .. تظهر نظريات الست الأصيلة والمضحية..
هتف أمجد زافرا بحنق :- بلاش نجيب سيرة ماما فكلامنا لو سمحتي .
قهقهت أمل هاتفة :- ومن امتى ده حصل أصلا !؟ .. ما أمل كانت دائما بتقول حاضر وطيب رغم إني عارفة إن كل اللي بيتقال لي دي تعليمات ماما .. ده أنت فالاساس هنا وبتكرر كلام ماما اللي بعتتك النهاردة عشان يبقى عداك العيب قبل ما تفكر تجوزك بنت طنط فلان أو علان ..ما أنا هبقى واحدة ناشز في نظرك طبعا ولازم تجيب لها ضرة عشان تكسرها..
هتف في حدة هاما بالمغادرة :- واضح إن مفيش فايدة فالكلام معاكِ.. وأنا كده فعلا عداني العيب ..
هتفت به أمل في اشفاق : عارف يا أمجد !؟..
عاد لمقعده من جديد متطلعا إليها متوقعا تراجعها عن قرارها لتستطرد بنفس النبرة المشفقة :- أنت بجد صعبان عليا قوي .. رغم إنك كنت دايما بتحاول تظهر إنك راجل فاهم فالدين .. لكن عمرك ما عرفت توصل لروحه .. عمرك ما اتعاملت معايا على أساس إني السكن عشان كده عمر ما كان بينا مودة ورحمة .. للأسف أنت اتعاملت معايا بنفس الطريقة اللي شايف إنك تستحقها لما بتبص فمراية نفسك ..
نظر إليها وكأنها تتحدث بالأحجية أو أصابها مس ..لتستطرد في ثبات :- كل راجل بيعامل مراته زي ما بيعامل نفسه لو متجسدة قدامه .. مش ربنا اللي قال ..خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها .. أنا نفسك اللي اتجسدت قدامك .. وعاملتني زي ما أنت شايف نفسك تستحق .. كل راجل نجح فحياته ده لأنه عرف قيمة نفسه فعامل مراته بما يستحق فبقى أنجح الناس بدعمها .. للأسف يا أمجد معرفتش لا تحب نفسك ولا تقدرها عشان كده معرفتش تحبني ولا تقدرني .. يا خسارة ..
ساد الصمت بينهما لينهض دون أن يعقب بكلمة مأخوذا بأثر كلماتها على نفسه .. استوقفته هاتفة في حزم :- أمجد! ..
توقف قبل أن يبلغ عتبة الباب لكنه لم يلتفت فاستطردت في هدوء :- لو سمحت ورقتي توصلني فأقرب وقت.
لم يعقب على طلبها لا قبولا ولا رفضا، بل اندفع مغادرا كأنما سيئات أعماله تلاحقه محاولا منها الهرب، ولكن أين المفر !؟..
****************
تنهدت في راحة فقد أنهت مهامها وحان وقت راحتها الفعلية ..فتحت حاسوبها وتطلعت إلى صفحته واكملت ما بدأته تفرغ مكنونات نفسها على تلك الصفحات كلما آن لها ذلك ..
الحسرة .. مرارة بالروح لا يدركها إلا صاحبها .. علقم تتجرعه في صمت عاجز لا قدرة لك على البوح، فقد تواطأت كل الظروف ضدك ..
حسرة على قرار أُخذ وأخر ليته لم يؤخذ .. وبين هذا وذاك .. ضريبة اختيارنا الخاطئ يكون تلك الخيبات.. والتحسر بأنين مخنوق يؤكد على هزيمتنا أمام اوجاعنا بجدارة..
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية سيدة الأوجاع السبعة)