روايات

رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2) الفصل العشرون 20 بقلم أمل نصر

موقع كتابك في سطور

رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2) الفصل العشرون 20 بقلم أمل نصر

رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2) الجزء العشرون

رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2) البارت العشرون

نسائم الروح (ميراث الندم 2)
نسائم الروح (ميراث الندم 2)

رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2) الحلقة العشرون

داخل السيارة التي كانت تقلهم في طريق عودتهم من العاصمة، وقد مر على الرحلة عدد من الساعات ، ولم يتبقى الا القليل حتى يصلوا الى محافظتهم، ومنها الى البلدة.

كانت الأجواء مشبعة بالبهجة والمناكفات بين اربعتهم، تسودها المودة والرحمة وبعض الاحقاد الذيذة، تلك التي تخلق جوا من المنافسة والمرح ، قبل ان يصمت عن الجدال والنقاش معهم فجأة، ويتجمد محله، يغرق في دوامة من التفكير جعلتهم ينتبهون له:

– ايه يا عمنا؟ سرحت في ايه من بينا، ليكون زعلت من قرنا عليكم، انتوا طلعتوا ومخدتوناش معاكم يبجى اتحملوا

قالها عارف مخاطبًا له، فجاء الرد من نادية بقلة حيلة:

– يادي الطلعة اللي طالع عينا عليها دي، ما ترد ع الجماعة دول يا غازي، انا مش ملاحجة على لسان اختك ولا جوزها
قهقه عارف فتولت زوجته مهم الرد:
نعم يا ست نادية، وليكي عين تجاوحي كمان معانا، بعد ما اتفسحتي وكلتي درة ع الكرنيش يا جليلة الأصل، يخونك الدرة اللي كنت بسويه انا على نار الشواية في عز الطل والبرد.

– ايوة يا روح، في الفسحاية ورا البيت، على روائح البهائم القريبة منكم.

قالها عارف لتنطلق موجة من الضحكات منهم، الوحيد كان هو الذي لم يستجب لها، ليلفت النظر اليه هذه المرة بقلق عبر عنه ابن عمه:
– غازي طمنا، ليكون في حاجة حصلت في البلد، انت من ساعة الاتصال اللي جالك من شوية واتكلمت فيه بهمهمة مش مفهومة، وبعدها اتبدلت ودخلت في سرحان، جدتي فاطمة حصلها حاجة؟

– وه.
تمتم بها متفاجًأ من تخمين الاخر، لينتقل الزعر لشقيقته هاتفة به:
– يا مري، يعني جدتي فاطمة تعبانة صح؟ طب ليه مجولتش يا غازي؟

صفق كفيه ببعضها بقوة يعبر عن استيائه من فعلهما:
– لا حول ولا قوة الا بالله، مين اللي جاب سيرتها دلوك بس ولا جال انها تعبانة؟ هو انتوا تألفوا وتردوا على بعض!

تدخلت هذه المرة زوجته، والتي اصابها ما اصابهم:
– حجهم يشكوا يا غازي، ما انت مش شايف وشك اتغير ازاي؟ حن عليك لو في حاجة طمنا .

زفر يمسح بكفه الكبيرة على فكيه يحاول استجماع الهدوء، فقد ادخل بحماقته الشكوك بصدورهم، ولابد له الاَن من البحث عن حل سريع يسكتهم عن السؤال قليلًا، فرأسه المطحون بهواجسه القاتلة في هذا الوقت لا ينقصها:

– يا جماعة الحكاية مش زي ما انتوا فاهمين خالص، دي حاجة خاصة بالشغل، بلغني ان عيل صغير كان شغال في زرعنا، لاشته عقرب جبل سمها شديد، الواد كان هيروح فيها، لولا الرجالة خطفوه يجروا بيه على مستشفى البندر، وربنا يستر والدكاترة تلحجه.

يبدوا انه قد احسن بحبك قصته هذه المرة، والتي انطلت على المرأتان، لتضرب الأولى على صدرها بجزع:

– يا ساتر من المصايب يا رب، ربنا ما يحرق جلب ام على ضناها، واد مين دا يا بوي؟ خلي الرجالة ميجصروش معاه يا غازي، دي لطشتها واعرة يا جوي، ربنا ينجده يارب ربنا ياخد بيده

روح هي الأخرى:
– جولي على اسم المستشفى اروح اطمن عليه بنفسي، واجف مع اهله، لازم حد يأزرهم في المحنة:

زجرها بغضب رافضًا عرضها:
– تروحي فين وانتي راجعة دلوك من السفر؟ لو مش حاسة بالتعب، يبجى خافي على العيل اللي في بطنك ، ما تجولها يا عم الحج وعجلها البت دي.

توجه بالاَخيرة نحو ابن عمه، الذي استجاب سريعًا ينهاها، رغم شكه بعدم صحة القصة:

– اسمعي كلام اخوكي يا روح مش ناقصة جنان، ولا انتي عايزة تسجطي العيل؟

– لا يا عارف بعد متجولش كدة ولا تفول، اعوذ بالله.
هتفت بها وضعها كفها على موضع الطفل بأحشائها بحمائية، وعتب اثر بشقيقها، ليهادنها بقوله:

– الف بعد الشر عليكي يا بت ابوي، احنا بس بنفترض السوء عشان تخلي بالك من نفسك، الراحة لازمة، ولو ع الواد، ف انا نازل دلوك ورايح بنفسي، الرجالة على مدخل البلد مستنيني اروح معاهم.

تسائل عارف، بعدم ارتياح:

– رجالة مين؟ وهما يستنوك ليه؟ ما يلحجوا الواد وانت انزل مواصلات اول ما نجرب من المستشفى، او اوصلك انا بنفسي دلوك.

من محله في الكرسي الامامي، حدجه غازي بنظرة محذرة غاضبة، يضغط على اسنانه بغيظ حتى يفهم وحده دون أن يثير انتباه النساء:

– اسمع اللي بجوله ومتلتش في الكلام، انا عارف هتصرف ازاي؟ وصل الحريم على البيت الكبير وريحهم فيه، وانا هتصل بيك ابلغك على عنوان المستشفى تاجي تاخد بخاطر اهل الواد، فاهمني؟

لم يكن بحاجة للمزيد، فقد فهم عارف الاَن ان الأمر جلل، ولابد له ان يستجيب معه بما يناسب الحدث:
– ماشي يا غازي، اوصل الحريم وابجى معاك ان شاء الله، دي اصول واحنا خير مين يعرفها!

❈-❈-❈

في الشقة الجديدة للمكتب المزعوم، وقفت تتأمل بانبهار الديكور العصري، وبعض التحف الباهظة، بما يدل على الزوق الرفيع لصاحب الشركة،

– المكتب شكله يجنن يا صلاح، ربنا يجعلها عتبة خير .
التفت اليه متابعة بزهو:
– وابجى انا وشي حلو عليك وتشتغل النهاردة

تبسم لها بزهو يميل على البراد الصغير في زاوية الغرفة الشاسعة، ليخرج إحدى علب العصائر والتي كانت في جانب وحدها، ثم وضع بها الانبوب المجوف ليقدمها لها :

– دي حاجة انا متأكد منها، امال بقالي فترة بزن تيجي وتشوفيه بنفسك ليه؟ ما هو عشان كدة يا قلبي، خدي بقى حلاوة الافتتاح

تناولت منه، لتضع العلبة على الطاولة الزجاجية، ثم جلست على المقعد المقابل لمكتبه:

– يا سيدي وانا جولت اجبر بخاطرك، نبخت العتبة، مع اني شايفاه انه حاجة الاَجة ومحترمة، دا غير الموقع في نص البلد وع الكورنيش، كيف ده مشتغلش لحد دلوك؟

شرب من زجاجة الماء التي كانت على سطح المكتب قبل ان يجيبها:
– يا بنتي ومين قالك انه مش شغال، دا احنا ماشين ما شاء الله، انا مركز فيه اليومين دول، عشان يبقى عشرة على عشرة قبل ما ارجع القاهرة واتابع اللي متأخر هناك، بعد ما اسيب حد ينوب عني هنا.

التوى ثغرها باستنكار وحنق:
– يعني مرتب نفسك اها وماشية حلاوة، امال ايه لازمتها بجى العطلة والحجج اللي بتزرفها في وشي كل ما اكلمك؟

تبسم بلؤم، يعود بجذعه للخلف باسترخاء الواثق، بعدما اوقعها بشباكه :
– ومين قالك اني مش مرتب نفسي عليكي انتي كمان؟ يا قلبي انا حلفت ان مش هخطي عتبة البلد دي غير وايدك في ايدي، ولا انتي مخدتيش بالك ان من ساعة رجلي ما حطت هنا وانا متتعتش، ايه بقى؟ عاشق جمال الحر؟

مال برأسه نحوها يتابع بتغزل:
– ولا واقع في جمال العيون وسحر الجمال الفاتن يا فتنة انت يا اسم على مسمى

كالعادة استطاع بغزله ان يرى حجم تأثيره على ملامحها التي استرخت بزهو، رغم مكابرتها وادعاء القوة في وجهه:

– ما تحاولش تلهيني زي كل مرة، انا المرة دي عايزة فعل، يا اما هبعد نهائي، وكل واحد مننا يروح في طريج، حتى لو جيت تطلبني من اهلي بعدها هرفض.

رد بهدوء يزهلها:
– وليه يا قلبي التنشنة بس والعصبية؟ ما انا بالفعل المرة دي ناوي من غير تأخير…

عقبت بلهفة غير عابئة بمظهرها أمامه:
– بجد يا صلاح؟ يعني انت فعلا هتتجدم رسمي وتطلبني من اهلي؟

ردد ليؤكد لها:
– بجد يا عيون صلاح، النهاردة هتوصلني اول دفعة من صفقة مهمة عملتها قريب، وبكرة على طول هنزل البلد عندكم واروح اطلبك من والدك، ولو سألني عرفتها منين؟ هقولهم سألت على اجمل ست في البلد ودلوني عليكي……..

– يا لهوي على كلامك اللي يدوخ
تمتمت بها بقلب يتراقص بالفرح، مراوغ ولكنه يجيد التأثير بها، يعطيها حقها من التدليل، إنه بالفعل يجيد التعامل مع النساء، يا لها من محظوظة؟ عكس ابن عمها وطليقها الجلف والد البنات، الاَن فقط تاخذ حقها منه، حين ترى النظرة في عينيه بعدما يفقدها بالفعل، وتنال هي ما تستحقه:

كان هذا ما يدور برأسها في هذا الوقت قبل ان تستفيق على قوله:
– مش هتشربي العصير بقى؟
وقبل ان ترفع العلبة الى فمها، تفاجأت باندفاع الباب، ودخول اخر ما كانت تتوقعه…….

– ايه ده؟ انتوا مين؟
انتفض هو صائحًا بهم، كما فعلت هي تتسائل بقلب سقط من الرعب :
– غازي! انت ايه اللي جايبك هنا؟

❈-❈-❈

في منزل غازي الدهشان
بعد وصولهن الى المنزل، والجلسة مع الجدة فاطمة في بهو المنزل الكبير، كان الحديث والرد على مشاكسات المرأة المشاغبة كعادتها:

– اه يا مضروبة الدم انت وهي، كل واحد رايحة وبطنها مادة جدامها، مفكرتوش تاخدوا المرة العجوزة، انتوا ما كان ليكم غير جوز جلامة على خدودكم، لو العيال دي دي رجالة بصح؟ خدتوا الجلامة ولا لاه يا بت؟

توجهت بالسؤال نحوهما، ليستجبن بابتسامات ضعيفة ردا لها:
– مأجلين الحساب لبعد ما نولد يا جدة، كل واحدة هتاخدوهم من جوزها بالفوايد.
قالتها روح بادعاء الاندماج معها، لتضيف على قولها نادية بالسؤال الملح:
– هناخدوا تالت ومتلت كمان، الا جوليلي يا جدة، متعرفيش واد مين اللي لاشته العجرب في زرعة القمح؟.

زوت فاطمة ما بين حاجبيها باستغراب:
– مين اللي لاشته العقرب في زرعتنا؟ انا اول مرة اعرف، انتوا مين جالكم؟

تبادلتا النظرات لبعضهما بقلق، يزدن من حيرة المرأة ، لتكرر بسؤالها بغضب:
– مين اللي بلغكم بالكلام دا يا بت؟ دا اكيد إشاعة مطلعها حد ابن حرام عشان يخوف الناس ويبطلوا شغل عندينا.

تحولت الملامح السمحة للجدة لشراسة يعلمنها جيدًا، تشعرهم بفداحة ما تفوهن به في نظرها، فكان لابد الاَن من التراجع، واجادة الكذب معها:

– يا جدة متعصببش جوي كدة، ممكن صح تبجى اشاعة وغازي اكيد هيكشفهم، ع العموم هو نزل على مصلحة تهمه في المحافظة، اول ما ياجي هكلمه يشوف الامر دا بنفسه…

استسرلت نادية بهم، في محاولة لاقناع المرأة ، والتي توجهت بالسؤال نحو حفيدتها:
– وانتي يا ست روح، جوزك منزلش بعد ما وصلكم ليه؟ ليكون معاه مشوار هو كمان منعه ما يسلم على جدته؟

صححت مبررة على الفور:
– اه والله يا جدة كان مستعجل جوي، دا بلغني انه كان ناسي وافتكر بس ساعة ما وصلنا، اكيد هيخلص وياجي هوا، ما انتي عارفاه يموت ويناكفك.

– امممم
زامت بها فاطمة بفم مغلق تشيح بوجهها للناحية الأخرى، وقد ساء مزاجها بعد سماعها بهذا الخبر السئ والضار بسمعة العمل في الاراضي الشاسعة لهم.

اما عنهما فقد خيم الصمت عليهم، وحالة من عدم الارتياح تتسرب بقلب كل واحدة، ان كان الخبر شائعة، اذن اين ذهب الاثنان؟

❈-❈-❈

دلف بهيئة لا تبشر بالخير على الإطلاق، عينيه مثل الجمر ، ملامحه السمراء كانت في هذه اللحظة مظلمة بحق، طاقة من غضب قادرة على إحراق من امامها بأقل مجهود.

رعب شل اوصالها حتى تلجلجت في تكرار السؤال الذي لم يجيب عنه في المرة الاولى:
– غازي انا سألتك، ايه اللي جابك…هنا؟

ضيق عينيه بنظرة زادت من بث الرعب بداخلها، قبل ان يتوجه للاَخر، والذي جف حلقه وتلجم لسانه، ليتوافق مع باقي اعضاء الجسد الذي اصابها شلل مؤقت ، ثن أجفل منتفضًا على صيحة وحشية:
– اترزغ مكانك ياض واستنى على ما يجي دورك..

سقط على مقعده لا إراديًا، ليستدرك بعد ذلك لنظرتها الحادة نحوه، فلم يعجبها خنوعه، لتعود نحو طليقها وقد عادت إليها شراستها بعد اهانة الاخر:

– انت ماشي ورايا ليه يا غازي؟ واحدة جاية مكتب محترم ، داخل علينا بزعابيبك ايييه؟ ظبطني في جريمة؟

رمقها بنظرة مستهزئة، ثم خرج صوته اليها:
– اهدي شوية، وبلاش تدي لنفسك جيمة اكتر من حجمك، اطمني هي كلها لحظات!

– لحظات ايه بالظبط؟ جاي تكلمنا بالالغاز اياك؟
تشجع صلاح يستلهم القوة من شراستها، ليخاطبه بنبرة تبدوا متعقلة:
– يا حضرت، انا معرفش حقيقية انت مين؟ وليه بتعمل كدة؟ مدام فتنة جاية عندي لشغل، اظن دي حاجة مش عيب ولا تمسك، عشان تتصرف بالعنف ده ومن غير سبب .

اطلق غازي ضحكة مجلجلة ليعقب على قوله بسخرية:
– وبدون سبب! اللي يسمعك يفتكر انك راجل عملي وصاحب شركة على حق.

– افندم حضرتك؟
تتمتم بها صلاح، لتضيف هي باستنكارها:
– انت كمان جاي تتمهزهق على خلق الله وتجل منهم، ايييبه؟ مش شايف غير نفسك وبس؟

قابل صيحتها ببرود متناهي، ليومئ لها بكف يده اشارة للإنتظار، مع سماعه لبعض الاصوات القريبة منهم، ثم قام بفتح الباب لتنصعق هذه المرة بدخول شقيقها، ثم والدها ، الذي طرق على الأرض بعصاه مزمجرًا بتحفز، بصحبة الملعون ابن عمها الاخر، والذي اغلق باب الغرفة، مخاطبًا غازي:

– انا مشيت العيلين اللي برا، والدنيا امان دلوقتي، محدش هيحس بينا.

– محدش هيحس بينا.
رددت بها بتحريك شفتيها،.تشعر بعظم الخطر، بتوقف الاربعة امامها كجدار من نار سوف يسحقها بتهمة تتواتر الى ذهنها في هذه اللحظة، لتنقل بنظرها نحو هذا الذي تعول على شجاعته الاَن، فزاد عليها بهيئته المرتعبة، لتغمغم بالتساؤل نحوهم:

– هو فيه ايه؟

❈-❈-❈

بعدما تناول معها وجبته من الطعام، ليتسطح على التخت يريح جسده المنهك من تعب السيارة والتنقل من المشفى الى هنا، ووجع الرأس قد زاد اضعاف، لولا هيبته لتأوه كطفل صغير من الألم .

اعدت شقيقته المشروب الساخن لتقترب منه وتعطيه له:
– اشرب ده يا واد ابوي، وبعدها ريح ونام، اكيد على ما جومت يكون الوجع خف عليك…… هو العلاج مجابش فايد دلوك؟

لوح بسبابته بمعنى لا ، ثم اعتدل بجذعه ليتناول منها المشروب الساخن، ومالت هي لتعدل الوسادة كي تستند ظهره من الخلف:

– معلش وجع الراس مش هين ابدا، دلوك تريح وتبجى عال العال.
ارتشف من كوبه بتلذذ، ليرفع رأسه نحو صغيرته بحنو متمتمًا:
– يسلم الإيدين الحلوة، وحشني كل حاجة منك يا جلب اخوكي.

سقطت تجلس بجواره، لتقبل كتفه العريض ثم تضم الذراع الضخمة تقول بدموع متأثرة:
– مش اكتر مني يا حبيبي يا خوي، اللجمة مكانش ليها طعم في زوري من غيرك، مهما كان الوكل حلو ، عمره ما يجيب طعم الويكة حتى من يدك ، ربنا ما يحرمني منك ابدا.

قبل اعلى رأسها بابتسامة ممتنة، يتنهد بعمق الحمد لربه، ان اعاده للحياة مرة أخرى، ليس من أجله، وانما من اجل صغيرته، صغيرته التي عرف بها طعم الابوة منذ مولدها، تلك التي لم تكن تعرف معنى الدفء سوى في حضنه، تحكي له كل ما مر بيومها وهو يقرأ لها ويحفظها بالأيات الكريمة والأدعية، كي تنام قريرة العين دون احلام سيئة تزعجها، حضن شقيقها الذي لم تفارقه سوى عند عمر الثامنة، بعدما بدأت تكبر وتشعر بأنوثتها،

انتفضا الاثنان فجأة على دوي الهاتف، بجيب بيجامتها المقابل له، ليظهر اسمه على الشاشة الصغيرة أمامه بوضوح، ضم فمه يطالعها بضيق جعلها تتوتر في قولها:

– دا اكيد ناسي حاجة وعايز يسألني عليها،

تمتم بصوت خفيض حانق:
– هي الحاجات اللي بيسألك عنها دي مبتخلصش؟ مية مرة من ساعة ما جينا والتليفون مش مبطل رن.

زاد توترها لترد بلجلجة وهي تنهض من جواره:
– ااا اممم، هو بس عشان كان متعود ع العيشة وحده، وانا باوظتله كل النظام، عن اذنك هاروح اشوفه عايز ايه؟ ريح ضهرك انت عشان تنام.

قالتها وغادرت الغرفة بخطواتها السريعة، ليظل متطلعًا لإثرها، ثم يتسائل مع نفسه باستهجان:
– بجى دي الصغيرة تتجوز يا ناس؟!
عاد برأسه للخلف ليتسطح ويريح وجع الرأس الذي زاد به الألم لأضعاف:

– الله يسامحك يا بوي….. ماشي يا يوسف

❈-❈-❈

جلس الجميع تنفذا لامر غازي، على المقاعد الموجودة بهذا المكتب الأنيق، واجهة مبهرة للخداع، وبدون الدخول في مناقشات او الجدال بلا معنى، اخرج من جيب سترته مجموعة من الصور وبدأ يوزعها على الجميع، ويخرج صوته امام الصدمة التي اللجمت معظمهم:

– الصور دي اتاخدت لمجابلات المحروسة مع الباشا ده اللي بتجول انها جاية عنده النهاردة في شغل
دا كله كان في محل مشهور داخل مول تجاري معروف هنا في المحافظة، كذا طجم في كذا صورة، معناه المقابلات اتكررت كذا مرة
السؤال بجى واللي انا عايز اعرف اجابته منك يا عمي يا كبير ناسك سنًا وجيمة زي ما بتجول:

– بتك كانت بتجابل الواد ليه؟ ولو في شغل فعلا، ممكن اعرف ايه طبيعة الشغل اللي تخلي عميل يتجابل مع رئيس شركة في المحلات.

ضرب سعيد على الأرض بعصاه، لتصدر صوتًا قوي ازعج الجميع، يرمي بنظرات نارية نحو ابنته وهذا الغريب، ثم يعود الى غازي بغيظ شديد يبحث عن رد ينفي عن نفسه هذا العار، لكن فتنة سبقته بصيحة اعتراض، تفيقه من صدمته، هو وشقيقها:

– اولا انت ملكش حق تراجبني ولا تاخدلي صور، ثانيا بجى الباشا اللي انت بتتريج عليه دلوك يبجى خطيبي وهنتجوز جريب.

تطلعت في الأخيرة نحو والدها تبتغي الدعم، فما كان منه سوى ان يجاريها من اجل حفظ ماء وجهه، وبعدها عليه تربيتها:

– اييوة ااا هو فعلا خطيبها وطلبها مني….. انت عايز تجيب العيب ع البت وبس.

– يااا عمي.
قالها بنظرة متشككة اربكت الرجل، ولكنه كان يجاهد الثبات، ليتوجه عارف بالسؤال نحو شقيقها بلهجة ساخرة ومقصودة:
– الكلام دا صح يا ناجي؟ الباشا يبجى خطيب اختك، وانت راجل مودرن بتطلعها بتتفسح معاه في البندر وعايشة حياتها

احتدت عيني الاَخير نحوه، يود الفتك به ولكنه في موقف لا يحسد عليه، وكما حدث في الاولي عادت فتنة الكرة تنهر ابن عمها بهجوم:

– انت كمان يا سي عارف هتعمل راجل عليا؟ دا انت متجوز المحروسة بعد فضيحة…….

– اخرسي يا بت ومتخربطيش.
هدر بها مدوية قاطعة، ينهرها بعنف:
– تصدقي بالله، انت تستاهلي كل اللي يجرالك، حتى الرحمة خسارة فيكي….

اضاف على قوله غازي المتماسك بقوة عن الفتك بها وازهاق روحها:
– تمام خالص، انا عايز كلمة اخيرة اتأكد بيها ان كان الواد ده خطيبها ولا حاجة تأني عشان ننهى….

خرج اخيرا صوت صلاح يستغل الفرصة التي أتت له على طبق من فضة ممتنًا لغباء فتنة وحماقة والدها المغتر:
– انا فعلا عايز اتجوزها على سنة الله ورسوله، فتنة انسانة محترمة وانا اتشرف بنسب عيلتها يا اخ انت.

ابتسمت بتشفي ظنا منها انها نالت منه، ليصدح صوتها بعلو وقوة:
– اهو جالك وانا جبليها جولتلك، وابويا كمان أكدلك عليها ، عايز ايه تاني؟ نغنيها ع الربابة؟

بزغت ابتسامة غير مفهومة على زاوية فمه أثارت استفزازها، ليضرب والدها بالعصا على الأرض بحزم، حتى ينتهي من هذا الوضع السخيف:

– خلاص اهي بانت وعرفت اللي فيها يا واد اخوي، يعني فوضها بجى ولو ليك اعتراضات تأنية نكملوها في بيتنا، فوضوها خلينا نمشي.

هتف به يوقفه:
– لاه يا عمي مفيش مشيان….. ولازم انا احط النجط ع الحروف من اولها، مدام مشيت ورا بتك في جنانها، يبجى تسمع الناهية، الواد ده انا سالت عليه زين وعرفت انه راجع من الخليج ، يعني لا باشا ولا دياوله، العيلين اللي برا مكنوش موظفين ، ده مأجرهم النهاردة عشان حضور المحروسة، وانا مش عايز اعرف كان غرضه ايه مدام انت حللته وجولت ان خطيبها، جوزهالوا وانت حر معاهم، بس انا بناتي هيبجو في حضني، واللي هيتنفس منكم ويجول اخدهم، ساعتها بجى هضطر الم العيلة واطلع كل الصور، زي ما عملتها انت جبل كدة يا عمي، فاكر.

قال الاَخيرة بقصد نحو ما حدث قبل ذلك مع شقيقته، ليتابع أمام زهولهم:
– وحاجة اخيرة، ارجو تسأل زين على عريس بتك اللي مأجر شجة، عامل نصها مكتب شركة، والنص التاني، مسكن يعيش فيه….. دا اللي انتوا بتجولوا عليه بأشا!

قالها وسحب نفسه يخرج سريعًا من امامهم، تبعه عارف ايضًا، بعد أن القى بنظرة اخيرة عليهم، ليترك الثلاثة امام صلاح الذي تحرك لسانه جيدا هذه المرة بعد ان التقط أنفاسه:

– انا مبسوط جدا بزيارتكم يا جماعة، اقعدوا بقى عشان ارحب بيكم ، بعد الهمجي دا ما مشي، تعالي يا عمي نتفاهم واعرفكم انا مين؟

– عما الدبب
زجره سعيد ينفض كفه التي امسكه بها، ليتابع بغضب مكتوم، وتحذير ووعيد:
– من بكرة تيجي ع البلد تطلبها رسمي واشوف ايه حكايتك، يا اما وعهد الله لادفنك مطرحك لو منفذتش، وانتي….. حسابك معايا في البيت

همت لتبرر او تدافع، ولكن شقيقها كان الأسبق ليخرصها بالقبض على شعرها، يهمس بفحيح:
– نفسك منسمعوش، تنجري دلوك من غير صوت، وزي ما جال ابوي حسابك في البيت

❈-❈-❈

عاد الى المنزل اخيرا، يجر اقدامه جرًا من التعب ، اجهاد السفر مع ما تم خلال الساعات الماضية، والتي يحمد الله انها مرت على خير، دون ان يرتكب جريمة مع من لا يستحق.

وجدها في انتظاره ولم يغلبها سلطان النوم كما كان يتوقع، جالسة على الفراش تقلب بالمتحكم على شاشة التلفاز، التفت اليه فور ان شعرت بوجوده، لتهديه ابتسامة ما اروعها:

– اخيرا جيت يا غازي، حمد ع السلامة

بماذا يرد، وهذا الاستقبال ينسيه التعب، وينسيه العالم، حبيبة قلبه؛ النظرة اليها تسر القلب وتنعش الروح .

تقدم حتى وصل اليها ليسقط بجسده على الفراش، ليقترب منها ثم يريح رأسه بحجرها يتمتم ردا لها:
– جيت يا جلب غازي، جيت لعشي ومنبع الراحة في حضنك.

لم تغفل عن هذه النبرة المجهدة في صوته، ولم تتأخر عن الشعور به، لترفع كفها الى رأسه، تخلل اصابعها بين خصلات الشعر الفحمية، مخاطبة له بحنو:

– سلامتك من التعب، مالك يا غازي؟ لدرجادي مشوارك كان صعب.
رد من بين زفرات يطردها:
– جوي يا نادية، صعب فوج ما تتخيلي، بس الحمد لله انتهى على خير
– الحمد لله.
تمتمت بها ثم دنت تطبع قبلة على جبهته جعلته يتأوه ليزيد بضم نفسه اليها:
– اه يا نادية، والله انتي ما تعرفي بحركاتك البسيطة دي بتعملي فيا ايه؟ ولا الضمة دي، والجرب من حبايبي، انا كنت محتاجكم جوي .

قال الأخيرة بالإشارة الى زوج التوأم بأحشائها، مما جعلها تضحك مشاكسه له رغم تأثرها بقوله:

– يارب بس تتحملهم لما ياجوا ع الدنيا.
رفع رأسه يقابل عينيها بخاصتيه قائلًا:
– اتحملهم واتحمل عشرين زيهم، طول ما هم منك

– عشرين مرة واحدة، احنا بس نربي دول وربنا يعينا عليهم، مع اني بصراحة اتمنى اكتر، ما انا جولتلك بحب العيال.

صمت برهة وقد شجعته كلماتها ليبلغها بقراره:
– طب وبناتي يا نادية، لو جولتلك اني نويت اجيبهم يعيشوا معايا عشان امهم هتتجوز ترضي؟

– فتنة هتتجوز؟
تمتمت بها ثم سرعان ما استوعبت، لتجيبه بعدم تردد:
– في عيوني الاتنين يا غازي، بناتك هما بناتي،

تناول كفها، ثم السبابة التي أشارت على عينيها، ليقبلها بامتنان:
– يسلملي عينيك ويسلملي جلبك، وتسلميلي كلك على بعضك يا جلب غازي.
عاد مرة أخرى لحجرها الحنون، يتأوه بلوعة:
– اااه يا نادية، كنت فين بس؟ وغايبة عني من زمان.

❈-❈-❈

في صباح اليوم التالي
استيقظ الشقيقان على الصوت المزعج لجرس المنزل، لينهض بسيوني بحنقه حتى يرى من الطارق السمج الذي يأتي في هذا الوقت المبكر، وكانت المفاجأة ان وجده هو بابتسامة مستفزة:

– صباح الخير يا بوس، اخبارك ايه النهاردة بقى؟
– بوس.
تمتم بها بضيق قابله الاخر ببرود:
– دلع بسيوني، في ايه يا باشا؟ ما توسع كدة خليني ادخل، احنا هنفضل واقفين كدة ع المدخل.

قالها ليدفع الباب، يخلق له مساحة من جوار الجسد الضخم، ليدلف منها الى داخل المنزل، ينادي بتباسط:

– ورد فين امال؟ هي لسة مصحيتش معقول؟ دي نايمة امبارح احداشر، ووورد.

صاح مناديًا بالاخيرة، ليتدخل بسيوني يوقفه عن التقدم
– حييييلك، انت هتدخلها اوضة النوم ولا ايه؟

– وما ادخلها يا جدع مش مراتي.
جادل بها غير اَبهًا ليزيد على الاخر، فصاح بها رافضًا:

– لا مش مراتك يا يوسف، انت بنفسك جولت انه كتب كتاب.
هم ان يعارضه بخلق قصة كاذبة يصدمه بها وليحدث ما يحدث، ولكن اوقفه الصوت الناعم:

– صباح الخير يا يوسف انا صحيت اها.
التف الى الوجه الصبوح، لتتوسع بوجهه ابتسامة مشرقة، يتأمل الملامح الدقيقة والبشرة النضرة طبيعيا دون جهد، وتورد الوجنتان بعد ذهاب الحزن عنها، ثم هذه الخصلات المتمردة لشعرها الذي خرجت به دون خجل في وجود شقيقها، ليأخذه الحماس ويرد متغزلا بها:

– يا صباح الورد الجوري والجمال كله، ايه الحلاوة دي؟

زمجر بسيوني يفيقه من نشوته:
– لم نفسك يا يوسف واعجل، هو انت جاي تصحيني عشان تحرج دمي؟ راعي اني عيان يا اخي.

رد ببرائة مهادنًا:
– يا عم الف سلامة، ما انا جاي اطمن عليك يا جدع، عامل ايه بقى؟

– زييبين جوي، يعني عايز تفهمني انك جاي تجلج منامي الساعة ستة الصبح عشان تجولي عامل ايه؟ طب راعي الوجت وتعالى على جريب الضهر حتى.

– وميعاد كلية ورد مين يوصلها؟
قالها ثم اقترب من السفرة ليجلس على احد مقاعدها، موجهًا حديثه نحوها

– بسرعة ياللا حضري الفطار خليني اوصلك في طريقي لكليتك.
تسمرت محلها بقلق، تنقل نظرها نحو شقيقها الذي جلس مقابلا له يخاطبه بدهشة اختلطت بغيظه:
– يعني كمان جاي تفطر عندينا يا يوسف؟ دي كمان ليها حجة عندك؟

ردد ببساطة يذهله:
– ودي محتاجة حجة يا جدع، دا انتوا اهل كرم، وانا نسيب وصاحب بيت برضوا……. ما تيللا يا وردتي، عايز افطر عشان اللحق الشغل واوصلك، ما تتحركي بقى.

في الأخيرة تحركت بالفعل نحو المطبخ ، ليبتسم بزهو جعل بسيوني يغمغم دون مواربة:

– شكلها ايام ما يعلم بيها غير ربنا…… اللهم اطولك يا روح.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2))

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى