روايات

رواية مملكة سفيد الفصل الحادي والخمسون 51 بقلم رحمة نبيل

رواية مملكة سفيد الفصل الحادي والخمسون 51 بقلم رحمة نبيل

رواية مملكة سفيد الجزء الحادي والخمسون

رواية مملكة سفيد البارت الحادي والخمسون

رواية مملكة سفيد
رواية مملكة سفيد

رواية مملكة سفيد الحلقة الحادية والخمسون

كانت خطوة واحدة اتخذها هو، وهي لم تستطع أن تؤتي بردة فعل، وكيف تفعل وهي شعرت بجميع أطرافها تُشل، هذا الذي يركع الآن أمامها يعلن خسارته على مرأى ومسمع من الجميع هو نفسه سالار ..
وعقلها في لمحة سريعة عرض صورًا له يحارب ويتحرك فوق حصانه بكبرياء، ويأمر الجنود، لمحات خاطفة لسالار القائد، تقارنها بهذا العاشق هنا، لترى أنها أحبت كلاهما بنفس المقدار .
وكل ما استطاعت أن تفعله هي أن رفعت أطراف ثوبها بصعوبة وبيد مرتجفة، ثم جلست ارضًا أمام سالار ترفع عيونها له من خلف الغطاء تتمنى لو استطاعت رفعه، لكنها في الوقت ذاته شاكرة للغطاء الذي استطاع احتواء مشاعرها عن أعين الجميع .
كان الجميع يتابع باهتمام شديد ما يحدث ولم يتجاوزوا بعد صدمتهم لما حدث، لا أحد يصدق ما حدث سالار يعلن خسارته بكل فخر أمام أحدهم ؟ حتى وإن كان هذا الاحدهم هو زوجته، فهو كان الشخص الذي يتباهى بعدم خسارته لأي حرب، ولم يدرك هؤلاء المساكين أن سالار سبق وأعلن خسارته في ثلاث معارك هذه رابعتهم .
مدت تبارك يدها تمسك خاصته، تهمس له بصوت مرتجف من هول مشاعرها :
” لا عاش من يتسبب في خسارتك يا قائد، وإن كان فوزي يعني خسارتي فأنا أعلنه خسارة، ولا حاجة لي بفوزٍ ضدك، لنعلنها معركة تعادل، لا فائر ولا رابح ”
ابتسم لها متمنيًا رفع ذلك الغطاء والتأمل في ملامحها بحرية، لكن ليس الآن، رفع كفها لفمه يطبع على باطنه قبلة حنونة هامسًا :
” الخسارة لا تخزيني إن كانت أمام عيونك تبارك ”
صمت ثم نظر لها يقول ببسمة :
” أنتِ الآن تبدين ….تبارك ”
ضحكت بصوت خافت تهمس :
” وأنت تبدو سالار ”
” يسعدني أن أكون الآن زوجكِ، مولاتي ”
ختم حديثه ينهض وهو ينهضها بلطف شديد رافضًا أن تظل جالسة ارضًا بهذا الشكل، ثم مال بجسده يعدل لها من وضعية ثيابها يتأكد أنه لم يتأثر بجلستها ومن ثم استقام يضع سيفه في ثوبه، يمد يده لها يقول ببسمة :
” إذن مولاتي اسمحي لي بأن ازفك لنفسي ”
ابتسمت تشعر بالسعادة وارادت أن تضيف بعضًا من الحركات الملكية على ما يحدث فأمسكت طرف فستانها ترفعه بخفة في الهواء، ليتراجع جسد سالار بحركة تلقائية منه لم يتحكم بها جعلتها تنظر له بعدم فهم .
وفي ثواني كانت هناك ضحكة تصدح في المكان بأكمله ولم تكن هذه الضحكة سوى ضحكة إيفان الذي تابع خوف سالار المرضي من هذه الحركة منذ بداية القصة، يا الله متى مر كل هذا بهذه السرعة ؟؟
ابتسم سالار يكتم ضحكته، لكنه لم يتمكن من فعل ذلك فشارك إيفان الضحك يمسك بكف تبارك يقول :
” إذن نتحرك سمو الأميرة ؟؟”
أبتسمت رغم عدم فهمها لشيء، وتحركت معه ليفسح لهم الجميع الطريق ويتحركوا بينهم صوب الخارج وخلفهم جميع الملوك في منظر مهيب، ومن ثم النساء خلف الجميع بعدما أغلقن الجناح وتحركن .
وفي الحقيقة كانت جملة ” النساء اولًا ” غير متبعة بشكل كبير في الممالك، ليس لافتقداهم اللباقة المطلوبة أو ما شابه، بل لثقتهم الكاملة أنه حتى وإن احتوت هذه الحركة على احترام دفين للمرأة، فهي مرفوضة إن كانت مع نساء لسن بنساءك ..
خرج الجميع ووصلوا لساحة القصر التي كانت قد زُينت بالكامل بالعديد من المصابيح الزيتية ذات الأشكال المبهرة، مصابيح أنارت الحديقة بأكملها وبددت الظلام صانعة لوحة جعلت تبارك تشهق وهي ترى هذا التنظيم، ابتسم لها سالار يقودها معه لمنتصف الساحة ..
وبدأ الجميع يصفق وكلمات المباركة تترد حولهم، وتبارك فقط تراقب ما يحدث بانبهار وسعادة لم تعتقد يومًا أنها قد تمتلكها، وفي خضم كل ما يحدث تناست تبارك ذلك الشعور الذي اعتقدت أنه سيلازمها خلال زفافها، نست شعور اليتم جواره .
ابتسم سالار ثم ترك كفها تقف هناك هامسًا لها :
” رغم أنني لا أحب أن أفعل ذلك، وفعلته مرغمًا المرة السابقة لأجل وعدي لإيفان، إلا أنني لا اجد أفضل من هذه الطريقة للتعبير عن حبي لكِ، تحركي مع النساء عزيزتي ”
ختم حديثه بكلمات غير مفهومة لتبارك ليتحرك بهدوء صوب منتصف الساحة يلتقط الدف من دانيار، وهي فقط نظرت له بفضول شديد تراه يغمز لها غمزة سريعة، ثم شرع يغني بصوته الجهوري القوي وحوله الرجال يشاركونه ضرب الدفوف ..
وهي لم تشعر سوى بليلا تجذبها بخفة وهي تردد :
” هيا سنتحرك صوب قاعة النساء تبارك ”
وهي فقط تحركت بصعوبة وعيونها مثبتة على سالار متعجبة من هذه الكلمات التي تشعر أنها تهز دواخلها رغم عدم فهمها لما يقول، فقد كانت كلماته بلغة غير مفهومة خمنت بسهولة أنها فارسية، يبدو الأمر كما لو أنها انشودة فلكلورية أو ما شابه، تحركت مع النساء بصعوبة تقول :
” ما هذه الأنشودة ليلا ؟!”
نظرت لها ليلا ببسمة تقول :
” هذه انشودة قديمة تحكي عن أسطورة كانت الأجيال تتناقلها عن قصة عشق، تحولت فيما بعد لأنشودة ينشدها البعض تعبيرًا عن حبه العميق، تعبر عن الوصول واخيرًا للحب بعد سنوات انتظار طويلة كما حدث مع بطل الأسطورة، ويبدو أن القائد يكن لكِ مشاعر عميقة إذ أن جميع كلماته تخرج لكِ ونظراته مصوبة لكِ تحديدًا ”
وإن ظنت أن إجابة ليلا قد تقتل بعض فضولها، فقد اخطأت، ففضولها قد زاد لمعرفة تلك القصة الأسطورية، وقررت أن تسمعها، لكن منه هو فقط ..
تحركت بعيدًا مع النساء وهو ابتسم بسمة واسعة واستمر في ضرب الدف مع الرجال والغناء بسعادة لأجل نفسه ولاجلها، يحمد الله أنه لم يبصر أي نظرة حزن في عيونها .
فجأة وجد أحدهم ينتزع الدف من بين يديه وهو يلقيه لأحد الرجال ليكمل هو قرع الدف وجذب سالار لمنتصف الساحة حيث يحتفل الرجال يجبره على مشاركته الرقص وهو يحرك يديه في الهواء، ولم يكن ذلك الشخص سوى إيفان الذي تخلى عن كل ما يمكن أن يقيده لأجل الاحتفال بابن العم والاخ والصديق الاقرب له .
بدأت الحماسة تزيد بين الجنود وهم يزيدون من التصفيق بحماس شديد لا يصدقون أن الملك يشارك قائد الجيوش في الرقص يحركون الاقدام والأيدي بطريقة وحركات معروفة بينهما، وفجأة اقتحم أرسلان المكان دون أي دعوة أو إجبار يشاركهم الأمر تبعه دانيار وتميم ومهيار وكذلك مرجان الذي دفعه العريف يقول :
” أذهب يا فتى وشاركهم ”
شعر مرجان بالتردد من الأمر، ما الذي سيفعله هو بينهم، هم اصدقاء وأكبر منه في المكانة والعمر حتى، وقبل أن يفكر أكثر أجبره العريف وهو يصرخ به :
” أذهب يا دودة الكتب أنت وتوقف عن التحليل، ألا تنفع في شيء سوى القراءة والدراسة ؟؟ يا ويلي منك مرجان اذهب وشاركهم الرقص يا رجل ”
وقبل أن يعترض مرجان شعر بمن يجذبه وقد كان سالار الذي أبصر ما يحدث بينه وبين العريف وأدرك تردده ليبتسم وهو يجذبه يقول :
” لا يُرد طلبٌ لابي دارا يا فتى ”
أُجبر مرجان بطريقة أو بأخرى على مشاركتهم الاحتفال، ليندمج دون أن يشعر وهو يضحك بصوت مرتفع وسعادة كبيرة وقد بدأ الجنود والرجال والملوك بأكملهم يشاركون، إذ بدد هذا الاحتفال أي قيود قد توضع بين ملكٍ وجندي، فترى أرسلان يضع يديه على كتف أحد الجنود وهو يتحرك معه للأمام والخلف وإيفان يصفق للجميع ويشاركهم بسعادة وبسمة، ولمَ لا واليوم زفاف سالار، والسعادة واجبة للجميع …
رجال تراهم في ساحة الحرب ترتعب من ملامحهم، فمن كان يعتقد أن أشخاص مرعبين حين حملهم للسيوف كسالار وأرسلان، وأشخاص ترتعب لنظرة منهم كإيفان، وآخرين لا تستطيع مناقشتهم إذا ما منحتهم سلاحهم كدانيار وتميم، قد يندمجون بهذا الشكل مع الجميع ويتضاحكون ويغنون بهذه الطريقة؟؟
أما عن طبيبنا الهادئ، فتحفظه الدائم تلاشى وهو يشاركهم الاحتفال بسعادة كبيرة ..
وكل ذلك تحت أنظار بارق الذي كان يراقب سعادة سالار بقلب مضخم بالشجن، سعيد ومبتهج لأجل صغيره وربيب يده الذي كبر وجعله أكثر رجال العالم حظًا ليحظى به، فقد ابنًا واكتسب آخر.
وعلى ذكر ابنه الأول غامت أعين آزار بحزن شديد وهو ينظر حوله وسؤال واحد يتردد في عقله ” لماذا يا نزار؟؟ ما الذي كان ينقصك لتخون وطنك وعائلتك ومن قبلهم ربك وتتعاون مع اوساخ دمروا بلادك وقتلوا اخوتك ؟؟”
سؤال رماه آزار يومًا في وجه ولده الذي يحتبسه في أحد السجون منتظرًا أن يمده الله بالقوة والتجبر الذي يجعله قادرًا على رؤيته يُعدم، لكنه لم يستطع حتى الآن، كلما أخذ قراره حاربته صور طفله الصغير المبتسم الذي كان يركض خلفه من مكانٍ لآخر، الأمر اصعب مما تخيل، أصبح وحيد في هذه الحياة بلا وريث، لكن الله ما كان ليظلمه ويقسم ظهره في ولده إلا وعوضه بقطعة من شقيقته، يشبهها تمامًا بهذه البسمة …
محى دمعة كادت تهبط على وجهه حين أبصر سالار يستدير صوبه مبتسمًا، فابتسم له يراقبه بحب، وسالار رد له البسمة، ثم تحرك صوبه يعانقه بحب شديد :
” شكرًا لك يا أبي، لولا الله ومن بعده أنت، لكنت الآن هائمًا لا أجد لي مرسى ”
وكلمة أبي التي خرجت من فم سالار أجبرت دموعه على الهطول مجددًا وهو يجيب بصوت متهدج :
” بارك الله لي بك يا بني، وليكون اليوم بداية سعادتك الكبرى عزيزي، تستحق كل الخير، فأنت لم تقدم سواه، ليت الجميع سالار ”
ختم حديثه بتمنى خرج من اعماق صدره، ليدرك سالار ما يشعر به في هذه اللحظة يربت على ظهره هامسًا :
” هوّن على نفسك يا أبا نزار، فالنفوس متقلبة، ولا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا ”
ختم حديثه وهو يبتعد عنه مبتسمًا يؤازره يفكر في زيارة قريبة بعد الزفاف لخاله ليرى أمور نزار، متمنيًا في صدره أن يرزقه الله بالتوبة قبل أن يتسبب في أذية والده حزنًا وقهرًا.
ثواني وسمع صوت إيفان يناديه لتقديم الهدايا ..
ابتسم يتحرك بلهفة شديدة صوب مكان الجلوس المخصص له ولزوجته وما هي إلا دقائق قليلة وسمع طرق الدف المعلن عن وصول النساء، قرع قلبه بانتظام وتزامن مع قرع الدف، حتى وصلت هي وتوقفت أمامه ليبتسم بسمة واسعة وهي فقط ظلت مخفضة الرأس لا تدري ما يجب فعله، رغم أنها جاهدت في زفاف كهرمان لحفظ تفاصيله، لكن لشدة توترها نست كل شيء .
ابتسم سالار وهو يستدير صوب نزار الذي تحرك صوبه يمنحه صندوق خشبي عليه الكثير من النقوش البديعة وهو يبتسم له، فتح سالار الصندوق يلتقط منه اسورة مزينة بشكل مبهر، ثم أمسك يد تبارك يرفعها له يلبسها السوار مرددًا بحنان :
” هذه هدية والدك ”
رفعت تبارك وجهها بسرعة وصدمة من كلماته، تعابير لن تظهر بسبب غطاء وجهها الذي كان يشف بعض ملامحها .
ابتسم سالار يلبسها اسورة أخرى يهمس لها :
” هذه هدية والدتك ”
ومن ثم اتبعها بسلسال رقيق يميل قليلًا كي يلبسها إياه هامسًا :
” وهذه هدية زوجك ”
انتهى من باقي الحديث يحمل الصندوق من خاله يضعه بين يديها مرددًا :
” وهذه هدايا عاشقٍ لكِ مولاتي …..”
شعرت تبارك أنها أُصيبت بالخرس ولم تقوى على قول كلمة واحدة والجميع حولهم يتابع بسعادة كبيرة ما يحدث .
امسك سالار كتفها يديرها لتصبح في مواجهته وهو يعطي ظهره للجميع يكاد يخفيها بجسده ينزع عنها الغطاء، ثم أخرج شيئًا من جيب سترته يمسك كفها يضعه به :
” وهذا مهرك عزيزتي ”
وتبارك التي كانت ما تزال في صدمتها لا تعي ما يحدث ولم تفق إلا حين شعرت بشيء معدني بارد وُضع في كفها، تحركت عينها ببطء لتبصر مفتاح غريب الشكل يبدو قديمًا بعض الشيء، رفعت عيونها له ليبتسم هو لها قائلًا :
” مهرك وحقك عليّ زوجتي ”
” أنا…. أنا لا …لا افهم ”
ابتسم يشرح لها والجميع حوله يكاد الفضول يقتلهم لمعرفة ما قدم لزوجته عدا إيفان الذي كان يبتسم بسعادة كبيرة مدركًا هوية الهدية، وارسلان الذي كان يرمقهم بصدمة يقول :
” يا ويلي لا تخبرني أنه ما أفكر به ”
هز ايفان رأسه بنعم لتتسع أعين أرسلان أكثر وأكثر يردد :
” حقًا ؟!”
ابتسم سالار على نظرات تبارك يقول :
” لا تفهمين ماذا تبارك ؟! هذا مهرك، حقٌ عليّ، وأنا لم اجد اغلى من هذا لاهديكِ إياه”
ونظرات الفضول التي علت وجهها وهي ترمق المفتاح جعلته يوضح لها أكثر :
” قصر عائش …”
رفعت عيونها تحدق في وجهه بفضول اكبر ليبتسم قائلًا :
” القصر الذي يتوسط حدود سفيد مع آبى ”
قاطعه إيفان بسخرية :
” يتوسط ؟؟ بل يحتل الحدود بأكملها ”
ابتسم له سالار يكمل وهو يتذكر والده الذي بذل كل جهده ليقيم قصرًا لوالدته خارج هذا المكان بعدما أحالت شهرزاد أيامها لتعاسة، لكن الموت كان اسرع منهما :
” نعم، القصر الذي يحتل حدود سفيد مع آبى، قصر بناه والدي قديمًا لأمي ليكون قريبًا من حدود بلادها، وقد بناه بنفسه وبكل قرش يمتلكه تقريبًا، واستمر الأمر لسنوات طويلة حتى انتهى منه ولم …لم يسكنه أحد منذ ذلك الوقت ”
صمت ولم يوضح أكثر لتفهم تبارك ما يقصد، يبدو أنهم رحلوا قبل حتى أن يسكنوا به، لكن سالار لم يرد أن يفسد يومه بالحزن :
” الآن أصبح هذا القصر لكِ بكل ما فيه بالكامل ”
نظرت له تبارك بصدمة كبيرة وعجزت عن الرد .
بينما أرسلان ابتسم بصدمة :
” أهداها قصر والديه ؟؟ يا ويلي لقد …لقد كان لا يسمح لإنسان في هذه الحياة بأن يخطوه حتى، يهديه لها مهرًا ”
ابتسم إيفان يضم يديه لصدره وهو يردد :
” أراد أن يمنحها مهرًا لم يُمنح لسواها، فمن يمنح زوجته قصرًا بحجم نصف قرية تقريبًا ؟؟”
نظر له أرسلان ثواني قبل أن يقول :
” أوه هكذا، إذن امنح شقيقتي سفيد ”
استدار له إيفان متشنجًا ليبتسم له أرسلان ممازحًا باستفزاز كعادته :
” اريدك أن تمنح أختي مهرًا اكبر من خاصة سالار ”
ربت إيفان بغيظ على كتفه مبتسمًا بسمة حانقة:
” حينما تمنح زوجتك المستقبلية مشكى سأفكر بذلك”
رفع له أرسلان حاجبه وهو يضم يديه لصدره :
” وما حاجة زوجتي العزيزة بمشكى إن كانت ستمتلكني؟”
” أوه”
ضحك أرسلان على ردة فعله ينتبه لسالار الذي كان قد بدأ يتلقى الهدايا من الجميع ليجذب يد أرسلان يقول :
” هيا دعنا نكون اول من يقدم الهدايا لهما …”
تحرك معه إيفان بسرعة وقد بدأ المكان يمتلئ بهجة وسعادة والجميع يحدق بالعروسين في سعادة وعدم تصديق .
فها هو القائد وبعد ثلاثة عقود تقريبًا يقرر التخلي عن عزوبيته والرضوخ للزواج ويسلم حريته لامرأة، وليست أي امرأة، بل أمرأة من عالم المفسدين …..
وهكذا استمر الزفاف لمدة ساعات، حتى انتهى الجميع ونهض سالار يسحب يد زوجته يردد ببسمة :
” هيا سنتحرك ”
نظرت له بتعجب وهي تسير خلفه تحت بسمات الجميع والتصفيق :
” إلى أين؟؟”
نظر لها بسعادة يهتف وهو يمسكها من خصرها يضعها على الحصان لتصبح جالسها وهي تضع كلتا قدميها في جهة واحدة وهو قفز خلفها يمسكها جيدًا هامسًا وقد تحرك حصانه بسرعة كبيرة بعيدًا عن الجميع ليبدأ الزوار بالتفرق للرحيل وقد بدأ البعض ينثر الورود على سالار وتبارك :
” إلى قصر عائش، سنقضي مساء زفافنا الاول هناك مولاتي ….”
_______________________
ويبدو أن المساء لم يكن موعدًا حصريًا لهما، بل كان كذلك لقاء مرتقب مؤجل منذ ايام طويلة …
فبعد ساعات من انتهاء الزفاف ورحيل الجميع، وخلود البعض للنوم .
كانت تقف في نفس الساحة حيث بداية القصة، نفس الوقفة ونفس النظرات القديمة لكن مع لمحة مشاعر دخيلة على مشاعرهم القديمة .
شدد هو على مقبض سيفه وهو ينظر لها بأعين تظهر من لثامه الاسود، يراقب كل حركة تصدر من جسدهاء قبل أن يتخذ وضعية الدفاع يرفع إصبعه مرددًا بصوت خافت :
” أرني ما لديكِ جلالة الملكة ”
اتسعت بسمتها وهي تحرك السيف بمهارة بين كفها، تقترب منه خطوات قصيرة بطيئة كنمر يتربص لفريسته، وهو كان يستمتع برؤيتها تلعب دور الصياد في لعبة هي فريستها من الأساس…
فجأة اندفع جسد كهرمان بقوة صوب إيفان الذي تلقى ضربتها بملامح جادة وهو يعتدل يدفع سيفها للخلف بسرعة وقبل أن تدارك صده لها بسهولة كان هو يهاجمها بضربة عكسية جعلتها تميل للخلف بقوة حتى كادت تسقط ارضًا، وهو مال عليها يهمس لها :
” يبدو أن مرونة جسدك ليست حصرية للرقص فقط جلالة الملكة ”
رمقته بغضب وحنق تعترض على خداعه لها، ليهمس حين فهم نظراتها :
” لا بأس، كل شيء مباح في الحب والحرب مولاتي ”
اتسعت أعين كهرمان التي تظهر له في كامل وجهها ترمقه بحدة ليبتسم لها هامسًا :
” لا تنظري لي هكذا، فأنا لا أخشى عيون القطط خاصتك”
رفعت حاجبها تبتسم بسمة صغيرة انعكست في نظراتها ليبتعد هو ببطء مرددًا :
” بل اذوب بها..”
اعتدلت كهرمان تتنفس بقوة وهي تعدل من وضعية اللثام، ثم رمقته بتحفز وهو أشار لها :
” سأمنحك فرصة هجوم ثانية فلا تضيعنها، أنا لن اكون بهذا الكرم طوال الوقت ”
وبمجرد انتهاء كلماته حتى اخذت ضربات وهجمات كهرمان تتابع عليه كالسيل، حتى كاد يسقط سيفه سهوًا منه، لولا أن تمكن منه في اللحظة الأخيرة بسرعة يردد بجدية :
” لا بأس بكِ ”
أجابته بحاجب مرفوع :
” لا بأس ؟؟ بل أنا أكثر من هذا مولاي ”
ابتسم لها يجيب بهدوء وبكل بساطة :
” أنا كنت أقيم قتالك لا اقيمك أنتِ، لكن إن أردتِ تقييم لكِ، فأنتِ أكثر من مجرد لا بأس كهرمان …”
ختم حديثه يستغل شرودها يرفع سيفه يضرب خاصتها بقوة ليسقطه، ثم ضربه بقدمه ليلتقطه، يرفع السيفين في وجهها وهو يدور حولها :
” مازلتِ كما أتذكر، محاربة فاشلة وامرأة ساحرة”
استدارت له كهرمان بقوة وغضب تمنحه نظرة مشتعلة ليبتسم هو مضيفًا وقد احب رؤية ملامحها الغاضبة التي تعيد له ذكريات قديمة :
” لو كنتِ ماهرة في القتال بقدر بهائك كهرمان، لهزمتي جيوشًا بنظرة ”
ابتسمت له تقول بنبرة تماثله هدوءًا وخبثًا :
” ولو كنتَ ماهرًا في القتال بقدر مهاراتك في الحديث إيفان، لحكمت العالم بكلمة ”
اتسعت أعين إيفان وبسمته كذلك يردد بعدما تلقى كلماتها في منتصف صدره :
” أوه يا ويلي من لسانك الحاد ”
” ليس بقدر خاصتك صدقني ”
أطلق إيفان ضحكات مرتفعة وهو يلقي لها بالسيف يقول :
” حسنًا اعتقد أن معركة الحديث بيننا لن تنتهي بسهولة ولن نجد فيها رابحًا، عكس معركة السيوف من السهل تحديد الفائز بها، لذا جولة أخرى ؟؟”
التقطت كهرمان السيف بكل مهارة قبل أن تنزع اللثام عنها لتتنفس بشكل مريح تقول :
” جولة أخرى ”
وهو فقط راقب وجهها يقول ببسمة واسعة :
” تشهرين جميع اسلحتك في هذه الجولة، وهذا ليس بعدلٍ ”
اتخذت كهرمان وضعية الهجوم هذه المرة وهي تشير له تردد جملته بنفس بسمته تراقب الاستمتاع يلوح في نظراته وقد أدركت أن ليلتها مع هذا الرجل لن تنتهي بهذه السهولة وستكون أطول وأكثر ليالي حياتها جمالًا :
” لا بأس، كل شيء مباح في الحب والحرب مولاي …..”
ابتسم لها إيفان وهو يشير لها بالهجوم قائلًا ببسمة :
” اجعليها حربًا أو حبًا، لا يهمني طالما أنكِ طرفًا في أي منهما”
هجمت عليه كهرمان بسرعة وهو أخذ يصد ضرباتها تارة ويهاجمها تارة أخرى في استمتاع شديد، حتى صوبت نحوه ضربة عنيفة تجنبها بمعجزة وهو يميل ينصف جسده بسرعة مرعبة للخلف ينظر للسيف الذي كاد يخترقه :
” يا ويلي أنتِ جادة بهذا حقًا ؟! هل سلطّك شقيقك عليّ ؟؟؟”
نظرت له كهرمان ببسمة تقول :
” كنت اعلم أنك ستتجنبها ”
اعتدل يقول وهو يدور حولها وكأنه يبحث عن مدخل لها :
” وإن لم أفعل ؟؟”
” كنت سأوقفها في الوقت المناسب، لا تقلق أنا لست بمثل هذا التجبر لأقتل نفسي بيدي مولاي ”
ابتسم لها إيفان يقول :
” لا بأس سأسامح بالموت إن كان على يديكِ ”
ختم حديثه يرفع سيفه عاليًا، ثم هبط عليها بقوة تصدت لها بسرعة وهي تتنفس بصوت مرتفع جعل بسمته تتسع، يلقي السيف جانبًا، يرفع يديه في الهواء :
” حسنًا ستتوقف هنا فلا نود أن يستيقظ الجميع في الغد ليجمعوا اشلائنا ”
ضحكت كهرمان عليه ليقترب هو منها، يمسك يدها يقول ببسمة واسعة :
” ما رأيك في فعل شيء رائع آخر ”
نظرت له بفضول تنتظر أن يشاركها ما يقصد، ليبتسم يجذب يديها خلفه وهي تبعته دون قول كلمة واحدة وهو كان يحقق أحلامه في هذه اللحظة، يقضيها مع امرأته في ليلة باردة لطيفة …
توقف بها أمام الاسطبل يشير لها بعيونه صوب الخيل، لتتسع بسمة كهرمان بقوة وهي تقول متقدمة من الأحصنة :
” مُصر على تذوق الهزيمة مني في كافة المجالات اليوم ؟؟”
” سنرى ”
وبعد دقائق قليلة كانت الخيول تنطلق بسرعة كبيرة خارج الاسطبل تحمل فوقها الاثنين وصوت ضحكات كهرمان يبدد صمت الليل الخانق ورؤيتها تسعد قلبه ليشعر إيفان واخيرًا أنه نال نصيبه من السعادة في هذه الحياة، بل ويزيد …
علقت عيونه بكهرمان التي كان الهواء يداعب حجابها وبسمتها متسعة بقوة وسعادة لتصنع لعيونه اجمل لوحة قد يبصرها، اقترب منها بحصانه ينافسها يهمس لها :
” هيا أرني ما لديكِ ”
” الكثير مولاي ….”
وبهذه الكلمات ختمت الحوار لتشتعل المنافسة وتحفر حوافر الأحصنة مكانها في أرضية القصر، وتُحفر قصتهما في التاريخ .
عن ملك وقع ضحية عشق لأميرة هاربة ……
__________________
نالها من طلبها ..
وعلى العكس هنا، هو لم يطلبها ونالها، لم يطلبها لكنه رغبها وسرّها في نفسه، على عكس شقيقه الذي طلبها صراحة ودون خجل ولم ينالها حتى الآن..
بمجرد أن خطى مهيار جناحه الذي يقطن به في المبنى المجاور للمشفى، نبض قلبه بسرعة يبصر أمامه ليلاه ترتدي فستان بالاسود يتخلله بعض الفضة، وهي تردد بعض التهويدات وتدور في حركات راقصة راقية لطيفة .
وهذا المسكين الذي في حياته كلها لم يختلط بالنساء سوى لمامًا، ولم يعرف من الزهور عداها، كان فقط يقف فارغًا فمه بدهشة يراقبها بذهول وكأنه جاء من عالم آخر يستكشف اسرار عالمها، وهي حينما رأته ابتسمت وأخذت تدور حوله، وهو فقط يحرك عيونه معها ببسمة غير مصدقة ..
وفجأة توقفت ليلا عن الحركة وهي تعيد خصلات شعرها للخلف تقول بسعادة ولطف وهي تضم كفيها أمامها بترقب :
” ما رأيك ؟!”
نظر لها مبتسمًا بذهول مرددًا بشبه بلاهة :
” في ماذا ؟؟”
” في هذا العرض الذي قدمته لك منذ ثواني مهيار ما بك ”
اجاب ببسمة واسعة وصدق التمع في حدقتيه :
” حسنًا هو رائع، بل العرض الأفضل الذي رأيته حتى الآن، في حياتي لم أر عرضًا بهذا الجمال والابداع ”
رفعت حاجبها تسأله ببسمة ممازحة:
” وكم عرضًا شاهدت سيدي الطبيب لتصنف خاصتي بالاول ؟؟”
” واحد فقط …عرضك ”
أطلقت ليلا ضحكات مرتفعة وهي تقول :
” إذن صنفت عرضي بالمركز الأول في منافسة لا تضم سواه، أي نوع من المشاهدين أنت ؟؟ ”
اقترب منها بخطوات بطيئة قبل أن يتوقف أمامها يراقبها بانبهار، انبهار لا ينتهي، هو كل يوم ينبهر بها أكثر من سابقه:
” مشاهد مخلص لا يهتم بمشاهدة غير هذا العرض، ولن يمل مشاهدته لو قضي اعمارًا طويلة يفعل، ببساطة لأنه عاشق لهذا العرض ومن يؤديه ”
تنفست ليلا بصوت مرتفع تتراجع خطوات للخلف:
” حسنًا نكتفي بهذا القدر للان، عندما استوعب ما تقوله يمكننا الاكمال ”
أطلق عليها ضحكات وهو يراها تتحرك في الجناح تردد ببسمة واسعة، ترتب كل ما فسد أثناء تحضير هذه الليلة له :
” لقد كان الزفاف رائعًا، ألا تظن هذا ؟!”
” نعم كان كذلك، وأروع ما به وجودك ليلتي ”
استدارت له نصف استدارة وهي تمنحه بسمة واسعة تردد بصوت خافت ممازح :
” انتبه لئلا اعتاد الدلال فأفسد سيدي الطبيب ”
” تدللي كما تشائين ”
ألقت ليلا الثياب في السلة المخصصة لها، ثم أشارت له أن يقترب :
” هيا اعددت لك الطعام ”
نظر لها ثواني قبل أن يتحرك بعيونه صوب الاطباق المرتصة على الطاولة، ومقارنة سريعة بين هذه الحياة الدافئة الجميلة وحياته البائسة السابقة التي كان يعود فيها ليجد فراشه فيلقي عليه جسده ليستيقظ في الصباح يعيد نفس يومه السابق .
شتان بينهما .
اقترب من الطاولة ينظر لملامحها وهي اخذت تلملم خصلات شعرها في رباط صغير، ثم حملت بعض الثياب المريحة للنوم وتحركت صوب المرحاض :
” سأبدل ثيابي واعود ”
هز رأسه ثم تحرك هو الآخر ليبدل ثيابه وحينا فتح خزانته تفاجئ بمجرد أن أبصر حقيبة الأدوية التي تناساها في خضم ما حدث، كيف نسيها .
حملها يلقيها على الفراش، ثم أخذ يبدل ثيابه ولم ينتبه على خطوات ليلا خلفه التي خرجت مبتسمة تراقبه بسعادة لا تصدق أن حلمها يتحقق الآن..
من كان يصدق أن الطبيب الذي عاشت عمرًا تهيم به سرًا، سيجمعها به مكان واحد وهي تراقبه دون خوف أو خجل .
ما أجمل أن يكون الحبيب هو نفسه النصيب ..
استدار لها مهيار ليبصرها تراقبه ببسمة شاردة فابتسم لها يقول متسائلًا وهو يتحرك صوبها :
” ماذا ؟؟”
” فقط احاول إدراك انتي أحيا احلامي في هذه اللحظة ”
مد يده يضم وجهها بين كفيه، ثم اقترب منها يهمس أمام وجهها بصوت خافت :
” أخبركِ سرًا ؟؟”
رمقته بفضول وترقب فهمس لها :
” هذه كانت احلامي قبل أن تعي أنتِ معنى الاحلام”
اطالت نظراتها في عيونه ليبتسم هو لها بسمة واسعة يقص عليها متى بدأ هذا الحلم :
” اثناء دراستي الطب وترددي على محل والدك، ذلك اليوم الذي اتذكره جيدًا، دخلت المحل لإحضار بعض الأعشاب التي احتاجها في الدراسة، أخذت صدمة حياتي مدركًا أن السماء الصافية الممتلئة بالنجوم ليست المشهد الاجمل الذي رأيته في حياتي، هناك مشهد اجمل بكثير ..”
نظرت له تحاول تذكر أول مرة دخل لها محل والدها، هي حقًا لا تتذكر وهو فقط ضحك على محاولتها يقبل وجنتها بحب يهمس جوار أذنها:
” ذلك اليوم حينما كنتِ ساقطة ارضًا حولك العديد من الزهور وبعض السلال المحطمة، كان ومازال ثاني اجمل المشاهد التي ابصرتها في حياتي ”
ابتسمت تقول بصوت خافت :
” ثاني ؟!”
” الاول كان حين رأيتك تُزفين لي ”
وهذا كان أكثر مما تتمنى هي لتلقي نفسها بين أحضانه تضم خصره بقوة تهمس :
” أحبك مهيار ”
اتسعت بسمة مهيار بقوة وهو يشدد من ضمها له أكثر وأكثر وعيونه معلقة على الأدوية مبتسمًا، يدرك أن القادم معها سيكون فصل آخر في قصتهما، لكنه لأجلها يستطيع فعل أي شيء، سيخوض كل ما يمكن خوضه لأجلها ولأجل أن تكون بخير .
حتى إن اعتزل مهنته ووهب نفسه وحياته كلها لعلاجها هي، ستكون مريضته الوحيدة إن أرادت ..
” وأنا اعشقك ليلتي الجميلة ….”
___________________________
” أخبرتك يوم زفافنا دانيار ”
رفع دانيار يديه في الهواء بكل براءة، فهو بمجرد أن دخل الغرفة الخاصة بها حتى باغتته بهذه الجملة ظنًا أنه جاء لأجل مطلبه، لكنه فاجئها يقول ببسمة حنونة هادئة :
” صدقي أو لا تصدقي، لكن غرض وجودي الآن، في غاية البراءة ”
نظرت له ثواني دون تصديق، ليبتسم هو لها يتحرك داخل المكان وهو يضم يديه خلفه يحرك نظراته حوله وكأنه يبحث عن شيء فقده، وهي فقط تتابعه لا تدري سبب ما يفعل، حتى تحدث هو ببسمة صغيرة :
” جميل هذا المكان، غرفتك تبدو جميلة حقًا ”
نظرت زمرد حولها بتعجب تتساءل هل هذه هي المرة الأولى التي يرى غرفتها، ويبدو أنها نطقت كلماتها بصوت مرتفع، ولم تدرك ذلك إلا بعدما سمعت رده يقول :
” نعم هذه المرة الأولى التي اتأمل بها غرفتك، فأنا في جميع زياراتي لكِ سابقًا، لم يكن لدي الوقت الكافي لأفعل كنت انشغل بأمور أخرى ”
كان يتحدث بجدية وهو يحرك عيونه في المكان لتقوب هي بحاجب مرفوع مبتسمة :
” كالتواقح عليّ!!”
وإن ظنت أنها ستصمته وتخجله بهذا السؤال فهي مخطئة إذ ابتسم يقول بجدية :
” نعم صحيح، كالتواقح عليكِ ”
صمت ثم أضاف بجدية :
” أنا حقًا لا ادري ما يمكن قوله الآن، لقد كان التواقح فكرة أفضل من محاولة إيجاد أي موضوع للتحدث به معكِ الآن ”
ابتسمت تقترب منه وهي تردد ببسمة ممازحة :
” إذن أنت لم تأتي للتواقح كما تقول، ولا تمتلك شيئًا تتحدث به عدا التأمل في غرفتي ؟!”
صمتت ثم ضمت ذراعيها لصدرها تردد بجدية :
” إذن ما سبب تشريفك لي الآن سيدي قائد الرماة؟؟ ”
حدق بها دانيار واطال التحديق قبل أن يقول بكل بساطة وتلقائية :
” فقط أردت الجلوس معكِ وتمضية الوقت، حتى وإن لم امتلك ما اتحدث به، يمكنني الجلوس صامتًا طوال الليل طالما اتأمل وجهكِ ”
رمشت زمرد بصدمة وتراجعت للخلف، لم تتوقع هذه الإجابة، وقد اخرسها بكلماته ووترتها، تحاول ايجاد كلمات تجيبه، لكنه ابتسم يقول بهدوء :
” اجلس أمامك احدق بكِ طوال الليل، تبدو فكرة مغرية أكثر حتى من الرقص لي أو التواقح عليكِ، من الأساس استطيع قضاء المتبقي من عمري أفعل هذا دون الملل ”
اقترب اكثر يقف على بعد خطوة واحدة هامسًا :
” فقط أنا وأنتِ وليلة لا تنتهي وأنا احدق بكِ، هذا جُلّ ما أتمناه ”
ابتسمت له زمرد وهي تقترب منه تضم وجهه بين كفيها بحنان ليبتسم لها دانيار بكل الحب الذي يقبع داخل صدره لهذه المرأة والتي لا يدري من أين خرجت له، لكنه يدرك أنها هي مكافأة صبره في هذه الحياة، فإن لم تكن زمرد، فمن ستكون امرأته ؟؟
لا سواها يصلح ليكون معه ولا بغيرها يرتضي ….
ابتسمت تقول بصوت هامس وهي تقترب منه أكثر بحنان :
” انظر إليك كيف تكون رائعًا وأنت بهذه البراءة ؟؟ ”
رفع حاجبه لها يقول ببسمة :
” أنا أكون رائعًا بجميع الأحوال عزيزتي ”
” نعم وأنا أشهد بذلك، لكن حين تكون نظراتك صافية بريئة بهذا الشكل تزداد جاذبيتك ”
ابتسم لها وقد مد يده ببطء صوب خصرها يضمها له يحرك رأسه لها :
” إذن مستعد أن أصبح بهذه البراءة طوال الوقت إن كان هذا يزيد من جاذبيتي في عيونك يا امرأة، سأكون ببراءة طفلٍ لأجلك إن أردتي ”
نظرت له بشك من حديثه قبل أن تقول بهدوء وجدية :
” إذن هذا يعني أنك لا تريد ذلك العرض الراقص الذي كنت ارتبه لأجلك اليوم ؟؟”
اتسعت أعين دانيار بقوة وبحماس شديد يعدّل على حديثه السابق :
” أو …يمكنك اعتباري مراهق فاسد، سيكون هذا مناسبًا أكثر”
دفعته زمرد بعيدًا تصيح بحنق شديد :
” والله كنت اعلم أنك لن تستقيم بهذه السرعة والبساطة، تدعي البراءة وأنت ابعد ما تكون عن البراءة، تخبرني اشعار عن اكتفائك بليلة تأمل فقط وأنت تتلهف لما وراء ذلك ”
أطلق دانيار ضحكات مرتفعة وهو يحاول الامساك بها، لكنها عاندت وهي تتراجع للخلف، بينما دانيار استند بيديه على ركبتيه يحاول التحكم في ضحكاته :
” حسنًا أنا آسف، حقًا آسف، لقد كنت امزح معك اقسم لكِ، لا أريد رؤيتك ترقصين، كنت فقط امازحك”
نظرت له بشك وهو فقط ليثبت لها حسن نيته تنهد بصوت مرتفع، ثم مال وأحضر لها حجاب موضوع على المقعد يضعه على رأسها، ومن ثم تحرك بها لخارج الغرفة صوب النافذة يجلس على الأرضية، ثم جذبها لتجلس أمامه ونظر للسماء يأخذ نفسًا طويلًا :
” هذا ما قصدته بقضاء الليلة معكِ، أنا وأنتِ والسماء الصافية هذه وفقط ”
كانت زمرد ما تزال تحاول استيعاب ما يحدث، قبل أن يرتخي جسدها شيئًا فشيء لينتهي بها الأمر مستندة على صدر دانيار بهدوء شديد، تستمتع بالهواء حولها، هذه الحياة التي تحياها الآن، انستها ما عانت في الماضي، هي لم تتخيل أن تخرج يومًا من مستنقعها، أو ان تحيا هكذا حياة، لكن رحمة الله بها كانت أكبر من أي شيء آخر…
” أنا أشعر بالراحة الشديدة ”
نظر دانيار حوله يتأكد أن لا أحد سيبصرهما من هذا الارتفاع، وايضًا بسبب هذا الظلام، ليبتسم وهو يمد يده يزيح حجابها جانبًا، ثم أخذ يفرك لها خصلات شعرها بحنان لتتنهد زمرد براحة أكبر وتشعر بالنعاس الشديد .
” إذن كل يوم مستعد لقضاء الليلة بالطريقة ذاتها لاجلك إن أردتي ”
ابتسمت له وهي ما تزال مغلقة عيونها تتمتم ببعض الكلمات الغير مفهومة، ليشعر دانيار أنها لم تعد تعي ما يحدث حولها، فابتسم واستند بظهره على جدار الشرفة خلفه يخفض رأسها ببطء حتى استقرت على قدمه، يجعلها تتمدد في وضع مريح، ثم مال يطبع قبلة صغيرة على وجهها :
” نومًا هنيئًا مليئًا بجميل الاحلام، مثلك زمردتي ”
تمتمت هي قبل أن تغرق بشكل كامل في النوع :
” أنا أحب هذا، وأحبك”
ابتسم يستند برأسها على خاصتها يهمس بكل الحب :
” وأنا أحب هذا وذاك وكل ما ينتمي لك، واخيرًا مع كامل الحب أعشقك زمردتي ….”
رفع رأسه يستند بها على الجدار بعدما طبع قبلة أخرى رقيقة على جبينها، ثم نظر لها يحقق واخيرًا حلمه الذي أخذ يردده عليها منذ ساعة ..
يقضي ليلته بالكامل في تأمل عالمه وحياته القادمة، تأملها ……
__________________________
تراجع للخلف بعناد شديد يبعد عيونه عنهم رافضًا :
” أنت لا تستطيع اجباري على ما لا اريد ”
انتفض تميم وهو يتحرك صوبه بتحفز شديد وغضب يواجهه بكل الحنق الذي يملئ صدره تجاه هذا الرجل الذي كان بلا قلب ليرفض طلب ابنته بأن يزفها له.
” أي نوع من الآباء أنت يا رجل ؟؟ بالله ما رأيت من هو بمثل ….”
صمت يكبت كلماته القادمة لأجل برلنت التي كانت تقف في ركن السجن وهي تبكي بصوت منخفض حزينة من رفض والدها لطلبها .
تحركت صوب تميم تجذب يده وهي تشعر بخطأها لحضورها هنا ومطالبته بأن يزفها بعد كل ما فعل، كان خطأ كبير على أية حال .
” لنرحل تميم، لقد غيرت رأيي، أنا لا أريد، لا أريد أن أُزف لك مع أبي، سوف …سوف اجعل أمي تفعل، أو يمكنك أنت المجيء واخذي بنفسك و…”
كانت تتحدث بكلمات مرتعشة حزينة، رغم كل ما فعل بها، إلا أنها تغاضت عن الأمر حتى تُزف كجميع الفتيات، أرادت الشعور لمرة واحدة بحبه لها، لكن حتى هذا استكثره عليها .
توقفت عن الحديث بسبب صرخة تميم الجنونية التي هزت جدران السجن :
” تالله وبالله ووالله لن يزفك لي غير هذا الرجل، إن كان الأمر عنادًا فأنا اسوء منه، أردتي أن يزفك والدك وسيفعل ولو زفّك لي مكبلًا يدفعه الجنود دفعًا ”
استدار صوب عبدالله الذي كان ينظر ارضًا دون الحديث بكلمة، فقط كلمة ” لا ” خافتة هي ما خرج منه منذ دخلوا عليه السجن.
وتميم كان في هذه اللحظة قد جن جنونه، إذ جذبه من تلابيب ثيابه بعنف جعل برلنت تتحرك صوبه برعب وهي تهمس :
” لا تميم، لا أريد، دعه ”
لكن تميم لم يهتم وهو يهتف بغضب :
” سمعت عبدالله ؟؟ ستزف ابنتك لي ولو دون إرادتك، لن يزفها لي غيرك، تحلي ببعض الرجولة والإنسانية وعاملها كابنة لك، ارادتك أن تزفها بعد كل ما فعلت وتغاضت عن الأمر ليأتي الرفض منك ؟؟”
رفع عبدالله عيونه لتميم والتي كانت حمراء مليئة بالخزي يهتف بصوت موجوع :
” دع والدتها تزفها، لا أريد أن يفسد وجودي يومًا كهذا، أن يحضره أحد المساجين، هذا …هذا لا اقبله لها، صدقني في المستقبل لن تكون ذكرى جيدة لتتذكرها ”
تراخت يد تميم عن ثيابه شيئًا فشيء قبل أن يتراجع ببطء للخلف، وقد أخذ صوت بكاء عبدالله يرتفع وهو يهتف من بين دموعه :
” أنا لا أريد إفساد يومها كما أفسدت كامل حياتها، لا أريد فعل ذلك ”
انفجرت برلنت في البكاء بقوة وهي تتحرك صوب عبدالله دون شعور تهتف بحزن لنبرته المكسورة تلك :
” ابي لا تقل هذا ”
ختمت كلمتها وهي تضم نفسها لاحضانه لينفجر الأثنان في بكاء عنيف، أما عن تميم فتراجع للخلف يترك لهما مساحة للتعبير عما يجول في خاطر كل منهما، وبعد دقائق من البكاء أخذت برلنت تردد من بين شهقاتها :
” أنا لا اهتم لشيء بقدر تواجدك جواري أبي ”
نظر لها عبدالله بضعف ليهتف تميم بصوت خافت :
” سأطلب من الملك اخراجك صبيحة زفافنا، وسأقدم طلبًا للعفو عنك سيد عبدالله، اتمنى فقط أن تكون قد تعلمت درسك وعلمت قيمة ابنتك التي ورغم كل ما فعلته بها لا تزال تراك ابًا تحبه وتبره ”
ختم حديثه وهو ينظر صوب برلنت ثواني ومن ثم تحرك للخارج بسرعة تاركًا إياها مع والدها لتشعر بالرعب من فكرة أنه غضب منها لأي سببٍ كان .
كلمات سريعة قالتها لوالدها على وعد بالعودة، ثم هرولت للخارج تدعو الله ألا يكون قد ابتعد كثيرًا، لكن وبمجرد أن خرجت من باب الحجرة الخاصة بوالدها وكادت تهرول للخارج شعرت بيد تمسكها وتجذبها، ولم تكد تصرخ حتى سمعت صوته الحنون :
” انتهيتي ؟؟”
توقفت برلنت وهي تنظر له ينتظرها جوار الحجرة من الخارج :
” أنت هنا ؟؟ ظننتك رحلت ”
” كيف ارحل واتركك بيرلي ؟؟”
ابتسمت له برلنت وهي تقترب منه قبل أن ترمي نفسها بين أحضانه وهي تدمع دون شعور منها، لطالما كان تميم الحامي والمنقذ لها والمدافع عنها من كل شرور هذا العالم، كان ومازال …
” لِمَ البكاء بيرلي، ألستِ راضية الآن ؟؟”
هزت رأسها وهي لا تستطيع التحدث من بين دموعها ليتنهد وهو يتحرك بها صوب الخارج، ومن ثم تحرك صوب المعمل الخاص به والذي كان اول ما قابلهما، هنا حيث بدأ الفصل الجديد من قصتهما …
اجلسها على فراشه هناك، ثم جلس أمامها يردد بصوت خافت :
” أخبريني ما يرضيكِ وافعله، فقط أطلبي ”
” وجودك معي ”
ابتسم لها بحنان وهو يداعب بأصابعه باطن كفها :
” هذا ليس طلب برلنت، بل واقع حبيبتي، وجودي معك واقع لا اخطط أن يتغير لا الآن ولا لاحقًا، يكفيني أعوام طويلة عشتها دونك، جربت شعور فقدك مرة ولا أريد تجربته ثانية ”
نظرت له بأعين دامعة رغم بسمتها:
” إذن أنت تعدني أنك ستظل معي طوال الوقت؟! ”
” اعدك ”
” رغم كل ما أفعله من تصرفات غبية؟! ”
” رغم كل ما تفعلينه من تصرفات غبية ”
” ستحبني مهما مرت السنون ؟؟”
“سأفعل ”
” وستظل تدللني كطفلة صغيرة؟!”
” لكِ كل الدلال ”
ابتسمت وهي تضحك ضحكة خافتة بسبب يده التي بدأت تداعب وجهها بلطافة، ثم قالت وقد شعرت باشتياق شديد لفعل ذلك مجددًا :
” متى آخر مرة صنعت فيها فخار تميم ؟؟”
نظر لها تميم بعدم فهم لثواني قبل أن يجيب ببساطة :
” لا أتذكر في الحقيقة، لكن لماذا ؟”
” اريد أن نصنع واحدة سويًا، تمامًا كما كنا نفعل قديمًا، أريد استعادة ذلك الشعور الذي كان يدور داخل صدري حين تعلمني صناعة الفخار، هل يمكنك أخذي غدًا لفعل ذلك ؟؟ ”
نظر لها ثواني قبل أن يبتسم بسمة واسعة وهو ينتفض من أمامها يجذب يدها بسرعة صوب غرفة جانبية في المعمل والتي كان بها باب يطل على الحديقة الخلفية يردد بحماس شديد وقد أثارت هذه الفكرة لهفته لماضٍ ولّى :
” الآن إن أردتي ”
ولم تدري برلنت بنفسها سوى وهي تجلس في منطقة تبصرها للمرة الأولى في هذا الجزء من الحديقة وأمامها الكثير من الطمي وأداة صناعة الفخار، نزع عنه تميم سترته العلوية واحتفظ فقط بثوبه السفلي يشمر اكمامه وأمامه هي تجلس وقد ازداد الحماس بصدرها.
مدّ يده ببطء يضعهم على كفيها بعدما وضع قطعة طمي كبيرة على الآلة، واخيرًا بدأت جولة صناعة الفخار، لشيء غير معلوم الهوية حقًا، فلا هو يدري ما يريد صناعته ولا هي تهتم لذلك، وكل ما يفكران بهما أنها الآن يحيان ذكريات قديمة، ويغوصان في ماضٍ بعيد.
مال تميم برأسه يستند بها على كتف برلنت وهو يحرك يديها بحنان على الطمي ..
وهي فقط لا تستطيع التفكير بشيء سوى أنها الآن بين احضان تميم وانفاسه تداعب رقبتها وفجأة توقف قلبها للحظات حين سمعت صوته يهمس :
” ما تزال يدك مرتجفة كما السابق وضربات قلبك متسارعة، ألم نتجاوز كل هذا منذ سنوات صغيرتي؟!”
نظرت له برلنت وهي تستدير فقط برأسها له تهمس بصوت خافت :
” لا أظن سأستطيع ولو بعد مئات السنين تجاوز هذا الشعور تميم ”
” وأنا لا أطمح لهذا، فهذا يساعدني على معرفة تأثير قربي عليكِ، وهذا للحق يعجبني ”
ابعدت وجهها عنه تنظر للطمي تدعي التركيز به مبتسمة بسمة واسعة وهو اتسعت بسمته هو الآخر يضمها له أكثر، وهو يميل عليها كل ثانية يقبل وجنتها بسرعة، ثم يعود لإكمال عمله كأنه لم يفعل شيء، وهي كل ما تستطيع فعله هو الضحك من أفعاله، أما هو كان فقط يغرق في ضحكاتها كما سبق له وغرق في عشقها مذ كانت مراهقة صغيرة لا تفقه من الحياة سوى أنه رفيقها، ولا يعلم من الحياة سوى أنه عاشقها .
وها هي مرت الحياة لتكون من الإنصاف وتجمعهما بعد كل هذه السنوات …..
_____________________
ذلك المشهد الذي يظهر به البطل مع البطلة في نهاية أي مسلسل تلفزيوني أو فيلم، مشهد ختامي يرضي جميع المشاهدين المحبين للنهاية السعيدة، المشهد الذي يضم به البطل البطلة وهو يعدها بكل الحب والسعادة ومن ثم تُسدل الستارة عليهما وتنير كلمة النهاية الشاشة، ليغادر الجميع مبتسم سعيد حالم …
كان ما يحدث معها في هذه اللحظة وما تحياه، يصلح ليكون أحد مشاهد النهاية السعيدة .
هي أمام سالار على حصانه يضمها ويتحرك بها بين الأشجار وأسفل السماء المليئة بالنجوم وعلى صوت أنفاسه تغمض عيونها، بالله أي مشهد آخر يصلح لتختم به قصتها ؟!
ابتسمت بسمة واسعة حين سمعت صوته يقول :
” لا احزن الله لكِ قلبًا عزيزتي، لكن ما سبب هذه البسمة ؟؟”
أجابته تبارك وهي تجيبه بسعادة كبيرة وما تزال عيونها مغلقة :
” اشعر فقط أنني، أنني وإن انتهت قصتي عند هذه اللحظة سأكون أكثر من راضية ”
” أي نهاية مُهجتي، ونحن ما نزال نخط بداية القصة ؟؟ ما تزال هناك فصول عديدة نعيشها سويًا”
فتحت عيونها تنظر لعيونه الخضراء التي كانت تسحرها وخصلاته الصهباء التي تعشقها، وهي تجيب ببسمة واسعة :
” نعم ما يزال عليّ رؤية صغار يشبهونك سالار، هناك الكثير لاحياه معك، الكثير من الأحلام التي حلمت بها يومًا في يقظتي لم تتحقق بعد ”
” إذن اسمحي لي مولاتي أن أهب حياتي لتحقيق كامل احلامك ”
ابتسمت وهي تغمض عيونها تستند على صدره والحصان يتحرك بخفة صوب وجهتهما تقول بهدوء :
” يمكنك بدء تحقيق تلك الأحلام بأن تغني لي تلك الانشودة التي كنت تغنيها”
صمتت ثواني، ثم نظرت لعيونه تقول بجدية :
” أو تخبرني ما معناها تحديدًا ؟!”
ابتسم لها وهو يجذب جسدها أكثر حينما شعر بيده ترتخي عنها، ومن ثم قال :
” تلك انشودة فلكلورية قديمة تحكي قصة عشق قديمة لا أحد يدري أحقيقة كانت أم أسطورة ”
” نعم أخبرتني ليلا ذلك، ما لم تخبرني به هو ما هي القصة تحديدًا ”
بدأ الحصان يبطء من سيره شيئًا فشيء وهو ابتسم يقول بصوته الهادئ الاجش، نفسه الصوت الذي كان يرافقها في أحلامها :
” هي قصة تناقلتها الأجيال عن ملكٍ عاش حياته وحيدًا، آمن بالحب والحب لم يؤمن به، ولم يمنحه شرف عيش لذته، عاش الملك وحيدًا يبحث بين الوجوه عمن تشاركه حياته، لكنه ما عثر عليها يومًا، حتى وصل لعمر الخامسة والثلاثين وقرر أنه قد يأس ولن يضيع المتبقي من حياته على سرابٍ يحياه، ومن هنا بدأ يزداد تصلبًا وكأنه سلّح قلبه بالجمود…”
صمت ثم رأى الفضول يضغي على وجهها يكمل ببسمة :
” إلى أن هجمت غارة من الأعداء على إحدى قرى الحدود الخاصة به فذهب مع جيشه لحربٍ ضدهم، وحين وصل وخاض حربه، غدر به أحد الأعداء ليصيبه ويسقطه ارضًا، فتقهقر جيشه مرتعبًا وهُزم في تلك المعركة ظنًا أنهم خسروا ملكهم، وحينها ظهرت امرأة من نساء تلك القرية التي اغار عليها الأعداء لترى جسد أحد الرجال ملقى جانبًا مضجر في دماءه، فأخذته للعلاج وقضت شهور عديدة تفعل ذلك ”
كانت تبارك تسمع له متشوقة للنهاية وقد خمنت ما سيحدث وصدق تخمينها حين ابتسم هو يقول :
” نعم تمامًا ما تفكرين به، كانت هي المنشودة، اول ما أبصر الملك حين أفاق من غيبوبته ليسقط في عشقها من النظرة الأولى ويلين قلبه وهو يخبرها أول ما نطق أن تتزوجه …”
ابتسمت تبارك تقول بمزاح :
” محظوظة هذه الفتاة الرجل سقط في عشقها من نظرة واحدة، ليس كأحدهم أخذ شهور لينطق كلمة ”
نظر لها سالار بحاجب مرفوع، ثم قال ساخرًا :
” كان عليكِ رؤية نظراتي حين رأيتك المرة الأولى في المشفى وسرت خلفك كالمسحور ”
نظرت له تبارك بأعين ملتمعة منبهرة بما يقول وهو ابتسم لها، ثم مال يقول بمزاح :
” أظن أن هذا ما دعم نظرية صامد وصمود أنكِ قمتي بسحري ”
ابتسمت له تقول وهي تبعد عيونها عنه بخجل :
” ومن ثم ؟؟”
” لا شيء، فقط اخذت اقع بحبك كل ثانية أكثر، واتحين أي فرصة لوجودك جواري وأعاند أمام الجميع قربك، لكنني في داخلي كنت ابحث عن طيفك في كل ركن من أركان القصر معللًا ذلك بأنكِ مسؤولة مني منذ جئت بكِ ”
ابتلعت ريقها لكل ما قال تهمس بصوت مهتز بعض الشيء :
” أنا أقصد … أقصد القصة ”
ضحك سالار عليها وهو يميل عليها هامسًا بصوت خافت جعلها ترتعش :
” نهاية قصتهما معروفة عزيزتي، الآن اتركي قصتهما واهتمي بخاصتنا، ولولا أنني اغار على اسمك من أن ينطقه لسان غيري لجعلت قصتنا انشودة تتناقلها الأجيال، فلا أظن أن قصة ذلك الملك تمثل شيئًا مما مررنا به سويًا ”
ختم حديثه يتوقف بحصانه أمام بوابة حديدية ضخمة لترفع هي عيونها التي اتسعت بقوة وهي تتأمل ذلك الصرح العملاق ..
تحرك الحصان يدخل بهما للقصر الذي اناره سالار بالعديد من المصابيح يهمس لها بحب :
” مرحبًا في قصرك مولاتي …”
كانت أنظار تبارك تمر على كل شيء حولها وهي تحاول استيعاب ما ترى عيونها، سمعت صوت خرير مياه لتهمس :
” نافورة ؟؟”
ابتسم ينفي وهو يشير لجزء بعيد في غرب القصر :
” بل شلال عزيزتي ”
شهقت تبارك بنبهار وهي تراه يهبط ثم يساعدها لتفعل ومن ثم أمسك يدها يسحبها خلفه صوب منطقة الشلال التي نشر بها مصابيح ارضًا وبعض المصابيح العائمة في البحيرة التي تتوسط الحديقة يهمس لها :
” أعجبك ؟؟”
” قطعة من الجنة ”
ابتسم بسعادة لانبهارها :
” كله لكِ الآن، إن أردتي الانتقال والعيش هنا سنفعل”
استدارت له ترمقه مصدومة تسأله إن كان جادًا، وهو ابتسم يؤكد لها كل كلمة نطق بها، لتقترب هي منه تقول ببسمة :
” ما أسعد على قلبي من العيش هنا المتبقي من عمري معك، لكن ….حياتك وعملك وجميع من يخصك هناك في القلعة سالار، لا استطيع انتزاعك من بينهم، وأنا… أنا انتمي حيث أنت ”
” يمكنني الموازنة بين الأمرين تبارك، فقط أخبريني إن أردتي الاستقرار هنا ”
نفت تهز رأسها تدرك أنها ستكون أنانية منها إن وافقت على هذا :
” يكفيني أن تحضرني كل اسبوع مرة لنقضي يوم معًا هنا، سيكون هذا كافيًا لي ”
” سمعًا وطاعة مولاتي…”
اخذ بيدها يتحرك بها بين الحدائق صوب مدخل القصر الذي كان ممهدًا للسير يحده حدائق وزهور من كل مكان، حتى توقفوا أمام البوابة الداخلية والتي كانت من الالوان الابيض والازرق، دفعها سالار بهدوء لتتسع عين تبارك مما أبصرت، قصر ورغم بساطة تجهيزه إلا أنه كان مبهرًا، كانت كمن سُحبت داخل إحدى القصور القديمة الفاخرة في العصور الفكتورية، لكن بلمسة فارسية نابعة من تراثهم …
اخذت تدور في المكان وهي تتلمس كل شيء حتى وصلت في النهاية لنقطة البداية أمامه حيث كان يتوسط البهو الرئيسي منتظرًا أن تنتهي من جولتها دون أن يقاطعها ..
” سالار هذا ….هذا …هذا مبهر، بكل بساطة مبهر وأكثر من ذلك ”
” سعيد أنه اعجبك، أنتِ أول شخص اسمح له بالدخول هنا ”
نظرت له ثواني قبل أن تركض وتلقي نفسها بين أحضانه وهي تهتف له بحب :
” والله لا يهمني ما قدمت لي بقدر كلماتك تلك سالار، لا حرمني الله منك ”
تراقص قلب سالار فرحًا من كلماتها يرفع جسدها عن الأرض وهو يضمها بقوة لدقائق لا يعلم هو مقدارها، وهي لم تهتم بحسابها، فقط لحظات مقتطعة من هذا العالم ..
ثواني وابتعدت عنه تقول ببسمة واعين ملتمعة من السعادة :
” لو عشت عمري بأكمله احلم بزفاف والله ما تجرأت وتخيلت نصف ما حدث لي ”
” أخبرتك عزيزتي، احلمي وأنا احقق ”
نظرت حولها تتنفس بصوت مرتفع من هول المشاعر التي تدور داخلها، ثم أمسكت كفه تضمه لها تقول بملامح غير مفسرة ولهفة واضحة في عيونها وبشدة :
” راقصني يا قائد ”
نظر لها سالار بعدم فهم، لا يدرك ما تقصد أو تريد قوله، وهي اقتربت منه أكثر تمسك كفيه تضعهما على خصرها، ثم رفعت عيونها له تقول :
” لطالما حلمت برقصة مع زوجي يوم زفافنا”
ورغم جهله بما تريد، إلا أنه شدد يده على خصرها رغم أنه لم يقسو عليه، يجذبها صوب صدره أكثر متعقمًا في عيونها :
” لا افهم ما تقصدين ”
” فقط غني لي….. وراقصني ”
وهو فقط رأى الرجاء في عيونها ولم يدرك ما عليه فعله، إلا أنه فقط يدرك أنه لا يريد أن يرفض لها شيئًا ترغبه بهذا القدر :
” علميني ”
ابتسمت وهي ترفع كفها تضعه على موضع صدره تمسك بالآخر طرف فستانها تبعد عن طريقها لتتحرك بحرية ثم قالت :
” فقط غني لي وضمني لك واجعلني اتمايل سالار ”
وكان لها ما أرادت، لم يهتم لشيء لا لأنه لا يحب الغناء كثيرًا، أو أنه لا يفقه بما تتحدث عنه، لم يهتم سوى لرغبتها التي نفذها وهو يشدد ضمها له وبدأ يردد كلمات غير مفهومة على مسامعها بصوت هامس، يتحرك معها حركات بسيطة لطيفة وهي فقط أغمضت عيونها تحيا أحلامها …
في ساحة القصر الواسعة وفي هذا المساء، بدئا الاثنان يتحركان بخفة وتبارك توجهه لما يفعل فكانت تدور حول نفسها تارة ويميل بها تارة، وهناك بسمة سعيدة ترتسم على شفتيها، لا تصدق أنها الآن جعلت قائد جنود لجيوش الفرس يراقصها في قصر متطرف على حدود بلاده .
كالحلم ها ؟!
لكن حتى وإن كان كالحلم، فقائدها تعهد أن يجعله واقعًا، وقد صدق وعده لها….
لتنقضي ليلة كالحلم على تبارك، ليلة تصلح نهاية سعيدة كما قالت لسالار، لكنها لا ترتضي بها نهاية، بل ستكون بداية لها، مع ذلك القائد الذي جاء واختطفها عنوة من عالمها ليزج بها في عالمه الخاص ويجبرها على التأقلم، حتى ترضخ هي لكل شيء طالما سيقربها منه .
وهو ذلك المتجبر الصخري الذي لان لأجلها فقط، وكأن الله ما أرسله ذلك اليوم لعالمها، سوى ليجد سكنه وسكناه ومسكنه، وجدها واختطفها من عالمها لتصبح هي عالمه ..
زوجته واميرته وملكة قلبه والمرأة التي كان وما يزال مستعدًا لإقامة حروب على العالم لأجلها، المرأة التي خسر وأحب الخسارة لأجلها .
وهذه يا سادة كانت الخسارة في المعركة المائة وخمس وعشرين للقائد سالار ……
____________________________
عوالم مختلفة اندمجت لتخلق لنا قصص كالاساطير، ورغم كل الاختلاف ورغم كل المعوقات إلا أن النهاية كانت واحدة.
فمن كان يتوقع أن قائد الجيوش الذي ارعب اعداءه، والذي ذهب لإحضار ملكة بلاده سيقع في عشقها ويأثم بحبها إن كان حبها إثمًا، بل ويقيم حروبًا إن طالبته بهذا ؟؟
أو من تخيل أن الملك الذي كان يزن كل كلمة منه ويحرص على كل نفس يخرجه، سيفقد تماسكه وتعقله أمام امرأة امتلكت كل ما أفقده عقله، ليأثم بحبها وأفكاره بها …
أو تلك المسكينة التي عانت من ماضٍ مخزٍ وفرت من القرية الظالم أهلها، لتعيش بسلام بين جدران سفيد، فما وجدت سلامها إلى في عيون من لا تستطيع الاقتراب منه، وهو لم يهتم لكل ذلك، بل كان مستعدًا ليأثم بحبها ..
والتائه الذي عاش عمره هائمًا يبحث عن صغيرة بضفائر فقدها بين زحام الحياة وغدرها، أخذ يبحث عنها في كل الوجوه، متغافلًا أنها تراقبه من بعيد تنتظر فرصة لتعلن عن وجودها ….
وطبيب متزن لم يجد مسكنه سوى بين سماء ليلاه اللطيفة التي كان يتحجج بكل ما يمتلك فقط ليحظي بنظرة أو بسمة منها ….
سفيد لم تكن مجرد مملكة، بل كانت عالمًا، حللنا به ضيوفًا، عشنا معهم بين طرقات المملكة، خضنا معهم حروبهم واحتفلنا بأنتصاراتهم، سفيد ومشكى وأبى وسبز، بلاد في أواخر العالم انعزلوا عنا، لكننا هنا وفي هذه الحكايات عاندنا حكمهم واندمجنا بعالمهم دون علمهم، وها نحن نخرج من بوابة سفيد.
نتحرك بهدوء في الطريق الممهد صوب البوابة، بقلوب حزينة وجزء مشتاق، نستدير للخلف نلقي النظرة الأخيرة صوب القلعة على أمل بعودة قريبة…
قلعة سفيد، حيث صاحبنا أول الآثمين في رحلته، وها نحن نودعه صوب رحلة أخرى ومغامرة أخرى ……….
دمتم سالمين
رحمة نبيل .
تمت بحمد الله

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مملكة سفيد)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى