روايات

رواية وريث آل نصران الفصل السابع 7 بقلم فاطمة عبدالمنعم

رواية وريث آل نصران الفصل السابع 7 بقلم فاطمة عبدالمنعم

رواية وريث آل نصران الجزء السابع

رواية وريث آل نصران البارت السابع

وريث آل نصران
وريث آل نصران

رواية وريث آل نصران الحلقة السابعة

الفصل السابع (أنت في مأزق)
#رواية_وريث_آل_نصران
بسم الله الرحمن الرحيم
قيل بالأمس أن المواجهة باب للحقيقة
ولكن ماذا إن كانت مواجهتنا مع من اتخذوا الخداع قناعا لهم؟
مع من تفننوا حقا في صنع الأكاذيب ؟
حينها تفقد المواجهة شرفها وتصبح لعبة اخترقتها الحقارة فصارت بلا هدف!
تستطيع أن ترى المكان الذي اعتاد “نصران” أن يستضيف الغرباء فيه، هو يتوسط الجلسة بجلوسه على تلك الأريكة والتفت المقاعد حوله على يمينه “عيسى”، ويساره ” طاهر” وأمامه “مهدي” وابنه “شاكر”
قطع “نصران” الصمت ناطقا باستهجان برز فيه اللوم:
جايب رجالة وجايلي يا “مهدي”؟… مفكر إنك حتى لو عرفت تدخل بيهم هتعرف تعمل حاجة.
برر ” شاكر” الفعلة بانفعال:
محدش غلط يا حاج نصران، بنات عمي وأمهم مشيوا ودول عرض ولازم ندور عليهم، واحنا دورنا في كل حتة مبقاش إلا هنا
نظر ناحية “عيسى” هذه المرة متابعا:
وبالنسبة لموضوع الرجالة هما كانوا للاحتياط بس يدوروا معانا، جايز بنات عمي دخلوا ومحدش شافهم.
تحدث “نصران” ساخرا وهو يكرر كلمة شاكر:
عرضك!
انكمشت تقاسيم “نصران” وبرز الغضب فيها وهو يوبخه:
وهو اللي عايز يحافظ على عرضه برضو يتهجم عليه في كل حتة… مالك ومال بنت عمك يا “شاكر”؟
علم ” مهدي” أن الجدال سيزيد التعقيد، هو آتى هنا للبحث عنهم، وجلب الرجال معه تحسبا إن كانت قد أفلتت واحدة منهن أي كلمة تدين ابنه، والآن تيقن من وجودهن بعد أن قاده “نصران” إلى المضيفة وأرسل أحدهم يستدعي “هادية” وبناتها… فعليه حل الأمر سريعا وبأقل الخسائر.
رفع “مهدي” كفه مقاطعا يطلب الحديث فصمت الجميع استماعا لقوله:
هادية وبناتها حقهم عندي أنا، أنا عارف إن “شاكر” غلط وأنا بتعهد هنا إنه هيقصر الشر ويبعد عن بنت عمه وهخليه يعتذرلها كمان.
تبادل “عيسى” و “طاهر” النظرات القلقة بينما دعم قول “مهدي” حديث “شاكر”:
وماله اعتذر مش عيب، وكلامك يا أبويا نافذ حتى صباح الخير مش هقولها لما نشوف اخرة ده كله بقى هيرجعوا ولا هيسوقوا ال….
قاطعه ” طاهر” وقد اشتعلت ثورته من هذا المتبجح الذي يتحدث بطريقة لا تناسب هذا المجلس:
ما تحترم نفسك يا بني أنت، بتتكلم كده ليه!…
وبعدين مالك محسسنا إنك بتتفضل عليهم كده عليه ده أقل واجب يتعمل معاك لو قربت منها إنك تتشد على المركز تتربى هناك .
ضغط “شاكر” على المقعد بكفه الذي لو تحدث لعبر عن غله الآن ، تنهد وصنع ابتسامة مزيفة قائلا:
فين بنت عمي علشان اعتذرلها؟
دخل أحدهم مقاطعا الجلسة يقول بأدب:
الست هادية وبناتها جم.
قام “شاكر” من مكانه يسير ناحية الخارج فأشار “نصران” بعينيه لعيسى كي يتبعه، دخلت “هادية” و “شهد” و “مريم” وقد أصابتهن الصدمة حين وجدن “شاكر” يخرج و”ملك” لم تدخل بعد… ضغطت “مريم” على كف والدتها تطمئنها بأن “عيسى” لحق بهم.
بينما في الخارج أمام البوابة
كانت تتابع السير لاحقة بوالدتها وشقيقتيها فوجدته أمامها فجأة من لا شيء، ضاقت عيناها بهلع، وتقهقرت للخلف بذعر تمكن منها وهي ترى ابتسامته التي تمقتها أشد المقت.
ذلك الشعور حينما يهجم علينا البرد وينقذنا سريان أو خيط دفء ناجم عن رشفة واحدة من كوب شاي ساخن… تلك القشعريرة المحببة لأنفسنا هي ما أصابتها حين وجدت “عيسى” الذي توسطهما منتظرا ما سيفعله “شاكر” ولم ينتظر كثيرا إذ وجده
_حقك على دماغي يا ملك، هاتي راسك أبوسها.
قالها “شاكر” وهو يقترب من ابنة عمه التي ابتعدت أكثر، تقف خلف “عيسى” محتمية بذلك الجدار البشري، مما جعله يدفع “شاكر” قبل أن يتخطاه واصلا إليها، وهو ينطق بسخرية لاذعة، ونبرة متهكمة ضربت “شاكر” في مقتل:
تبوس إيه يا باشا…
هو حد قالك إنكم راضعين على بعض ولا إيه!
مدت “ملك” كفها وقبضت على سترة “عيسى” من الخلف فأصابته الدهشة، حالتها هذه لا يمكن أن يكون سببها أنه تعرض لها فقط
أما هي لا يوجد أمام ناظريها إلا ذلك المشهد هي و “شاكر” و “فريد” الذي سقت دماؤه الأرضية.
أشار “عيسى” لشاكر نحو الداخل قائلا:
ادخل وهي هتهدى وتدخل وراك.
تصنع شاكر الحزن وهو يرمقها بنظرة معاتبة تفنن في ظهورها على عينيه، ثم هز رأسه موافقا وتحرك نحو الداخل…. كانت تنتفض وبمجرد أن رحل أخذت تردد وهي متشبثة بكل قوتها بالمواقف أمامها:
أنا مش عايزة أمشي معاهم، أنا مش عايزة أمشي.
سألت بعينين دامعتين:
مش هتمشونا صح؟
إن المسؤولية شعور له لذة، ولكن طلب الحماية من عينين يشع الذعر منهما وكأنهما يخبراك أنك أملهما الأخير إحساس حقا مُربك.
يقلب موازينك رأسا على عقب، وتقف حائرا ولكن خلف تلك الحيرة يدفعك الواجب دفعا لحماية من طلب وكأنه جزء منك.
في الداخل
خرجت كلمات “نصران” حاسمة لهذا الموقف:
الرأي رأيهم يا “مهدي” عايزين يرجعوا معاك هيرجعوا، مش عايزين هيقعدوا هنا معززين مكرمين ليهم بيتهم وحياتهم، وأظن إنهم بقوا كبار كفاية.
اعترض “مهدي” بقوله:
يقعدوا لوحدهم بتاع إيه، ويقعدوا لوحدهم معناها يشتغلوا حتى يرضى بالبهدلة دي برضو.
تبادلت “شهد” مع “شاكر” النظرات العدوانية، هو يدبر لهم الكثير، أما هي فتعلم أن أمانهم هنا… لن تعود مهما حدث، وإذا حدث أي إجبار ستهدد بما تعرفه، حتى إن كانت نهايتها ولكن يكفي أنها نهاية لشاكر أيضا، هي بالتأكيد لن تفعل ذلك، لن تلقي بنفسها إلى الهاوية،
إنه مجرد تهديد يربك “شاكر” ويُبعده عنهم هذه الفترة.
تحدثت “شهد” موافقة على كلمات “نصران”:
الحاج عنده حق وقال الخلاصة، احنا كبار، ولو عليك يا عمي فأنتوا أهلنا لكن عيشة معاكم تاني لا، احنا هنقعد هنا وهنشتغل هنا.
ابتسم ” شاكر” ابتسامة صفراء، واستقام واقفا يقول وكأنه لم يسمع شيء مما قالته:
يلا يا شهد يا حبيبتي اجهزوا علشان هنروح بيتنا.
_يا شيخ حبك برص.
قالتها “شهد” بابتسامة صفراء مماثلة لخاصته فأشعلت فتيل غضبه مما جعله يتخلى عن الثبات وأوشك أن يقبض على خصلاتها ولكن هب “طاهر” يدفعه بعيدا عنها و”نصران” ينطق بحدة:
هتضربها قدامنا ولا إيه.
تنهد شاكر يستعيد بعض من ذلك الثبات المفقود وهو يقول بنبرة باردة:
مين قال كده بس أنا هفهمها غلطها بشويش.
_نهاية القول هترجعي مع “مهدي” يا “هادية” ولا لا؟
قالها “نصران” كي تنتهي هذه الجلسة التي أخذت من الوقت ما يكفي، كان يتوقع جوابها ستقبل بالصلح، عهدها دائما ترضى بالأمر الواقع دون محاولة واحدة، دون محاربة تهون خسارتها إن خسرت، أمامها خيارين الآن إما تبقى هنا مستقلة مع فتياتها أو تذهب مع “مهدي”، وهوت جميع توقعاته أرضا حين قالت بعينين نجحتا في إرباك ” مهدي”:
احنا مش هنرجع مع “مهدي”.
★***★***★***★***★***★***★
توغل الليل فعمت العتمة، كما قلنا سابقا الليل بريء في ليالي الشتاء إذا كنت بين جدران منزلك يحتضنك الدفء وبيدك كوب ساخن يهبك المزيد.
وشديد الرعب إذا كنت في الخارج وحدك تشاهد مشهد لا يستطيع إنسان تحمله، تشاهد مقتل من تحب.
في منزل ” مهدي”
صاح “شاكر” بانفعال يطيح بكل شيء أمامه:
يعني ايه نسيبهم ونرجع، في شرع مين ده…
نظر لوالده الصامت وتابع محذرا:
أنا سكتت علشانك لكن أقسم بالله أروحلهم دلوقتي وأجيبهم من شعرهم ولا هيهمني حد، والتانية اللي شافتني على الباب وملمحتش وشها بعد كده.
هز “مهدي” رأسه ساخرا وهو يسأله مضيقا عينيه:
ومين اللي عمل فينا كده من الأول يا محروس؟…
مش أنت!
قطع حديثهما دخول “علا” لمكتب والدها بعد أن دقت على البوابة عدة مرات، شعرت بتوتر الأجواء شقيقها الذي اشتعل وجهه بحمرة شديدة، وتلك القطع المهشمة على الأرضية، ووالدها الذي جلس وعلى وجهه نظرة غير راضية عن كل شيء.
حثها والدها على الحديث بقوله:
خير يا “علا” عايزة إيه؟
نظرت للأرضية وهو تحاول أن تجمع الكلمات كي تكون جملة مفيدة:
بابا… بابا أنا قعدت مع “محسن”.
_طب و رأيك إيه؟
سألها والدها فهزت رأسها تشير بالرفض وهي تقول أخيرًا:
مش مرتاحة.
وكأن أحدهم حقنه بمادة حولته لثور هائج، ولم يجد أمامه الآن سوى شقيقته.
نطق ” شاكر” باستنكار:
نعم يا حبيبتي، ماله “محسن” يا ماما قولي تاني كده.
