رواية غوثهم الفصل المائة والثلاثون 130 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والثلاثون
رواية غوثهم البارت المائة والثلاثون
رواية غوثهم الحلقة المائة والثلاثون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الخامس والأربعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
اللهم إن ذنوبي تخوّفني منك،
وجُودُك يبشرني عنك
فأخرجني بالخوف من الخطايا،
وأوصلني بجودك إلى العطايا،
حتى أكون غدًا في القيامة
عتيق كرمك، كما أنا في
الدنيا رَبيب نِعَمِك.
_”الأصمعي”
__________________________________
كان لساني صامتًا وقلبي بخيلًا فلم أذكر متى دعوت لنفسي وكنتُ كريمًا، ولما سألت وطلبتُ شعرت أنني أمسيتُ لئيمًا، وأنا أطلب من ربي لكنه كان بي رحيمًا، فقلتُ
“إلهي أسألك تذللًا، فأعطني تفضلًا” فأعطاني بكرمه ما لم احسبه في عقلي وحصلت عليه تَكرُمًا، ففي السابق مُنِعت وحُرِمت ويوم أن كُتِبَ لي العوض رُحِمت، فكنتِ أنتِ رحمةً لقلبٍ قبل مجيئك بكىٰ لوعةً، فأدركتُ أن ما لم يُدَرك اليوم رُبما نَنِلهُ غدًا، غدًا حيثُ الشمس الدافئةِ بآشعتها الساقطةِ على حقلٍ من زهور الأقحوان اليافعةِ، ولطالما في لُغةِ الزهور رمز “الأقحوان” للحبِ والبدايات الجديدة والبراءة والنقاء، فدعي شمسُنا تُشرق وننعم باللقاء، هذا اللقاء الذي سوف يشهد جمعِنا، ونحن نشدو كما الطيور وهي تتغنىٰ في سَمعِنا، فدعيني أركض في ساحات قلبك وبالحُب أزهره، ودعيني اشاور على مكاني فيه وأظهره، فما أجمل من أن يجد المرء مأواه في قلبٍ أحبه وما أعظم من أن يُسكن ويَسكُن في جُبه، نعم أعلم أن حديثي قليلٌ عليكِ، لكنكِ أنتِ ومن بين العالم بأسرهِ من اختصتها بحديثي، فحديثي وحشته تظهر وقت أن أتحدث عن الآلم، ويوم أن أذكركِ أراني شاكرًا بذكركِ من النِعم، فالحمدلله على طريقٍ كانت هدايته أنتِ، والحمدلله أن المسارات سارت بي ووصلتُ في النهاية لكِ أينما كُنتِ.
<“القتل يصعب أول مرة، ومن بعدها سوف تقتل جيشًا”>
ومثلي غريبٌ لم تحبهُ الحياة، فتراني آثمًا وأنا في آثامي أحاول أن أصل للنجاة، فكنت دومًا كمن يغرق في البحر ويوم أن نجى وصفوه الناس أنه يخشى الابحار وغدوت في أعينهم الجبان، أنه لأمرٍ غريبٍ أن ما احببته لم يُحبني وما رغبتُ في تواجده لم يرغبني، فلم أبكِ لأجلهم هم لكنني يوم أن بكيت، بكيت بعدما قتلتني.
حاولت “فُـلة” أن تتنفس أسفل قبضة “هاني” فوق عُنقها وقد ضغط هو أكثر عليها ليجد صفعة اتته من الخلف فوق عنقه كان صاحبها “مُـنذر” الذي ولج لها المكتب ثم ابعده عنها ووقف يسألها بلهفةٍ وقلقٍ بلغا أشدهما عليها:
_أنتِ كويسة يا “فُـلة”؟ أنطقي فيكِ حاجة؟.
حاولت أن تلتقط أنفاسها فاقترب منها يرفع رأسها وهو يساعدها على التنفس بعدما وجد وجهها لونه وصل للمرحلة القُرمزية وقد استندت فوق ساعده بعدما ارتجف جسدها وفي تلك اللحظة أتته ضربةٌ في ذراعه من الخلف من مديةٍ صغيرة الحجم جعلته ينزف في تلك اللحظة فشهقت هي بقوةٍ حينما وجدت الدماء ظهرت فوق معطفه الأبيض..
حينها فقد انسانيته وأدميته وهجم على الآخر يقبض على عنقه بكلا كفيه وقد عزم على قتله لتصبح الجريمة الثانية خلال هذا الأسبوع الذي ارتكبها هو، يبدو وكأن القتل هو شهوته الذي لم يتحكم في التأثر بها، أو رُبما هي أمهر ما يُجيد فعله بدمٍ باردٍ حيث ضغط بغضبٍ وغلٍ دفينين يثأر لها قبل نفسه وهو يرى احتقان وجه الآخر وصعوبة تنفسه والتواء لسانه بداخل فاههِ ، فيما حاولت هي ابعاده بصراخٍ عالٍ وخوفٍ عليه هو وما إن وجدت كل محاولاتها تبوء بالفشل صرخت بلوعةٍ دون أن تُزيف ما تصرخ به:
_ســيبه يـا “مُــنذر” علشان خاطري، أنا عــاوزاك.
لم تكن جُملةً فحسبٍ وإنما هي العجز الذي أصاب كفيه حتى تراخيا عن عُنق الآخر وتركه ليحرك عينيه نحوها يرغب بأن تتصل المُقل ببعضها بعد غيابٍ دام لأيامٍ لتتلاحم النظرات سويًا ورأى هو حينها الخوف البائن في عينيها وارتجافة كفيها وهي تُبعده عن هذا الوضيع، أراد أن يسألها عن المقصد آملًا ألا تكون قامت بخداعهِ فقط، بينما هي استطاعت الهرب منه على صوت شقيقها حينما ولج المكتب كما الإعصار المُداهم لجُزرٍ أسيوية.
اقترب منها شقيقها فوجدها ترتمي عليه باكيةً بخوفٍ وجسدها يرتجف كما ورقة خريفٍ كانت تترعرع في الربيع، بينما شقيقها فظل يعتذر منها بعدما تلقفها بين ذراعيه وهدهدها بقوله:
_حقك عليا والله، أنا عارف إنك بتخافي منهم وبتكرهيهم بس معرفش إنه هييجي هنا، علشان خاطري متزعليش مني.
أومأت موافقةً له وهي تبكي فوق صدره وقد وقف “مُـنذر” يُتابع المطروح أرضًا بعينين قاتمتين حيث ازدادت رغبته في القتل أكثر، وظل صدره يعلو ويهبط بعنفٍ، حتى وجد اثنين من الأطباء بالمكان ولجا بسرعةٍ فأشار لهما “جـواد” بنبرةٍ هادرة أقرب للعنف:
_شيلوا الواد دا أرموه في أي زفت وأقفلوا عليه.
أومأ كلاهما له فيما تنهد هو بقوةٍ وضم شقيقته يمسح فوق رأسها وهي تحتمي به، هو وحده من يعلم أن “هـاني” ووالده يشكلان وحشًا ضاريًا لها، لذا ظل يهتم بها وهي بين ذراعيه ترتجف بخوفٍ جعل التعجب يساور قلب “مُـنذر” لكنه قرر ترك المساحة لهما فعاد للخلف، لكن عيناه لم تحد عنها، بل ظل يأسرها في مُقلتيه ليوقفه صوت أخيها بقوله مُمتنًا له:
_شكرًا يا دكتور “مُـنذر”.
انتبه له بعدما خرج من شروده ورد بقوله الرسمي:
_مفيش داعي للشكر يا دكتور”جـواد” عن إذنك.
خرج من غرفة المكتب بعدما لاحظته هي بعينيها ولاحظت الدماء التي تنزف أسفل معطفه وقبل أن تتواصل عيناها بعينيه هرب هو من المكان وكأنه ولج حياتها فقط لكي يجعل الحيرة هي اسمى صفات العلاقة بينهما، فلو كان حقًا يرفضها لما كاد أن يرتكب جريمة قتلٍ لأجلها؟ غرقت في دوامةٍ من التفكير دون أن تجد منها مخرجًا للشاطيء، كانت تشعر بالألم يفتك بها لكنها عاجزة عن التنفس.
ولج غرفته وخلع المعطف يُلقيه بعنفٍ وهو يزفر بقوةٍ وتذكر هيئتها وهي تلفظ أنفاسها بصعوبةٍ والتي قد تكون الأخيرة، شعر بالضيق يُخيم على صدره خاصةً حينما كاد أن يقتل الثاني لولا صوتها وحديثها الذي توغل داخل صدره، فجُملتها تلك يبدو أنها لن تُبرح عقله وقد لاقت بداخله المكان المرغوب لتجعل القشعريرة ساريةً بداخله، أخفض عينيه بهربٍ من مشاعره يُطالع الجرح في ذراعه وقد زفر بقوةٍ فهو ليس ممن يكترثون بالآلام العضوية بتاتًا.
مرت عليه دقائق بمفرده شاردًا فوجد الباب يُطرق وقد توقعه “جـواد” لذا تحرك يفتحه فرآها هي أمامه ويبدو أن هناك صراعٌ نشأ بينها وبين نفسها ونتيجة هذا الصراع كانت بانتصار القلب بينما هي فوقفت أمامه تُملي عينيها به خشيةً من رفضه لتواجدها ثانيةً، وما إن لمح خوفها أشار للداخل يدعوها بقوله موجزًا:
_اتفضلي يا دكتورة.
سبقها نحو الداخل وتبعته هي وفي يدها صندوق الاسعافات الأولية وما إن وقفت أمامه تصنعت الجمود بقولها:
_شكرًا لحضرتك إنك لحقتني طبعًا وآسفة على اللي حصل، وآسفة على جرحك دا، بس ياريت متهملش الجرح وتسيبه، علشان للآسف بيتلوث ولو اتقفل على كدا هيلتهب ويتعب صاحبه.
حديثها كان يخفي مقصدًا وارته بالإشارة على جرحه الفعلي لذا جلس هو فوق المقعد بصمتٍ وبادلها الحديث من أطرافه بقوله المقتضب:
_من العفو يا دكتور متشغليش بالك أنتِ.
بالله لو قامت بقتله لن تُعاقب، بل سَتُكَرم من لِجان حقوق الإنسان وحماية الجسد من الجلطات الدماغية، هل هذا بشرٌ مثل البقية، أم آلة تجرد من كل المشاعر؟ شعرت بالغضب عبر دمائها المُتدفقة لوجهها، لكنها تحلت بروح الصبر وتمسكت بعملها أولًا وأخيرًا واقتربت تسحب مقعدًا ثم جلست في مواجتهه تحدثه بنبرةٍ أهدأ من السابق غلفتها بطبقةٍ من اللين:
_ماشي مش هشغل بالي، بس أنتَ دكتور وعارف خطورة الجرح دا إيه، الحمدلله هو سطحي مش محتاج خياطة بس عاوز رعاية يا دكتور، متسكتش عن جروحك كدا وتسيبها.
رفع عينيه الصافيتين بلونٍ من درجات العسل الدافيء ولأول مرةٍ تلمح هذا الصفاء بعينيه فيما نطق هو بصوتٍ رخيم:
_وأنا متعود أسيب جروحي وهي تتعامل، شكرًا.
تلك المرة هي من ستصبح قاتلة، لذا قامت بسحب ذراعه بعنفٍ وأشارت على جرحه بقولها الحاد الذي خرج منفعلًا:
_المفروض متسكتش على جرحك كدا وهو بينزف، على الأقل داويه أو خلي حد غيرك يداويه إن كنت مش عارف.
لاحظ حدتها معه والتي رُبما سببها الخوف عليه لذا أطلق تنهيدة مُتعبة من جوفه وهو يقول بصوتٍ أعرب عن جراحٍ أكبر موجودة في داخله ولازالت لم تلتأم بعد:
_محدش بيروح يقول لحد داويني.
لاحظتها هي، لاحظت أن صوته تلك المرة متألمًا وأن رجائه قد خاب في الجميع لذا استعادت روح الفتاة الرقيقة التي علتها أولًا وأخيرًا هي الحُب:
_لأ فيه، لما يكون الشخص دا مش عاوزك تضيع منه، وعاوز جروحك كلها تتداوىٰ يبقى تقوله، على الأقل يبقى عِرف إن فيه جروح ويخلي باله منها، أحسن من إنه يهملها أو يزود الوجع أكتر.
تواصلت المُقل مُجددًا وكأنها لم ترغب في الإنقطاع عن بعضها، تلك النظرة التي تمنحك قوة المحاربة أمام العالم كأنها تُخبرك دون صوتٍ “أنا معك هُنا” نظرات دارت بينهما وكأنها ترجوه تلك المرة أن يثق بها كما وضعت هي فيه آخر آمالها فوجدته يرفع ذراعه لها وهو يقول بصوتٍ رخيمٍ رافقته بسمة صفاءٍ ظهرت في عينيه قبل شفتيه:
_طب داويني.
تراقص قلبها بداخلها فزعًا وفرحًا بمشاعر مُتناقضة مع بعضها لتجده قام برفع كُم قميصه وكشف عن ذراعه لها وهو يُضيف بثباتٍ أمام عينيها التي أودت بكل ثباته:
_أنتِ أول حد هخليه يداوي جرح ليا، خلي بالك.
حركت رأسها موافقةً له ثم بدأت في تطهير الجرح وهو يجلس يراقبها بصمتٍ وهو يشعر بالنقم على نفسه كونه يسعى للهرب منها، تلك الزهرة التي تُشبه عُقد الفُل الأبيض أرق من أن يتسبب هو في جرحها بتلك الطريقة أو يجعلها تشعر بالرفض من الآخرين، تلك التي تعتني به الآن تشبه السلام من بعد الحرب الذي لم يعرف هو غيرها، أما هي فرفعت وجهها له تبتسم بلطفٍ كأنها تُطمئنه أثناء عمل كفها في تمضيض ذراعه، بينما هو فاستسلم لسلطة عينيها في إقامة حربٍ بداخله والتي يليق بها قول:
_ فُرضت عليَّ حربٌ مسلوبة الراء،
كان سهم عينيكِ فيها بتارًا..
فمنذ أن التقطتك عيناي وأنا منتصرٌ
وكأنني أصبحت بطل المعارك وبها مغوارًا.
__________________________________
<“الذكرى لم تتركني، أنا من تصنع نسيانها”>
في حقيقة الأمر الذكرى لم تُنسَ بل هناك بشرٌ يمتلكون مهارة التخطي طاويين الذكرى بداخل صفحات الذاكرة متصنعين الإنشغال عنها، وكأي كتابٍ تُصبه كتلة هواء باردة فتُفتح الصفحات ويسقط ما بداخلها، تلك هي الذكرى حيث تسقط من بين صفحات الذاكرة لتُعيد كل الألم مُجددًا..
هناك بعض الذكريات التي لم تنفك عن العقل بل هي ساكنة في كل ذرةٍ بداخله، والأدهى في ذلك أنها وقتما تظهر تأت بنفس الشعور السابق على المرء لتجعله أسيرًا فيها وها هو يقف أمام الغرفة التي أصبحت مُظلمة منذ رحيلها بعدما كانت دومًا مُضيئة، توجه نحو شقته الفارغة يجلس فوق الأريكة خاصةً أن هناك فراغٌ ملأ البيت بهذا اليوم، حيث رحيل ابنه مع “عبدالقادر” وانشغال “أيـوب” بتحضيرات عُرسه، وذهاب زوجته للعمل، فجلس “أيـهم” يتذكر حينما كان يعود للبيت ويراها تجلس بداخله بمفردها فكان يمازحها ويشاكسها ويتناول معها الطعام ثم يستأنف عمله مُجددًا.
عاد بخلده لذكرى بعيدة مؤلمة تخصه هو وهي، ذكرىٰ كلما مرت على قلبه شعر أنه يود الانفجار، خاصةً أنه لم يبكِ منذُ يومه ذاك، تنهد بارتجافٍ وأغمض عينيه وهو يعود للخلف برأسه تحديدًا منذ أعوامٍ كثيرة بنفس شهر وفاة أمه.
حينها كانت “آيات” في عامها الخامس من عمرها وهو المسئول عنها من بعد وفاة أمها، وكان يُطعمها بيده وهي تجلس فوق قدمه وقد التفتت له تسأله بصوتٍ غلب عليه الحزن والبراءةِ:
_هي ماما فين يا “أيـهم”؟.
هي لازالت تسأل عن أمها الراحلة وهو يتوقف عن الجواب لكونه يعلم أن إجابته سوف تحزنها، البيت السعيد انقلب حاله بانكسار الأب ومرض الابن الصغير وتيه الابن الكبير وتشتت الصغيرة به بضياعٍ، حينها قرر أن يجاوبها بقوله:
_مش ماما كانت تعبانة شوية؟ هي بقى مشيت من هنا علشان تروح الجنة علشان متبقاش تعبانة خالص، وإحنا كمان هنبقى نروح تشوفها ونقعد معاها علطول، وهي هتكون هناك كويسة ومش تعبانة.
أومأت بأهدابها له ثم عاودت الاستفسارات بقولها الخائف:
_طب هو”أيـوب” تعبان ليه؟ هو كدا هيروحلها؟.
ببراءة حديثها اشارت على ما يخشاه هو وحينها ارتجف قلبه على شقيقه الذي تمكن منه التعب النفسي والجسدي أيضًا وعُقد لسانه عن الحديث، وتلهف لجوابها مُسرعًا بصوتٍ باكٍ به ارتجافة واضحة:
_لأ إن شاء الله يفضل معانا هنا، أنتِ عاوزاه يمشي؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تقول بلهفةٍ ناسبت عمرها الصغير:
_لأ والله، أنا مش عاوزاه يكون تعبان، عاوزاه يرجع يكلمني تاني بس هو مش بيرد على حد خالص، هو زعلان مني؟.
بكت وهي تتحدث وتستفسر ومعها بكى “أيـهم” أيضًا حزنًا على حالهم الذي لم يتوقعه هو فوجدها تعتدل في جلستها لتواجهه وتحتضنه ببراءةٍ كأنها حمامة وقفت فوق كتفه لتواسيه فازداد هو بكاءً بين ذراعيها الصغيرين وهي تُربت فوق ظهره بكفيها الناعمين.
غاص “أيـهم” في جُب الذكريات وقد خرج من شروده على لمسة خفيفة من كف “نهال” لكتفه ففتح عينيه الحمراوتين يواجهها ليجد القلق مرسومًا على وجهها عليه هو، فتنهد بعمقٍ ليجدها تسأله بصوتٍ مضطربٍ:
_مالك يا “أيـهم”؟ أنتَ كنت بتعيط؟.
لاحظتها في عينيه خاصةً أن الإرهاق بدا واضحًا فيهما، أما هو فزفر بقوةٍ فوجدها تمسح على ظهره وهي تقول بصوتٍ هاديءٍ حاولت استجماع قوتها به:
_قولي مالك بس؟ حصل حاجة؟ احكيلي طيب.
تنهد بنفس الارتجاف وجاوبها بصراحةٍ يخبرها بما تذكر هو وكيف كانت تلك الصغيرة تواسيه ببرائتها وتحتضنه وهو الذي كرس حياته لأجلها ولأجل الحفاظ عليها، شاركها الوجع القديم والحديث خاصةً أنه لم يبكِ منذ وفاة أمه وقام بتخزين جراحه ليدير العائلة التي كانت تحتاج وقتها للصمود، فضمته هي حتى وضع رأسه فوق صدرها وتنهد بضعفٍ فمسحت عليه وهي تقول بصوتٍ غلفه الحزن خاصةً وهي تراه لأول مرةٍ بهذا الضعف:
_متكتمش جواك يا “أيـهم” عيط وخرج اللي أنتَ حاسس بيه، متبقاش زي اللي عمال يخيط في جروح ملتهبة لا هي بتتقفل ولا وجعها بيهدا ومع أول خبطة بتنزف.
كان يشعر بتيهٍ غريبٍ عليه، لقد تلقى صدماتٍ كُثِر وخذلان لم ينساه، لذا بكى، بكى وانتحب كطفلٍ صغير تركته أمه وأصبح شريدًا ثم تلقى الأمان للمرةِ الأولى في ذراعين قاما باحتوائه ليدرك أن مشاعر اليُتم هي أقسى ما يمر على المرء ويشعر به، شعر حقًا أنه يود أن يُعامل مثل الطفل الصغير وهي كانت أرحم عليه من فؤاده المُعذَّب وقد نطق بصوتٍ مُحشرجٍ:
_أنا حتى الزعل كنت بسيبه لوقت تاني وأهرب منه وفاكرها شطارة مني بس أنا أمي وحشتني أوي ووحشني حضنها.
شاركته وجعه وضمته بذراعٍ تمسح على ظهره وبالكف الآخر غرست أناملها في خصلاته الكثيفة تُدلك رأسه وكأنها تضم “إيـاد” وليس والده، ظلت بجواره تمسح فوق رأسه وكأنه أصبح ابنًا لها لطالما كانت هي تتمتع بمشاعر الأمومة المُتدفقة، ولا مانع لديها أن تعتبره طفلًا يحتاج لبعض الاحتواء، لا شك أن الرجال بقدر هشاشتهم وصلابتهم تلك إلا أنهم في بعض الأحيان يحتاجون لفرصةٍ واحدة فقط ليظهر ما خلف تلك الهشاشة.
__________________________________
<“من رأى النور لن يستوحشه الظلام”>
من مِنا رأى بعينيه نهاية الشيء؟ بالطبع جميعنا نخوض الطُرقات غافلين عن النهاية وما سوف نواجهه فيها، فلو كان منَّا أحدٌ رأى بأم عينيه النهاية وأدرك ما يفعله قبل البداية بالطبع كان التراجع هو رد الفعل الأول الذي سوف يصدر عنه، فياليتها كانت النهايات معلومة كما كانت فرحة البدايات مُدركة.
صوت أمواج البحر دومًا يملك الوقع المُحبب للسمعِ، ورؤية الغروب معه لها اللمعة الخاصة بها في العينين ورائحة الرمال المختلطة بالمد على الشاطيء لها سحرٌ يسرق الألم من الروح، ورؤية الحبيب نصب العينين تُشفي أي عِلةٍ بالفؤادِ، وهو يدرك هنا كل شيءٍ بدون بُعاد، جلس “سـراج” يُراقبها وهي وتتحدث مع والدها عبر الهاتف فصدح صوت هاتفه برقم “نَـعيم” وحينها تحرك يجاوب على المكالمة بقوله المرح:
_حبيبي الغالي، والله ليك وَحشة.
ضحك الآخر مُرغمًا على مُشاكسته ثم سأله بهدوءٍ يليق به:
_متشوفش وحش، طمني عليك أنتَ فين كدا؟.
حانت منه التفاتة نحوها وهي تقف على الشاطيء تضحك برقةٍ جعلته يتنهد ثم قال بقلة حيلة حيث بدا وكأنه سرِقَ بطَلتها أمامه:
_أنا في الجنة والله، عايش في النعيم.
توسعت الضحكة أكثر ووصله صداها ليجذب انتباهه فيما نطق “نَـعيم” بصوتٍ بدت فيه الراحة جلية بسعادةٍ ملموسة:
_طيب ياسيدي ياكش بس تهدا وتبطل شقاوة وتقدر النعم اللي عندك، شوف بقى أنا كدا هشيل عيني من عليك علشان خلاص بقيت متأكد إنك تمام، بس هقولك راعي ربنا في بنت الناس اللي معاك، أنا ولادي مش غداريين يا “سـراج” أنا مربي راجل.
حديثه أتى كما بصيص النور في قلب الآخر ليزداد النور تدفقًا فيه ويشعر بالمزيد من الأمل فأتته تكملة الحديث:
_أنا قولت أتطمن عليك ومتنساش إنك لما تيجي تكلمني علشان أبقى متطمن برضه عليك، يلا سلام وخلي بالك أحسن تخرج من الجنة، أنتَ و “إيـهاب” مش وش كسوف.
ضحك “سـراج” بملء شدقه وأضاف بنبرةٍ ظهر بها أثر سعادته خاصةً وهي تقترب منه:
_ربنا يباركلي فيك يا حج، وأوعدك الدنيا هتفضل تمام زي ماهي، ابنك مش غدار ولا عيل بيخلف بوعده، سلملي على الصيع اللي عندك وبوسلي “چـودي” لحد ما أرجع تاني.
أغلق معه المكالمة وما إن وجدها هي أمامه نطق بقلة حيلة:
_كل ما حد يكلمني يوصيني عليكِ، الحج، وقبله “إيـهاب” وقبلهم الصبح “يـوسف” ووالدك، هما مستكترينك عليا ليه ما يخلوني أشوف شغلي علشان أعرف أبسطك، دا إيه الناس اللي تفصل دي.
ضحكت رغمًا عنها ثم اقتربت منه أكثر تمسك كفه بين كفيها وهي تنطق بنبرةٍ هادئة وصوتٍ رقيق بعدما شملته بعينيها:
_محدش مستكترني عليك ولا حاجة، متنساش إن فيه حاجات حصلت كتيرة تخليهم يخافوا علينا سوا، مش عليا لوحدي بس خايفين عليك أنتَ كمان، لو مش واخد بالك أنا كنت هخسرك وكنت هتروح مني، فلازم يخافوا، بعدين أنتَ نصاب على فكرة وعمال تكروت الحكايات.
كشرت عن أنيابها بضجرٍ من مراوغته له فقربها منه بحركةٍ خاطفة وهو يقول بعبثٍ لم ينفك عن طباعه:
_يعني مش كدا عيب لما اسيب الحاجات الحلوة اللي في أيدي وأقعد احكيلك حكايات؟ بليل ابقي تعالي في حضني وهحكيلك كل الحكايات والروايات كمان، اسكتي مش ربنا كرمني وروايتي سوقها مشي؟.
ضحكت بصوتٍ عالٍ على طريقته مُرغمة على ذلك أما هو فضمها له يمسح فوق ظهرها وكأنه يحميها من شيءٍ ساور عقله، فكلما تناسى ما حدث في السابق ورسائل التهديدات التي تصله يعود الخوف له من جديد، لذا ترك ابنة شقيقته في بيت “نَـعيم” وهو يعلم أنها هناك في أمانٍ تام، أما تلك البريئة التي أحبها هو فهو كل ما يشغله فقط أن يحميها من العالم بأسره، خاصةً إن كانت طُرقاته مُظلمة.
أما هي فسحبت نفسًا عميقًا تشتم عطره الرجولي المحبب لها حيث قامت بربط عطره وكلمة الأمان معًا، فهي لم تنس أنه كان ولازال الأمان لها لذا هي دومًا آمنة بجواره، لذا رفعت عينيها لتتلاقى بزرقاوتيه الصافتيتن وبشرته الحنطية ومازحته بقولها:
_”سـراج” هو إحنا لما نخلف عيالنا هيكونوا حلوين زيك كدا والناس تفضل تعاكس فيهم، ولا هيكونوا زيي عاديين.
رفرف بأهدابه حائرًا فيما أدركت هي أنها استسلمت لفضولها وبكل تلقائية وبراءة تسأله لتجد العبث يتشكل فوق ملامحه وهو يهمس لها في أذنها بقوله:
_أدعي بس ربنا يكرم وييجوا وإن شاء الله يكونوا شبه أبوكِ أنا برضه هبقى مبسوط، بس خلينا نشم نفسنا شوية متفكريش في العيال دلوقتي، خليكِ مع أبو العيال بس.
دفعته بكلا كفيها وهي تضحك عليه ثم هربت من أمامه تتوجه نحو البناية التي يقطنان بها فيما جلس هو محله وهو يبتسم بصفاءٍ وسعادةٍ لم يدركهما في حياته إلا معها هي وفقط، هي النور وسط طُرقات معتمة، ومن يدرك النور لن يخاف الظلماء من بعد ذلك.
__________________________________
<“تأتي أيامٌ للمرء يُجني فيها المرء ثمار جهده”>
في وحدة المرء يأكل الإنسان في نفسه وفي اختلاطه بالناس يأكلونه هُم بأنفسهم، فيعود من جديد داخل قوقعته يحفظها بكنف سراديبٍ مُلقاة في أعماق النهر حتى لا تخرج وتَطلها أسنان الوحوش بالخارج، إما أن يُصبح وحشًا مثلهم لكي يقوى على صد هجماتهم.
لا شك أن كل مكانٍ يُخرج من المرء جزءًا لم يدركه في نفسه من قبل، أو رُبما يلجأ للتكيف بحسب طبيعة المكان، وهو هنا يجلس برسميةٍ فوق مقعده، قام بخلع سترته الرسمية وقام برفع أكمام قميصه الأبيض، ثم تابع عمله في شركة البترول من داخل مكتبه باهتمامٍ وهو يتابع تقسيم المواقع وتعاقدات الشركة والكثير من الأعمال التي تحتاج لطاقةٍ كُبرى وسُرعان ما تذكرها بين ذراعيه أمسًا وهي تتشبث به كأنها ابنته.
عاد للخلف باسترخاءٍ تزامنًا مع بسمةٍ هادئة زينت ملامحه خاصةً وجملتها المرتجفة تترد في سمعه حينما قالت:
_احضني يا “يـوسف”.
تحولت بسمته لضحكة عابثة وحينها قام بفتح دفتره وهو يُكمل رسم عينيها السوداوتين بكامل تركيزه، يبدو كأنه يرى بعينيها مدينة يهرب إليها كُلما شعر بالتيه وسط البقية، اندمج فيما يفعل حتى طُرِق باب مكتبه فاعتدل في جلسته وسمح للطارق بالدخول، لكنه تفاجأ بمديره فوقف احترامًا له ونطق بثباتٍ وهو يُصافحه:
_أهلًا يا “رؤوف” بيه نورت مكتبي.
ابتسم له الآخر برسميةٍ ثم نطق بوقارٍ وأدبٍ يليقان بمنصبه الرفيع في الشرك:
_المكتب والشركة منورين بيك، على العموم أنا جاي أشكرك بشكل شخصي عن مجهودك آخر فترة خصوصًا الـ ٣ سنين اللي فاتوا، ودي حاجة بسيطة علشانك، مكافأة الشركة قدمتها ليك، طبعًا أنا عارف إنك مش محتاج لحاجة، بس دي حاجة رمزية، أتمنى تقبلها، ودا درع الترقية باسمك.
ابتسم بعينيه له ثم التقط الدرع وشهادة التقدير الموضوع عليهما اسمه ثم التقط المكافأة المالية وشكره ولأول مرة يشعر أنه في هذا العمل وجد من يُنصفه، خاصةً بعدما تسببوا في ركود مستقبله وسرقة مجهوده ونسبه لهم دون أي وجه حق، وقبل أن يُغادر الآخر المكتب أوقفه بقوله مُتهكمًا:
_هو صحيح “حاتم” باشا أخباره إيه؟.
كان يقصد ذاك الرجل الذي تعمد إيذائه وتدمير مستقبله وحينها التفت له الآخر يهتف بتهكمٍ يشبه طريقته:
_هو بعد اللي حصل منك أنتَ والباشمهندس “ياسين” هيكون ليه مكان تاني؟ أهو رجع تاني رئيس قسم في شركة من شركات “الفاروق” وأظن دا حقك وبيرجع، سرق البحث بتاعك ونسبه لنفسه، واتسبب في نزولك درجة وحرمك من الترقية، واتسبب في إنك ترجع المواقع، فأكيد لازم أكون عادل، خصوصًا إني مبقبلش بالظلم، مبروك الترقية.
تركه وغادر المكتب فيما جلس “يـوسف” فوق مقعده وهو يُطالع الدرع والشهادة بسعادةٍ بالغة كطفلٍ تفوق في دراسته وحصل على التكريم أمام الجميع، وجد البسمة تزداد أكثر وهو يرى اسم والده خلف اسمه وحينها قام باخراج هاتفه ثم قام بفتح تطبيق “الواتساب” وخاصةً المجموعة التي قام “عُـدي” بانشائها وبها أفراد العائلة بأكملهم، ثم أرسل لهم صور الدرع والشهادة وأشار لوالدته بقوله المرح:
_أرجع ألاقي ورق عنب بدل ما أرميهم.
في غضون ثوانٍ رأوا رسائله فضحكوا وراسلوه بسعادةٍ يمزحون معه بينما “أسماء” فقامت بارسال زغرودة له في رسالةٍ صوتية جعلته يضحك بسعادةٍ أكبر وهو يتلقى المباركات منهم وخاصةً حينما كتبت له أمه:
_أديك عمري كله يا حبيب عيوني، مبروك عليك يا حبيبي وعقبال ما أفرح بيك وأشوفك أحسن عريس في الدنيا كلها ويسعدك يا رب، هتيجي تلاقي ورق العنب جاهز.
أغمض عينيه بسلامٍ وهو يتنفس بعمقٍ ثم رد عليهم جميعًا ومازحهم ثم خرج من المُحادثة وفتح المحادثة الخاصة بزوجته وقام بإرسال الصور ومازحها هي الأخرى بقوله:
_أنا عاوز مكافأة منك أنتِ، الحاجات دي مش كيفي.
فتحت المحادثة وما إن رأتهم شهقت بسعادةٍ وانفرجت شفتاها عن بعضهما بذهولٍ وهي ترى اسمه يُزين الدرع وحينها قامت بمهاتفته بحماسٍ لم تقم باحتوائه بل تركته يتحكم فيها ما إن جاوب عليها:
_أنا مبسوطة علشانك أوي فوق ما تتخيل، حاسة بالفخر إنك جوزي وحبيب عيوني وحبيب عمري كمان، أنتَ تستاهل كل خير علشان قلبك طيب، فرحانة بيك أوي.
هي تحديدًا من أجادت التأثير عليه بطريقتها وحديثها الذي نطق بأكثر مما نطقت هي، لم يتوقع أن يكن هذا هو رد فعلها، لذا حاول أن يبحث عن صوته وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا كنت متأكد إنك هتفرحي بس متوقعتش كدا بصراحة، عمومًا فرحتك دي فرحتني أكتر بكتير، دي أحلى مكافأة منك يا عسولة، أنا كمان فرحان بيكِ وباللي بتعمليه كله مهما كان هو إيه.
نبرته دومًا تملك سطوةً عليها وعلى قلبها، لذا تنهدت بقوةٍ وفتشت بداخلها عن ثباتها ثم قالت بنبرةٍ أهدأ في الحماس عن سابقتها:
_عمومًا برضه مكافأتك في الحفظ والصون زي ما هي، وأنا محضراها من بدري بس دا وقتها، بس ينفع اسألك سؤال ومتتعصبش؟ سؤال عادي مش مقصودي بيه أي حاجة.
تعجب من طريقتها التي بالفعل ساورت القلق بداخله فنطق بنفاذ صبرٍ وكأنه تحول في طَرفة عينٍ:
_أنا الجملة دي بتعصبني أكتر حتى لو مش متعصب، حصل إيه واسألي علطول بدون مقدمات وتفاصيل ملهاش لازمة يا “عـهد” متحسسينيش إني زبالة كدا.
زفرت هي بقوةٍ ثم نطقت بنفس الهدوء كأنها تسترضيه:
_خلاص خلاص أنا بسألك عادي علشان بقالك فترة ماقولتش حاجة ليا بخصوص الموضوع، أنتَ لسه بتروح لـ “جـواد” ولا بطلت؟.
عقد حاجبيه بتعجبٍ وساد الصمت بينهما حيث الترقب منه والخوف منها هي، حتى قطعت الصمت بسؤالها المُضطرب:
_أنا بسأل علشانك والله، لسه بتروح؟.
_آه بروح، وبدأت علاج كمان، إيه السبب؟.
هكذا أتى جوابه حتى تنهدت بقوةٍ لاحظها هو وقبل أن يسألها وجدها تودعه ثم أغلقت معه الهاتف ليزداد تعجبه أكثر من السابق على حديثها وطريقتها وأفعالها، وإبان ذلك أتته منها إشارة على تطبيق “تـويتر” فضغط على الاشعار ليجدها أضافت الصور وكتبت لأجله فخرًا وزهوًا به:
_مدينتك الظالمة تنحني أمام عدلك وتُنصفك أخيرًا أمام نفسك لكن ليس أمامي أنا، فأنا منذ وهلتي الأولى عند التقاء عيني بعينيكَ رأيتُكَ مُبهرًا أيها الغريب.
ابتسم من جديد بصفاءٍ ثم قام بإعادة نشر المنشور عبر حسابه وكتب بمزاحٍ حينما أشار لها:
_تغور المدينة الظالمة، أنا عاوز أضواء المدينة بتاعتي.
فهمت هي أنه يقصد عينيها بإشارته تلك وقد ضحكت معه في الردود تخبره أن أضواء المدينة تحتاج للنوم وظل الحديث بينهما في مزاحٍ ومشاكسة أمام الناس لينتهي الأمر برضوخها له كما المُهرة الوفية لفارسٍ يُجيد التصرف معها.
__________________________________
<“كبر الجسد، لكن القلب لازال صبيًا”>
بقوانين الفيزياء يُقال أن الصدأ المتراكم فوق الحديد لن ينفك عنه بل سيظل مكانه حتى يُجرد الحديد من أثار الصدأ كُليًا، وكذلك الحزن العالق بالقلوب يتركها حينما تدخل الفرحة مكانه لتنشر البهجة بداخلهِ.
نسختان في الشكل أقرب لبعضهما من بعضهما، لون الأعين الردمادية ذاته الوجه المنحوت بدقةٍ والخصلات اللامعة المرفوعة هي ذاتها، الجلسة العملية تتشابه إلى حدٍ كبير، جزءٌ صغيرٌ يشبه الجزء الأكبر منه بشكلٍ ملحوظ، حيث “تَـيام” الذي جاور والده وهو يُتابع معه شئون العمل، وما إن أنهى المراجعة قدم الأوراق له بقوله:
_اتفضل يا بابا، كدا خلصت المراجعة أهو والورقة دي فيها كل حاجة “إيـهاب” قالي عليها، بس دماغ بصراحة مش مجاله وممشي كل حاجة بالظبط، أتفضل.
التقط منه والده الأوراق وهو يقول بنبرةٍ هادئة تُنافي سعادته بابنه الذي يشاركه في كل شيءٍ:
_تسلم يا حبيب بابا، هو صمم إنك أنتَ تراجعهم علشان واثق فيك إنك شاطر في شغلك، وبعدين دا ملكك وفلوسك وبرضه لازم تاخد بالك منهم، أنا مش هعيشلكم علطول، مع إني واثق إني سايب في ضهري رجالة بجد.
هرول “تَـيام” بلهفةٍ عليه يمسك كفه وهو يستجديه بقوله:
_لأ أبوس إيدك موت إيه بقى؟ أنا ما صدقت ربنا عوضني بيك وبقيت معاك وخدت عليك خلاص و بقيت متأكد إنك أبويا، بلاش السيرة دي وتوجع قلبي عليك أنا بحبك يا بابا والله وما صدقت ألاقيك.
ابتسم له “نَـعيم” وضمه لعناقه وهو يُمسد على ظهره ونطق بأملٍ كأنه يُعبر عن آماله وأحلامه:
_والله بقيت أتمنى ربنا يبارك في عمري علشانك أنتَ وعلشان ألحق أعيش معاك قد اللي ضاع مننا، وأفرح بولادك وأفرح بأخوك اللي ربنا يهديه دا ويعقل، الواد عامل موسوعة يخربيته.
ضحك “تَـيام” رغمًا عنه وابتعد عن والده يهتف بزهوٍ:
_أخويا جامد برضه، بس متقلقش حله عندي أنا، “مُـحي” طيب أوي وجدع وأصيل، بس متزعلش مني أنتَ أهملته، وهو كان عاوز إهتمام كفاية علشان يقدر يتغير وحياته تكون محكومة عن كدا، بس متقلقش برضه، أنا معاه ومش هسيبه غير لما يكون واحد تاني خالص، من ساعة ما أنا ظهرت في حياته وهو بقى بيتكسف مني وبيحاول علطول يثبتلي أنه بقى أحسن، وأنا معاه وهاخد بايده، وإلا ميبقاش ليا لازمة هنا.
ربت على كفه باستحسانٍ لما يخبره به ثم قال بنبرةٍ ضاحكة يمازحه بها:
_طب يلا بقى، روح شوف مراتك علشان متسبهاش لوحدها كتير كدا، يلا خدها وأطلعوا شقتكم، ربنا يكرمك وتفرحني قريب بقى بحفيد حلو شبهك كدا، ولا أقولك؟ هاتها بنوتة شبه مامتها كدا، هتسميها إيه؟.
_”ندى” لو جيبت بنت هسميها “ندى”.
هكذا جاوب والده الذي لمعت عيناه بتأثرٍ وقد مال هو عليه يُلثم جبينه بتقديرٍ وخرج من المكتب نحو الخارج ليجد زوجته جالسةً برفقة “سـمارة” والأحاديث تُدار بينهما وهي تضحك بقوةٍ فتأكد أنها استأنست معها ومع “نـجلاء” التي شاركت الضحكات معهما، فاقترب منهما ينطق بأدبٍ:
_السلام عليكم، يلا يا “آيـات”؟.
انتبهت له وهي توميء بخجلٍ ثم استأذنت منهما فيما أطمئن هو على أمه وودعها ثم أخذها وخرج بها نحو الدرج وقبل أه يتوجه بها للأعلى أوقفته بقولها وهي تتدلل عليه بقولها:
_ينفع أطلب منك طلب؟.
التفت يُطالع ملامحها البريئة والخجل البائن عليها فوجدها تُسبل له بأهدابها بنعومةٍ فأومأ لها موافقًا ليجدها تقترب منه وهي تقول بنبرةٍ خافتة حينما رفعت كفيها تُمسد على ياقة سُترته الصوفية:
_ينفع نروح نقعد عند الخيول علشان أنا عاوزة أروح هناك معاك ونتصور معاهم بس وأنتَ معايا، ممكن متبوظش خيالي لو سمحت علشان أنا محوشة حاجات كتير عاوزة أعملها معاك، يلا ولا هتنام؟.
ابتسم مُرغمًا بسبب طريقتها وأمام دلالها وعاطفتها تلك لم يملك جوابًا إلا الموافقة لها، فتحرك بها نحو الخيول وهو يمسك كفها وما إن وصلا لهناك وجدها تضحك بنبرةٍ عالية توغلت لقلبه خاصةً وهو يرى في السماء هلالًا سطع لهما، إضافةً إلى مظهر الخيول والورد حولهم وأيضًا الزرع الأخضر، وهذا الكم من الهدوء جعلها تتنفس بعمقٍ ثم سحبته نحوها ووضعت رأسها فوق كتفه وتلك هي حركتها المفضلة حتى ضمها هو بذراعه وقال بصوتٍ رخيم:
_ربنا يباركلي فيكِ يا أحلى ملاك في الدنيا.
بعد مرور ساعةٍ في نفس البيت ولج “مُـنذر” بعدما أنهى عمله لكن اليوم ظهر الصفاء فوق ملامحه وانبسطت عُقدة جبينه فمن يراه يظنه شخصًا غير المعروف، جلس فوق الأريكة بصالة البيت الواسعة يشرد فيها حينما اقتربت منه تداوي جرحه الغائر، وجد البسمة ترتسم فوق شفتيه تدريجيًا تزامنًا مع نبضة قوية تأثر لأجلها سائر جسده، وقد أخرج هاتفه يُراقب حسابها فوجدها راسلته منذ نصف ساعة تطمئن عليه:
_أخبار جرحك إيه؟ هتعرف تداويه؟.
ضحك رغمًا عنه ضحكة طفيفة ثم قرر أن يُمازحها بقوله:
_لا الله ينور، شغل على نضيف.
وصلتها رسالته فضحكت في السيارة بجانب شقيقها وكتبت له تستمر في ممازحته هي الأخرى بعدما تناست كل شيءٍ صدر منه لها:
_علشان بس الزبون دماغه ناشفة لازم نجيب رجله في الأول، بعدين إحنا ناس معروفة في المجال كله، اسأل علينا حتى لو مش مصدق.
_من غير سؤال الجواب باين من عنوانه.
كان ذلك رده عليها مبتسم الوجه وقد ابتسمت هي الأخرى ثم انتبهت لحديث شقيقها فأغلقت الهاتف وركزت معه، بينما “مُـنذر” فأغلق هاتفه ثم وضعه فوق الطاولة وأغمض عينيه يتمسك فيهما بحلمه الجميل معها لكنه شعر بكفٍ صغيرٍ يتسلل نحو الطاولةِ فضحك بصوتٍ خافت ثم سحبها نحوه لتستقر فوق فخذه وهتف يُشاكسها بقولها:
_مش كدا عيب برضه يا “چـودي”؟.
ضحكت بخجلٍ له ثم قالت ببراءةٍ وهي تحرك كتفيها:
_كنت هخبيه منك وأخليك تدور عليه شوية.
رفع حاجبيه بسخريةٍ ثم لثم جبينها وأعطاها الهاتف في كفها كأنه يخبرها عن موافقته فيما تود وحينها ارتمت عليه هي تضع رأسها فوق كتفه فضمها هو بكلا ذراعيه ثم فرض حمايته عليها وفي تلك اللحظة ظهرت شهقة عالية في المكان كان صاحبها “مُـحي” الذي صاح مستنكرًا:
_”چـودي” و “مُـنذر” مع بعض في صالة البيت؟.
انتبه له الاثنان وقد ضحكت هي بصوتٍ عالٍ خاصةً حينما ظهر “إسماعيل” خلف الآخر وقرر أن يُشاكس “مُـنذر” بقوله التهكمي:
_جرى إيه يا “مُـنذر” أنتَ هتقطع علينا؟ وتاخد رموش الست بتاعتنا ولا إيه؟ عند دي خط أحمر وسيبها في حالها، تعالي هنا يا “چـودي” يلا.
أشار لها أن تقترب منه وقبل أن تأخذ أي رد فعلٍ لحديثه أوقفها “مُـنذر” حينما ضمها أكثر ونطق ببرودٍ دون أن يكترث بهما:
_يلا يالا منك ليه من هنا.
توسعت عيناهما بغير تصديقٍ خاصةً وهو يداعب خصلات الصغيرة التي ضحكت بسعادةٍ للبقية فاقترب منه “إسماعيل” ينطق بضجرٍ زائفٍ وهو يخطفها من بين ذراعه:
_هات البسبوسة بتاعتي بس كدا.
دفعه الآخر بعنفٍ طفيف ثم نطق بجمودٍ زائفٍ حينما رفع أحد حاجبيه يُنذره من التكملة:
_جرى إيه يا حوكشة؟ هتشوف نفسك عليا ولا إيه؟ نسيت ياض الضرب اللي كنت بتاكله في الحارة لولا أنا كنت باجي ألحقك الأول كان زمانهم بيعجنوك ويخبزوك كمان؟.
اقترب في تلك اللحظة “مُـحي” يهتف بتهكمٍ:
_لأ كله إلا “سُـمعة” حبيبي، دا الغالي أخو الغالي، هات بس البت علشان دي بتاعتنا بنلعب بيها هنا، بدل ما نروح نلعب ببنات الناس برة، دي بنشقطها لبعض.
شهقت هي بقوةٍ وقبل أن تتحدث وجدت “مُـنذر” انتفض واقفًا حينما كادا أن يقتربا منهما وهي بين ذراعيه ثم حذرهما بقوله القوي المُتصلد:
_لو فكر يقرب منها، هاكله.
ضربت كفيها معًا بحماسٍ فيما ركض نحوهما “مُـحي” فوجد ابن عمه يركض بها وهي تضحك رغمًا عنها أما “إسماعيل” فاستأنف القفز وظل يقفز فوق المقاعد والآرائكِ لحتى يصل لرفيقه الذي تذكر أيامه قبل أن يُهاجر موطنه ولأول مرةٍ يضحك “مُـنذر” وهو يركض بها وهما خلفه حتى وقف “إيهاب” على أعتاب البيت يراقبهما ببسمةٍ واسعة زينت وجهه، وعلى الجهة الأخرى وقف “نَـعيم” ضاحكًا لأجلهم هم الأربعة معًا.
__________________________________
<“لولا المحاولة لكنا مُتنا محلنا”>
دومًا المحاولة هي ما تُرمم المستنزف بداخل الإنسان، فولا اسمتاتتنا لأجل الأشياء لما كنا استعدنا أي جزءٍ قد ينقذ ما يمكن انقاذه فينا، فنحن هنا خُلقتنا لأجل المحاولة ولأجل استعادة أنفسنا من جديد.
في اليوم التالي تحديدًا تحرك أنهى “يـوسف” عمله مُبكرًا وقرر أن يذهب لبيته لكن اولًا قرر الذهاب إلى عمته لكي يطمئن عليها وعلى ابنها، فتحرك نحو شقتهم، وهو كالعادة يشعر بالتيه والإضطراب لكونه يفعل هذا الشيء ويرضخ في الأخير لشخصٍ هو لم يتفق معه ذات يومٍ، أراد أن يستعيد جموده وقسوته لكنه كالعادة يستمع له ويسير منصاعًا خلفه، وما إن وصل إلى هناك وفتحت له عمته بتلك الملامح تعجب منها وسألها بحيرةٍ:
_في إيه يا “فـاتن”؟ مالك قالبة وشك ليه؟.
تنهدت عمته بثقلٍ ثم نطقت بخفوتٍ تخبره عن سبب تهجم ملامحها المُقتضبة بتلك الطريقة:
_البنت اللي اسمها “نـورهان” بنت عم زفتة الطين “شـهد” جت هنا وجوة قاعدة مع “نـادر” هو مش إحنا كنا خلصنا من العيلة دي خلاص؟ ناقصة قرف هي يعني ومشاكل، أخلص منها تيجي بنت عمها؟.
توسعت عيناه بغير تصديقٍ وولج للداخل بخطواتٍ واسعة فوجد “نـادر” جالسًا بثباتٍ وهي تتحدث وما يغلب على تلك الجلسة هو الطابع الرسمي، فتنهد بضجرٍ ثم نطق بجمودٍ جعل حديثه آليًا:
_مساء الخير، ازيك يا “نـادر”؟.
التفت له ابن عمته يبتسم بخفةٍ وهو يرد عليه تحيته وقد طالته نظرات “نـورهان” أيضًا فيما اقترب هو يُرحب بها بوجهٍ مُقتضبٍ وملامح جامدة ونبرة صوتٍ خشنة جعلتها تخشاه وهي فقط تطالعه، فيما جلس هو وسألها بفتورٍ:
_هو إيه سبب الزيارة الكريمة دي؟.
وزعت نظراتها الزائغة بينه وبين الآخر ثم هتفت بصوتٍ مهزوزٍ بعدما تلجلجت كمن قُبضَ عليه يسرق الذات:
_أنا، أنا بس عرفت باللي حصل لـ “نـادر” فقولت آجي أتطمن عليه مش أكتر، خصوصًا يعني إن الظروف مكانتش مناسبة قبل كدا بسبب الظروف العائلية اللي أنتوا عارفينها، بس أنا خلاص أتطمنت عليه واتأكدت إن هو كويس، واسمحولي طبعًا من وقت للتاني أبقى آجي أتطمن عليه.
كاد أن يرد عليها “نـادر” مُرحبًا بأدبٍ ظنًا منها أن مطلبها أتى من باب الود وكأنها صديقة لهما، لكن صوت الآخر قاطعه بقوةٍ:
_في أي وقت تحبي تيجي براحتك، بس تيجي لوحدك محدش تاني معاكِ، ولو عرفت إن هي اللي بعتاكِ أو حتى أنتِ وهي ناويين على حاجة، بأمانة أنا هزلعكم مني وهوريكم وش محدش شافه، فلو هي بتستغلك أحسنلك تبعدي عنها خالص، علشان متتاخديش في الرجلين وقت تصفية الحسابات.
رفرفت بأهدابه خوفًا منه ومن قوته التي لم تتغير ولن تتغير، بل هي تزداد في التعنت والعنفوان، وفي تلك اللحظة أرادت الحصول على جُرعةٍ من المُخدر لكي تحمي نفسها من الفراغ الذي داهمها، وقد تواصلت عينيها بعيني “نـادر” تتوسله أن يُنقذها لكنها وجدت الرضوخ لحديث “يـوسف” هو ما يتضح على ملامحه، لذا لملمت أشيائها ثم تحركت من المكان لتتقابل عند الباب مع “حنين” التي طالعتها بتعجبٍ لكنها صمتت، فيما شملتها الأخرى بنظرةٍ حائرة ثم تركت المكان ونزلت.
تتبعتها “حنين” بعينيها حائرةً ثم ولجت للداخل ووقفت تنطق بأدبٍ للجميع تشير إلى موعد الجلسة في العيادات الطبية بداخل المسجد الموجود بالحارة:
_السلام عليكم ورحمة وبركاته، الجلسة معادها دلوقتي في المسجد وياريت تجهزو علشان الدكتور قرب يوصل وحضرتك رقم واحد في الكشف، حجزت زي ما حضرتك طلبت يا أستاذ “يـوسف” وجيبت حقن الفيتامينات لمدام “فـاتن”.
انتبهت عمته لما يُقال وطالعته بدهشةٍ فوقف هو يُهندم سُترته ثم نطق بثباتٍ يشكرها:
_متشكر يا “حنين” معلش بتعبك معانا، عن إذنك بقى أدخلي أديها حقنة الفيتامينات وأنا هجهز “نـادر” علشان ننزل، معاها يا “فـاتن” يلا وأنا هوديه وأجيبه.
تحركت عمته معها نحو الداخل بعدما اختصته بتلك النظرة التي تجعله مُستمرًا فيما يفعل وكأنها تخبره في الخفاء أنها وجدت به “مُصطفى” من جديد، كاد أن يتأثر ويبكي لكن الصوت الداخلي نطق بنفاذ صبرٍ:
_ولا ولا، أنا مش فاضي للمياصة دي، أخلص.
كعادته زفر بحنقٍ منه ثم عض فوق شفته السُفلى وقبل أن يستسلم للعراك الروتيني مع رأسه، نحى العِراك جانبًا ثم التفت لابن عمته وناظره بثباتٍ وهو يقول:
_بص علشان أنا مبتكلمش في نفس الحاجة مرتين وأنتَ عارفني، البت دي تحرص منها وتخلي بالك وياريت تمنع أي علاقة تربطك بيها وبعيلة “الزاهي” خالص، دي مش العيلة اللي يتأمن ليهم، دول تحرص منهم ومتديهمش أمان، إحنا مش ضامنين يمكن يكونوا مسلطينها عليك ولا حتى بيستدرجوك بيها، ونصيحة تانية برضه، أنتَ لسه فيك جروح كتير مفتوحة وأنا متأكد إن “شـهد” لسه جرحها معلم فيك ومش بالسهل تداويه أو حتى تنساه كأنك مش شايفه، بالعكس دا محتاج عمر ووقت وطاقة علشان تتخطاه، بس نصيحة مني بما إني مجرب، أوعى تدخل علاقة جديدة وأنتَ لسه سايب باب العلاقة القديمة مفتوح، أقفله خالص وأرمي مفتاحه ورا ضهرك، علشان لما حد تاني يدخل حياتك ياخد مشاعر نضيفة مش بواقي مشاعر لحد تاني.
تنهد “نـادر” بتعبٍ تمكن منه وبلغ أشده على روحه حتى نطق بضياعٍ وتيهٍ معًا كأنه لم يعد يسترشد للطُرقات الصحيحة:
_مش عاوز حد تاني يا “يـوسف” خلاص، أنا كرهت الكل ومبقيتش طايق حد حواليا، اللي فاضل مني بواقي واحد كان فاكر نفسه في يوم من الأيام شاطر ويقدر يقف ويسد في وش الدنيا، افتكرت نفسي الناصح الوحيد اللي بيلم الدنيا وقادر يعدي كل حاجة، بس معرفش ليه طلعت أكبر مُغفل في الدنيا كلها، طلعت أنا العيل الخايب اللي عاوز حد يشاورله على كل حاجة حواليه، علشان كدا أنا خلاص لا ناوي أحب ولا أتحب، خلصت كدا، أنا قطعت عهد على نفسي.
انبسطت ملامح “يـوسف” وابتسم بتهكمٍ ثم أضاف بلمحة سخرية وكأنه يمازحه بقوله هذا:
_بلاش الجملة دي علشان بعدها هتخون العهد دا وتطلع عيل صغير نظرة عين تجيبك وتوديك، أصلك مش راهب ولا زاهد ولا حتى قديس هتمسك مشاعرك، بالعكس أنتَ هتحس إن هي دي المشاعر الصح اللي مجربتهاش قبل كدا، بس نصيحتي خليها في وقتها الصح، ببلاش تظلم صاحبها معاك، ومن هنا لحد ما الشخص دا يحضر حاول تخرج “شـهد” منك وتنسى أيامها، أحرق أي حاجة ليها علاقة بيها في حياتك يا “نـادر” حتى لو كانت بنت عمها اللي عاوزة ترجع الود تاني ما بينكم.
أومأ له موافقًا بقلة حيلة وهو يقوم بتدوير كلماته في عقله من جديد كأنه يقوم بدراستها وللآسف رآه مُحقًا، خاصةً أنه يفتقر لنوعٍ من مشاعر الإهتمام ومن المؤكد إذا صادف أحدهم ووجده يهتم به، بالطبع سيرضخ لتلك المشاعر ويترك لنفسه فرصةً لكي ينعم بها.
في بناية “قـمر” تحديدًا فوق السطح كانت تجلس بجوار “أيـوب” الذي أمسك دفتره في يده ودون بالقلم فيه وما وقع عليه اختيارها ثم سألها بنفاذ صبرٍ من طيلة صمتها وهي تختار الأشياء الخاصة بشقتهما:
_يا بنتي أنتِ بطيئة ليه؟ هنعمل أنهي لون ستاير؟.
حركت كتفيها بحيرةٍ وتحدثت بلهفةٍ تخبره عن تخبطها:
_ماهو أنا محطتش في دماغي إننا هنوصل للمرحلة دي مع بعض، ستاير إيه دي اللي بنختارها ولون رُكنة إيه اللي بنحدده يا “أيـوب” دا أنا بتوه وأنا بنقي لون طرحة وبخلي “ضُـحى” تنقيلي، بعدين متعليش صوتك بدل ما أزعلك.
توسعت عيناه من كم التناقض المتواجد بحديثها بينما تنهدت بقوةٍ ثم ألقت برأسها على فخذه وهي تخبره بتخبطٍ وخوفٍ:
_”أيـوب” أنا خايفة أوي، حاسة نفسي تايهة كدا ومش مترتبة صح كأني مكلكعة من جوايا، خايفة عليك وعلى “يـوسف” وخايفة تسيبني، أنا كل يوم بحاول أطمن نفسي بيك، أنا خايفة ومش هكدب عليك وأخبي، نفسي أفرح زيك بشقتنا كدا وأحضر زيك بحماس وفرحة، طمني علشان خاطري.
رفع كفه الدافيء يمرره فوق رأسها بمشاعر صادقة ودافئة ثم نطق يُطمئنها بقوله الذي لم يفشل في مُراده حيث إغداق قلبها بالأمان:
_ودا بالظبط اللي الشيطان بيعمله، يخليكِ تضيعي فرحتك وتنسي تحمدي ربنا على كرمه ونعمه علينا، بصي كدا من ناحية تانية، وهي إنك بتحبيني ودعيتي ربنا يكرمك بحد زيي فكرمك بيا، وأنا بحبك وكنت بدعي ربنا يكرمني وأقدر أنساكِ لو أنتِ مش نصيبي بس طلعتي أنتِ نصيبي، وعدينا بحاجات كتير أوي ولسه هنعدي تاني مع بعض، بس مننساش نحمد ربنا، لقد سمع الله لمن حمده، احمدي ربنا على كل حاجة عندنا وإننا وصلنا لمرحلة اختيار العفش دي، متنكديش على نفسك وعليا، أنا مخزن شوية مشاعر تجيبنا الأرض دلوقتي لو طلعتها.
ضحكت رغمًا عنها من طريقته ورفعت رأسها تواجهه بعينيها وهي تحفظ ملامحه في ذاكرتها ثم اقتربت منه تُلثم وجنته كما تفعل دومًا وتخطف تلك القبلة لكن تلك المرة كانت القبلة أعمق فوق وجنته ثم وضعت رأسها فوق صدره وهي تقول بنبرةٍ خافتة:
_ربنا يديم وجودك جنبي ويقدرني وأسعدك وأعوضك عن كل حاجة حصلت من قبلي زعلتك أو حتى في غيابي ووجودي كمان، يابختي وبخت ناسك بيك يا أسطى “أيـوب”.
ابتسم بحنوٍ ثم حرك ذراعه يضمها له أكثر ومسح فوق ظهرها وهو يتنهد بعمقٍ ولا يعلم لما تسرب الخوف منها إليه هو، لكنه كعادته يُطمئن نفسه بذِكر الخالق فتنهد واستغفر ربه واستعاذ بالله من شيطانه، وشدد ضمته عليها ثم أمسك أحد كفيها يُدلك راحته حتى يسرق التوتر منه بعيدًا عنها وهي ترتخي فوق جسده كأنها تخشى فراقه.
شهقت فجأةً ما إن تذكرت أمر آثاث البيت ورفعت رأسها تنطق بقلقٍ كونها لم تختار بعد ما يتوجب عليها فعله:
_يلهوي، مختارناش الستاير يا “أيـوب”.
اعادها لسيرتها الأولى حيث توسد رأسها صدره ثم ضم رأسها بأحد كفيه ثم مسح عليها وهو ينطق بعبثٍ تحبه هي حينما يظهر على شخصيته المعروف عنها أنها نعمت بالتهذب:
_ستاير إيه وملايات إيه، فيه حاجات تانية دلوقتي أحسن، متقطعيش اللحظة بالله عليكِ بقى، دي أمي شكلها كانت بتدعي لما نفسها أتقطع خلاص.
ضحكت هي بصوتٍ عالٍ على حديثه ثم حرك فمه نحو رأسها يُلثم جبينها كأنه يُطمئها بتواجده خفاءً دون أن يُعيد كرة الحديث مُجددًا ويثير قلقها، فيكفيه أن يُعيد لها ضحكاتها وفقط، ثم يُطمئنها بأنه هنا لأجلها ومعها ويقف أمام العالم بأسره إن تطلب الأمر ذلك.
__________________________________
<“بعض السُلطات حينما تقع على القلب تُرهقه”>
ثمة بعض الأمور حينما تقع سُلطتها على القلوب تُرهقها وتُرهق أصحابها، فهناك بعض المشاعر التي تحتاج للحُرية لكي تظهر على صاحبها وتحتاج أيضًا لوقتٍ كافٍ حتى تتم دراستها.
هنا تجلس في غُرفتها المصممة على أحدث التصميمات، الغرفة التي حولت هي جزءًا منها إلى مسجدٍ وزاوية تدرس بها العلوم الشرعية والإسلامية وتحفظ فيها القرآن الكريم، وقد أنزوت عن العالم الخارجي بعد زفاف صديقتها المفضلة التي مدت لها كفها وسحبتها من بؤر الظلام إلى ينابع النور، وقد تنهدت “جـنة” بعمقٍ ما إن قفزت صورته لها من جديد.
شعرت بالضيق من نفسها والحزن لكونها بين الحين والآخر تهتم به وتفكر فيه وفي أمره وشانه، أرادت أن تخبر “آيات” وتطلب منها أن تجعل شقيقه يعاونه حتى لا يُضيع شبابه في تلك التراهات الفارغة، أرادت أن تقدم له يد العون وتخبره أن الدين الإسلامي يُحتم عليه العديد من الحدود وعليه أن يلتزم بها، لكنها تراجعت وعللت لنفسها أن الأمر ليس من شأنها، وقد أتت صورته من جديد تحديدًا في ذاك اليوم الذي تعرضت فيه للسرقة وكيف أبدى اهتمامه بها.
أغمضت عينيها هربًا من صورته التي لم تُبرح عقلها ثم مسحت فوق فؤادها وهي تذكر الخالق ثم تذكرت قول “آيـات” لها ذات مرةٍ وهي تقدم لها نصيحةً بشكلٍ ودي:
_البنت لو حبت المفروض تكتم الحب دا جواها وتدعي ربنا يرزقها بالأصلح ليها، متسيبيش فرص للشيطان يدخلك ويخليكِ تعملي حاجات أنتِ هتشيلي ذنب عليها، غُضي بصرك عنه وأدعي ربنا يصلح الأحوال ويرزقك باللي يعينك على دينك ودُنيتك ويسبقك للجنة، ولو مش مناسب ليكِ، ادعي ربنا يهديه ويرده لطريقه من تاني، مهما كان هو مين، ادعي ربنا يصلح حالك وحاله، في النهاية إحنا لينا نصيب ومكتوب، بس لازم نسعى للنصيب دا.
تنهدت بإرتجافة متقطعة وهي تخشى أن يكون الأمر تعدى لفت النظر ووصل لمرحلة الإعجاب أو الحب، لذا نطقت بنبرةٍ خافتة بعدما استمعت لصوت قلبها:
_اللهم أصلح له شأنه ورده إليكَ ردًا جميلًا، اللهم اشرح صدره للقرآن والإسلام وزِده من علمك شأنًا ورحمةً وحبب إليه الطاعات والشكر والحمد لك.
لا تعلم شعرت أن قلبها ملك السُلطة عليها ويبدو أنه ينجذب وراء الآخر الذي كل مرةٍ تراه بعينيها وكأن هناك مؤامرة كونية تُحاك ضدها لتصبح كل مرةٍ نصب عينيه وتراه ويراها، لكن الغريب في نظراته التي تظل ترجوها بصمتٍ لشيءٍ لم تفهمه هي، فأثناء ما يحاول هو أن يتواصل معها بعينيه، تهرب هي منه بنظراتها بعيدًا عنه حتى لا تقع في الإثم.
سُلطته وتجبره في بعض الأوقات يجعلانه منبوذًا من فتياته، خاصةً الصُغرى التي شكلت طريقته معها جزءًا كبيرًا في شخصيتها، حيث أصبحت متمردة، مُعاند، مُحتجة، وهو الآمر الناهي صاحب الصوت المرتفع عند إصدار الأوامر، وقد انكمشت “مارينا” على نفسها فوق الأريكة وهي تستمع لتوبيخه المعتاد لكونها رفضت العمل الذي أتى به لها، ليعلو صوته حينما دنىٰ منها أكثر:
_أنا عاوز أفهم أنتِ ليه علطول قرفاني؟ هو حد لاقي شغل دلوقتي؟ بقولك هتدربي وتكوني مُدرسة في مدرسة خاصة وأهو يبقى عملتي حاجة بدل قعدتك دي، بترفضي النعمة اللي محدش لاقيها ليه؟.
تخلت عن خوفها ونطقت بشجاعةٍ واستبسالٍ أمامه:
_علشان دي مش شُغلتي ومش مهمتي ومش بتاعتي، لسه فيه دبلومة وفيه تربوي وأنا مش قادرة ومعنديش طاقة تاني للمذاكرة والجهد دا دلوقتي على الأقل، أنا عاوزة أتخرج شوية وأرتاح وأحس إني عندي حياة غير المذاكرة والامتحانات.
ابتسم هو بتهكمٍ وعاد للخلف يسخر منها بقوله:
_حياة آه قولتيلي، قصدك الجواز والمياصة والفرح صح؟ بكبر وأربي وأعلم علشان في الآخر نتجوز في البيت زي أي حد، طب ماكنتش علمت من الأول بقى وكنت جهزت علطول وخلاص، بس نقول إيه بقى؟ آخر كلام عندي هتنزلي تدريب المدرسة دي وتكملي فيه وتتعلمي وهتكملي بعد التخرج، يا كدا يا مفيش جواز وتقعدي هنا إحنا أولى من الغريب.
في تلك اللحظة شعرت بالكره أكثر نحوه، شعرت بالنقم عليه لكونه متجبرًا ومُتسلطًا حتى على أحلامها البريئة، وفي تلك اللحظة عادت “مهرائيل” من الخارج برفقة “بـيشوي” الذي لاحظ تغير الأوضاع ونظرات “مارينا” الباكية فسأل بنبرةٍ جامدة:
_حصل إيه؟ أنتِ معيطة ليه؟.
رفعت عينيها الباكيتين نحوه وكادت أن تشكو له والدها لكنها تراجعت خشيةً من رد فعل الآخر بعد رحيله، فيما فهمت شقيقتها السبب فنطقت تدافع عنها بعدما كشرت عن انيابها:
_برضه عاوز تجبرها؟ مش قادر تعيش من غير ما تجبر حد على حاجة؟ لازم فرض وإجبار علشان تكون أنتَ مبسوط، هي مش عاوزة تتدرب ومش عاوزة تشتغل، بس إزاي بقى؟ لازم روح الجبروت اللي جواك تطلع علشان يبان إنك أب وشايف دورك كويس، صح كدا؟.
التفت لها وكاد أن يهم بصفعها لكن “بـيشوي” حال دون ذلك ووقف كما الحصن المنيع يحميها وهي خلفه تتمسك بقميصه لينطق هو بنبرةٍ هادرة من بين أسنانه:
_أنا محدش يمد أيده على مراتي ولا يرفع عينه فيها حتى لو كان أبوها نفسه، وياريت تحترم إنها تخصني وإني لحد دلوقتي عامل اعتبار إنك حمايا وراجل كبير، غير كدا هزعلك مني أوي.
دفع “جابر” كفه بعيدًا ثم دفعه في منكبيه وسأله بغضبٍ أعمى بعدما تفاقم غيظه منه بسبب تدخله:
_وريني، ناوي على إيه يا ابن “جرجس” تاني؟.
قام “بـيشوي” بانزال كفيه ثم التفت لـ “سـلوي” التي تحتضن ابنتها وهدر في وجهها بغضبٍ هو الآخر:
_قومي هاتي حاجتك وهاتيهم يلا، شكله كدا نسي إنكم وصية عم “مـلاك” وفي رقبتي أنتوا التلاتة، يــلا.
أجفلت أجسادهن وقبل أن يحتدم الشجار بين الاثنين تجاوزه “بـيشوي” وأخرج هاتفه يطلب رقم أمه يخبرها بتحضير البيت لهن، ثم عاد يقف أمام “جـابر” وأخبره بحدةٍ مفتعلة:
_أنا كنت بحترمك ومهدي اللعب معاك، بس أنتَ بقى اللي بتجبرني أقل أدبي، وأنا نقطة ضعفي قلة الأدب دي.
تبدو كأنها حربٌ أهلية ستقوم بين أطراف قبيلةٍ واحدة وكلاهما يشن حربًا قوية ضد الآخر بإنذارات أخبرت بها نظرات العين أن القادم لم يكن يسيرًا.
__________________________________
<“لن يُصيب المرء إلا ما كتبه الله له”>
ما يُكبت للمرء يناله وما يُكتب عليه يدركه، فهي إرادة الخالق تسير على كل الخلائق وليس لنا من الأمر شيئًا، وإنما نحن عبيدٌ لله، فإنا لله وإنا إليه عائدون وتائبون نرجو منه أن يرحمنا من شرور أنفسنا ودنيانا..
بعض الأمور الطارئة عند ظهورها فجاةً يشعر المرء بالضجيج أو ربما الفوضى لكونه لم يتجهز لهذا الشيء، فليست كل المفاجئات مرغوبة وليست كل الصدف خير من ألف ميعاد، وهذا ماحدث مع كليهما، حيث طرأ اجتماعٌ بشركة “الراوي” تطلب حضور كلًا من “أيـوب” و “يـوسف” سويًا بما إنهم ضمن طاقم العمل الرئيسين، وبعد شتاتٍ وتفكيرٍ ذهب الإثنان سويًا للشركة ليقوما بحضور الإجتماع.
كانت “رهـف” تدير الإجتماع وتقوم بتدوين وتفسير ما يتم العجز عن التفكير فيه والتوصل إليه، وتشرح لكليهما ومعها “عُـدي” أيضًا الذي رأى أن ما يحدث يعود بالنفع لكليهما، وما إن انتهى الإجتماع الذي ساهم في كبر دور “أيـوب” بالشركة وعلو شأن “يـوسف” سألها “عُـدي” باهتمامٍ:
_تفتكري هما هيعملوا كدا لله وللوطن ولا فيه حاجة؟.
انتبهت له تخبره بحدسها العملي القوي في هذا المجال:
_لأ طبعًا لو مش واخد بالك “أيـوب” هيدفع فلوس ويجيب خامات الطين والفخار علشان بس شغله يندرج تحت اسم شركة “الراوي” هما كانوا بيعجزوه مش أكتر وهو وافق على كلامهم لأنه أكيد فاهم هما عاوزين إيه، ثم إن “عاصم” أولًا وأخيرًا يهمه نفسه وبس، عاوز الشركة تكبر وتعلى مش مهم الحقوق ولا الواجبات، المهم إنه يحافظ على صورته وبس، ناس شريرة أوي، سوري يعني.
عقد حاجبيه لكونها تعتذر من تلك الكلمة ثم نطق بسخريةٍ:
_فكريني بعد الخطوبة أحضرلك قاموس شتايم حلوة كدا علشان تقدري تسدي بعد كدا، ومش بس كدا كمان، أنا هخليكِ تشتمي من غير اعتذار، يلا ابسطي بقى.
ضحكت رغمًا عنها بسبب طريقته ثم استأنفت العمل معه وقد عاد هو للعمل حتى يُنهيه قبل أن يذهب لبيته، أما بداخل سيارة “أيـوب” فجلس بها الاثنان ليسأله “يـوسف” بتعجبٍ:
_وافقت ليه؟ ما كنت سبتني اسمعهم كلمتين حلوين.
_وافقت علشان هما عاوزين يعجزوني، عاوزين يخلوني تايه وسطهم وأقولهم خلاص هنسحب، لو على الفلوس موجودة الحمدلله، ولو على الخامات برضه ربك كريم وأمرها ميسور، لكن أنا مبرجعش في كلمة ولا موقف خدتهم، وفي النهاية دا حق “قـمر” مش حقي وأنا هرجعه بطريقتي.
هكذا كان الجواب الصارم الذي بدا قويًا ومنيعًا فيما ابتسم له “يـوسف” ثم وضع رأسه على النافذة وهو يقول بتعبٍ:
_شد السرعة شوية أنا مصدع أوي، وإحنا ماشيين هتلاقي كافيه أقف هاتلنا اتنين قهوة علشان مش قادر أفتح عيني خلاص، الله يقل راحتهم ولاد ***** علطول قارفين اللي جابوني.
لقد اعتاد “أيـوب” على فظاظته وطريقته لذا تنهد بقوةٍ وهو يقود السيارة بسرعةٍ أكبر وقبل أن يوقفها لاحظ شيئًا غريبًا، فحاول الضغط على مكابح السيارة فوجدها لم تعمل وكأنها شُلَت، حاول مرة وغيرها وغيرها وهو يبحث عن مكابح اليد، لكن السيارة ظلت تتأرجح في الطريق ولاحظ ذلك “يـوسف” الذي سأله بنبرةٍ جامدة:
_فيه إيه يا “أيـوب”؟.
_العربية مفيهاش فرامل، حد لعب فيها ومخليها مش نافعة.
جاوبه بتلك الجملة بصوتٍ مرتجفٍ حيث كان يحاول السيطرة عليها وما إن أدرك فشله هدر في وجه” يـوسف” بانفعالٍ:
_افـتح الــبـاب ونُــط منه يا “يـوسف”.
توسعت عينا “يـوسف” بهلعٍ وقبل أن يحتج ويعترض على أي شيءٍ وجد “أيـوب” يميل بجسده لكي يفتح الباب له ويدفعه من السيارة فاختل التوازن أكثر وتأرجحت جهة اليسار وقد صرخ “يـوسف” يحذره فانتبه “أيـوب” للطريق وأدارها لجهته هو ومن ثم سبق السيف العزل، حيث انقلبت السيارة جهة اليمين مرةً ثم انقلبت على ظهرها في طرفة عينٍ، وآخر ما رآه كلاهما كانت دوامة سوداء قامت بابتلاعهما فيها.
____________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)
تم
منتهى الروعه