اقتربت من مقعد والدها كي تكون في مأمن من غدر “شاكر” وبررت:
مش معنى إنه صاحبك يبقى فرض عليا
تابعت بضيق:
قولت قعدت معاه ومش مرتاحة.
اقترب “شاكر” وشعر بذعرها فقال بنبرة ملتوية:
مالك بس يا حبيبتي خايفة ليه؟
توقفت مكانها ولكن بعدم ارتياح وصدق ظنها حين أصبحت خصلاتها بين يديه حتى شعرت باقتلاعها من مكانها وهو ينطق بعدوانية:
فلوسه هتريحك يا روح أمك.
هب والده من مكانه وأبعده عنها وقد طفح كيله فنطق بغضب:
لا…ده أنت زودتها أوي، مفكر ملكش كبير ولا إيه؟
تعالى نحيب “علا” وارتعاد جسدها فاحتضنها والدها رابتا على خصلاتها بحنان:
بس يا “علا” خلاص اسكتي.
آتى “شاكر” ليتحدث ولكن منعه نبرة والده المحتدة:
ولا كلمة، وإيدك دي لو اتمدت على أختك تاني وأنا موجود هقطعهالك.
دخلت عليهم “كوثر” تسأل عن سبب بكاء ابنتها هكذا فقال “شاكر” بضجر:
مش عاجبها “محسن”.
رمقته ” علا” بعدوانية وتركت والدها لترحل من الغرفة وهي تقول بنبرة عالية:
ابقى روح إتجوزه أنت.
تحدثت كوثر بغرور بدا واضحا للعيان:
طب ما في ستين داهية، بنتي برنسيسة تتجوز سيد سيده، كفاية بس إنها بنت “مهدي فؤاد”
استدارت لابنها الذي لم يعجبها أي مما قالته وتابعت بغلظة:
وبعدين أنا كنت قلقانة من الأول، لما عرفت من العريس واحد من الصيع صحابك.
_أنت مش بقالك مية سنة بتحوم على حتة أرض في قرية نصران، و “نصران” مش راضي.
قالها “شاكر” وتابع ببريق كسا عينيه:
بعتله مره واتنين وتلاتة، وكل مرة يبعتلك ولاده بالرفض.. أنا بقى جايبهالك مقشرة.
اقترب منه “مهدي” يسأل وقد نجح “شاكر” بالفعل في جذب انتباهه:
هي إيه دي يا واد اللي مقشرة.
ضحك “شاكر” وهو يقول لوالده ما سيشعل الأفكار ويعطيها انطلاقة في رأس كلاهما:
عم “محسن” ليه أرض في قرية “نصران”، والوريث الوحيد لعم ” محسن” هو.
كانت قنبلة بحق جعلت تفكير “مهدي” ينقلب رأسا على عقب وهو يتبادل النظرات مع ابنه، وتشملهما عينان “كوثر” اللامعة باستغراب لهذا الحديث المبهم بالنسبة لها فقط!
★***★***★***★***★***★***★
في غرفة “رفيدة”
تأكدت من وضع كل شيء في الحقيبة استعدادا لرحيلها بعد يومين إلى جامعتها،
اشتعل الفضول لدى “يزيد” فسألها:
رفيدة أنتِ هتروحي السكن بكرا؟
هزت رأسها نافية وجلست جواره تعطيه الطبق ليتناول منه وجبته المفضلة _الكورن فليكس_
فأعاد السؤال قبل أن يدس الملعقة الأولى في فمه:
طب ليه حضرتي الشنطة؟
_أنا همشي المفروض بعد بكرا بس لقتني زهقانة قولت أحضرها.
قالتها رفيدة وقطع قولها دخول والدتها التي قالت بقلق:
شايفة حسن، خارج من الصبح ومرجعش لحد دلوقتي
ضربت على الحائط تتابع بتعب حقيقي:
أنا مش فايقة لأي حاجة، بدل ما تسيبوني في حزني على أخوكوا بتزودوا همي.
طلبت “رفيدة” من والدتها الهدوء بعد أن رأت حالتها المنهارة هذه وأشارت لها تطمئنها:
طب اهدي بس أنا هتصل بيه.
جلست والدتها على الفراش تنتظر إجابة من ابنتها عن ذلك الذي أنهكها أكثر من أشقائه جميعا… إنه ابنها
“حسن”.
★***★***★***★***★***★***★
كانت معه في سيارته التي شقت الطريق شقا، سألت بتوجس:
احنا رايحين فين؟
استدار لها بعينين ثاقبتين متحدثا:
أظن إنك ركبتي العربية بمزاجك، أنا مخطفتكيش على الرعب ده كله.
تذكرت ما حدث فهو بالفعل آتت له مكالمة كانت إجابته عليها حاسمة (أنا جاي دلوقتي)… استقل سيارته قبل حتى أن يبلغ والده ووجدها تدق على زجاج السيارة بكل قوتها وكأنها تهرب من وحش توعد بالتهامها، تهرب من ” شاكر” الموجود في الداخل… فتحت باب السيارة دون إذن منه وركبت في المقعد المجاور، أمرها بالنزول ولكن لم تفعل فأكمل طريقه وهو يعلم أن الأمر لن يروق لوالده وعائلتها بالمرة.
هو لم يكذب بالفعل ركبت معه بكامل إرادتها فكررت سؤالها مجددا:
طب لو سمحت ممكن تقولي رايحين فين، وتديني تليفونك أقول لماما.
في هذه اللحظة سمع رنين هاتفه فرفعه ليجد المتصل والده أجاب وهو يتوقع سيل الأسئلة التي ستنطلق الآن .
انتظر حتى أكمل والده أسئلته ونطق:
حصلت حاجة في المعرض بتاعي اللي في القاهرة ولازم أروح أشوف الدنيا، معلش ملحقتش أقول.
استمع لوالده واستدار ينظر لها وهو يطمئنه:
شافت ابن عمها من هنا ولقتها عمالة تتنطط ولا اللي ركبها عفريت، وركبت معايا فمشيت.
وصل إلى مسامعه تعنيف والده الشديد:
يعني إيه تاخدها وتمشي، ويعني إيه أصلا متقوليش أنك ماشي، و سايبني أدور عليك وعليها وأمها هتموت من القلق برا.
حاول إضفاء بعض الهدوء وهو يبرر لوالده:
مجاش في بالي، وبعدين متقلقش أنا خلاص على وصول فاضل دقايق، هخلص مشاويري وهيبقي مسافة الطريق اللي هنرجعه.
_الطريق اللي هو تلات ساعات، والساعة دلوقتي 9 بالليل.
قالها والده بانفعال وأغلق الهاتف في وجه “عيسى” الذي أتلف أعصابه بفعلته الهوجاء هذه.
أنزل “عيسى” الهاتف متأففا بانزعاج، فسألت بارتباك:
ممكن أكلم ماما؟
هنا ظهر ضجره جليا وهو يقول:
مش هنخلص من جو العيال ده بقى.
الليل أصبح ذعرها الوحيد، خصوصا هذه الساعات المتأخرة منه، فيها قُتِل فريد، وفيها هرولت على أمل أن تلقاه ولم يحدث… فيها ضاع حلمها وتحطم أملها وتبعثر كيانها لتصبح لا شيء فقط كائن به وجع يكفي سكان العالم بأكمله وأضف إلى ذلك أنه يخاف من الليل.
وصلت سيارته أخيرا بعد رحلة شاقة أمام معرض سياراته الحبيب، هوسه بكل ما يخص السيارات كبير…
فلو وُضعت كل سبل راحته في كفة، و سيارة في كفة اخرى لاختارها وضرب بالبقية عرض الحائط.
نزل من سيارته ونزلت هي تتبعه ناظرة حولها في كل مكان، تحكم معطفها عليها ليحميها من شعور البرد هذا…. دخلت إلى مكان كبير، إنه عالم سيارات … السيارات مرصوصة على الأرضية، ومن كل الأنواع سيارات حديثة كهذه التي جن جنون الشباب عليها هذه الأيام، واخرى قديمة كتلك التي كانت تشاهدها في أفلام الأبيض والأسود…. جدران تكاثفت عليها أشكال معقدة مُلونة باللون الفيروزي ودرجاته، ولوح زجاجي في الأعلى تصعد له بدرجات لترى تلك الغرفة التي غلفها هذا اللوح والأهم اسمه الذي نُقِش في منتصف الجدار الرئيسي بخط مميز وكأنه يسحرك ليعلق الاسم بذهنك
“عيسى”
خرج “بشير” من ذلك الطابق العلوي الشبه واضح لنظرها وهرع على الدرجات متوجها إلى “عيسى” الذي سأل:
حصل إيه يا “بشير”
إنه “بشير” صديق قديم له، تولى إدارة هذا المعرض في حالات غياب “عيسى” في شرم الشيخ و زياراته القليلة لأهله، وفي حالات وجوده يكون مساعد له ويجعل الجميع يعمل على قدم وساق.
زفر “بشير” بتعب وتبع ذلك بحديثه:
“باسم عراقي” جه هنا، سأل عليك وكان داخل بطريقة بلطجية… وقعد يهوش كده بكلام ملهوش لزمة وقال إنه جاي تاني.
تابع “بشير” مبررا:
أنا كلمتك علشان الموظفين والزباين اللي في المعرض خدوا بالهم، وأنت عارف العيار اللي ميصبش يدوش.
أشار “بشير” بعينيه على هذه المنكمشة في الخلف، فقط تتابع ما يحدث دون أي ردة فعل، استدار “عيسى” لها يقول بهدوء:
هتقعدي هنا هخلص مشوار وهرجعلك ونرجع اسكندرية علطول.
_ينفع اجي معاك؟
قالتها برجاء فهز رأسه نافيا وهو يتابع:
لا مش هينفع تيجي معايا المكان اللي أنا رايحه،
بشير معاكي هنا، وأنتِ في مكان رئيسي أساسا شايفة الناس برا كإننا الضهر، هنا مش زي في القرية عندنا.
هزت رأسها موافقة، فطلب منها أن تتبعه… صعدت خلفه درجات السلم حتى وصلت إلى غرفة مكتبه التي دُعِمت بالنافذة الزجاجية.
جلست على الأريكة وقام هو بتشغيل المدفأة، والتلفاز قائلا:
معاكِ كل حاجة اهو، و “بشير” هيكون برا لو احتاجتي حاجة.
نطقت بامتنان وقد ساهمت المدفأة في تقليل حدة البرودة:
شكرا.
أخرج من ذلك البراد الصغير علبتين من السمك المعلب (التونة)، وطبق بلاستيكي به شرائح من الجبن الرومي، وقف حائرا ثم قال:
هو في أكل بس مفيش عيش هبعت بشير ي
قاطعته متحدثة بصدق:
لا أنا مش عايزة أكل، حقيقي مش جعانة، لو في حاجة أشربها تمام.
أخرج لها زجاجة من الشاي المنكه الخاص به، ذلك المنعش بفقاقيعه المميزة، وضعها على الطاولة أمامها، تواجهت الأعين فلمح بوادر دموعها حين شاهدت المشروب بيده، بالتأكيد سقاه لها شقيقه قبل كذلك كما سقاه لعائلته كلها.
أخذت نفس عميق وتحدثت بنبرة شبه باكية:
مبحبش الشاي ده.
ارتبكت من نظراته الثابتة واستدارت تنظر جوارها قائلة:
فريد جابهولي مره ومحبيتهوش.
أعاد الزجاجة إلى مكانها في البراد وأشار ناحية العلب المرصوصة على إحدى الطاولات:
عندك نسكافيه، وشاي اعملي لنفسك حاجة تشربيها،
وعيشي حياتك بقى لحد ما ارجع.
قال جملته الأخيرة وهو يغادر الغرفة، فهزت رأسها باستغراب، من يراه يقسم أنه لا يبالي لأي شيء، جمع بين الصلابة واللين، الغموض والصراحة، في حضرته الراحة وعدم الراحة يستطيع أن يكون الشيء ونقيضه… مروره مؤلم يذكرها بفقيدها، الأسوء من أن ترى أحبتك أمام عينيك ولا تستطيع لمسهم هو أنهم ليسوا أحبتك بل مجرد
صور لهم.
★***★***★***★***★***★***★***★
كان “طاهر” يبحث مع “هادية” وابنتيها عن ابنتها الثالثة في كل مكان في قريتهم كما طلب منه عمه
صاروا على مقربة من المكان الرئيسي لمدخل القرية فقال “طاهر”:
متقلقيش يا مدام ” هادية” هنلاقيها يعني هتروح فين؟
لم تستمع له بل كانت في عالم آخر يرسم أبشع الكوابيس ولم تتجرأ “شهد” أو “مريم” على الحديث لأن حالتهما لا تقل شيء عن حالة والدتهما.
آتت إشارة أخيرا إلى هاتف “طاهر” فقرر الاتصال بعمه لعله يكون قد توصل لشيء ولكن سبقه “نصران” واتصل هو فأجاب “طاهر” بلهفة:
ها يا حاج في جديد؟
أخبره “نصران” باختصار فهز “طاهر” رأسه وأنهى المكالمة بقوله:
طب أنا راجع.
_لقاها؟
قالتها “مريم” بقلق فهز “طاهر” رأسه بالإيجاب:
أيوة هي كانت خايفة من شاكر ابن عمكم، ومشيت مع “عيسى”، متقلقوش ” عيسى” هيجبها ويرجع.
حمدت “هادية” ربها فأخيرا عاد الهواء لصدرها وسألت ابنتها السؤال الذي ودت أن تسأله:
يجبها و يرجع منين؟… هو خدها فين أصلا؟
لم يجب بسبب لهجتها التي لم ترق له، كان سيعود إلى داخل القرية مجددا ولكنه لمح تجمع أو ربما مشاجرة على بداية الطريق مع أحدهم.
استمرت أسئلة “شهد” العدوانية ونظرات شقيقتها لها مما جعله يقول:
والله يا أنسة “شهد” أنا لو لسه عندي وقت هضيعه فأكيد مش هضيعه في الرد على أسئلتك اللي بتسأليها بطريقة مش عجباني.
ابتسم متابعا:
فياريت تريحي نفسك وتسكتي ولما يرجعوا تقدري تسأليهم.
أخفت مريم رأسها في كتف والدتها حتى لا يرى أحد ضحكتها التي لم تستطع كتمها بينما نطقت “هادية” موجهة الحديث لشهد:
اسكتي دلوقتي.
تحدثت “شهد” بضيق لوالدتها:
محسسني إنه رئيس الوزراء
ثم قلدت نبرته في الحديث هامسة:
انسة شهد معنديش وقت أرد عليكِ.
ابتسمت والدتها وهي تضربها في قدمها منبهة:
عيب كده.
توقف بسيارته فجأة ونزل منها حين رأى شقيقه “حسن” وهو يقول للواقفين على مدخل القرية:
في إيه؟
قال أحدهم باحترام:
الحاج نصران ادانا أوامر إن الأستاذ “حسن” ميدخلش.
رد “حسن” بلهجة حادة:
ده على نفسكوا ده … أنا هدخل يعني هدخل.
أبعده “طاهر” عنهم يقول بغضب:
هما بينفذوا الأوامر… استنى هنا أنا هتصل بأبوك وأحاول أتصرف.
تبعته “هادية” تقول بقلق:
في حاجة حصلت؟
جاورتها “شهد” و “مريم” فقال “طاهر”:
متقلقيش حضرتك…. ارجعوا العربية بس وأنا جاي.
كان يحاول هو إجراء اتصال مع الإشارة اللعينة هنا، وعادت هي إلى السيارة فسأله ” حسن”:
هي دي الست اللي أبوك قعدها هي وبناتها في شقتك؟
هز “طاهر” رأسه فقال “حسن”:
بس بناتها جامدين.
_تصدق إنك عيل مش محترم، وأبوك عنده حق في اللي بيعمله معاك علشان تتربى.
قالها ” طاهر” بانفعال فأسرع “حسن” يبرر:
يا عم بهزر، ما أنت عارف حالتي من يوم وفاة فريد، أنا حتى قولت الخروج هيهون شوية بس معملش حاجة.
تحدث “طاهر” بحزن وهو يحاول الاتصال مجددا:
مفيش حاجة هتهون يا “حسن” ، الألم مبيمشيش جايز الأيام بتخدره بمخدر قوي شوية لكن عمره ما بيروح.
بدأ “حسن” في البكاء، فتوالت دموعه وهو يقول من وسطها:
أنا مش قادر أتعايش مع حقيقة إنه مش موجود، أنا حاسه مسافر وهيظهر في أي دقيقة ويقول ده مقلب.
تابع بألم يعتصره:
هو أنا ازاي هصحى الصبح أفطر و “فريد” مش قاعد جنبي على السفرة… كنت بتضايق لما يعترض على تصرفاتي، أنا عايزه يرجع لو دقيقة واحدة بس أقوله إني بحبه أوي.
احتضنه “طاهر” وأخذ يربت على ظهره بكفه وبالآخر يمسح دموعه هو الآخر فكل منهما يتشارك في وجع واحد هو فقيدهم وزينتهم
“فريد”.
في نفس التوقيت
في ذلك الملهى الليلي تعالت أصوات الأغاني التي امتزجت بالأضواء الملونة للمكان وناسبت الواقفين على ساحة الرقص يهتزون بلا توقف.
كانت هناك غرفة جانبية في هذا المكان تابعة لإحداهن…أنهت وصلة رقصها في الخارج، و آتت لتدخل غرفتها الخاصة تستبدل ملابسها فشهقت بذعر حين وجدته ممددا على الأريكة بغرفتها فقالت وهي تحاول الهروب من صدمتها:
خضتني حرام عليك.
ارتسم على محياها ابتسامة وهي تقول بانتصار:
كنت عارفة إنك هتيجي أنا ميتقاليش لا.
قام من مكانه واقترب منها ناطقا بكلمات بدت لها غامضة رغم وضوحها:
فعلا ما يتقالكيش لا
ابتسم وهو يتابع:
باسم عراقي فين بقى؟
تبجحت هي متخلية عن كل شيء والتصقت به ناطقة بشغف:
ما تسيبك منه خليك معايا أنا يا ” عيسى” ، أنا بحبك
تابعت تسأله بتصنع الاستنكار:
وبعدين هو أنت كيفك شغال مع الستات كلها وعندي أنا عطل.
كرر سؤاله ولكن كانت نظراته محذرة هذه المرة:
باسم فين يا “رزان” ؟
نطقت بغنج:
قولي إنك بتحبني وأنا أقولك هو فين.
ابتسم ابتسامة لم تعلم ماهيتها وصعقتها الصدمة حين قال ويده تلاعب خصلاتها:
بموت فيكِ يا بيبي.
هناك خطأ نعم بالتأكيد هناك خطأ وصدق حدسها حين استدارت بخوف لترى ذلك الذي أوشكت نظراته على قتلها وقتله…. وجدت “باسم عراقي”.
صدق من قال أن النظرات تقتل.
إنها الفرصة، تضعها الحياة في ملعبك مرات كثيرة وما عليك إلا التمرير أو الدفاع وربما الهجوم.
إنه عدوك وإذا قبض كف عدوك على ما تبحث عنه فاعلم حينها أنك في مأزق.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وريث آل نصران)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى